-
عرض كامل الموضوع : أسبوع وكاتب - 2
العصافير تموت في الجليل
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
دار الآداب
1969
من الديوان:
ريتا أحبيني
سقوط القمر
عصافير الجليل
غريب في مدينة بعيدة
وقصائد أخرى
عصافير الجليل
نلتقي بعد قليل
بعد عام
بعد عامين
وجيلْ...
ورَمَتْ في آلة التصوير
عشرين حديقةْ
وعصافيرَ الجليل.
ومضتْ تبحث، خلف البحر،
عن معنى جديد للحقيقة.
- وطني حبل غسيل
لمناديل الدم المسفوك
في كل دقيقةْ
وتمددتُ على الشاطئ
رملاً... ونخيلْ.
هِيَ لا تعرف-
يا ريتا! وهبناكِ أنا والموتُ
سِر الفرح الذابل في باب الجماركْ
وتجدَّدنا، أنا والموت،
في جبهتك الأولى
وفي شبّاك دارك.
وأنا والموت وجهان-
لماذا تهربين الآنَّ من وجهي
لماذا تهربين؟
ولماذا تهربين الآن ممّا
يجعل القمح رموشَ الأرض، ممّا
يجعل البركان وجهاً آخراً للياسمين؟...
ولماذا تهربينْ ؟...
كان لا يتعبني في الليل إلا صمتها
حين يمتدُّ أمام الباب
كالشارع... كالحيِّ القديمْ
ليكن ما شئت - يا ريتا –
يكون الصمتُ فأساً
أو براويز نجوم
أو مناخاً لمخاض الشجرةْ.
إنني أرتشف القُبلَة
من حدِّ السكاكين،
تعالي ننتمي للمجزرةْ !...
سقطت كالوَرَق الزائد
أسرابُ العصافير
بآبار الزمنْ...
وأنا أنتشل الأجنحة الزرقاء
يا ريتا،
أنا شاهدةُ القبر الذي يكبرُ
يا ريتا،
أنا مَنْ تحفر الأغلالُ
في جلديَ
شكلاً للوطنْ...
:D
ورد أقل
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -/////////////// (////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////)
دار العودة-طبعة 6
1993
من الديوان:
انا يوسف يا أبي
تصبحون على وطن
سلام عليك
مطار أثينا
يحبوني ميتا
وقصائد أخرى..
مقتطفات
يحبونني ميتا
يحبّونني ميّتًا
ليقولوا: لقد كان منّا، وكان لنا.
سمعت الخطى ذاتها.
منذ عشرين عامًا تدقّ على حائط اللّيل.
تأتي ولا تفتح الباب. لكنّها تدخل الآن.
يخرج منها الثّلاثة: شاعرٌ، قاتلٌ، قارئٌ.
ألا تشربون نبيذًا?
سألت. سنشرب.
قالوا. متى تطلقون الرّصاص عليّ?
سألت. أجابوا: تمهّل!
وصفّوا الكؤوس وراحوا يغنّون للشّعب،
قلت: متى تبدأون اغتيالي?
فقالوا: ابتدأنا... لماذا بعثت إلى الرّوح أحذيةً!
كي تسير على الأرض.
قلت. فقالوا: لماذا كتبت القصيدة بيضاء
والأرض سوداء جدًّا.
أجبت: لأنّ ثلاثين بحرًا تصبّ بقلبي.
فقالوا: لماذا تحبّ النّبيذ الفرنسيّ?
قلت: لأنّي جديرٌ بأجمل امرأةٍ.
كيف تطلب موتك?
أزرق مثل نجومٍ تسيل من السّقف
- هل تطلبون المزيد من الخمر?
قالوا: سنشرب.
قلت: سأسألكم أن تكونوا بطيئين،
أن تقتلوني رويدًا رويدًا لأكتب شعرًا أخيرًا لزوجة قلبي. :cry:
ولكنّهم يضحكون ولا يسرقون من البيت
غير الكلام الذي سأقول لزوجة قلبي..
:D
very good ooopss
really you are free girl:D
شكرا كتير عالمتابعة:D
آخر الليل نهار
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
يوميات جرح فلسطيني
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
جندي يحلم بالزنابق البيضاء
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
عصافير بلا أجنحة
1960
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
شيء عن الوطن
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
أرى ما أريد
1990
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -/////////////// (////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////)
-وأعمال أخرى:
- ديوان " آخر الليل " (1967)
- ديوان " حبيبتي تنهض من نومها " (1970)
- ديوان " أعراس " (1977)
- صباح الخير يا ماجد - لجنة تخليد الشهيد القائد ماجد أبو شرار (1981)
- ديوان " حصار لمدائح البحر " (1984)
- ديوان " هي أغنية، هي أغنية " (1986)
- ديوان " مأساة النرجس، ملهاة الفضة " (1989
وداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلام
- في وصف حالتنا : مقالات مختارة ، 1975 _ 1985 (1987)
الرسائل ( بالاشتراك مع سميح القاسم ) (1990)
- المختلف الحقيقي (1990)
:D
هلأ يمكن ما حكيت عن مقتطفات من كل الأعمال
بس لأن ما بلحق باسبوع ولسا في كتير اشيا بدي احكي عنها
وبلكي منحط بموضوع اشعار درويش هالمقتطفات
وبنتابع بكرا:D
حصل محمود درويش على عدة جوائز منها ::fglasses:
جائزة لوتس عام 1969.
جائزة البحر المتوسط عام 1980.
درع الثورة الفلسطينية عام 1981.
لوحة أوروبا للشعر عام 1981.
جائزة ابن سينا في الإتحاد السوفيتي عام 1982.
جائزة لينين في الإتحاد السوفييتي عام 1983.
حوار محمود درويش مع جريدة الحياة
عبدو وازن \ الحياة\ 14-12-2005
المرأة والمرأة – الأرض
> «سرير الغريبة» هو من كتب الحب الجميلة جداً وأعتقد انه استطاع ان يضع حداً لمقولة المرأة – الأرض أو الحبيبة – الوطن التي طالما تكلم عنها النقد إزاء شِعرك. كيف ترى الى هذه المقولة وهل من علاقة لها بـ «سرير الغريبة»؟ هل سئمت هذه المقولة؟
- لا لم أسأمها، ولكن هناك خطر من استمرار التمسك بالترمز.
المرأة كائن بشري وليست وسيلة للتعبير عن أشياء أخرى.
الوردة كائن جمالي من دون أن يرمز الى جرح أو دم.
هذه محاولة لتطبيع علاقتي مع اللغة أو الكلمات والأشياء، ولتطبيع علاقتي أيضاً بالنظر الى الفلسطيني ككائن بشري أولاً، قبل أن يكون قضية. فالهوية الانسانية للفلسطيني سابقة للهوية الوطنية. صحيح اننا في صراع طويل يستلزم أن يقوم الشاعر خلاله بدور في بلورة الهوية الثقافية وفي حماية الروح من الانكسار، ولكن يجب ألا يلغي هذا الأمر حقنا الانساني في التأمل في طبيعتنا البشرية. فالفلسطيني إنسان يحب ويكره ويتمتع بمنظر الربيع ويتزوج... إذاً المرأة تحمل معاني أخرى غير الأرض. جميل أن تكون المرأة وعاء للوجود كله. ولكن يجب أن تكون لها شخصيتها كامرأة. عندما تعرضت في ديواني «سرير الغريبة» للنقد واتهمت بالتخلي عن ارتباطي بالقضية، قلت ان هذا تعميق للتجربة. ثم ان شعر الحب يمثل البعد الذاتي من أبعاد المقاومة الثقافية، فأن نكون قادرين على الكتابة عن الحب والوجود والموت والماوراء، فهذا يعمق من قيمتنا الوطنية وهويتنا. نحن لسنا خطاباً، نحن لسنا بياناً. وكما قلت أكثر من مرة
وأكرر: الفلسطيني ليس مهنة بل كائن بشري يناضل ويدافع عن أرضه وحقه.
> هل يضيرك أن تُسمى مثلاً شاعر حب وليس شاعر غزل طبعاً؟
- أتمنى أن أكون شاعر حب أو أتمنى أن تسمح لي ظروفي التاريخية في أن أكون شاعر حب، لأن شعر الحب هو أجمل ما يمكن أن يكتب من شعر. والحب لا ينتهي. شعر النضال ابن مرحلة ما وهو ضروري، ولكنه لا يقدر على الاستمرار. الصراع عملية مستمرة، الصراع في معناه الايجابي، وهو يأخذ أشكالاً متعددة، منها صراع الانسان مع قلبه، الصراع بين العقل والقلب، نداء الغريزة، حق الرغبة في التعبير عن نفسها.
> هل عشت قصص حب وخيبات حقيقية؟ وهل كتبت انطلاقاً من تجارب عشق حية؟
- كل ما أكتبه في الحب أم في سواه، ناجم عن تجارب حية.
> هل هناك امرأة معينة كتبت عنها أو لها؟
- ربما. ولكن ليس كما يعبر عنها شعري. لماذا؟ لأنك إذا بدأت في كتابة قصيدة حب لا يمكنك ان تكتب عن المطلق في الحب، أنت تكتب عن امرأة معينة. لكن الكتابة تأخذ مجرى يخرج من سياق حادثة الحب. حينذاك تختلط ملامح المرأة التي تكتب عنها بملامح امرأة أخرى أو نسوة أخريات، وكذلك، بملامح الشجر والماء والتراب. النص يبدأ دائماً من المحدد ثم ينتقل الى الكلي. أما أن يكون لدي امرأة مثل «إلسا» حبيبة الشاعر أراغون فهذا صعب. ليس لدي «إلسا». هذا مع اعتقادي بأن «إلسا» كانت ذريعة للشاعر أراغون.
> سأنتقل الى الكلام عن «نوبل». ففي كل سنة يتجدد الكلام عربياً عن «نوبل» وتطرح دائماً أسماء عربية، وكان اسمك بارزاً هذه السنة من خلال الاحصاء الذي قامت به صحيفة «النهار» البيروتية وقد احتللت فيه المرتبة الأولى بحسب ترشيح بعض المثقفين العرب اسمك للجائزة! كيف ترى الى هذه القضية الاشكالية؟ هل فكرت بالجائزة يوماً؟**((حيث اتهم درويش بسعيه للجائزة عبر تغيير مسار شعره))
- لم أفكر بجائزة نوبل ولم أحلم بها وأشعر في داخلي بأن على الانسان أن يحلم بما هو ممكن وألا يتحول هذا الموضوع الى «وسواس». القضية غير شخصية وأشكر المثقفين الذين اختاروني للجائزة. ولكن كنت أتمنى ألا يكون اسمي مطروحاً بين الأسماء، لأنني لا أحب دخول هذه «البورصة». كل سنة ترتفع أسهم وتسقط أخرى. وعموماً هناك مشكلة في نظرة العرب الى صورتهم. الأدب العربي لا يحتل مكانته في العالم كما يظن الأدباء العرب. وجائزة نوبل ليست جائزة للأدب العربي. العرب فازوا بها بعد 87 سنة من تأسيسها وحازها نجيب محفوظ باستحقاق عالٍ. ومكانة العرب الأدبية ترتبط أيضاً بمكانتهم العالمية والسياسية وبحضورهم في العالم. ولا يمكن أن يستبعد هذا الشرط. يقيم العرب كل سنة زفة مما جعل القضية هذه محرجة حقاً. ومن حسن حظ العرب ان اعضاء اللجنة السويدية لا يقرأون العربية ولا يضحكون من إصرار العرب على انتزاع الجائزة. وإن فاز بها أي عربي فستكون الفرحة عربية. ولكن علينا أن نتصرف بلياقة أفضل وألا نصاب بمرض أو بهوس اسمه «نوبل». والمشكلة أن بعض الكتاب العرب إذا ترجم لهم كتاب يضعون نفسهم رأساً في قائمة المرشحين للجائزة هذه. وأنا أعتقد ان المرشحين لهذه الجائزة هم بالآلاف. وأي كاتب يمكن أن يُرشحّ الى هذه الجائزة. لكن هذا لا يعني شيئاً. فلماذا يقف العرب كل سنة في «طابور» الانتظار؟ إذا جاءت تكون جاءت وإذا لا فلا.. وعلى الذين يفكرون فيها يجب أن ينسوها، لعلها تتذكرهم.
> ماذا يعني أن يقول شاعر في حجمك ومرتبتك: «أنا لست لي أنا لست لي...»؟ هل هي الغربة التي يحياها الشاعر الذي فيك؟
- في آخر الأمر لا يبقى من الشاعر إلا بعض شعره، إذا كان استحق أن يصمد في غربال الزمن. أما هو فليس لنفسه، إنه منذور للغة ولتقديم مسوّغ وجوده على هذه الأرض. انه، في ختام الأمر زائل واللغة هي الباقية. «أنا لست لي» على المستوى الشخصي، ولكن ربما «أكون لي» على المستوى الشعري، وإذا كانت لي قيمة ما، فهي لن تكون لي، بل للغة وللآخرين.
> هل تخاف الموت؟
- لم أعد أخشاه كما كنت من قبل. لكنني أخشى موت قدرتي على الكتابة وعلى تذوّق الحياة. لكنني لن أخفيك أن الطريقة التي مات فيها الشاعر معين بسيسو في الفندق، وكانت غرفته مغلقة وعلى الباب إشارة «الرجاء عدم الازعاج»:cry: جعلتني أخشى هذه الاشارة أو اللافتة. فجثته اكتشفت بعد يومين. الآن كلما نزلت في فندق لا أضع هذه الاشارة على الباب. ولا أخفيك أيضاً انني لا أضع مفتاح باب البيت في القفل عندما أنام.:cry:
> أليست الفنون قادرة على هزم الموت كما قلت في قصيدتك «جدارية»؟
- هذا وهم نختلقه كي نبرر وجودنا على الأرض، لكنه وهم جميل
يتبـــــــــــع
حياة خاصة
> قلت لي انك لم تخرج من البيت منذ ثلاثة أيام!
وأحياناً أبقى أكثر.
> ماذا يعني لك البيت؟ ألا تشعر أحياناً بسأم ما، بوحدة ما...؟
- البيت يعني لي الجلوس مع النفس ومع الكتب ومع الموسيقى ومع الورق الأبيض.
البيت هو أشبه بغرفة إصغاء الى الداخل ومحاولة لتوظيف الوقت في شكل أفضل. ففي الستين يشعر المرء بأنه لم يبق لديه وقت طويل. وشخصياً اعترف بأنني أهدرت وقتاً طويلاً في ما لا يجدي:?، في السفر، في العلاقات وغير ذلك.
انني حريص الآن على ان أوظف وقتي لمصلحة ما اعتقد بأنه افضل وهو الكتابة والقراءة. يشكو كثير من الناس من العزلة، أما أنا فإنني أدمنت العزلة، ربيتها وعقدت صداقة حميمة معها. العزلة هي أحد الاختبارات الكبرى لقدرة المرء على التماسك. وطرد الضجر هو أيضاً قوة روحية عالية جداً. وأشعر بأنني إذا فقدت العزلة فقدت نفسي. أنا حريص على البقاء في هذه العزلة، وهذا لا يعني انه انقطاع عن الحياة والواقع والناس... انني انظم وقتي في شكل لا يسمح لي بأن انغمر في علاقات اجتماعية قد لا تكون كلها مفيدة.
> لم تعد حياتك صاخبة سياسياً مثلما كانت من قبل؟
- الصخب لا أستطيع ان أتحرر منه. مصيرنا الوطني والإنساني يعذب النفس ويعذب الفكر. ونحن الآن في لحظة تاريخية يسود فيها، لا أريد ان أقول، قانون الغاب، ولكن استبداد كوني لا يصيبنا وحدنا، لكننا نشعر به اكثر من سوانا، لأننا نحن الأضعف الآن في العالم. ولدينا أزمة حضور وأزمة علاقة بتاريخنا ومستقبلنا. والأخطر هو أزمة العلاقة بالمستقبل. من هنا، فهذا الصخب قوي جداً ولكن يجب ألا نرد عليه بصخب كتابي. فأنت لا تستطيع ان تصارع الصخب بصخب لغوي، فالصخب المادي أقوى من الصوت الذاتي. عليك ان تقاوم هذا الصخب بنقيضه، بل بلغة أهدأ وبالتأمل وبارتباط أعلى بالحياة، وبتمجيد جماليات الحياة وبالبحث عن الطاقة الكامنة في النفس البشرية... هكذا تستطيع ان تسمع صوتك. فالصخب الخارجي العالي يستطيع ان يبتلع صوتك. انني أقاوم الصخب بالسكينة
> قلت مرة ان «البيت اجمل من الطريق الى البيت»؟ هل يذكرك هذا القول بكلام الشاعر الألماني هولدرلن عن «العودة الى البيت»؟
- كثيرون من الشعراء منذ هوميروس كتبوا عن ثنائية الطريق والبيت. كنت دائماً أميل الى تمجيد الطريق، والطريق بؤرة أساسية في الرؤيا الشعرية والصوفية. هذه الثنائية تتناوبها أوليات مختلفة. عندما كنت خارج الوطن، كنت اعتقد ان الطريق سيؤدي الى البيت وان البيت اجمل من الطريق الى البيت. ولكن عندما عدت الى ما يُسمى البيت وهو ليس بيتاً حقيقياً غيّرت هذا القول وقلت: ما زال الطريق الى البيت اجمل من البيت لأن الحلم ما زال
الطريق الى البيت اجمل من البيت لأن الحلم ما زال اكثر جمالاً وصفاء من الواقع الذي أسفر عنه هذا الحلم. الحلم يتيم الآن. لقد عدت الى القول بأولية الطريق على البيت.:fthink:
> إنها حالة عوليس إذاً؟
- أجل، حالة عوليس الذي لم يجد نفسه ولا ما كان يتوقع، ولم يجد كذلك بينيلوب. وبحسب الحالة الراهنة عدت شعرياً الى التأمل أكثر في الدرب والسبب بسيط لأنني لم أجد البيت.
> متى توطدت علاقتك القوية بالبيت؟ في أي مرحلة من حياتك؟
- علاقتي القوية بالبيت نمت في المنفى أو في الشتات. عندما تكون في بيتك لا تمجد البيت ولا تشعر بأهميته وحميميته، ولكن عندما تحرم من البيت يتحوّل الى صبابة والى مشتهى، وكأنه هو الغاية القصوى من الرحلة كلها. المنفى هو الذي عمّق مفهوم البيت والوطن، كون المنفى نقيضاً لهما. أما الآن فلا أستطيع أن أعرّف المنفى بنقيضه ولا الوطن بنقيضه، الآن اختلف الأمر وأصبح الوطن والمنفى أمرين ملتبسين:cry:.
> أي بيت أحببت خلال منفاك؟ وهل من علاقة بين البيت والمدينة التي تكون فيها؟
- لا شك في هذه العلاقة. فالبيت لا ينفصل عن محيطه. بيت في حيفا يختلف عن بيت في باريس أو القاهرة أو بيروت. نوافذ البيت مفتوحة على أصوات الخارج. أما البيت المجازي الذي يخلقه الشاعر لنفسه فإنما هو بيت داخلي يخترعه الشاعر نفسه. إنه عبارة عن بيت شعري. هكذا يتحول البيت الى بيت شعر وبيت الشعر يصبح مسكناً أو مأوى. لذلك أحب كثيراً عثور العرب على كلمة واحدة ذات معنيين البيت أي المنزل والبيت الشعري، وهذا تطابق جميل.
> أول بيت سكنته بعد خروجك من فلسطين أين كان؟
- أول رحلة لي خارج فلسطين كانت الى موسكو. وكنت طالباً في معهد العلوم الاجتماعية، ولكن لم يكن لي هناك بيت في المعنى الحقيقي. كان غرفة في مبنى جامعي.
> كم أقمت في موسكو؟
- وكانت موسكو أول لقاء لي بالعالم الخارجي. حاولت السفر قبلاً الى باريس لكن السلطات الفرنسية رفضت دخولي الى أرضها. كان هذا في العام 1968. كان لدي وثيقة اسرائيلية لكنّ الجنسية غير محددة فيها. الأمن الفرنسي لم يكن مطلوباً منه أن يفهم تعقيدات القضية الفلسطينية. كيف أحمل وثيقة اسرائيلية وجنسيتي غير محددة فيها وأقول له بإصرار انني فلسطيني. أبقوني ساعات في المطار ثم سفّروني الى الوطن المحتل.
>هل أحببت موسكو؟
-كانت أول مدينة أوروبية وأول مدينة كبيرة أعيش فيها. طبعاً اكتشفت معالمها الضخمة ونهرها ومتاحفها ومسارحها... تصور ما يكون رد فعل طالب فتيّ ينتقل من إقامة محاصرة الى عاصمة ضخمة! تعلمت الروسية قليلاً لأتدبر أمور الشخصية. لكن اصطدامي بمشكلات الروس يومياً جعل فكرة «فردوس» الفقراء التي هي موسكو، تتبخر من ذهني وتتضاءل. لم أجدها أبداً جنة الفقراء، كما كانوا يعلّموننا.
>هل فقدت فكرتك المثالية عن الشيوعية في تلك اللحظة؟
- فقدت الفكرة المثالية لكنني لم أفقد ثقتي بالماركسية أو بالشيوعية. كان هناك تناقض كبير بين تصوّرنا أو ما يقوله الإعلام السوفياتي عن موسكو والواقع الذي يعيشه الناس، وهو مملوء بالحرمان والفقر والخوف. وأكثر ما هزّني لدى الناس هو الخوف. عندما كنت أتكلم معهم أشعر بأنهم يتكلمون بسرية تامة. وإضافة الى هذا الخوف كنت أشعر بأن الدولة موجودة في كل مكان بكثافة. وهذا ما حوّل مدينة موسكو من مثال الى مدينة عادية.
> الى أين سافرت بعد موسكو؟
- الى القاهرة.
> كم بقيت في القاهرة؟
- سنتين هما 1971 و1972.
> كيف كانت حياتك في القاهرة؟
- الدخول الى القاهرة كان من أهم الأحداث في حياتي الشخصية. في القاهرة ترسخ قرار خروجي من فلسطين وعدم عودتي اليها. ولم يكن هذا القرار سهلاً. كنت أصحو من النوم وكأنني غير متأكد من مكان وجودي. افتح الشباك وعندما أرى النيل أتأكد من أنني في القاهرة. خامرتني هواجس ووساوس كثيرة، لكنني فتنت بكوني في مدينة عربية، اسماء شوارعها عربية والناس فيها يتكلمون بالعربية. وأكثر من ذلك،وجدت نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أقرأها وأعجب بها. فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريباً والأدب المصري. التقيت بهؤلاء الكتّاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدّهم من آبائي الروحيين.
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
> هل التقيت طه حسين قبيل وفاته؟
-من سوء حظي أنني لم ألتقِ طه حسين، كان في وسعي أن ألتقي به، ولم يحصل اللقاء. وكذلك أم كلثوم لم ألتقِ بها. وحسرتي الكبرى انني لم ألتقِ هذه المطربة الكبيرة. كنت أقول انني ما دمت في القاهرة فلديّ متسع من الوقت لألتقي مثل هذه الشخصيات. التقيت محمد عبدالوهاب، عبدالحليم حافظ وسواهما والتقيت كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم.
>هل عملت في القاهرة؟
- عيّنني محمد حسنين هيكل مشكوراً في نادي كتّاب «الأهرام»، وكان مكتبي في الطابق السادس، وهناك كان مكتب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبنت الشاطئ. وكان توفيق الحكيم في مكتب فردي ونحن البقية في مكتب واحد. وعقدت صداقة عميقة مع محفوظ وادريس، الشخصيتين المتناقضتين: محفوظ شخص دقيق في مواعيده، ومنضبط، يأتي في ساعة محددة ويذهب في ساعة محددة. وكنت عندما أسأله: هل تريد فنجان قهوة استاذ نجيب؟ كان ينظر الى ساعته قبل أن يجيب، ليعرف إن كان حان وقت القهوة أم لا. أما يوسف ادريس فكان يعيش حياة فوضوية وبوهيمية، وكان رجلاً مشرقاً. وفي القاهرة صادقت أيضاً الشعراء الذين كنت أحبهم: صلاح عبدالصبور وأحمد حجازي وأمل دنقل. كان هؤلاء من الأصدقاء القريبين جداً. وكذلك الابنودي. كل الشعراء والكتاب الذين أحببتهم توطدت علاقتي بهم. والقاهرة كانت من أهم المحطات في حياتي.
>هل كانت القاهرة منطلقك الشعري الثاني بعد انطلاقتك الاولى في الأرض المحتلة؟
- نعم. ولكنني سأروي لك هذه الوقيعة: عندما كنت في القاهرة راحت الصحافة العربية وخصوصاً بعض الصحافة اللبنانية تهاجمني. وخصّت مجلة «الحوادث» غلافها مرة لي قائلة: ليته يعود الى اسرائيل. وراحوا يؤبنونني شعرياً معلنين انني انتهيت كشاعر:frown:. قبل أن أكتب، حكموا على ما سأكتب. في القاهرة تمّت ملامح تحوّل في تجربتي الشعرية وكأن منعطفاً جديداً يبدأ.
> ولماذا قامت هذه الحملة عليك؟
-كان يُنظر إليّ عندما كنت في الأرض المحتلة كوني شاعر المقاومة. وبعد هزيمة 1967 كان العالم العربي يصفق لكل الشعر أو الأدب الذي يخرج من فلسطين، سواء كان رديئاً أم جيداً. اكتشف العرب أنّ في فلسطين المحتلة عرباً صامدين ويدافعون عن حقهم وعن هويتهم. اكتسبت إذاً النظرة الى هؤلاء طابع التقديس، وخلت من أي ذائقة أدبية عامة. هكذا أُسقطت المعايير الأدبية عن نظرة العرب الى هذه الأصوات المقاومة بالشعر والأدب في الداخل. ومن القصائد المهمة التي كتبتها في القاهرة هي قصيدة «سرحان سرحان يشرب القهوة في الكافيتاريا» ونشرت في صحيفة «الأهرام» وصدرت في كتاب «أحبك أو لا أحبك».
.
يتبع:D
> هناك بعض المسؤولين يقرأون شعرك!
- مثل من؟
> شارون! وذلك الوزير الذي سبب مشكلة كبيرة انطلاقاً من قصيدتك «عابرون في كلام عابر».
- الضجة الكبرى أثارها الوزير الاسرائيلي سريد وهو من حزب «ميريتس»، عندما أدرج بعض قصائدي في المدارس. لم تكن القراءة الزامية بل اختيارية وكما ان من حق الطالب ان يطلع على الشعر البولندي والهولندي والفرنسي يحق له أن يطلع على الشعر الفلسطيني أو العربي. والأمر يتوقف على رغبة المعلم والطالب معاً. والمسألة من أولها الى آخرها لم تكن تستحق تلك الضجة، وكادت الحكومة الاسرائيلية ان تسقط والفرق كان في ثلاثة أصوات. حينذاك سألتني احدى الصحف الاسرائيلية فقلت لها: كنت أعتقد انكم دولة تحترمون أنفسكم الى حد انكم تسقطون الحكومة لأسباب داخلية سياسية ولكن ليس لأسباب شعرية، كنت أعتبر انكم أقوى من ذلك. الوزيرة الجديدة وهي من حزب «ليكود» ألغت للتو قصائدي من البرنامج. أما ما قاله شارون عن شعري فقاله بعدما خرج كلامه عن سياقه. سئل شارون في مقابلة صحافية عما يقرأ، فقال انه يقرأ رواية لكاتب اسرائيلي. فقال له الصحافي ان هذا الكاتب يساري ويكرهك، فقال له شارون: إنني أميز بين الابداع والسياسة، صحيح انني ضد أفكاره وهو ضد أفكاري، لكنني مستمتع بروايته. وأضاف: أنا أقرأ حتى محمود درويش وأنا معجب بديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً؟» لأن هذا الاعجاب قادني الى الاعجاب بتعلق الشعب الفلسطيني بقضيته وأرضه. في هذا السياق جاء كلام شارون.
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////درويش متوسطاً عرفات وجورج حبش
> هل تجوز المقارنة برأيك بين الشعر الاسرائيلي الحديث والشعر الفلسطيني الحديث مثلما فعل أحد الباحثين الفلسطينيين في «الداخل»؟
- من حيث المبدأ، أكاديمياً أو ثقافياً، قد يكون من الممكن المقارنة بين شعرين مكتوبين بلغتين مختلفتين، ومن وجهتي نظر متضادتين، على أرض واحدة. وقد تغري المقارنة هنا بالدراسة. ولكن لا أعرف أي منهج يمكن أن يعتمد وأي موضوع يمكن تناوله: الصراع على الهوية، الصراع على الذاكرة...؟ يمكن اجراء مقارنة بين علاقتين مختلفتين مع الأرض. وثمة بين الشعر الفلسطيني والشعر الاسرائيلي حال من الصراع، صراع في اللغة حول من يمتلك المكان واللغة وحول مَن يسيطر على موضوع المكان أفضل من الآخر. الصراع قائم.
> عندما تقرأ شاعراً اسرائيلياً يتغنى بأرض فلسطين، ماذا يكون شعورك؟
- يأخذني شعوري الى أن الصراع بيننا ليس عسكرياً فقط واننا نحن مدفوعون الى صراع ثقافي عميق. مثلاً هناك شاعر اسرائيلي كبير أحب شعره هو يهودا عميحاي، لم يدع مكاناً في فلسطين، وهو يسميها أرض اسرائيل، إلا وكتب فيه قصائد وبعضها جميل جداً وتحرج الشاعر الفلسطيني حقاً. تحرجه في أي معنى؟ الشاعر الفلسطيني لم يشعر يوماً بأنه محتاج الى تقديم براهين على حقه بالمكان، وعلاقته بالأرض تلقائية وعفوية ولا تحتاج الى أي ايديولوجيا أو تبرير. الشاعر الاسرائيلي الذي يعرف كيف تمّ مشروعه وماذا كان قبل اسرائيل، والذي يعرف أيضاً ان هذا المكان له اسم آخر وسابق هو فلسطين، يبدو هذا الشاعر في حاجة الى شحذ كل طاقته الابداعية من أجل امتلاك المكان باللغة كجزء مكمل للمشروع الاستيطاني. وبالتالي فهذه المسألة مخيفة فعلاً: من يكتب المكان في شكل أجمل يستحق المكان أكثر من الآخر؟ قد يكون هناك شعب لا شعراء له، فهل يكون من حق الآخر ان يحتله؟ الجدارة الأدبية لا تعطي حقاً للسلاح في أن يملك شرعيته. هناك مسائل صعبة. كأن تقول ان صاحب الحق الأكبر هو صاحب التعبير الأجمل. طبعاً يحاولون في اسرائيل دائماً تجريد الشعب الفلسطيني من قدراته الابداعية لكي يقولوا انهم جاؤوا الى أرض شعبها غير متحضر وغير متمدن، وانهم يحملون رسالة تحضير وتحديث أي رسالة كولونيالية. كيف يكون ردّي على شارون مثلاً: عوض أن يحسد الفلسطينيين على العلاقة بأرضهم يستطيع أن يشفي نفسه من هذا الحسد بأن ينسحب من أرضهم. ولكن من جهة أخرى، ان الشعر الفلسطيني بحسب مقولة شارون، استطاع أن يخترق الحصار السياسي والتاريخي.
> كيف تصف نفسك الآن، كمواطن فلسطيني؟
- أنا الآن في فلسطين، مواطن فلسطيني، محاصر بكل شروط الاحتلال والحصار والعزلة التي تفرضها اسرائيل. وأدافع عن حقنا في امتلاك مستقبل أفضل على أرض أوسع، مع الاحتفاظ بحريتنا في أن نحلم بشيء يبدو مستحيلاً مثل العدل والسلام والتحرر. لا استطيع ان أتكلم عن فلسطين في هذه اللحظة إلا بكثير من الاحباط. ففلسطين تتناقص جغرافياً، مع انها لا تزال في مكانها، لكن الواقع الاسرائيلي يقضمها كل يوم، ويحيط ما يريده أن يكون لنا وطناً نهائياً، بالاسوار والجدران. فلسطين تتناقص أيضاً في مدى مشاركة العالم في الدفاع عن حقها بالضغط على دولة ينظر اليها العالم بأنها فوق القانون، ويعاملها كقيمة أخلاقية غير قابلة للمحاسبة. والعالم العربي المحيط بفلسطين يتعرّض أيضاً للمزيد من الاحتلال أي انه «يُفلسطن» في شكل أو في آخر. صورة المستقبل القريب غير مشعّة إذا نظرنا اليها من منظور الحاضر. وللأسف المستقبل القريب أكثر وضوحاً مما ينبغي، لأن معالم الحل الاسرائيلي محددة ومعروفة: ان نعيش في كانتونات تثبت ان الأبارتايد أو التمييز العنصري ينتهي في بلد ويبدأ في بلد آخر. والبعد العربي للقضية الفلسطينية معرّض أيضاً للاحتلال والتهديد. فكل ما حولنا وما فينا يشير الى الحزن والغضب معاً. والاسرائيليون يعطون للنكبة عمراً جديداً، انهم يريدون للنكبة ان تستمر وان تتناسل. وكأن حرب 1948 ما زالت، كما يقول الاسرائيليون، مستمرة. واستمرارها يعني انهم يشعرون بأنهم لم ينتصروا تماماً، أي انهم في حاجة الى انتصار جديد. لكنّ هذا لا يعني أن الفلسطينيين تخلّوا عن حقهم، بل على العكس. لكن تجربة الشعب الفلسطيني في علاقته بأرضه تعني انه شعب غير قابل للخروج من التاريخ ولا من الجغرافيا كما يحاول الاسرائيليون أن يفعلوا. ضاقت الخيارات على الشعب الفلسطيني ولم يبق أمامه سوى خيارين، إما الحياة وإما الحياة. ومن حقه ان يدافع عن نفسه وأول سلاح هو أن حافظ على ذاته وحقه وهويته، وثانياً أن يلجأ الى الوسائل التي تحفظ صورته الانسانية والوطنية ولا تمدّ المحتل بما يريد لها من تشويش واضمحلال. مقاومة الاحتلال ليست حقاً فلسطينياً فقط بل هي واجب، والمقاومة تتخذ أشكالاً متعددة منها الصمود وعدم القبول بالمقترحات الاسرائيلية التي تعني الغاء الذات الفلسطينية، والبحث عن وسائل نضالية تخدم المصلحة الوطنية العليا.
> هل من علاقة لك بالسلطة الفلسطينية؟
- رسمياً أنا لا علاقة لي بأي سلطة، ولكن على المستوى الشخصي علاقتي ممتازة مع رئيس السلطة ورئيس الحكومة ومعظم الوزراء. ومهما كان هناك من مشكلات داخلية فما يجمع الفلسطينيين الآن هو السؤال الوطني، أكثر من أي سؤال داخلي. لكن ذلك لا يعني أن نغضّ النظر عن المشكلات الداخلية. والقضية الأساسية هي كيف نحل المشكلة الوطنية وهي مشكلة الاحتلال. لا أمارس دوراً كبيراً سياسياً بل أمارس دوراً ثقافياً. وينتابني شعور بالغربة، إلا ان واجبي الوطني يناديني كي أكون هناك. وهذا أضعف الإيمان. أنا إذاً هنا وهناك وأشعر بحزن وإحباط.
> عندما تكون في رام الله هل تشعر بأنك فعلاً في وطنك فلسطين أم ان وطنك استحال بقعة ما في ذاتك وشعرك وذاكرتك؟
- شعوري خجول جداً، ولغتي خجولة. لا أشعر كثيراً بأنني في الوطن. أشعر بأنني في سجن كبير مقام على أرض الوطن وكأنني لم أتحرر من منفاي. فمن كان يحمل الوطن في المنفى ما زال يحمل المنفى في الوطن. والحدود ملتبسة جداً، بين مفهومي الوطن والمنفى. الحرية شرسة جداً وجميلة جداً ويجب أن نبقى أسرى لها. وفي هذا الأسر، أسر الحرية نستطيع ان نتحرر. المجازات كثيرة هناك والاستعارات كثيرة والحدود بين الاشياء مختلطة. لا تعرف أحياناً حدود المعنى، وأحياناً تبحث عن المعنى ولا تجده. ولكن أهم أمر هو ألا نسقط الوطن من يدنا ولا من مخيلتنا. تعرضنا كثيراً لمحاولة الوقيعة بيننا وبين هذه البلاد. فالاسرائيليون يقيمون الجدران ليس بيننا وبينهم فحسب ولكن بيننا وبين أنفسنا، بيننا وبين ذواتنا، وهم محتاجون الى إقامة أسوار أخرى بين التاريخ والخرافة، بين الاسطورة والواقع، وهذا ما لا يفعلونه. إنهم متمترسون وراء أسطورة مسلحة برؤوس نووية. لم نسمع في التاريخ عن أساطير تتسلّح بهذا السلاح الفتاك.
> كيف ترى الى العمليات الاستشهادية أو الانتحارية التي تقوم بها بعض المجموعات الفلسطينية الأصولية؟
- هذا سؤال يتأرجح بين الاحساس بالمسؤولية والبعد الاخلاقي. من حق الفلسطينيين أن يقاوموا الاحتلال بوسائل تخدم قضيتهم. ولكن يجب أن يكون الفلسطينيون حريصين على التفوّق الأخلاقي للضحية، وأن يميزوا بين صورتهم وحقهم في العدالة وصورة المحتل. تحفظي الشديد هو على العمليات التي تمسّ المدنيين مما قد يقلّص الفارق بين الصورتين، فنصبح نحن والاسرائيليين كأننا جيشان في حرب. الاستشهادي يقدم حياته. ولا نستطيع أن نحاكم استشهادياً يهاجم موقعاً عسكرياً، ولكن نستطيع أن نقول له ان مهاجمة مطعم أو دار سينما لا تخدم قضيته ولا صورته.
> كيف تستعيد صورة الرئيس ياسر عرفات بعد مضي سنة على رحيله؟
- أريد أن أرى ياسر عرفات وقد رفض الغياب. أريد أن أراه رمزاً، ونحن محتاجون الى الرموز، رمزاً لتاريخ شعب وتحولات هذا الشعب من الغياب الكامل الى لاجئين فإلى مقاتلين فإلى مؤسسي مشروع وطني ثقافي، ثم الى حضور كثيف في خريطة العالم. ياسر عرفات من الذين استطاعوا أن يعيدوا اسم فلسطين الى الوعي العالمي. قدّم كل حياته للقضية ولم يعش لنفسه أبداً. أريد أن أرى هذه الصورة باقية. نفتقد عرفات لكننا لا نريد عرفات آخر. وأنا من الذين يقولون اننا لا نحتاج الى عرفات آخر. لا نحتاج الى رمزية عالية، نحتاج الى مدراء جيدين. كان عرفات يتمتع بمزايا لا يمكن أن تُورث وأن تُورّث. ومن الصعب أن نستنسخ شخصية مثله، وهذه الشخصية أنهت دورها ولم تعد قابلة للاستعادة. لكن تاريخه هو القابل للاستعادة، وكذلك تضحياته. انه سجل مضيء في ذاكرة الفلسطينيين. لكننا لسنا في حاجة الى عرفات جديد.
> يقول إدوارد سعيد انك لعبت دوراً سياسياً في منظمة التحرير مضيفاً عبارة «على مضض». ماذا تعني لك هذه العبارة، مع انك كنت شديد القرب من عرفات، مستشاراً وعضواً في اللجنة التنفيذية للمنظمة؟
- «على مضض» تعني انني لم أرغب، بيني وبين نفسي، في أن أكون عضواً في القيادة الفلسطينية. كنت أفضل أن أبقى في مجالي الحيوي فلا أحتل موقعاً يتعارض مع نزعات الشاعر الخاصة. كوني عضواً في اللجنة التنفيذية تسبّب في تأويلات مبالغ فيها لما أقول أو أكتب، وكأن هناك شعراً رسمياً أو مقالات رسمية. وهذا بعيد كثيراً من طبيعتي ومن حقيقة كتابتي الشعرية. ثم انني لا أصلح للعمل الرسمي والاداري والاجتماعات الطويلة والسهر الطويل والزيارات الرسمية والسفر المضني. لقد انتخبت وأنا غائب، سمعت الخبر في الراديو وكنت في النورماندي في فرنسا فبكيت. وأول مقال كتبته حينذاك عنوانه «قبل كتابة الاستقالة». لكن خضوعي لضغوط معنوية وأخلاقية عالية جعلني امتثل لهذه العضوية لفترة محددة، نحو خمس سنوات. وأقول مازحاً ان من حسنات أوسلو انها أتاحت لي الفرصة للاستقالة من اللجنة التنفيذية.
> ماذا عنى لك خروجك من المنظمة عام 1993؟
- شعرت بسهولة التنفس مثل شخص أطلق سراحه.
> سياسياً؟
- لا شخصياً. شخصياً شعرت انني بت أستطيع أن أنصرف الى همومي الخاصة، الى حياتي، الى شعري والى عشوائيتي أو فوضاي. صحيح أن في الانسان أكثر من شخصية، وأن فيّ السياسيّ والشاعر والكاتب، لكن طبيعة التعبير عن كل شخصية تختلف. طبيعة السياسي تختلف عن طبيعة الشاعر، ثم إن لهما لغتين مختلفتين، من دون أن يعني ذلك أن الشاعر متخلٍّ عن السياسة. فالسياسة فينا والسياسة تعني في وضعنا الفلسطيني أن نكون منتمين الى قضية وطنية. لا يستطيع الشاعر أن يتخلى عن السياسة التي فيه. لكن طبيعة التعبير عن العلاقة هي التي تختلف. أما على المستوى السياسي فكنت حائراً. قرأت نص اتفاق أوسلو قبل أن يذاع وعندما علمت بأنه وقّع بالحروف الأولية قدمت استقالتي وخضعت استقالتي لتأويلات كثيرة ومجحفة وظالمة، وبعضها غير أخلاقي. وكنت من الخلقية حتى انني لم أقل لماذا، كل ما قلته:إننا مقبلون على مغامرة لا أريد أن أكون جزءاً منها، وكانت هناك، للأسف، تفسيرات مزرية. مع ذلك، عندما قبلت المؤسسة الفلسطينية هذه الصيغة وأصبحت هي التي تمثل السياسة الرسمية الفلسطينية، قلت انني لا أستطيع أن أرفضها في المطلق، مرتاح الضمير، ولا أن أقبلها أيضاً، مرتاح الضمير. لذلك كان وضعي هو وضع المتحفظ والممتنع، وليس وضع الذي سيعارض. كان في قلبي نداء ما يقول انه قد ينتج عن ذلك شيء، خصوصاً ان هذا المشروع جاء بعد محاصرة سياسية خانقة لمنظمة التحرير في أعقاب حرب الخليج وانعدام الخيارات أمامها. كنت حائراً بين قلبي وعقلي، العقل كان يقول لي إن هذا الاتفاق لن يؤدي الى حل ولن يؤدي الى سلام حقيقي ولا الى دولة. فنص الاتفاق غامض والمرحلة الانتقالية معدومة الربط نهائياً، وليس لدى اسرائيل أي التزام بالانسحاب، وليس هناك من تسمية للأرض المحتلة بأنها محتلة. ولكن كنت أتمنى أن يكون فهمي مخطئاً، كنت أتمنى أن يكون الذين قبلوا على خطأ، ففي خطأي مصلحة للجميع. ولكن للأسف الشديد، كانت النتائج أسوا مما تصورت. لقد انتقلنا من منفى الى سجن كبير. وعرفات قضى سنوات في زنزانة، في غرفة. أين آفاق أوسلو؟ ما هي هذه الآفاق؟ ومع ذلك رضي القتيل ولم يرضَ القاتل.
> هل كان من حل آخر في رأيك؟
- هذا ما يحير فعلاً. كان من الممكن الوصول الى اتفاق آخر. لو عرف عرفات والمنظمة مدى حاجة اسرائيل الى اتفاق ما مع اسرائيل لكي يفتحوا بوابتهم أمام العالم العربي، لكانت مكافأتنا كحراس للبوابة أفضل وأكبر. ليتنا صبرنا أكثر، لو طلبنا مثلاً فك الاستيطان من غزة كنا سنحصل عليه. لكن الاستعجال كان يحجب القراءة الدقيقة للنصوص.
> ما أجمل خطاب كتبته لعرفات؟
- عرفات يقول ان أجمل نص كتبته له هو نص إعلان الدولة. وأعتقد شخصياً انه أجمل نص كتبته في هذا القبيل. والمفارقة انني كتبته بعد أوسلو. كنت حينذاك في باريس وجاء عرفات وطلب مني أن أكتب النص وكان موضوعه فكرياً، حول مشكلات العالم... وفي الاجتماع كان رؤساء العالم موجودين، وأستشهد أكثر من رئيس بالنص الذي قرأه عرفات، فقال لي «أرأيت كم ان خطابك جيد»، فقلت له: هذا أصبح خطابك أنت.
> كتبت النص على رغم اعتراضك على اتفاق أوسلو!
- اختلافي مع عرفات حول موضوع أوسلو لم يمسّ العلاقة الشخصية التي جمعتني به. والدليل انني ذهبت أو عدت الى الوطن في شروط أوسلو.
> والخطاب الشهير في السبعينات: «لا تسقطوا غصن الزيتون»؟
- لا لم أكتبه وحدي. كنا مجموعة وكتبناه معاً. لكن الصحافة ركّزت عليّ وكأنني أنا الذي كتبته.
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
> الآن مع صدور مجموعتك الكاملة للمرة الثامنة عشرة كيف ترى إليها؟ ما الذي تحبه فيها وما الذي تكرهه؟ كيف تنظر الى البدايات التي أصبحت جزءاً من الذاكرة الفلسطينية؟
- حين اضطر الى قراءة أعمالي الأولى من أجل تصحيح الأخطاء الطباعية استعداداً لطبعة جديدة، وليس من قبيل مراقبة تطوّري أو مراقبة ماضيّ الشعري، أشعر بكثير من الحرج. أي انني لا أنظر الى ماضيّ برضا، وأتمنى عندما أقرأ هذه الأعمال، ألا أكون قد نشرتها كلها، أو ألا أكون نشرت جزءاً كبيراً منها. لكنّ هذه مسألة لم تعد منوطة بي، انها جزء من تراثي. لكن تطوري الشعري تم من خلال هذا التراكم وليس من خلال القفز في الفراغ. لذلك عليّ أن أقبل بطاقة الهوية هذه كما هي، وليس من حقي اجراء تعديلات إلا بقدر المستطاع، أي تعديلات على بعض الجمل وعلى بعض الفقرات أو حذف بعض الأسطر، من منظور الاعتبار الجمالي وليس من أي منظور آخر. ولو أتيح لي لكنت دائم التنقيح في أعمالي. ولكن لو أتيح لي أيضاً أن أحذف لكنت ربما حذفت أكثر من نصف أعمالي. لكن هذا الأمر ليس في يدي وليس من حقي على ما يبدو. هذا أنا في مراهقتي الشعرية وفي صباي وفي شيخوختي، أنا كما أنا. وأعتقد أن كل شاعر لديه حاسة نقد ذاتية، ينظر النظرة نفسها الى أعماله. وأريد أن أقول هنا إن الشعراء يولدون في طريقتين: بعضهم يولد دفعة واحدة، ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك. ففي التراث العربي مثلاً عندنا طرفة بن العبد وفي التراث العالمي هناك رامبو. ثم هناك شعراء يولدون «بالتقسيط» وأنا من هؤلاء الشعراء. ولادتي لم تتم مرة واحدة. وأرى أن مشكلة الولادة في دفعة واحدة عمرها قصير.
> هناك ظاهرة عجائبية في مثل هذه الولادات!
- هناك عبقرية خاصة وربما مأسوية. فالشاعر الذي يولد دفعة واحدة لا يستطيع أن يواصل عمره الشعري. أما الشعراء الذين يولدون على مهل فتتاح لهم فرصة من التجربة والكتابة لا تتاح لمن يصبّون تجربتهم في دفعة واحدة، ويصمتون مثلما فعل رامبو. هذا السؤال صعب أصلاً على كل شاعر يستطيع أن يكتب شعراً في العشرينات، ولكن هل يستطيع كل شاعر أن يكتب بعد الستين؟ هذا هو السؤال الصعب.
> ولكن هناك أمثلة متضاربة في هذه القضية!
- كل شاعر يملك جواباً خاصاً أو ربما هو يملك حظاً خاصاً. وأعتقد ان الحظ في آخر الأمر هو الذي يلعب دوراً في نشأة الشاعر، وفي قدرته على التطور. ولكن قبل الحظ هناك انتباه الشاعر الى عيوبه الشعرية، انتباه الشاعر الى مأزقه الشعري. وكل شاعر يحل مأزقه في طريقته الخاصة، ولكن ليس التكرار هو أفضل الطرق، أي تكرار ما قاله الشاعر أو كتابة تنويعات على ما كان كتب من شعر.
> ما رأيك بالمبادرة التي يقوم بها شعراء بحذف شعرهم الأول وانكاره؟ وهذا ما قام به مثلاً الفرنسي رينه شار أو الشاعر أدونيس؟ هل أخفيت أنت قصائد أولى، لك وخصوصاً عندما كنت في فلسطين؟
- أنا لم أنشر في كتب كل ما كتبت من شعر. بعضه نشر في الصحافة، وبعضه لم ينشر. مجموعتي الشعرية الأولى حذفتها كلياً ولا أعترف بها البتة وكانت صدرت في فلسطين أيام الفتوّة. وهي عبارة عن قصائد مراهقة شخصية وشعرية. وأنا أتمنى أن أواصل الحذف. هذه هي المسألة الشائكة. حتى في مرحلتي الراهنة، كتبت قصائد عدة لم أدرجها في مجموعاتي الشعرية. نشرتها في الصحف ولكنني لم أضمّنها كتبي. من حق الشاعر أن يحذف ما يشاء من شعره. لكن السؤال هو: هل رأيه هو الصواب أم لا؟ هناك رأي القارئ أيضاً.
> بودلير يتحدّث دوماً عن الناقد الكامن في الشاعر والذي يوجهه!
- صحيح. ولكن قد يؤثر الشاعر نصاً له على آخر، وقد لا يشاركه القارئ هذا الإيثار بل قد يخالفه فيه.
> ما كان عنوان مجموعتك الأولى التي أسقطتها من أعمالك؟
- كان عنوانها «عصافير بلا أجنحة».
«سجّل أنا عربي»
> ماذا تعني لك اليوم قصائد راسخة في ذاكرة الجمهور مثل «سجّل أنا عربي» و «جواز السفر» بعدما اجتزت ما اجتزت من مراحل شعرية؟
- هذا النوع من الشعر كتبته تلبية للنداءات الداخلية والخارجية. كان سؤال الهوية هو السؤال الملح في شبابي الشعري أو صباي. وهو ما زال مطروحاً حتى الآن، ولكن في طرق مختلفة، وفي أشكال تعبير مختلفة. كانت ظروف الحياة هناك تقتضي ربما مثل هذه المخاطبة المباشرة. هذا أولاً. ثانياً أصبحت هذه القصائد جزءاً من ذاكرة جماعية لا أستطيع أن أتحكم بها أو أتصرف في شأنها. إنها لم تعد ملكي أبداً. وهي ساهمت أيضاً في انتشاري شعرياً. ويجب ألا أكون مجحفاً أو ناكراً للجميل في حق هذا النوع من الشعر. هذا إذاً ساهم في شق الطريق أمامي، وفي تمهيدها لكي أضيف تجارب شعرية جديدة ومختلفة عما سبقها، من حيث التناول الشعري واللغة الشعرية والاسلوبية. لكن التأسيس الذي تم في العلاقة بين القارئ وبيني أذن لي في أن أتتطور، وأتاح للقارئ أن يقبل هذا التطور. فنحن نكبر معاً، أنا وقارئي.
> ماذا باتت تعني لك القصيدة السياسية؟
- القصيدة السياسية اليوم لا تعني لي أكثر من خطبة،:shock: قد تكون جميلة أو غير جميلة. إنها تخلو من الشعرية أكثر من القصيدة التي تحرص على أن تنتبه لدورها الإبداعي ودورها الاجتماعي. أي على الشاعر أن ينتبه الى مهنته وليس فقط الى دوره. القصيدة السياسية استنفدت أغراضها في رأيي، إلا في حالات الطوارئ الكبرى. ربما أصرخ غداً غضباً، تعبيراً عن أمر ما، ولكن لم تعد القصيدة السياسية جزءاً من فهمي المختلف للشعر. أعتقد إنني الآن في مرحلة، أحاول فيها أن أنظف القصيدة مما ليس شعراً إذا أمكن التعبير. ولكن وما هو الشعري وما هو غير الشعري؟ هذه مسألة أيضاً. السياسة لا يمكنها أن تغيب تماماً من هوامش القصيدة أو خلاياها. لكن السؤال هو كيف نعبر عن هذه السياسة. كل انسان فينا مسكون بهاجس سياسي، ولا يستطيع أي كاتب في أي منطقة من العالم أن يقول: أنا نظيف من السياسة. فالسياسة هي شكل من أشكال الصراع، صراع البقاء وصراع الحياة. ومن طبيعة الأمور أن يكون هناك سياسة. والسؤال هو: هل تكون القصيدة سياسية أم ان عليها أن تحمل في كينونتها بعداً سياسياً؟ أو هل هناك إمكان لتأويل سياسي للنص الشعري أم لا؟ اما أن تكون القصيدة عبارة عن خطاب مباشر بتعابير مستهلكة ومستنفدة وعادية فهذا لم يعد يعني لي شيئاً.
> ما رأيك بظاهرة الشعر السياسي الجديد الذي يكتبه شعراء جدد عرب أو في العالم أو الذي كتبه شعراء مثل ريتسوس وغينسبرغ وجيل «البيت» جنريشين وقد أعادوا النظر في القصيدة السياسية وفي الواقعية؟
- ريتسوس يجب أن نميزه عن الآخرين.
> لكنه كتب قصائد سياسية عبر لغة مختلفة.
- حاول ريتسوس أن يكتب اليومي، لكنّ هذا اليومي الذي يبدو لنا عادياً يخبّئ بعداً اسطورياً ما. ولعل القصيدة التي تسمى يومية لدى ريتسوس ليست قصيدة يومية، ففي هذا «اليومي» بُعد أسطوري وميتافيزيقي. أما في شأن ألن غينسبرغ وبعض الشعراء الأميركيين فهم يكتبون شعراً سياسياً في المعنى المباشر للكلمة. لكن الشعر الغربي والأميركي مشبع بالجماليات، وقد انتهى البحث في هذا الموضوع، الموضوع الجمالي. وحاول الشعراء أن يعودوا الى ما هو مختلف، محاولين أن يجعلوا الشعر يمارس دوراً سياسياً واجتماعياً، على خلافنا نحن. فنحن خارجون من تراث شعري سياسي مباشر في محاولة لتطوير هذا الشعر ورفعه الى مستوى جمالي أفضل. والطريقان متعاكسان ومختلفان. ربما عندما تبلغ الجمالية العربية مستوى أرقى بكثير، قد نحنّ الى أن نهجو الواقع، في المعنى السياسي، في معنى الاحتجاج والرفض. وشعر الاحتجاج أصلاً لم ينته في العالم، ولكن هل يحتج الشعر بكونه شعراً أم بكونه كلاماً أو موقفاً؟
> ماذا بات يعني لك وصفك بشاعر القضية أو شاعر المقاومة وفلسطين؟
- المسألة لا تتعلّق بي ولا أستطيع أن احتج إلا على محاولة محاصرتي في نمطية معينة. هذه التسميات بعضها بريء، وينطلق من حب القضية الفلسطينية وحب الشعب الفلسطيني، وبعضها نوع من اضفاء الاحترام والتشريف على القول الشعري المتعلق بالقضية. لكن الرأي النقدي هو أخبث من ذلك. الرأي النقدي يحاول أن يجرّد الشاعر الفلسطيني من شعريته ليبقيه معبّراً عما يسمى مدونات القضية الفلسطينية. هناك طبعاً اختلاف جوهري كبير بين النظرتين: نظرة بريئة ونظرة خبيثة. طبعاً أنا فلسطيني وشاعر فلسطيني، ولكن لا أستطيع أن أقبل بأن أعرّف بأنني شاعر القضية الفلسطينية فقط، وبأن يدرج شعري في سياق الكلام عن القضية فقط وكأنني مؤرّخ بالشعر لهذه القضية.
> ولكن شئت أم أبيت أنت الشاعر - الرمز!
- كل شاعر يتمنى أن يكون صوته الخاص معبّراً عن صوت عام أو جماعي. قلائل هم الشعراء الذين يلتقي داخلهم بخارجهم في طريقة تخلق التباساً بين رمزية الشاعر وشعريته. لكنني لم أسع شخصياً الى ذلك. ربما هو الحظ الذي وفّر لي هذه المكانة. اما ان أسعى الى أن أكون رمزاً وأحرص على أن أكون رمزاً، فأنا لا أريد ذلك، أريد أن ينظر إليّ من دون أن أُحمّل أعباء رمزية مبالغاً فيها، ولكن يشرّفني أن ينظر الى صوتي الشخصي وكأنه أكثر من صوت، أو أن «أناي» الشعري لا تمثل ذاتي فقط وإنما الذات الجماعية أيضاً. كل شاعر يتمنى أن يصل شعره الى مدى أوسع. وأنا لا أصدّق الشعراء الذين يحددون القيمة الشعرية من خلال عزلتهم عن القراء. أنا لا أقيس أهمية الشعر بمدى انتشاره ولا بمدى انعزاله.
ولكن أن تتحقق المسألتان أي الانتشار مع الجودة الشعرية، فهذا ما يتمناه أي شاعر، وإلا لماذا يقرأ الشعراء شعرهم في الأمسيات؟ لماذا يطبعون دواوينهم إذا كان القارئ لا يهمهم؟
:D
هل تعتقد ان الشعر قادر على ان يعبّر عن كل ما يجيش في نفسك وما يدور في رأسك من أفكار؟
- هناك شعراء يقولون ان اللغة لا تتسع لهم وانهم أكبر من اللغة. وجموح الشعراء الى إصدار مقولات كبيرة قد يكون مقبولاً. هل سمح لي الشعر أن أقول كل ما أريد أن أقول؟ ليس هذا هو السؤال الذي أطرحه على نفسي. بل هو: هل أستطيع أن أقول أكثر مما قلت؟ هذا ما يؤرقني. ولكن لا أحد يستطيع أن يكتب كل ما في داخله. هناك أدباء كتبوا أكثر مما في قدرتهم، أي انّ كلماتهم أكبر من عالمهم الداخلي ومن تجربتهم الحياتية والانسانية. شخصياً لا أشكو من هذا الأمر. وأعتقد انني قادر على قول ما أشعر به وما أحلم به وما هو غامض في أشكاله المختلفة. ولكن في نهاية الأمر قد يكون من الصحيح ان الشاعر يقول شيئاً واحداً وأن الروائي يقول شيئاً واحداً. ولكن ما هو هذا الشيء؟ يكتب الشاعر ليصل الى هذا الشيء، ليكتشف ما يريد أن يقوله.
> مادمنا تحدثنا عن الصوفية، أعترف انني أحس ان لديك نزعة صوفية محفوفة ببعد ميتافيزيقي وخصوصاً في قصيدتك الطويلة «جدارية» التي اختبرت فيها تجربة الموت؟ ماذا يعني لك الشعر الصوفي؟ هل تقرأه؟
- قرأت الأدب الصوفي وأقرأه. وملاحظتي أن ليس الشعر هو أفضل ما فيه، بل النص النثري. مثلاً ابن عربي، نصه النثري أغنى كثيراً من نصه الشعري، ومملوء بالدلالات بل هو حافل بالألغاز والأسرار أكثر من شعره. أنظر الى الصوفية نظرة فكرية أو فلسفية، أنظر اليها نظرة شعرية من حيث هي مغامرة الذهاب الى الأقصى ومحاولة اتصال مختلفة بالكون ومحاولة بحث عمّا وراء هذا الكون، وما وراء الطبيعة، وعن الأسئلة الوجودية. ولا يعنيني في التجربة الصوفية معناها مقدار ما يعنيني سعيها اللغوي والعرفاني في بلوغ ما لا تبلغه المغامرات الأخرى. فهي مغامرة أدبية جعلت النثر أرقى من الشعر في الكتابة. وإذا أردنا أن نبحث عن المصادر الحقيقية التي أثْرت قصيدة النثر نجد الكتابة الصوفية النثرية مثل النفري والبسطامي والسهروردي وابن عربي. وهؤلاء كانوا شعراء من نوع آخر، أي بما يحملون من شحنات للسفر الى أبعد ما يمكن. ونحن لا نستطيع أن نذهب الى ما ذهب هؤلاء اليه. هذا هو الجانب الابداعي في الصوفية، ولكن هناك صوفية تشبه الشعوذة والسحر.
> ما رأيك بالشعراء الذين يستعينون بالمصطلحات الصوفية القديمة ليكتبوا شعراً صوفياً حديثاً؟
- أنا شخصياً غير مهتم بهذه المسألة. ولا أعتقد أن في عصرنا الحديث والصاخب هذا هناك مكان للشعر الصوفي.
> والصوفية الجديدة التي لا علاقة لها بالمصطلحات القديمة؟
- الصوفية الحديثة هذه هي شكل من أشكال التمرّد على طبيعة الحياة المعاصرة وعلى تشيّؤ الانسان وابتعاده عن السؤال الروحي والديني. وما نقرأه في الشعر هو ترصيع لبعض المصطلحات الصوفية الخارجة عن سياقها.
> وماذا عن البعد الميتافيزيقي الكامن في شعرك؟
لعل سؤال الموت في شعري شديد الصلة بالبعد الميتافيزيقي. هناك نظرتان الى الموت: نظرة دينية تقول ان الموت هو انتقال من الزائل الى الخالد، ومن الفاني الى الباقي، ومن الدنيا الى الآخرة. وهناك نظرة أخرى أو فلسفية تعتبره نوعاً من الصيرورة، وترى ان الحياة والموت مترافقان في جدلية أرضية. أحياناً أكتب عن الموت ولكن من دون أن أتعمق كثيراً في السؤال الى أقصى حدوده. فالذهاب في السؤال الى أقصاه هو أمر مملوء بالألغام التي لا أستطيع أن أنزعها ولا أن أفجرها. في «جدارية» كتبت عن تجربة شخصية، كانت مناسبة لي للذهاب في سؤال الموت، منذ أقدم النصوص التي تحدثت عن الموت، ومنها ملحمة جلجامش التي تحدثت أيضاً عن الخلود والحياة. هذه التجربة كانت لي اطاراً صالحاً للسرد أو لما يشبه السيرة الذاتية. ففي لحظة الموت تمر حياتك أمامك وكأنها في شريط سريع. انني عشت هذا ورأيته. كل الرؤى التي كتبتها في القصيدة كانت حقيقية: المعرّي ولقاء هيدغر ورينيه شار... رأيت الكثير ولم أكتب كل شيء. لكنني لاحظت ان القصيدة كانت مشدودة الى سؤال الحياة أكثر من سؤال الموت. والقصيدة في الختام كانت نشيداً للحياة. أهم عبرة استخلصتها من هذه المسألة ان الحياة معطى جميل، هدية جميلة، كرم إلهي غير محدود، وعلينا أن نحياها في كل دقيقة. أما سؤال الخلود فلا جواب عليه منذ ملحمة غلغامش حتى اليوم. هناك جواب ديني ولكن كشاعر لا أحب أن أدخل في الجدال الديني. الانسان يؤمن بما يعرف وبما لا يعرف. بل هو مشدود الى الإيمان بما لا يعرف، وأهم أمر في الصراع بين الحياة والموت أن ننحاز الى الحياة.
> ما دمنا نتكلم عن الدين نلاحظ أن في شعرك أثراً توراتياً ولا سيما من «نشيد الأناشيد»، يتمثل في غنائيتك العالية في ديوان «سرير الغريبة» وسواه! ما الذي يجذبك كشاعر في النص التوراتي وكيف أثر فيك؟
- في البداية، درست في الأرض المحتلة، وكانت بعض أسفار التوراة مقررة في البرنامج باللغة العبرية، ودرستها حينذاك. لكنني لا أنظر الى التوراة نظرة دينية، أقرأها كعمل أدبي وليس دينياً ولا تاريخياً. حتى المؤرخون اليهود الجادون لا يقبلون أن تكون التوراة مرجعاً تاريخياً. أو لأقل انني انظر الى الجانب الأدبي في التوراة. وهناك ثلاثة أسفار مملوءة بالشعر، وتعبر عن خبرة انسانية عالية وهي: سفر أيوب، سفر الجامعة الذي يطرح سؤال الموت، ونشيد الأناشيد.
> والمزامير؟
- بعض المزامير، فهي أقل أدبية من الأسفار التي ذكرتها. إذاً التوراة هي كتاب أدبي بالنسبة إليّ، وفيها فصول أدبية راقية وشعرية عالية.
> هل التوراة مصدر من مصادرك؟
- لا شك في أنها أحد مصادري الأدبية.
> هل أعدت قراءة التوراة بالعربية؟
- أجل، قرأت ترجمات عربية عدة ومنها الحديثة. وأحب فيها بعض الركاكة. فمثل هذه الكتب يجب أن يترجم في طريقة خاصة. و«نشيد الأناشيد» يعتبره كبار الشعراء في العالم من أهم الأناشيد الرعوية في تاريخ الشعر، مع غض النظر عن مصادر هذا النشيد الفرعونية أو الآشورية.
> هل يمكن الكلام برأيك عن حداثة محمود درويش، هذه الحداثة الممكن وصفها بـ «الحداثة الاستخلاصية» التي تتآلف فيها مدارس عدة ولكنها تبدو كأنها بلا مدرسة أو كأنها مدرسة بنفسها؟ حداثة خاصة خارج حداثة مجلة «شعر» وسائر الحداثات الأخرى؟
- يبدو لي انك تفهم حداثتي أكثر مني. سؤال الحداثة سؤال محيّر. وأن تُحصر الحداثة في الحداثة الشعرية، فهذا يعني ان لا حداثة أخرى في المجتمع العربي. ومن مآزق الحداثة العربية انها متحققة في الشعر وربما في مراكز الشرطة أو الأمن. حاولت الحداثة الشعرية ان تقوم مقام الحداثة الفكرية والفلسفية والعلمية والاجتماعية، أي انها حمّلت نفسها مهمات لا تستطيع فعلاً أن تتحملها. اطلعت طبعاً على مفاهيم الحداثة بعدما جئت الى العالم العربي هاجراً فلسطين. قبل ذلك لم أكن قد اطلعت على تلك المفاهيم. ففي فلسطين المحتلة كنت أعيش في ظروف صعبة وكنت أطلع على الشعر العربي والعالمي من دون أن يكون سؤال الحداثة ملحاً عليّ مثلما كان ملحاً على الشعراء العرب. كان لدينا حينذاك سؤال المقاومة الثقافية، سؤال الهوية، وكان علينا أن نصونها من الذوبان. كيف ندافع عن حقنا في الوجود؟ كيف نزيل الاشكالية بين الجنسية والهوية؟ كيف يقوم الشعر في تغيير ما، أو هل يستطيع الشعر أن يغيّر؟ كانت الأسئلة بعيدة الى حد ما عن انشغال الساحة بأسئلة الحداثة. وأنا نشأت في هذا الجو وكتبت فيه. وعندما خرجت الى العالم العربي كنت الى حد ما معروفاً، وكنت أسمّى شاعر المقاومة وشاعر الأرض المحتلة... لكن اصطدامي بسؤال الحداثة والتجارب الشعرية الحديثة جاء متأخراً. ولا أعرف ان كنت وضعت داخل الحداثة العربية أم ما زلت خارجها. لا أعرف.
> وما رأيك بما يقوله بعضهم عن «حداثة» محمود درويش؟
- أنا لست جزءاً من مدرسة، ولست طالباً لمعلم معين وهذا عيــب. كنت أتمنى أن يكون لي معلم شعـــري، فهو كـان ليوفر عليّ ربما أعباء تعليمية كثيرة. كنت شديد الاصغاء والتأمل والتأثـر حيال سؤال الحداثـة الشعـريـــة العربية. لكنني لم أتخلّ عن ربط الحداثة بمشروع تحرري، أي ان نتمكن من تحرير المجتمع بالقصيدة الحديثة. أو ان على الحداثة الحقيقية أن تكون منظومة أفكار تشمل كل مستويات المجتمع وليس الشعر وحده. ولكن بما أن الشعر هو حقل عملنا ولا إمكان آخر لنا، فليكن ذلك. ولنعش هذا الوهم الجميل. وما زلت أرى أن لا حداثة شعرية عربية حقيقية خارج جماليات الشعر العربي. فهذه الجماليات يجب على الحداثة العربية أن ترتكز اليها لتتميز عالمياً. لم أدخل في أفق التنظير ولم أسع الى أن أكون حديثاً أم غير حديث، ولكن أعتقد ان قصيدتي حديثة. و في أي معنى هي حديثة؟ أي أنها تصغي الى ايقاع الزمن الجديد وتجري تحولات في العلاقة بين الكلمات والأشياء وتحاول أن تبقي اللغة حية وتعيد الى هذه اللغة حياتها باستمرار، وأن تطوّر أدواتها من خلال علاقة هذه الأدوات بما كنا نسميه الدور الذي تلعبه القصيدة الحديثة في الذائقة الشعرية وفي مشروع التحرر.
نشرت في مجلة «شعر» بضع قصائد...
- أنا لم أنشر، المجلة أخذت القصائد من صحافة الداخل الفلسطيني. ولعلها المرة الوحيدة التي نشرت لي قصائد في «شعر
كيف تنظر الى مجلة «شعر»؟
- لا شك في أن مجلة «شعر» كان لها دورها وكانت لها أوهامها أيضاً. ومن أوهامها انها احتكرت مفهوم الحداثة الشعرية وحاولت ان تقصي التجارب الأخرى خارج «جنة» الحداثة، إذا جاز التعبير. وأعتقد بأن مجلة «شعر» مثلت تياراً من تيارات الشعر العربي الحديث وليس كل الشعر العربي الحديث. ومن عيوب التعامل مع هذه الظاهرة ان هناك دراسات جامعية تدرس الشعر الحديث من خلال مجلة «شعر» فقط. ويجب ألا ننسى أنّ كان هناك مجلة «الآداب» وكان هناك الشعر العراقي والشعر المصري... وهذه تيارات أساسية في الشعر العربي الجديد. ليس كل شعراء مجلة «شعر» استطاعوا أن يُكرِّسوا أو أن يحققوا مكانة شعرية كبيرة. هناك بضعة شعراء فقط.
> كانت مجلة شعراء أكثر مما كانت مجلة منفردة بذاتها أو مجلة تيار واحد!
- حاولت أن تكون مجلة تيار وانشغل بعض شعرائها بالتنظير الزائد عن اللزوم أحياناً. إنها مثل أي حركة شعرية، خرج منها في نهاية الأمر بضعة شعراء مهمّين.
> والمعركة الفكرية الحداثية التي خاضتها هذه المجلة هل عنت لك شيئاً؟
- إنني اطلعت على المجلة متأخراً أي بعدما خرجت من فلسطين وكانت قد توقفت عن الصدور. وكانت المعركة التي أعلنتها قد انتهت، خصوصاً بينها وبين مجلة «الآداب». إلا أن المعركة الشعرية الحداثية مستمرة حتى الآن ولكن عبر أدوات أخرى: هل الشعر يعرّف بما يقوله أي بموضوعه أم في كيفية ما يقول؟ هل للشعر دور ما؟ هل يجب أن يكون على علاقة بالقارئ أم لا؟ وما هي العلاقة بين المتلقي والشاعر؟ هل الذات الكاتبة هي وحدها في العملية الشعرية أم ان ثمة ما يشاركها، كاللغة مثلاً؟ مثل هذه الأسئلة ما زال مستمراً حتى الآن. هل عزلة الشعر هي مقياس من مقاييس جودة الشعر؟ ذيول المعركة ما زالت قائمة حتى يومنا. وأعتقد ان من الجميل أن يكون هناك تيارات، عوض أن يكون هناك تيار واحد متسلّط على الساحة الشعرية.
> لكن «شعر» لعبت الدور الرئيس في ترسيخ القصيدة الحديثة!
- لمَ لا؟ لكن «الآداب» لعبت مثل هذا الدور أيضاً.
> لكن «شعر» حصرت مشروعها في الشعر بينما «الآداب» كان مشروعها أدبياً ورفضت قصيدة النثر؟
- أنا لم أطلع على المشهد عندما كان قائماً. جئت متأخراً، ذلك انني خرجت في العام 1971. وكانت وقعت هزيمة 1967 التي غيّرت مفاهيم مجلة «شعر» نفسها.
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////مع الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي
«مواقف»
> «مواقف» مجلة الشاعر أدونيس هل تابعتها حينذاك؟
- صدرت «مواقف» عندما كنت في بيروت وكنت في مرحلة من أسرة تحريرها.
> كيف ترى الى «مواقف» لا سيما في تلك الفترة؟
- مجلة «مواقف» أضافت بدورها. وحاولت أن تقيم علاقة بين الابداع والفكر والثورة والتغيير، بين الابداع والحرية. كانت «مواقف» تمثل حالاً من القطيعة مع مجلة «شعر»، لكنها قطيعة تطويرية. واتجهت نحو السؤال الفكري ولم تكن مجلة ابداعية فقط.
> لماذا انسحبت من أسرة تحريرها؟
- لم أنسحب لخلاف أو سواه، ولكن كان عندي مجلة «شؤون فلسطينية» ثم أصدرت «الكرمل» في العام 1981.
> الإشكال الذي أثاره تصريحك قبل فترة حول شعر الحداثة كيف توضحه، خصوصاً بعدما ترك التباساً أو سوء فهم؟
- أولاً لم أتعرّض للشعر الجديد وشعر الحداثة. سئلت في تونس في لقاء صحافي كبير جداً، عن أزمة العلاقة بين المتلقي والشعر الجديد. وقلت إن هناك أزمة فعلاً لأن بعض الشعراء يستمرئون عزلتهم ويضعونها هدفاً، من غير أن تكون نتيجة طبيعية لتطور ما في نص شعري جديد على الذائقة. هناك شعراء يقيسون جمالية شعرهم بمدى عزلتهم عن القارئ. وهناك سبب آخر وهو أن القارئ لا يريد أن يقترب من شعر يرفضه كمتلقٍ. وأنت تعرف أن الشاعر ليس وحيداً في الكتابة، إنه طرف في المعادلة الشعرية، هناك الشاعر، هناك اللغة التي تفرض نفسها على الشاعر، وهناك طرف ثالث لا يتم الفعل الابداعي من دونه وهو القارئ. هذا الثلاثي هو الذي يساهم في تطوير الفعل الشعري وفي تحقق القصيدة. وهذا التحقق لا يتم إلا من خلال تفاعل ما، بين القارئ والشاعر. لم أتعرّض لأحد ولا أحب أصلاً التعرض لأحد. كل شاعر حر. وأردد دوماً أن على السجال الشعري اللامجدي أن ينتهي. قصيدة النثر هي خيار شعري مكرّس وفيها أعمال ابداعية جميلة جداً. ويجب أن ننظر الى الشعر في كل خياراته، العمودي والتفعيلي والنثري، والى مدى تحقق الشعرية في القصيدة. هذه نظرتي العامة ولا يمكنني أن أكون تقليدياً أو رجعياً، الى حد أن أرفض أي اضافة أو أي اقتراح شعري جديد.
السيرة الذاتية
> يبدو أن سيرتك الشعرية لا تظهر إلا في شعرك وخصوصاً في ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً» وفي «جدارية»، وكأن لا سيرة لك مع أنك تحب قراءة السيَر! ما سر غياب سيرة محمود درويش وطغيان الشعر عليها؟
- أولاً ما يعني القارئ في سيرتي مكتوب في القصائد. وهناك قول مفاده ان كل قصيدة غنائية هي قصيدة أوتو – بيوغرافية أو سير – ذاتية، علماً بأن هناك نظرية تقول ان القارئ لا يحتاج الى معرفة سيرة الشاعر كي يفهم شعره ويتواصل معه. ثانياً يجب أن أشعر بأن في سيرتي الذاتية ما يفيد، أو ما يقدم فائدة. ولا أخفيك ان سيرتي الذاتية عادية جداً:?.
> على العكس، أجد انها سيرة مثيرة جداً وصاخبة... فماذا عن طفولتك؟ ماذا عن أمك وأبيك؟ ماذا عن المنفى؟...
- لم أفكر حتى الآن في كتابة سيرتي.
> هل تخاف هذه السيرة؟
- لا. لا. لكنني لا أحب الإفراط في الشكوى من الحياة الشخصية ومشكلاتها. ولا أريد بالتالي أن أتبجّح بنفسي، فالسيرة الذاتية تدفع أحياناً الى التبجح بالنفس، فيصوّر الكاتب نفسه وكأنه شخص مختلف. وقد كتبت ملامح من سيرتي في كتب نثرية مثل «يوميات الحزن العادي» أو «ذاكرة للنسيان» ولا سيما الطفولة والنكبة... لا أريد أن أكرر هذا الموضوع وربما عندما أشعر بأن من الضروري أن أكتب سيرتي فسأكتبها. ربما عندما انقطع عن كتابة الشعر.
> والدتك التي غنيتها في قصيدة «أمي» ماذا تمثل لك الآن؟
- انها أمي. وهي ما زالت على قيد الحياة. أما الوالد فتوفي منذ عشر سنوات وقد أصيب بضربة شمس في الحج.
> وكيف علاقتك الآن بوالدتك؟
- أنا ابنها المفضل، والسبب بسيط لأنني الابن الغائب. غبت عنها سنوات طويلة ولكن كنا نلتقي قبل «الاغلاقات» من حين الى آخر
تصر على ما تسميه المعنى في الشعر وهو يختلف عن الجدلية؟ هل اللحظة الشعرية لديك هي لحظة فكرية أم حدسية؟
- أولاً أود أن أقول ان مفهوم المعنى لا متناه. الكلمات بحد ذاتها لا تحمل معنى. علاقة الكلمات بعضها ببعض هي التي تمنح المعنى الشعري. وبما أن هذه العلاقات غير متناهية، فإن المعنى بالتالي غير متناهٍ. أما في شأن المعرفة الشعرية، فإنني أعتقد ان هناك ثلاثة أنواع من هذه المعرفة. هناك المعرفة الحدسية والمعرفة الرؤيوية والمعرفة التحليلية. الشعر ميال الى المعرفة الحدسية والمعرفة الرؤيوية، وقد يستفيد من المعرفة التحليلية، لكن أساس العملية الشعرية أو المنطقة التي يعمل الشعر فيها هي المعرفة الحدسية والرؤيوية. لكن هاتين المعرفتين لا تتحرران كلياً من المعرفة التحليلية. القصيدة تبدأ وفق طرق مختلفة ترتبط بالشعراء أنفسهم. تبدأ القصيدة عندي من الحدس، الحدس يأخذ شكل الصورة أي يصير الغامض والحلمي مجموعة صور. لكن هذا حتى الآن لا يفتتح مجرى القصيدة، يجب ان تتحول الصور الى ايقاعات. وعندما تحمل الصور ايقاعاتها أحس ان القصيدة بدأت تحفر مجرى لها داخل أجناس أدبية غير محددة. هنا تكمن صعوبة الكتابة الشعرية. القصيدة تحفر مجراها في كتابات لا تنتهي. وصعوبة تحقق القصيدة هي كيف تكشف عن نفسها وتنجز هويتها الشعرية داخل كل هذه الأجناس والنصوص. إذاً، الايقاع هو الذي يقودني الى الكتابة. وإذا لم يكن هناك من ايقاع، ومهما كانت عندي أفكار أو حدوس وصور، فهي ما لم تتحول ذبذبات موسيقية لا أستطيع أن أكتب. إنني أبدأ من اللحظة الموسيقية إذاً. ولكن في كل كتابة هناك فكر ما. فالشاعر ليس آتياً من اللغة فقط، بل من التاريخ والمعرفة والواقع. والذات الكاتبة لدى الشاعر ليست ذاتاً واحدة، انها مجموعة ذوات. إذاً هناك فكر ما يقود عمل القصيدة. أحياناً تتمرد الكتابة على الفكرة التي تقودها وتصبح الكتابة هي التي تقود الفكرة. وهنا يجوز لنا أن نقول ان الغد يأتي الى الماضي، وليس العكس. كل تخطيط لقصيدة هو عمل فكري واعٍ، وإذا ظهرت ملامحه تتحول القصيدة مجموعة مقولات وتتحول أيضاً فلسفة وتصبح العلاقة بين الفلسفة والشعر علاقة إطراد متبادل. على الفكر والفلسفة والمعارف كلها أن تعبّر عن نفسها في الشعر عبر الحواس، عليها ان تنصهر في الحواس وإلا تحولت مقولات كما أشرت.
> ولكن من الملاحظ ان معظم قصائدك، ولا سيما القصائد ذات النفس الملحمي، تحمل بنية قائمة على الايقاع وعلى اللوازم الايقاعية والغنائية. كيف تتم مرحلة بناء القصيدة لديك؟
- تكلّمنا قبل قليل عن اللحظة التي تدفع الشاعر الى كتابة القصيدة. إن مفتاحي كما قلت هو الايقاع. هذا بالنسبة الى الحافز الشعري. ولكن لدي إصرار على أن أبني القصيدة بناء هندسياً، وهذا ينطبق على القصائد الطويلة والقصيرة في آن واحد. وأعتقد ان قصيدة بلا بنية قد تهددها النزعة الهلامية. أحب أن يكون للقصيدة قوام. وهذا ليس قانوناً أحذوه بل هو خياري الشعري. لماذا أتحدث عن القوام؟ لأعرف العلاقة بين السطوح والأعماق، العلاقة بين الايقاع والصورة والمجاز والاستعارة. يجب أن تكون هناك علاقات دقيقة جداً بين كمية الملح وكمية الورد والدم والطين... يجب أن يكون هناك تصور لهندسة معمارية تقوم القصيدة على أساسها. قد تقود القصيدة الى مبنى آخر، حينذاك على المهندس أن يغيّر خرائطه. ولكن في المحصّلة لا أنشر قصيدة إلا إذا كان لها شكل أو بنية أو ما سمّيته قواماً.
> يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري ان الالهام يأتي الشاعر بأول بيت ثم عليه أن يواصل كتابة القصيدة. أنت تكتب القصيدة في مراحل عدة ثم تصوغها مرة تلو مرة، كيف تولد القصيدة لديك وكيف تنتهي؟
- تولد عبر الايقاع. أكتب سطراً أولاً ثم تتدفق القصيدة. هكذا أكتبها ولكن عندما أجري عليها تعديلات أو تجري هي تعديلات على نفسها، تصبح قصيدة أخرى. كثيرون من أصدقائي النقاد يحاولون الحصول على مسوّداتي الشعرية. وأقول لهم انني أتلفها فوراً لأن هناك فضائح وأسراراً، فما من علاقة بتاتاً بين النص الأول والنص الأخير في أحيان. ولعل تغيير سطر شعري قد يغير كل بناء القصيدة فيخضع بناؤها لمحاولة ترميم وبناء جديدين. إنني معجب جداً ببول فاليري ناقداً وقارئاً وكاتباً ذا إرهاف عالٍ وذكاء ولا أستطيع أن أقول انني معجب به كشاعر. تماماً كما انني معجب بأوكتافيو باث كناقد ومنظر للشعر أكثر مما أنا معجب به كشاعر.
> وماذا عن الإلهام إذاً؟
- أعتقد ان هناك إلهاماً ما! ولكن ما هو هذا الإلهام؟ مرة حاولت أن أعرّف به فقلت انه عثور اللاوعي على كلامه. ولكن هذا تعريف غير دقيق وغير ملموس. الإلهام هو أحياناً توافق عناصر خارجية مع عناصر داخلية، انفتاح الذهن على الصفاء وعلى طريقة يحوّل بها المرئي الى لا مرئي واللامرئي الى مرئي من خلال عملية كيميائية لا يمكن تحديد عناصرها. أعتقد ان هناك سراً ما للحافز الشعري. لماذا ينهض الشاعر ويكتب؟ لماذا يأتي بالورق الأبيض ويعذب نفسه ولا يعرف الى أين هو ذاهب؟ خطورة العمل الشعري تكمن في أن لا ضمانات أكيدة للنجاح. الكتابة مغامرة دائمة وخطرة ولا تأمين لها، بل ليس هناك «شركة» تأمين توافق على المغامرة الشعرية بتاتاً و«حوادث المرور» في الشعر كثيرة جداً (يضحك). أحياناً تشعر بأن لديك رغبة طافحة في الكتابة. تجلس الى الطاولة فلا تكتب شيئاً. أحياناً تذهب متكاسلاً الى الطاولة فتفاجأ بأن الإلهام موجود فيك فتنكب على الكتابة. بعض الكتاب كانوا يترددون حيال الإلهام، إن كان موجوداً أم لا. ولكن إذا كان هناك إلهام فعلينا أن نعرف كيف ننتظره فهو لا يأتي وحده. علينا أن نتعاون معه مثلما نتعاون مع الغامض والمجهول ليتضح شيء ما.
> حتى في القصائد التي تنطلق من موضوع معين أو واقعة معينة؟ مثلاً قصيدتك في ذكرى السياب أو قصيدتك عن محمد الدرّة أو عن ادوارد سعيد! كان هناك موضوع هو حافزك على الكتابة؟ هل هي الطريقة نفسها في الكتابة؟ أي ان الموضوع سابق للقصيدة؟
- هناك شعر يخلق موضوعه. ولكن عندما تكتب تذهب وفي ذهنك شيء غير محدد تماماً ولكنه مسمّى. هناك اسم لما تريد ان تكتبه، فأنت ستكتب شعراً في النهاية. وما تكتبه من مواقف وأفكار لا يعرّف بموضوعك بل بطريقة تعبيرك عن هذا الموضوع. هناك قصائد لا موضوع لها، أو ان موضوعها قائم في ذاتها وهي حافلة بالتوتر اللغوي، باللعب اللغوي أو بتمرّد اللغة عليك، أو محاولة سيطرتك على اللغة. المشكلة أن الشاعر يظن انه يقود اللغة. ليس هذا صحيحاً. اللغة أشدّ سيطرة على الشاعر لأن لها ذاكرتها ومنظومتها ونسقها وتاريخها وتراثها. ما يقدر أن يفعله الشاعر هو أن يعيد الحياة الى لغة أصبحت مألوفة وعادية. وكما يقول هيدغر الشاعر هو وسيلة اللغة وليست اللغة هي وسيلة الشاعر.
> هل تعاني من مأزق الورقة البيضاء، هذا المأزق الذي يتحدث عنه كثيرون من الشعراء؟
- عندما تكتب تذهب الى مصيرك وحدك، من دون معاونة أحد. وإذا وجدت من يعاونك فهو يلغيك من شدة حضوره. في كل شاعر آلاف من الشعراء. ليس هناك من شاعر يبدأ من الفراغ أو البياض، قد ينتهي الشاعر في البياض. فالبياض لون غير موجود في الكتابة. في كل شاعر تاريخ الشعر منذ الرعويات الشفهية الى الشعر المكتوب، من الشعر الكلاسيكي الى الشعر الحديث. ثم ان الشاعر يخاف من قراءاته، أن يقفز منها شيء الى نصه في طريقة لا واعية، شيء ملتبس يكون في ذهنه. وأعتقد ان ليس من نص خاص لشاعر معين. الشاعر يحمل خصائص أو ملامح جميع الشعراء الذين قرأهم ولكن من دون أن يخفي ملامحه، أي مثل الحفيد الذي يحمل ملامح جدّه من دون أن تختفي ملامحه الخاصة. السؤال الصعب المطروح على كل شاعر هو: في أي جهة من الورقة البيضاء تستطيع أن تضيف جديداً؟ هذه هي الصعوبة. ولذلك الشعر الحقيقي قليل ونادر.
> عندما أقرأ قصائدك لا أشعر بأن لديك أزمة في الكتابة أو في التعبير! فمعجمك الشعري واسع جداً مما يدل على انك تتخطى أزمة «الورقة البيضاء». شعرك سيّال ومتدفق! من أين يأتي هذا الاتساع الشعري أو الرحابة وهذا السطوع؟ هل من المراس الشعري أم من التجربة الداخلية؟
- أولاً أشكرك على هذا الرأي وهو رأي نقدي أعتز به كثيراً. لماذا؟ لأن أزمتي لا تظهر في قصيدتي، بل في ما قبل القصيدة. أزمتي هي مع ماضي القصيدة. في القصيدة يجب ألا تظهر معاناتك كشاعر، ولا عذابك الذي يسبقها. القارئ يرى المولود ولا يعرف ما هو المخاض. يرى الشيء في هيئته الناضجة. أما ما وراء ذلك فلا. ولو كان الشعر في هذه السهولة لما كان الورق الأبيض يتسع للقصائد. لا. على الشاعر أن يخفي معاناته وأن يبدو وكأن قصيدته كتبت نفسها. يجب ألا يظهر الجهد. أتذكّر ما يقول الشاعر الألماني ريلكه في هذا الصدد: إذا أردت أن تكتب سطراً شعرياً واحداً يجب أن تكون قد زرت مدناً كثيرة ورأيت أشياء كثيرة وقطفت زهوراً كثيرة. فالقصيدة هي خلاصة كل هذه المعاناة والتجربة
:D
ملاحظة : رح نكتفي بهالقدر من الأسئلة من جريدة الحياة
كانوا كتار بس تعرفنا على محمود درويش اكتر من خلالهم
:D
عن الأمنيات:fthink:
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
لا تقل لي:
ليتني بائع خبز في الجزائر
لأغني مع ثائر!
لا تقل لي:
ليتني راعي مواش في اليمن
لأغني لانتفاضات الزمن!
لا تقل لي:
ليتني عامل مقهى في هفانا
لأغني لانتصارات الحزانى!
لا تقل لي:
ليتني أعمل في أسوان حمالا صغير
لأغني للصخور
يا صديقي!
لن يصين النيل في الفولغا
ولا الكونغو، ولا الأردن، في نهر الفرات!
كل نهر، وله نبع.. ومجرى.. وحياة!
يا صديقي!.. أرضنا ليست بعاقر
كل أرض، و لها ميالدها
كل فجر، و له موعد
:D
في دمشق::hart::hart:
تسير السماء
على الطرقات القديمة
حافية حافية
فما حاجة الشعراء
الى الوحي
والوزن
والقافية؟
:flover:
بيروت :hart:شكل الظلّ
أجمل من قصيدتها و أسهل من كلام الناس
تغرينا بداية مفتوحة و بأبجديات جديدة :
بيروت خيمتنا الوحيدة
بيروت نجمتنا الوحيدة
:flover:
نكتبُ القدس :hart::
عاصمة الأمل الكاذب... الثائر الهارب... الكوكب
الغائب. اختلطتْ في أزقَّتها الكلماتُالغريبةُ،
وانفصلتْ عن شفاه المغنّين والباعةِالقُبَلُ
السابقةْ
:flover:
أتذكَّرُ السيَّابَ... إن الشعَر يُولدُ في العراق،:hart:
فكُنْ عراقياً لتصبح شاعراً يا صاحبي!
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
أنا عربي منذ أن هجرتنا نساؤنا وأصبحن عشيقات للأرض
وشق أطفالنا عصى الطاعة بحجر صغير...
ولكننا لم نصمت....
ويشهد لنا العالم بأننا دائماً نتكلم...
حتى علا الصدأ أسماعنا...
ولم نعد نسمع حتى بعضنا البعض...
وآه... كم أنا عربي حتى النخاع!
:flover:
لو نجح المؤلف في كتابة مقطع
في وصف زهر اللوز
لانحسر الضباب عن التلال
وقال شعب كامل ..
هذا هو ..
هذا كلام نشيدنا الوطني
:fheart:
وهلأ بنختم مع محمود درويش:D
بحب بهالشاعر الثورة يلي بكتاباته.. حبو للوطن
حتى بعدين لما صارت كتاباته أخف حدة حبيت السلام يلي فيها
بحب كيف حكى بعاطفة عن دمشق وبيروت والقدس والعراق
كيف كانت عاطفتو للوطن ككل.........
كيف صنف الفلسطيني كانسان قبل مايكون فلسطيني ودافع عن هالشغلة
بحب التواضع يلي بيحكي عن حالو فيه ..
باختصار بحب كل كلمة بيقولها
بحب أدبه لدرجة اني صرت حبو لشخصو:oops: :sosweet:
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
اهداء الى محمود درويش
تَكَبَّرْ…تَكَبَّر!
فمهما يكن من جفاك
ستبقى، بعيني ولحمي، ملاك
وتبقى، كما شاء لي حبنا أن أراك
نسيمك عنبر
وأرضك سكَّر
وإني أحبك… أكثر
يداك خمائلْ
ولكنني لا أغني
ككل البلابلْ
فإن السلاسلْ
تعلمني أن أقاتلْ
أقاتل… أقاتل
لأني أحبك أكثر!
:fheart:
رائــع :D
شكرا كتير عالمتابعة والتشجيع:D
ما بقدر أنكر القيمة الأدبية الكبيرة جدا ً ل محمود درويش .. بس ما فيني أهضم شخصيتو . بحس ما بيملك جنس التواضع اللي حكيتي عنوه ..
بحب التواضع يلي بيحكي عن حالو فيه ..
و نهاية ً عرضك للأسبوع كتير رائع , و هالسمايلات و الألوان و حركات الكهربا مخلايين اللي ما بحبو يصير يحبو ..
تشكراتي أوبس ..
ما بقدر أنكر القيمة الأدبية الكبيرة جدا ً ل محمود درويش .. بس ما فيني أهضم شخصيتو . بحس ما بيملك جنس التواضع اللي حكيتي عنوه ..
و نهاية ً عرضك للأسبوع كتير رائع , و هالسمايلات و الألوان و حركات الكهربا مخلايين اللي ما بحبو يصير يحبو ..
تشكراتي أوبس ..
شكرا كتير
بيهمني رأيك
بس انا برأيي انو بكل مقابلاتو هو دايما بيصر انو شخص عادي جدا ولمست هالتواضع انا من هالشي
ولو كان مغرور حقو:oops:
شكرا مرة تانية:D
عرض رائع أوبس... شي جميل جدا و مجهود واضح لك جزيل الشكر عليه
الحقيقة محمود درويش التواضع نسيانو بشي مطرح.. قابلتو من سنتين لما اجا يستلم جائزة هون, و عملت معو مقابلة صغيرة مع مجموعة صور و مقاطع فيديو من المقابلة و المحاضرة اللي عملها.. و حطيناه بموضوع هون و طار الموضوع مع التهكيرة أو قبل .. ما واضح عندي بس لسبب تقني طار الموضوع و ما قدرنا نسترجعو
كنت بفضّل ما بشوفو و ما اعرفو.. عن جد.. ما كتير مهتم بالشعر لكن محمود درويش رمز عدا عن كونو شاعر.. و ما بعرف... عنجهيتو رهيبة و ناشف جدا.. بتصور تعوّد الناس تقدسو أو تعوّد يكون مشهور
عرض رائع أوبس... شي جميل جدا و مجهود واضح لك جزيل الشكر عليه
الحقيقة محمود درويش التواضع نسيانو بشي مطرح.. قابلتو من سنتين لما اجا يستلم جائزة هون, و عملت معو مقابلة صغيرة مع مجموعة صور و مقاطع فيديو من المقابلة و المحاضرة اللي عملها.. و حطيناه بموضوع هون و طار الموضوع مع التهكيرة أو قبل .. ما واضح عندي بس لسبب تقني طار الموضوع و ما قدرنا نسترجعو
كنت بفضّل ما بشوفو و ما اعرفو.. عن جد.. ما كتير مهتم بالشعر لكن محمود درويش رمز عدا عن كونو شاعر.. و ما بعرف... عنجهيتو رهيبة و ناشف جدا.. بتصور تعوّد الناس تقدسو أو تعوّد يكون مشهور
كتير شكرا عرأيك:D
بس انو زعلت :fsad:كنت حابة شوفو كتير وهي الصورة يلي عم تقولها عنو ماكنت متصورة لهالدرجة
انو لان في غرور مقبول فينا نتحملو لشخص بيستاهل
بس هلأ رح ابقى عالصورة يلي راسمتها ببالي.. لأن مابدي غير رأيي فيه
بس يمكن موقصة انو تعود الناس تقدسو يمكن المشاغل او الهموم او اي شي بيكون معكر الواحد مننا:?
ويمكن غرور بجد.. مابعرف:fsad:
اذا فيك لاقيلنا المقابلة يلي حكيت عنها
:D
achelious
20/06/2008, 13:05
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
الكونت ليف نيكولايافيتش تولستوي
(9سبتمبر 1828 -20 نوفمبر 1910)
حياته..
حين بلغ الثمانين من عمره، شيخاً وقوراً، تضرب شهرته آفاق الدنيا كأعظم روائي أنجبته الأرض الروسية الخصبة بالعبقريات، الولاّدة للكفاءات في كل مناحي النشاط البشري. كان رغم سنه المتقدّمة ممثلاً لكل طموحات الشباب، بل والمراهقين، فعندما سأله أحد تلاميذه من الشباب عن سرّ تعايشه مع قضاياهم وهو في الثمانين، قال له: «ليس في الأمر سرّ يا بني. فمنذ صباي الباكر أكره العنف وأدعو إلى السلام. العنف يسرع بكل شيء إلى التعفن والفساد! مع العنف يصبح الشباب في حالة من الشيخوخة المروعة! ولكن مع السلام تزدهر ورود الخريف في قلوب كبار السن بنفوس نضرة! وتغدو كالربيع في القلوب! ولذلك أدعوكم أيها الشباب إلى نبذ العنف وكراهيته! حاربوا دعاة الحرب حتى يغدو العالم كله شباباً ولو بلغ أهله الثمانين مثلي هكذا!». وبمناسبة بلوغ تولستوي الثمانين جاءته إلى قريته بعثة سينمائية لتنتج فيلماً قصيراً عن حياته. فقال لابنته: «أحسنوا ضيافتهم في (إيزيانا/ بوليانا)- وهذا هو اسم مزرعته وفيها قصره- ثم أوصاها: «بحق السماء اذكروا لهم بوضوح أنني لا أريد أن أدخل في حوار حول حياتي الماضية وتفاصيل ظروف كتابة رواياتي!». فتقول له ابنته: لماذا يا أبتِ؟!. إن روسيا كلها تنتظر كلماتك في أكثر من موضوع يشغل بال الناس! عن رأيك في الدين؟! في التقاليد القديمة؟! في حال الفلاحين والحرفيين والعمال؟! في مشروعك الذي وضعت بعض بنوده موضع التنفيذ! وتنازلت لفلاحي أرضك عن حقوقك؟! فيجيبها بمرح: إنك تماماً كأمك العزيزة! تسمّين تنازلي عن أرضي لمن يزرعونها، تنازلاً عن حقوقي! ليست لي على الأرض حقوق يا ساشا! لا على الأرض! ولا على الفلاحين الذين يزرعونها! وليس هذا اعتناقاً لآراء من يسمونهم سراً البلشفيك! كلا. فهؤلاء يؤمنون بالعنف، وأنا أكره العنف! إنهم يشكّكون في وجود الله! وأنا أومن به إيماناً لا يتزعزع..! فتفاجئه ابنته بالقول: إن أسقف منطقة (تولا) جاء مع بعثة السينما ليكذّب من يقولون إنك تحارب الأرثوذكسية! فيعلّق ساخراً: «هذا الأسقف، لديه رغبة كريمة في حماية الكنيسة الأرثوذكسية، ولكنه يحرّف عن غير قصد بعض كلماتي وأقوالي!». فتقول له ساشا بحماسة: إذاً فقُلها لرجال السينما! ستكون كلماتك هي التصحيح النهائي لأفكارك الدينية! فيضع يده على كتف ابنته ويسيران معاً لبضع خطوات في حديقة القصر، مواصلاً معها الحوار: «لماذا تسمينها أفكاراً يا ابنتي؟! إنها عقيدة ثابتة، هداني الله إليها منذ مرضت وأنا في الخامسة والأربعين، فصرت قريباً جداً من خالقي، إن الله الذي أحبه، وأعبده، وأتقيه يا ساشا هو ليس الله الذي تصوّره الأفكار الجامدة، والثوابت القديمة! وحين أسبغ الله عليّ ثوب الصحة، أبيت أن أحيد عن طريقه بالاستماع إلى تعاليم الأساقفة وما يصوّرونه عن الله في مخيلتهم، والذي جعلوا منه محقّقاً لمصالحهم! لقد عرفت ربي، ولا أريد أن أناقش أحداً في كيف عرفته؟! أعتقد أنه سبحانه لا يريد أن يناقش الناس وجوده بالأساطير، والخرافات.. إنه هو الدليل على وجوده..». ورفض أن يقابل رجال بعثة السينما، لكنهم صوّروه خلسةً وهو في الحديقة، ومن المحزن أن يضيع ذلك الفيلم مع ما ضاع حين اقتحم البلشفيك في ثورتهم دار المحفوظات القيصرية، إلا أن ابنته تاتيانا في كتابها الرائع عن أبيها، زيّنته ببعض مناظر ذلك الفيلم التي صُوِّرَت خلسةً أثناء حديثه مع أختها ساشا خلال زيارة البعثة. ومن أجمل فصول كتاب تاتيانا عن أبيها، هو تصوير ذلك الحب العنيف والصادق الذي دخل حياته واستقر في قلبه ووجدانه لوالدتها صوفيا، وهو لا يزال من أروع وأمتع قصص الحب الصادق، رغم فراره منها وهو في الثانية والثمانين من عمره! تُرى لماذا فعل تولستوي ما فعل؟! لماذا خرج من قصره الأنيق في مزرعة إيزيانا/ بوليانا في صقيع الشتاء.. هارباً من ذلك الحب؟!
achelious
20/06/2008, 13:16
تجسس الزوجة:
ليلة الثامن والعشرين من أكتوبر عام (1910)، وفي الساعة الثالثة قبل بزوغ الفجر، استيقظ تولستوي من نومه، على حركة غامضة في غرفة مكتبه الملحقة بالمخدع. ومن وراء بابها، كانت تأتيه أصوات أشبه بتقليب أوراق، وفتح أدراج وإغلاقها بحرص! كتب في صباح ذلك اليوم في دفتر مذكّراته: «كانت تفتش في أوراقي! لماذا يا صوفيا؟! لماذا؟ أيلزم أن تعرفي كل خلجات قلبي؟! وكل خطرات فكري؟! إننا كثيراً ما كنا نتناقش، نختلف في أشياء، ونتفق في أشياء أخرى، ولكن حبك في قلبي لا يزال مزدهراً، كما رأيتك لأول مرة، وأنت في السابعة عشرة! أعرف أنك تحبينني، وأنني أغلى وأثمن شيء في حياتك! لماذا إذن تصرين على التجسس، وتقرئين كل ورقة في مكتبي؟! ويضيف: أغرب ما في حبيبتي صوفيا أنها بعد أن انتهت من تفتيش أدراج مكتبي، كانت تتسلّل على أطراف أصابعها، خشية أن توقظني! ثم تفتح برفقٍ الباب المؤدي إلى مخدعي، وأنا أصطنع النوم، لتقول لي بهمسٍ: «هل أنت مستيقظ يا ليو؟! أتريد شيئاً يا عزيزي؟!» ولم أرد عليها حتى لا أحرجها بعلمي بفعلتها. وبعد خروجها اتجهتُ إلى مكتبي لأفحص دفتر مذكراتي اليومية الذي وضعته في درج خاص لا تملك صوفيا مفاتيحه، رغم أنها لا تنتقل إلى أي مكان إلا وفي حزام وسطها سلسلة مفاتيح كل الدار، بل حتى مفاتيح المخازن، أبت أن تسلمها لرئيس الخدم، وحين لُمتها على ذلك•• قالت: «كانوا يسرقونك.. والباب المفتوح يغري بسرقة ما فيه! ومنذ أربعين سنة والمفاتيح لا تفارق حزامها أبداً..». ثم أخذ تولستوي يقلّب كراسة يومياته التي لم يطلع عليها أحد إلا بعد وفاته، وتوقّف عند تاريخ الثامن من يناير (1869) يوم أخبره الناشر أن رائعته (الحرب والسلام) قد تُرجمت إلى الإيطالية، وأنه يستعد للطبعة رقم (35) باللغة الروسية، ويومها كتب في دفتر تلك اليوميات: «شيئان هما إكسير حياتي! حبي التعبير عن أفكاري بالكتابة الروائية، وحبي زوجتي الحبيبة صوفيا أندريفنا! ماذا يريد المرء من حياته أكثر من ذلك؟! لقد سعدت بحبي لصوفيا! وسعدت بأبنائي، وسعدت بهذه المزرعة الكبيرة، والشهرة، والثراء، والصحة، والسلامة البدنية والعقلية، ولكنني أحس بأن حياتي قد توقّفت فجأة! لم تعد لدي رغبة في شيء. والحقيقة أن الرجل العاقل، يجب ألا يرغب في شيء! إن الحياة نفسها وهم! وقد بلغت الحافة التي لا أجد بعدها إلا الموت! أجل. هذا صحيح. الحياة وهمٌ كبير! وهأنذا المحسود على الثراء، وعلى السعادة والشهرة. وعلى حبي لزوجتي! بتُّ أشعر بأنه لم يعد من حقي أن أعيش أكثر مما عشت!». منذ ذلك اليوم، يوم الثامن من يناير عام (1869) لم يفارقه هذا الهاجس قط! هاجس أنه عاش أكثر مما يجب أن يعيش! وها هو في هذه الليلة، وبعد 41 عاماً مضت على ذلك الهاجس، يكتب في دفتر مذكراته: «النهاية باتت قريبة جداً! أشعر بأنني ذاهب للقاء ربي بعد أيام قليلة! ربما بعد ساعات! لقد عشت طويلاً جداً! أطول مما يجب! اثنان وثمانون عاماً، ومن المحزن أن أضطر إلى الفرار من حبي الوحيد! من صوفيا أندريفنا. أمّ أولادي وحبيبة قلبي. لم أعد أحتمل محاولاتها الدائبة للتجسس على كل خطرات فكري، وبات إحساسي بضرورة الفرار إلى المجهول، يتزايد إلى الحد الذي يدفعني إلى التنفيذ السريع لهذا القرار. في الغد سوف أرحل! أجل يجب أن أرحل. أعرف أن صوفيا ستتألم كثيراً! ولكنني أنا أتألم كذلك، وربما أكثر مما تتألم هي! ويجب ألا يعلم بمشروعي هذا إلا ابنتي ساشا، إنها لا تعارضني، لأنها الوحيدة التي تدرك ما وصل إليه حنقي من هذا القفص الذهبي الذي سجنتني فيه أمها المحبوبة إلى قلبي!». وعاد إلى فراشه محاولاً النوم، وفي الصباح كان يشارك صوفيا على مائدة الإفطار الفاكهة وشراباً من عصير بعض الأعشاب المهدئة لتقلّصات المعدة، فصاحت به بلهجة الآمرة الناهية: «إنك لم تشرب كل ما في القدح يا ليو؟! فأنت تشكو من المعدة منذ أيام، فلماذا لا تطيع أطباءك وتستمع إلى كلامي؟!». يتوقّف عن الطعام والشراب ناظراً إليها: «ياصوفي! يا عزيزتي! يا حبيبتي! أنا أدرى بحالتي من الأطباء، إنهم يقولون إن الداء في معدتي! وهذا كذب! الداءُ في هذا الضعف الذي أحالني حطاماً مهدماً، حتى بتُّ لا أقوى على إصلاح بابٍ قديم! لأن العلم الطبي في روسيا مازال متخلفاً، وكم دعوتُ إلى الانفتاح السريع على العلوم الطبية في كلٍ من ألمانيا وإنجلترا وفرنسا!». فتجيبه صوفيا وكأنها لم تسمع ملاحظته: «ما يستطيعه أي طبيب أجنبي يستطيعه الطبيب الروسي!». فيبتسم تولستوي ويقول لها: «كيف تكوني يا صوفيا بعد هذه السنوات بهذا المستوى من التفكير، مع أنك اعتنقت بعض آرائي التي يسميها من يكتبون عني آراء وطنية؟!». تردّ عليه: «أعتنق بعض آرائك، وليست كلها! وأنت تعلم يا ليو، أنني من أشد المؤمنين بتعاليمك! إلا ما يتعلّق بالتنازل عن أملاكنا للفلاحين!». فاستثارت ملاحظتها هذه حفيظته، طالباً منها عدم مناقشته في هذا الأمر، فترفض الصمت وتستمر قائلةً: «يجب أن نناقشه يا ليو تولستوي! لماذا تريد أن تدع أولادك للفقر؟!». فيخفف من لهجته وينظر إليها وعلى وجهه ابتسامة طافحة بالحب: «يا صوفي! يا حبيبتي! لقد ناقشنا هذا الأمر مع أولادنا، وما اتخذته من قرار لا رجوع فيه! وقال مواصلاً كأنه يخاطب نفسه: ولست أدري ماذا ستفعلون بعد أن أموت؟! فارتفع صوت صوفيا محتجةً: «لماذا تتكلّم عن الموت هذه الأيام يا ليو؟! أنت في صحة جيدة! ليس بك إلا هذه الاضطرابات المعدية!». فيقول لها: «كلا ياصوفيا! العلّة ليست في المعدة. إنها هنا! في القلب. لم يعد هذا العضو العجيب يدبّر أمور جسدي ببراعته القديمة!». فتواصل صياحها: «ما هذا الهراء يا ليو؟! قلبك سليم مائة في المائة! ولا تكثر الكلام عن الموت!».
رسالة الوداع:
وقضى بقية يومه على كرسيه في الحديقة، وكان يدّعي أنه بصدد كتابة روايةٍ جديدة، ولكنه في واقع الأمر كان يكتب مسودّة الرسالة التي سيتركها لزوجته الحبيبة قبل أن ينفذ قراره بمغادرة إيزيانا/ بوليانا. وحين عاد إلى مكتبه في المساء، جلس يخط الرسالة التي زعم أنها رواية جديدة. وكتب: «حبيبتي صوفيا. أعلم أنك ستتألمين كثيراً لرحيلي، وأنه ليحزنني ذلك أشد الحزن، ولكنني آمل من كل قلبي أن تدركي الأسباب التي تدفعني إلى ذلك الرحيل، ولم تكن أمامي وسيلة سواه لتلافي مأساةٍ قد تكون مفجعة! لقد غدا وضعي في هذا البيت غير محتمل يا صوفي! لم أعد قادراً على ممارسة الحياة اليومية في هذه الرفاهية التي تحيط بي، وبات الثراء يخنقني! وقد طال صبري على هذا! حتى انقطع رجائي في مزيد من الصبر. يقيني شر اليأس من عالمٍ تشهيّته كثيراً، كما يتشهاه كل عجوزٍ بلغ السن التي بلغت! وما أنشده هو عالمٌ من السكون والوحدة، لا يفسده ضجيج المال، وأنانية الثراء، ووحشية الرغبة في التملّك! أريد أن أقضي الأيام المتبقية لي من العمر في سلام»• كان يرمي من وراء رسالته أن يقول لزوجته صوفي: كيف بلغ من ولعها بإدارة شؤون المزرعة، لدرجة أنها صارت تقضي يومها كله وجزءاً من ليلها، في تفقد شؤونها، ومناقشة الفلاحين، ومحاسبة تجار الغلال، والإشراف على مخازن المحصولات، ومراقبة الخدم، حتى صار منظرها وهي تسير متنقّلة بين أرجاء المزرعة والقصر، وسلسلة مفاتيح كل الأبواب معلّقة وسط حزامها، كأنها أشبه بمنظر سجانات العصور الوسطى! ولكن رغم كل هذا، فقد كان يحبها حباً صادقاً وحقيقياً، ومما كتبه أيضاً: «أرجوك يا صوفيا، لا تحاولي البحث عن مكاني الذي سأذهب إليه، من أجل إعادتي إلى إيزيانا/ بوليانا، فإن هذا لن يفيد أحداً شيئاً، بل سيزيد تعاستنا جميعاً، كما أنه لن يغيّر من عزمي على الرحيل، وإني لأشكرك كل الشكر على الثمانية والأربعين عاماً من الحياة الأمينة الكريمة التي أسعدِتني بها! وأتوسل إليك أن تغفري لي كل ما ارتكبت من أخطاء في حقك! مثلما أغفر لك عن طيب خاطر غضبك ومعارضاتك الشديدة المتعلّقة بقراري في التنازل عن أملاكي الشخصية للفلاحين! وأنصحك يا حبيبتي بإخلاص بأن تحاولي التعايش في سماحة مع الموقف الجديد الذي سينشأ برحيلي! وألا تحملي لي بسببه في قلبك أية ضغينة، أو كراهية، وإذا أردت أن تعرفي شيئاً عن أنبائي بعد أن أستقرّ في المكان الذي سأرحل إليه، والذي لا أعرفه إلا بعد أن أصل إليه، فستجدين بغيتك عند ابنتنا العزيزة ساشا، فهي وحدها التي سأخصها بذكر مكان حياتي الجديدة، وقد وعدتني بألا تذكر لك أو لسواك مكاني». ووضع الرسالة مطويةً فوق مكتبه ليعطيها لساشا قبل رحيله، ثم ذهب إلى مخدعه، ونام نوماً متقطعاً، إلى أن حانت ساعة الرحيل لتبدأ محنة الكاتب العظيم ليو تولستوي! قال لطبيبه: «دكتور ماكوفتسكي لن نحمل معنا أشياء لا ضرورة لها». لكن طبيبه وصديقه يقول له: هل فكرت يا ليو جيداً في العواقب المترتبة على هذه الرحلة؟! أعني صحتك! أنت لم تعد ذلك الرجل الذي كان يقضي الساعات في قطع الأخشاب في الغابة؟! وإنك معرّض لنوبات قلبية قد تصل إلى حد الخطورة؟! بعد أن استمع تولستوي لصديقه وطبيبه قال وكأنه لم يسمع جديداً: حسناً، لنستعد في غضون نصف ساعة! ساشا أعدت كل شيء، وسوف أرتدي ثيابي ونرحل• في هدوء. اقترب من غرفة ابنته، التي كانت في انتظاره وكان واضحاً، أنها لم تنم ليلتها تلك حيث بدت إمارات الإرهاق على ملامحها• وما أن اقترب منها حتى بادرته بالقول: «أبتي.. ألا زلت مصراً على ضرورة ما أنت مقدمٌ عليه؟!». ساشا. لن نناقش هذا من جديد، يجب أن نسرع قبل أن تشعر أمك بما يحدث، تعالي ساعديني في حزم الأمتعة.
يتبع..:D
butterfly
21/06/2008, 09:08
«حبيبتي صوفيا. أعلم أنك ستتألمين كثيراً لرحيلي، وأنه ليحزنني ذلك أشد الحزن، ولكنني آمل من كل قلبي أن تدركي الأسباب التي تدفعني إلى ذلك الرحيل، ولم تكن أمامي وسيلة سواه لتلافي مأساةٍ قد تكون مفجعة! لقد غدا وضعي في هذا البيت غير محتمل يا صوفي! لم أعد قادراً على ممارسة الحياة اليومية في هذه الرفاهية التي تحيط بي، وبات الثراء يخنقني! وقد طال صبري على هذا! حتى انقطع رجائي في مزيد من الصبر. يقيني شر اليأس من عالمٍ تشهيّته كثيراً، كما يتشهاه كل عجوزٍ بلغ السن التي بلغت! وما أنشده هو عالمٌ من السكون والوحدة، لا يفسده ضجيج المال، وأنانية الثراء، ووحشية الرغبة في التملّك! أريد أن أقضي الأيام المتبقية لي من العمر في سلام»• «أرجوك يا صوفيا، لا تحاولي البحث عن مكاني الذي سأذهب إليه، من أجل إعادتي إلى إيزيانا/ بوليانا، فإن هذا لن يفيد أحداً شيئاً، بل سيزيد تعاستنا جميعاً، كما أنه لن يغيّر من عزمي على الرحيل، وإني لأشكرك كل الشكر على الثمانية والأربعين عاماً من الحياة الأمينة الكريمة التي أسعدِتني بها! وأتوسل إليك أن تغفري لي كل ما ارتكبت من أخطاء في حقك! مثلما أغفر لك عن طيب خاطر غضبك ومعارضاتك الشديدة المتعلّقة بقراري في التنازل عن أملاكي الشخصية للفلاحين! وأنصحك يا حبيبتي بإخلاص بأن تحاولي التعايش في سماحة مع الموقف الجديد الذي سينشأ برحيلي! وألا تحملي لي بسببه في قلبك أية ضغينة، أو كراهية، وإذا أردت أن تعرفي شيئاً عن أنبائي بعد أن أستقرّ في المكان الذي سأرحل إليه، والذي لا أعرفه إلا بعد أن أصل إليه، فستجدين بغيتك عند ابنتنا العزيزة ساشا، فهي وحدها التي سأخصها بذكر مكان حياتي الجديدة، وقد وعدتني بألا تذكر لك أو لسواك مكاني»
يتبع..:D
متابعة بشغف ..
شكرا ً ...
مؤلمة رسالة الوداع ..
:mimo:
achelious
21/06/2008, 10:35
وتمّ كل شيء، لرحيل الكاتب الكبير.. ابن الثانية والثمانين، الفنان، الإنسان، الذي يفرّ وهو في أيامه الأخيرة! يفرُّ من الثراء، والرفاهية، والرقابة المفرطة من الزوجة المحبة.. يفرّ إلى المجهول..! إنها أعجب مغامرةٍ (طائشة) في تاريخ الأدب العالمي. قبل أن تتحرّك العربة قال تولستوي بانفعالٍ شديد لابنته: «ساشا، لا تنسي، احتفظي بكل أوراقي، مسودات رواياتي، يومياتي، أوراق روايتي التي بدأتها منذ أسبوعين ولم أتمّ منها إلا الفصل الأول، إذ سأكتبها فيما بعد». فتجيبه باكيةً: «اطمئن يا أبت..أرجوك.. لا تترك نفسك لهذا الانفعال المثير.. إنه ضار بصحتك..». فيحتضنها معانقاً إياها ويقول: «اطمئني يا ساشا، سنلتقي في أقـرب ممـا تتصورين!». انطلقت العربة.. نحو المجهول.. كانت ساشا تظن أن أباها يعرف وجهته، ولكن الكاتب الكبير شُغل عن هذا برغبته الجامحة في الانطلاق بعيداً قدر الاستطاعة عن إيزيانا/ بوليانا.. وعن صوفيا. وبزغ أول نور للفجر وهم يسيرون في الطريق الوحيد الخارج من المزرعة إلى الجنوب، وبينما كانت العربة تسير بهم، توجّه الدكتور بسؤال تولستوي:
- إلى أين نتجه؟!
- إلى أبعد مكان عن إيزيانا/ بوليانا! وعن صوفيا.
- هل تعني أنك لم تحدّد وجهتك؟! أهذا معقول؟! أي خطة هرب هذه يا ليو؟
- لنتجه إلى محطة قطار شيتشكينو.
بعد أن فكّر في عدم الاتجاه ناحية الجنوب، ابتعاداً عن منطقة (شاماردينو) حيث تقيم أخته ماريا، فيسهل على صوفي اللحاق به هناك، لكن مدير المحطة أخبره بأن عليه أن ينتظر لأكثر من ساعتين إذا كان سيأخذ القطار المتجه إلى الشمال، فانتابه الرعب وقال: ساعتين؟! هذا يزيد فرص صوفي في العثور علينا! وعندما اقترح عليه الدكتور أن يقضي الوقت في مكتب مدير المحطة.. قال تولستوي: كلا.. كلا.. سيعرف من أنا على الفور، وقد يداخله الشك، فيتصل بصوفيا، فنفاجأ بها أمامنا قبل وصول القطار، يستحسن أن نبقى هنا.! لكن الدكتورينصحه بعدم الوقوف في الريح المثلجة، لأن صحته لن تحتمل هذا الجو القارس. فيجيبه: سأحتمل كل شيء.. كل شيء.
وفي القطار جلس الكاتب الكبير مع صديقه الدكتور ماكوفيتسكي في مقعدين في الدرجة الثانية، ورغم محاولته إخفاء وجهه بالياقة العريضة لمعطف الفراء السميك، فقد أخذ بعض الركاب يتفرسون فيه كأنما يريدون أن يعرفوا حقيقة هذا الشيخ الهرم الذي يشبه كاتبهم الكبير المحبوب ليو تولستوي. ودرءاً لمخاوفه من اكتشاف شخصيته يطلب من صديقه الدكتور أن ينتقل إلى عربات الدرجة الثالثة، لكن ماكوفتسكي يبدي عدم موافقته على الفكرة، فالجو قارس، ونوافذ الزجاج في الدرجة الثالثة محطّمة، وإنه يخشى عليه من تتسلل الريح إلى جسده عبر النوافذ المفتوحة!
إلا أن تولستوي العنيد يصرّ على رأيه.. فذلك أفضل من أن يعرفه أحد من ركاب الدرجة الثانية ويفتضح أمره.. فتعرف صوفيا وجهته..! وما هو إلا وقت قليل، حتى وقع ما كان يخشاه! فكل ركاب عربة الدرجة الثالثة تعرفوا على كاتب روسيا الأشهر، الرجل الذي عبّر عن أحلام الفقراء وآمالهم في معظم أعماله الروائية، فمَن لم يقرأها منهم سمعوا بها أو استمعوا إلى فصول منها من الرواة والأدباء الشعبيين في المقاهي أو في عربات القطارات، التي تسري في كل أنحاء روسيا الشاسعة كما تسري الشرايين والأوردة في الجسم البشري، فالقطار كان بطلاً في الكثير من الأعمال الأدبية الروسية. تحلّقوا حول كاتبهم المحبوب، وهتفوا له، وأخذوا يتسابقون في إهدائه ما حملوه من أطعمة، وحاول الدكتور ماكوفيتسكي إقناعهم بإعطاء الأديب فرصةً للراحة، لكنهم لم يستجيبوا لرجائه، فابتعدوا مسافة نصف متر عن مقعد محبوبهم الكبير، ثم شرعوا يمطرونه بأسئلتهم عن أفكاره، وآرائه، وأخذت الأسئلة تتلاحق.
كيف يمكن تطبيق مذهب اللاعنف وحكومة القيصر تصرّ على الحرب في الشرق الأقصى؟!
أهناك أمل أن يساهم كبار الملاك في إنشاء بعض المدارس الابتدائية لأولادنا في مزارعهم وقراهم؟! لقد قبضوا على زوجي، وألقوا به في السجن بعد أن جلدوه لأنه لم يستطع تقديم إيصال دفع ضريبة العام الماضي؟!
أتوسل إليك أن تكتب طالباً الإفراج عنه.. أيها الأب الكبير الرحيم إننا نحبك، ونقدّرك، ولكننا على ثقة بأنه لا فائدة من كل ما تقول وتكتب، مع وجود النظام القيصري القهري، ولأننا نحبك ولا نريد أن نفسد حياتك بمشكلاتنا، لا نرى لك إلا أن تعتزل هذه الحياة الفاسدة في أحد الأديرة.. أليس هذا هو السلام الذي تنشده؟! كانت ابتسامته الوديعة هي الإجابة عن كل تساؤلاتهم، إلا أن ملامحه بدت مرهقة! ست ساعات من الصخب وهو يستمع إلى هذه الآراء الثائرة المتناقضة، والحوارات الجانبية الغاضبة والساخطة أحياناً، حتى أوشك أن يغمى عليه من رائحة الدخان، فهمس الدكتور ماكوفيتسكي في أذنه: في المحطة المقبلة سننتقل إلى الدرجة الثانية مرة أخرى..! فالتفت إليه باسماً: المهم أن نبتعد عن صوفيا! أجل هذا هو المهم! ليس هناك يا سيرجي ماكوفيتسكي ما هو أغلى من الحرية..! وبلغ القطار قرية (كوزيلسك)، فقال له الدكتور: هذه آخر محطة للقطار يا ليـو.. سنضطر إلى البقاء فيها إحدى عشرة ساعة في انتظار القطار السريع.. فيصيح تولستوي: كلا.. كلا.. كلا.. لن أقيم في كوزيلسك كل هذه الساعات، ففيها مزرعة كبيرة لصديقي تورجنيف، وستعرف صوفيا على الفور مكاني! ثم يسأل عن المحطة التالية، فيعلم أنها أوبتيينا، وفيها دير ونزل صغير يستقبل الزوار، فيقترح الدكتور أن يستريحا فيه ليومين أو ثلاثة! وبينما كان تولستوي مع صديقه الدكتور في غرفتهما الصغيرة في النزل الريفي الملحق بالدير، كتب في دفتر يومياته: ما أجمل الشعور بالأمان والاطمئنان! ماذا يريد المرء من دنياه أجمل من هذا؟! القوت الضروري، والأمان.. ما أسعدني! وتمدّد على الفراش لينام،
وكان يدرك أن صوفيا أندريفنا ستفعل المستحيل كي تلحق به لتعيده إلى إيزيانا/ بوليانا.. وظل الهاجس يراوده بأن يفاجأ في أية لحظة يُطرق فيها باب الغرفة الصغيرة عليه ليجد نفسه وجهاً لوجه أمام صوفيا!
achelious
21/06/2008, 10:39
أبو الشعب:
لا نكاد نرى في تاريخ الأدب العالمي فعلة غير محسوبة العواقب كتلك التي فعلها ليو تولستوي عبقري الرواية الطويلة، والذي عاش اثنين وثمانين سنة في الرفاهية والثراء، وفي ظل شهرة عريضة لم يحظ بها أحدٌ في تاريخ الأدب العالمي، غير قلة قليلة من الكتّاب والشعراء والأدباء..
لم تحرمه الحياة من شيء، وكانت كل مقومات الحياة السعيدة عند أطراف أصابعه، فإلى جانب الثراء كانت هناك الزوجة المحبة والأبناء العطوفون، والشهرة المدوية المصحوبة بحب كل من عاصره على أرض روسيا، حتى الذين هاجمهم في رواياته وانتقد سلوكهم، أحبوه وعبّروا عن احترامهم لـه، وحصل عن جدارة، على لقب (أبو الشعب)،
وأبو الشعب ـ في ذلك الزمن على أرض روسيا ـ لم يكن غير القيصر نيقولا الثاني، الذي كتب إلى تولستوي تحت ضغط أدبي من زوجته الإمبراطورة ومن أبنائه، خاصة من ولي عهده المريض الأمير أليكسيس، كتب قائلاً:
«يسعدني أن أهنئكم بعيد ميلادكم الثمانين، وآمل أن يساعدني الله على تحقيق الكثير من مشروعاتكم البنّاءة لخير الشعب الروسي الذي يعتبركم أباً (ثانياً) له..».
تهنئة القيصر هذه تتضمن معاني كثيرة.. اعترافاً بمشروعات تولستوي التي اتخذها بشأن الأراضي الزراعية، وحق من يعمل فيها في شيء من خيراتها، وامتناناً لما ذكره تولستوي في روايته (الحرب والسلام) عن دور القيصر الكسندر الأول، جدّ القيصر نيقولا الثاني في تحقيق النصر على جيوش نابليون بونابرت، وتتضمن رسالة القيصر قبل كل هذا وذاك، على غيرة قاتلة من اللقب الذي منحه الشعب لكاتبه المفكر الجريء ليو تولستوي، فكلمة: (إنك الأب الثاني).. تحمل معنى ضمنياً، بأنني أنا الأب الأول للشعب الروسي. ويمرّ عامان على هذا التكريم العالمي للكاتب العظيم، ويبلغ العام الثاني والثمانين من عمره، وإذا به يسأم كل شيء، ويضيق ذرعاً بكل شيء، فقد سئم الشيخوخة وأمراضها، سئم الثراء العريض وتكاليفه، وسئم خرافات وثوابت الكنيسة التي يلح بها الأساقفة على الناس، وسئم التجسس اللصيق، وهذه الرقابة الخانقة على ساعات حياته، على أوراقه، وعلى أحاديثه مع أصدقائه وأنصاره.. تجسسٌ مشين.. وممن؟! من المرأة الوحيدة التي أحبته وأحبها منذ خطبها، من صوفيا أندريفنا زوجته التي لم يشرك سواها في قلبه على مدى أربعة وأربعين عاماً.
achelious
21/06/2008, 10:42
لقاء تولستوي بصوفيا:
ولعل من المناسب قبل أن نواصل الرحلة مع تولستوي الذي فرّ من عالمه وهو في الثانية والثمانين من عمره، أن نعود نصف قرن إلى الوراء لنقف على الأحداث التي جمعته بصوفيا أندريفنا، تلك الشابة الجميلة العاطفية، وكيف وقعت في غرام ذلك الضابط الثري والكاتب المرموق (ليون تولستوي).
الفرق بينهما 16 عاماً، هي في السابعة عشرة، لم تغادر قط منزل الأسرة ومزرعتها إلا لزيارة جدّها لأمها في مزرعته البعيدة، ولا تعرف شيئاً عن عالم الرجال.
أما هو فصاحب تجارب ومغامرات! إذا نزل موسكو تهافتت عليه راقصات الباليه! فهو فوق قوته الهرقلية، وشبابه المتوثب، وشهرته كروائي، تعترف أوروبا كلها بتفوقه، نجده شديد السخاء مع من يهفو إليها قلبه! لأسبوع أو لأسبوعين، ثم يدخلها غابة النسيان في فكره ويتفرّغ لقلمه.
كانت تانيا شقيقة صوفيا، تخشى عليها من هذا الحب العارم الذي لا تؤمَن عواقبه مع رجل مثل تولستوي، فهو لم يبح لها قط بما في قلبه! فتانيا ترى أن أختها غرّة وساذجة، وتولستوي هذا إلى جانب علاقاته الواسعة بالنساء، فإنه يكبر صوفيا بـ 16 عاماً، حتى أنه ليشاع أن أسرة القيصرة تتحبب إليه، وتدعوه إلى مزارعها الكثيرة، أملاً في أن يطلب يد إحدى الأميرات! وقد عبّرت تانيا عن رعبها من نظرات تولستوي لشقيقتها الكبرى المخطوبة لأحد ضباط الجيش، وتتساءل: «أهو يسعى إلى صوفيا الرقيقة التي قد لا تتردّد في قتل نفسها إذا ما فاتها الزواج به.. أم أنه يريد إقامة علاقة مع ليزا المتكبرة والمغرورة؟!». وتولستوي، لا يفصح عما يريد! أو لعله يقدّم رجلاً ويؤخر أخرى! أكان يفاضل بين ليزا و صوفيا.. أم بينهما وبين الأميرة أولجا بنت أخت القيصرة؟! ذات يوم ذهب تولستوي إلى دار أسرة صوفيا، واستُقبل بما اعتاده من أفراد الأسرة كلها بحفاوة وإشراق ـ باستثناء ليزا ـ التي تعمدّت تحيته ببرود، كأنما هي تختبر حقيقة مشاعره نحوها، ففاجأهم بما لم يتوقعوه بالقول: يسعدني لو تقبلوا دعوتي لزيارة مزرعتي إيزيانا/ بوليانا. فعبّرت صوفيا عن فرحها باندفاع: أحقاً يا كونت؟! لقد سمعت عن مزرعتك الكثير، وطالما تمنيت أن أراها! وقالت الأم: إنها أشهر المزارع القريبة من موسكو يا كونت تولستوي، ويقال إن الدار الكبيرة فيها أكثر من أربعين غرفة، ونشكرك على هذه الدعوة الكريمة، وسيكون من دواعي سعادتنا أن نقضي معك ومع السيدة الكريمة والدتك الكونتيسة (ليوبوفا) وقتاً ممتعاً. وفي الموعد المحدّد كان تولستوي في انتظارهم بالعربات التي ستقلّهم من محطة القطار إلى مزرعة إيزيانا/ بوليانا•
وتكتب تانيا شقيقة صوفيا في دفتر مذكراتها:
«كنا نحن البنات في مقدمة الركب! بينما كانت أمي في عربتها بين أبي وبين الكونت تولستوي! وبعد ساعات من المسيرة التي طوينا خلالها أكثر من 4600 هكتار من الأراضي الزراعية! أمضينا أياماً بين المزارع والحقول التي شهدت صبا تولستوي الباكر وشبابه، وأقمنا في داره الكبيرة التي كانت دائماً تمثّـل قيمة رائعة في فن العمارة، وقد سألت والدتي تولستوي عما إذا كان هناك من يشاركه هذه الأملاك الواسعة، فأجابها بأنه الوريث الوحيد، لكن أمه هي المتصرفة في كل شيء، وفي كل مناسبة كانت تطالبه بأن يرفع عنها هذا العبء لأنها تعبت في إدارتها، خاصةً بعد أن قام تولستوي بتمليك الفلاحين للأراضي فأصبحوا أحراراً، ومن أجمل ما قاله في إجابته على والدتي: «إن والدته كانت سعيدة بسعادة 350 أسرة تحرّرت من أبشع قيد على روح الإنسان.. قيد العبودية..».
أما صوفيا فقد كان هيامها وغرامها بتولستوي قد سربلها حتى باتت لا ترى منه فكاكاً! السعادة الغامرة التي عاشتها في تلك الأيام! أيام زيارتها لمزارع تولستوي. ليو تولستوي! هذا الاسم الجميل! كانت تسرع الدموع إلى عينيها الجميلتين لمجرّد ذكر اسم الحبيب الذي أشرف بنفسه على راحة ضيوفه، وقد كتبت صوفيا هي الأخرى في يومياتها: «كانت الضيافة في قصر المزرعة في غاية الروعة.. وتيسر لنا القيام بزيارات لبساتينها اليانعة، فأكلنا من فواكهها التي جمعها لنا الكونت تولستوي بيديه في سلة كبيرة، كنت أرقب الكونت في كل حركاته، كان مثال القوة والنشاط والحيوية.. تحدوه رغبةٌ صادقة في إسعادنا بلا تكلّف.. في أثناء العودة.. سرتُ معه قليلاً، ولولا أن والدتي وليزا كانتا ترقبانني، لأمسكت بيده! لم يكن هناك من هو أسعد مني وأنا أرمقه وهو يساعد في إعداد فراش أختي تانيا بوضع مزيدٍ من المخدّات، وكم فكرت فيه قبل النوم، وحلمت به أثناء النوم، وفتحت عينيّ عليه بعد أن تيقظت..».
يتبع ..:D
اسبيرانزا
21/06/2008, 15:45
قريت مرة دراسة موجود فيها رسائل من تولستوى الى الشيخ محمد عبده والعكس
اعتقد كان فى فترة الصراع الروحى لتولستوى ...كان يأمل التعرف على الاسلام مثلما تعرف على ديانات اخرى كثيرة
لكنه فى النهاية اثر ان تكون علاقته بالله صوفية كاملة مع عدم الانتساب الصريح لدين معين
achelious
21/06/2008, 20:32
قريت مرة دراسة موجود فيها رسائل من تولستوى الى الشيخ محمد عبده والعكس
اعتقد كان فى فترة الصراع الروحى لتولستوى ...كان يأمل التعرف على الاسلام مثلما تعرف على ديانات اخرى كثيرة
لكنه فى النهاية اثر ان تكون علاقته بالله صوفية كاملة مع عدم الانتساب الصريح لدين معين
جايكي بالحديث..;-):-D
achelious
22/06/2008, 12:47
عادت أسرة أندريفنا إلى مزرعتها، ولم يكن أحد يتوقّع أن يلحق بها الكونت ليو تولستوي بعد يومين اثنين فقط من زيارتهم له! وكتبت تانيا شقيقة صوفيا في مذكراتها:
«أحسست بأن تولستوي لم يأت بهذه السرعة لزيارتنا إلا ليطلب الزواج بأختي (صوفيا) ولكنه لم يفعل، وأدركت بعد ساعات من الزيارة أنه يتحين الفرص ليخلو بها. يريد أن يخلو بصوفيا، وأن يصارحها بحبه، ويسألها عما تكنه ناحيته من عاطفة.! غريبٌ أمر تولستوي هذا. كيف لم يفهم مدى تعلّق وشغف صوفيا به، وهو الذي يعالج في رواياته أشد العلاقات الإنسانية تعقيداً، خاصةً بين الرجل والمرأة؟! حاولت جهدي أن أمكنها من لقاءٍ بعيد عن رقابة أمي وشقيقتي ليزا!»
أما تولستوي نفسه، فقد كتب في يومياته عن تلك الليلة القدرية في حياته:
«كنت أريد أن أعرف حقيقة عواطف صوفيا نحوي! إنها لا تفارقني بنظراتها! ولكن هذا لا يعني الكثير! فالفتيات في مثل سنها يتخبطن عادةً في دوامة الانفعالات إذا أحسسن باهتمام رجل بعينه! وهذه هي طبيعة المراهقة!
يا إلهي! ما أكبر الفارق في العمر بيني وبينها! إذا رفضتني فلن يكون ذلك إلا بسبب فارق السن! ولو كان في المزرعة القريبة من مزرعة أسرة أندريفنا شاب قريب منها في السن لما شغلت نفسها بي!
ثم، ماذا يدفع شابة جميلة رقيقة مثل صوفيا نحو رجلٍ أجمع الناس على بشاعة أنفه، وليس فيه أي شيء من سمات الوسامة؟! كان يجب أن أسألها وأعرف إجاباتها بوضوح وصراحة؟!».
ونتابع الموضوع نفسه فيما كتبته تانيا في مذكراتها عن الأحداث في ذلك اليوم:
«.. كنت قد ذهبت إلى غرفة الموسيقى في الطابق الثاني حتى أفسح المجال للكونت تولستوي ليخلو بصوفيا، ومن عجبي أنهما لم يختارا للقائهما غير غرفة الموسيقى! وما أن دخلا معاً، حتى اختبأتُ خلف البيانو بحيث لا يرياني، وتوقّعت أن يمسك بيدها أو يصارحها بمشاعره تجاهها! أن يكشف لها عن حقيقة عواطفه بأسلوبه الفني الذي اعتدناه منه في رواياته! ولكنه كان كالصبي المضطرب الذي يجلس لأول مرة في حياته مع صبيّة صغيرة! وقف أمام منضدةٍ كبيرة وسط القاعة وقال لها:
«آنسة صوفيا! هل تستطيعين تكوين جملةٍ كاملة إذا كتبت لك الحروف الأول من كل كلماتها؟!
فأجابته بمرح: لعبة الحروف؟! إنني أجيدها ياكونت، فأنا أتفوق على كل أفراد أسرتي في هذه اللعبة! وهاهو الورق والقلم أمامك.. واكتب ما بدا لك. ولكن ما هو الرهان؟! أجابها بصوتٍ مضطرب:
«إن الرهان هو.. حياتي! وإليك حروف الكلمات»، فكتبها لها وقال: «أتعرفين يا صوفيا أنك إذا توصلت إلى معرفة الكلمات التي تبدأ بهذه الحروف.. اذكري أن حياتي هي الرهان».
وتضيف تانيا في مذكراتها: «إن صوفيا كانت أبرعنا حقاً في هذه اللعبة، وبعد لحظات حلّت فيها لغز الحروف، قالت له بصوت مضطرب:»إن بدايات كل جملة من جمل الحروف التي كتبتها هي: (شبابك، وحقك في السعادة، يذكرانني بقسوة بفارق السن! سعادة كهذه.. هل تتحقّق لمثلي؟!).
كان صوت صوفيا مخنوقاً بطوفان من الانفعالات العاطفية التي غمرتها! أمسكت بيده ولم تقل شيئاً. وأخذ هو بناصية الكلام، فقال لها: صوفيا.. إن أسرتك تخطئ في فهم السبب وراء زياراتي لكم، والدتك على وجه الخصوص تظن أنني أريد ليزا.. في استطاعتك أن تصححي لها ما يدور خطأً في فكرها..».
أما صوفيا فقد دوّنت في مذكراتها: «أدركت أن تولستوي يحبني وحدي! كان قلبي يدق بعنف، وفقدت القدرة على التفرقة بين الحقيقة والوهم! كان شيء ما يصيح داخلي: «أيتها الغبية.. إنه يحبك أنتِ! أنتِ وحدك! أنت وحدك.. أنت ولا أحد سواك..!»، وأوشكتُ أن ألقي بنفسي بين ذراعيه، لكن أمي دخلت فجأةً إلى القاعة، وأمرتني بالذهاب إلى غرفتي على الفور فقد حانت ساعة النوم.. ولم أنم! وفي الصباح، صارحتُ أمي: «أماه.. أرجوك أن تستمعي إلي باهتمام! هناك من يظن أنني لست المقصودة بزيارات نيكولايفيتش تولستوي! أماه.. الحقيقة أنه لا يأتي إلا من أجلي! من أجلي أنا! إنه يريدني زوجةً له! ففاجأتني والدتي حينما قالت: صوفيا: لم أتوقّع أن أسمع منك هذا الهراء! أنت واهمة ياصغيرتي، إن تولستوي يرغب في أختك ليزا! وهذه رغبتي أيضاً، كما هي رغبة والدك!».
وعندما أتى تولستوي لزيارة أسرة أندريفنا.. لم تحدثه صوفي عمّا دار بينها وبين أمها، وبينما كانوا جميعاً على مائدة الطعام.. دس خلسةً رسالةً في يدها، فأسرعت إلى غرفتها، مزّقت المظروف في عصبية مرتعدة وقرأت:
«أخبريني بكل أمانة ويدك فوق قلبك! ودون عجلة.. أجل دون عجلة.. بحق السماء أخبريني يا صوفي! هل تقبلين أن تكوني زوجتي؟! إذا كنت تقبلين هذا من كل قلبك بأمانة ودون تردد، وبعد تفكيرٍ عميق، فقولي (نعم)، ولكن إذا داخلك أدنى شك في قدرتك على الحياة طول العمر مع شخص مثلي فقولي (لا)، فالموت أحب إليّ من الحياة مع إنسان أحبه كل هذا الحب الذي أحمله لك.. ولا يحبني..!». وفوجئ الجالسون على مائدة الطعام بصوفيا تقبل لاهثةً من غرفتها، وبيدها الرسالة ومظروفها.. يقف تولستوي للقائها.. يترامقان لحظة دون كلام.. فيقول تولستوي في بطءٍ وهدوء: صوفيا أندريفنا هل تقبلين أن تكوني زوجتي؟! نعم.. أم لا؟! وبصوتٍ متحشرج مضطرب، مغسول بدموعها ترد: نعم! نعم! نعم! هل سمعتم جميعاً؟! نعم، نعم، نعم. اثنان وأربعون عاماً من الحب الزوجي النادر بين عبقري الأدب الروسي ليو تولستوي وصوفيا أندريفنا..
achelious
22/06/2008, 12:57
لماذا الفرار؟!
بعض مؤرّخي الأدب اجتهدوا في تفسير ما قام به تولستوي: أن تصرفه بالفرار من مزرعته، وهو العجوز ابن الثانية والثمانين، في ليلة قارسة، دون أن يكون قد حدد مكاناً لإقامته، لهو من بعض أعراض أمراض الشيخوخة وما يصطحبها من قرارات ارتجالية. هذا ما قاله من لا يحبون تولستوي!
أما أنصاره وتلاميذه أمثال صديقه (تشيرتيكوف) فقد كتب يقول: «لقد تحمّل تولستوي الكثير من معارضات ومشاكسات زوجته صوفيا أندريفنا، ما لا يتحمّله القديسون! كانت سجّانته بكل ما في الكلمة من معنى! تريد أن تفرض عليه آراءها بشأن تنازله عن أملاكه للفلاحين! وبشأن علاقته بالقيصر! وبالإمبراطورة!
كانت تحدّد له من يجب أن يقابل أو لا يقابل من أصدقائه وتلاميذه! بل كانت تريد أن تعرف أفكاره الروائية! وتطلب أن يكون لها حق إقرار ورفض ما لا يتناسب مع أفكارها! كانت تحبه.. أجل..! ولكن حب التملك.. لا حب التضحية! لا أوجّه اللوم لصديقي تولستوي على فراره منها! ولولا أنه شديد الإيمان بالله لقتل نفسه يأساً منها منذ زمنٍ بعيد!».
وطلب تولستوي من رفيق رحلته الدكتور ماكوفيتسكي أن يستعد للرحيل من غرفة الدير! فيخبره الدكتور بأن نبضه غير مستقر، ولا يجوز أن يعرّض نفسه للإرهاق.
فيقول له: إنني بخير! ليس بي إلا التعب من قلة النوم، فالقطط كانت تموء طوال الليل!. وفي الغرفة السفلية أيضاً امرأةٌ كانت تبكي وهي تناشد الله أن يغفر لها ما ارتكبت من خطايا!
لقد ظننت أنني سأجد الهدوء هنا! لنغادر هذا الدير! لنغادره قبل أن تلحق بنا صوفيا!
فيسأله طبيبه: إلى أين يا ليو؟!..
يجيبه: سنسافر إلى مقاطعة (شاماردينو)، وهناك سنستأجر بيتاً ريفياً صغيراً بحديقةٍ مزهرة! إنني أعرف سيدة سبق لها أن عرضت علي بيتها لأقيم فيه شهور الشتاء في أي يوم أقرره! وقد أخفيت ذلك العرض عن صوفيا، وفي عزمي أن أحقّقه في يومٍ ما! وقد جاء هذا اليوم المناسب يا سيرجي! هيا.. هيا! لنرحل إلى شاماردينو فهو المكان الوحيد الذي لن تبحث فيه عني صوفيا..
وما أن استقر، حتى كتب إلى ابنته الرسالة التالية: «عزيزتي ساشا، إن ما يحدث عندكم يلقي على كاهلي عبئاً ثقيلاً، ورغم هذا فإنني أثق بقدرتك، وقدرة أختك تانيا وأخيك سيرجي على تهدئة والدتكم! المهم هو أن تُفهموها، وتُقنعوها بأنني لم أفعل ما فعلت إلا بسبب إصرارها على التجسس عليّ، وعلى رغبتها العنيدة في السيطرة على حياتي، وتحريكي في كل أموري الحياتية والفكرية حسب نظرتها الخاصة! حاولوا أن تقنعوها أن بغضها غير المنطقي لصديقي وجاري العزيز تشيرتيكوف، كان يسوّد كل لحظات حياتي! فهو مع إخلاصه الشديد لي، وتفهمه الذكي لكل أفكاري ومشروعاتي، لا يكنّ لها إلا كل احترام وتقدير!
اقنعوها بحق السماء بأنني أدرك الآن بوضوح أن الحب الذي تدّعي أنها تحمله لي، كذبةٌ كبيرةٌ، وخبثٌ خادعٌ، لم أعد قادراً على التسامح فيه لأن هدفه هو خنق حريتي! وقهر إرادتي! وإرغامي على التنازل عن أفكارٍ أؤمن بها!. بقوة إيماني بالخالق العظيم. إنها لا تفهم أن هذا الأسلوب في معاملتي سيؤدي بي في النهاية إلى الموت! كأنما هي تهدف إلى قتلي؟! حسناً أعتقد أنها ستنجح في الوصول إلى هذا الهدف قريباً!
فقد أكد لي الدكتور ماكوفيتسكي أنني إذا كنت قد نجوت من النوبة القلبية الثانية، فلن أنجو من الثالثة التي تسعى أمكم جاهدة إلى أن أصاب بها في أسرع وقت تتخيله! حسناً لتأتي النوبة الثالثة لتخلصها مني! وتخلصني في الوقت نفسه من هذا الجو المأساوي المروّع الذي تحملته لسنوات طويلة، والذي لا أريد أبداً مهما حدث أن أعود إليه!».
achelious
22/06/2008, 13:05
صوفيا تكتشف فرار تولستوي!
عندما نرجع إلى ذلك اليوم الذي غادر فيه تولستوي مزرعته، نتتبع خطوات زوجته صوفيا التي تيقظت في الحادية عشرة صباحاً، ودخلت غرفة زوجها كالعادة بوجبة الإفطار فلم تجده! فأحست بأن شيئاً ما قد حدث، فاتجهت إلى حيث كانت ابنتها ساشا: أين أبوك؟!
أجابتها بحزم: لقد رحل! حاولت صوفيا السيطرة على نفسها وسألت: رحل؟! رحل إلى أين؟!
قالت ساشا: لا أعرف!
بدأت تباشير الغضب والتوتر تفرض نفسها على ملامح صوفيا، فصرخت في ابنتها: كيف لا تعرفين؟! أهذا معقول؟! أنت الوحيدة التي لا يخفي عنها شيئاً! فأبرزت لها ساشا تلك الرسالة التي تركها لها زوجها! اختطفتها من يد ابنتها خطفاً! وما أن قرأت مضمونها حتى صاحت في حزنٍ وبؤسٍ وغضب.. يا إلهي! ماذا فعلت بي يا ليو..؟!
وفجأةً انطلقت كالقذيفة تعدو نحو البركة العميقة في أقصى حديقة إيزيانا/ بوليانا وهي تصيح: سأُغرق نفسي.. سأموت.. ما معنى الحياة بعدك يا ليو.. سأموت.. وليعلم أينما كان في هذه اللحظات أنه قاتلي! ويسرعون خلفها، وكانت قد سبقتهم إلى البركة، فألقت بنفسها في الماء دون أدنى تردد! وكانت على وشك الموت غرقاً، لولا رئيس الخدم بولجاكوف وساشا اللذان استطاعا إخراجها من الماء وهي تقاومهما! أعادوها بصعوبةٍ بالغة إلى مخدعها! وبعد أن ألبستها ابنتها ثياباً جديدة، صاحت فيها في ثورةٍ وغضب: أبرقي إلى أبيك بأنني ألقيت نفسي في البركة لأغرق.. قولي له إنني سأفعل ذلك من جديد إذا لم يعد..؟!
فتهدئ ساشا من روعها: أعطه وقتاً يا أمي.. فأنت تعرفين أبي خيراً مني! فتصرخ بها: بل سيعود إذا عرف أنني سأقتل نفسي إذا لم يعد.. إنه يحبني! ثم تبكي في توسل كأنما تتحدث إلى نفسها: لمَ فعلت ذلك يا ليو؟ أنت تعلم بأنني أفديك بروحي! وأنت تحبني بأكثر مما تحب أحداً في الكون!! تحبني بأكثر ما تحب أبناءنا وبناتنا! وتجهش متوسلة.. عُد يا حبيبي! عُد يا ليو إلى حبيبتك! أغلقت عليها ابنتها ساشا باب المخدع، وذهبت لتعد لها شراباً ساخناً، فقد كانت ترتجف من البرد!
وبينما كانت في المطبخ، فوجئت ساشا برئيس الخدم بولجاكوف يصيح: أسرعي يا آنسة ساشا، لقد كسرت الباب وانطلقت تعدو نحو البركة مرة أخرى!! أعادوها هذه المرة قبل أن تلقي بنفسها في الماء. ولما وُضعت على سريرها أحيطت بكل من في المنزل، حتى لا تتكرر المحاولة! وعندما جاءها الطبيب، وجد أنها تعاني من نوبة هيستيرية! مما دفع ابنتها ساشا إلى الاعتقاد أن والدتها تعاني مرضاً عقلياً! لأنها كانت تمارس هذه التصرفات الهوجاء مع زوجها! لكن الطبيب يطمئنها أن ما تعانيه أمها ليس إلا نوبة هيستيرية خوفاً على مصير زوجها! وربما إحساسها بالذنب يدفعها إلى مثل هذه التصرفات! وبينما كانت ساشا تتحدث إلى الطبيب صاحت فيها من على سريرها في شدة: فيم تتهامسان؟! أبرقي يا ساشا إلى جميع إخوتك، وأخواتك، ليحضروا جميعاً، ليعرفوا ما فعل بي أبوكم.. أبرقي لهم كلهم.. كلهم. وما أن انتهت أوامرها ونواهيها حتى انخرطت في نوبة من البكاء! فاحتضنتها ساشا، فقامت هي بدورها باحتضانها وقالت: أتوسل إليك يا ابنتي اذكري لي مكانه لألحق به!!.. فأجابتها ابنتها: أماه! لو كنت أعرف إلى أين رحل أبي! لما أخبرتك! لقد وعدته بذلك! فأفلتت نفسها من حضن ابنتها ودفعت بها، وصاحت في وجهها وهي ثائرة: «أتحسبين أنني لن أعرف أين هو الآن؟! سأعرف، سأعرف، وسأفرّ من هذا السجن الذي وضعتموني فيه لألحق به.. سألقي بنفسي من النافذة. ثم تخنقها العبرات وتتشنج في نوبة من البكاء.. ليو.. ليو.. لماذا فعلت ذلك بي يا ليو؟! لماذا يا حبيبي؟!»
وكان أول من علم بفرار تولستوي من أهالي القرى المجاورة لمزرعة إيزيانا/ بوليانا، هو صديقه تشيرتيكوف، وكانت له وسائله في معرفة مكان صديقه الكبير! وما أن تأكد من مكانه حتى أرسل إليه مساعده سيرجينكو بتفاصيل ما حدث في مزرعته منذ رحيله! فعقب تولستوي على ما سمع قائلاً: يا للسماوات! لم أكن أدري أنها على هذه الدرجة من الحماقة! ثم سأل سيرجينكو:
ـ هل عرفت بمكاني؟!
ـ يا كونت! أنت تعرف أنها قادرة على أن تعرف مكانك، ودون شك أنها ستفعل!
واجتمع الإخوة والأخوات أولاد وبنات تولستوي، وانقسموا على أنفسهم في أمر الخلاف بين أمهم وأبيهم، وكانت ساشا أكثرهم شجاعةً، حيث واجهت أمها بصراحة وقالت لها:
«.. إذا شئت أن يعود زوجك إليك! فعليك أن تقنعيه بأنه سيعود إلى الحرية، وليس إلى السجن! إلى الزوجة التي يحبها، وليس إلى الزوجة التي يخشاها على أفكاره ومشروعاته! واذكري يا أماه أنك تتعاملين مع فنان كبير بلغ الثانية والثمانين من العمر!».
أما الباقون من الأشقاء، فقد أيّدوا والدتهم التي اقترحت عليهم أن يرسلوا برقية جماعية إلى الأب الهارب! لكن ساشا قالت لهم إنها لن تخبرهم عن مكانه! إلا أن صوفيا أعلنت جازمةً أنها تعرف مكانه وطلبت من أولادها أن يرسلوا البرقية إلى قرية شاماردينو، فصعقت ساشا.. وسألت أمها: ولماذا شماردينو تحديداً؟!
فأجابتها: حدثني مرة عن رغبته في استئجار بيتٍ ريفي هناك! ثم إنني اطلعت على أختام الرسالة التي بعث بها إليك وفيها كلمة شاماردينو! فأرسلوا إليه البرقية وناشدوه فيها بالعودة وقولوا له: إنني سأموت كمداً إذا لم يعد! وسيدخل هو التاريخ ليس بلقب الكاتب الكبير، بل بلقب قاتل زوجته!
يتبع..:D
achelious
23/06/2008, 10:22
يزعم بعض المؤرّخين أن صوفيا عرفت أن تولستوي سينتهي به المطاف إلى شاماردينو! ويزعمون أن الدكتور سيرجي ماكوفيتسكي طبيبه وصديقه ومرافقه، هو الذي أرسل إليها سراً ببرقية أطلعها فيها على خطط زوجها! لكن ماكوفيتسكي قد كذّب هذه المزاعم في حوارٍ له مع أحد الصحفيين فيما بعد.أما البرقية التي أُرسلت من مزرعة إيزيانا/ بوليانا إلى شاماردينو فلا يزال نصها الأصلي، بخط صديقة الأسرة (فارفارا فيوريتوفا) محفوظة حتى يومنا هذا في متحف آثار تولستوي في مزرعة إيزيانا/ بوليانا، وقد جاء نصّها على لسان ابنه إيليا تولستوي نيابةً عن إخوته وأخواته.
ويقول فيها: «إننا نعرف يا أبي. كم كانت الحياة قاسية عليك هنا في إيزيانا/ بوليانا! ولكن ألا تدرك يا والدي العزيز أنك جعلت من حياتنا بدونك جحيماً لا يرحم؟! فأنت تعرف كم نحبك، ونخشى عليك متابعة الرحيل في شهور الشتاء! كأنك يا أبتي قد نسيت أنك في الثانية والثمانين من عمرك! إن أمي حزينة من أجلك، وكما تعرف، أنها في السابعة والستين من عمرها! وإنه لمن واجبنا أن نحميك من عنادك وإصرارك على متابعة الهرب الذي سيسرع بأمنا العزيزة إلى قبرها! واعلم يا أبتي أنه إذا حدث وماتت أمنا بسبب هذا العناد، فستغدو مسؤولاً أمامنا وأمام التاريخ! وقبل هذا وذاك أمام الله! عن هذا الخطأ•• الذي يصل إلى حد الجريمة! وقد اعترض بعض الإخوة على ما كتب إيليا لأبيه بتحريضٍ من أمه! فتراجع عن بعض السطور خوفاً من حكمٍ قاس بالعقوق يصدره عليه التاريخ...
وكتب: «إنني لا أدينك يا أبي. ولكنني أتوسل إليك أن تكون رحيماً بأمنا، فإن حالتها بعد الذي فعلته! لتدعو إلى الحزن والأسى!
التوقيع: أبناؤك المحبون».
وأصرّت صوفيا أن تكتب، بخطٍ مرتعش وفي صوت باكٍ، وهي تردد الكلمات التي تسطرها على الورق:
حبيبي ليوفوتشكا! على صدر من تضع رأسك الأشيب المحبوب؟! على صدر غير صدر حبيبتك، التي تفتديك بروحها؟ على صدر غير صدر صوفيا؟!
وقد وجدت رسالةٌ ـ في متحف تولستوي ـ كتبتها صوفيا إلى زوجها نكتفي منها بالعبارات التالية:
«ليوفوتشكا.. حبيبي.. عد إلى عشك يا عصفوري الجميل.. أنقذني من الانتحار.. فهذا هو مصيري إذا لم تعد.. لماذا تفرّ مني يا ليوفوتشكا؟!.. تفرُّ من رفيقة العمر كله؟! عُد.. ستجدني دائماً كما كنت.. سأكون طوع بنانك.. سأتنازل عن كل مظاهر الثراء والرفاهية.. أصدقاؤك سيصبحون أصدقائي،
سأكف عن التدخل في عملك وسؤالك عن أفكارك السياسية والدينية.. يا حبيبي ليوفوتشكا.. أعرف أن لك آراءك الخاصة في شأن التقاليد الأرثوذكسية.. ومع هذا فأنت تؤمن مثلي بالأساسيات والثوابت..
ألا يقول الإنجيل إنه لا يجب على الرجل أن يهجر زوجته؟!
عُد يا ليوفوتشكا، فلا حق لأحد غيري في إسبال جفنيك لحظة موتك..
ولا حق لغيرك في إسبال جفني حين يأتي أجلي!! ليوفوتشكا.. أين أنت؟! هل صحتك على ما يرام؟! بحق السماء ابعث لي ولو كلمة تدخل الطمأنينة إلى قلبي.. أبناؤنا كلهم حولي.. ولكنهم أعجز من أن يمنحوني لحظة واحدة من الطمأنينة والأمن وأنت بعيد عني.. أنت وحدك قادر على ذلك.. عُد يا حبيبي..».
ولم تنس صوفيا تهديدها له بالبحث عنه، إذ اختتمت رسالتها بالقول:
«إلى اللقاء يا حبيبي! فلن أكف أبداً عن البحث عنك وإعادتك إلى إيزيانا/ بوليانا».
حبٌ عجيب! حب الأنانية المفرطة! حب الاستحواذ المريض! بعد أن أخذت ساشا عهداً من أمها، بعدم اللحاق بها فيما لو ذهبت إلى مدينة شاماردينو للوقوف على أحوال أبيها، فوجدت صوفي أن في ذلك خطوة أولى تمهد لها الاتصال بعزيزها ليو.. وفي شاماردينو التقت ساشا بوالدها الذي كان تسلّم برقية ابنه إيليا، وكذلك قرأ خطاب زوجته••
ولأول مرة في تاريخ علاقتها بأبيها، تتحدث إليه في شيءٍ من التأنيب إذ قالت له: ـ أبتي، كلهم يجمعون على أنك ترتكب خطأً كبيراً في حق أُمنا، أيسعدك أن يحدث لها مكروه بسبب ما تفعل؟!»
ـ بل يتعسني كثيراً يا ساشا! ويتعسني أكثر أنك غيّرتِ من وجهة نظرك تجاهي! ألم تكوني تباركين مشروعي هذا؟!
ـ بلى يا أبي، ولكن لم أتصور أن يكون رد فعل والدتي بهذا الشكل المأساوي!
ـ كيفما كان الأمر يا ابنتي، فلم يعد في مقدوري أن أفعل غير ما فعلت! وسأحزن كثيراً إذا أصاب صوفيا أي مكروه بسببي!
ـ أبتي•• لو اتخذت القرار من تلقاء نفسك، وتعود إلى مزرعتك•• فتقارير الأطباء كلها تؤكد حاجتك إلى رعاية صحية مكثفة في إيزيانا/ بوليانا وقد تكون عودتك مصدر سعادةٍ للجميع، بعد أن تعلّمت والدتي الدرس وأدركت حجم الكارثة فيما لو ظللت في الوضع الذي أنت عليه الآن..!!
ـ «لعلك على حق في هذا يا ساشا! ولكن مجرّد عودتي على أي وضع سيقتلني الإحساس القاسي بالهزيمة النفسية!
ـ كلا يا ساشا، لن أعود حتى لو أجمع كل أطباء الدنيا على حاجتي إلى العودة إلى إيزيانا/ بوليانا! وقبل أن يخلد إلى النوم وجد نفسه مدفوعاً إلى كتابة الخطاب التالي:
«صوفيا حبيبتي، لن أعود! ولن أخبرك بالمكان الذي سأذهب إليه! وعليك يا رفيقة العمر أن تتعايشي مع الحقيقة الجديدة، وهي أن ليو تولستوي قد خرج من إيزيانا/ بوليانا إلى الأبد! لا تظني أبداً أنني فعلت ذلك لنقصٍ في حبي إليك! كلا! يعلم الله أن زهرة حبك في قلبي لا تزال نضارتها منذ رأيتك لأول مرة! إنني لم أغادر إيزيانا/ بوليانا إلا للإبقاء على نضارة زهرة حبنا! بحق السماء ألا تفهمين هذا يا صوفيا؟! وداعاً يا حبيبتي! وليرعاك الله، وليكن في عونك!••».
achelious
23/06/2008, 10:28
المواجهة المأساوية:
أدركت ساشا أن أباها مضطربٌ أشد الاضطراب، وأنه قد عزم على متابعة مسيرة فراره المأساوية، وأنه لا فائدة من أية محاولة لإثنائه عن عزمه!
عندما قال لها: ساشا يجب أن أغادر شاماردينو، ولا أدري إلى أي مكان! ربما إلى القوقاز، فالحياة في الجبال تتناسب وصحتي، والجو هناك منعش وخال من الرطوبة.. لقد عشت طفولتي في جبال القوقاز!
لكن صديقه الطبيب، يسأله فيما إذا كان يقوى على مشاق الرحلة إلى القوقاز؟! فيجيبه:
ـ لم لا! وأنت معي؟! هيا! هيا! لننم مبكرين حتى نبدأ الرحلة غداً مع بزوغ ضوء الشمس.\
كان تولستوي سعيداً رغم رنة الحزن في صوته، ورغم إحساسه بما يشبه الأزمة الربوية! حاول جهده أن يخفي السعال ويمزجه بضحكات خفيفة، ولم يغب ذلك عن فطنة الطبيب الذي اقترح عليه تأجيل الرحلة لأسبوع على الأقل، فانتابه الذعر.. أسبوعاً؟!.. وهل تتركني صوفيا هنا أسبوعاً؟!.. وجاء الصباح.. ولم يكن يدور بخلد الدكتور ماكوفيتسكي أن الحمى قد أمسكت بالجسد الواهي للعجوز العنيد ابن الثانية والثمانين! وبينما هم في العربة، كان تولستوي يتحدث إلى ابنته عن القوقاز وكيف أنه سيقيم في الأيام الأولى عند صديقه العزيز دنيسنكو: إنه كاتب ممتاز يا ساشا! لا يعيبه إلا اهتمامه بالمحسّنات اللفظية! لو ترك قلمه على السجيّة، لاحتل مكانةً مرموقةً في قائمة كبار كُتّاب روسيا! لقد قلت له هذا مراراً، لكنه من مدرسة تورجنييف! وبينما هو مسترسل فيما يشبه الهذيان!
قالت له ساشا: أبتي، لا تجهد قواك بالكلام الكثير.. فإن أمامنا رحلة طويلة بالقطار! لكن هزّات العربة الصغيرة قد أتعبت جسده جداً، وما أن بلغوا محطة القطار حتى كان الكاتب الكبيرقد بدأ يهذي. وركبوا القطار، وبعد أن سار بهم، سأل الدكتور:
ـ كم المسافة التي سنقطعها حتى نصل القوقاز يا عزيزتي ساشا؟!، قالت: ـ حوالي 1000 كيلومتر.
فقال الدكتور:
ـ يا إلهي! ثلاثون ساعة؟! وليو على هذا المقعد الخشبي غير المريح؟!
فأجابه تولستوي:
ـ وماذا في ذلك؟! إنني في صحة جيدة! وإن كنت استشعر صداعاً شديداً بعض الشيء، ولكن بمقدوري مواصلة الرحلة!
فيطلب الدكتور من تولستوي أن يعطيه يده ليقيس ضغط دمه.. ومدّ له يده، وبعد ثوانٍ ظهرت ملامح القلق على وجه الدكتور فقال بحزم:
- يجب أن نغادر هذا القطار اللعين في أقرب محطة.. فالحمى ستكون لها عواقب وخيمة إذا لم نتلافاها!
وكانت أول محطةٍ مجهولةً ولم يسمع بها أحدٌ من قبل، ولكنها أصبحت من أشهر المحطات في روسيا بعد الأحداث التي وقعت فيها لكاتبهم الأشهر تولستوي وهي محطة (أستابوفو). نزل تولستوي من القطار يجر ساقيه مستنداً على كتفي ابنته وصديقه الطبيب.. وحين علم ناظر المحطة بالضيف الكبير للقرية النائية والمنسية!. جاء مسرعاً وهو يقول: اسمي أوزولين يا صاحب السعادة، يسعدني.. ويشرفني أن تقيم في داري المتواضعة إلى أن تستعيد صحتك وعافيتك.. ثم أعدّ سريراً مريحاً، وفراشاً ناعماً في أكبر غرفةٍ في بيته. رقد تولستوي وهو في حالةٍ من الهذيان!
ساشا، هاتي الشمعة وضعيها قرب فراشي! لماذا لا تأتي صوفيا؟! لا بأس لعلها تتفقد أحوال الخدم!! وأين كراسة مذكراتي يا ساشا؟!.. كان يظن وهو في هذيانه.. أنه ـ كالعادة ـ يعيش في إيزيانا/ بوليانا. ونام نوماً عميقاً بعد أن هبطت حرارته، وتناول شراباً من الشعير الساخن! في الصباح وكأنما أحس بخطورة الموقف، فنادى على ابنته:
- هاتي ورقة وقلماً واكتبي هذه البرقية إلى صديقي (تشيرتيكوف)، وأخذ يملي عليها: «عزيزي.. أصابتني وعكةٌ بينما كنت في القطار يوم أمس، أخشى أن تصل أخبار ذلك إلى الصحافة، وقد شاهدني الكثيرون أثناء نزولي من القطار، وسأتابع رحلتي إلى القوقاز.. أرجو أن تفعل المستحيل كي لا يتسرب خبر مرضي للصحف وبالتالي ينتشر خبر سفري.. أبرق لي بكل ما يستجد! صديقك ليو تولستوي..».
أرسلت ساشا برقية أبيها إلى صديقه وعادت إلى دار ناظر المحطة لتفاجأ بالاضطراب الشديد الذي استولى على الطبيب ماكوفيتسكي إذ فاجأها بقوله: لقد عادت الحمى يا آنسة ساشا، عادت هذه المرة بعنف، ولا أحب أن أتحمل المسؤولية وحدي، فأبرقي إلى موسكو لاستدعاء الدكتور (نيكيتيين). وما هي إلا فترة وجيزة حتى أُذيع الخبر في العالم: أن الكاتب الروسي الأشهر ليون تولستوي يرقد ليموت في دار محطة مجهولة على الخريطة الروسية تُدعى استابوفو.. وأمسك عشّاق تولستوي في العالم أنفاسهم وهم يسمعون تلك الأخبار.. في الغرفة البسيطة التي أعدها له على عجل في بيته ناظر محطة القطار، كان تولستوي يرقد بعد أن بلغ من الضعف أشدهّ! ويسأل ابنته: ساشا، أتحسبين أن أمك ستعرف مكاني؟!.. تجيبه في حدب وقلق: أبتاه! لا تشغل نفسك الآن بأمي، من المؤكد أنها ستفهم، ولن تحاول البحث عنك! أرجوك يا أبي لا تكثر من الكلام، فأنت متعب! وتغادر ساشا غرفة أبيها.. لتقول للطبيب:
ـ إنها رحلة القطار! نوافذه كلها محطمة، والعاصفة الثلجية اللعينة!
ـ وعناد أبيك، فما كان يجب أن نغادر شماردينو، ولكن سنتمكن بعون الله من اتقاء خطر الالتهاب الرئوي! فالغرفة دافئة وهو بحاجة إلى الهدوء!
وكتبت ساشا في دفتر يومياتها: «لقد أجلى السيد أوزولين ناظر المحطة وصاحب البيت الذي يرقد فيه والدي.. أجلى زوجته وأولاده، ولم يُبق إلا خادمة للمطبخ لتلبية طلباتنا.. وعندما حاولت أن أدفع له بعضاً من المال لمساعدته على التكاليف.. مال الرجل على يدي ولثمها وهو يبكي ويقول: بحق السماء! دعوني أقدم ما أستطيع للرجل العظيم الذي أسعد المئات من البشر حينما أطلق سراحهم من عبودية المزارع!».
يتبــع ..:D
achelious
24/06/2008, 13:42
بعد أن انتشر خبر وجود تولستوي في تلك المحطة، وأصبح يحتل مكان الصدارة.. في معظم صحف العالم، ثارت ثائرة صوفيا مهددةً بكل الأسلحة التي تملكها، بالبكاء وبالتهديد بالانتحار، مستخدمة نفوذها في مقاطعة (تولا) إلى درجة أنها استطاعت أن ترغم مدير السكك الحديدية على إعداد قطارٍ خاص لينقلها إلى استابوفو!!.
وكان قد سبقها إلى تلك القرية، صديق تولستوي تشيرتيكوف، ومعه صديقه الثاني سيرجينكو، اللذين أدخلتهما ساشا على أبيها بإذن منه، بعد أن علم بوصولهما. وبلهجةٍ تدل على وهنٍ و ضعف قال تولستوي بما يشبه البكاء:
ـ «.. آه ياصديقي تشيرتيكوف، لشد ما افتقدتك.. أرجوك لا تقبل يدي."
فيشهق تشيرتيكوف بالبكاء!
ـ صديقي.. أستاذي.. كان يجب أن تطلعني على مشروعك هذا!
ـ أرجوك يا تشيرتيكوف، من أجلي كف عن البكاء! أنت أول من يعلم أنني لم أكن أستطيع المقاومة أكثر مما فعلت!
جاء ناظر المحطة السيد أوزولين مضطرباً، وانتحى بساشا جانباً حيث قال لها هامساً: «يا آنسة ساشا، علمت من برقية وصلتني منذ لحظات من زميلي ناظر محطة تشيشكينو، أن الكونتيسة صوفيا، أرغمت مدير السكة الحديدية في منطقة تولا، على أن يخصص لها قطاراً ينقلها إلى هنا! وقد تحرك القطار منذ ساعة و سيصل إلى هنا في الليل". وعلى الفور عقدت ساشا اجتماعاً ضم الدكتور ماكوفيتسكي وتشيرتيكوف..
فقال الطبيب: ـ إن وصول صوفيا في هذه الظروف سيحدث عاصفةً لن يحتملها قلبه الضعيف.. فلا بد من منعها منعاً باتاً من الدخول عليه..
ـ هذه مهمتك إذن يا دكتور، فأنت صاحب القرار الأول والأخير في هذا الأمر! إذا قلت لوالدتي إن مقابلتها له ستعجل بأجله، سنُساندك جميعاً مهما قالت أو فعلت!
ـ ولكنني أخشى أن تتغلب الكونتيسة علينا جميعاً، إنها حبه الأول وحبه الأخير، وأقترح يا ساشا أن تبرقوا إلى ولده سيرجي ليأتي حتى يكون إلى جانبنا في مواجهة الكونتيسة!
لكن ساشا لم تؤيد اقتراح تشيرتيكوف بالإبراق إلى سيرجي، لأنه يساند أمه دائماً في كل خلافاتها مع أبيه..! إلا أن سيرجي كان أول من عرف مكان أبيه من الصحف، وسبق أمه الكونتيسة إلى استابوف.. فتصدت له ساشا على الفور بألا يدخل على أبيه! فكان عنيفاً في رده.
ـ "بل لا بد أن أدخل عليه على الفور.. إنني لم آت كي أجلس في هذا البيت التعيس، بينما أبي العظيم ليو تولستوي يموت في غرفة حقيرة تافهة!
ـ "سيرجي أرجوك، سيغضب أبوك إذا عرف أن أحد أولاده قد عرف مكان عزلته، وجاء على غير إرادته..».
ـ «إذا لم تدخلوني على أبي في الحال•• ناديته بأعلى صوتي»..
ـ «دعني أسبقك إليه لأمهد للمقابلة، إذ أن المفاجأة برؤياك، قد تزيد من متاعبه الصحية!!».
ـ بل سأدخل معك ومع ساشا يادكتور!
ولم يكن هناك من مفرّ إلا النزول عند رغبة الابن الذي كان دائماً مصدر متاعب نفسية لأبيه. مال الدكتور ماكوفيتسكي على فراش الرجل المريض، وهمس قرب أذنه: كونت.. كونت! وفتح الرجل عينيه!
وتابع الدكتور: ولدك سيرجي معي الآن في الغرفة! لمعت نظرة خوف بائسة تبدت في عين الرجل الكبير، ولكنه ابتسم رغم ذلك لولده، الذي أمسك بيد أبيه وقبّلها في احترام بعد أن انسابت دموعه ساخنة: أبتي.. أبتي.. لماذا؟! فيتوجه إليه تولستوي بالسؤال مباشرةً:
ـ كيف عثرت على هذا البيت؟!
ـ مصادفة يا أبي!!.. كنت في القطار الذاهب إلى (جورباتشيفو)!!.. فأخبرني أحد الركاب أنه كان معك في القطار القادم إلى هنا!
ـ ومن أين كنت قادماً في طريقك إلى جورباتشيفو؟!
ـ من موسكو يا أبي!
ـ وأمك؟!
ـ لم أرها، إنها في إيزيانا/ بوليانا! إنها لاتريد أن تغضبك بالحضور إلى هنا!
ـ وكيف عرفت أنها عرفت بمكاني، وقد كنت في موسكو؟!
ـ اتصلت بها برقياً قبل حضوري إلى هنا يا أبي، وعلمت من أختي تاتيانا في برقية لها أن معها ممرضتين تسهران عليها، وقالت لي أختي في البرقية: إن أمي تفهم تماماً دوافعك إلى ما فعلت، وأنها استكانت إلى الموقف..! وكان تولستوي وهو الكاتب العبقري ذو الحوار الذكي البارع، الخبير كروائي بدوافع النفس البشرية، يعرف أن ولده سيرجي يكذب في كل ما قاله.. ومع هذا قال حينما أراد الطبيب أن يحكم الغطاء حوله:
«لقد سعدت جداً برؤية سيرجي يا ماكوفيتسكي.. لقد.. لقد.. قبّل يدي.. ولم يكن يفعل ذلك أبداً.. لكم أسعدني ذلك.. رغم يقيني أنه كان يكذب».
achelious
24/06/2008, 13:45
وصول صوفيا إلى المحطة:
كان دخان القطار الذي يحمل صوفيا ينفث دون توقف!! كأنه نذير شر.. وكان على رصيف المحطة كل من سيرجي والطبيب ماكوفيتسكي الذي كان يدرك أن صوفيا ستصب عليه جام غضبها، لكنه أصرّ على استقبالها بالتعليمات التي تساعد على استعادة عافية مريضه العجوز! ونزلت الكونتيسة صوفيا أندريفنا! ونقرأ عن تلك اللحظات، ما كتبته ابنتها ساشا في مذكراتها: «كنت على ثقة بأنها ستتهمني بالتواطؤ مع أبي، وتدبير أمر فراره من القصر في غفلةٍ منها! وقفت من وراء النافذة أرقبها من خلال النور الخافت في المحطة وهي تعبر الطريق الحديدي نحو البيت! أشفقت عليها كل الإشفاق، وهي تسير مقوسة الظهر، مستندةً على ذراع أخي سيرجي، وكان خلفها كل أخوتي.. وأخواتي!
أحسست بأن الأسرة كلها ما جاءت لكي تعود برب البيت!!.. إلى قصره في إيزيانا/ بوليانا! وإنما لتشيعه من بيت ناظر محطة استابوفو إلى مثواه الأخير! أدركت أن ذبالة الحياة في جسد أبي لن تقوى على مقاومة عاصفة الغضب التي توشك أن تنطلق من صدر أمي! رغم حبها الجارف لأبي! أحسست بسعادةٍ غامرة، حين هرع نحوي الدكتور ماكوفيتسكي ليزف لي خبراً:
ـ اطمئني يا ساشا، جميع أفراد الأسرة يدركون خطر دخول الكونتيسة على أبيك! والغريب في هذا! أن أمي قد أقرّتهم جميعاً على ذلك مادام هذا سيعجّل بشفاء ليوفوتشكا العزيز!».
أعلن ناظر المحطة لكل من ساشا والطبيب أن قطارات كثيرة تتجه الآن إلى محطته!!.. ولم يعد أحد في روسيا كلها يجهل أن كاتبهم الكبير ليو تولستوي يرقد مريضاً في هذه القرية الصغيرة، فالصحف قد أبرزت هذا في صفحاتها الأولى! ومرت الليلة الأولى لوصول الكونتيسة! دون مفاجآت! ومع صباح اليوم الثاني جاء الدكتور نيكيتيين، وهو من أهم أخصائيّ الحميّات في موسكو.. وبعد الفحص، كتب: إن صديقنا الكاتب العظيم في حالة محزنة من الضعف الجسماني، النبض غير محسوس بسبب الالتهاب الرئوي.. ولكن لن نفقد الأمل، فهناك علامات مشجعة، وهي أن الحرارة قد هبطت إلى (37 درجة)، دخلت ساشا على أبيها! أذهلتها حالته! رأته لأول مرة منذ أن رقد على هذا الفراش البسيط، وقد اعتدل في رقدته، يدوّن شيئاً في ورقة صغيرة بقلمٍ من الرصاص، ويدير زر ساعته الفضية الكبيرة ذات السلسلة الطويلة.. استقبلها في مرحٍ طافحٍ على محياه:
ـ ساشا! أعتقد يا ابنتي أنني في حاجة إلى كوبٍ كبيرٍ من الحليب الساخن!
ـ ما أسعدني بما طلبت يا أبي.. سأعده لك حالاً!
ـ لا! ليس الآن يا ساشا! اجلسي بالقرب مني هنا على الفراش، وخبريني ماذا قال دكتور نيكيتيين عن حالتي؟! أنت تعرفين دكتور نيكيتيين هذا، كان له رأي خاص في روايتي(آنّا كارنينا)، وفي رأيه أن انتحار (آنّا) كان.. و..
ـ أبتي أنت في حاجة إلى الراحة بعيداً عن التفكير الأدبي المرهق!
ـ كنت أقبل أن أغادر القصر أفكر في رواية جديدة عن الشباب الرافض لتجاربنا! أعتقد أنكم معشر الشباب على حق! ولكن..
ـ مقاطعةً بحنان: أبتي! هذه الانفعالات ضارة بقلبك!
ـ كفّي عن هذا الهراء! متى سأغادر هذا البيت؟!
ـ ليس قبل أسبوعين يا أبتي..
ـ آه.. هاأنت تتعسينني بما تقولين! أسبوعان؟!
ـ حتى تسترد قواك كاملةً أيها البطل..!
ـ أنتِ على حق! الآن هاتي كوب الحليب الساخن!!..
وغدا بيت السيد أوزولين ناظر محطة قطار استابوفو مقراً لمن يقومون على رعاية كاتب روسيا العظيم! ابنته الآنسة ساشا، وطبيبه الدكتور ماكوفيستكي، والطبيب الكبير دكتور نيكيتيين الذي جاء من موسكو، رغم أنه من مشاهير الأطباء في كلية موسكو الطبية. فهو يرقد فوق خشبةٍ خشنة قريبة من الغرفة التي يرقد فيها الكاتب العظيم! أما زوجته الكونتيسة صوفيا والأولاد جميعاً، فإنها أجرت اتفاقاً مع مدير السكك الحديدية في منطقة تولا! يقضي بتحويل القطار الذي جاءت به لاستخدام عرباته لإيوائها وأفراد أسرتها، كما تستخدم بقية المقطورات! للصحفيين والكتاب، وأعداد كبيرة ممن جاءوا للاطمئنان على صحة كاتبهم! وكانت الكونتيسة داخل مقصورتها لا تكف عن البكاء، يحيط بها أولادها وبعض أقاربها من أسرة أندريفنا، والكل ملتزمٌ الصمت احتراماً لحزنها، بينما هي تصيح في عصبية شديدة: «من حق أي زوجة أن تكون مع زوجها المريض! وأنا لست أي زوجة، أنا الكونتيسة صوفيا أندريفنا.. زوجة ليو تولستوي! ثم تشهق في البكاء! وتقول: أنا زوجته، وأخته، وأمه! بل أنا حبيبته! لماذا لا تدخلوني إليه؟! أهو الذي أصدر هذا القرار القاسي؟! لا أظن! لا أظن! لقد كان رحيماً بي دائماً! حنوناً معي في كل وقت! إنه يتعذب الآن! لأنكم تمنعونني من الدخول عليه! أنا أعرف الناس بحبيبي.. ليو! فتتدخل ابنتها (تاتيانا) مواسيةً أمها:
ـ إنها تعليمات الأطباء.. إنهم يخشون على قلبه من الانفعالات الزائدة. فتنظر إلى ابنتها كالنمرة الشرسة، وتصيح فيها بكل الحقد:
ـ بل قولي إنها تعليمات ودسائس تشيرتيكوف! هو الذي يرغم دكتور ماكوفيستكي على قرار منعي من الدخول إلى حبيبي! وأنا بدوري سوف أُرغم ماكوفيستكي اللعين على اعتزال مهنة الطب إذا حدث مكروه لحبيبي ليوفوتشكا! هو الذي حرّضه على الفرار! وهو الآن الذي يحرمه مني، ويحرمني منه.. فتجيبها تاتيانا:
ـ أماه! إن عدم دخولك إليه قرار من الدكتور نيكيتيين! فتنظر إلى ابنتها بعينين متوسلتين:
ـ تاتيانا! أرجوك يا ابنتي اذهبي إلى غرفة ناظر محطة القطار اللعين وانظري من زجاج النافذة المطلة على غرفته، انظري إلى أبيك.. وعودي إليّ بأخباره! أهو بخير؟! هل تناول الحليب الدافئ كما تعوّد؟!.. هل يقرأ؟!.. هل يكتب؟!••.. بحق السماء!!.. بحق السماء! ليذهب أحدكم ويأتيني بأخبار ليوفوتشكا!
كان تولستوي بعد أن استرد شيئاً من قوته يرغب في رؤية صديقة تشيرتيكوف، وناشره (جوربونوف) الذي كان قد طلب إليه أن يحضره معه من قبل.. وبقي معه لحظات أراد لها تولستوي أن تطول•.. لكن الدكتور ماكوفيتسكي حذرهما من الحديث الطويل المجهد، إلا أن تولستوي تدخّل: دعهما يا ماكوفيتسكي! أريد أن أعرف! ماذا أعد جوربونوف بشأن نشر كتابي الأخير (طريق الحياة)..
ـ ليو! إنك تريد مغادرة هذا البيت أليس كذلك؟! حسناً لن يحدث هذا إذا أنهكت قواك في حديث طويل! أرجوك أن تستبقي قوتك حتى تغادر (استابوفو) في الغد إن شاء الله!!..
فيفزع تولستوي كالمذعور: أغادر؟!... إلى أين؟! إلى إيزيانا/بوليانا؟! مستحيل؟! مستحيل! بل سأعود إلى شاماردينو! كأنما فجأةً لاح له شيء:
ـ ماكو فيتسكي.. يخيل إلي أنني رأيت وجه سيدتين تنظران إلى داخل الغرفة من النافذة! من هما يا ماكوفيتسكي؟!
ـ لا أحد ينظر إلى الغرفة يا ليو..
ـ لعلها ابنتي تاتيانا؟! أو لعلها الكونتيسة زوجتي؟!
ـ أؤكد لك أن أحداً لم يقترب من النافذة! ربما تكون انعكاسات المارة في الطريق المجاور للمحطة!
ـ ربما.. ولكن.. من يدري.. قد تأتي صوفيا لتنظر من زجاج النافذة.. يجب تغطية الزجاج بستارة ثقيلة..
ـ قل لي بصدق يا ماكوفيتسكي: أين صوفيا الآن؟! فلا يجيبه..! فيواصل تولستوي حديثه: د\
ـ يجب أن تقنعوها بأن دخولها عليّ هنا يعني موتي، لن أحتمل الانفعال يا ماكوفيتسكي!!.. وأنت تعرف هذا جيداً!
رقد بعض الوقت، ثم استيقظ، ودون أن يحرك رأسه.. نادى على ساشا، التي اتخذت لها مكاناً على الأرض بالقرب من أبيها..
ـ ساشا؟! يخيل إلي أن أختك تاتيانا في الخارج!! هل جاءت إلى هنا؟! أيعني ذلك أن أمك أيضاً قد جاءت هي الأخرى؟!
ـ لم تأت غير تاتيانا يا أبتي!
ـ وهذه المخدّات الطرية تحت رأسي.. من جاء بها؟! إن عليها شارة قصري إيزيانا / بوليانا..!
ـ جاءت بها أختي بأمرٍ من والدتي!
ـ (كأنما يحدّث نفسه): الكونتيسة! كيف هي؟! ماذا تفعل؟! لا بد أنها مضطربة جداً، خاصةً إذا علمت بحالتي؟!..هل تتناول طعامها بانتظام؟!
ـ أبتي اطمئن.. أمنا بخيرّّ..
ـ (بصوتٍ باكٍ): ساشا! المهم أنها لن تحتمل رؤيتي وأنا على هذا الحال! وأنا أيضاً! قد أموت إذا بكت أمامي! تكلمي يا ساشا! أنت تعرفين أنه لا شيء أهم عندي من صوفيا!
ـ أرجوك يا أبتي! إنك تؤذي نفسك بهذه الانفعالات!!.. أمنا بخير، وهي تدرك سبب مغادرتك القصر!
يتبع ..:D
achelious
25/06/2008, 14:27
ما نشرته الصحف يكذّب كل ما قالته ساشا لأبيها عن أمها! حيث نشرت تفاصيل قصة فرار الكاتب الأشهر من مزرعته، وقصة مغادرته قرية شاماردينو في قطار محطم النوافذ! وعن إصابته بالالتهاب الرئوي الحاد! وعن أحزان الأسرة كلها! وما أصابها في هذا الحادث! وتصدرت الصفحات الأولى صورة الكونتيسة وهي تبكي، وتحت تلك الصورة وضِع عنوان: (سأتبع حبيبي ليوفوتشكا ولو إلى الجحيم! معه دائماً في الحياة وفي الممات..) وبعد أن وصلت إلى محطة استابوفو، وفودٌ من الصحف والمجلات وشركات السينما! وكانت الكاميرات كلها مركّزة على بيت أوزولين ناظر المحطة! على الأبواب والنوافذ! بانتظار اللحظة الحاسمة لخروج الكاتب الكبير!!
وصارت قرية استابوفو الصغيرة مهبط الآلاف من محبّي الكاتب الكبير! آلاف البرقيات من الروس المقيمين في مختلف عواصم أوروبا! من باريس.. من لندن.. من برلين.. من ميونيخ.. تنهال على آلة البرق الصغيرة المتهالكة على مكتب ناظر محطة استابوفو! ورغم البرد الشديد والريح المثلجة.. القارصة! توافد الفلاحون من مختلف القرى والمزارع يحملون على عربات الجر! الأغطية والبطانيات، ونصبوا خياماً في كل مكان حول بيت ناظر المحطة! قساوسة ورهبان يركعون في الطين والجليد، يصلّون من أجل كاتبهم الكبير العجوز المريض! والناس من كافة المناطق والقرى القريبة باتت ترسل مئات الأغطية ومطابخ الحساء لخدمة القادمين إلى استابوفو من مختلف الجهات. لكن اللافت للنظر أن الحكومة القيصرية لم تتحرك مع كل هذا الفيض العاطفي للشعب الروسي تجاه كاتبهم العظيم! لسببٍ واضح! لأن القيصر والقيصرة يبغضون تولستوي أشد البغض، فهو كان يطالب في كل مقالاته وكتبه و رواياته بإطلاق حرية العبادة للمسلمين الموجودين في نطاق الدولة الروسية، وخاصةً مسلمي المناطق التي احتلت بالقوة! كما كان تولستوي يسلّط في كتاباته الضوء على الظلم الذي كان يتعرض له المسلمون!
أما الإمبراطورة فإنها كانت تكره كاتب روسيا الكبير تبعاً لكراهية الأفّاق المشعوذ راسبوتين له! من هنا! لم نجد الحكومة القيصرية قد تحركت فيما يجري في تلك القرية التي يرقد فيها ليو تولستوي، اللهم إلا تلك البرقية التي أرسلها وزير الداخلية إلى عمدة استابوفو وجاء فيها:
«اتخذ إجراءات مناسبة في القرية والقرى المجاورة بالتنسيق مع من سنرسل من ضباط الوزارة! تحسباً للمظاهرات التي قد يقودها الفلاحون والأجراء أنصار تولستوي والداعون مثله إلى توزيع أراضي النبلاء على الفلاحين والعاملين فيها! اقبضوا فوراً على أية عناصر شغب!». والرجل المريض لاهٍ عن كل هذا الذي يدور خارج غرفته! تدور أفكاره كلها حول هموم مرضه، والهموم الأدبية! فيكتب بيدٍ مرتجفة:
«تركت لصديقي تشيرتيكوف الإشراف على نشر كتابي الأخير (طريق الحياة).. لاتزال فكرة روايتي الجديدة عن الشباب غير مكتملة في رأسي! قضيت ليلةً سيئة أمس! هاأنذا منذ ثلاثة أيام والحمّى تفتك بي! تفترسني افتراساً! أعتقد أن صوفيا وأولادي جميعاً قد جاءوا إلى قرية استابوفو، وإن كان الجميع يخفون عني ذلك.. لا أستطيع أن أكتب أكثر من هذا! فالقلم يرتعد في يدي من فرط إحساسي بالحرارة!»
في اليوم الرابع.. أسفرت النهاية الحتمية عن وجهها! وهذا آخر ما كتبه تولستوي في كراسته:
أليس هكذا يموت الفلاح الروسي؟! وشرع يهذي.. حين أمسك الدكتور ماكوفيتسكي بيده، قال له هامساً:
يا صديقي.. أعتقد أنني سأموت..؟! وهذا أمر طبيعي.. ولكن من يدري.. لعل الموت شيء غير هذا الذي أشعر به يقترب مني.. ثم أخذ يهذي.. ابحث! ابحث! هذا ما يجب أن يفعله كل إنسان عاقل.. أن يبحث، ويفكّر.. ابحث دائماً يا دكتور ماكوفيتسكي! حينما علمت صوفيا أنه بدأ يهذي! غادرت عربة القطار! وهي في حالةٍ أشبه ما تكون بالجنون! فمنعوها من الدخول إليه، فأسرعت إلى النافذة المجاورة للسور! فرأته من خلال الزجاج.. راقداً ووجهه إلى سقف الغرفة! طرقت الزجاج بأصابعها في عصبية! فلم يتحرك! أسرع ماكوفيتسكي وأرخى الستارة من الداخل، فشرعت تصرخ مناديةً! ليوفوتشكا.. ليوفوتشكا.. ليوفوتشكا! فهرع أبناؤها إليها وحملوها بعيداً عن البيت! التقط المصورون ورجال السينما صوراً كثيرة لها وهي تصبّ اللعنات عليهم! أعادوها إلى عربة القطار!!.. التي كانت محاطة بالكثير من رجال الصحافة والإعلام! ممن امتلأت بهم الطرق والحقول القريبة من المحطة، وعلى طول الشريط الحديدي الذي افترشه الفلاحون! الصحفيون يتشممون الأخبار عن صحة الكاتب الكبير، ويترقبون لحظات موته! شائعات كثيرة عن مظاهرات قامت في القرى المجاورة، وعن إطلاق النار على المتظاهرين من قبل الشرطة! المئات من رجال المخابرات القيصرية يندسون وسط الجموع! برقياتٌ مشبوهة تصل إلى جهاز البرق في المحطة! كُتب في بعضها التالي:
ـ اطلبوا إلى تولستوي أن يتوب عن أخطائه..
ـ تُب إلى خالقك يا تولستوي! قبل أن تمثل أمام المحكمة الربانية!
والعشرات من هذه النماذج التي ثبت فيما بعد أنها قد أُرسلت من عملاء القيصر! ولم يجسر أحد على ذكرها أمام الرجل المسجّى في غرفة الموت! في صباح اليوم التالي يقدم إلى استابوفو الأب (فارسونوفي) رئيس القساوسة، ومعه تكليف من القيصر بالدخول إلى الكونت ليتلقى اعترافاته في ساعاته الأخيرة! وما أن سمعت صوفيا بذلك حتى تركت مقصورتها متجهةً نحو مكتب ناظر المحطة! لن أسمح لأحد أن يدخل على زوجي ليزوّر عنه فيما بعد ما لم يقُل.. اطردوا هذا القسيس من (استابوفو).. ولولا حماية الشرطة القيصرية، لما نجا القسيس القيصري من الشنق بأيدي الفلاحين على شجرة من أشجار الطريق، لكن محافظ منطقة تولا جاء محاطاً بحماية الشرطة ومعه القسيس الذي طلب أن يدخل ليتلقى اعترافات تولستوي قبل موته. لكن ساشا خرجت بكراسة أبيها وهي تصيح في وجه الجميع:
«اللعنة على من يريد أن يرغم أبي على ما لا يريد•• إليك أيها المحافظ ما كتب أبي عن ذلك حين اشتد به المرض.. واسمع أنت أيها القس المأجور•• اسمعوا ماذا كتب أبي لتريحوا أنفسكم من تلقي اعترافاته.. ثم أخذت تقرأ أمام الحشود التي صمتت احتراماً لكلمات الكاتب الكبير..
«حين يحوم الموت حول رأسي فلا أريد أن يقتحم لقائي مع ربي أحدٌ من رجال الدين... أريد أن أقترب من خالقي في فيضٍ من نور المحبة.. وليس مع ثرثرة كهنوتية... ثم رفعت رأسها من على الكراسة وقالت: أسمعت أيها المحافظ؟! أسمعت أيها القس المأجور؟! والآن عودا من حيث جئتما قبل أن يندم من أرسلكما بسبب ما سيحدث في هذه القرية من مذابح...! في الحادية عشرة مساءً، ظن من حول سرير تولستوي! أن الحياة قد فارقت الجسد!!.. ولكنه تحرك قرب الفجر!!.. سمعته ابنته يهمس:
ـ ساشا.. الآن أود أن تكون صوفيا بجانبي..
هرعت ساشا لأمها:
ـ أماه أرجوك لا تبكي أمامه.. لقد كان يهذي باسمك بأرق صوت سمعته من أبي.. كان مغمض العينين! ما أن شعر بوجودها.. حتى علت البسمة وجهه!!.. مدّ يده نحوها! أسرعت تجثو إلى جانب فراشه! قبّلت يده.. لثمتها! أغرقتها بالدموع الصامتة! أخذت تناغيه.. وتناديه..
ـ حبيبي! ليو تولستوي.. ليوفوتشكا! أحبك! أحست فجأةً ببرودة الموت في اليد المحبوبة!
وإذا بساشا وفي صوتها ضراعة باكية:
ـ أماه.. إن أبي..الآن مع خالقه..
لم تعلم الجموع في استابوفو بموت الكاتب الكبير إلا حين أرسل الدكتور ماكوفيستكي بأوامر أوصاه بها الكونت بنصّ البرقية التالية: «إلى مزرعة تولستوي في إيزيانا/ بوليانا أرسلوا صندوقاً لامعاً من خشب الجوز، مبطناً بالزنك وبمقابض من الفضة الخالصة..».
وكتبت صوفيا أندريفنا في كراستها: في السابع من نوفمبر مات حبيبي ليو تولستوي، في السادسة صباحاً! لن أنسى لهم أبداً أنهم أدخلوني عليه في اللحظة الأخيرة! بينما كان يجب أن أكون معه قبلها بأربعة أيام! يا لهم من قساة! غلاظ القلوب!
achelious
25/06/2008, 15:00
جنازة الراحل العظيم:
كانت جنازة ليو تولستوي في استابوفو حدثاً قد جعل من تلك القرية الصغيرة المنسية تغدو واحدةً من أشهر القرى الروسية بعد أن كانت لا يعرفها أحد على خارطة روسيا.
تأثير الأديب العملاق ليو تولستوي في الأداب العالمية، لهو تأثير كبير، إنه عالمي الاتجاه! إنساني النزعة! فبينما تقوقع ديستوفسكي، وبوشكين، وتورجنيف، وجوجول في التركيز على الحياة الروسية!لم يشغلوا أنفسهم بالحياة خارجها، كان تولستوي يقول في روايته (الحرب والسلام): «إن من لا يشغل نفسه بحال البشر في كل أنحاء العالم، ويحصر فكره في بلده، لا يعتبر منتمياً انتماءً حقيقاً للمجموعة البشرية!! إن مشكلات روسيا الاجتماعية في الريف تمثلها قرية واحدة! كما تمثلها في الحضر مدينةٌ واحدة! فماذا عن العالم الخارجي كله؟! ماذا عن آسيا؟! وماذا عن أفريقيا؟! ماذا عن جزر المحيطات؟! نحن نعرف المسيحية ونتعايش مع رجالها ليل نهار، ولكن ما أقل ما نعرفه عن الإسلام والبوذية وغيرهما من العبادات الأخرى!!..
هذه الفقرة على وجه التحديد في حوار أبطاله في روايته الشهيرة (الحرب والسلام) استثارت حفيظة القيصر الروسي. فتولستوي أول كاتب يتعرض لإنصاف المسلمين ممن يقعون تحت حكم الهيمنة الروسية، ولهذا فقد رفض القيصر نقولا الثاني وزوجته القيصرة ـ التي تؤمن بشعوذة راسبوتين- رفضا أن يرسلا مندوباً عنهما أو عن الحكومة القيصرية للاشتراك في جنازة أكبر كاتب روائي عرفته الإنسانية، وواحد من كبار محاربي التفرقة العنصرية بسبب الأديان أو الأعراق.. أجل رفض القيصر والقيصرة الاشتراك مع الشعب الروسي، بل مع شعوب كثيرة أخرى في تكريم ذكرى الكاتب العالمي، وكان تولستوي وهو في رقدته الأخيرة، يدرك أن هذا ما سوف يحدث! فقال همساً لطبيبه وصديقه ماكوفيتسكي: «احذروا أن يجركم راسبوتين بأمر من القيصر إلى المحاكم الجنائية بانتقاد أي تصرفٍ تجاه جثماني..». لأنه كان يتوقع أن زوجته الكونتيسة صوفيا ستوجه نقداً جارحاً بأسلوبها العنيف للإجراءات التي قد تلجأ إليها الحكومة القيصرية في تشييع جنازته، لأنها تبغض القيصرة وتنتقدها دائماً بسبب علاقاتها المخزية براسبوتين، وكانت انتقاداتها هذه تُنقل إلى القصر الإمبراطوري الذي لم يكن ينظر إلى تصرفات تولستوي في توزيع أملاكه على الفلاحين إلا بعين السخط وعدم الرضا! وملاحظة تولستوي تلك قبل وفاته، لأنه كان يدرك أن راسبوتين يحقد عليه بسبب إشاراته الصريحة إلى شعوذته ودجله، وعبثه في القصر الإمبراطوري، وهذا الذي دفع راسبوتين يوماً لأن يقترح على القيصر تجريد ليو تولستوي من كل أملاكه ومزارعه ووضع اليد على إيزيانا/ بوليانا.
ولكن كانت جنازة تولستوي من استابوفو في السابع من نوفمبر عام 1910 قد تركت بعدها أحداثاً جساماً،
كانت أحد الأسباب المباشرة لانقضاء أجل القيصرية في روسيا التي انتهت بعد ستة أعوام من جنازة تولستوي في7 1/1/1917
هذه الحلقات أوردها الكاتب / نجم عبد الكريم و نقلتها ايلاف ..:D
achelious
25/06/2008, 15:35
أعماله..
التحق تولستوي بجامعة كازان {University of Kazan} . إلا أنه سرعان ما ضَجِر من الطريقة، التي يشرح بها أساتذته الموضوعات العلميةفترك الدراسة، قبل أن يتخرج، وعاد إلى مسقط رأسه عام 1847. وبدأ تولستوي يعلم نفسه بنفسه. فصار يقضي الساعات الطوال، ينهل من مصادر العلم والمعرفة.
وعن هذه الفترة من حياته، كتب تولستوي ثلاث روايات هي: الطفولة {Childhood}،والصبا {Boyhood}، والشباب {Youth}.
::
وفي عام 1853، وعمره خمسة وعشرون عاماً، تطوع تولستوي في الجيش الروسي، العامل في منطقة القوقاز واشترك في حرب القرم، في الفترة ما بين عامي 1853 و1856. وأظهر تولستوى شجاعة فائقة في معركة عرفت باسم معركة "سيفا ستوبول" (Battle of Sevastopol).
وأثرت فيه حياة شعوب القفقاس وكتب عن تجاربه تلك موضوعات نُشرت في الصحف، وألَّف عنها كتابه القوزاك) 1863 م الذي يحتوي على عدة قصص.
واصفاً فيها تجربته أثناء المعارك الحربية. وفي القصة، يُكنُّ الأرستقراطي المهذب، أوليفيه (Olevia)، وهو الشخصية المحورية في القصة، كل الإعجاب لحياة الحرية والتوحش التي تحياها قبائل القوزاق (Cossaks).
وتعد رواية "الحرب والسلام" {War & Peaceمن أشهر أعمال تولستوي، ويتناول هذا الكتاب مراحل الحياة المختلفة، كما يصف الحوادث السياسية والعسكرية التي حدثت في أوروبا في الفترة مابين 1805 و1820م. وتناول غزو نابليون لروسيا عام 1812م.وقد نشرت كاملة، في شكلها النهائي، عام 1869.وهي تحكي التسلسل التاريخي لحياة خمس أسر روسية ، تمر بخضم التجارب الإنسانيةومراحل الحياة المختلفة، التي طالما استهوت تولستوي، وهي:
الولادة، والنمو، والنضج،والزواج، وإنجاب الأطفال، وتقدم العمر حتى الكهولة، وأخيراً الموت.
::
ثم نُشرت التحفة الثانية رواية "آنا كارنينا"{Anna Karenina} مسلسلة من عام 1875 إلى عام 1877. وتدور الرواية حول خيانة أميرة روسية "آنا" لزوجها "كارنين".
وتتأمل الرواية، العلاقة الرومانسية بين آنا والكونت فيرونسكي {Vronsky}
وتأتي نهاية الرواية بانتحار البطلة، نتيجة الصعوبات الكبيرة، التي واجهت ارتباطها بمن أحبت.
ولكن رواية آنا كارنينا، لم تكن فقط قصة حب، تحوي عناصر مأساويةبل كانت سرداً لأغوار القضايا الاجتماعية والفلسفية والأخلاقية لروسيا القيصرية، وطبقتها الأرستقراطية.
وتُطرح الرواية عدداً من هذه القضايا من خلال أفكار وأفعال ليفين {Levin}
وهو الشخصية المحورية الثانية في الرواية، والذي يعبر، في الوقت ذاته، عن أفكار وآراء تولستوي.
::
وفي عام 1898، كتب تولستوي "ما هو الفن؟ {What is Art}
وفي هذا الكتاب، وضع نظرية الفنللحياة"، التي تضفي على الفن بعداً دينياً أو أخلاقياً أو اجتماعياً. وبهذه المعايير، حكم تولستوي، بنفسه، على معظم أعماله الأولىبأنها "فن أرستقراطي"، كتبت بغير غرض، وبأنها كانت بعيدة عن إدراك وفهم، الإنسان البسيط.
::
ثم بدأ تولستوى في كتابة أعمال روائية جديدة، تناولت معنى الحياة.
وفيها، كان أبطاله من الفقراء البسطاء، بدلاً من النبلاء والأمراء، الذين طالما كتب عنهم من قبل.
ففي عام 1886، نشر تولستوى قصة بعنوان "وفاة إيفان أليش" {The Death of Ivan Ilyich}
وفيها حكى قصة فلاح فقير، سقط فريسة لمرض مميت، وبينما هو في سكرات الموت..بدأ يستعرض حياته، وكم كانت فارغة من الأعمال الجيدة.
::
وتأتي رواية "البعث" (Resurrection)، كأعظم أعمال وإنجازات الفترة الأخيرة من حياة تولستويوهي قصة امرأة أُخذت بجريمة لم ترتكبها، ورجل نبيل ينشد التكفير عن خطاياه.
::وتأتي بعدها رواية "الشيطان1889" (Devil)، وهي تركز على الحب والغيرة.
كربوتزسوناتا 1891
::
ورواية "الحاج مراد" (Hadji Murad)، التي نشرت بعد موت تولستويوهي تحكي قصة زعيم إحدى القبائل في جبال القوقاز.
وفي هذه الرواية يسطع نجم تولستوي، مرة أخرى بوصفة محللاً نفسياً قديراً.
(يتبع..:D
تسجيــــل متابعة
شكراً achelious:D
اسبيرانزا
26/06/2008, 16:08
هذه الحلقات أوردها الكاتب / نجم عبد الكريم و نقلتها ايلاف ..:D
كثير اسلوبو ادبى ومشوق فى عرض الحلقات
بشكرك ايسيليوس على هذا الموضوع الرائع
achelious
26/06/2008, 22:15
(////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////) اعتراف ليو تولستوي ..
كُتب قبل حوالي مائة عام لكنه كتاب للمستقبل
هذا كتاب له خصوصيته التي لا تقارن بأي من كتابات تولستوي الأخرى على عظمتها. لم يأخذ هذا الكتاب -ضمن كتابات تولستوي الدينية - ما يستحقه من شهرة مثل أعماله الأدبية لا لأنه أقل قيمة بل لأنه وهذه الكتب يحوي مفاهيم ومعرفة روحية عالية القيمة لم يمكن أن تقدر في الوقت الذي كتبها فيه وهو أواخر القرن التاسع عشر ولا على مدى القرن العشرين كله، حيث سواد المادية لا يعطي الفرصة لفهم هذا الكتاب وتقديره إلا بين القليلين في عصره ممن يقدرون التجربة الروحية.
اخترنا كتاب اعتراف الذي كتب قبل حوالي مائة عام لأننا ندرك أن قيمته ستظهر أكثر في المستقبل القريب، حيث أن العالم بدأ عصرا جديدا يبحث فيه الإنسان عن معناه ك"روح" .. كتاب اعتراف لتولستوي كتاب للمستقبل وليس من الماضي .. وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة فليس هناك في الكتابات الروحية الأصيلة ماض ولا مستقبل .. إنما هناك حقيقة يكتشفها الباحث عن الحقيقة .. حقيقة قبل وبعد الزمان والمكان .. وفوق أي لغة أو جنس أو ظاهر دين .. حقيقة الإنسان.
نشأ الفتى الصغير في بيئة مسيحية متدينة وكان يتلقى دروسه الدينية في مدرسته ويقوم بطقوسها في استسلام. في سن 18 بدأ يشعر بأن إشارات الصليب التي يؤديها وانحناءات الركبة تعبدا واحتراما في صلاته ليس لها أي مدلول عنده وأنه غير قادر على الاستمرار في "الكذب" فتوقف عن أدائها تماما. لكن - كما يقول-"كان داخلي شعور ما بأني أؤمن بشئ ما، أؤمن بإله أو بمعنى آخر لا أنكر وجوده، ولكن أي إ له؟ لم أكن أدرك على وجه التحديد. أذكر أيضا أني لم أكن أنكر تعاليم المسيح؟ لكن ماذا كانت تعني لي هذه التعاليم وقتها؟ لا أستطيع أن أعرف تماما.".
ينطلق الشاب ينشد الكمال والاكتمال في كل شئ، في علومه، في المعرفة العامة، في صحته ولياقته البدنية، ومع هذا كله وفوقه ينشد "الكمال الأخلاقي" .. فماذا يجد؟ يقول في اعترافه: "كلما حاولت أن أعبر عن رغبتي العميقة وطموحاتي الأخلاقية، كنت أّقابل ممن حولي بالازدراء والاحتقار، وبمجرد ما أسلم نفسي للرغبات الوضيعة أّقابل بالمدح والتشجيع".
وبدأ الشاب الصغير يستبدل طموحاته الأخلاقية بطموحات أخرى يقرها المجتمع. يعبر هو عن هذا المجتمع الذي نشأ فيه بقوله إنه مجتمع يعتبر أن " الطموح، شهوة القوة، المصلحة الذاتية، الانغماس في الشهوات، التكبر، الغضب، الانتقام" هي الصفات التي يجب أن تحترم. صار طموحه الأساسي أن يكون أكثر شهرة وأكثر أهمية وأكثر ثراء من أي إنسان آخر حتى لو كان ذلك -كما يقول- من خلال ارتكاب أي خطأ أخلاقي.
ويبدأ تولستوي في سن 26 الاختلاط مع طبقة الكتاب والشعراء والمثقفين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم هم رواد "التعليم" في ذلك الزمن-النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث أصبح "التطور" أو "التقدم" هو الدين الجديد للمجتمع. ويتذكر تولستوي هذه الفترة قائلا: كنا نتحدث جميعا في وقت واحد ولا يستمع أحد للآخر.. أحيانا يمتدح واحد منا صاحبه انتظارا لمدحه في المقابل وأحيانا تتعالى صرخات الاعتراض فيما بيننا كما لو كنا في مستشفى للأمراض العقلية.
في إحدى رحلاته لباريس يرى شبابا تجتث رؤؤسهم من قبل السلطة بحجة أنهم من أعداء "التقدم" .. المشهد يحرك أعماقه فيقول في نفسه: "لو كان كل الناس منذ بدأ الخليقة وحتى الآن تحت أي مزاعم يقتنعون بأن مثل هذا العمل ضروري فأنا أعرف تماما أنه ليس ضروريا وأنه خاطئ. من هنا فالحكم على أي شئ بأنه ضروري وصواب يجب ألا يأتي من أي مصدر خارجي مهما كان ولو كان هذا يتعلق ب "التقدم" ،لكن يجب أن ينبع مما تستشعره الروح ". في موقف آخر يموت أخوه الأكبر بعد معاناة مع المرض فيقول تولستوي في نفسه وهو يعتصره الحزن: "مات دون أن يفهم لماذا كان يعيش أو لماذا مات". لكن الأمر كله عند تولستوي كان لا يزال مرهونا بما سيأتي به "التطور" فيقول: ما لا أفهمه الآن سأفهمه غدا من خلال التطور.
بعد هذين الموقفين يشعر بأن هناك سؤالا في أعماقه عن المعنى الحقيقي للحياة يؤرقه، وهو لا يملك إزاءه إلا الهروب بالانغماس في العمل. كان في بداية الثلاثينات من عمره ففكر أن تكوين أسرة قد يهدئ من نفسه هذه المؤرقة بلا سبب معروف. وتمضي الحياة به مع زوجة حبيبة وأطفال رائعين لمدة خمسة عشر عاما يضع فيها الأولوية القصوى والهدف من الحياة : توفير أفضل حياة لهذه الأسرة.
وفي وقت كان فيه تولستوي يتمتع بكل ما يمكن أن يرنو إليه إنسان في حياته المادية تحدث له أشياء غريبة -من وجهة نظره في ذلك الوقت. كان في بداية العقد الخامس من عمره ..يتمتع بصحة ممتازة.. يلقى شهرة ونجاحا فائقا.. لديه أموال وأموال..حياة أسرية ناجحة بكل المقاييس .. فيفاجئه سؤال من الداخل "وماذا بعد؟" ..يهرب من السؤال ويقول لنفسه: حين أفرغ من هذا العمل سأفكر في إجابة.. لكن السؤال لا يبقى مجرد سؤال أو خاطر عابر ..إنه يأخذه إلى حالة نفسية من الاكتئاب والرغبة في الانعزال.. إنه يفرض نفسه عليه وهو يعمل أي شئ قائلا: "حسن سيكون عندك 6000 فدانا في أرقى منطقة و300 حصان وماذا بعد؟" " حسن ستكون أكثر شهرة من جوجال وبوشكين وشكسبير وموليير بل وكل كتاب العالم وماذا بعد؟"
تبدأ مرحلة في حياة تولستوي أقل ما يقال فيها أنها عذاب متواصل .. عدم قدرة على الحياة بسبب الإحساس بأن أي سعادة أو تعاسة في هذه الحياة ما هي إلا خدعة كبيرة ..والسؤال بداخله عن معنى أعمق وأدوم لا يفارق كيانه .. فلا هو يستطيع أن يتجاهله.. ولا هو قادر على مواصلة الحياة كما كانت باستبعاده ولا هو قادر على الإجابة عليه. "ما نتيجة أي فعل أقوم به اليوم أو غدا؟ ما هي نتيجة حياتي كلها؟ هل هناك أي معنى للحياة سيبقى ولا يفنى بقدوم الموت المحقق الذي ينتظرني؟" يعبر عن هذا بقوله: "بحثت عن إجابة لأسئلتي في كل فروع المعرفة التي اكتشفها البشر. بحثت لفترة طويلة وبكد عظيم. لم أبحث بقلب فاتر أو لمجرد حب الاستطلاع ولكن كنت أبحث وأنا يشملني العذاب ولايفارقني الإصرار ليل نهار كإنسان يحتضر ويبحث عن أي مخرج للنجاة. لكني لم أجد شيئا". هنا يلخص تولستوي إجابات العلم عن ظاهرة الحياة وهي أنها تصف هذه الظاهرة وتصف ظاهرة توقف الحياة من خلال توقف أجهزة الإنسان جميعا ومعها تختفي من هذه الحياة تساؤلاته وكل ما كان العقل يفكر فيه. أما الفلسفة- كما يقول- فإنها تقول إن الوجود كله هو وجود مطلق ولا يمكن الإحاطة به والإنسان نفسه هو جزء غامض من هذا الوجود الغامض.
لكن شيئا من هذه العلوم لا يعطي إجابة عن تساؤلاته: ما معنى الحياة؟ وما الذي لا ينتهي بقدوم الموت؟ "فلأحاول أن أجد الإجابة من الناس حولي طالما أني لم أجدها في الكتب" هكذا قال تولستوي لنفسه بعد ثلاث سنوات متواصلة من القراءة الدؤوب في كل العلوم .. ليست مجرد قراءة.. كان كصريع من الظمأ يبحث عن نقطة ماء وسط الصحراء. بنفس الروح التفت إلى الناس.. علّه يجد دليلا.. فوجد معظم الناس في حالة من "الهروب" من الإجابة عن السؤال عن معنى الحياة وهم حسب تصنيفه ينقسمون إلى أربعة أنواع.. الأول يهرب من خلال الاكتفاء بالجهل ولا يسعى للمعرفة، النوع الثاني يهرب من خلال منهج في الحياة يجعل الهدف منها هو اللذة Epicurianism ، النوع الثالث يتسم-كما يقول- بالشجاعة والقوة لأنه يعرف أن الحياة كلها شر ولا طائل من ورائها فيرفضها ويقدم على التخلص منها، أما الصنف الرابع فهو "ضعيف" لأنه يعرف أن الحياة كلها "عبث وعدم" ورغم ذلك فإنه يفتقد الشجاعة للتخلص منها. تولستوي صنّف نفسه في النوع الرابع لأنه يتعذب ولا يجد معنى للحياة لكنه أيضا لا ينتحر. في هذا الوقت من تجربته كان تولستوي لا يعرف حتى لماذا لا يقدم على الانتحار.. رغم أن الفكرة راودته كثيرا، وكان كل العذاب واليأس داخله يدفعه لأن يمسك بحبل ليخنق نفسه أو يمسك مسدسه ويطلق رصاصة واحدة فينهي بها عذابه.. فكان يتجنب التواجد مع "حبل أو مسدس" في أي مكان
تحوّل تولستوي من البحث في الكتب، ومن البحث بين أفراد طبقته، إلى العامة، لمس شيئا بينهم ما أشعره بأنهم يعيشون معنى الحياة حتى لو كانوا غير قادرين على التعبير عن هذا المعنى، يكفي أنهم سعداء راضين بالحياة رغم أنهم ينقصهم الكثير من رفاهية الماديات التي تتمتع بها طبقة المثقفين والأثرياء، وهم لا يرفضون الحياة ولا يرونها عبثا مثل الطبقات التي يعيش بينها. شعر تولستوي بالراحة للعيش وسط هؤلاء البسطاء. لكنه كان يشعر بأن هناك نوعا من المعرفة يحتاج إليه ولم يجده بعد.
من هنا بدأت مرحلة جديدة في حياته وجد فيها شيئا كان بمثابة اكتشاف عظيم .. أيقن أن الإجابة عن تساؤله الأساسي: ماهو المعنى الذي لا يحطمه الموت؟ لا يمكن أن توجد إلا في "العقيدة": المعنى الذي لا يموت هو توحد الإنسان مع مالا يموت .. مع الله. بعقله .. بفهمه .. أدرك تولستوي الآن بل أيقن أن هناك نوعا من المعرفة تختلف عن "معرفة العقل" أو الذهن .. لأن معرفة العقل تتعامل مع كل ما هو مؤقت .. وهي مصدر الحقيقة عن كل ما هو مؤقت .. لكنها لا يمكن أن تكون مصدرا للمعرفة عما هو خالد .. عما لا ينتهي بالموت ..
هنا يقول تولستوي: "إذا غاب عن الإنسان الفهم والبصيرة بأن كل ما هو مؤقت ليس إلا نوعا من الوهم، فإنه لن يؤمن إلا بما هو مؤقت، أما إذا رأى ببصيرته أن كل ما هو موقوت ليس إلا وهم فحينئذ سيؤمن بما هو باقي ودائم" .
بهذا اليقين انطلق يبحث في المعرفة الدينية المسيحية من خلال من حوله من رجال الدين، كان يسألهم عن إجابة لمعنى الحياة كما يعيشونها .. لكن لأن الأمر بالنسبة له لم يكن مجرد "كلام" أو "أشكال" فإن شيئا جوهريا جعل تولستوي يدرك أن نوع العقيدة والمعرفة التي يريد أن يحياها لا توجد عند هؤلاء فهم-كما رآهم لا يعيشون حياة يطبقون فيها ما يقولونه .. إنهم مثل كل من لا عقيدة لهم بل ربما أكثر حرصا على حياة المادة والثراء والشهوات وربما السلوك اللاأخلاقي. وهنا يخبو عند تولستوي الأمل الذي كان ولد داخله بأنه على وشك أن يجد إجابة لتساؤلاته .. بل حيرته .. بل بحثه بالروح والعقل والقلب والجوارح .. ليس بحثا عن إجابة سؤال بل بحث عن الحياة نفسها.
ماذا يفعل الآن وقد طرق كل الأبواب بشدة ولم يفتح له؟ مرحلة جديدة من العذاب .. استنفذ كل ما يستطيع أن يفعله بنفسه .. فإذا به يدعو الله، "أدعو من أبحث عنه علّه يساعدني. وكلما دعوته كلما بدا لي أنه لا يسمعني. ولا يوجد من ألجأ إليه أبدا". "وبقلب ملئ بالحزن توجهت من جديد أصرخ: يا إلهي! رحمتك! انقذني! أرني الطريق" .. بدا له أيضا أنه ليس هناك من مجيب وأن الحياة به قد وصلت إلى نهايتها.. وفي قمة اليأس يتطرق إلى ذهنه خاطر جديد: " إن المفهوم عن الله ليس هو الله " "أنا أبحث عن الله الذي بدون وجوده لا توجد حياة .. ها هو .. الله .. هو الحياة .. أن أعرف الله وأن أحيا هو معنى واحد ..الله هو معنى الحياة" "وبأقوى من أي لحظة أخرى في حياتي أشرق كل شئ داخلي ومن حولي بالنور .. ولم يفارقني هذا النور أبدا."
كانت هذه لحظة رائعة وفاصلة في حياة تولستوي .. لحظة ميلاد حقي سبقتها آلام وآلام .. آلام المخاض .. كل لحظة منها كان يشعر بعقله الإنساني أنها تأخذه إلى مرحلة جديدة من اليأس والضياع .. وكانت في الواقع تقربه من لحظة الميلاد العظيم. وتبدأ رحلة جديدة لكشف رقائق أخرى من الزيف كانت تحيط بأشياء كثيرة حوله.. ومثل كل مرحلة في حياته يقتحم تولستوي دائرة المعرفة بحب وصدق وإخلاص.. وبنفس القوة يكتشف بنفسه ما هو حق وما هو زيف.
بكل الحب والنور وعنفوان الحياة الحقة المتدفقة يريد تولستوي أن تكون حياته كلها تعبيرا عن عقيدته .. وأول أساسيات العقيدة أن يكون في طلب لمدد من الحياة من أصل الحياة وذلك من خلال إقامة الصلاة .. فيذهب إلى الكنيسة بروح الحب والرغبة في الالتزام والاحترام لتعاليم الدين المسيحي .. لكنه يجد أشياء كثيرة في الطقوس لا يعرف لها معنى .. فيحاول هو بنقائه أن يضفي عليها معنى ومفهوما من داخله .. لكن الوقت يمضي به وهو داخله إحساس بأن هذه التعاليم يختلط فيها "الحق" بال"زيف" .. كيف يجد الخط الفاصل بينهما؟ لا أحد يستطيع أن يدله .. المفهوم الشائع هو إضفاء القدسية على الكنيسة ويبررون ذلك بأنهم يعتبرونها رمزا "للتجمع بالحب" .. لكنه ها هو يرى الطوائف المختلفة تتهم بعضها بعضا بالكفر ..فأين هو هذا الحب؟ وحين يسأل أحد عن معنى من معاني الطقوس يقال له أن الطاعة واجبة سواء أفهم أم لم يفهم. إجابة لم يسترح لها تولستوي وشعر أنه يكذب على نفسه إذا ما استمر في فعل أشياء حاول بكل طاقته أن يجد لها معنى فلم يجد. وبدأ رحلة جديدة يقرأ فيها الانجيل ويحاول أن يفهمه بنفسه. وكلما قرأ وبحث اكتشف أن هناك طبقات وطبقات من "الدين الخاطئ" الذي يروج له رجال الدين والذي يفرضون فيه سلطاتهم على الناس دون أن يكون لما يقولون سند حقيقي من تعاليم المسيح0 المنهج الذي اتبعه استطاع به فصل الغث عن الثمين في كل شئ حوله .. في نفسه أولا .. في مصادر المعرفة .. فيما يقول ويفعل الناس.
منهجه يبرز فيه نقاء القلب فلم يستطع أبدا أن يكون منافقا أو كاذبا فيما يعتقد .. حتى حين أخذته ثقافة المجتمع حوله وبريقها إلى طبقة من زيف الشهرة والمال فإن صوت الداخل أخذه إلى الحقيقة،
ومنهجه يحترم العقل ولا يقبل ما لا يقبله عقله،فينقذه صوت الداخل أيضا من أن يكون سجين "معرفة العقل" وحدها ..بل يفتح له مصدرا لمعرفة أخرى هي معرفة الروح التي تعلو معرفة العقل ولكن لا تتناقض معها.
ومنهجه العمل فلم يتخاذل عن البحث والكد والجهد.
كانت ثمار تجربته أن كل ما تعلمه حتى من قبل ميلاده الحقي ترجمه في النصف الأخير إلى سلوك يعبر فعلا عن معنى الحياة .. فبأمواله ساعد الكثيرين والكثيرين من الفقراء .. وبعقله ما تحولت العقيدة عنده إلى شئ ينافي العقل بل هو يؤكد على أنه من الدين القويم أن يلحق الإنسان بكل علوم عصره .. وبقدرته الأدبية ترك كتابات دينية يفيد منها أي إنسان يريد أن يفرق بين الحق والزيف.
ومن أهم ما يقدمهاعتراف تولستوي أن:
الحياة الروحية تُعاش لا تلقن.
وكسب الحياة يكون بخدمة الناس لا باعتزالهم.
وفهم الكتاب المقدس هو بحرية العقل ونقاء القلب لا بالترديد.
:D
achelious
26/06/2008, 22:25
قبل أن نتابع تحليل بعض أعماله الأدبية سوف نذكر بعض أقواله عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
في كتابه ( حكم محمد ) يقول تولستوي :
"إن حياة محمد وقوة تأمله وتفكيره وجهاده ووثبته على خرافات أمته وجاهلية شعبه وشهامته وجرأته وثباته على الدعوة ثلاثة عشر عاما في وسط أعدائه وتقبله سخرية الساخرين وحميته في نشر رسالته وإيمانه بالفوز والنجاح ونجاح دينه بعد موته ، كل ذلك أدلة على أنه كان يعيش على الحق ولم يكن يعيش على باطل 0"
( إنّ محمداً نبي الإسلام الذي آمن به الآن أكثر من مائتي مليون نفس ، قد قام بعمل عظيم جدّاً .. إنّه هدى الوثنيين الذين قضوا حياتهم بالحروب الأهليّة وسفك الدماء وتقديم الضحايا البشريّة ، إلى معرفة الإله الواحد وأنار أبصارهم بنور الإيمان وأعلن أنّ جميع الناس متساوون أمام الله .
والحقّ الذي لا مراء فيه ، أنّ محمداً قام بعمل رائع وثورة كبيرة في العالم ) .
( من أراد أن يتحقق ممّا عليه الدين الإسلامي من يسر وتساهل ، فعليه أن يطالع القرآن بإمعان . ذلك الكتاب ، الذي أتى به محمد وقد جاءت فيه آيات تدلّ على روح الإسلام العالية فيها .. ومن هذه الآيات : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء ، فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ، وكنتم على شفا حفرةمن النّار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون )
"يكفي محمداً فخراً أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة."
(يتبع..:D
achelious
27/06/2008, 16:30
الحرب والسلام
إنها ملحمة كبيرة تتمحور حول غزو نابليون لروسيا العام 1812 وتعد خير مثالا لرؤية صاحبها أن التاريخ يسعى نحو غايته بعناد مع ظهور الإنسان كأداة طارئة لعملية تاريخية معينة ورغم صعوبة قبول الانحياز إلى محصلة فلسفة التاريخ اليوم باعتبارها احد موضوعات " الحرب والسلام" أعظم إنتاج تولستوي الاانها تضيف عمقا ورؤية إلى السردية الممتعة التي تنثر تفاعلا تاريخيا واجتماعيا وشخصيا.
تعج الرواية بما يفوق الخمسمائة شخصية يتم عرض وتقديم وتحريك كل منها على حدة!!الأمر الذي أمكن عرض لوحة ملونة متكاملة للمجتمع الروسي في زمن خارجي امتد من 1805 إلى 1820 شملت الأباطرة ووزرائهم وضباطهم الكبار إلى جانب أعداد لا تحصى من صغار الضباط والجنود والنبلاء والفلاحين الفقراء.
يمثل المشهد الافتتاحي سهرة بموسكو يدور جل حديثها حول الإعلان الأخير بنابليون إمبراطورا على فرنسا ثم يتلوه انتقالا طويلا يجرى خلاله تقديم الشخصيات الرئيسة الثلاث الشابة البريئة " ناتشا راسف" ،الأمير المتهكم المتعجرف " اندرو بولكونسكى" والمفكر " بيير بيزوكوف" الابن غير الشرعي للكونت بيزوكوف " هو صوت الروائي" إلى جانب مجموعة ضخمة من أصدقائهم وأقاربهم وأنجالهم حيث يجرى تناولهم ومتابعتهم طوال مجرى الحدث والسرد عبر تقادم أعمارهم ونضج أذهانهم وتطور رؤاهم للحياة من خلال نسج فريد معقد بارع تعجز المفردات عن تصويره يتقاطع فيه التاريخ والواقع بدرجة مدهشة كما يتقدم الكاتب ويتمدد في توسيع رؤيته للحياة بالرجوع إلى أحداث وأقوال شخصياته تلك العديدة مجبرا إمكانية تبنى مقدراته التي يحس بها في العالم مما حدا بالأمير المتعجرف المتهكم بالتوازن والقبول الموجب الهادئ للموت بينما ينهزم المفكر "بيير" عند بلوغه الذروة بقبول حكمة ضرورة قبول الحياة بخيرها وشرها بدلا عن السعي لإحداث تغييرا عبر الفكر والجمال !!.
achelious
27/06/2008, 16:34
آنا كارنينا
تمثل " آنا كارنينا" إحدى أكثر بطلات الأدب العالمي حبا وتعلقا بالذاكرة إذ تسيطر جاذبيتها وسحرها وفتنتها ودلالها وغنجها وغطرستها بشدة وثراء لا مثيل له على هذه الرواية التي اعتبرها "تولستوي" أولى محاولاته الجادة في شكل الكتابة الروائية التي تخاطب الطبيعة الخالصة للمجتمع بكافة مستوياته...القدر ...الموت...العلاقات الإنسانية...والتناقضات العنيدة للوجود لذلك فإنها تنتهي بتلك الصورة المأساوية مع وجود الكثير من الأسى والحزن اللذان يدفعان إلى الياس! رغم امتلائها كذلك بأجواء ومشاهد وصور ومفردات الفرح والمتعة والإضحاك.
ولقد أستهلها صاحبها العام 1873 اى بعد سنوات خمس من اتمامة درته " الحرب والسلام " تلك الفترة التي مثلت بداية شعوره بالامتعاض والنفور مما يسمى بالطبقة العليا الروسية التي كان ينتمي إليها والدة بدرجة ما ولقد بلغت مسوداتها الأولى ست مسودات حتى وصلت النسخة الأخيرة إلى المطبعة العام 1877 .
لقد نتج الفهم الواسع لتولستوي لموضوعات الحضارة في عصره عبر موقعة النقدي المتمرد المتأمل داخل مجتمعة خلال تلك الفترة الحاسمة من التأريخ وقد انعكس تضافر تجربته الثرة مع ذكائه الواسع وخيالة المجنح " إن استعرت مفردات جبران"في هذه الرواية وسابقتها اللتين تميزتا ببعد غير مألوف صار فيما بعد مقياس للرواية الأوربية.
كثير ما ناقش تولستوي فكرة تأليف كتابا عن مجتمع المرأة التي تتحطم ذاتها عبر امتهان جسدها والعلاقات الغرامية المبتذلة فاخضع قلمه كليا لذلك الحلم كما أشارت بذلك المسودات العديدة الأولى لهذه الرواية إلا مر الذي قد تلاشى عند وصول النسخة الأخيرة المعدلة إلى المطبعة !! لكن التقاطع الحاد بين شخصيتي" آنا كارنينا" و عشيقها " ليفين" قد مثل فكرة لاحقة مكنته ليس من ابتكار تركيبا للتباينات التي سندت الرواية فحسب بل الإفصاح كذلك عن سيرته الذاتية ،همومه المتعلقة بالمجتمع الروسي ،السياسة،الزراعة، الفلسفة والثقافة وهلم جرا.
رغم إشارة الروائي Henry James إلى روايات تولستوي باعتبارها " مسخا هلاميا فضفاضا" إلا أن " آنا كارنينا" تبدو جديرة بالاهتمام لوضوح وتناسق تركيبها حيث أوضحت رسائل ويوميات ومراجعات صاحبها اهتمامه الشديد بهيكلها لدرجة اعتبارها قمة انتاجة الجمالي على مستوى الشكل وتصنيفها أولى محاولاته الروائية الحقيقية الجادة حيث تحتوى على ستة أقسام كبيرة مقسمة داخليا إلى فصول مقتضبة تحتوى على العديد من الحلقات والصور التي تشكل انساقا مختلفة تمنح الرواية وحدتها العضوية ومنذ براعة استهلالها يؤسس تولستوي موضوعات متصلة تتميز بالثراء خصوصا عند تقديمه بطلته "آنا"عبر مناحي شتى أثناء تحركه وتقدمة نحو استغراقه وتأمله الفكري الاساسى من خلال مشهد افتتاحي محملا بالكثير من الدلالات والرموز،كما يتم تبيان المعايير المزدوجة التي يبديها المجتمع تجاه الرجال والنساء في مرحلة مبكرة ثم إدخال موضوعا مسيطرا أخرا وهكذا دواليك...
لقد تم نسج خيطا من الازدراء والتهكم والتورية والسخرية بصورة ملفتة داخل نسيج هذه الرواية لدرجة أدت إلى هدوء السرد، كذلك جرى توظيف عناصر من المرح والإضحاك بصورة بنائية بأقصى درجة ومن الملفت ظهور القطار الذي كان اختراعا حديثا وقتها بفاعلية مؤثرة في الجزء الأول من الرواية عند تقديم الشخصيات .
أخيرا لقد رسخ تولستوي وسائلا دقيقة بارعة للتشخيص أدت إلى تشكيل صورة بارعة الأبعاد لكل مبدأ و معنى داخل حركة وتطور شخصياته....فالبطلة نفسها يتم تقديمها تدريجيا عبر الظروف المختلفة والتباين مع غيرها من شخصيات الأمر الذي يتم طوال مجرى الأحداث حيث تم تمثيل حماتها "دوللى" وأختها " كيتي" ووصفهما بصفات ممتازة واللتين قد حظيتا شأنها بحياة رغدة ودعة إلا أنهما يفقدان جاذبيتها وسحرها والعفة والكبرياء والسمو تلك السمات التي تفتقر إليها حلقتها الاجتماعية!!
تتمثل الصورة داخل رؤية الحياة في معضلة عرقية تم تبيانها بمشهد عنصري يتمثل في موت شبح " فيرونسكى"مما حدا بالبطلة الفشل في التغلب على معضلات ضميرها الخاص وضغوطات المجتمع الذي يدينه الروائي بصورة ضمنية والذي لا تملك المقدرة على تحمل نفورة واستعدائه كذلك تعتبر المقارنة المعقدة بين " ليفين" عشيق البطلة و " فيرونسكى" وبعلها " كارنينا" وغيرهم مركزا للرواية والتي ترتبط بالتباين المرسوم بين مدينتي بطرسبرج وموسكو المتصفتين بالضغوطات العصرية والقيم التراثية على التوالي ورغم مقدرة الأول التمتع بمباهج طبقته إلا أنة ظل ملتزما ومهتما بقوة بموضوعات أكثر نبلا وسموا يتجلى ذلك في اقترابه اللصيق بالزراعة والطبيعة مفرغا مقاومة تولستوي حيال الطريقة المثلى للحياة الأمر الذي يتناقض مع تفا هات وترهات ما يسمى بالطبقة العليا الروسية التي يمثلها شخصيات ستيفا،فيرونسكى والبعل كارنينا.
يقول الكاتب الانجليزي Matthew Arnold .. "يظل انتصار سحر وفتنة "آنا" باهرا نسبة لطبيعتها السخية الثرة ومرحها المتدفق بصورة تجبرنا على احترامها وعشقها وغفران أخطائها وبلاشك إنها إحدى أكثر بطلات الأدب حبا وعلوقا بالذاكرة.":D
achelious
28/06/2008, 01:13
.. في الختام لا يسعني إلا أن أستعير بضعة أبيات من قصائد رثاء قيلت في تولستوي حين عم نبأ وفاته..
وعلى رأسها أبيات لشاعر وادي النيل أحمد شوقي حيث قال:
(طولستوي) تجري آية العلم دمعها
عليك ويبكي باثس وفقير
وشعب ضعف الركن زال نصيره
وما كل يوم للضعيف نصير
ويندب فلاحون أنت منارهم
وأنت سراج غبـــــــوة منير
يعانون في الأكواخ ظلما وظلمة
ولا يملكون البث وهو يسير
تطوف كعيسى بالحنان وبالرضى
عليهم وتغشى دورهم وتزور
ويأسى عليك الدين إذ لك لبه
وللخادميـــه الناقميـــن فشور
أيكفر بالإنجيل من تلك كتبه
أنــــــاجيل منها منذر وبشير
..
و مما قال حضرة الشاعر المشهور حافظ ابراهيم في الفيلسوف أيضا..
رثاك أمير الشعر في الشرق وانبرى
لمدحك من كتاب مصر كبير
ولست أبالي حين أرثيك بعده
إذا قيـــل عني قد رثاه صغير
فقد كنت عونا للضعيف وإنني
ضعيف ومالي في الحياة نصير
ولست أبالي حين أبكيك للورى
حـــوتك جنان أو حواك سعير
فأني أحب النابغين لعلمهم
وأعشق روض الفكر وهو نضير
دعوت إلى عيسى فضجت كنائس
وهـــــز لها عرش وماد سرير
وقال إنــــــــاس إنه قول ملحــد
وقــــال أنــــــــاس إنه لبشير
..
اسبيرانزا
28/06/2008, 23:09
الطيب صالح والادب السودانى
بعتقد ان لا يمكن فهم منهج مبدع الا بدراسة ظروف مجتمعه وتطور الادب فيه وخصوصا اذا كان اديب كبير بتحوم حوله الالقاب بالتميز والفرادة على كل كتاب عصره
لذا اسمحولى اضع الاول نبذة مختصرة عن الادب فى السودان بعدها ندلف الى عالم الطيب صالح
اسبيرانزا
28/06/2008, 23:09
نبذة مختصرة عن الادب فى السودان
نشأ الادب كفن ناضج فى السودان منذ فترة الثلاثينيات وكانت دعامتا الكتاّب الاساسية فى خلق مادتهم الفكرية داخل الادب ( التاريخ والاسطورة ) كميل طبيعى لشعب لا يملك الانفتاح الكامل على الاخر,, فتركز خيال المبدعين الاوائل على البيئة المحيطة من عادات وتقاليد وسلسال تاريخى للعشائر وايضا الدين وعلى الرغم من ان الاسطورة كانت تشكل حضورا كافى فى عقل وحياة الانسان السودانى الا ان الدين والعادة لوحظ فرط تأثيرهما على القلم السودانى
يعنى نعتبر الادب السودانى فى فترة ما قبل الاعلام والانفتاح ادب محلى شديد الخصوصية والنمطية سواء فى الموضوعات كما ذكرت او فى المفردات التى كانت سجعية فى اغلبها
جاءت المرحلة المهمة قبل ان يدبر عقد الثلاثينيات بظهور مجلتى النهضة والفجر التى تبنت نشر اعمال ادبية ومحاولة مناقشتها باسلوب منهجى ونشر الجيد منها فى الصحف المصرية
هذا الاهتمام والانفتاح الجزئى ساهم فى بزوغ نجوم روائية مثل عثمان على نور الذى اعتبر فيما بعد رائد القصة السودانية القصيرة وكذلك السيد الفيل وغيرهم من الكتاب
ثم ذيلت هذه الفترة بمأساة الاستعمار التى ساهمت فى تفجير قرائح المبدعين من شعراء وناثرين ,,,وقراءة اعمال الادباء المصريين الذين شاركوهم نفس الهم الاستعمارى فباتت الكتابتان تتطور يدا بيد متأثرة احدها بالاخرى
فى فترة الاربعينات ظهر جيل الوعى بالانجليزية الذين درسوا اللغة فى ادابها ونشروا اعمال انجليزية مترجمة فى الصحف السودانية مما افاد فى اتساع رقعة الانفتاح ومن ثم الاستفادة
فى الخمسينيات والستينيات باتت رقعة التأثر مدهشة فى ظهور كتاب وجوديين متأثرين بالتيار الوجودى الذى عم اوروبا ,,,وظهر فى مقابلهم كتاب جسدوا مفهوم الواقعية الاشتراكية على نحو واضح
من التيار الاول ظهر البشير الطيب واحمد الامين البشير
ومن التيار الثانى ظهر الطيب صالح ومحمد مدنى وغيرهم
كانت هذه المرحلة تحمل من الحماسة والتشجيع للادب السودانى ما لم تحملة اى مرحلة اخرى
حتى جاءت النكسة...وتأثر السودان كباقى الاقطار العربية بالاحداث المأساوية وجاءت مرحلة الارتداد الجماعية للماضى وللتراث ,,كانت مرحلة ارتداد لاواعية حملها عليهم الحزن العميق من هذا الواقع والحنين الى امجاد الماضى
مرحلة الارتداد كانت تشمل ارتداد فى طرق موضوعات الماضى من مجد العشائر والعادات والتقاليد وكذلك الاساطير البطولية لكن الاسلوب كان تقدميا فظهر اسلوب الفانتازيا والسخرية والواقعية السحرية
فى الثمانينيات كانت المرحلة النسوية بحق حيث اثبت المرأة السودانية وجودها الادبى على الساحة لكنه لم يتعدى حدود الكتابات الرومانسية المفرطة او الكتابات الثورية على اوضاع المرأة داخل مجتمعهم
سلمى الشيخ وفاطمة السنوسى كانتا اعلى صوت نسوى فى هذه الفترة
ومن فترة التسعينيات حتى الان يستبشر النقاد بمحاولة نهوض اخرى تظهر فى السودان فى الحبر الرجالى والنسائى جنبا الى جنب
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة