-
عرض كامل الموضوع : رسائل اخوان الصفا، و خلان الوفا
فانظر يا أخي وتفكّر في هذه الحكمة الإلهية والعناية الربانية كيف جعلت ورتّبت كرة الأثير دون فلك القمر، وجعلتها ناراً بلا ضياءٍ كيما تحترق بحرارتها الدخانات الغليظة الصاعدة في الهواء، وتلطُف البخارات العفنة الكثيفة، ليكون الجوأبداً صافياً شفافاً. ولم تجعل تلك النار مُضيئةً، لأنها لوكانت مضيئة كالنيران التي عندنا، لمنعت أبصار الحيوان عن رؤية عالم الأفلاك والكواكب، وخاصةً الإنسان، لأنه لما مُنِع الكون هناك لم يُمنع الرؤية والنظر إليه، لكيما تشتاق النفوس إلى الصعود نحوها هناك، كما قال، جل ثناؤه: "إليه يصعد الكلِمُ الطيب والعمل الصالح يرفعه" يعني به روح المؤمنين. وقال في منع روح الكافر: "لا تُفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يَلِج الجمل في سمّ الخياط." وقد جعلت الحكمة الإلهية أيضاً الومهرير حِجاباً بين كرة النسيم وكرة الأثير، لتمنع ببردها وهج الأثير عن الحيوان والنبات أن يُتلفها، ولتُبرّد البُخار وتَعقِده غيوماً ليكون أمطاراً تحيا به البلاد. وجعلت كرة النسيم مُعتدلة المِزاج، ولمّا كان سببها انعكاس شُعاعات الكواكب كما بينا قبل، وأكثرها أوكدّها هي الشمس، جُعِلت تارةً تغيب لبرد الجو، وتارةً تطلع لسخن الهواء، ولودامت بطلوعها، لدام الإسخان ولأفرط الحر، وكان ذلك فسادا كلّياً. وكذلك لودام مَغيبُها لبرد الجووجمدت المياه والرطوبات، وهلك النبات والحيوان من البرد. وكذلك جعل لها أن تميل إلى ناحية الجنوب، ليكون الصيف هناك، والشتاء في الشمال "ذلك تقدير العزيز العليم". وهذه من عظيم نعم الله خلقه وذلك معنى قوله تعالى: "قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سَرمداً إلى يوم القيامة، من إلهٌ غير الله يأتيكم بليلٍ تسكنون فيه، أفلا تُبصرون؟. ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار" إلى قوله: "ولعلَّكم تشكرون".
وعلى هذا القياس لودام الشتاء والصيف لكان بواراً وفساداً للنظام، وكذلك إذا دام مدارها على سمت واحد. قال الله تعالى: "والشمس والقمر والنجوم مُسخراتٌ بأمره" تارةً غاربةٌ، وتارة طالعة، وتارة مائلة، إلى الشمال، وتارةً مائلة إلى الجنوب، وتارةً مرتفعة في الأوج، وتارة منحطة إلى الحضيض، وتارةً فوق الأرض، وتارةً تحتها، وتارةً موازية للبروج النارية، وتارةً للترابية، وتارة للهوائية، وتارةً للمائية، وتارة للبروج المنقلبة، وتارة في الثابتة، وتارة في ذوات الأجساد، وتارة مجتمعة، وتارةً متفرقة، وتارة ناظرة ينظُر بعضها إلى بعض، وتارة ساقطة، وتارة منفصلة، وتارة منصرفة، وتارة كالواقفة، وتارة راجعة، وتارة مستقيمة، وتارة شرقية، وتارةً غربية، وتارةً محترقة بنورها، وتارةً في بيوتها، وتارةً غُربةٍ، وتارةً في الشَّرف، وتارةًفي الهبوط.
هذه كلها من أوصافها وأحوالها لأغراضٍ موصوفة، وآجال معدودة لا يعلمها إلاّ هو: "وما خلق الله ذلك إلاّ بالحق" ولا يحيط أهل صناعة النجوم والخَلْقُ أجمع بشيء من علمه إلاّ بما شاء، وَسِعَ كُرسيُّه السموات والأرض، وقد ذكرنا طرفاً من هذا العلم في رسالة الأدوار، شبه النموذج والإشارة، فانظر فيها وتفكّر فيما ذكرنا، لعلّ نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، فتحيا حياة العلماء، وتعيش عيش السعداء مع الأبرار في دار القرار، مُنعّمة ملذّذةً فرحانة مسرورة أبد الآبدين؛ ولا تكن من الغافلين في أسفل السافلين في عالم المون والفساد، واستعدّ للرحيل قبل انقطاع المدة، وتزوّد فإن خير الزاد التقوى.
فصل وأما الكواكب ذوات الأذناب
التي تظهر في بعض الأحايين قبل طلوع الشمس أوبعد غروبها، فإنها لا تحدث إلا في كرة الأثير قريباً من فلك القمر، والدليل على ذلك دوارنها مع فلك القمر، تارةً بالتقدم على توالي البروج كمسير الكواكب السيّارة، وتارةً بالتأخير كرجوعها.
وأما مادتها التي تتكون منها فهي دخان وبخار لطيفان يصعدان إلى هناك، فينعقدان بقوة زُحل وعطارد، وتكون شفافة كشفيف البلور؛ إذا اشرقت عليها الشمس شفّت من الجانب الآخر، فلا تزال تدور مع الفلك وتطلع وتغيب إلى أن تضمحل وتتلاشى، وكل هذه الحوادث التي ترى في ضوء الهواء إما بشاراتٌ من الله تعالى بالرُّخص والخصب والسلامة للناس والحيوان، والصلاح، وإما إنذاراتٌ وتخويفات من الحدثان والجدب والقحط والغلاء والزلازل والوباء والموت والخسوف والحروب والفتن، وذلك ليجعل العباد المكلفين يعتبرون بها ويرتدعون عن معصية الله، وينقادون إلى طاعة الله ويظهرون الدعاء والتضرع والتوبة والندم والتطوّع بالصوم والصلاة والصدقة والقرابين في الهياكل والمساجد والبِيَع والصلوات ليكون ذلك تلقيناً من الآباء للأولاد، ومن العلماء للجهال، وتنبيهاً للغافلين عن معرفة الله، عز وجل، وهدايةً لهم كما قال الله تعالى: "ثم إذا مسَّكم الضُّرّ فإليه تَجأرون".
فانظر يا أخي وتفكّر في ملكوت السموات والأرض، وما في الآفاق والأنفس من الآيات، وقل: "رَبنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك، فَقِنا عذاب النار" واشهد معهم كما ذكر الله تعالى فقال: "شهد الله أنه لا إله إلاّ هو، والملائكة وأُولوالعلم، قائماً بالقسط" ولا تكن من الذين يمرُّون عليها وهم عن آياتها مُعرضون غافلةن، وهم الذين قال الله فيهم: "ما أشهدتُهم خلق السموات والأرض، ولا خلق أنفسهم، وما كنت مُتّخذَ المُضلّين عَضُداً" وقال تعالى: "صُمٌّ بكمٌ عُميٌ فهم لا يعقِلون" أعاذك الله وإيانا من هذه الجهالة والعمى، ووفقنا لما هوأرشد وأهدى برحمته، إنه قريب مجيب.
تمت رسالة الآثار العُلوية، وهي الرسالة الرابعة في الطبيعيات، والسابعة عشرة من رسائل إخوان الصفاء، وتتلوها رسالة تكوين المعادن
الرسالة الخامسة في تكوين المعادن
وهي الرسالة الثامنة عشرة من رسائل إخوان الصفاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، آلله خيرٌ أمّا يُشركون؟
فصل واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروحٍ منه،
أنّا قد بيّنا في رسالة الآراء والمذاهب بأن العالم محدَثٌ مُبدع مخترع كائن بعد أن لم يكن، وأن مُبدعه ومخترعه ومحدثه وخالقه ومُصوّره هوالباري جلّ جلاله، أبدعه كما شاء وكيف شاء بقوله تعالى: "كُنْ" فكان، كما بيّنا في رسالة المبادئ العقلية. فنريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفاً من الحوادث والكائنات التي تتكون وتفسُد تحت فلك القمر، بطول الأزمان والدهور والأدوار، كما بيّنا أيضاً كيفية فناء العالم، وكيفية نشئ الآخرة والحشر والحساب والميزان والجواز على الصراط، والنجاة من النيران، والوصول إلى الجنان، وكيفية مجاورة الرحمن في رسالة البعث والقيامة، إذ قدّ تبيّن ببراهين منطقية ودلائل بأن عالم الأفلاك وجواهر أشخاصها لا تمتزج بعضها ببعض، ولا تختلط أجزاؤها، ولا يتكون منها شيء غيرها، بل هي باقيةٌ بما هي عليه الآن بطول الأزمان والدهور، وأنها أيضاً لا تتغير ولا تفسُد ولا تستحيل ما دامت لها هذه الحركة الدورية والأشكال الكروية، إلاّ أن يشاء باريها ومُبدعها وخالقها أن يطلبها دُفعةً واحدة، أوعلى التدريج، أويوقفها عن الدوران وهوأهون عليه: "وله المثل الأعلى في السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم".
واعلم أن وقوف الأفلاك عن الدوران هوموت العالم وبُطلان حياة الكل، ومُفارقة النفس الكلية الفلكية عن الأجسام كلها دُفعةً واحدةً، وتلك هي القيامة الكُبرى والبوار الكلي وبُطلان الجملة، لأن موت كل شخص من أشخاص الحيوانات هومُفارقة نفسه جسده، وهي قيامته، كما قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: "من مات فقد قامت قيامته." وقد بيّنا في رسالةٍ لنا أن العالم إنسانٌ كبير، ذوجسم ونفس وحياة وعلم، فاعرف حقيقة ما ذكرناه من هناك.
وثم اعلم يا أخي أن الكائنات الفاسدات التي تحت فلك القمر هي خمسة أنواع، فمنها استحالة الأركان الأربعة بعضها إلى بعضٍ، كما بيّنا طرفاً من كيفية ذلك في رسالة الكون والفساد؛ ومنها حوادث الجووتغيرات الهواء، كما بيّنا طرفاً منها في رسالة الآثار العلوية، ومنها استحالة الكائنات الفاسدات التي تتكون وتنعقد في باطن الأرض وعمق البحار وجوف الجبال، وهي الجواهر المعدنية، كما سنبين طرفاً من طيفيتها في هذه الرسالة؛ ومنها استحالة النبات والأشجار، وهوكل جسم يتغذّى وينموكما بيّنا طرفاً منها في رسالة النبات؛ ومنها استحالة الحيوان، وهوكل جسم متحرك حسّاس، كما بيّنا طرفاً منها في رسالة الحيوانات بعد ذكر النبات.
واعلم أن هذه الأشياء التي ذكرنا أنها تتكون وتحدث وتتغير وتفسد بطول الزمان والدهور، وتناوب الليل والنهار، وتعاقب الشتاء والصيف على الأركان الأربعة، التي هي الأرض والماء والهواء والنار، إنما يكون باختلاف أحوالنا بحسب مُوجبات أحكام النجوم في القِرانات والأُلوف والأدوار، وبحسب أشكال الفلك ومَسيرات الكواكب، ومطارح شعاعاتها من الأوتاد والآفاق. ونريد أن نبيّن كيفية تكوين المعادن، وأسرار اختلاف جواهرها وأنواعها وخواصّها، ومنافعها مضارّها.
وإذ قد فرغنا من ذكر أدوار الأفلاك وحركات الكواكب وقِرانها في السنين والدهور، وكم هي، وكيف هي، وكيف يكون ذلك في رسالة لنا، فاعلم أن لكل كائنٍ وحادثٍ تحت فلك القمر أربع علل: علةٌ فاعليةٌ، وعلى هيولانية، وعلى صورية، وعلة تمامية. فالعلة الفاعلية للجواهر المعدنية، بإذن باريها جل جلاله، هي الطبيعة، وقد بيّنا ماهية الطبيعة وكيفية أفعالها في رسالة لنا. وأما العلة الهيولانية للجواهر المعدنية فهي الزِّئبَق والكبريت، كما سنبيّن في هذه الرسالة. والعلة الصورية هي دوران الأفلاك وحركات الكواكب حول الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض. وأما العلة التمتمية فهي المنافع التي ينالها الإنسان والحيوانات جميعاً من هذه الجواهر المعدنية بإذن الله، جلّ جلاله.
فصل اعلم يا أخي
أن الجواهر المعدنية مختلةٌ في طباعها
وطُعومها وألوانها وروائحها، كلّ ذلك بحسب اختلاف تُرب بقاع معادِنها مياهها وتغييرات أهويتها، وذلك أن كرة الأرض بجملتها وجميع أجزائها، وعُمقها وظاهرها وباطنها، طبقاتٌ، سافٌ فوق سافٍ، متلبِّدة، مُنعقدة، مختلفة التركيب والخلقة. فمنها صخورٌ وجبال صلبة، وأحجار وجَلامِد صَلدةٌ، وحصيّات مُلسٌ، ورجالٌ جريشةٌ، وطين رخو، وتراب لين، وسباخٌ وشروجٌ بعضها مختلط ببعضٍ، أومتجاورةٌ كما وصفها الله تعالى بقوله: "وفي الأرض قِطَعٌ متجاورات" وهي مختلفة الألوان والطعوم والروائح، فمن ترابها وطينها وأحجارها حمرٌ وبيضٌ وزرقٌ وصفرٌ، كما ذكر الله تعاى بقوله: "ومن الجبال جُدَدٌ بيضٌ وحمرٌ مختلفٌ ألوانها، وغرابيب سودٌ. " ومن ترابها وطينها ما هوعذب مذاقه، ومرّ طعمه، أومالح أوعَفِصٌ أوحامض أوحلو. ومنه ما هوطيب شمه، ومُنْتِنٌ رائحته، فإن الأرضبجُملتها كثيرة التخلخل والثقب والتجاويف والعروق والجداول والأنهار، داخلها وخارجها، كثيرة الأهوية والمغارات والكهوف، وكلّ هذه مملوءةٌ من المياه والبخارات، وتكون طعوم تلك المياه وروائحها وغِلظها ولطافتها وثِقلها وخفتها بحسب تربة بقاعها وطين مكانها وأجوافه وقرارات مستنقعاتها.
فصل واعلم بأن الجواهر المعدنية ثلاثة أنواع
فمنها ما يتكون في التراب والطين والأرض والسبخة ويتم نضجه في السنة أوأقل منها، كالكبريت والأملاح والشُّبوب والزَّاجات وما شاكلها. ومنها ما يتكوّن في قعر البحار وقرار المياه، ولا يتم نضجه إلا في سنة أوأكثر منها، كالدُّرّ والمرجان، فإن أحدهما نباتي وهو المرجان، والآخر حيواني والدُّرّ. ومنها ما يتكوّن في كهوف الجبال وجوف الأحجار، وخلل الرمال، ولا يتم نضجه إلا في سنين كالذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص وما شاكلها. ومنها ما لا يتم نضجه إلاّ في عدد سنين، كالياقوت والزّبرجد والعقيق وما شاكلها. ونريد أن بيّن ونصف طرفاً من كيفية تكوين كل نوع من هذه، ليكون دلالةً على سائرها، ولكن نحتاج، قبل وصفنا هذه الأشياء، أن نذكر صورة الأرض وكيفية قِسمةِ أرباعها، وصفات تلك الأرباع كيف تتغير أحوالها، وكيف تتبدّ لصفاتها في الدهور والأزمان الطول فنقول: إن الأرض بجميع ما عليها من البحار والجبال والبراري والأنهار والعمران والخراب هي كرة واحدة مُعلّقة في الهواء في مركز العالم بإذن الله، جل حلاله، كما بيّنا في رسالة الجغرافيا، فنقول إن الأرض بجملتها نِصفان، نصفٌ شمالي، ونصف جنوبي، وظاهر كل قسم منها ينقسم إلى نصفين، فتكون جُملته أربعة أرباع، كل ربع منها موصوف بأربعة أنواع، فمنها مراضع براري وقفار وفلوات وخراب. ومنها مواضع البحار والأنهار والآجام والغُدران. ومنها مواضع الجبال والتلال والارتفاع والانخفاض. ومنها مواضع المراعي والقُرى والمدن والعُمران.
واعلم يا أخي أن المواضع تتغير وتتبدل على طول الدهور والأزمان، وتصير مواضع الجبال براري وفلوات، وتصير مواضع البراري بحاراً وغدراناً وأنهاراً، وتصير مواضع البحار جبالاً وتلالاً وسباخاً وآجاماً ورمالاً، وتصير مواضع العمران خراباً، ومواضع الخراب عمراناً، فوجب أن نذكر طرفاً من هذه الأوصاف، إذ كان هذا الفن من العلوم الغربية البعيدة عن أفكار كثيرٍ من أهل المرتاضين، فضلاً عن غيرهم.
واعلم بأن كل ثلاثة آلاف سنة تنتقل الكواكب الثابتة، وأوجات الكواكب السيارة وجَوْزَهْراتها في البروج ودرجاتها. وفي كل تسعة آلاف سنة تنتقل إلى ربعٍ من أرباع الفلك. وفي كل ستةٍ وثلاثين ألف سنة تدور في البروج الاثني عشر دورةً واحدة. فبهذا السبب تختلف مُسامتات الكواكب ومطارح شُعاعاتها على بقاع الأرض وأهوية البلاد، ويختلف تعاقب الليل والنهار والشتاء والصيف عليها، إما باعتدالٍ واستواء، أوبزيادة ونقص وإفراطٍ من الحرارات والبرودات، واعتدالٍ منهما. وتكون هذه أسباباً عللاً لاختلاف أحوال الأرباع من الأرض، وتغييرات أهوية البلاد والبقاع وتبديلها بالصفات من حال إلى حال.
ويعرف حقيقة ما قلنا الناظرون في علة المجسطي وعلوم الطبيعيات، فتصير بهذه العلل والأسباب مواضع العمران خراباً، ومواضع الخراب عُمراناً، ومواضع البراري بحاراً، ومواضع البحار براري وجبالاً. ويعرف حقيقة ما قلناه وصحة ما ذكرناه الناظرون في علم الطبيعيات والإلهيات، الباحثون عن علل الكائنات الفاسدات التي تحت مقعد فلك القمر وكيفية تغييراتها، ولكن نريد أن نصف طرفاً من كيفية تكوين الجبال في البحار، وكيف يصير الطين اللين أحجاراً، وكيف تنكسر الأحجار فتصير منها حصىً ورملاً، وكيف تحملها سيول الأمطار إلى البحار في جريان الأودية والأنهار، وكيف ينعقد من ذلك الطين والرمال في قعور البحار حجارةً وجبالاً.
والعم يا أخي أن البحار هي كالمستنقعات على وجه الأرض، فإن الجبال منها كالمنّيات والبريدات لها لتفصل البحار بعضها من بعضٍ، ولئلا يكون وجه الأرض كله مُغطىً بالماء، وذلك أنه لوتكن الجبال علة وجه الأرض، وكان وجهها مستديراً مَلِساً، لكانت مياه البحار تنبسط على وجهها وتغطّيها من جميع جهاتها، وتحيط بها كإحاطة كرة الهواء بالأرض كلها، وكان وجه الأرض كله بحراً واحداً، ولكن العناية الإلهية والحكمة الربانية قد قضت أن يكون وجه الأرض بعضه مكشوفاً ليكون مسكناً لحيوان البرّ، وبعضه لمنابت العشب والأشجار والزروع، إذ كانت هذه غذاء الحيوانات ومادةً لأجسادها "ذلك تقدير العزيز العليم".
واعلم يا أخي أن الأودية والأنهار كلّها تبتدئ من الجبال والتلال، وتمرّ في مسيلها وجريانها نحوالبحار والآجام والغُدران، وأن الجبال من شدة إشراق الشمس والقمر والكواكب عليها بطول الأزمان والدهور، تُنشَف رطوباتُها، وتزداد جفافاً ويبساً، وتنقطع وتنكسر، وخاصةً عند انقضاض الصواعق، وتصير أحجاراً وصخوراً أوحصىً ورمالاً. ثم إن الأمطار والسيول تحط تلك الصخور والرمال إلى بطون الأودية والأنهار، ويحمل ذلك شدة جريانها إلى البحار والغدران والآجام. وإن البحار، لشدة أمواجها وشدة اضطرابها وفورانها، تبسط تلك الرمال والطين والحصى في قعرها سافاً على سافٍ بطول الزمان والدهور، ويتلبّد بعضها فوق بعض، وينعقد وينبت في قعور البحار جبالاً وتلالاً، كما تتلبد من هبوب الرياح أدعاص الرمال في البراري والقفار.
واعلم يا أخي أنه كلما انطمّت قعور البحار من هذه الجبال والتلال التي ذكرنا أنها تنبت، فإن الماء يرتفع ويطلب الاتساع، وينبسط على سواحلها نحوالبراري القفار، ويغطسها الماء، فلا يزال ذلك دأبه بطول الزمان، حتى تصير مواضع البراري بحاراً، ومواضع البحار يبساً وقفاراً، وهكذا لا تزال الجبال تنكسر وتصير أحجاراً وحصىً ورمالاً، تحطّها سيول الأمطار، وتحملها إلى الأودية والأنهار بجريانها حتى البحار، وتنعقد هناك كما وصفنا، وتنخفض الجبال الشامخة، وتنقص وتقصر حتى تستوي مع وجه الأرض. وهكذا لا يزال ذلك الطين والرمال تنبسط في قعر البحار، وتتلبد وتنبت عنها التلال والروابي والجبال، وينصب من ذلك المكان الماء حتى تظهر تلك الجبال وتنكشف هذه التلال، وتصير جزائر وبراري، ويصير ما يبقى من الماء في وهادها وقعورها بحيراتٍ أوآجاماً أوغدراناً، وينبُت فيها القصب والأوحال، فلا تزال السيول تحمل إلى هناك الطين والرمال والوحول، حتى تجفّ تلك المواضع وتنبت هناك الأشجار والعِكرِشُ والعشب، وتصير مواضع للسباع والوحوش؛ ثم يقصدها الناس لكلب المنافع والمرافق من الحطب والصيد وغيرها. وتصير مواضع الزروع والغروس والنبات بُلداناً وقرى ومدناً يسكنها الناس.
واعلم يا أخي أن هذه البحار التي ذكرنا أنها كالمستنقعات على وجه الأرض، وبينها جبالٌ شامخة وهي كالمُسنّيات لها، وهي متصلةٌ بعضها ببعض، إما بخلجانٍ بينها على ظاهر الأرض، وإما بمنافذ لها وعروقٍ في باطن الأرض، وأن في وسط هذه البحار جزائر كثيرة صغاراً وكباراً، وأنهاراً؛ ومنها عامرةٌ بالناس فيها مزارع وقرىً ومدن وممالك. ومنها براري وقفارٌ فيها جبال وآجام تسكنها سباع ووحوش وأنعام وأنواع من الحيوانات لا يعلم كَثرتها إلاّ الله. وفي وسط تلك الجزائر بُحيرات صغار وكبار، وأنهارٌ وغُدران وآجام. ومنها ما مياهها عذبةٌ، ومنها مالحةٌ شديدة الملوحة، ومنها دون ذلك مختلفةٌ أحوالها وأوصافها، فلنذكر طرفاً من عللها ليعلم حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا:
أما علة هيجان البحار، وارتفاع مياهها، وبروزها علة سواحلها، وشدّة تلاطم أمواجها، وهبوب الرياح في وقت هيجانها إلى الجهات الخمس قي أوقات مختلفةٍ من الشتاء والصيف والربيع والخريف، أوائل الشهور وأواخرها، وساعات الليل والنهار، فهي من أجل أن مياهها إذا حميت في قرارها وسخنت لَطُفت وتحللت طلبت مكاناً أوسع مما كانت فيه قبل، فيتدافع فيه بعض أجزائها إلى الجهات الخمس فوقاً وشرقاً وجنوباً وشمالاً وغرباً للاتساع، فيكون في الوقت الواحد على سواحلها رياحٌ مختلفة في جهات مختلفة. وأما علة هيجانها في وقتٍ دون وقتٍ فهوبحسب شكل الفلك ومطارح شُعاعاته على سطوح تلك البحار من الآفاق، والأوتاد الأربعة، واتصالات القمر بها عند حلوله في منازله الثمانية والعشرين، كما هومذكور في كتب أحكام النجوم. وأما علة مدود بعض البحار في وقت طلوع القمر ومغيبه دون غيرها من البحار فهي من أجل أن تلك البحار في قرارها صخورٌ صُلبة، فإذا أشرق القمر على سطح ذلك البحر، وصلت مطارح شُعاعاته إلى تلك الصخور والابحار التي في قرارها، ثم انعكست من هناك راجعةً، فسخنت تلك المياه وحَمِيت ولطفت، وطلبت مكاناً أوسع، وارتفعت إلى فوق، ودفع بعضها بعضاً إلى فوق، وتموّجت إلى سواحله وفاضت على سطوحها وأرجعت مياه تلك الأنهار التي كانت تنصبّ إليها إلى خلف، فلا يزال ذلك دأبها ما دام القمر مُرتفعاً إلى وتد سمائه، فإذا انتى إلى هناك وأخذ ينحطّ، سكن عند ذلك غليان تلك المياه، وبردت وانضمت تلك الأجزتء، وغلُظت ورجعت إلى قرارها، وجرت الأنهار على عاداتها، فلا يزال ذلك دأبها إلى أن يبلغ القمر إلى أُفق تلك البحار الغربيّ منها. ثم يبتدئ المدّ على مثل عادته وهوفي الأفق الشرقي، ولا يزال ذلك دأبه حتى يبلغ القمر إلى وتد الأرض، أخذ المدّ راجعاً إلى أن يبلغ القمر إلى أُفقه الشرقي من الرأس و"ذلك تقدير العزيز العليم". فإن قيل: لم لا يكون المد والجزر عند طلوع الشمس وإشراقها على سطوح هذه البحار؟ فقد بيّنا علّة ذلك في رسالة العلل والمعلول فاطلبها من هناك إن شاء الله تعالى.
وأما علة اختلاف تصاريف الرياح من الجهات الستّ، في أوقات الليل والنهار، والشتاء والصيف، فقد ذكرناها في رسالة الآثار العلوية.
وأم الجبال التي ذكرناها بأنها كالمُسنّيات للبحار والبريدات لها فهي راسية في الأرض أُصولها، شامخةٌ في الجورؤوسها، شاهقٌ في الهواء ارتفاعها، ممتدّ علة وجه الأرض بأطوالٍ ما بين مائتي فرسخ إلى ألف. فمنها ما هومن المشرق إلى المغرب، ومنها ما هومن الشمال إلى الجنوب، ومنها ما هونكباواتٌ بين هذه الجهات، مذكورةٌ في جغرافيا بعض أوصافها.
واعلم أن الجبال التي ذكرناها منها ما هوصخور صَلدة، وحجارة صُلبة، وصفوانٌ أملس، فلا ينبت عليه النبات إلا شيءٌ يسير، مثل جبال تهامة. ومنها ما هي صخورٌ رخوة، وطينٌ لينٌ، وترابٌ ورملٌ وحصاةٌ مختلفة مُتلبدة، سافٌ فوق سافٍ، مُتماسك الأجزاء، وهي مع ذلك كثيرة الكهوف والمغارات والأودية والأهوية والعيون والجداول والأنهار والأشجار، كثيرة النباتات والحشائش والأشجار، مثل جبال فلسطين، وجبال لُكّام وطبرستان، وغيرها. وأما الكهوف والمغارات والأهوية التي في جوف الأرض والجبال، إذا لم يكون لها منافذ تخرج منها المياه، بقيت تلك المياه هناك محبوسة زماناً، وإذا حمي باطن الأرض وجوف تلك الجبال، سَخِنت تلك المياه ولطفت وتحللت وصارت بخاراً، والاتفعت وطلبت مكاناً أوسع، فإن كانت الأرض كثيرة التخلخل، تحلّلت وخرجت تلك البخارات من تلك المنافذ، وإن كان ظاهر الأرض شديد التكاثف حصيفاً منعها من الخروج، وبقيت محتبسةً تتموج في تلك الأهوية لطلب الخروج، وربما انشقت الأرض في موضع منها، وخرجت تلك الرياح مفاجأةً، وانخسف مكانها، ويُسمع لها دويُّ وهدةٍ وزلزلة. وإن لم تجد لها مخرجاً، بقيت هناك محتبسةً، وتدوم تلك الزلزلة إلى أن يبرد جوتلك المغارات والأهوية، ويغلظ. ومتى تكاثفت تلك البخارات واجتمعت أجزاؤها وصارت ماء، خرَّت راجعة إلى قرار تلك الكهوف والمغارات والأهوية، ومكثت زماناً، وكلما طال وقوفها ازدادت صفاءً وغلظاً، حتى تصير زءبقاً رجراجاً، وتختلط بتربة تلك المعادن، وتتحد بحرارة المعدن دائماً في إنضاجها وطبخها، فتكون منها ضروبٌ من الجواهر المعدنية المختلفة الطبائع كما سنبيّن. وأما على اختلاف مياه العيون والينابيع التي في جوف الأرض وكهوف الجبال، من العذوبة والملوحة والحموضة والعُفوصة الكبريتية منها، والنفطية، والدهنية، وعلة حرارتها في الشتاء، وبردها في الصيف، وما كان على حالةٍ واحدةٍ في جميع الأوقات، فهي بحسب اختلاف ترب بقاعها، وتغييرات أهوية مكانها والعوارض التي تعرض لها، ونحتاج إلى أن نذكر طرفاً من عللها ليكون قياساً على البقية فنقول: أما على حرارة مياه أكثر العيون في الشتاء، وبردها في الصيف، فهي من أجل كون الحرارة والبرودة ضدين لا يجتمعان في مكان واحد، فإذا جاء الشتاء وبرد الجو، فرّت الحرارة فاستجنّت في باطن الأرض، فسخنت تلك المياه التي في باطنها وعمقها، فإذا جاء الصيف وحمي الجو، فرّت البرودة واستجنّت في باطن الأرض، وبردت تلك المياه التي في باطنها وعمقها. وأما علة حرارة بعض العيون في الصيف والشتاء على حالة واحدة فهي أن في باطن الأرض وكهوف الجبال مواضع تربتها كبريتية، فتصير تلك الرطوبات التي تنصب هناك دهنية، وتكون الحرارة فيها راسيةً دائمةً، بينها أوفوقها مياهٌ في جداول وعروقٍ نافذةٍ، فتسخن تلك المياه بمرورها هناك وحواجز عليها، ثم تخرج وتجري على وجه الأرض وهر حارةٌ وحامية، فإذا أصابها نسيم الهواء وبرد الجوبردت، وربما جمدت، إذا كانت غليظةً، وانعقدت وصارت زئبقاً، أورصاصاً، أوقيراً، أونفطاً، أوملحاً، أوكبريتاً، أوبُورقاً، أوشبّاً، أوما شاكل ذلك بحسب اختلاف ترب البقاع وتغييرات الأهوية. وأما علة ملوحة مياه عامة البحار فهي بعناية من الباري، جل ثناؤه، وحكمة إلهية، لما فيه من الصلاح الكلي والنفع العام؛ وذلك أن البخارات المتصاعدة منها في الجو، إذا اختلطت أجزاؤها مع الهواء، وتموجت إلى الجهات، دبغتها وملّحتها، ومنعتها من العفن والتغيير والفساد، فلولا ذلك لهلكت الحيوان المستنشقة للهواء، دُفعة واحدة، وهكذا أيضاً تمتنع ملوحة مياه البحر من أن تأسن أوتتغير، فيكون ذلك هلاك حيوان البحر جملة واحدة. ولهذه العلة أيضاً شدة أمواج البحار في أكثر الأوقات، يختلط أعلاها بأسفلها، وأسفلها بأعلاها، لئلا تغلظ بطول الوقوف غلظاً شديداً، أوتجمد، فتكون أرضاً كلها. ولهذه العلة أيضاً إشراق الشمس والكواكب عليها، وتسخينُها لها، ومنعها من أن تغلظ وتجمد، وكذلك تفعل بالهواء والجوأيضاً، وذلك أنه لولا مطارح شعاعات الكواكب بالليل، لجمد الهواء في المواضع التي لا يطلع عليها الشمس والقمر زماناً كالتي تحت قطب الشمال والجنوب جميعاً. وأما عفوصة مياه بعض العيون فلأنها تجري إليها من مواضع تربها مياهٌ زاجيّةٌ، وهكذا حكم ما كان
طعمه كبريتياً أونفطياً. كبريتياً أونفطياً.
واعلم أن في بعض المواضع يُرى من بعيدٍ، على رؤوس الجبال وبطون الأودية، نيرانٌ وضياءٌ بالليل والنهار، ودخانٌ معتكرٌ ساطعٌ في الهواء ومرتفع في الجو، وعلّته أن في جوف الجبال كهوفاً ومغارات وأهوية حارةً ملتهبةً تجري إليها مياه كبريتية أونفطية دهنية، فتكون مادة لها دائمة، وهي مثل التي بجزيرة صِقِلية وبجبل مزمهر من خوزستان، وفي بعض المواضع جبال تهب عليها رياح لينة دائماً، وجبال تهب عليها رياح باردة في أوقات مختلفة، وهي الجبال التي تكون عليها الثلوج عند ذوبانها، وذلك أنه يتحلل من تلك الرطوبات أجزاءٌ لطيفة تصير بخاراً، وترتفع في الهواء، فيدفعها إلى الجهات الخمس، أوإلى جهة دون جهة، مثل ما يهب في جبل الثلج الذي بدمشق، والذي ببلاد داور من جبال غُور، وجبل دوماند وما شاكلها من الجبال.
فأما الجبال التي تهب منها رياح لينة في دائم الأوقات، فمثل التي ببلاد باميان، وذلك أن هذا الجبل تخرج من أسفله عيون كثيرة، وحوله مروجٌ كثيرة، وتجري إلى تلك المروج أنهارٌ وجداول من غير أن تُرى عليه ثلوج وأمطار، بل تهب منها أبداً أرياح لينة، فهذا دليل على أن في جوف هذا الجبل مغارات وكهوفاً وأهوية باردة مفرطة البرد، تجمد الهواء فيصير ماء، ثم ينصبُّ إلى أسفله، وينزل من مسام ضيقةٍ تجري منها تلك العيون والجداول إلى تلك المروج والبراري والقرر، وبها ينتفع الناس وسائر الحيوان من الوحوش والسباع والأنعام والطير الذي هناك، إذ كان هذا الجبل بعيداً من البحار، ولعلّ الغيوم قلّ ما تصل إلى هناك، لطول المسافة، وإذا تأملت الذي ذكرناه تبيّنتَ عناية الباري، جل جلاله، بتقدير خلقه، وحسن سياسته لهم، وشفقته عليهم، وكثرة ما أزاح من العلل في مرافقهم، وجرّ المنافع إليهم من كل الوجوه المُمكنة من الهيولى المتأتي فيها أفعاله.
فصل واعلم أن الأودية والأنهار
أكثرها تبتدئ من الجبال والتلال،
وتمرّ في جريانها نحوالبحار والآجام والغُدران، والبطائح والبُحيرات، فمنها ما هوأنهار طوالٌ، جريانها من المشرق إلى المغرب كنهر مأوند من سجِستان، فإنه يبتئ من جبال باميانَ وجبال غُور، ويمرّ نحوالمغرب إلى تُربة كَرمان ثم إلى بحر هُرمُزَ. ومنها ما يمرّ في جريانه نحوالمشرق كالأرس والكرس، وهما نهران ببلاد أذربيجان، ابتداؤهما من جبال الروم، ويمران متوجهين نحوالمشرق إلى بحر طبرستان، فينصبّان فيه. ومنها ما جيرانه من الجنوب إلى الشمال نحونيل مصر، فإنه يبتدئ من جبال القمر من وراء خط الاستواء، ويمر في جريانه متوجهاً نحوالشمال، إلى أن ينصب في بحر الروم. ومنها ما يكون جريانه من الشمال إلى الجنوب مثل دجلة، فإنها تبتدئ من جبال نصِيبين، وتمر في جريانها إلى الجنوب ثم تنصبّ إلى بحر فارس بعبّادان. ومنها ما يكون جريانه متوجهاً في إحدى نكباواتٍ مثل جيحون خراسان والفرات، وذلك أن جيحون يبتدئ من جبال صَنعانيان، ويمرّ متنكِّباً للغرب والشمال، وينصب إلى بحر بشمال بلاد خوارزم، والفرات يبتدئ من جبال الروم ويمر متنكّباً للمشرق والجنوب، وينصب إلى بحر فارس من عبّادان. وعلى هذا المثال سائر الأنهار في الجريان.
وأما علة مدود أكثر الأنهار التي جريانها من الشمال إلى الجنوب في أيام الربيع، فهي من أجل الثلوج إذا كثرت في الشتاء على رؤوس الجبال الشمالية، ثم حمي الجوبقرب الشمس من سمتها، ذابت تلك الثلوج وسالت منها الأودية والأنهار.
وأما علة مد نيل مصر في أيام الصيف فهومن أجل أن هذا النهر يجري من الجنوب إلى الشمال، ومبدأ جريانه من وراء خط الاستواء، حيث يكون الشتاء عندنا، ويكون صيفاً هناك، وفي الصيف عندنا يكون الشتاء هناك، فتكون في ذلك الوقت كثرة الأمطار هناك. ولهذه الأنهار عطافاتٌ وعراقيل يطول شرحها وشرح علتها، وهي تسقي في جريانها السَّوادات والمزارع والمدن والقرى، وما يفضُل من مياهها ينصب إلى البحار والآجام والبطائح والبحيرات، ويمتزج بمياهها، عذبةً كانت أومالحة. فإذا أشرقت عليها الشمس والكواكب سخّنتها، وحميت ولطفت وتحللت وصارت بخاراً، فارتفعت في الهواء، وتموّجت إلى الجهات، ويكون منها الرياح والغيوم والضباب والطّل والندى والصقيع والأنداء والثلوج والبرَد على رؤوس الجبال والبراري والعُمران والخراب.
وأما الأمطار التي تكون على رؤوس الجبال فإنها تَغِيضُ في شقوق تلك الجبال وخَلَلها، وتنصب إلى مغارات وكهوف وأهوية هناك، وتمتلئ وتكون كالمخزونة، ويكون في أسفل تلك الجبال منافذ ضيقة تمر منها تلك المياه، وتجري وتجتمع وتصير أوديةً وأنهاراً، وتذوب تلك الثلوج على رؤوس تلك الجبال، وتجري إلى تلك الأودية، وتمرّ في جريانها راجعة نحوالبحار، ثم تكون منها البخارات والرياح والغيوم والأمطار كما كان في العام الأول و"ذلك تقدير العزيز العليم".
فصل وإذ قد فرغنا من ذكر صورة الأرض
ووصف البحار والبراري والجبال، واختفى تُرب البلاد ومياهها، فنريد أن نذكر هذا هُنا طرفاً من أسرار المعادن، فنقول إنه ليس جبلٌ من الجبال، ولا بحر، ولا تربة، ولا جزيرة، ولا نهر، ولا بُقعة، ولا بلد من الأرض، ولا صغيرةٍ ولا كبيرةٍ، لا ظاهرها ولا باطنها، إلاّ ولها خاصية ليست لأُخرى، أوعدة خواص، فمن خاصية بلدٍ بلدٍ، أوبقعةٍ بقعةٍ، أنه تتكون هناك ضروبٌ من الجواهر المعدنية، أوعدة ضروب، أوينبُت نوع من النبات، أويتولد جنس من الحيوان لا يتكوّن في بلد آخر، ولا ينبت في بقعةٍ أُخرى، ولا يتولّد إلاّ هناك، مثال ذلك أنه لا تتولد الفيلة إلاّ في جزائر البحار الجنوبية، تحت مدار برج الحمل، وكذلك الزرافة لا تولد إلاّ في بُلدان الحبشة، والسَّمُّورُ والسِّنجاب وغزال المسك لا يتولد إلاّ في البراري الشرقية الشمالية، وأما الصقور والبزاة والنسور ما شاكلها من أنواع الطيور فإنها لا تُفرِخ إلاّ في رؤوس الجبال الشاهقة؛ والقَطا والنَّعام لا يُفرِخ إلاّ في البراري والفلوات، والبُطوط والطيِّطوى وأمثالهما لا تُفرخ إلاّ على الشطوط وسواحل البحار والبطايح والآجام؛ والعصافير والفواخت والقَماريّ وأمثالها من الطيور لا تفرخ إلاّ بين الأشجار والدِّغال والقرى والبساتين. وعلى هذا المثال حُكم النبات فإن النخل والموز لا ينبتان إلاّ في البلاد الحارة والأراضي الليّنة، والجوز واللوز والفستق والبندق وأمثالها لا تنبت إلاّ في البلاد الباردة؛ والحُلبَة ةالدُّلب وامّ غيلان في البراري والقفار؛ والقصب والصَّفصاف على شطوط الأنهار. وعلى هذا حكم سائر النبات. وهكذا أيضاً حكم الجواهر المعدنية، لكل نوع منها بُقعة مخصوصة، وتربة معروفة، لا تتكون إلاّ هناك كالذهب، فإنه لا يتكون إلاّ في البراري الرملية، والجبال والأحجار الرخوة؛ والفضة والنحاس والحديد وأمثالها لا تتكون إلاّ في جوف الجبال والأجحار المختلطة بالتربة اللينة؛ والكبريت لا يتكون إلاّ في الأراضي الندية، والترب اللينة، والرطوبات الدهنية؛ والقُلقُطار والأكلاح لا ينعقد إلاّ في الأرض السبخة والبقاع المشروجة؛ والجص الإسفِيذاج لا يتكونان إلاّ في الأرض الرملية المختلط ترابها بالحصى؛ والزاجات والشُّبوب لا تتكون إلاّ في الترب العَفِصة القَشِفة. وعلى عذا القياس حكم سائر أنواع الجواهر المعدنية.
فصل واعلم أن الجواهر المعدنية كثيرة الأنواع
لا يحصي عددها إلاّ الله تعالى، ولكن منها ما يعرقه الناس، ومنها ما لا يعرفونه، وقد ذكر بعض الحكماء ممن كانت له عناية النظر في هذا العلم والبحث عن هذه الأشياء، أنه قد عرف وعدّ منها نحوتسعمائة نوعٍ، كلها مختلفة الطباع والشكل واللون والطعم والرائحة والثقل والخفة، والمضرة والنفع. ونريد أن نذكر منها طرفاً ليكون دلالةً على الباقية وقياساً عليها، فنقول إن من الجواهر المعدنية ما هوحجريٌّ صُلبٌ، لكن يذوب بالنار، ويجمد إذا برد، مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والأُسرب والرصاص والزجاج وما شاكلها. ومنها ما هي صلبة حجرية لا تذوب إلاّ بالنار الشديدة، ولا تنكسر إلاّ بالماس، كالياقوت والعقيق. ومنها ترابي رخولا يذوب ولكن ينفرك، طالأملاح والزاجات والطلق. ومنها مائية رطبة تقرّ من النار كالزئبق. ومنها هوائي دُهنيّ تأكله النار كالكبريت والزَّرانيخ. ومنها نباتي كالمرجان الأبيض والأحمر. ومنها حيواني كالدُّرّ. ومنها طلٌّ منعقد كالعنبر والبازَهْرات؛ وذلك أن العنبر إنما هوطلّ يقع على سطح ماء البحر، فينعقد كالعنبر في مواضع مخصوصة في زمان معلوم، وكذلك البازهرات أيضاً فإنه طلّ يقع على بعض الأحجار، ثم يرسخ في خللها وينعقد هناك في بقاعٍ مخصوصة في زمان معلوم، كما أن الزنجبيل إنما هوطلّ يقع على نوع من الشوك بخراسان، وهكذا اللكُّ يقع على نبت مخصوص في زمان معلوم، ويتعقد عليه؛ وكذلك الدُّرُّ فإنه طلّ يرسخ في أصداف نوعٍ من الحيوان البحري، ثم يغلظ ويجمد وينعقد فيه؛ وكذلك الموميا طلّ يرشَح في خلل صخورٍ، ثم يغلظ هناك، ثم يصير ماءً، ثم يبرز من مسامّ ضيقة ويجمد وينعقد؛ والطلّ هورطوبة هوائية تجمد من برد الليل وتقع على النبات والحجر والشجر والصخور. وعلى هذا القياس حكم جميع الجواهر المعدنية، فإن مادّتها إنما هي رطوباتٌ مياه وأنديةٌ وبخاراتٌ تنعقد بطول الوقوف وممرّ الزمان في البقاع المخصوصة لها. فقد تبين بما ذكرنا أن الجواهر المعدنية مركبة كلها مع اختلاف أنواعها وطبائعها وألوانها وطعومها وروائحها وثقلها وخفّتها وصلابتها ورخاوتها ولينها وخشونتها وخواصها ومنافعها ومضارها، مركبةٌ كلها ومؤلفةٌ من أجزاء ترابية صلبة ثقيلة مظلمة مُشفّة؛ومن أجزاء مائية رطبة سيالة صافيةٍ بين الثقل والخفة؛ ومن أجزاء هوائية خفيفة ليّنة دُهنية صافية نيّرة؛ ومن حرارة قوية أوضعيفة مُنضجة أومُقصِّرة؛ ومن تأليفٍ على نسبة فاضلة أودون من النسب التأليفية، وهي اثنتا عشرة مرتبة مضروبةً في أربع طبائع، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، جملتُها ثمانٍ وأربعون مرتبةً؛ هذا هوالطول مضروباً في نفسه يكون ألفين وثلثمائة وأربعة. هذا هوالعرض مضروباً في جذره 111072؛ هذا هوالمكعّب آحادٌ، ونحتاج أن نشرح هذا الباب لأنه أصلٌ في معرفة كيفية تكوين المعادن.
فصل اعلم يا أخي أن تلك
الرطوبات المختنقة في باطن الأرض والبُخارات المُحتبسة هناك إذا اختوت عليها حرارة المعدن تحللت ولطفت وخفّت وتصاعدت عُلواً إلى سقوف تلك الأهوية والمغارات ومكثت هناك زماناً.
وإذا برد باطن الأرض في الصيف جمدت وغلظت وتقاطرت راجعة إلى أسفلتلك الأهوية والمغارات، واختلطت بتربة تلك البقاع وطبنها، ومكثت هناك زماناً، وحرارة المعدن دائماً في نضجها وطبخها، وهي تصفوبطول وقوفها وتزداد ثقلاً وغلظاً، وتصير تلك الرطوبات بما يخالطها من الأجزاء الترابية وما يأخذ من ثقلها وغلظها وإنضاج الحرارة وطبَخها إياها زئبقاً رَجْراجاً، وتصير تلك الأجزاء الهوائية الدهنية، وما يتعلّق بها من الأجزاء الترابية بطبخ الحرارة لها بطول الزمان، كبريتاً محترقاً.
فإذا اختلطت أجزاء الكبريت والزئبق مرة ثانية، تمازجت واختلطت واتحدت، والحرارة دامةٌ في نضجها وطبخها فتنعقد عند ذلك ضروب الجواهر المعدنية المختلفة، وذلك أنه إذا كان الزئبق صافياً والكبريت نقياً، واختلطت أجزاؤهما، وكانت مقاديرُهما على النسبة الأفضل، واتحدت وامتصت الكبريتية رطوبة الزئبق، ونشّفت نداوته، وكانت حرارة المعدن على الاعتدال في طبخها ونضجها، ولم يعرض لها عارضٌ من البرد واليبس قبل إنضاجها، انعقد من ذلك على طول الومان والذهب والإبريز؛ وإن عرض لها البرد قبل النضج، انعقدت وصارت فضة بيضاء؛ وإن عرض لها اليبس من فرط الحرارة وزيادة الأجزاء الأرضية، انعقدت فصارت نحاساً أحمر يابساً؛ وإن عرض لها البرد قبل أن تتحد أجزاء الكبريت والزئبق قبل النضج، انعقد منها رصاصٌ قَلَعيٌّ؛ وإن عرض لها البرد قبل النضج، وكانت الأجزاء الترابية أكثر، صارت حديداً أسود؛ وإن كان الزئبق أكثر والكبريت أقل، والحرارة ضعيفة، انعقد منها الأُسرُبُ؛ وإن انفرطت الحرارة فأحرقته، صار كُحلاً، وعلى هذا القياس تختلف الجواهر المعدنية بأسبابٍ عارضةٍ خارجةٍ عن الاعتدال وعن النسبة الأفضل من زيادة الكبريت والزئبق ونقصاهما، وإفراط الحرارة أونقصانها، أوبَردِ المعدن قبل نضجها أوخروجها عن الاعتدال. فعلى هذا القياس حكم الجواهر المعدنية الترابية.
وأما الجواهر الحجرية مثل البلّور والياقوت والزَّبَرجَد والعقيق وما شاكلها من التي لا تذوب بالنار، فإنها تنعقد من مياه الأمطار والأنداء التي ترشح في تلك المغارات والكهوف والأودية التي من الجبال الصلدة والأحجار الصُّلبة، ولا يخالطها شيء من الأجزاء الترابية والطين، بل بطول الزمان كلما طال وقوفها هناك، ازدادت المياه بقاءً وثقلاً وغِلظاً، وحرارة المعدن دائماً في نُضجها وطبخها، حتى تنعقد وتصير حجارة صُلبةً صافيةً، وتكون ألوانها وصفاؤها ورزانتها بحسب أنوار الكواكب المُتولية لذلك الجنس من الجواهر، ومطارح شعاعاتها على تلك البقاع المختصّة، كما سنبين في رسالة النبات. وذلك أن لون الياقوت الأصفر ةالذهب الإبريز، ولون الزّعفران وما شاكلها من النبات منسوبةٌ إلى نور الشمس وبريق شعاعاتها، وكذلك بياض الفضة والملح والبلور والقطن والثلوج وما شاكلها من ألوان النبات منسوبٌ إلى نور القمر وبريق شعاعه، وعلى هذا القياس سائر الأوان من كل نوع منسوبةٌ إلى كوكب من الكواكب السيارة والثابتة، وذكورٌ ذلك في كتب أحكام النجوم كما قيل إن السواد لزحل، والحُمرة للمريخ، والخُضرة للمشتري، والزُرقة للزهرة، والصُفرة للشمس، والبياض للقمر، والمُتلوِّن الألوان لعطارد.
وأما حكم الجواهر الترابية في كيفية تكةينها فهي أن تلك المياه إذا اختلكت بتُربة البقاع وعملت فيها حرارة المعدن، تحل أمثر تلك الرطوبات، وتصير بخاراً يرتفع في الهواء كما ذكرنا قبل، وما بقي منه يكون محبوساً ملاوماً للأجزاء الأرضية، متحداً بها، عمِلت فيها الحرارة وأنضجتها وطبختها، حتى تغلظ وتنعقد، فإن تكن تربة تلك البقاع مشورجة سبخة، تكونت منها ضروب الأملاح والبوارق والشبوب. وإن تكن تربة البقاع عفِصة، انعقدت منها ضروب الزاجات الخضر والصفر، والقُلقُطار وهوجنس من الزاج وما شاكلها. وإن تكن تربة البقاع حصاةً وتراباً ورمالاً مختلطة، انعقد منها الجص والإسفيذاج وما شاكلها. وإن تكن تربة البقاع تربة لينة وطيناً حرّاً، انعقدت منها الكمأة، ونبتت منها ضروب العشب والحشائش والكلإ والأشجار والزروع
فصل واعلم يا أخي أن
النار هي كالقاضي بين الجواهر المعدنية،
المتحكم فيها كلها والمفرِّق بينها وبين ما كان من غير جنسها، فأشرفُها هي التي لا تقدر النار على أن تفرِّق بين أجزائها، مثل الذهب والياقوت، وذلك لشدة اتحاد أجزائها بعضها ببعضٍ، فإنه ليس بين خلل أجزائها رطوبةٌ. وأما احتراق بعض الجواهر المعدنية، وأكل النار لها، وسرعة اشتعالها فيها، كالكبريت والزرنيخ والقير والنفط وما شاكلها من المعدنيات، فهي من الأجزاء الهوائية الدهنية المتعلقة بالأجزاء الترابية، غير متحدة بها، والأجزاء المائية قليلة معها، وهي غير نضجةٍ أيضاً ولا متحدة بها، فإذا أصابتها حرارة النار ذابت بسرعة، وتحللت وصارت دخاناً وبخاراً، وفارقت الأجزاء الترابية، وارتفعت في الهواء، واختلطت به، وتفرّقت بين أجزاء الهواء. وأما إذا قيل: ما العلة في أن الذهب يذةب ولا يحترق، والياقوت لا يذوب ولا يحترق، فنقول: إن علة ذوبان الذهب هي من الرطوبة الدهنية المتحدة بالأجزاء الترابية، فإذا أصابتها حرارة النار ذابت ولانت الأجزاء الأرضية التي معها، وأما ما لم يحترق فمن أجل الأجزاء المائية المتحدة بالأجزاء المائية المتحدة بالأجزاء الترابية والهوائية، فإنها تقابل النار وتدفع عن جسدها الترابي وهج النار ببرْدها ورطوبتها، فإذا خرجت من النار جمدت تلك الأجزاء الهوائية الدهنية، وغلظت الأجزاء المائية وانعقدت، وصارت الأجزاء الأرضية كما كانت؛ وعلى هذا القياس سائر الأجسام الترابية. وأما الياقةت فلأنه أجزاء مائية وصفت بطول الوقوف بين الصخور، وأُنضجت بدوام طبخ حرارة المعدن لها، واتحدت أجزاؤها ويبست، فصارت لا تذوب بالنار، لأنه ليس فيها رطوبة دهنية. وأما علة صفائه فمن أجل أنه ايس فيه أجزاءٌ ترابية مظلمةٌ، بل كلها أجزاءٌ مائية قد غلظت وصفت ونضجت وجمدت ويبست، فلا تقدر النار على تفريق أجزائها لشدة اتحادها ويبسها. وأما سرعة ذوبان بعض الأجسام واحتراقها، مثل الرصاص والأُسرب، فهومن أجل أن الأجزاء المائية والهوائية غير متحدة بالأجزاء الترابية. وأما سوادها فمن أجل أنها غير نضجة وثقلها من أجل كثرة الأجزاء الأرضية فيها، والله أعلم.
خواص الجواهر فصل واعلم يا أخي أن لهذه الجواهر خواص كثيرةً، وطباعها مختلفة: فمنها مُتضادة متنافرة، ومنها متشاكلة متآلفة، ولها تأثيراتٌ بعضهافي بعض، إما جذباً أوإمساكاً أودفعاً أونفوراً، ولها أيضاً شعورٌ خفيّ وحسّ لطيف كما للنبات والحيوان، إما شوقاً ومحبة، وإما بغضاً وعداوة، لا يعلم كُنه عللها إلاّ الله تعالى. والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، قول الحكماء في كتاب الأحجار ونعتُهم لها أن طبيعةً تألف طبيعةً، وطبيعةً تُناسب طبيعةً أُخرى، وطبيعةً تلصق بطبيعة، وطبيعة تأني بطبيعة، وطبيعة تقهر طبيعة، وطبيعة تقوى على طبيعة، وطبيعة تضعُف عن طبيعة، وطبيعة تُلهب طبيعة، وطبيعة تحب طبيعة، وطبيعة تطيب مع طبيعة، وطبيعة تفسد مع طبيعة، وطبيعة تبيّض طبيعة، وطبيعة تحمّر طبيعة، وطبيعة تهرب من كبيعة، وطبيعة تهرب من طبيعة، وطبيعة تُبغض طبيعة، وطبيعة تمازج طبيعة.
فأما الطبيعة التي تألف طبيعة أُخرى فمثل الألماس والذهب، فإنه إذا قَرُب من الذهب التصق به وأمسكه. ويقال إن الألماس لا يوجد إلاّ في معدن الذهب، وفي وادٍ من ناحية المشرق؛ ومثل طبيعة حجر المغناطيس في جذب الحديد، فإن هذين الحجرين، يابسين صُلبين، بين طبيعتهما أُلفةٌ واشتياقٌ، فإنه إذا قَرُب الحديد من هذا الحجر حتى يشتم رائحته، ذهب إليه والتصق به، وجذبه الحجر إلى نفسه، ومسكه كما يفعل العاشق بالمعشوق. وهكذا يفعل الحجر الجاذب للحم، والحجر الجاذب للشعر، والحجر الجاذب للظُّفر، والحجر الجاذب للتِّبن. وعلى هذا القياس ما من حجرٍ من الأحجار المعدنية إلاّ وبين طبيعته وبين طبيعة شيءٍ آخر أُلفة واشتياق، عرف الناس ذلك أم لم يعرفوه.
واعلم أن مثل مُقابلة أفعال هذه الأحجار بعضها في بعض يكون مثل تأثيرات الدواء في العضوالعليل، وذلك أن من خاصية كل عضوعليل اشتياقاً إلى طبيعة الدواء المُضاد لطبيعة العلة التي به، فإذا حصل الدواء بالقرب من العضوالعليل، أحسّ به، وجذبته القوة الجاذبة إلى ذلك العضو، وأمسكته الماسكة، واستعان بالقوة المدبرة بطبيعة الدواء على دفع طبيعة العلة المؤلمة، وقويت عليها وغلبتها، ودفعتها عن العضوالعليل، كما يستعين ويدفع المحارب والمخاصم بقوة من يُعينه على خصمه وعدوِّه، في دفعه عن نفسه. وهذه من إتقان حكمة الله، جل جلاله، وعجيب صُنعه، ولطيف تدبيره بخلقه من الحيوان، وحسن سياسته له، إذ جعل لكل داءٍ وعارضٍ دواءً شافياً، ثم ألهمه إياه، كما ذكر الله تعالى حكايةً عن موسى، عليه السلام، لما قال له فرعون ولأخيه هارون: "فمن ربُّكما يا موسى؟ قال: ربُّنا الذي أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى." يعني خلقه وصوّره وعرّفه منافعه ومضارّه، وقوّاه وأعانه وحفظه ورعاه ودبّره وساسه كما شاء وكيف شاء، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وأما الطبيعة التي تقهر طبيعةً أُخرى فمثل طبيعة السُّنباذَج التي تأكل الأحجار عند الحك أكلاً، وتُليّنها وتجعلها مُلساً؛ ومثل طبيعة الأُسرب المسخ الذي يُفتت الماس القاهر لسائر الأحجار الصلبة، وذلك أن الماس لا يقهره شيء من الأحجار وهوقاهرٌ لها كلها، لوأنه تُرك على السَّندان وطُرق بالمطرقة لدخل في أحدهما ولم ينكسر، وإن جعل بين صفحتين من أُسرب وضُغط عليها تفتت. ومثل طبيعة الزئبق التيّار الرطب القليل الصبر على حرارة النار، إذا طُليت به الأحجار المعدنية الصلبة مثل الذهب والنحاس والفضة، أوهنها وأرخاها، ختى يمكن أن تُكسر بأسهل سعي تُفتت قطعاً قطعاً، ومثل الكبريت المنتن الرائحة، المُسوِّدِ للأحجار النيرة البراقة، المُذهب لألوانها وأصباغها، يمكِّن النار منها، حتى تحترق في أسرع مدة. والعلة في ذلك أن في الكبريت رطوبة دهنية لزجةً جامدةً، فإذا أصابته حرارة النار، ذاب والتصق بأجساد الأحجار ومازجها، فإذا تمكّنت النار فيه احترق وأحرق معه تلك الأجساد، ياقوتاً كانت أم ذهباً أم غيرهما.
وأما الطبيعة التي تُزيّن طبيعة أُخرى وتُنوِّرها فمثل النوشادر الذي يغوص في قعر الأحجار ويَغسلها من الوسخ.
وأما الطبيعة التي تُعين طبيعة أُخرى فمثل البورق الذي يُعين النار على سرعة سبك هذه الأحجار المعدنية الترابية، ومثل الزاجات والشبوب التي تجلوها وتنورها وتصبغها، ومثل المينا والقِلى والمُعينان على سبك الرمل وتصفيته، حتى يكون زجاجاً شفافاً. وعلى هذا القياس والمثال حُكم سائر الأحجار المعدنية في تأثيرات بعضها في بعض. فأما تأثيراتها في أجسام الحيوان فقد ذُكِر في كتب الأدوية والطب والعقاقير.
خواصها الغريبة
فصل واعلم أن لهذه الجواهر المعدنية خواص غريبةً،
وخلقُها وتكوينها عجيبٌ جداً، فإذا فكّر العاقل في لطيف صُنع الباري، جل جلاله، وإتقان حكمته فيها، يبقى متعجباً باهتاً، ويزداد بربه معرفةً ويقيناً، وخاصةً إذا فكر في خِلقة الدُّرة وتكوينها، وذلك أن هذه الجوهرة إنما هي ماءٌ ورطوبة هوائية عذبة، ودهنية جامدة، منعقدة بين صدفين، كأنهما خزفتان منطبقتان، ظاهرهما خشنٌ وسِخٌ، وباطنهما أملس نقيٌّ أبيض، في جوفها حيوان كأنه قطعة لحم، خِلقتُه خِلقةُ الرَّحِم، مسكنه في قعر البحر المالح، وهوقد ضمّ ذَينكَ الصدفين على نفسه من جانبيه، كما يضم الطائر جناحيه عند السكون عن الطيران، مخافة أن يدخل فيه ماء البحر المالح، حتى إذا أحس بسكون البحر عن الاضطراب في أمواجه، ارتقى من قعره إلى أعلى سطحه بالليل، وفي وقت من الزمان معلوم مخصوص عنده، وفتح تلك الصدفتين كما تفتح فراخ الطير أفواهها عند زَقِّ الطائر لها، وكما يُفتح فم الرحم عند الجماع، فيرشح في جوفه من ندى الهواء ورطوبة الجو، وتجتمع فيه قطراتٌ من الماء العذب من ذلك الصقيع الذي يقع بالليل على النبت والحشيش. فإذا اكتفى ضمّ تَينِكَ الصدفتين على نفسه ضماً شديداً، مخافة أن يرشح فيه ماء البحر المالح، فتفسد تلك الرطوبة العذبة بما يخالطها من ملوحته، وينزل برفقٍ إلى قرار البحور، فيسكن هناك زماناً، فإذا طال الزمانعلى تلك الرطوبة العذبة، غلُظت وثقلت وصارت في قوام الزئبق، وتدحرجت في جوفه بحركته، فيصير حبات مستديراتٍ، كما يصير الزئبق إذا تبدد وتدحرج. ثم على ممر الزمان تجمد وتنعقد وتصير دُرّاً صغاراً وكباراً، وذلك تقدير العزيز العليم.
فصل واعلم يا أخي، إذا تأملت المحسوسات وتصفّحت الموجودات، وبحثت عن الكائنات التي دون فلك القمر، وجدت أصغرها جسداً، وأضعفها خلقة أشرفها جوهراً وأجلّها قدراً وأعمّها نفعاً.
وانظر إلى هذه الثلاثة التي هي الدرة والديباج والعسل، وتأملها تجدها عند الناس أجل الأشياء قدراً، وأنعمها لُبساً، وأطبيها ذوقاً، أعني هذه الثلاثة، فإذا تأملت ما ذكر من خلقة هذا الحيوان، تبيّنت أنه أحقر حيوانات البحر وأضعفها، وكما ترى النحل أضعف الطيور بنيةً، وأصغرها جثّة، وهكذا دود القزّ تراه أصغر الحيوان جثّةً.
فصل واعلم أن الله، جل ثناؤه خلق هذه الأشياء المعدنية منافِع للحيوان وخاصةً للناس، وجعلهم محتاجين إليها، مُتصرفين فيها، متنغمين بها إلى حين، لكيما يتفكّر العقلاء في كونها وخلقها وصُنعها، فتكون قياساً لهم، فيعلمون أن العالم أيضاً محدَثٌ مصنوع كائن بعد أن لم يكن، وإن كان كبير الجثة عظيم الخِلقة، طويل العمر، كبير القِباء، لا يدري العلماء الحكماء على التحقيق أنه متى كان ولا متى يفسد، ويعلمون أن له خالقاً خلقه وأوجده وصوّره، وركَّب أفلاكه وأدارها، وأجرى كواكبه وسيّرها، ومدّ شعاعها نحوالمركز، ومزج الأركان، وزوَّج الطبائع، وأولد منها الكائنات الفاسدات التي هي الحيوان والنبات والمعادن، وسخَّرها للإنسان، وملّكه عليها يتصرَّف فيها كما يشاء، ويحكم عليها بما يريد بالانتفاع منها أودفع المَضارِّ بها، وإنما احتاج العلماء والعقلاء إلى الاستدلال بالشاهد على الغائب، وقياس الجوء على الكلّ، على أن العالم مُحدثٌ عند حيرة عقولهم، فإذا فكّروا في حدثه وكونه بعد أن لم يكن، وبحثوا عن تلك العلّة الداعية للصانع إلى الفعل إن لم يكن فعل وهي العلة التي تسمّى العلة التماميّة التي من أجلها يفعل الفاعل فعله.
ولما فكّر كثير من العقلاء في هذه العلة، وبحثوا عنها لم يعرفوها. وهكذا أيضاً لما فكروا في أمر الفاعل متى فعل، وفي أيّ زمان عمل، وفي أي مكانٍ، لم يعرفوها ولم يتصوروا ذلك، وأيضاً لما فكروا وطلبوا أنه من أي شيء عمله، وكيف صوَّره، وأين كانت رِجْلُ البِركار لما شكَّل أُكر الأفلاك، ودوَّر الكواكب، وما شاكل هذه المباحث والتفكُّر في أشياء ليس في طاقة الإنسان معرفتها، ولا في قوة نفسه تصوُّرها، فعند ذلك دعاهم جهلهم وحيرتهم وشكوكهم إلى القول بقدم العالم وأزليَّته بغير علم ولا بيانٍ، إلاّ أوهامٌ كاذبة وتخييلات باطلة وتمويهات مموَّهةٌ، وقد علم الله تعالى قبل أن خلقهم أنه تَعرِضُ لهم هذه الشكوك والحيرة، فأزاح عِللهم بأن أراهم أشياء لا يشكون فيها ولا في كونها ولا في حقيقتها، لتكون مثالاً لهم وقياساً على ما لا يشاهدونه ويتصوَّرونه في حدوث العالم وصفته، وهي هذه الكائنات الفاسدات من النبات والمعادن والحيوان، وجعل أيضاً مركوزاً في جبلة العقول أن الصنعة المُتقنة لا تكون إلاّ من صانع قدير، وجعل أيضاً أثر الصنعة باقياً في المصنوع يشاهدونها ليلهن ونهارهم من دوران هذه الأفلاك حول المركز، وسير الكواكب فيها، وتعاقُب الليل والنهار والشتاء والصيف على الأركان الأربعة، والتغييرات والاستحالة، وتكوين الكائنات الفاسدات، وكل هذه دلالةٌ للعقول وشواهدٌ للنفوس على حدوث العالم وتكوينه بعد أن لم يكن، إذ لم يوجد في جميع هذه الكائنات الجُزئية شيءٌ خالٍ من علة فاعلية، وعلة هيولانية، وعلة صورية، وعلة تماميّة. ونحن قد بينا في رسالة المبادئ العقلية ما هذه العلل في حدوث العالم وكونه، فاعرِفها من هناك.
وإذ قد ذكرنا طرفاً من كيفية تكوين المعادن، فنذكر الآن طرفاً من أنواع جوهرها وخواصّ أنواعها، وما ذكره الحكماء، فنبدأ بذكر أشرفها الذي هوالذهب والياقوت ثم سائر ما يتلوها نوعاً فنوعاً، فأما الذهب فهوجوهر مُعتدل الطبائع، صحيح المزاج، نفسه متحدةٌ بروحه، وروحه متّحدة بجسده، ونعني بالنفس الأجزاء الهوائية، وبالروح الأجزاء المائية، وبالجسد الأجزاء الترابية. ولكن لشدة اتحاد أجزائه ومُمازجتها لا يحترق بالنار، أن النار لا تقدر على تفريق أجزائه، وهولا يبلى في التراب ولا يصدأ على طول الزمان، ول تُغيره الآفات العارضة، وهوجسم ليّن المغمز، أصفر اللون، حلوالطعم، طيب الرائحة، ثقيل رزين، صُفرةُ لونه نلريَّته. وصفاؤه وبريقه من هوائيَّته، ولينه من دهنيّته، ورطوبته وثقله ورزانته من تُرابيته. لأن كبريته كان نقياً، وزئبقه كان صافياً، ومِزاجه كان معتدلاً، وحرارة المعدن طبخته على طول الزمان برفقٍ واعتدال. فإذا أصابته حرارة النار ذابت رطوبته، ودارت حول جسده، ورطوبته تقابل حرارة النار وتدفع عن جسده إحراقها، وإذا خرجت من النار جمدت تلك الرطوبة. وإذا طُرق امتدَّ تحت المطارق حاراً أوبارداً، واتّسع في الجهات ورقّ وامتدّ، ويُفتَل منه كالخيوط، ويقبل جميع الأشكال من الأواني والحلي، وهويخالط الفضة والنحاس في السبك، وينفصل عنهما إذا طُرِح عليه المرقَشِيثا الذهبي، لأنه جنس من الكبريت يحرِق غيره ولا يحترق. وإذا سُحِق منه وأُدخل في أدوية العين نفع، وإذا كُوِي به موضعٌ لم يَنفَطْ، وكان أسرع إلى البُرء، وينفع من المِرّة السوداء، وداء الحية، وداء الثعلب، وأمراض القلب، وهي قسمة الشمس من بين الكواكب. فمن أجل هذه الخصال والفضائل تجمعه الملوك وتدّخره في الخزائن، ومن أجل ذلك يقلّ وجوده في أيدي الناس ويعزُّ، وتكثُر أثمانه لا لقلّة وجوده، ولكن كلُّ من ظفر بشيء كثيرٍ منه دفنه في الأرض، أوصانه وخبأه فلا يُرى منه ظاهرٌ إلاّ القليل.
وأما اليواقيت فأحجار صلبة حارّة يابسة، شديدة اليُبس، رزينة صافية شفافة، مختلفة الألوان، بين أحمر وأصفر وأخضر وأزرق، وأصلها كلها ماءٌ عذب وقف في معادنها بين الأحجار الصَّلدة والصخور والصفوان زمانا طويلاً، فغَلُظ وصفا وثقُل وأنضجته حرارة المعدن لطول وقوفه، فاتحدت أجزاؤه، وصارت صُلبة لا تذوب في النار البتّة لقلة دهنيته ولا تفرغ لغلظ رطوبته، بل يزداد حُسن لونه. وخاصّة الأحمر منه لا تعمل فيه المبارد لشدة صلابته ويبسه، إلاّ الماس والسباذِجَ بالحكّ في الماء، ومعدنه في البلاد الجنوبية تحت خط الاستواء، وهوقليل الوجود عزيز، كثير الثمن لقلّة وجوده.
ومن منافعه أن من تختّم بشيء منه، وكان في بلدةٍ قد أصاب أهلها الوباءُ والطاعون، سلم منها بإذن الله تعالى، ونبُلَ في أعين الناس، وسهُل عليه قضاء حوائجه وأمور معايشه.
وأما الزُّمُرُّد والزَّبرْجّد فهما حجران يابسان باردان، جنسهما واحد، موجودان في معادن الذهب، وخيرهما وأجودهما أشدهما خُضرة وصفاء وشفافاً. ومن أكثر النظر إلى الزبرجد ذهب عن بصره الكلال، ومن تقلّد منه أوتختّم به سلم من الصرع. والدَّهنَج عدوللزبرجد، ويشبه في النظر، وإذا وُضع معه في موضعٍ واحد كسره وكدِّر لونه وذهب بنضارته.
وأما الدر فقد تقدَّم ذكره وهيئة تكوينه. وأما خاصيّته فإنه ينفع في خفقان القلب من الخوف والجزع الذي يكون من المرّة السوداء، لأنه يطرّي دم القلب، ويدخل في أدوية العين ويشُدّ أعصاب العين، وإن حُكَّ وطُلي به بياض البَرص أذهبه، وإن سُقي ذلك الماء من كان به صَرعٌ أسكنه.
وأما الفضة فإنها أقرب الجواهر الذائبة إلى الذهب، وهي باردة ليّنة معتدلة، حتى تكاد تكون ذهباً، لولا أنه غلب عليها البرد في معدنها قبل النضج، وهي قسمة القمر. فإذا طُرِح عليها المسّ أوالرصاص قبل السَّبك امتزجت بهما، وإذا خلصت منهما تخلَّصت، ويَسودُها الكبريت، ويكسرها الزئبق، ويحسّن لونها البُورَقُ، ويعين على سبكها ويدفع عنها إحراق النار. وإذا سُحقت وأُدخلت في الأدوية المشروبة نفعت من الرطوبات اللزجة، وهي تحترق بالنار إذا ألحَّتْ عليها، وتبلى بالتراب بطول الزمان.
وأما النحاس فهوجرمٌ حارٌّ يابسٌ مُفرطٌ فيه، وهوقريب من الفضة، ليس بينهما تباين إلاّ في الحُمرة واليُبس، وذلك أن الفضة بيضاء ليّنة، والنحاس أحمر يابسٌ كثير الوسخ؛ فحمرتهمن شدة حرارة كبريته، ويبسه ووسخه لغِلظه، فمن قدر على تبييضه وتليينه، أوتصفير الفضة وتليينها فقد ظفر بحاجته. والنحاس إذا ادني من الحموضات أخرج زنجارا، والزنجار سمٌّ. وإن طُلي النحاس بالزئبق أرخاه وكسره؛ وإن سُبك النحاس زطُرح عليه زجاج شاميٌّ، وطُرح بحرارته في الماء، خرج لونه مثل لون الذهب؛ وإذا أُدني من النار اسودّ، لأن النار هي كالقاضي بين الجواهر المعدنية يَفصل بينهما بالحق. ومن أدْمَن الأكل والشرب في أواني النحاس أفسد مزاجه، وعرَضت له أعراضٌ كثيرة شديدة. فإذا أدنيت أواني النحاس من السمك شُمَّ لها رائحة منتنة، وإن كُبَت آنية النحاس على سمكٍ مشوي أومطبوخٍ بحرارتها، صار سُماً قاتلاً.
وأما الطاليقوني فهوجنسٌ من النحاس طُرحت عليه أدوية، حتى صار صُلباً، فإن اتُّخذ منه سكين أوسلاح، وجُرح به حيوان، أضرَّ مضرَّة مُفرطة؛ وان اتخِذ منه شِصٌّ لصيد السمك، وتعلَّق به، لم يمكنه الخلاص وإن صغُر الشص وعظم الحوت. ومن أصابع وحع اللقوة فدخل بيتاً لا يرى فيه الضوء، ونظر إلى مرآة طاليقون، برأ من اللقوة بإذن الله تعالى. وإن اُحمي الطاليقون وغُمِس في الماء لم يقرب ذلك الماء ذبابٌ؛ وإن عُمِل منه منقاشٌ ونُتِف به الشعر من الجسد، ودُهن الموضع، لم يتبُت الشعر بعد ذلك؛ وإن شُرب الشراب من إناء طاليقونيّ لم يُسكر.
وأما القلعيّ فهوقريب من الفضة في لونه، ولكن يباينُها بثلاث صفات: الرائحة والرخاوة والصرير؛ وهذه الآفات دخلت عليه وهوفي معدنه كما تدخل الآفات على الجنين وهوفي بطن أُمه. فرخاوته لكُثْر هوائيته، وصريره لغلظ كبؤيته لقلة نضجه، وإن مُزج بقضيب الرَّيحانة المسمى آساً والمَرْقَشِيثا والملح والزرانخ على ما ينبغي بَرِئ من هذه الآفات. وإذا حُرق القلعي، وجعل في المراهم، بَرِئ الجرح والقروح التي تكون في عيون الناس.
وأما الأُسرُبُ فهوجنس من الرصاص، ولكنه كثير الكبريت غير نضج ومنافعه معروفة بين الناس.
وأما الحديد فهوأجناس، فمنه ليّنٌ رخوٌ، ومنه ما إذا أُسقي الماء ازداد صلابةً وحِدّة، ولا يستغني عنه الصانع، ومنافعه بيّنةٌ ظاهرة لا يستغني الناس عنه، كما لا يُستغنى عن الماء والنار والملح؛ ومنه ما إذا طُرحت عليه أدويةٌ ازداد قوةً وصلابة. ومن الجواهر المعمولة أيضاً الشَّبَه، وهونحاس طُرحت عليه أدوية فازداد صفرةً وليناً.
وأما الإسفندريُّ فهونحاس مُزج بالقلعيّ، والمُفْرَغُ نحاس وأُسربٌ، والمَرداسَنْج من الأُسرُب إذا أُحرق الزِّنجار مع النحاس، والإسفِيذاج من أُسرُب والحموضة، والإسرِنْج منه ومن الكبريت؛ والزِّنجَفْرُ من الزئبق والكبريت، والمُرْتَك من الأُسرُب. وأما منافعها، أعني هذه الأحجار، ومَضارها فهي معروفة بين الناس، وقد دكِرت في كتب الطب بشرحها.
ومن الجواهر المعدنية الزئبق والكبريت، فأما الكبريت فهوحجر دُهني لَزجٌ يلصق بالأحجار المعدنية عند ذوبانها، ويحترق بالنار، ويُحرق الأحجار معه لأنه دُهن كلُّه.
وأما الزئبق فهوجسم ركبٌ سيّال يطير إذا أصابته حرارة النار، ولا صبر له على حرّ النار، وهويخالط الأجسام المعدنية بالتدبير، ويُرخيها ويَكسرها ويوهِنها، فإذا أصابت تلك الأجسام حرارة النار، طار الزئبق ورجع إلى حالته الأُولى صُلباً كما كان. ومثله مع هذه الأحجار كمثل الماء مع الطين اليابس إذا غَلَبه الماء استرخى وتفتَّت، فإذا أصابته حرارة النار أوحرارة الشمس، جفّ وعاد كما كان أولاً.
واعلم أن الكبريت والزئبق أصلان للجواهر المعدنية الذائبة، كما أن التراب والماء أصلان للأجسام الصناعية كاللَّبِن والآجُرِّ والكيزان والغضائر والقُدور، وكلّ ما يُعمل من الطين، وقد تقدّم ذكر كيفية تكوين الجواهر المعدنية الذائبة، وعلل اختلاف طبائعها وصفاتها في فصل قبل هذا.
ومن الجواهر المعدنية أيضاَ أنواع الأملاح والشُّبوب والبوارق والزاجات، فمنها عذبٌ كملح الطعام والملح الأندرانيّ، ومنها مُرّ كملح الصَّاغة، ومنها حادٌّ كالنُّوشادر، ومنها قابضٌ كالشبوب والزاجات، ومنها دواءٌ كالنِّفطيّ والهنديّ، ومنها بوارق الخُبز، ومنها سوارِجُ تَصلحُ للدباغة، ومنها ملحُ القِلى والنُّورة والرَّماد والبَولُ، يستعمله أصحاب الكيميا. وكل هذه رطوباتٌ ومياهٌ تختلط بتُراب بِقاع الأرض تُحرقها حرارة الشمس أوالنار أوحرارة المعدن، فتنعقد وتصير أملاحاً وشُبوباً وبوارق وفُنون الزاجات.
ومن الجواهر المعدنية أنواع الزَّرانيخ والمَرْقَشِيثا والمغنيسيا والشادَنْجُ والكجل والتوتيا، ومنها الزُّجاج والبلور والمينا والطَّلْق والشَّنْجُ والعقيق والفِيرُوزَجُ والسُّنباذَج والجِزْع والاَّزَورد والعنبر والدَّهْنَجُ، ومنها القِير والنِّفط والجصّ والإسفيذاج وما شاكلها.
والعم يا أخي أن لكل نوع من الجواهر خواصّ ومنافع ومضارّ تركنا ذكرها مخافة التطويل، إذ قد ذكرها الحكماء في كتبهم، وهي موجودة في أيدي الناس، ولكن لنذكر من خواص بعضها طرفاً ليكون دليلاً على الباقي الذي لم نذكره منها. فأما الهنج فهوحجر يتكون من معدن النحاس وطبيعته باردة لينة، لأنه دخان مرتفع من الكبريت المتولّد من معدن النحاس، وهوأخضر مثل الزِّنجار، فإذا صار في موضعٍ من جبال المعدن تكاثف وتلبدت أجزاؤها بعضها على بعض، وتجسّد وتحجّر، فهومختلف الألوان أخضر كَدِرٌ حسن اللون، وفيه خاصيّة سُمٍّ من سُقي من سُحالته تقطّعت أمعاؤه وأمرضه وألهب معدته، وإن شُرِبَ وهوصحيح أضرّ، وهويصفومع الهواء ويتكدّر معه، ويُذهب تكسير الذهب وتشقشقه عند الطَّرْق، ومع التاكر يكون أقوى فعلاً، وإن ذوِّب ذلك وجُعل الذُّباب على لسع الزنابير سكّنها، وإن سُحق وأُذيب بالخلّ، وطلي على القُوَباء أذهبها، وينفع في السَّعْفة التي في الرأس، ومن الجواهر المعدنية البازَهر وهوجوهر ليّن أملس، مختلف الألوان، وأصله كان رطوبةً هوائيةً دهنية جمدت في معدنهبطول الزمان، وهوحجر شريف تظهر منه أفعال كريمة، وذلك لأنه ينفع من السموم القاتلة حارةً كانت أوباردةً، حيوانيةً كانت أونباتية أومعدنية تلك السموم، ونحتاج أن نزيد في شرح هذا الباب إذ كانت عقول الناس قد تحيّرت في كيفية أفعال السُّمومات والتِّرياقات والبازَهرات في الأجسام الطبيعية، لأنها أجسام جامدات، وقد قام البرهان على أن الجسم لا فعل له من حيث هوجسمٌ، ولا العرض له فعلٌ أيضاً لأنه أعجز من الجسم بكثير، فيجب أن نذكر أولاً كيفية الأفعال التي تظهر من هذه الأجسام بعضها من بعضٍ، ثم نبيّن من الفاعل بالحقيقة لها وفيها ومنها وبها. وأما السموم فنوعان حارةٌ وباردةٌ، فالباردة منها تُجمِّد الدم والرطوبات الروحانية اللطيفة التي في أعضاء الحيوان، التي بها صَّحة المِزاج وقِوام الحياة. والحارة منها تُذوِّب الدم وتلك الرطوبات وتُطيّرها، فتفنى ويذوب بدن الحيوان مع ذوبانها فيَهلِك. فأما دبيب السموم الحارة في أبدان الحيوانات فمثل دبيب لون الزَّعفران إذا وقع في المياه صبغه في لحظة؛ وأما الباردة منها فهي فعل الإنفَحَة إذا وقعت في اللبن الحليب جمّدته في أقرب مدة. وأما دبيب البازَهْرات والتِّرياقات المضادّة أفعالها لأفعال تلك السموم فهومثل فعل الحُموضات إذا وقعت على صبغ الزَّعفران غَسلته من ساعتها، ومنعته أن يذوب إذا بودِر بها. وأما ما الفاعل المُحرِّك لهذه الأجسام، فهوقوةٌ روحانيةٌ من قُوى النفس الكلية الفلكية السارية في جميع الأجسام من لَدُن فلك القمر إلى منتهى مركز الأرض، وهي المسمّاة الطبيعة. فهذه الأجسام الجزئيات من الحيوان والنبات والمعادن هي للطبيعة كالآلات والأدوات للصانع الفاعل، يفعل بها وفيها ومنها أفعالاً مختلفة، وأعمالاً مُتقنةً بعضها ببعضٍ، كالنّجار الذي يفعل النشر بالمنشار، ويعمل النحت بالفأس، والثقب بالمِثقَب، والكشءَ بالأرَنْدَجِ، ويبرد بالمبرد، والفاعل واحد والأفعال مختلفة بحسب الآلات والأدوات، والأغراض المقصودة. وهذه القوة الفاعلة المتقدِّم ذِكرها هي التي يسميها الأطباء والفلاسفة الطبيعة، ويسميها الناموس ملائكةً. والطبيب هوخادم الطبيعة يناولها ما تحتاج إليه في وقت الحاجة، كما يناول التِّلميذ الأُستاذ أدواته وقت حاجته ويخدمه بها.
فصل واعلم يا أخي أن هذه النفوس الجزئية المتجسدة الخادمة للنفس الكلية، إذا أحسنت في خدمتها للنفس الكلية وطلبت الأجْرَ والجزاء من الله،
فلها منزِلة جليلةٌ عند الله، وكرامةٌ ومكافأةٌ بعد مفارقتها هياكلها، سواءٌ كانت خدمتها في إصلاح أمر الدين والدنيا، فإنه لا يذهب لها عند الله شيء، إذا كنت مُحتسِبَةً لوجه الله تعالى، وطالبةً لما عنده من الوجه المقصود منه إليه، فلا يفوتُها نصيبُها من الدنيا كما ذكر بَرْزَوَيهِ الطبيب في كتاب كليلة ودمنة أن الزّرّاع لم يزرع طلباً للعشب بل للحب، ولا بد للعشب أن ينبت إن شاء الزارع أولم يشأ، كذلك طالب الأجر والجزاء من الله تعالى لا يفوته نصيبه من الدنيا وما قُسم له، ما أراده أولم يُرِد، كَرِه أورضي، زهِد أورغِب، طلب أولم يطلب، وتصديقُ هذا الرأي قول الله تعالى: "ما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليبعدون، ما أُريد منهم من رزقٍ، وما أُريد أن يُطعمون. إن الله هوالرَّزَّاقُ ذوالقوة المتينُ".
واعلم يا أخي أن عبادة الله ليست كلها صلاةً وصوماً، بل عِمارةُ الدين والدنيا جميعاً، لأنه يُريد أن يكونا عامِرَين، فمن يسعى في صلاح أحدهما أوكليهما فإجره على الله، لأنه مالِكُهما حميعاً، والناس كلهم عبيده، وأَحبُّ عِباده إليه من سعى في صلاح عباده وعِمارة عالَمَيهِ جميعاً، وأبغض عباده من سعى في فسادهما جميعاً أوفي فساد أحدهما كما ذكر الله، جل جلاله: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتّلوا أويُصلَّبوا أوتُقطع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ، أويُنفَعوا من الأرض" الآية. وقال تعالى: "وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى".
ومن الجواهر المعدنية الماس وطبيعته البرودة واليبوسة في الدرجة الرابعة، وقلّ ما تجتمع هاتان الطبيعتان في شيء من الأحجار المعدنية، فبهذه الخاصّيّة صار لا يحتكّ بجسم من الأحجار المعدنية إلاّ أثّر فيه أوكسره أوهَشمه، إلاّ جِنساً من الأُسرب فإنه يؤثر فيه ويكسره ويُفتّته مع رخاوته ولينه ونتن رائحته.
واعلم أن مثل تأثير هذا الحجر الضعيف المَهين في هذا الجوهر الشريف القوي كمثل تأثير البَقَّة الضعيفة الصغيرة المهينة في الفيل العظيم الجثة الشديد القوة الذي يقهر الحيوانات بعظيم جثته، وشدة قوته، وهذا يغلبه ويؤذيه ويضرُّ به بصغر جثته وخفّة حركته، فإن في ذلك عِبرةً لأُولي الأبصار ودلالةً لُولي الألباب على أن المُسلِّطَ للصغيرعلى الكبير هوخالقهما ومُصوِّرهما سبحانه.
وأما السُّنْسباذَجُ فهوقريبٌ من هاتين الطبيعتين من الماس، ولكن تأثيره دون تأثيره.
وأما حجر المغناطيس فهوأيضاً عبرةٌ لأُولي الأبصار والتفكُّر في الأمور الطبيعية، وخواص أفعال بعضها في بعض، وذلك أن بين هذا الحجر والحديد مُناسبةً ومشاكلةً في الطبيعة، كالمناسبة والمشاكلة التي بين العاشق والمعشوق وذلك أن الحديد، من شدة يُبسه وصلابة جسمه وقهره للأجسام المعدنية والنباتية والحيوانية، يتحرك نحوهذا الحجر ويلتصق به ويلتزمه كالتزام العاشق المُحب المعشوق المحبوب المشتاق. فإذا فكّر العاقل اللبيب في فعل هذين الحجرين وغيرهما من الأحجار المعدنية والأجسام النباتية، علم وتبين له أن الفاعل المحرِّك لهما هوغيرهما، لأن الجسم لا فعل له من حيث هوجسمٌ ببراهين قد قامت ودلائل قد وضحت، وأن هذه الأجسام كلها، مع اختلافها واختلاف طبائعها وفنون أشكالهاوخواص طبائعها، هي كالأدوات والآلات للفاعل الصانع المحرِّك، وهو النفس الكلية الفلكية التي هذه التأثيرات كلها من أفعالها، وهي المسماة طبيعةً، تظهر وتعمل بإذن باريها، جلّ ثناؤه. وقد تبين بدلائل عقلية أن الباري، جل ثناؤه، لا يباشر الأجسام بذاته ولا يتولى من الأفعال بنفسه إلا الاختراع ةالإبداع حَسْبُ، وأما التأليف والتركيب والصنائع والأفعال والحركات التي تكون بالآلات والأدوات في الأماكن والأزمان إنما يأمُر ملائِكته الموكلين وعباده المؤيدين بأن يفعلوا ما يؤمرون، مثل أمر الملوك والرؤساء لعبيدهم وخدمهم وجنودهم.
أركان الجواهر الأربعة
فصل وقد تبين مما ذكرناه أن الجواهر المعدنية مع كثرة أنواعها واختلاف طبائعها وفنون خواصها، أصلها كلها وهيولاها هي الأركان الأربعة التي تسمى الأُمهات لأجزائها والمُركِّب لها هي الطبيعة بإذن الله تعالى؛ وتبين بأن الغرض من هذه الجواهر المعدنية هومنافع الناس والحيوان، وإصلاح أمر الحياة الدنيا ومعيشة الحيوان إلى وقت معلوم.
230
ملك _الحب
25/08/2006, 19:43
مشكووووووووووووووووووووووور
وفي أنتظاااااااااااااار البقية
تشاااااااااووو
ملك _الحب
27/08/2006, 17:42
وينك أخوي كريمووووو بليز بدي الكتاب
ياليت بتخلصوا كلوا كامل
تشاااااااووو
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأخ العزيز الفاضل لا أعرف كيف أشكرك على ما قدمته لنا من درر وجواهر لا يمكن أن تقدر بثمن
ولكن،،،،،،،ما زلت أنتظر البقية بفارغ الصبر .
أرجو ألا تطيل علينا.
مشكوووووووووووور:D :D
وصدقني كنت ادور عليه
يسلمووووووووووووو :D :D
أشكرك عزيزي krimbow من أعماق قلبي على هذا الكنز الرائع وأتمنى أن تكمل البقيه ونحن في الانتظار
hummam-a
04/06/2007, 07:30
مشكور يا عزيزي سمعت كتير عن الكتاب و أنت عرفتني عليه الله يعطيك العافي و الصحه
nassim165
08/01/2008, 19:51
مشكوووووووووووووووووور كتير على الكتاب القيم والنافع بس ياريته لو كان بملف واحد اسهل للتحمل وتحياتي يا غالي
أرى أن هذا الفكر ليس إبداعيا كما يتراءى لكاتب الموضوع بل هو نقل للأفلاطونية المحدثة من مصادرها بشيء من التحوير
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة