-
دخول

عرض كامل الموضوع : رسائل اخوان الصفا، و خلان الوفا


صفحات : 1 2 3 [4] 5

krimbow
10/06/2006, 00:49
فصل في قوله وأن لا يستعمل البرهان الأعراض الملازمة وإن علة الشيء من ذاتياته، وكون المقدمة كلية.

قوله: أن لا يستعمل في البرهان الأعراض الملازمة، إنما هولأن الأعراض الملازمة لا تفارق الأشياء التي هي لازمة لها، كما أن العلة لا تفارق معلولها، وذلك أنه متى حكم على شيء بأنه معلول، فقد وجب أن له علة فاعلة له. والأعراض الملازمة، وإن كانت لا تفارق، فليست هي فاعلة له. مثال ذلك أن الموت، وإن كان لا يفارق القتل، فإنه ليس له بعلة، ولا القتل أيضاً علة للموت ذاتية، إذ قد يكون موت كثير بلا قتل، فلا يكون معلول بلا علة. وأما قوله: وأن تكون العلة ذاتية للشيء، فإنما قال هذا من أجل أنه قد يكون للشيء الواحد علل عرضية، ولكنها لا تكون مستمرة في جميع أنواع ذلك الجنس، ولا جميع أشخاص النوع، كالقتل الذي هوعلة عرضية للموت غير مستمرة في جميع أنواعه، ولكن تحتاج أن تكون العلة ذاتية، حتى تكون القضية صادقة قبل العكس وبعده، كقولك: كل ذي لون فهو جسم، فإذا عكسته وقلت: وكل جسم فهو ذولون، لأنه لا يوجد شيء ذولون إلا وهوجسم، فإذاً الجسم علة ذاتية لذي اللون.
وأما قوله: وأن تكون المقدمة كلية، فمن أجل أن المقدمات الجزئية لا تكون نتائجها ضرورية ولكن ممكنة، كقولك: زيد كاتب، وبعض الكتاب وزير، فيمكن أن يكون زيد وزيراً، وأما إذا قيل: كل كاتب فهو يقرأ، وزيد كاتب، فإذاً زيد بالضرورة قارئ.
فصل في أن الحكم بالصفات الذاتية وأما قوله: وأن يكون كون المحمول في الموضوع كوناً أولياً، فمن أجل أن المحمولات في الموضوعات على نوعين، منها أوليات، ومنها ثوان، مثال ذلك: كون ثلاث زواية في كل مثلث كوناً أولاً، لأنها هي الصورة المقومة له، فإما أن تكون حادة أوقائمة أومنفرجة، فهو كون ثان. فقد استبان أنه لا يستعمل في القياس البرهاني إلا الصفات الذاتية الجوهرية، وهي الصورة المقومة للشيء، وبها يكون ذلك الحكم المطلوب الذي يخرج في النتيجة الصادقة.
وأعلم يا أخي أن الصفات الذاتية الجوهرية ثلاثة أقسام: جنسية ونوعية وشخصية، كما بينا في رسالة إيساغوجي، فأقول، واحكم حكماً حتماً كما تعلمه ولا تشك فيه: بأن كل صفة جنسية فهي تصدق عند الوصف على جميع أنواع ذلك الجنس ضرورة. وهكذا أيضاً كل صفة نوعية فهي تصدق على جميع أشخاص ذلك النوع عند الوصف لها. فهذه الصفات هي التي تخرج في النتيجة صادقة، فاستعملها في البرهان، واحكم بها. وأما الصفات الشخصية فإنها ليس من الضرورة أن تصدق على جميع النوع، ولا كل صفة نوعية تصدق على جميع الجنس، فلا تستعملها في البرهان، ولا تحكم بها حكماً حتماً، فإنك لست منها على حكم يقين. فقد عرفت واستبان لك أن الحكماء والمتفلسفين ما وضعوا القياس البرهاني إلا ليعلموا به الأشياء التي لا تعلم إلا بالقياس، وهي الأشياء التي لا يمكن أن تعلم بالحس ولا بأوائل العقول، بل بطريق الاستدلال وهوالمسمى البرهان.
وأعلم يا أخي بأن لكل صناعة أهلاً، ولأهل كل صناعة أصولاً في صناعتهم، هم متفقون عليها، وأوائل في علومهم لا يختلفون فيها، لأن أوائل كل صناعة مأخوذة من صناعة أخرى قبلها في الترتيب.
فصل في أن صناعة البرهان نوعان وأعلم بأن أوائل صناعة البرهان مأخوذة مما في بداية العقول، وأن التي في بداية العقول مأخوذة أوائلها من طريق الحواس كما بينا قبل.
وأعلم أن صناعة البرهان نوعان: هندسية ومنطقية. فالأوائل التي في صناعة الهندسة مأخوذة من صناعة أخرى قبلها مثل قول أقليدس: النقطة هي شيء لا جزء له، والخط طول بلا عرض، والسطح ما له طول وعرض، وما شاكل هذه من المصادرات؛ المذكورة في أوائل المقالات. فهكذا أيضاً حكم البراهين المنطقية، فإن أوائلها مأخوذة من صناعة قبلها، ولا بد للمتعلمين أن يصادروا عليها قبل البرهان. فمن ذلك قول صاحب المنطق: إن كل شيء موجود، سوى الباري - جل جلاله- فهو إما جوهر وإما عرض. ومثل قوله: إن الجوهر هوالقائم بنفسه، القابل للمتضادات، وإن العرض هوالذي يكون في الشيء لا كجزء منه، يبطل من غير بطلان ذلك الشيء. ومثل قوله: إن الجوهر منه ما هوبسيط كالهيولى والصورة، ومنه ما هومركب كالجسم. ومثل قوله: إن كل جوهر فهو إما علة فاعلة أومعلول منفعل، ومثل قوله: كل علة فاعلة فهي أشرف من معلولها المنفعل. ومثل قوله: ليس بين السلب والإيجاب منزلة، ولا بين العدم والوجود رتبة، وإن العرض لا فعل له؛ وما شاكل هذه المقدمات التي يصادر عليها المتعلمون قبل البراهين.
وينبغي لمن يريد النظر في البراهين المنطقية أن يكون قد ارتاض في البراهين الهندسية أولاً، وقد أخذ منها طرفاً، لأنها أقرب من فهم المتعلمين، وأسهل على المتأملين، لأن مثالاتها محسوسة مرئية بالبصر، وإن كانت معانيها مسموعة ومعقولة، لأن الأمور المحسوسة أقرب إلى فهم المتعلمين.
وأعلم بأن البراهين سواء كانت هندسية، أومنطقية، فلا تكون إلا من نتائج صادقة، والنتيجة الواحدة لا بد لها من مقدمتين صادقتين أوما زاد على ذلك، بالغاً ما بلغ، مثال ذلك ما بين في كتاب أقليدس في البرهان على أن ثلاث زوايا من كل مثلث مساوية لزاويتين قائمتين، لم يكن ذلك إلا بعد اثنين وثلاثين شكلاً. وعلى هذا المثال سائر الأشكال تحتاج إلى براهين أخر، وأن مربع وتر؛ الزاوية القائمة مساو لمربعي الضلعين، لم يكن البرهان عليه إلا بعد ستة وأربعين شكلاً، ويسمى هذا الشكل بشكل العروس، وعلى هذا المثال سائر المبرهنات. وهكذا أيضاً حكم البراهين المنطقية، وربما تكفيه مقدمتان، وربما يحتاج إلى عدة مقدمات، مثال ذلك في البرهان على وجود النفس مع الجسم تكفي ثلاث مقدمات، وهي هذه: كل جسم فهو ذوجهات، وهذه مقدمة كلية موجبة صادقة في أولية العقل؛ والمقدمة الأخرى: وليس يمكن الجسم أن يتحرك إلى جميع جهاته دفعة واحدة، وهذه مقدمة كلية سالبة صادقة في أولية العقل؛ والمقدمة الثالثة: وكل جسم يتحرك إلى جهة دون جهة فلعلة ما تحرك، له مقدمة كلية صادقة في أولية العقل؛ فينتج من هذه المقدمات وجود النفس. والذي ينبغي ليبرهن بأنها جوهر لا عرض، أن يضاف، إلى هذه المقدمات التي تقدمت، هذه الأخرى: وكل علة محركة للجسم لا تخلوأن تكون حركتها على وتيرة واحدة في جهة واحدة، مثل حركة الثقيل إلى أسفل، والخفيف إلى فوق، فتسمى هذه علة طبيعية. وأما أن تكون حركتها إلى جهات مختلفة، وعلى فنون شتى بإرادة واختيار مثل حركة الحيوان، فتسمى نفسانية، وهذه قسمة عقلية مدركة حساً. وكل علة محركة للجسم بإرادة واختيار فهي جوهر، فالنفس إذاًجوهر، لأن العرض لا فعل له. وهذه مقدمات مقبولة في أوائل العقول، فينتج من هذه أن النفس جوهر.
فصل في كيفية البرهان على أنه ليس في العالم خلاء ومعنى الخلاء هوالمكان الفارغ الذي لا متمكن فيه، وليس يعقل في العالم مكان لا مضيء ولا مظلم، مقدمة كلية سالبة صادقة في أولية العقل.
مقدمة أخرى: وليس يخلوالنور والظلمة أن يكونا جوهرين أوعرضين، أوأحدهما جوهراً والآخر عرضاً، وهذه أقسام عقلية صحيحة.
مقدمة أخرى: فإن يكونا جوهرين، فإذاً الخلاء ليس بموجود، أوعرضين، فالعرض لا يقوم إلا في الجوهر، فالخلاء إذاً ليس موجوداً، وإن يكن أحدهما جوهراً، والآخر عرضاً، فهكذا الحكم.

krimbow
10/06/2006, 00:50
فصل في البرهان على أنه ليس في العالم لا خلاء ولا ملاء

أعلم يا أخي بأن الخلاء والملاء صفتان للمكان، والمكان صفة من صفات الأجسام، فإن كان خارج الفلك جسم آخر، فقولنا: العالم، نعني به ذلك الجسم مع الفلك جميعاً، فمن أين خارج العالم شيء آخر.

فصل في

معنى قول الحكماء هل العالم قديم أومحدث

فإن كان المراد بالقديم أنه قد أتى عليه زمان طويل، فالقول صحيح؛ وإن كان المراد به أنه لم يزل ثابت العين على ما هوعله الآن، فلا؛ لأن العالم ليس بثابت العين على حالة واحدة طرفة عين، فضلاً عن أن يكون لم يزل على ما هوعليه الآن، وذلك أن قول الحكماء في تسميتهم العالم إنما يعنون به عالم الأجسام، وهونوعان: فلكي وطبيعي. فأما الأجسام الطبيعية التي دون فلك القمر، فهي نوعان: الأركان الكليات والمولدات الجزئيات. فالمولدات دائماً في الكون والفساد، وأما الأركان الكليات فهي دائماً في التغير والاستحالة، لا يخفى هذا على الناظرين في الأمور الطبيعية. وأما الأجسام الفلكية فهي دائماً في الحركة والنقلة والتبدل في المحاذيات، فأين ثباتها على حالة واحدة، وأما أن يكون يراد بالثبات الصورة والشكل الكري الذي هوعليه في دائم الأوقات، فليعلم بأن الشكل الكري والحركة الدورية ليسا للجسم من حيث هوجسم، ولا مقومين لذاته، بل هما صورتان متممتان بقصد قاصد كما بينا في رسالة الهيولى والصورة. وكل صورة من الصور بقصد قاصد، لا يكون ثابتة العين، أبدية الوجود، وإنما يكون الشيء ثابت العين، أبدي الوجود بالصورة المقومة.
وأعلم يا أخي بأن الحافظ للعالم على هذه الصورة، هو سرعة حركة الفلك المحيط، والمحرك للفلك هو غير الفلك، وأن تسكين الفلك عن الحركة بطلان العالم، وإنما يكون طرفة عين كما قال- عز وجل-:" وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أوهو أقرب".
وأعلم بأنه إن وقف الفلك عن الدوران، وقفت الكواكب عن مسيرها، والبروج عن طلوعها وغروبها، وعند ذلك تبطل صورة العالم وقوامه، وتقوم القيامة الكبرى، وهذا لا محالة كائن، لأن كل شيء في الإمكان، إذا فرض له زمان بلا نهاية، فلا بد أن يخرج إلى الفعل؛ ووقوف الفلك عن الدوران من الممكن، لأن الذي يحركه يمكنه أن يسكنه، وهو أهون عليه وله المثل الأعلى. وقد بينا في رسالة المبادئ ما العلة في حدوث عالم الأجسام، وفي رسالة البعث والقيامة ما علة فناء عالم الأجسام.

krimbow
10/06/2006, 00:51
فصل في أن

الإنسان إذا ارتقى نفساً صار ملكاً

وأعلم يا أخي أن الإنسان إذا سلك في مذهب نفسه، وتصرف في أحوالها، مثل ما سلك به في خلق جسده وصورة بدنه، فإنه سيبلغ أقصى نهاية الإنسانية مما يلي رتبة الملائكة، ويقرب من باريه- عز وجل- ويجازى بأحسن الجزاء، مما يقصر الوصف عنه، كما وصف الله- عز وجل - فقال:" فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون". وأما ما سلك به في خلقه فهو أنه ابتدئ من نطفة من ماء مهين، ثم كان علقة؛ جامدة في قرار مكين، ثم كان مضغة؛ ثم كان جنيناً مصوراً تاماً، ثم كان طفلاً متحركاً حساساً، ثم كان صبياً ذكياً فهماً، ثم كان شاباً متصرفاً قوياً نشيطاً، ثم كان كهلاً مجرباً عالماً عارفاً، ثم كان شيخاً حكيماً فيلسوفاً ربانياً، ثم بعد الموت تكون نفسه ملكاً سماوياً روحانياً أبدي الوجود، ملتذاً مسروراً فرحاً باقياً سرمداً أبداً.
وأعلم يا أخي بأنك لم تنقل رتبة من هذه المراتب إلا وقد خلع عنك أعراض وأوصاف ناقصة، وألبست ما هو أجود منها وأشرف، فهكذا ينبغي أن لا ترتقي في درجة العلوم والمعارف، إلا وتخلع عن نفسك أخلاقاً وعادات وآراء ومذاهب وأعمالاً، مما كنت معتاداً لها منذ الصبى من غير بصيرة ولا روية، حتى يمكنك أن تفارق الصورة الإنسانية، وتلبس الصورة الملكية، ويمكنك الصعود إلى ملكوت السموات وسعة عالم الأفلاك، وتجازى هناك بأحسن الجزاء وأوفر الثواب، وتعيش بألذ عيش مع أبناء جنسك الذين سبقوك إليها من الحكماء والأخيار المؤمنين الأبرار، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
وأعلم يا أخي بأن الإنسان مطبوع على استعمال القياس منذ الصبى، كما هو مجبول على استعمال الحواس بلا فكر ولا روية كما بينا قبل، ولكن قوانين القياسات مختلفة، كما قد تبين في كتب المنطق وشرائط الجدل بشرح طويل، ولكن نذكر منها طرفاً ليكون مثالاً على سائرها. فمن ذلك أن الصبيان يجعلون قوانين القياسات مختلفة، كما يجعلون قياساتهم أحوال أنفسهم وآبائهم وإخوانهم، وتصرفهم في الأمور، وما يجدون في منازلهم من الأشياء، أصولاً على سائر أحوال الصبيان وتصرف آبائهم، وما يكون في منازلهم، وإن لم يروهم ولم يشاهدوا أحوالهم، قياساً على ما عرفوا من أحوال أنفسهم. وأما العقلاء البالغون من الناس فإنهم جعلون قوانين قياساتهم ما عرفوه من الأمور، في متصرفاتهم وما قد جربوه من الأحوال، أصولاً يقيسون بها سائر الأشياء مما لم يشاهدوه ولا جربوه، بل قياساً إلى ما عرفوه حسب. وأما العلماء الذين يتعاطون الجدل ودقيق النظر، فإنهم يجعلون قوانين قياساتهم ما قد اتفقوا عليه هم وخصماؤهم، أصولاً ومقدمات يقيسون عليها ما هم فيه مختلفون، سواء كان ما اتفقوا عليه حقاً أوباطلاً، صواباً أوخطأً، وأما المرتاضون بالبراهين الهندسية أوالمنطقية فإنهم يجعلون قوانين قياساتهم الأشياء، التي هي في أوائل العقول، أصولاً ومقدمات، ويستخرجون من نتائجها معلومات أخرى ليست بمحسوسات ولا معلومات بأوائل العقول، بل مكتسبة بالبراهين الضرورية، ثم يجعلون تلك المعلومات المكتسبة مقدمات وقياسات، ويستخرجون من نتائجها معلومات أخرى هي ألطف وأدق مما قبلها؛ وهكذا يفعلون دائماً طول أعمارهم. ولوعاش الإنسان عمر الدنيا لكان له في تلك متسع.

krimbow
10/06/2006, 00:52
فصل في أن الحيوانات تتفاوت في الحواس

ومعلوماتها

وأعلم يا أخي بأن كل حيوان كان أكثر حواس فإنه يكون أكثر محسوسات، فأما الإنسان فله هذه الخمس بكمالها، ولكن كل من كان من الناس أكثر تأملاً لمحسوساته، وأكثر اعتباراً لأحوالها، كانت المعلومات التي في أولية العقل في نفسه أكثر. ومن كان بهذا الوصف وجعل هذه المعلومات الأولية مقدمات وقياسات، واستخرج نتائجها، كانت المعلومات البرهانية في نفسه أكثر. وكل من كان أكثر معلومات حقيقة، كان بالملائكة أشبه وإلى ربه أقرب.

فصل في المعلومات البرهانية

والأمور الروحية

وأعلم يا أخي بأن الإنسان العاقل اللبيب إذا أكثر التأمل والنظر إلى الأمور المحسوسة، واعتبر أحوالها بفكرته، وميزها برويته، كثرت المعلومات العقلية في نفسه. وإذا استعمل هذه المعلومات بالقياسات، واستخرج نتائجها، كثرت المعلومات البرهانية في نفسه. وكل نفس كثرت معلوماتها البرهانية، كانت قوتها على تصور الأمور الروحانية التي هي صورة مجردة عن الهيولى بحسب ذلك، وعند ذلك تشبهت بها وصارت مثلها بالقوة. فإذا فارقت الجسد عند الممات صارت مثلها بالفعل، واستقلت بذاتها، ونجت من جهنم عالم الكون والفساد، وفازت بالدخول إلى الجنة عالم الأرواح التي هي دار الحيوان، لوكانوا يعلمون أبناء الدنيا الذين يريدون الحياة الدنيا، ويتمنون الخلود فيها:" يود أحدهم لويعمر ألف سنة، وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر." فأعيذك أيها الأخ أن تكون منهم، بل كن من أبناء الآخرة وأولياء الله الذين مدحهم بقوله تعالى توبيخاً لمن زعم أنه منهم فقال- جل جلاله-:" قل: يا أيها الذين هادوا؛ إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين." فبادر يا أخي واجتهد في طلب المعارف الربانية واكتساب الأخلاق الملكية، وسارع إلى الخيرات من الأعمال الزكية قبل فناء العمر وتقارب الأجل، واغتنم خمساً قبل خمس، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: اغتنم فراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وصحتك قبل سقمك، وشبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وتزود فإن خير الزاد التقوى، فلعلك توفق للصعود إلى ملكوت السماء وسعة الأفلاك، وتدخل إلى الجنة عالم الأرواح بنفسك الزكية الروحانية. لا بجسدك الجثة الجرمانية، وفقك الله أيها الأخ للسداد، وهدانا وإياك للرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد إنه رؤوف بالعباد.
تمت الرسالة بعون الله سبحانه وتعالى، والحمد لله وحده، وصلى الله على رسوله سيدنا محمد وآله وسلم تسليماً، وبها تم القسم الأول في الرياضيات من كتاب" إخوان الصفا وخلان الوفا" ويتلوه القسم الثاني في الطبيعيات الجسمانية، أوله رسالة الهيولى والصورة.
\/رسائل الجسمانيات والطبيعيات

krimbow
10/06/2006, 00:52
الرسالة الاولى في بيان الهَيُولى والصورة والحركة

والزمان والمكان

وما فيها من المعاني إِذا أُضيف بعضها إِلى بعض وهي الرسالة الخامسة عشرة من رسائل إِخوان الصفاء بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، آللهُ خيرٌ أَمّا يُشرِ كون؟ اعلم أَيها الأَخ، أَيدك الله وإِيانا بروحٍ منه، أَنَّا قد فرغنا من الرسائل الرياضية بجُملتها حسب ما وعدنا في صَدر الكتاب، واستوفينا الكلام في ذلك حسب ما يليق بنا؛ فعلينا أن نشتغل بذكر القسم الثاني وهوفي "الجسمانيات الطبيعيّات" فلنبدأ بالرسالة الأوُلى منها في "الهَيُولى الصورة" فنقول: لما كان النظر في علم الطبيعيات جُزءاً من أَجزاء صِناعة إخواننا، أيّدهم الله، والأصلُ في هذا العلم هومعرفة خمسة أشياء، وهي الهَيُولى والصورة والحركة والزمان والمكان، وما فيها من معاني إذا أُضيف بعضها إلى بعض، احتَجنا أن نذكر في هذه الرسالة طرَفَاً من معاني الهَيُولى والصورة، شِبهَ المدخل والمقدمات، ليكون أقربَ من فَهم المبتدئين عند النظر في الطبيعيات، وأسهلَ على تعليمهم، فنقول: اعلم، وفَّقك الله، ان معنى قول الحكماء: "الهيولى" إنما يَعنون به كلّ جوهر قابلٍ للصورة، وقولُهم "الصورة: يَعنون به كل شكلٍ ونقشٍ يَقبَله الجوهر.
واعلم ان اختلاف الموجودات إنما هوبالصورة لا بالهيولى، وذلك أنا نجد أشياءَ كثيرةً جوهرها واحدٌ، وصُورُها مختلفة، مثالُ ذلك السكين والسيف والفأس والمنشار وكلُّ ما يُعمَل من الحديد من الآلات والأدوات والأواني، فإن اختلاف أسمائها من أجل اختلاف صورها، لا من أجل اختلاف جواهرها، لأن كلّها بالحديد واحدٌ. وكذلك الباب والكرسيُّ والسرير والسفينة وكلُّ ما يُعمَل من الخشب، فإن اختلاف اسمائها إنما هوبحسب اختلاف صورها، فأما هَيُولاها التي هي من الخشب فواحدةٌ. وعلى هذا المثال يُعتبر حال الهَيُولى والصورة في المصنوعات كلها، لأن كل مصنوع لا بُدّ له من هيولى وصورة يُركّب منهما.
واعلم أن الهيولى على أربعة أنواع، منها هَيُولى الصناعة، وهيولى الطبيعة، وهيولى الكُلّ، والهيولى الأولى. فهيولى الصناعة هي كلُّ جسم يَعمَلُ منه وفيه الصانع صَنعَته، كالخشب للنجارين، والحديد للحدّادين، والتراب والماع للبنائين، والغَزلِ للحاكة، والدقيق للخبّازين، وعلى هذا القياس كلُّ صانع لا بُدَّ له من جسم يَعمَل صَنعَته منه وفيه، فذلك الجسمُ هوهيولى الصِّناعة. أما الأشكال والنقوش التي يعملها فيها فهي الصورة، فهذا هومعنى الهيولى الطبيعية فهي الأركانُ الأربعة، وذلك أن كلَّ ما تحت فلك القمر من الكائنات أعني النباتَ والحيوانَ والمعادن، فمنها تتكوّنُ وإليها تستحيل عند الفساد. أما الطبيعة الفاعِلةُ لهذا فهي قوةٌ من قُوى النفس الكُلّيّة الفلكية، وقد بيّنّا كيفيّة فِعلهافي هذه الهَيُولى في رسالة أُخرى. وأما هيولى الكلّ فهي الجسم المُطلَق الذي منه جُملةُ العالم، وأعني الأفلاك والكواكب والأركان والكائنات أجمع، لأنها كلّها أجسام وإنما اختلافُها من أجل صُورها المختلفة. وأما الهيولى الأولى فهي جوهرٌ بسيط معقول لا يُدركه الحسُّ، وذلك أنه صورةُ الوجود حَسْبُ، وهو الهُوِيَّةُ. ولما قَبِلت الهوية الكميّة صارت بذلك جسماً مُطلقاً مشاراً اليه أنه ذوثلاثة أبعادٍ التي هي الطول والعَرض والعُمق، ولما قَبِلَ الجسمُ الكيفيّة وهي الشكل، كالتداوير والتثليث والتربيع وغيرها من الأشكال، صار بذلك جسماً مخصوصاً مُشاراً إليه، أيُّ شكلٍ هو؛ فالكيفية هي كالثلاثة، والكيفية هي كالاثنين، والهُوية كالواحد، وكما أن الثلاثة متأخرةُ الوجود عن الكميّة؛ وكما أن الاثنين متأخرة عن الواحد، كذلك الكميّة متأخرة الوجود عن الهُوية؛ والهُوية هي مُتقدمة الوجود عن الكميّةِ والكيفيةِ وغيرهما، كتقدم الواحد على الاثنين والثلاثة وجميع العدد.
ثم اعلم أن الهُوية والكمية والكيفية كلُّها صورٌ بسيطة معقولة غيرُ محسوسة، فإذا تُركت بعضُها على بعض صار بعضها كالهيولى، وبعضُها كالصورة، فالكيفيةُ هي صورةٌ في الكمية والكمية هيولى لها؛ والكمية هي صورةٌ في الهوية والهوية هيولى لها، والمثال في ذلك من المحسوسات أن القميص صورةٌ في الثوب، والثوب هيولى له، والثوب صورة في الغَزل، والغزل هيولى له، والغزل صورةٌ في القطنِ، والقطن هيولى له، والقطن صورةٌ في النبات، والنبات هيولى له، والنبات صورةٌ في الأركان وهي هيولى له، والأركان صورةٌ في الجسم، والجسم هيولى لها، والجسمَ صورةٌ في الجوهر، والجوهر هيولى له، وكذلك الخبزُ صورةٌ في العجين، والعجينُ هيولى له، والعجين صورةٌ في الدقيق، والدقيقُ هيولى له، والدقيق صورةٌ في الحَبِّ، والحبُّ هيولى له، والحبُّ صورة في النبات، والنباتُ هيولى له؛ والنباتُ صورة في الأركان، وهي هيولى له، وهي صورة في الجسم، والجسمُ هيولى لها؛ والجسمُ صورةٌ في الجوهر، والجوهرُ هيولى له.
وعلى هذا المثال يُعتَبرُ حال الصورة عند الهيولى، وحالُ الهيولى عند الصورة، إلى أن تنتهي الأشياء كلُّها إلى الهيولة الأولى التي هي صورة الوجود حَسْبُ، لا كيفية فيها ولا كمية، وهي جوهرٌ بسيط لا تركيب فيه بوجه من الوجوه، قابلٌ للصور كلِّها ولكن على الترتيب كما بيّنا لا أيَّ صورةٍ كانت، تأخرت أوتقدمت، بل الأول فالأول؛ مثال ذلك أن القطن لا يَقبلُ صورةُ الثوب إلا بعد قَبوله صورةَ الغَزَل، والغزلَ لا يَقبَلُ صورة القميص إلا بعد قَبوله صورة الثوب. وكذلك الحَبُّ لا يقبلُ صورة العجين إلا بعد قَبوله صورة الدقيق، والدقيق لا يقبَلُ صورة الخبز إلا بعد قَبوله صورة العجين، وعلى هذا المثال يكون قَبول الهيولى للصوَر واحدةً بعد أُخرى.
ثم اعلم أن الأجسام كلّها جنسٌ واحد من جوهرٍ واحدٍ وهيولى واحدةٍ، وإنما اختلافها بحسب اختلاف صورِها، ومن أجلها صار بعضُها أصفى من بعض وأشرف، وذلك أن عالم الأفلاك أصفى وأشرف من عالم الأركان، وعالَمَ الأركان بَعضها أشرف من بعضٍ، وذلك أن النار أصفى من الهواء وأشرف منه، والهواء أصفى من الماء وألطفُ منه، والماءَ أصفى من التراب وأشرفُ منه، وكلّها أجسامٌ طبيعية يستحيل بعضها إلى بعض؛ وذلك أن النار إذا أُطفئِت صارت هواء، والهواءَ إذا غَلظ صار ماء، والماءَ إذا غَلظ وجَمُدَ صار أرضاً، وليس للنار أن تَلطُف، أوللأرض أن تغلظَ فتصير شيئاً آخر، بل إذا تكوّنت أجزاؤها يكون منها المولِّدات، أعني المعادِنَ والنباتَ الحيوانَ، لكن يكون بعضها أشرَف تركيباً من بعضٍ، وذلك أن الياقوت أصفى من البِلَّور وأشرفُ منه، وأن البِلّور أصفى من الزُّجاج وأشرف منه، والزُّجاج أصفى من الخزف وأشرف منه، وكذلك الذَّهبُ أشرفُ من الفضة وأصفى منها، والفضةُ أصفى من النُّحَاس وأشرف منه، والنحاسُ أصفى من الحديد وأشرف منه، والحديد أشرف من الأُسرُبِ، وكلها أحجارٌ معدنية أصلُها كلها الزِّئبَقُ والكِبريت؛ والزِّئبَقُ والكِبريت أصلُهما التُّراب والماء والهواء والنار، فهَيولاها واحد، وصورها مختلفة، وصفاؤها وشرَفها بحسب تركيبها واختلاف صورِها، وكذلك حُكم الحيوان والنبات، فإنها بالهيولى واحدٌ، وإن اختلافها وشرف بعضِها على بعض بحسبِ اختلاف صُورِها.

krimbow
10/06/2006, 00:53
فصل في الأجسام الجزئية

اعلم أن الأجسام الجزئية منها ما يَقبل صورةَ الكُلّي إذا صوِّرَ فيه، فيَصيرُ بقَبوله تلك الصورة أفضل وأشرف من سائر الأجسام الجُزئية السَّاذجة، والمثالُ في ذلك قِطعةٌ من النُّحاس إذا صُوِّر فيها الفلك، مثلُ الأصطَرلابِ وذاتِ الحلَق والكُرَةِ المصوَّرة، فإنها عند ذلك تكون أشرف وأفضل وأحسن من أن تكون ساذجةً، وكذلك كلُّ جسم قَبِلَ صورةً ما، فإنه عند ذلك يكون أفضلَ وأشرف وأحسن من كونِه ساذجاً، فهكذا الحُكمُ في جواهر النفوس، وذلك أنها كلَّها جنسٌ واحد وجوهرٌ واحد، وأن اختلافها بحسَبِ معارفها وأخلاقها وآرائها وأعمالها، لأن هذه الحالات هي صوَرٌ في جواهرها وهي كالهيولى، وكذلك النفسُ الجُزئيّة إذا قَبِلت عِلماً من العلوم تكون أفضلَ وأشرف من سائر النفوس التي هي أبناء جنسها.
ثم اعلم أن العلوم في النفس ليست بشيء سوى صور المعلومات انتزعتها النفس وصوَّرتها في فكرها، فيكون عند ذلك جوهرُ النفس لصوَر تلك المعلومات كالهيولى، وهي فيها كالصورة.
واعلم أن من الأنفس الجزئية ما يتصوّر بصورة النفس الكُليّة، ومنها ما يقاربها وذلك بحسب قَبولها ما يَفيض عليها من العلوم والمعارف الأخلاق الجميلة، وكلما كانت أكثر قبولاً كانت أفضل وأشرف من سائر أبناء جنسها، مثلَ نفوس الأنبياء، عليهم السلام، فإنها لما قَبِلت بصفاء جوهرها الفيضَ من النفس الكلّية أَتت بالكتب الإلهية التي فيها عجائب العلوم الخفيّة، والمعاني اللطيفة، والأسرار المكنونة التي لا يَمَسُّها إلاَّ المُطَّهرون من أدناس الطبيعة، وما وضَعَت من الشرائع العلمية النافعة للكلّ، والسُّنن العادلة الزكيّة، فاستنقذوا بها نفوساً كثيرةً غريقةً في بحر الهيولى، وأسرِ الطبيعة؛ ومثلَ نفوس المُحقِّقين من الحكماء التي استنبطت علوماً كثيرة حقيقية، واستخرجت صنائعَ بديعةً، وبنًتْ هياكلً حكيمةً، ونَصَبتْ طِلّسماتٍ عجيبةً؛ ومثل نفوس الكهنة والمُخبِّرة بالكائنات قبل كونها بدلائلَ فلكيةٍ وعلاماتٍ زَجْرية، وإلى مثل هذه النفوس أشاروا بقولهم: الفلسفةُ هي التشبيه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية، وإليها أشاروا بقولهم: من خاصيّةِ العقل المنفعل أن يقبل الجزءُ منه صورة الكُلّ؛ وإليها أشار القائل بقوله: كلُّ الهياكل صورةٌ مذمومةٌ،إلاّ التي في صورة الأفلاكِوأتمُّها بين الـذواتِ لأنـهـاقَبِلتْ تماماً صورة الإدراككم بين نفسٍ شامخٍ في ذِروةٍ،أوما يكونُ حِجارة الحَكّـاكِوإليها أشار القائل بقوله: وما كان إلاّ كوكباً كان بـينـنـافودَّعنا، جادتْ معاهِـدَه رُهْـموأصبحَ روحاً لم يُقيِّدْه مَـنـزِلٌ،وأضحى بسيطاً ليس يُدرِكه وَهم رأَى المَسكَن العُلْويَّ أَولى بمثلِه،ففاز، وأَضحى بين أَشكاله نَجْمُواعلم يا أخي أن فضائل النفس الكلية فائضةً على الأنفس الجزئية دُفعةً واحدة،مبذولة لها دائمَ الأوقات؛ لكنّ لأنفسّ الجزئية لا تُطيق قبولها إلاّ شيئاً بعد شيء في مَمرِّ الزمان، والمثالُ في ذلك فيضُ الأنفس الجزئية بعضِها على بعض، وذلك أن الأب الشفيقَ والمعلِّم الحريص على تعليم تلميذه، يوَدُّ أن يَعلَمَ كلَّ ما يُحسنه، ويُعلِّمهُ لتلميذه دُفعة واحدة، ولكنّ نفس المتعلم لا تقبل إلاّ شيئاً بعد الشيء على التدريج.
ثم إن المانع للأنفس الجزئية قبول فيض النفس الكلية دفعةً واحدة هولأجل استغراقها في بحر الهيولى وتراكم ظُلُمات الأجسام على بصرها، لشدة ميلها إلى الشهوات الجسمانية، وغرُرها باللذات الجِرْمانية، فمتى انتَبهت من نوم الغفلة واستيقظت من رِقدة الجهالة، وصحَتْ من سَكرة عَمايتها، وأفاقت من غَمرة غَشْيتِها، وأخذت ترتقي في العلوم والمعارف، ودامت على تلك الحال، لحقَت بالنفس الكلية، وشاهدت تلك الأنوار العقلية والأضواء البهيّة، ونالت تلك الملاذَّ الروحانية والسُّروراتِ الدَّيموميّةَ الأبديّةَ، التي كلُّها أشرف وأعلى منزلةً مما كان، فوق ما تقدَّم قبله، ودون ما يأتي بعده. ومتى هي أعرضت عمّا وصفنا، وأقبلتْ على طلب الشهوات الجسمانيَّة والزينة الطبيعيّة، بَعُدت من هناك وانحطّتْ إلى أسفل السافلين، وغرِقت في بحر الهيولى، وغشيتْها أمواجُها، وتراكمت على بصرها ظلُماتها، وإلى هاتين الحالتين أشار، عزَّ اسمه، بقوله تعالى: "الله نورُ السموات والأرض، مثلُ نوره كمشكاةٍ فيها مصباحٌ، المصباحُ في زجاجةٍ، الزجاجةُ كأنها كوكبٌ دُرّيٌّ" الآية. ثم قال تعالى: "أوكظُلُمات في بحرٍ لُجّيّ يَغشاه موجٌ من فوقه موج، من فوقِه سَحابٌ، ظلمات بعضها فوق بعض" الآية.

krimbow
10/06/2006, 00:54
فصل في أقاويل الحكماء في ماهيّة المكان

أما المكان عند الجُمهور فهوالوعاء الذي يكون فيه المتمكِّن، فيقال: إن الماء مكانه الكوزُ الذي هوفيه، وإن الخلَّ مكانه الزِّقُّ الذي هوفيه، وعلى هذا القياس مكانُ كلِّ شيء هوالوِعاء الذي هوفيه، وكما يقال إن مكان السمك هوالماء، ومكان الطير هوالهواء؛ وبالجملة مكان كل متمكِّن هوالجسمُ المحيطُ به. وقيل أيضاً إن المكان هوسطحُ الجسم الحاوي الذي يلي المَحويَّ، وقيل لا بل المكان هوسطحُ الجسم المَحوِيِّ الذي يلي الحاوي، وعلى كِلا الرأْيين والقولين يجب أن يكون المكان جوهراً. وقيل إن المكان هوالفصلُ المشتركُ بين سطح الجسم الحاوي وسطح المَحْوِيّ، وعلى هذا الرأْي يجب أن يكون المكان عَرَضاً. وقيل أيضاً إن المكان هوالفضاء الذي يكون فيه الجسم ذاهباً طولاً وعرضاً وعمقاً، وإن كان كلُّ جسم مثله سَواء، فإن كان الجسم مدوَّر الشكل أومربّعاً أومثلثَّاً رأوغيرهما من الأشكال، فأن مكانه مِثله سَواء لا أصغرُ ولا أكبرُ، حتى قيل في المثَل إن المكان مكيال الجسم، وعلى هذا الرأي يجب أن يكون المكان جوهراً.
واعلم أن الذين قالوا إن المكان هوالفضاء، إنما نظروا إلى صورة الجسم، ثم انتزعوها من الهيولى بالقوة الفكرية، وصوَّروها في نفوسهم، وسمّوها الفضاء، وإذا نظروا إليها وهي في الهيولى سمَّوها المكان، وهذا يدلّ على قلّة معرفتهم أيضاً بجوهر النفس وكيفيّة معارفها ومعانيها.
واعلم أن من شرف جوهر النفس، وعجائب قُواها، وظرائف معارفها، أنها تنتزع صورة المحسوسات من هيولاها، وتصوّرها في ذاتها، وتنظر إليها خِلواً من الهيولى، وتفرُق بين الهيولى والصورة. وانظر إلى كل واحد منهما تارةً مفردة، وتارةً مركبَّة. وإن من شدة قوّتها الوهميَّة أنها تارة تنظر إلى العالم وكأنها خارجة منه، وتارة تنظر إليه وكأنها داخلة فيه، وربما ترفعُ العالَمَ من الوجود أصلاً، وربما تقدّمت الزمانَ الماضي ونظرت إلى بدء كون العالَمِ،وبحثتْ عن علَّة كونه بعد أن لم يكن شيئاً. وربما سبقت الزمانَ المستقبل، ونظرت إلى فناء العالم قبلَ حِينه، وتصوَّرْ كيف يكون ذلك. وإن من شدَّة قوتها أيضاً إنها تضاعف العدد إلى ما لا نهاية له، وتُجري المقادير إلى ما لا نهاية لها، وتتوهّم أيضاً أن خارج العالم فضاءٌ إلى ما لا نهاية له، وما يشاكل هذا من أفعالها العجيبة، وما يتصوّر بقوَّتها الوهمية، فمن ظن أن الفضاء هوجوهر قائم بنفسه، وأن خارج العالم فضاءٌ لا نهاية له، وأن المدَّة جوهر أسبق من نشوء العالم، وأن الجزء من الهيولى يتجزّأ أبداً، وما شاكل هذه المسائل، فكلُّ هذه الأقاويل قالوها لقلّة مَعرِفتهم بجوهر النفس وعجائب قُواها وكيفيَّة تصرُّفِها في المعارف والعلوم.

krimbow
10/06/2006, 00:55
فصل في أقاويل الحكماء في ماهيّة الحركة

الحركة يقال على ستة أوجُهٍ: الكون والفساد والزيادة والنقصان والتغيّر والنُّقلة. فالكون هوخروج الشيء من العدم إلى الوجود، أومن القوَّة إلى الفعل، والفساد عكس ذلك. والزيادة هي تباعُد نهايات الجسم عن مركزه، والنُّقصان عكس ذلك. والتغيّر هوتبدُّل الصفات على الموصوف من الألوان والطعوم والروائح وغيرها من الصفات. وأما الحركة التي تسمَّى النُّقْلة فهي عند جمهور الناس الخروج من مكان إلى آخر، وقد يُقال إن النُّقلة هي الكونُ في محاذاة ناحيةٍ أُخرى في زمان ثان، وكلا القولين يصحّ في الحركة التي هي على سبيل الاستقامة؛ فأما التي على الاستدارة فلا يصحّ، لأن المتحرّك على الاستدارة ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يصيرُ في محاذاةٍ أُخرى في زمان ثان، فإن قيل إن المتحرِّك على الاستدارة أجزاؤها كلُّها تتبدل أماكِنُها وتصيرُ في محاذاةٍ أُخرى في زمانٍ ثان إلاّ الجُزء الذي هوساكنٌ في المركز فإنه ساكن فيه لا يتحرك. فليًعلمْ من يقول هذا القول ويظن هذا الظن أويُقدِّر أن هذا الرأي صحيح، أن المركز إنما هونُقطة متوهَّمة وهي رأس الخط، ورأس الخط لا يكون مكان الجُزء من الجسم. وليعلمْ أيضاً أن المتحرِّك على الاستدارة بجميع أجزائه متحرِّكٌ، وهولا ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يصير مُحاذياً بشيءٍ آخر في زمان ثان. فأما الحركة على الاستقامة فلا يمكن الا بالانتقال من مكان إلى مكان والمرور بمُحاذيات في زمان ثان، فإذا قيل إنه يمكن ذلك فإن الإنسان مثلاً قد يُحرّك يده أوبعض أجزائه، وهولا ينتقل من مكان إلى مكان، فماذا ترى كيف يكون حال اليد، هل يجوز أن تتحرَّك ولا تخرج من مكان إلى مكان، وكذلك حُكم الأُصبُع هل يجوز أن يتحرَّك ولا ينتقل من مكان إلى مكان، ولا يمر بمُحاذاة أُخرى في زمان ثان؟ واعلم أنه متى تحركت الأجزاء من جسم فقد تحرَّكت تلك الجملة، ومتى تحرَّكت تلك الجملة فقد تحرَّكت تلك الأجزاء، لأن تلك الأجزاء ليست غيرَ تلك الجملة. وذلك أنه إذا تحرَّك الإنسان فقد تحرَّكت أعضائه؛ وإذا تحرَّكت أعضاؤه فقد تحرَّك هو؛ وإن تحرَّكت يدُه وحدَها فقد تحرَّكت أجزاء اليد كلُّها، أن اليد ليست شيئاً غير تلك الأجزاء، وكذلك إن تحرَّك أُصبُع واحد فقد تحرَّكت أجزاء الأصبع كلُّها، لأن الأُصبع ليست غيرَ تلك الأجزاء، فمن ظنَّ أنه يجوز أن تتحرَّك الأجزاء ولا تتحرَّك الجُملة، أوتتحرَّك الجُملة ولا تتحرَّك بعضُ الأجزاء فقد أخطأ.
واعلم أنه قد ظنَّ كثير من أهل العلم أن المتحرِّك على الاستقامة يتحرَّك حركات كثيرةً، لأنه في حركته بمُحاذَياتٍ كثيرةٍ في حال حركته، ولا ينبغي أن تُعتبر كثرةُ الحركات لكثرة المحاذَيات، فأن السهم في مرورها إلى أن يقع حركةً واحدةً يمرُّ بمُحاذَياتٍ كثيرة، وكذلك المتحرِّك على الاستدلرة فحركتُه واحدةٌ إلى أن يقف وإن كان يدور أدواراً كثيرة.
ثم اعلم أنه لا تنفصلُ حركةٌ عن حركةٍ إلاّ بسكونٍ بينهما، وهذا يعرفه ولا يشُكّ فيه أهلُ صِناعة الموسيقى، وذلك أن صِناعتهم معرفةُ تأليف النَّغَم، والنَّغَمُ لا يكون إلاّ بالأصوات، والأصواتُ لا تحدُث إلا من تَصادم الأجسام؛ وتصادُم الأجسام لا يكون إلا بالحركات، والحركات لا تنفصل بعضُها عن بعضٍ إلا بسكوناتٍ تكون بينها، فمن أجل هذا قال الذين نظروا في تأليف النَّغم إن بين زمان كلّ نقرتَين زمانَ سكونٍ، وقد بيَّنا طرفاً من هذا العلم في رسالتنا في تأليف اللُّحون: ما هي، وكم هي، وكيف هي، فاعرِفْها من هناك.
واعلم أنه ينبغي لمن ينظر في حقائق الأشياء، ويبحث عن ماهيّاتها، أن يبتدئ أولاً وينظرَ ويبحث هل الشيء جوهرٌ، أوعَرَضٌ، أوهَيولى، أوصورةٌ جسمانية، أوروحانية، فأن كان جوهراً فأي جوهرٍ هو؟ وإن كان عرضاً، فأيُّ عَرضٍ هو؟ وإن كان هَيولى، فأي هَيولى هو؟ وإن كان صورةً، فأي صورةٍ هي وكيف هي؟ واعلم أن الحركة في بعض الأجسام جوهرية كحركة النار، فإنها متى سكنت حركتُها طَفِئتْ وبطَلت وبطَل وجودها؛ وفي بعض الأجسام عرضيةٌ لها حركة كحركة الماء والهواء والأرض، لأنها ان سكنت حركتها لا يبطُل وِجدانُها.
واعلم أن الحركة هي صورةٌ جعلتها النفسُ في الجسم بعد الشكل، وأن السكون هوعَدمُ تلك الصورة؛ والسكون بالجسم أَولى من الحركة، لأن الجسم ذوجهاتٍ لا يمكنه أن يتحرك إلى جميع جهاته دفعةً واحدةً، وليست حركتُه إلى جهة أولى به من جهة، فالسكونُ به إذاً أولى من الحركة.
واعلم أن الحركة، وإن كانت صورةً، فهي صورةٌ روحانية مُتمِّمة تسري في جميع أجزاء الجسم، وتنسلُّ عنه بلا زمان كما يسري الضوء في جميع أجزاء الجسم الشفَّاف وينسلُّ عنه بلا زمان، فإنك ترى السراج إذا دخل البيتَ أضاءَ البيتُ من أوله إلى آخره دفعةً واحدةً، وإذا خرج أظلمَ الهواء في البيت دفعةً واحدةً بلا زمان؛ وكذلك الشمسُ إذا طلَعت بالمشرق أضاء الهواءُ من المشرق إلى المغرب دفعةً واحدة، فإذا غابت بالمغرب أظلم الهواءُ دفعةً واحدة، فالحرارةُ إذا بدت تدبُّ، أولاً فأولاً يحمى الجوبزمان، وكذلك إذا طلعت الشمسُ، يحمى الجوأولاً فأولاً بزمان، وكذلك إذا غابت الشمس بَرَد الهواءُ أولاً فأولاً بزمان.
واعلم أن الحركة حُكمُها كحكم الضوء، وذلك لوأن خشبةً طولها من المشرق إلى المغرب نُصِبت ثم جُذبت إلى المشرق أوإلى المغرب عقداً واحداً، لتحركت جميعُ أجزائها دُفعةً واحدة.
واعلم أن بعض أفعال النفس في الجسم بزمانٍ، وبعضَ أفعالها بلا زمان، دلالةٌ على أن جوهرها فوق الزمان، لأن الزمان مقرونٌ بحركة الجسم، والجسم مفعول النفس، وأن النفس لما جعلت الجسمَ الكلِّيّ كُرِيَّ الشكل الذي هوأفضلُ الأشكال، جعلتْ حركته أيضاً الحركة المستديرة التي هي أفضلُ الحركات.

krimbow
10/06/2006, 00:56
فصل في ماهية الزمان من أقاويل العلماء.

أما الزمان عند جمهور الناس فهومرور السنين والشهور والأيام والساعات، وقد قيل إن عدد حركات الفلك بالتكرُّر، وقد قيل إنه مدّة يعدُّها حركات الفلك، وقد يظُنّ كثير من الناس أن الزمان ليس بموجودٍ أصلاً إذا اعتُبرَ بهذا الوجه، وذلك أن أطول أجزاء الزمان السِّنون، والسِّنون منها ما قد مضى ومنها ما لم يجئ بعدُ، وليس الموجود منها إلاّ شهراً واحداً، وهذا الشهر منه أيامٌ لم تجئ بَعدُ، وليس الموجود منها إلا يوماً واحداً، وهذا اليوم ساعات منها ما قد مضت ومنها ما لم تجئ بعدُ، وليس الموجود منها إلا ساعةً واحدةً، وهذه الساعة أجزاءٌ منها ما قد مضى وآخَرُ ما جاء بعد، فبهذا الاعتبار ليس للزمان وجودٌ أصلاً.
فأما الوجه الآخر إذا اعتُبرَ فالزمانُ موجودٌ أبداً، وذلك أن الزمان كلِّه يومٌ وليلة، أربع وعشرون ساعة، وهي موجودة في أربع وعشرين بقعة من استدارة الأرض تكون حولها دائماً. بيان ذلك أنه إذا كان نصفُ النهار في يوم الأحد مثلاً في البلد الذي طوله تسعين درجة، فإن الساعة الأولى من هذا اليوم موجودةٌ في البلدان التي طولها من درجة إلى خمسَ عشرة درجة، والساعة الثانية موجودة في البلدان التي طولها من ستّ عشرة درجةً إلى ثلاثين درجة، والساعة الثالثة موجودةٌ في البلد الذي طوله من إحدى وثلاثين درجة إلى خمسٍ وأربعين درجة، والساعة الرابعة في البلدان التي طولها من ستّ وأربعين درجة إلى ستين درجة، والساعة الخامسة موجودة في البلدان التي طولها من إحدى وستين درجة إلى خمس وسبعين درجةً، والساعة السادسة موجودة في البلدان التي طولها من ستٍّ وسبعين درجة إلى سبعين درجة، والساعة السابعة موجودة في البلدان التي طولها من إحدى وتسعين درجةً إلى مئةٍ وخمس درجات، والساعة الثامنة موجودة في البلدان التي طولها مائة وست درجات إلى تمام مائةٍ وعشرين درجة، والساعة التاسعة موجودة في البلدان التي طولها مائةٌ وخمس وثلاثون درجة، والساعة العاشرة موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائةٍ وخمسٍ وستين درجة، والساعة الثانية عشرة موجودة في البلدان التي طولها إلى تمام مائة وثمانين درجة.
وفي مُقابلةِ كلّ بقعة من هذه البقاع من استدارة الأرض ساعات الليل موجودة كل واحدة كنظيرتها، ولكل موضع من الأرض أقدارٌ مختلفة من الليل والنهار، والشمس تضيء في نصف الأرض أبداً حيث كانت، ويسترُ قُطر الأرض عن نصفها الآخر الذي كان أشرق على نصفها الذي يلي الشمس، فيكون ما طلعت عليه الشمس، نهاراً، وما سترتْ بقُطرِها عن نصفها من ضوء الشمس، ليلاً. وكلما دار النهار دار الليل معه، كلُّ واحدٍ منهما ضدُّ صاحبه، وكلما زال أحدهما زال الآخر ومعه، فالليل والنهار يبتديان الإقبال من مشرق الأرض، ثم يسيران على مسيرة الشمس فيسبق طلوع الشمس على أول الأرض طلوعها على آخرها باثنتي عشرة ساعة، وكذلك الليل. فإن شكَكتَ فيما قلنا، فاسأل أهل الصِّناعة الناظرين في علم المَجِسطي يُخبروك بصِحة ما قلناه، فإنه قد قيل: استَعينوا على كلِّ صناعة بأهلها.
ثم اعلم أن من كُرور الليل والنهار حولَ الأرض دائماً يحصُلُ في نفس من يتأمَّلُها صورةُ الزمان كلُّها، يحصُلُ فيها صورةُ العدد من تكرار الواحد: وذلك أن العدد كلَّه أفرادَه وأزواجه، صحيحَه وكسُرَه، آحادَه وعشراته ومئاته وألوفه، ليست بشيءٍ غيرَ جُملة الآحاد تحصل في نفس من يتأمّلها كما بيّنا في رسالة العدد، وهكذا الزمانُ ليس هوبشيءٍ سوى جُملة السنين والشهور والأيام والساعات، تحصُل صورتها في نفس من يتأمّل تكرار كُرور الليل والنهار حولَ الأرض دائماً، فهذه الخمسةُ الأشياء التي أتينا على شرحها، وهي الهيولى والصورة والمكان والزمان والحركة، محتوية على كل جسم، فمن لم يكن مُرتاضاً بالنظر في هذه الأشياء، فلا يسَعهُ النظر في أمور الطبيعة، لأنه لا يمكن له أن يَعرِفها كنهَ معرفتها البتَّة، ولولم يكن مُرتاضاً في الأمور الطبيعية، فلا يسَعُه الكلام في الأمور الإلهية، لأنه لا يمكنه أن يَعرِفها كنهُ معرفتها.
فتفكَّرْ فيما ذكرنا يا أخي في هذه الرسالة من أقاويل العلماء لتفهم ما قالوه، وتصوَّرْ ما وضعوه من معاني هذه الأشياء، فإن كان عندك زيادةٌ عليها أفَدناها، وإن أنكرت شيئاً مما قالوه فبَيِّنْه لنا، وإن اشتبه عليك شيء مما حكيناه، فلا تتَّهمنا بأنَّا قصَّرنا في البيان أوقُلنا ما ليس بالحق.
ثم اعلم أن لكلّ صِناعة أهلاً، ولكل أهلِ علمٍ وصناعةٍ أصولاً، هم فيها متّفقون، وفي فروعها يتكلمون، وعلى تلك الأصول يقيسون فيما يختلفون.
واعلم بأن النظر في الأمور الطبيعيةجزءٌ من صِناعة إخواننا الكرام، أيدهم الله تعالى، والأمور الطبيعيةُ هي الأجسام وما يَعرِض لها من الأعراض اللازمة والمُزايِلة، وقد عَمِلنا في هذه العلوم سبعَ رسائلَ أولاها هذه الرسالةُ التي ذكرنا فيها الهيولى والصورة والحركة والمكان والزمان، إذ كانت هذه الأشياء الخمسة مُحتويةً على كل جسم، وقد ذكرنا في رسالةِ الحاسّ والمحسوس الأشياء العارضة للأجسام بقولٍ وجيزٍ، ثم يتلوهذه الرسالةُ التي ذكرنا فيها السماء والعالَمَ ووصفنا فيها تركيب الأفلاك وكميّتها وسعة أقطارها، وسُرعة دورانها، وعِظَم الكواكب، وفنون حركاتها، وأوصاف البروج وتخصيصَها، ثم يتلوها الرسالةُ التي ذكرنا فيها الكون والفساد وماهيَّة الأركان الأربعة التي تحت فلك القمر، وهي النار والهواء والماء والأرض، وصفنا فيها كيفيّة استحالة بعضها إلى بعضٍ، وحدوث الكائنات منها؛ ثم يتلوها الرسالةُ الرابعة التي فيها حوادث الجووالتغييرات التي تحدث في الهواء، ثم يتلوها الرسالة الخامسة التي ذكرنا فيها جواهر المعادن، ووصفنا كيفيَّة تكوُّنها في باطن الأرض وجوفِ الجبال وقعرِ البحار، ثم يتلوها الرسالة السادسة التي ذكرنا فيها أمر النبات، ووصفنا أجناسه وأنواعه وخواصَّه ومنافعه ومضارّه، ثم يتلوها الرسالة السابعةالتي ذكرنا فيها أجناس الحيوانات وأنواعها واختلاف طِباعها بقولٍ وجيز.
وقد عملنا خمس رسائل أُخَر قبل هذه الرسالة في الرياضيات، أُولاها رسالة العدد وخواصِّه وكيفيَّة نشوئه من الواحد الذي قبل الاثنين؛ ثم يتلوها الرسالة الثانية التي ذكرنا فيها أُصول الهندسة وأنواع المقادير وكيفية نشوئها من النُّقطة التي هي في صناعة الهندسة كالواحد في العدد؛ ثم يتلوها الرسالة الثالثة التي ذكرنا فيها النجوم ووصفنا الأفلاك والكواكب، وبيّنا أن نِسبَتها إلى الشمس كنسبة العدد من الواحد، ومنشأ مقادير الهندسة من النقطة؛ ثم يتلوها الرسالة التي ذكرنا فيها النسبة العددية والهندسية والتأليفيّة، وأن منشأها كلِّها من نسبة المساواة كمنشأ العدد من الواحد، وكمنشأ مقادير الهندسة من النقطة؛ ثم يتلوها الرسالة التي ذكرنا فيها المنطق ووصفنا فيها المَقًولات العشرة التي كلُّ واحدٍ منها جنسُ الأجناس، وبيّنا كمية أنواعها وخواصِّها، وأن الواحد منها هوالجوهر، والتسعةَ الباقيةَ هي الأعراضُ، وتعلّقها في وجودها بالجوهر كتعلق العدد بالواحد الذي قبل الاثنين. وقد تكلم في هذه الأشياء من قبلنا من الحكماء الأولين ودوّنوها في الكتب وهي موجودة في أيدي الناس، ولكن من أجل أنهم طوَّلوا فيها الخُطَب، ونقلوها من لغة إلى لغة، أَغلَقَ على الناظرين في تلك الكتب فَهمُ معانيها، وضاعت في الباحثين معرفةُ حقائقها؛ من أجل هذا عمِلنا هذه الرسائل، وأوجزنا القول فيها شِبهَ المَدخل والمقدَّمات، لكيما يقرُبَ على المتعلمين فَهمُها، ويسهُلَ على المبتدئين النظرُ فيها.

krimbow
10/06/2006, 00:57
فصل واعلم إن كنت محبّاً لأهل العلم

والحكمة

أنك تحتاج أن تسلُكَ طريق أهلها، وهوأن تقتصر من أمور الدنيا على ما لا بدَّ منه، وتترُك الفُضول، وتجعل أكثر هِمَّتكَ وعنايتِك في طلب العلوم، ولقاء أهلها، ومجالستهم بالمذاكرة والبحث، وأن تروضَ نفسَكَ بالسيرة العادلة التي وُصِفت في كتب الأنبياء، عليهم السلام، وبالنظر في هذه العلوم التي تقدَّم ذكرها، وهي التي كانوا يُرُوضُون أولاد الحكماء بها، ويُخرِّجون بها تلاميذتهم، ليقوى فهمُهم على النظر في الأُمور الإلهية التي هي الغرضُ الأقصى في المعارف.
ثم اعلم أن الأمور الإلهية هي الصُّوَرُ المجرَّدة من الهيولى، وهي جواهر باقيةً خالدة لايعرِض لها الفسادُ والآفات، كما يَعرِض للأمور الجسمانية، واعلم أن نفسك هي إحدى تلك الصُّوَر، فاجتهد في معرفتها لعلك تُخلِّصُها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام وأَسر الطبيعة التي وقعنا فيها بجنايةٍ كانت من أبينا آدم، عليه السلام، حين عصى ربّه فأُخرج هووذريَّتُهم من الجنة التي هي عالمُ الأرواح، وقيل لهم: "اهبِطوا بعضُكم لبعضٍ عدوٌّ، ولكم في الأرض مُستقرٌّ ومَتاعٌ إلى حين. فيها تموتون ومنها تُخرجون". فقد قيل في المثَل إن أولَ أُناسٍ، إذا نُفِخَ في الصُّور وشُقَّ عليهم القبور يومَ البَعث والنُّشور، وقيل: "انطلِقوا إلى ظِلٍّ ذي ثلاث شُعَبٍ"، هوعالم الأجسام ذوالطول والعَرض والعُمق. فاجتهدْ يا أخي في معرفة هذه المرامي والرُّموز التي ظهرت في كتب الأنبياء، عليهم السلام، لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف الربَّانية، وتعيش بحياة العلوم الإلهية، وتسلمُ من الآفات الطبيعية.
واعلم أن النفس بمُجرَّدها لا تلحقها الآلام والأمراض والأسقام والجوع والعطش والحر والبرد والغموم والهموم والأحزان ونوائب الحِدثان، لأن هذه كلَّها تَعرِض لها من أجل مُقارنتها للجسد، لأن الجسد جسمٌ قابلٌ للآفات والفساد والاستِحالةِ والتغيّر، فأما النفسُ فإنها جوهرةٌ روحانية، فليس لها من هذه الآفات شيء.
واعلم أنه قد ذهب على أكثر أهل العلم معرفةُ أنفسهم، لتركهم النَّظَر في علم النفس، والبحثَ عن معرفة جواهرها، والسؤالَ من العلماء العارفين بعلمها؛ ولقلة اهتمامهم بأمر أنفسهم وطلبِ خلاصها من بحر الهيولى وهاوية الأجسام، والنجاة من أسر الطبيعة، والخروج من ظلمة الأجسام، لشدة ميلهم في الخلود إلى الدنيا، واستغراقهم في الشهوات الجسمانية، والغرور باللذات الحيوانية، والأُنس بالمحسوسات الطبيعية؛ ولغفلتهم عمّا وُصِف في الكتب الإلهية والنواميس الشرعيّة النبويّة من نعيم الجِنان، وما في عالَم الأرواح من الرَّوْح والريحان والنعيم والسرور واللذة والكرامة وبقاء الأبد التي وُعِد المتَّقون: "فيها أنهارٌ من ماءٍ غير آسِنٍ، وأنهارٌ من لَبَنٍ لم يتغيَّر طَعمُه، وأنهار من خمرة لذَّةٍ للشاربين، وأنهارٌ من عسل مُصفى، ولهم فيها من كل الثمراتِ، والنخيل والأعنابِ، تتَّخذون منه سَكَرا ورِزقاً حسناً، إن في ذلك لآياتٍ لقوم يؤمنون".
وإنما قِلَّةُ رغبتهم فيها لقِلَّة تصديقهم بما أخبرت به الأنبياء، عليهم السلام، وما أشارت إليه الفلاسفة والحكماء مما يَقصُر الوصفُ عنه من لطيف المعاني ودقائق الأسرار، فانصرفت هِمَمُ نفوسهم كلُّها إلى أمر هذا الجسد المستحيل، وجعلوا سعيهم كلّه لصلاح معيشة الدنيا من جمع الأموال والمآكل والمشارب والملابس والمَناكِح والمَراكِب، وصيَّروا نفوسهم عبيداً لأجسادهم، وأجسادهم مالكةً لنفوسهم، وسلَّطوا الناسُوت على اللاهوت، والظُّلمةَ والشياطين على النور والملائكة، وصاروا من حِزبِ إبليس وأعداءِ الرحمن.
فهل لك يا أخي بأن تنظرَ لنفسك، وتسعى في صلاحها، وتطلبَ نجاتها، وتفُكَّ أسرها، وتخلِّصَها من الغرق في بحر الهيولى وأسر الطبيعة وظُلمة الأجسام، وتخفِّف َعنها أوزارها، وهي الأسباب المانعة لها عن الترقّي إلى ملكوت السماء، والدخول في زُمَر الملائكة، والسَّيَحان في فُسحة عالَم الأفلاك، والارتفاع في درجات الجِنان، والتَّشمُّم من ذلك الرَّوح والرَّيحان المذكور في القرآن، وأن ترغب في صُحبة أصدقاء لك نُصَحاء، وإخوانٍ لك فضلاء، وادّينَ لك كُرماء، حريصين معاونين لك على صلاحك ونجاتك مع أنفُسهم، قد خلعوا أنفسهم من خدمة أبناء الدنيا، وجعلوا عنايتهم وكدّهم في طلب نعيم الآخرة، بأن تسلكَ مَسلكهم، وتقصِدَ مقصِدَهم، وتُخلِص سِرَّك معهم، وتتخلّق بأخلاقهم، وتسمع أقاويلهم، لتعرف اعتقادهم، وتنظُرَ في علومهم لتفهم أسرارهم وما يخبرونك به من العلوم النفسية، والمعارف الحقيقية، وسِرت بسيرتنا الملكية، وعمِلت بسنَّتِنا الزكية، وتفقَّهت في شريعتنا العقليّة، فلعلَّك تُؤَيَّدُ بروح الحياة، لتنظر إلى الملأ الأعلى، وتعيش عيش السعداء، مخلَّداً مسروراً أبداً، بنفسك الباقية الشريفة الشفَّافة الفاضلة، لا بجسدك المظلم الثقيل المتغيّر المستحيل الفاسد الفاني. وفَّقكَ الله وإيانا وجميع إخواننا للسداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا للرشاد، حيث كانوا في البلاد، إنه رؤوفٌ رحيمٌ بالعِباد.
تمت رسالة الهيولى والصورة وتتلوها رسالة السماء والعالم

krimbow
10/06/2006, 00:58
الرسالة الثانية الموسومة بالسماء والعالم

في إصلاح النفس وتهذيب الأخلاق

وهي الرسالة السادسة عشرة من رسائل إخوان الصفاء بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلامٌ على عِباده الذين اصطفى، آللهُ خيرٌ أمّا يُشركون؟ اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما فرغنا من ذكر الجسم المُطلَق، وما يخصّه من الصِّفات المُقوِّمة لذاته من الهيولى والصورة، وما يتبعها من سائر الصفات اللازمة مثل الحركة والسكون وما شاكلهما، أردنا أن نذكر في هذه الرسالة المُلقَّبة بالسماء والعالَم الأجسام الكلّيات البسيطات التي هي الأفلاك والكواكب والأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، إذ كان الجسم المُطلَق أول ما ينقسم إليها، ثم من بعدها الأجسام الجُزئيات المُولَّدات التي هي الحيوان والمعادن والنبات.
فصل في بيان

معرفة قول الحكماء إن العالم إنسان كبير

اعلم أيها الأخ أن معنى قول الحكماء: العالَم، إنما يَعنون به السموات السبعَ والأرَضينَ، وما بينهما من الخلائق أجمعين، وسمَّوه أيضاً إنساناً كبيراً، لأنهم يرون أنه جسمٌ واحدٌ بجميع أفلاكه وأطباق سمواته وأركان أُمهاته ومولَّداتها، ويَرَون أيضاً أنَّ له نفساً واحدةً ساريةً قواها في جميع أجزاء جسمها كسرَيان نفس الإنسان الواحد في جميع أجزاء جسده، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة صورة العالم ونصِف كيفية تركيب جسمه، كما وصِفَ في كتاب التشريح تركيب جسد الإنسان، ثم نصِف في رسالةٍ أُخرى ماهيّة نفس العالم، وكيفيّة سريان قواها في الأجسام التي في العالم من أعلى الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، ثم نبيّن فنون حركاتها وإظهار أفعالها في أجسام العالم بعضها في بعضٍ، فنرجِعُ الآن إلى وَصف جسم العالَم فنقول: الجسم هوأحد الموجودات بطريق الحواس، بتوسُّط أعراضِه، كما بيَّنا في رسالة الحاسّ والمحسوس، والموجودات كلُّها جواهر وأعراضٌ وصورٌ وهيوليّاتٌ مركَّبٌ منها، كما بيّنا في رسالة الهيولى والصورة. والصورة نوعان، مُقوِّمة ومُتمِّمة، كما بيّنا في رسالة العَرض والعُمْق، إذا وُجِدت في الهيولى التي هي جوهر بسيط قابل للصورة. والصورة المُتمِّمة للجسم المُبلغة له إلى أفضل حالاته كثيرةٌ لا يُحصي عددها إلاّ الله، عزَّ وجل، ولكن نذكر منها طرَفاً لتفهم معانيها: فمن الصورة المتمِّمة للجسم الشَّكل؛ والأشكال كثيرةٌ، كالتثليث والتربيع والتخميس والتدوير وما شاكلها. ومن الصورة المتمِّمة أيضاً الحركة؛ والحركات ستة أنواع، أحدُها النُّقلة وهي نوعان: دوريّة ومستقيمة. ومن الصور المتمِّمة أيضاً النور، وهي نوعان: ذاتيٌّ وعَرَضيٌّ. ومن الصور المُتمِّمة للجسم الصفاءُ، وأفضل الأشكال الشكل الكُرِيُّ كما بيّنا في رسالة الهندسة، وأتمُّ الحركات الدوريّة كما بيّنا في رسالة الحركات، وأبهى الأنوار الذاتيّة، وأصفى النُّعوت الشفَّاف، كما بيّنا في رسالة الصفات والموصوفات. فجسم العالم بأسره كُريُّ الشكل، وحركات أفلاكه كلِّها دوريّةٌ، ونور الكواكب السماوية كلِّها ذاتيٌّ إلاّ القمر، وأجرام الكُرة كلِّها شفَّافةٌ إلاّ الأرض، فقد بيّنا ما العِلة في أمر الأرض والقمر في رسالة العِلل والمعلولات.

krimbow
10/06/2006, 00:58
فصل في أن السماوات هي الأفلاك

واعلم يا أخي أن السماوات هي الأفلاك، وإنما سُميّت السماء سماءً لسمُوِّها، والفلك لاستِدارته. واعلم بأن الأفلاك تسعةٌ: سبعةٌ منها هي السماوات السبع، وأدناها وأقربها إلينا فلك القمر، وهي السماء الأولى؛ ثم من ورائه فلك عُطارد وهي السماء الثانية؛ ومن ورائه فلك الزُّهرة وهي السماء الثالثة؛ ثم من ورائه فلك الشمس وهي السماء الرابعة؛ ومن ورائه فلك المِرّيخ وهي السماء الخامسة؛ ومن ورائه فلك المُشتري وهي السماء السادسة؛ ثم من ورائه فلك زُحَلَ وهي السماء السابعة، وزُحَلُ النجمُ الثاقب، وإنما سُمّي الثاقِبَ لأن نوره يَثقُب سَمْكَ سبع سماوات حتى يَبلُغ أبصارنا؛ هكذا روي في الخبر عن عبد الله بن عباس ترجمان القرآن. وأما الفلك الثامن، وهوفلك الكواكب الثابتة الواسع المحيط بهذه الأفلاك السبعة، فهوالكُرسيُّ الذي وَسِع السماوات الأرض. وأما الفلك التاسع، المحيط بهذه الأفلاك الثمانية، فهوالعرش العظيم الذي يحمله فوقَهم يومئذ ثمانيةٌ كما قال الله، عز وجل.
واعلم يا أخي أن كلّ واحدٍ من هذ السبعة المقدَّم ذكرها سماءٌ لما تحتَه وأرضٌ لما فوقَه، ففلكُ القمر سماءُ الأرض التي نحن عليها وأرضٌ لفلك عُطارد، وكذلك فلك عُطارد سماءٌ لفلك القمر وأرض لفلك الزُّهرة، وعلى هذا القياس حُكم سائر الأفلاك، كلُّ واحدٍ منها سماءٌ لما تحته وأرض لما فوقه إلى فلك زُحل الذي هوالسماء السابعة.

krimbow
10/06/2006, 00:58
اعلم يا أخي أن الأرض التي نحن عليها هي كُرةٌ واحدة بجميع ما عليها من الجبال والبحار والبراري والأنهار والعُمران والخراب، وهي واقفةٌ في مركز العالم في وسط الهواء بجميع ما عليها بإذن الله، عز وجل، والهواء محيطٌ بها من جميع جهاته كإحاطة بياض البيضة بمُحِّها؛ وفلك القمر محيطٌ بالهواء من جميع جهاته كإحاطة القشرة ببياض البيضة؛ وفلك عُطارد محيط بفلك القمر على مثل ذلك. ولعلى هذا القياس سائرُ الأفلاك إلى أن تنتهي إلى الفلك المحيط بالكُلّ كما ذكره الله، جل ثناؤه: "وكلٌّ في فلكِ يسبَحون".
وهذا مثال تركيب الأفلاك وصورة سُموك السماوات، ومن فوقها فلك البروج، ومن الفلك المحيط: فقد بان بهذا المثال أن جملة العالم إحدى عشرة كُرةً، اثنتان في جوف فلك القمر، وهما الأرض والهواء، لأن الأرض والماء كُرةٌ واحدة، والهواء والأثير كرةٌ واحدة؛ وتسعٌ من ورائه محيطاتٌ بعضها ببعضٍ.

krimbow
10/06/2006, 00:59
فصل في أنه ليس للعالم فراغ

اعلم يا أخي أن هذه الأُكَر محيطاتٌ بعضها ببعضٍ كإحاطة طبقات البصل، مُماسٌّ سطح الحاوي بسطح المَحوي، وليس بينهما فراغٌ ولا خلاءٌ إلاّ فصلٌ مشترك وهمي. وقد ظنّ قوم من أهل العلم أن بين فضاء الأفلاك وأطباق السماوات وأجزاء الأُمَّهات مواضِع فارغة، وليس الأمر كما ظنوا، لأن معنى الخلاء هوالمكان الفارغ الذي لا مُتمَكِّن فيه، والمكان صفة من صفات الأجسام لا يقوم إلاّ بالجسم ولا يوجد إلاّ معه.
واعلم أن النور والظلمة هما أيضاً صفتان من صفات الأجسام، ولا يمكن أن يُعقل أن موضعاً في العالم لا مُظلماً ولا مُضيئاً البتّة فأين وجود الخلاء إذن؟ واعلم أنه إنما ظن من قال بوجود الخلاء أنه لما رأى بعض الأجسام تنتقل من موضع إلى موضع آخر، توهّم أنه لولا الخلاء لكان الملءُ يمنعه من الحركة والنُّقلة.
واعلم بأنه لوكانت الأجسام كلُّها صلبةً متماسكة الأجزاء كالحجر والحديد، لكان الأمر كما ظنوا، ولكن لما كان بعض الأجسام رخواً لطيفاً سيَّالاً كالماء والهواء لم يمتنع أن تتحرَّك بعض الأجسام بين أجزائه، كما يتحرَّك السمك في الماء، والطير في الهواء، وسائر الحيوانات على وجه الأرض.
فصل في أنه ليس خارج العالم لا خلاء

ولا ملاء

اعلم يا أخي أن هذه الإحدى عشرة كُرة هي جملة العالم ومساكن الخلائق أجمعين، وقد ظن كثير بالأوهام أن وراء الفلك المحيط جسمٌ آخر وخلاءٌ بلا نهاية، وكلا الحُكمين خطأ لا حقيقة له، لأنه قد قام بالبرهان العقلي أن الخلاء غير موجود أصلاً، لا خارج العالم ولا داخله، لأن معنى الخلاء هوالمكان الفارغ الذي لا مُتمَكِّن فيه كما وصفنا، والمكان صفة من صفات الأجسام وهوعَرضٌ ولا يقوم إلاّ بالجسم ولا يوجد إلاّ معه، فنم ادّعى أن خارج العالم جسم آخر من أجل الوهم الذي يتخيّله فهوالمطالَبُ بالدليل على دعواه.
واعلم أن الوهم قوة من قوى النفس وهي تتخيل ما لا حقيقة له وما له حقيقةٌ، فليس ينبغي أن يُحكَم على متخيَّلاتها أنها حق وباطل دون أن تشهد لها إحدى القوى الحسّاسة، ويقوم عليها برهان ضروري أويَقضي لها العقل.
واعلم أن حُكم العقل هوالذي يتساوى فيه العقلاء، وكلّهم لم يتفقوا على أن خارج العالم جسمٌ آخر، لأن الحسّ لم يُدركه، والعقل لم يَقض به، والبرهان لم يقم عليه، فأيّ قضية تحكم أن هناك جسماً آخر غير تخيُّل الأوهام الكاذبة، فإن كان هناك جسم آخر كما ادّعى المدّعي، فلا يمكن أن يكون من ورائه شيء آخر، لآن الجسم ذونهاية، والخلاء ليس بموجود ببراهين قد قامت كما ذكرنا. فأما الدليل على أن كل جسم ذونهاية فقد اتفقت عليه الآراء النبوية والفلسفية جميعاً. وذلك أن من الرأي النبوي أن كل جسم مخلوق، وكلّ مخلوق ذونهاية في أوّليّة العقل، ومن الرأي الفلسفي أن كلّ جسم مركّبٌ من هيولى وصورة، وكلّ مركب ذونهاية في أوّليّة العقل.

krimbow
10/06/2006, 00:59
فصل في أن موضع الشمس وسط العالم.


اعلم أن الشمس لما كانت في الفلك كالمَلِك في الأرض، والكواكب لها كالجنود والأعوان والرعيّة للملك، والأفلاك كالأقاليم، والبروجُ كالبلدان، والدرجات والدقائق كالقُرى، صار مَركزُها بواجب الحكمة الإلهية وسْطَ العالم، كما أن دار الملك وسط المدينة، ومدنية وسط البلدان من مملكته وذلك أن مَركز الشمس وسط فلكها، وفلكها في وسط الأفلاك، لأنه لما كانت جملة العالم إحدى عشرة كُرة، كما بيّنا قبل، وكان خمسٌ منها من وراء فلكها محيطاتٍ بعضها ببعض، وهي كُرة المريخ، وكرة المشتري، وكرة زُحل، وكرة الكواكب الثابتة، وكرة المحيط؛ وخمسٌ دونها، وهي في جوف كرتها محيطاتٌ بعضها ببعض، أوَّلها فلك الزهرة ودونها كرة عُطارد، ودونها كرة القمر، ودونها كرة الهواء، ودونها كرة الأرض، فصار موضِعها في وسط العالم بهذا الإعتبار، كما أن موضع الأرض في مركز العالم.

فصل في ماهيّة البروج

اعلم يا أخي أن البروج هي، اثني عشر، قِسمةٌ وهميّة في سطح فلك المحيط يَفصِلها اثنا عشر خطّاً وهميّاً، وهي تبتدئ من نُقطة وتنتهي إلى نقطة أُخرى في مُقابلتِها، فيُقسم سطح كرةٍ باثنتي عشرة قسمةً، كلُّ واحدة منها كأنها جزء البِطّيخة تسمَّى البرج، والنُّقطتان تسمّيان قُطبي الكرة، وأن الشمس تَرسُم على سطح كرتها بحركتها في كلِّ ثلثمائة وخمسة وستين يوماً دائرةً وهميةً كما سنبين بعد، والدائرة تقسم الكرة بنصفين، وكلُّ برجٍ بقسمين متساويين، حِصّة كل برج من تلك الدائرة قطعة قوسٍ قدرها ثلاثون جزءاً من ثلثمائة وستين، وبهذه الدائرة ودرجتها يُقاس دوران سائر الأفلاك والكواكب، وبحركات الشمس تعتبر سائر حركات الكواكب في الزِّيجات، وبأحوال الشمس تُعتَبر أحوال الكواكب في المواليد.

فصل في أقطار الأفلاك وسموك السماوات.

واعلم يا أخي أن لكل كرة من هذه الأُكر قُطراً وسمكاً، وسمك كلِّ واحدٍ منها أقلُّ من قطرها، إلاّ الأرض فإن سمكها مثل قطرها، لأنها كرة غير مجوَّفة، وأما سائر الأكر فإنها لما كانت مجوَّفة صارت سموكها أقل من أقطارها، فقطر الأرض ألفان ومائة وسبعة وستون فرسخاً، وأعظم دائرةٍ على بسيطها ستة آلاف وثمانمائة فرسخ. وأما سمك كرة الهواء فإنه سبع عشرة مرةً ونصفٌ، مثل قطر الأرض، فيكون ذلك سبعةٌ وثلاثين ألفاً وتسعمائة واثنين وعشرين فرسخاً ونصف فرسخ. وقطر هذه الكرة مثل سمكها مرَّتان، وزيادة قطر الأرض عليه مرةٌ واحدة. وأما سمك كرة القمر فمثل سمك كرة الهواء سواءٌ، وقطره مثل سمكه مرتان، وزيادة قطر الهواء عليها مرةٌ واحدة. وأما سمك كرة عطارد فإنه مثل قطر الأرض مائة مرة، وخُمس قطرها مثل سمكها مرَّتان، وزيادة قطر فلك القمر عليها مرةٌ واحدة. وأما سمك الزُّهرة فمثل قطر الأرض تسعمائة وخمس عشرة مرة، وقطرها مثل سمكها مرّتان، وزيادة قطر فلك عطارد عليه مرة واحدة. وأما سمك كرة الشمس فمئة مرة مثل قطر الأرض، وقطرها مثل سمكها مرّتان، وزيادة قطر فلك الزُّهرة عليه مرةٌ واحدة.
وأما سمك كرة المرِّيخ فمثل قطر الأرض سبعُ آلاف مرةٍ وستمائة وست وخمسون مرة، وقُطرها مثل سمكها مرّتان، وزيادة قطر الشمس عليه مرة واحدة. وأما سمك فلك المشتري فمثل قطر الأرض خمس آلاف مرة وخمس مائة وسبع وعشرون مرة، وقُطرها مثلُ سمكها مرّتان، وزيادة قطر فلك المريخ عليه مرةٌ واحدة. وأما سمك فلك زحل فمثل قطر الأرضسبع آلافٍ وستمئة وخمس مرات، وقطرها مثل سمكها مرّتان، وزيادة قطر فلك المشتري عليه مرة واحدة. وأما سمك كرة فلك الكواكب الثابتة فإنه مثل قطر الأرض اثنتا عشرة ألف مرة بالتقريب، وقطرها مثل سمكها مرّتان، وزيادة قطر زحل عليه مرةٌ واحدة.

krimbow
10/06/2006, 01:00
فصل في كمية عدد الكواكب الثابتة والسيارة

وهي ألف وتسعة وعشرون كوكباً، الذي أُدرك بالرَّصد منها السبعة السيّارة وهي: زُحل والمشتري والمرّيخ والشمس والزُّهرة وعُطارد والقمر، لكل واحد منها فلك يختصّ به، وهي مُحيطاتٌ بعضها ببعض، كما بيّنا من قبل. وأما سائر الكواكب وهي ألف واثنان وعشرون كوكباً، فكلها في فلك واحد، وهو الفلك الثامن المحيط بفلك الكواكب أي زُحل، وسائر الأفلاك هي في جوفه.
فصل في مقادير أقطارها في رأي العين
وقطر جِرْمِ الشمس في رأي العين مساولإحدى وثلاثين دقيقة من درجةٍ، على أن الدرجة ستون دقيقة. وقطر جرم القمر، إذا كان في أبعد أبعاده، مُساولقطر الشمس، وقطر جرم عُطارد، إذا كان في بُعده الأوسط، جزءٌ من خمسةٍ وعشرين جزءاً من قطر الشمس، وقطر جرم الزُّهرة جزء من اثني عشر جزءاً من قطر الشمس. وقطر جرم المرّيخ جزءٌ من عشرين جزءاً من قطر الشمس. وقطر جرم المشتري جزء من اثني عشر جزءاً من قطر الشمس. وقطر جرم زحل جزء من ثمانية وعشرين جزءاً من قطر الشمس.
فصل في نسبة أقطارها من قطر الأرض فقطر جرم عُطارد جزء من ثمانية عشر جزءاً من قطر الأرض؛ وقطر جرم الزُّهرة جزءٌ وربع من ثلاثة أجزاءٍ من قطر الأرض. وقطر جرم القمر جزآن وخمسٌ من ثلاثة أجزاء من قطر الأرض. وقطر جرم الشمس مثل قطر الأرض خمس مراتٍ ونصفٌ. وقطر جرم المرّيخ مثل قطر الأرض مرةٌ وسدسٌ. وقطر جرم المشتري أربع مراتٍ ونصفٌ مثل قطر الأرض.
فصل في مقادير أجرام هذه الكواكب
من جرم الأرض

القمر جزء من تسعة وثلاثين جزءاً من الأرض. وعُطارد جزء من اثنين وعشرين جزءاً من الأرض. والزُّهرة جزء من سبعة وأربعين جزءاً من الأرض. والشمس مثل الأرض مائة وستون مرةً وكَسرٌ. والمرّيخ مثل الأرض مرةٌ ونصف وثُمن. والمشتري مثل الأرض خمسٌ وتسعون مرةً. وزُحل مثل الأرض إحدى وتسعون مرة.
فصل من مقادير الكواكب الثابتة. هي ألفٌ واثنان وعشرون كوكباً، خمسة عشر منها كل واحدٍ مثل الأرض مائة مرةٍ وثماني مراتٍ، وقطر كلّ واحدٍ منها مثل قطر الأرض أربع مرات ونصفٌ وربعٌ، وفي رأي العين جزءٌ من عشرين جزءاً من قطر جرم الشمس. ومنها خمسة وأربعون كوكباً، كلُّ واحدٍ منها مثل الأرض تسعون مرةً. ومنها مائتا كوكب وثمانية كواكب، كلُّ واحدٍ مثل الأرض اثنتان وسبعون مرة. ومنها أربعمائة وأربعة وسبعون كوكباً، كلُّ واحدٍ واحد منها مثل الأرض أربع وخمسون مرة. ومنها مائتان وسبعةٌ وعشرون كوكباً، كلُّ واحد منها مثل الأرض ستٌّ وثلاثون مرةً. ومنها ثلاثة وثلاثون كوكباً، كلُّ واحدٍ منها مثل الأرض ثماني عشرة مرةً.

krimbow
10/06/2006, 01:00
فصل في اختلاف دوران الأفلاك حول الأرض

واعلم يا أخي أن الفلك المحيط الذي هوالمحرّك الأول عن الحركة الأولى التي هي النفس الكلّية يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعةً سواءدورة واحدة، ولما كان الكوكب في جوفه مماسّاً له من داخله صار يُديره معه نحوالجهة التي يدور إليها، ولكن تقصُر حركته عن سرعة حركة محرّكه بشيء يسير، فيختلف عن موازاة أجزائه في كل مائة سنةٍ درجةً واحدة. ولما كان أيضاً فلك زحل في جوف هذا الفلك مماسّاً له في داخله، صار يديره معه نحوالجهة التي يدور إليها، ويتبعه فلك زحل، ولكن تَقصُر أيضاً حركته عن سرعة محرّكه بشيء يسير، فيختلف في كل يوم عن موازة أجزاء الفلك المحيط دقيقتين. وهكذا يجري حكم فلك المشتري في جوف فلك زحل كلَّ يومٍ خمسَ دقائق يتأخَّر عن موازاة أجزاء الفلك المحيط. وكذلك حكم فلك المرّيخ، في جوف فلك المشتري يتأخر عن موازتة أجزاء الفلك المحيط في دورةٍ، في كل يومٍ، إحدى وثلاثين دقيقة. وهكذا حُكم الشمس في جوف فلك المرّيخ وفلك الزُّهرة في جوف فلك الشمس، وفلك عُطارد في جوف فلك الزُّهرة يتأخر كلُّ واحدٍ منها عن موازاة أجزاء الفلك المحيط في كلّ يوم تسعاً وخمسين دقيقة. وأما فلك القمر فيتأخّر كل يوم عن مُوازاة الدرجة التي كان موازياً لها ثلاث عشرة درجة وكسراً. فقد بان بهذا الشرح أن كلّ واحدة من هذه الأُكر متحرِّكة بما فوقها ومحرِّكة لما تحتها، إلى أن تنتهي إلى فلك القمر؛ وأن كل واحدة تنقُص حركتها عن سرعة حركة محرِّكها؛ وأن فلك القمر أبطأُها حركةً من أجل بُعده من المحرِّكةِ الأولى التي هي فلك المحيط، لكثرة المتوسّطات بينهما، فلهذا السبب صار دوران هذه الأُكر حول الأرض مختلف الأزمان.

krimbow
10/06/2006, 01:01
وأما تفاوت أزمان أدوارها، فذلك أن الفلك المحيط يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة سواء دورةً واحدة، وفلك الكواكب في أكثر من هذه المدَّة بشيء يسير، وفلك زحل في أكثر من ذلك بما يكون مقداره جزءاً من أربعمائة وخمسين جزءاً من ساعةٍ. وهكذا فلك المشتري يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة وجزء من مائة وثمانين جزءاً من ساعة دورة واحدة. وأما فلك المرّيخ فيدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة وسُدسٍ وخُمسِ ساعةٍ من ساعة، دورةً واحدة. وأما فلك الشمس والزُّهرة وعُطارد فإن كل واحد منها يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة وخُمسٍ وثلثِ ساعةٍ من ساعة، دورةً واحدة. وأما القمر فإنه لما كان أبطأها حركةً صار يدور حول الأرض في كل أربع وعشرين ساعة وزيادة سِتّ أسباع ساعةٍ، دروةً واحدة.
فصل فيما يعرض للكواكب من الدوران في فلك البروج

فلهذا السبب عرض للكواكب دورانها في فلك البروج في أزمنة مختلفة، بيان ذلك أنه إذا سامَتَتِ الشمسُ بقعةً من الأرض مع أول درجة من الحمل، فإن تلك تعود إلى سَمْتِ تلك البُقعة بعد أربع وعشرين ساعة، وهكذا دأبها دائماً، أما الشمس فإنها تعود إلى سَمْت تلك البقعة مع الدرجة الثانية منه، وهكذا دأبها دائماً. وأما القمر فإنه يعود إلى سَمْت تلك البقعة مع الدرجة الثالثة عشرة مع برج الحَمل بعد أربع وعشرين ساعة، بزيادة ست أسباع ساعة بالتقريب، وفي اليوم الثالث يعود في الدرجة السادسة والعشرين من بُرج الحمل بعد ساعة وخمس أسباع ساعةٍ. وفي اليوم الرابع يعود مع الدرجة التاسعة من بُرج الثور بعد ساعتين وأربع أسباع ساعةٍ. وعلى هذا القياس تتأخَّر مُسامَتَتُه في كل يوم لتلك البُقعة مع درجة أُخرى، إلى أن يحصل من هذا التأخُّر عن فلك البروج في كل سبعة وعشرين يوماً، وتسع ساعاتٍ وخُمس وسُدس ساعة، دورةٌ واحدةٌ، ويحصل له أيضاً في هذه المدة حول الأرض سبعٌ وعشرون دورةً وكسرٌ، ويحصل أيضاً لتلك الدرجة في هذه المدة حول الأرض ثمانٍ وعشرون دورةً وكسرٌ، وأما الشمس فهكذا حكمها، وذلك بأنها إذا سامَتتْ بقعةً من الأرض مع أول دقيقة من بُرج الحمل، فإنها تعود إلى مُسامَتةِ تلك البُقعة مع الدقيقة التاسعة والخمسين من تلك الدرجةبعد أربع وعشرين ساعة وخُمس دقيقةٍ من ساعة، وفي اليوم الثاني تعود مع آخر الدرجة الثانية من الحمل، وهكذا تتأخر مُسامَتتُها في كل يوم مع درجة أُخرى إلى أن يحصل لها في فلك البروج في ثلثمائة وخمسة وستين يوماً وستِّ ساعات، دورةٌ واحدةٌ، ويحصل أيضاً حول الأرض في هذه المدة ثلثمائة وخمس وستون دورة وكسرٌ، ويحصل لتلك الدقيقة في هذه المدة حول الأرض ثلثمائة وست وستون دورةً وكسرٌ؛ وكذلك يجري حكم عُطارد والزُّهرة. وأما المريخ فإنه إذا سامت بقعةً من الأرض مع دقيقة من درجة، فإنه يعود في اليوم الثاني مع الدقيقة الحادية والثلاثين من تلك الدرجة، وفي اليوم الثالث مع الدقيقة من الدرجة التي تتلوها، إلى أن يحصل له في فلك البروج، سنةٌ فارسيةٌ وعشرة أشهر واثنان وعشرون يوماً، دورةٌ واحدة. وفي هذه المدة أيضاً يحصل له حول الأرض سبع وثمانون وستمائة دورة. ولتلك الدقيقة 688 وهي زيادة دورةٍ واحدة.
وأما المشتري إذا سامت بقعة ً مع دقيقة من درجة، فإنه يعود إلى سمت تلك البقعة مع الدقيقة الخامسة من تلك الدرجة، وفي اليوم الثاني مع الدقيقة العاشرة، وهكذا دأبه إلى أن يحصل في فلك البروج في كل إحدى عشرة سنة وعشرة أشهر وستة وعشرين يوماً، دورةٌ واحدة، ويحصل له في هذه المدة حول الأرض 4435 دورة ولتلك الدقيقة 4336 دورة.
وأما زحل فإنه إذا سامت بقعة فإنه يعود في اليوم الثاني مع أول دقيقة ثالثة، وفي اليوم الثالث مع الدقيقة الخامسة، وحصة كل يوم دقيقتان، إلى أن يحصل له في فلك البروج في كل تسعٍ وعشرين سنة وخمسة أشهر وستة أيام، دورةٌ واحدةٌ، ويحصل له حول الأرض في هذه المدة 9111 دورةً، ولتلك الدورة 9112 دورةً.
وأما الكواكب الثابتة فإنه إذا سامت واحد منها بقعة من الأرض فإنه يعود إلى تلك البقعة مُسامتاً لها مع ثالثة من ثانية من دقيقة من درجة، فيحصل له في فلك البروج، في ست وثلاثين ألف سنة، دورةٌ واحدة، ويحصل له حول الأرض دورات كثيرة.
ولما بان لأصحاب الرَّصد دوران الفلك المحيط من المشرق إلى المغرب فوق الأرض، ومن المغرب إلى المشرق تحت الأرض، ودوران باقي الأفلاك تابعةً له بكواكبها، ووجدوها مُقصِّرةً عنه عن سرعة حركته، متأخرةً عنه في كل يوم بقدر ما لكل دور دون الآخر، كما بيّنا، عَمِلوا لها حساباً ودوّنوه في الزيجات، ليعرفوا، أيّ وقت أرادوا، مواضعها موازاتها من فلك البروج معرفةً حقيقيةً.
ولما تبين أصحاب الزيجات أيضاً ما يعرض للكواكب من الدوران في فلك البروج بسبب إبطاء حركة أُكرها عن سرعة حركة الفلك المحيط، سمّوا ما يعرض لها في فلك البروج من الدوران حركة من المغرب إلى المشرق، ليكون فرقٌ بالتسمية بين دورانها حول الأرض ودورانها في فلك البروج.

krimbow
10/06/2006, 01:03
فصل في بطلان قول من يقول إنها تتحرك من المغرب إلى المشرق

وقد ظن كثير من الناظرين في علم النجوم، ممن ليس له رياضةٌ بالنظر في علم الهندسة والطبيعيات، إن هذه الكواكب السيّارة تتحرّك من المشرق إلى المغرب مُخالفةً لدوران الفلك المحيط، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا، لأنه لوكان كما ظنوا لكان سبيلُها أن تطلع من المغرب وتغيب بالمشرق، كما أن الفلك المحيط تطلع درجاته من المشرق وتغيب في المغرب. وقد شهدوا دورانها في فلك البروج مُخالفاً لدوران الفلك، فسمَّوها حركةً من المشرق إلى المغرب، وشبّهوها بحركات نملاتٍ تتحرّك على وجه الرّحى مستقلّةً بحركتها، مُعاندةً مُخالفةً لها في حركاتها، والرحى بسرعة حركاتها تردّ تلك النملات إلى دورانها. فلوكان كما قالوا حقيقةً، لكانت حركتها سبعةٌ فقط، لأنها سبعة كواكب، والأمر بخلاف ذلك، لأن أصحات سيّارة الرّصد ذكروا أنها خمسٌ وأربعون حركةً، كما سنبيّن بعد، وقالوا إن القمر أسرع الكواكب حركةً. فلو كان كما ذكروا لدار حول الأرض في أقلّ من أربع وعشرين ساعة، وقد بيّنا أنه يدور في أكثر من ذلك. ولوكانت حركاتها بالقصد مُعاندةً لحركات الفلك المحيط لوجب أن تكون طِباعها مُخالفةً لطباع الفلك، مُضادّةً لها، وكان يجب أن يكون لها خمسٌ وأربعون طبيعة لأنها خمس وأربعون حركة، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا، بل طبيعة الأفلاك والكواكب كلِّها طبيعةٌ واحدة في الحركة الدّوريّة، وقصدُها قصدٌ واحد، وإنما اختلفت حركاتُها في السرعة والإبطاء من أجل أنها في الأفلاك مُحرِّكاتٌ، كما بيّنا قبلُ. زمن أجل اختلاف حركاتها في السرعة والإبطاء اختلفت أزمان أدوارها حول الأرض، ومن أجل اختلافها حول الأرض اختلفت أدوارها في فلك البروج كما بيّنا، وأما مثل اختلاف دورانها حول الأرض فكدوران الطائفين حول البيت الحرام.

فصل في أن مثال دورانها حول الأرض كدوران الطائفين حول البيت الحرام

وذلك أن مثل البيت وسط المسجد الحرام، والمسجد وسط الحرم، والحرم وسط الحجاز، والحجاز وسط بلدان الإسلام، كمثل الأرض وسط كرة الهواء، وكرة الهواء في وسط كرة القمر، وفلك القمر في وسط الأفلاك؛ ومثل المصلّين من الآفاق المتوجّهين نحوالبيت كمثل الكواكب في الأفلاك ومطارح شُعاعاتها نحومركز الأرض. ومثل دوران الأفلاك بكواكبها حول الأرض كمثل دوران الطائفين حول البيت، ومثل اختلاف أدوارها حول الأرض كمثل اختلاف أشواط الطائفين حول البيت، وذلك أنّا نرى الطائفين حول البيت منهم من يمشي الهُوَينا، ومنهم من يستعجل، ومنهم من يستعجل، ومنهم من يُهروِل، ومنهم من يسعى، فتختلف بحسب ذلك أشواطهم، وكلُّهم متوجهون في طوافهم نحواً واحداً وقصداً واحداً. ولكن إذا بلغ الماشي الركْن العراقيّ، فقد بلغ المستعجل الرُّكن الشاميّ، والمهرول الركن اليمانيّ، والساعي الحجر الأسود. فبهذا السبب، إذا طاف الماشي شوطاً واحداً، فقد طاف الساعي أشواطاً، فهؤلاء الطائفون، وإن اختلفت أشواطهم من أجل سرعة حركاتهم وإبطائها، فليس قصدُهم إلاّ قصدٌ واحدٌ إلى جهة واحدة، فهكذا حكم الأفلاك وكواكبها في دورانها حول الأرض. وكما أن الطائفين حول البيت يبتدئون من عند باب البيت، ويجتمعون عنده سبعة أشواطٍ يدورونها حول البيت، فهكذا يقال إن الكواكب كلّها ابتدأت تحركاتها من مُوازاة أول دقيقة من برج الحمل الذي كأنه باب الفلك، ثم دارت حول الأرض، ثم اختلفت موازاتها بعد ذلك في درجات البروج، بحسب سرعتها وإبطائها كما قيل. وإذا اجتمعت هذه كلّها بعد دوراتٍ كثيرةٍ في مُوازاة تلك الدقيقة التي ابتدأت منها، قامت القًومة الكُبرى واستأنفت الدّور.
فصل في مثال أدوارها واعلم يا أخي أن حكماء الهند ضربوا مثلاً لدوران الكواكب حول الأرض، ليَقرُبَ على المتعلمين فَهمُه، ويسهلَ على المتأملين تصوُّره: ذكروا أن ملكاً من الملوك بنى مدينةً دورُها ستون فرسخاً، وأرسل سبعة نفرٍ يدورون حولها بسير مختلف: أحدهم كلّ يوم فرسخاً، والآخر كلّ يوم فرسخين، والثالث كلّ يوم ثلاثة فراسخ، والرابع كلّ يوم أربعة فراسخ، والخامس كلّ يوم خمسة فراسخ، والسادس كلّ يوم ستة فراسخ، والسابع كلّ يوم سبعة فراسخ. فقال: دوروا حول هذه المدينة، وليكن ابتداؤكم من عند الباب، فاذا اجتمعتم عند الباب بعدد دَوراتكم، فتعالوا فعرّفوني كمْ دار كلّ واحدٍ منكم.
فمن فهم حساب دوران هؤلاء النفر حول تلك المدينة وتصوَّره، يمكنه أن يفهم دوران هذه الكواكب حول الأرض، بعد كمْ دورةٍ يجتمعون في أول برج الحمل، كما كان ابتداؤهم. فأما حساب أوُلئك النفر فإنهم بعد ستين يوماً يجتمع ستة نفر عند باب المدينة، وقد دار واحدٌ منهم دورةً، والآخر دورتين، والثالث ثلاث دورات، والرابع أربعة دورات، والخامس خمس دورات، والسادس ستّ دورات. فأما الذي يدور كلّ يوم سبعةً فقد دار ثمانية أدوار وزاد أربعة أسباع فرسخ دورٍ، فيحتاج هؤلاء النفر أن يستأنفوا الدور، فبعد مائة وعشرين يوماً يجتمعون مرةً أُخرى، ولكن السابع قد دار سبع عشرة مرةً وزاد فرسخاً واحداً، فيحتاجون أن يستأنفوا الدور؛ فبعد مئة وثمانين يوماً يجتمع الستة مرة ثانية، وقد دار كلّ واحد حسابه الأول مرة ثالثةً، ولكن صاحب السبع قد دار خمساً وعشرين دورة، وزاد خمسة أسباعٍ، فيحتاجون أن يستأنفوا الدور؛ فبعد مئتين وأربعين يوماً يجتمعون مرة رابعة وقد دار كلّ واحد منهم حسابه الأول، ولكنّ صاحب السبعة قد دار أربعاً وثلاثين دورةً وزاد سبعين، فيحتاجون أن يستأنفوا الدور؛ فبعد ثلاثمائة يوم يجتمعون مرةً خامسة، وقد دار كلّ واحد منهم حسابه الأول مرةً خامسة، ولكن صاحب السبعة قد دار اثنتين وأربعين دورةً، وزاد ستة أسباع فيحتاجون أن يستأنفوا الدور؛ فبعد ثلثمائة وستين يوماً يجتمعون مرة سادسة، وقد دار كل واحد منهم لحسابه الأول مرة سادسة، ولكنّ صاحب السبعة دار إحدى وخمسين دورة، وزاد ثلاثة فراسخ، فيحتاجون أن يستأنفوا الدور، فبعد أربعمائة وعشرين يوماً يجتمعون كلّهم عند باب المدينة، وقد دار الأول سبعة أدوار، والثاني أربع عشرة دورة، والثالث إحدى وعشرين دورة، والرابع ثمانياً وعشرين دورة، والخامس خمساً وثلاثين دورة، والسادس اثنتين وأربعين دورة، والسابع قد دار ستين دورة.
فهذا مثلٌ ضربه حكماء الهند لدوران الأفلاك والكواكب حول الأرض، وذلك أن مثل الأرض كمثل تلك المدينة المبنيّة التي دَورُها ستون فرسخاً، ومثل الكواكب السبعة السيّارة ودورانِها حول الأرض كمثل أوُلئك النفر السبعة، واختلاف حركاتها في السرعة والإبطاء كاختلاف سير أُولئك النفر؛ والملك هوالله البارئ المصوِّر، تبارك ربُّ العالمين.

krimbow
10/06/2006, 01:04
فصل فيما يرى لها من الرجوع

والاستقامة والوقوف

اعلم يا أخي أن الذي يوصف من هذه الكواكب السبعة السيّارة خمسةٌ منها، وهي زُحل والمشتري والمرّيخ والزُّهرة وعطارد، تارةً بالرجوع وتارةً بالوقوف، وليس بالحقيقة ذلك، وإنما هوعارضٌ في رأي العين، وذلك أن كل كوكبٍ جرمه على كرة صغيرة تسمّى أفلاك التداوير، وهي مركّبةٌ كلّ واحدةٍ على فلك من الأفلاك الكبار التي تقدّم ذكرها، وغائصة في غِلَظ سُموكها، ويكون جانبٌ منها، مما يلي سطوحها، السّفلي، كلّ واحدة منها أيضاً دائمة الدوران في مواضعها من أفلاكها الحاملة لها. ويَعرِضُ لكل كوكب، إذا كان مركبّاً عليها، تارةً الصعود إلى أعلى سطح فلكٍ فيبعُد عن الأرض، وتارةً النزول من هناك فيقرُب من الأرض، فإذا كان في أعلى ذُراها ترى له حركةً على توالي البروج من أوَّلها إلى آخرها، وإذا كان في أسفل فلكه ترى له حركةً من آخر البروج إلى أولها؛ وإذا كان صاعداً أونازلاً يُرى كأنه واقفٌ، وليس بواقفٍ ولا راجع، ولكن دأبه الدوران، وإنما جعل أصحاب الرَّصد هذه الأسماء ألقاباً له.
??????فصل في تفصيل الحركات الخمس والأربعين

اعلم يا أخي أنه يَعرِض لكل كوكبٍ من هذه السبعة ستُّ جهات مختلفات، إحداها من المشرق إلى المغرب، وأُخرى من المغرب إلى المشرق، وأُخرى من الشمال إلى الجنوب، وأُخرى من الجنوب إلى الشمال، وأُخرى من فوق إلى أسفل، وأُخرى من أسفل إلى فوق. فتكون جملتها اثنتي وأربعين حركة. ويَعرِض للكواكب الثابتة حركتان، وللفلك المحيط حركة واحدة، فتلك هي خمس وأربعون حركة. فأما حركتها من المشرق إلى المغرب فهي بالقَصد الأول الحقيقي، وأما سائرُها فبالعَرَض لا بالقصد، وأما الذي يعرض من المغرب إلى المشرق فقد بيّنا معناه فيما تقدم، وأما الذي يَعرض من فوق إلى أسفل ومن أسفل إلى فوق فهومن جهة أفلاك التداوير، ومن جهة الأفلاك الخارجة عن المراكز؛ وأما التي تعرِض من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال فمن جهة ميل فلك البروج عن فلك مُعدّل النهار وشرحها يطول، فمن أراد هذا العلم مُستقصىً، فلينظُره في كتاب المجسطي أوبعض المختصرات في تركيب الأفلاك.
فصل في بيان الظلمتين الموجودتين في العالم

اعلم يا أخي أن العالم كلّه بأسره مُضيءٌ بنور الشمس والكواكب، وليس فيه إلا ظُلمتان، إحداهما ظلُّ الأرض والآُخرى ظلُّ القمر، وإنما صار لهذين الجسمين الظلُّ من أجل أنهما غيرُ نيّرين ولا مُشِفَّين. وأما النور الذي يُرى على وجه القمر، فإن ذلك من إشراق الشمس على سطح جرمه ولانعكاس شُعاعاتها كما يرى مثل ذلك في وجه المرآة إذا قابلت الشمس. وأما سائر الأجسام التي في العالم فبعضها نيّرٌ ونورها ذاتيٌّ لها وهي الشمس والكواكب والنار التي عندنا، وأما باقي الأجسام فكلُّها مُشِفَّاتٌ، وهي الأفلاك والهواء والماء وبعض الأجسام الأرضيّة، كالزجاج والبلّور وما شاكلهما. والأجسام النيّرة هي التي نورها ذاتي ولا لون طبيعيّ، ولكن إذا قابلها جسم نيّرٌ سرى نوره في جميع أجزائها مرّة واحدة؛ لأن النور صورةٌ روحانية، ومن خاصيّة الصّور الروحانية أن تسري في الأجسام دُفعةً واحدة، وتنسلّ منها دُفعةً واحدة بلا زمان، فإذا حال بين الأجسام النيّرة وبين الأجسام المشفّة حائلٌ غير مُشف منع نور النيّر أن يسري في الجسم المُشف. والنور في جرم الشمس والكواكب والنار ذاتيّ لها، وأما في أجرام الأفلاك والهواء والماء فعرضيّ. وأما جرم الأرض والقمر فلما كانا غير نيّرين ولا مُشفين، صار لهما الظلّ، لأن النور لا يسري فيهما كما يسري في الأجسام المُشفة، غير أن جرم القمر صقيلٌ يرُدُّ النور كما يرُدُّ وجه المرآة، وسطح جرم الأرض غير صقيل، فهذا هوالفرق بينهما.

krimbow
10/06/2006, 01:05
فصل في علّة الكسوفين

واعلم يا أخي أنه لما كان جرم الأرض وجرم القمر كلّ واحد منهما أصغر من جرم الشمس، صار شكل ظلّيهما مخروطاً، وشكل المخروط هوالذي أوّله غليظٌ، وآخره دقيقٌ، حتى ينقطع من دقَّته. فظلّ الأرض يبتدئ من سطحها، ويمتدّ في الهواء مُنخرطاً، حتى يبلغ إلى فلك القمر، ويمتدّ في سمكه، حتى يبلغ إلى فلك عُطارد، ويمتدّ في سمكه أيضاً إلى أن ينقطع هناك. فطوله من سطح الأرض إلى حيث ينقطع في فلك عُطارد مثل قطر الأرض مئة مرّةٍ وثلاثون مرّة، فيكون في سمك الهواء منه ستّة عشر جزءاً ونصفٌ، وفي سمك فلك القمر مثل ذلك، وسبعةٌ وستّون جزءاً منه في سمك فلك عُطارد إلى حيث ينقطع؛ ويكون قطر هذا الظل حيث يمرّ القمر في وقت مقابلة الشمس مثل قطر جرم القمر مرّتين وثلاثة أخماس. فإذا اتفق أن تكون الشمس عند إحدى العقدتين اللّتين تسمّيان الرأس والذنب، فيكون مرور القمر في سمك الظلّ كلّه ممنوعاً عنه نور الشمس، فينكسف ثم يخرج من الجانب الآخر وينجلي.
وأما ظلّ جرم القمر فيبتدئ من سطح جرمه ويمتدّ مُنخرطاً في سمك بعضه، والباقي في سمك الهواء، ويقطعه حتى يصل إلى سطح الأرض، فيكون قطر استدارته على وجه الأرض هناك مِقدار مئةٍ وخمسين فرسخاً، يزيد وينقُص بقدر بعد القمر عن الأرض وقربه منها، وهذا في وقت اجتماعه مع الشمس. فإن اتفق اجتماعها عند إحدى العُقدتين نرى القمر محاذياً لأبصارنا ولجرم الشمس، فيمنع عنّا نورها فنراها منكسفة. وإذا كان القمر في غير هذين الموضعين، أعني الاجتماع والاستقبال، يكون على أحد الموضعين أقرب، فإن كان قُربه إلى الاجتماع أكثر، كان رأس مخروط ظلّه في سمك الهواء، وإن كان إلى الاستقبال أقرب، كان رأس مخروط ظلّه في سمك فلكه أوفي سمك فلك عُطارد. وأما رأس مخروط ظلّ الأرض فإلى الدرجة المُقابلة لدرجة الشمس، في أي برج كانت، ويدور أبداً في مُقابلة الشمس، فإذا كانت من فوق الأرض، فظِلُّ الأرض تحتها، وإن كانت تحت الأرض، فظلُّ الأرض فوقها، وإن كانت بالمشرق، فظلّ الأرض في المغرب، وإذا صارت بالمغرب صار الظلّ إلى ناحية المشرق، وهذا دأبُها دائماُ يكونان حول الأرض وهما الليل والنهار.

فصل في أن الفلك طبيعة خامسة

واعلم يا أخي أن معنى قول الحكماء إن الفلك طبيعةٌ خامسة إنما يَعنون أن الأجسام الفلكية لا تقبل الكون والفساد والتغيُّر والاستحالة والزيادة والنقصان، كما تقبلها الأجسام التي تحت فلك القمر، وأن حركاتها كلّها دوريّةٌ.
واعلم أن للأجسام صفاتٍ كثيرةً، فمنها ما تشترك الأجسام كلّها فيها، ومنها ما يختصّ ببعضها دون بعضٍ، فالصفة التي تشترك فيها الأجسام كلّها والطول والعرض والعُمق فحسب.
واعلم أن الصفات إنما هي صورٌ تحصل في الهيولى، فيكون الهيولى بها موصوفاً؛ فمن هذه الصورة التي تسمّى الصفات مَهايا ذاتيةٌ للجسم مُقوِّمةٌ لوجدانه، كالطول والعرض والعمق، لأنها متى بطلت عن الجسم بطل وجدان الجسم، ومن الصورة ما هي متمّمة للجسم مُبلِغةٌ إلى أفضل حالاته، وهذه الصورة تختصّ ببعض الأجسام دون بعض، وربما يشترك فيها عِدّة أجسام. فمن الصور المتمّمة ما يشترك فيها الأجسام الفلكية والطبيعية، وهي الشكل والحركة والنور والشفافة واليبس الذي هو تماسك الأجزاء. ومما يختصّ بالأجسام الطبيعية الحرارة والبرودة والثّقل والتغيُّر والخفّة والاستحالة والحركة على الاستقامة وما شاكلها. والذي يختصّ بالأجسام الفلكية سَلْبُ هذه الصفات كلّها، فمن أجل هذا قيل إنها طبيعةٌ خامسةٌ، لأنها ليست حارةً ولا باردةً ولا رطبةً ولا ثقيلةً ولا خفيفةً، ولا يستحيل بعضها إلى بعضٍ فيكون منها شيء آخر، ولا يزيد في مقاديرها ولا ينقص، لأن الباري، جلّ ثناؤه، أبدعها كلّها واخترعها تامّةً كاملةً، فهي باقيةٌ بحالاتها إلى وقت ما ريد باريها، عزّ وجل، أن يُفنيها كيف شاء، كما أبدعها وصوّرها واخترعها وركّبها وحرّكها ودبّرها، فتبارك الله أحسن الخالقين.

krimbow
10/06/2006, 01:06
فصل في إبطال قول المتوهمين غير الحق

واعلم يا أخي أن كثيراً من أهل العلم ظنّوا أن معنى قول الحكماء إن الفلك طبيعةٌ خامسة أنه مُخالفٌ لهذه الأجسام الطبيعية في كلّ الصفات، وليس الأمر كما ظنوا، لأن العيان يُكذّبهم، وذلك أن القمر أحد الأجسام الفلكية، وقد يُرى فيه اختلاف قبول النور والظلمة، كما يُرى في الأجسام الأرضيّة، وله ظلّ كظلالها، وهوغير مُشفٍ مثل الأرض، والأفلاك كلّها تشارك الهواء والماء والبلّور والزُّجاج في الإشفاف، والشمس والكواكب تشارك النار في النور، وكلّها تشارك الأرض في اليبس. فقد بان بهذا أنهم لم يُريدوا بقولهم طبيعةٌ خامسةإلاّ الحركة الدوريّة، وأنها لا تقبل الكون والفساد والزيادة والنُّقصان، كما تقبله الأجسام الطبيعية.

فصل في أنها ليست ثقيلة ولا خفيفة

واعلم يا أخي أنما قيل إن الأجسام ليست خفيفة ولا ثقيلة، لأنها ملازمة لأماكنها الخاصة بها، وذلك أن الباري، عزّ وجل، لما خلق الجسم المُطلق وفصل أبعاضَه بالصور المتمّمة، ورتّبها محيطاتٍ بعضها ببعضٍ، كما بيّنا أولاً، جعل لكل واحد منها مكاناً هوأليق الأماكن به، وكلّ جسم في مكانه الخاص ليس بثقيل ولا خفيف، لأن الثّقل والخفّة يعرِضان لبعض الأجسام بسبب خروجها من أماكنها الخاصّة بها إلى مكان غريب.
واعلم يا أخي أن الأرض في مكانها، وهومركز العالم، ليست بثقيلة، ولا الماء فوقها بثقيل، ولا الهواء أيضاً ثقيلٌ فوق الماء، ولا النار فوق الهواء أيضاً بثقيلةٍ، لأنها بأماكنها الخاصة بها، وإنما يعرض الثِّقل والخفّة لأجزائها إذا صارت في أماكن غريبةٍ، وذلك أن أجزاء الأرض في جوف الماء والهواء غريبةٌ، تُريد اللَّحاق بمركزها وجنسها، فإذا منعها مانع، وقع التنازُعُ والتدافُع، فيسمى ذلك ثقلاً، وهكذا حُكم الماء وأجزائه في جوف الهواء، وحُكم أجزاء الهواء في الماء، وأجزاء النار في جوف الهواء. وكلّ واحد يريد اللحاق بعالمه ومركزه وأبناء جنسه، ولكن ما كان متوجّهاً نحومركز العالم يسمّى ثقيلاً، وما كان متوجّهاً نحوالمحيط يسمّى خفيفاً. والدليل على أن كلّ جسم في موضعه ومكانه الخاص به، لا خفيفٌ ولا ثقيل، هوكون أجزائه في جوف كلّيته لا ثقيلةً ولا خفيفةً. وبيان ذلك بالتجربة والاعتبار، وطريق تجربته أن تملأ قِرْبتين إحداهما من الماء والأُخرى من الريح الذي هوالهواء، ثم تطرحهما في بركة ماء، فإنك ترى القِربة التي هي مملوءةٌ من الماء تغوص في جوف الماء، والتي فيها الريح تطفوفوق الماء. فإذا شيلَت القربة التي هي مملؤةٌ من الماء لا يوجد لها ثقل ما دامت في الماء، لأن الماء في الماء ليس بثقيل؛ وإذا صارت إلى فوق الماء أُحِسَّ بثقلها. وأما القربة التي هي مملوءةٌ من الهواء إذا غُوِّصت في الماء وُجِدَ لها تمانعٌ شديد، لأن الهواء في جوف الماء خفيف، فإذا شيلت إلى الهواء لا يوجد ذلك التمانع لأن الهواء في الهواء ليس بخفيف.
واعلم أنه إذا أُخذ من بركة مُلئت ماءً قدرٌ من الماء، ثم رُدَّ إليها، وقف ذلك الماء المردود حيث رُدَّ، كما أن التراب، إذا أُخذ من الأرض ثم رُدَّ إليها، وقف حيث رُدّ، وكذلك إذا استنشق الحيوان من الهواء ما يُروِّح الحرارة الغريزية، ثم ردّه بالتنفس، وقف ذلك الهواء المردود حيث رُدَّ إن لم يعرض له دافع.

فصل في أن الأجسام الفلكية ليست بحارة

ولا باردة ولا رطبة

واعلم يا أخي بأنه إنما قيل إنها ليست بحارةٍ ولا باردةٍ ولا رطبةٍ من أجل أن الحرارة إنما تعرض للأجسام السيّالة المتحلّلة عند الحركة، لأن أجزاءها تُفارق مُجاوَراتُها بعضُها بعضاً، وتتبدل بالغليان الذي هوالحرارة. ولما كانت الأجسام الفلكية متماسكة الأجزاء من شدّة اليبس، لم تُفارق مُجاورة أجزائها بعضُها بعضاً، فلا يعرض لها الغليان الذي هوالحرارة. وأما البرودة فإنها تعرض للأجسام عند سكونها، والأجسام الفلكية دائمة الحركات والدوران، فلا تسكن فتبرد. وأما الرطوبة فإنها تعرض للأجسام إذا تحرّك بعض أجزائها، وسكن البعض، وليس للأجسام الفلكية سكون.
واعلم أنه إنما صارت الأجسام الفلكية شديدة التماسك من شدة اليبس، وشدّة اليبس من شدة الحركة والدوران، لأن الحركة تُولّد الحرارة، والحرارة تولّد اليبوسة، واليبوسة، إذا تناهت، انطفأت الحرارة.
واعلم يا أخي أن الأجسام الفلكية محفوظٌ نِظامها، وباقية أشخاصها، ما دامت ثابتةً على دورانها، فإذا وقفت عن دورانها وسكنت حركاتها، ولّد السكون والبرودة، وولّدت الرطوبة التفشّي والتبدّد، والتفشّي والتبدّد يُفسدان النّظام، ومن فساد النّظام يكون البوار والبُطلان.

krimbow
10/06/2006, 01:06
?فصل في معنى القيامة

إنما يدوم دوران الفلك ما دامت النفس الكلية مربوطة معه، فإذا فارقته قامت القيامة الكبرى؛ لأن معنى القيامة مشتقّ من القيام، فإذا فارقت النفس قامت قيامتها. قال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله: "من مات فقد قامت قيامته" وإنما أراد قيامة النفس لا الجسد، لأن الجسد لا يقوم عند الموت، بل يقع وُقوعاً لا يقوم بعده، إلى أن تُردّ النفس إليه ثانيةً. فانتبه يا أخي من نوم ورقدة الجهالة، وتزوّد للرّحلة، واستعدّ للقيامة، قبل أن تقوم قيامتك، بأن يؤخذ منك هذا الهيكل المبنيّ، مملوءاً من آثار الحكمة، قهراً وأنت كارهٌ، فتبقى نفسك بلا سمع ولا بصر ولا شمّ ولا ذوقٍ ولا لمسٍ فارغةً خاويةً تهوي في هاوية البرزخ إلى يوم القيامة، إلى يوم يُبعَثون. فبادر وشمّر واجتهد بأن تكتسب بتوسط هذا الهيكل الجسماني، هيكلاً روحانياً، وبتوسّط هذا الهيكل الجسماني، هيكلاً روحانياً، وبتوسّط هذه الحواس الجسدانية، حواسّ عقليةً، ليكون بعد حين، فترجع نفسك من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح بربح لا بخُسران.
واعلم بأن النفس، إذا فارقت هذا الهيكل، فلا يبقى معها ولا يصحبها من آثار هذا الجسد إلا ما استفادت من المعارف الربّانية، والأخلاق الجميلة الملكيّة، والآراء الصحيحة المُنجية، والأعمال الصالحة الزكية المُرضية المُربحة، وذلك أن تبقى هذه الأشياء في النفس مصوّرة في ذاتها، إذا كانت معتادةً لها، صورةً روحانيةً نيّرةً بهيّةً، كلما لاحظت النفس ذاتها، ورأت تلك الصورة، فرحت بها وامتلأت سروراً في ذاتها وفرحاً ولذة، وذلك ثوابُها ونعيمها بما أسلفت في الأيام الخالية. وأما إذا كانت أخلاقها رديئة سيئة بشعة، وآراؤها فاسدةً، وأعمالها موبقة، وجهالاتها متراكمة، بقيت عمياء عن رؤية الحقائق، وتبقى هذه الأشياء في ذاتها مصورةً صورةٍ قبيحةً سمجة، فكلما لاحظت ذاتها ونظرت إلى جوهرها رأت ما يسوؤها، وتريد الفرار منه، وأين المفرُّ لها من ذاتها؟ فاعتبر يا أخي ما ذكرت لك، ولا تغترّ بما أنت فيه من رغد العيش وصحة البدن، وعِشرة إخوان لك جسدانيّين، وأصدقاء جسمانيّين، يريدونك لمعاونتهم على إصلاح أحوال أجسامهم، فإن قصّرت عن معاونتهم أبغضوك، وإن تجلّدت عليهم جحدوك، وإن علوتهم حسدوك، وإن قصر حالك شمِتوا بك، ولا يريدونك إلاّ لصلاح ونجاح أمورهم وحوائجهم. فهلم يا أخي إلى صحبة إخوانٍ لك نفسانيّين، وأقرانٍ لك روحانيين، يريدونك ولا يأخذون منك، ويخلّصونك مما وقعت فيه، بأن تدخل في صُحبتهم، وتسمع أقاويلهم، لتفهم مذاهبهم، وتنظر في كتبهم، وتعرف طريقتهم وعلومهم، وتعمل بسنّتهم، وتسير بسيرتهم، لعلك تنجوبصحبتهم، لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون.
قطر الأرض - 2167-سمك الشمس -246800 -دائرة على بسيط الأرض - 6800- قطر الشمس - 4990037- سمك كرة الهواء - 68022 - سمك المريخ - 6590552- قطر الهواء - 78212- قطر المريخ -380841 - سمك القمر - 38027 - سمك المشتري - 11987009 - قطر القمر - 154257- قطر المشتري-62125159 سمك عطارد -121535- سمك زحل-16470035- قطر عطارد- 609327- قطر زحل - 95075229 - سمك الزهرة - 1973655- سمك فلك الكواكب الثابتة - 2600400 - قطر الزهرة - 4556637- قطر فلك الكواكب الثابتة - 147093229 تمت رسالة السماء والعالم ويتلوها رسالة الكون والفساد

krimbow
10/06/2006, 01:07
الرسالة الثالثة في بيان الكون والفساد

وهي الرسالة السابعة عشرة من رسائل إخوان الصفاء

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، آلله خيرٌ ?أمّا يُشركون؟ فصل اعلم أيها الأخ البارّ الرحيم، أيدك الله وإيانا بروحٍ منه،

أنه لما فرغنا من ذكر الأجسام الفلكية، وبيّنا كمية أُكرها، وكيفيّة نظامها، ومقادير أبعادها، واختلاف دورانها، وسرعة حركاتها، وماهية طبائع جواهرها في الرسالة الملقبة بالسماء والعالم، نريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقية بالكون والفساد الأجسام الطبيعية التي دون فلك القمر، وكمية عددها، وكيفية نظامها، واختلاف طبائعها، وكيفية استحالة بعضها إلى بعضٍ، بتأثيرات الأجسام الفلكية فيها، وكمية الأجناس الكائنات المتولّدة منها.
واعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروحٍ منه، أن الأجسام التي تحت فلك القمر سبعة أجناس: أربعةٌ منها هي الأُمهات الكلّيات، وهي النار والهواء والماء والأرض، وثلاثةٌ هي المولَّدات الجزئيات، وهي الحيوان والنبات والمعادن. فلنبدأ أولاً بوصف الأُمهات الكليات فنقول: إن الأُمهات كلّ واحدة منها مركبةٌ من هيولى وصورة، فهيولاها كلّها هوالجسم وصورها هي التي بها تنفصل كلّ واحدةٍ منها عن الأُخرى، وهي الصورة المقوِّمة لذات كل واحدة منها. ولما كانت الصورة نوعين: مقوِّمةً ومُتمّمة، احتجنا أن نصفها ليُعرف الفرق بينهما. فنقول: إن الصورة المقوِّمة لذات الشيء هي التي إذا فارقت هيولاها بطل وجدان ذلك الشيء. والصورة المتمّمة هي التي تُبلغ الشيء إلى أفضل حالاته التي يمكنه البلوغ إليها، وإذا فارقت هيولاها لم يبطل وجدان الهيولى. مثال ذلك السكون والحركة فإنهما إذا فارقا الجسم لا يبطل وجدان الجسم، وأما الطول والعرض والعمق، فإذا فارقت الهيولى يبطل وجدان الجسم.
واعلم يا أخي أن كلّ صورة مُقوّمة لذات الشيء تتلوها أُخرى متمّمة؛ وكلّ صورة مُقوِّمة فاعلةٍ لأخرى تابعةٍ لها يتلوبعضها بعضاً كما يتلوالعدد أزواجه أفراده وأفراده أزواجه بالغاً ما بلغ. مثال ذلك الصورة المُشاكلة في جرم النار المُقوّمة لذاتها، فهي حركة الغليان، والصورة المُتمّمة التابعة لها هي الحرارة، وتتلوها اليبوسة، ويتلوها تماسك الأجزاء. فلولا رطوبة الهواء المحيطة بالنيران التي تمنعها أن تُفرط في اليبوسة، لتماسكت أجزاؤها وجفّت كما تجفّ نار الصاعقة، ولكن لوأصابها اليبس والجفاف لقلّ الانتفاع بها وهو الغرض الأقصى منها.
واعلم يا أخي أن الهواء جوهرٌ شريفٌ فيه فضائل كثيرةٌ، وخواصُّ عجيبةٌ، من ذلك أنه يمنع النيران برطوبته أن تيبس وتجفّ، كما يمنع الأصوات بسيلانه أن تثبُت زماناً طويلاً فيقلّ الانتفاع بها، ويكثر الضرر منها، وذلك أن الأصوات ليست تمكث في الهواء إلاّ ريثما تأخذ المسامع حظّها، ثمّ تضمحلُّ، ولوثبتت الأصوات في الهواء زماناً طويلاً، لامتلأ الهواء من الأصوات ولعظم الضرر منها، حتى لا يمكن أن يسمع ما يحتاج إليه من الكلام والأقاويل. وهكذا لويبست النيران وجفّت، لما سرت في الأجسام ولم تنضجها، وبقيت الأشياء التي يراد نضجها فجّةً غليظة.
فانظر يا أخي وتفكّر في حكمة الباري سبحانه، إذ جعل ثبات النيران بحسب مُراد المستعمل لها، فإذا استغنى عنها ردّها إلى العدم بأسهل السّعي؛ فلوبقيت بحاله لعظم الضرر منها وقلّ الانتفاع بها. ومن الصّور المتمّمة لذات النار اللطافة التي تولدها الحرارة، وتتلوها سُرعة النفوذ في الأجسام. ومن الصور المتمّمة لذات النار أيضاً النور ويتلوه الإشراق. فقد اجتمعت في جرم النار عدة صور كلّها متممة لها، وهي الحركة والحرارة والبيوسة واللطافة والنور. وهي بكل صورة تفعل فعلاً غير ما تفعل بالأُخرى، وذلك أنها بالحركة تُغلي الأجساد، وبالحرارة تُسخّن، وباليبوسة تنشّف، وباللطافة تنفُذ في الأجسام، وبالنور تضيء ما حولها، وبالحرارة والحركة تحيل الأجسام إلى ذاتها. وأما الصورة المقوِّمة لذات الأرض فهي السكون الذي هوضدّ الغليان، والتالية المتمّمة لها البرودة، والتالية للبرودة اليبوسة، والتالية لها تماسك أجزائها. ومن الصور المتمّمة لها أيضاً غلظة جوهرها، ومن غلظة جوهرها تماسك أجزائها، ومن تماسك أجزاءها نشأت الكائنات على ظهورها من الحيوان والنبات والمعادن.
واعلم يا أخي بأن اليبوسة نوعان، إحداهما تابعةٌ للحرارة وهي فاضلة، والأُخرى تابعةٌ للبرودة وهي رَذْلةٌ. وذلك أن اليبوسة التابعة للحرارة هضِمة نضِجة، والتي تتبع البرودة فِجّة غير نضجة. ومثال ذلك يبوس الياقوت والبلّور وأشباهُها، فإنها قد أنضجتها بالطبخ حرارة المعدن، فهي لا تستحيل ولا تتغيّر. وأما التي هي تابعة للبرودة مثال يبوسة الثلج والجليد والملح وغيرها، فإنها لما كانت فجّة غير نضجةٍ، صارت رذلةً مُستحيلة متغيّرةً، ومن أجل هذا صارت الأجرام الفلكية لا تقبل الكون والفساد والتغيير والاستحالة، لأن تماسك أجزائها من شدة يبوستها، ويبوستها تولدت من حرارة حركتها، ثم غلبت عليها اليبوسة فطَفِئت حرارتها كما بينا في رسالة السماء والعالم.
وأما الأجسام الأرضية، فلما كان تماسك أجزائها من اليبوسة الرذلة الغير النضجة المتولّدة من البرودة، والمتولّدة من السكون، صارت تستحيل وتتغيّر وتفسُد.

krimbow
10/06/2006, 01:08
منكفي بعدين

تعبت

رماح
11/06/2006, 01:30
يعني بكون قصرت بحقك اذا التللك يعطيك العافية

طالعت اول 3 صفحات وتعبت نشالله بجيب الكتاب وبقرا لأنو المطالعة عالكومبيوتر شي بيهلك
مرة تانية يعطيك الف الف عافية (وعامللي انو مش اكبر راس بأخوية)

maro18
14/06/2006, 03:46
مشكور على المجهود الكبير دة
انا الكتاب عندى بس ماقريتوا يمكن لان اسلوبة تقيل شوية على كل حال الك جزيل الشكر

سرسورة
15/06/2006, 02:43
انو يعطيك ألف ألف عافية.....قريت أول 4 صفحات لأنو الموضوع بدو مخمخة كتير...بس أكيد بدي مخمخ فيون على راحتي لخلص فحص....
يعطيك العافية على المجهود الجبار

زعيم الأخوية
26/06/2006, 16:11
انو كريمو عن جد حلو كتير الموضوع:D

Danito
01/07/2006, 04:40
كريم الزعيم :D :D

في مجال التثبيت؟؟

ملك _الحب
18/08/2006, 00:38
السلام عليكم

ثانكيووووو فري متش هذا الكتاب كنت أدورو من زمان

بس يا ليت تكملوا


ولك خالص تقديري وتحياتي


تشاااااااااوووو

ملك _الحب
23/08/2006, 04:53
هايااااااااااااااات أخوي كريمووووووووووو

أنا عم استنى باقي الكتاب
لانو انا بدي اقراه برمضان للتسلية


تشاااااااااااااووو

ليووش
23/08/2006, 06:19
ميرسي عالكتاب الحلو

krimbow
24/08/2006, 20:11
نتابع ...

فصل واعلم يا أخي بأن الصورة المقوّمة لذات الماء والهواء
كليهما الرطوبة المتولدة من امتزاج الأجزاء المتحركة والساكنة جميعاً، وذلك أن اليبوسة، لما كانت متولّدة من شدّة حركة أجزاء الهيولى كلّها، أومن شدة سكونها كلّها، كما بيّنا قبل، وكانت الرطوبة ضدّاً لها، دلّت على أنها متولّدة من مزاج الأجزاء المتحركة والساكنة.
وأما الصورة المتمّمة لذات الماء فهي كثيرة الأجزاء الساكنة الغليظة، وقليلة الأجزاء المتحركة اللطيفة. ولما كانت الصورة المتمّمة لذات الماء كثيرة الأجزاء الساكنة الغليظة، وقليلة الأجزاء المتحركة اللطيفة، صارت مُشاكلةً للأرض في البرودة، وصار مركزها مما يلي مركز الأرض. وأما الصورة المتمّمة لذات الهواء فهي كثيرة الأجزاء اللطيفة المتحرّكة، وقليلة الأجزاء الغليظة الساكنة. ولما كانت الصورة المتمّمة لذات الهواء كثيرة الأجزاء اللطيفة المتحركة، صارت مُشاكلةً للنار في الحرارة، وصار مركزها مما يلي مركز النار.
واعلم يا أخي بأنه لما كانت الصورة المقومة للأجسام الفلكية هي شدة اليبوسة المتولدة من شدة الحرارة المتولدة من شدة سرعة الحركة؛ وكانت الصورة المقوّمة للأجسام الأرضية اليبوسة المتولدة من شدة البرودة المتولدة من شدة السكون الذي هوضد حركة الغليان، صارت الأجسام الأرضية مُشاكلةً للفلكية في اليبوسة، ومضادّةً لها في الحركة، ولما كانت حركتها حول المركز صار سكون هذه في المركز، لأن المضادّ يفرّ من ضدّه إلى أبعد الأماكن؛ وأبعد الأماكن في المحيط هوالمركز.
ولما كانت الصورة المقوّمة للماء والهواء هي الرطوبة المتولدة من امتزاج الأجزاء المتحركة والساكنة، وكانت الرطوبة مضادّة لليبوسة، صار موضِعُها ما بين المحيط والمركز. ولما كانت الصورة المتمّمة لذات الماء هي كثيرة الأجزاء الغليظة الساكنة فيه، صار الماء مُشاكلاً للأرض في البرودة، وصار مركزه مما يلي مركزها. ولما كانت الصورة المتمّمة لذات الهواء كثيرة الأجزاء اللطيفة المتحركة، صارت مُشاكلةً للنار في الحرارة، وصار مركزها مما يلي مركزها. فقد بان يا أخي بهذا الشرح أن الأجسام بعضها مشاكلٌ لبعضٍ في طبيعةٍ ما، مضادّ في طبيعة أُخرى. ومن أجل مُضادّة طباعها تباينت مراكزها؛ ومن أجل مُشاكلتها تجاوزت مراكزها. ولما ترتبت هذه الأجسام مراتبها، صار كلّ واحد في مركزه الخاصّ به واقفاً، بلا مَماسِكَ ولا عَمَدٍ، لا ثقيلاً ولا خفيفاً. ولا تخرُجُ من مواضعها إلاّ بعارضٍ قاهر لها، فإذا خلت رجعت إلى موضعها الخاص بها؛ فإن منعها مانعٌ وقع التنازع بينهما، فإن كان النزوع إلى ناحية المحيط يُسمّى خفيفاً وإن كان إلى ناحية مركز العالم يسمى ثقيلاً. ولما ترتبت الأكر وقف كل واحد من هذه الأركان في موضعه الخاصّ به، محيطاتٍ بعضها ببعضٍ، مستديراتٍ، إلاّ الماء فقد منعته العناية الإلهية والحكمة الربانية من الإحاطة بالأرض من جميع الجهات، لأنه لوأحاطت كرة الماء بكرة الأرض من جميع الجهات، لَمُنِعَ كون الحيوان والنبات على وجه الأرض. ولكن جُعلت للمياه مستنقعاتٌ في الأرض وهي البحار والآبار، وقد ذكرنا في رسالة جغرافيا صورة الأرض كميّة الجبال والبحار والأنهار والأقاليم والبلدان، ولكن لا بدّ أن نذكر منها ما يُحتاج إلى ذكره هذا هُنا.

krimbow
24/08/2006, 20:12
فصل اعلم يا أخي بأن الأرض كرة واحدة


بجميع ما عليها من الجبال والبحار والأنهار والعُمران والخراب، وهي واقفة في الهواء في مركز العالم، والهواء محيط بها ملتفٌّ عليها من جميع جهاتها؛ وأن البحر الأعظم موضعه تحت مدار برج الحمل، ممتدّ من المشرق إلى المغرب. وأما سائر البحار فشُعَبٌ وخُلْجانٌ تأخذ من البحر الأعظم، وتمتد إلى ناحية الشمال، وهي سبعة أبحُرٍ، فمنها بحر الروم، وبحر القُلزُم، وبحر فارس، وبحر الصين، وبحر الهند، وبحر ياجوجُ وماجوجُ، وبحر جُرجان؛ وبين كل بحر منها وبين الآخر جزائرُ وبراري وعمران وجبال وآجام وأنهار تبتدئ من الجبال وتنتهي إلى البحار. وأن الجبال أُصولها راسية في الأرض، ورؤوسها شامخة في الهواء شاهقةٌ، وبين هذه الجبال أوديةٌ غائرة، وفي جوف الجبال مغارات وأُهوية. وأن الأرض باطنُها كثير التخلخل، وظاهرها مختلف التربة، ومنها طينيةٌ وسَبْخةٌ ورملةٌ وحصىً وأحجار صُلبة وبِقاعٌ مختلفة. وسبب اختلاف هذه كلها بحسب مُسامتات الكواكب ومَطارح شُعاعاتها عليها من الآفاق، وممرّات درجات الفلك على سمت تلك البقاع، ومنها يكون الكون والفساد في هذه الأجسام التي تحت فلك القمر.
واعلم يا أخي بأن هذه الأركان الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض، فيصير الماء تارةً هواء، وتارةً أرضاً، وهكذا أيضاً حكم الهواء، فإنه يصير تارةً ماءً، وتارةً ناراً؛ وكذلك النار، وذلك أن النار، إذا أُطفِئت وخمدت صارت هواءً، والهواء إذا غَلُظ صار ماء، والماء إذا جمد صار أرضاً، وعكس ذلك أن الأرض إذا تحلّلت ولطفت صارت ماءً، والماء إذا ذاب صار هواءً، والهواء إذا حمي صار ناراً، وليس للنار أن تلطف فتصير شيئاً آخر، ولا للأرض أن تغلظ فتصير شيئاً آخر. ولكن إذا اختلطت أجزاء هذه الأركان بعضها ببعضٍ، كان منها المتولِّدات الكائنات الفاسدات التي هي المعادن والنبات والحيوان. وأصل هذه كلّها البخارات والعُصارات إذا امتزج بعضُها ببعضِها، فالبخار ما يصعد من لطائف البحار والأنهار والآجام في الهواء من إسخان الشمس والكواكب لها بمطارح شُعاعاتها على سطوح البحار والأنهار والآجام. والعُصارات مما ينجلب في باطن الأرض من مياه الأمطار، وتُخلط بالأجزاء الأرضية، وتغلُظ، فتُنضجها الحرارة المُستبطِنةُ في عمق الأرض.
واعلم يا أخي بأن أول ما يستحيل هي الأربعة الأركان إلى هذين الخليطين، أعني البخار والعصارات، ويكون هذان الخليطان هيولى ومادةً لسائر الكائنات الفاسدات التي تحت فلك القمر، وذلك أن الشمس والكواكب إذا سخَّنت المياه بإشراقها على سطح الأرض والبحار والآجام والأنهار، قلّلت المياه، ولطّفت أجزاء الأرض، وصارت بخاراً ودخاناً. والبخار والدخان يصيران سحاباً، والسحاب يصير أمطاراً، والأمطار إذا بلّلت التراب واختلطت الأجزاء الأرضية بالأجزاء المائية، تتكون منها العُصارات، والعُصارات تكون مادةً وهيولى للكائنات التي هي المعادن والنبات والحيوان. وقد أفردنا لكل نوع منها رسالة منفردةً، وبيّنا فيها كيفية تكونها منها وتركيبها ونشوئها ونمائها وبلوغها إلى أقصى مدى غاياتها، ثم كيفية فسادها وبلاها واستحالتها وبدئها رجوعها إلى هذه الأركان الأربعة التي تتكون منها.
واعلم يا أخي أن الكون والفساد هما ضدّان لا يجتمعان في شيء واحد في زمان واحد، لأن الكون هوحُصول الصورة في الهيولى، والفساد هوانخلاعها منها؛ فإذا فسد شيء منها فلا بدّ أن يتكون شيء آخر، لأن الهيولى إذا انتُزعت منها صورة أُلبست أُخرى. فإن كانت التي أُلبست أشرف سمّي كوناً، وإن كانت أدون سمّي فساداً. مثال ذلك أن يصير التراب والماء نباتاً، ويصير النبات حبّاً وثماراً، والثمار والحبّ يصيران غذاء، والغذاء يصير دماً ولحماً وعظماً، فيكون من ذلك حيوانٌ. والفساد أن يحترق النبات فيصير رماداً، ويموت الحيوان فيصير تراباً.
واعلم يا أخي أن جسدك، الذي تختصّ به نفسك، أحد الكائنات الفاسدات، وما هوبالنسبة إلى نفسك إلاّ كدار سُكنت، أوكلباس أُلبسَ، فلا تكوننّ كلّ همّتك وأكثر عنايتك بتزويق هذه الدار، وتطْريةِ هذا اللباس، فإنك تعلم بأن كل مسكنٍ يخرب، وكل لباس لا بد أن يَبلى. ولكن اجعل بعض أوقاتك للنظر في أمر نفسك، وطلب معرفة جوهرها، ومبدئها ومعادها، فإنها جوهرةٌ خالدة أبدية الوجود، ولكن تنتقل لها حالٌ بعد حالٍ كما قيل:
إجهد على النفس واستكمل فضائلها، فأنت بالنفس لا بالجسـم إنـسـان
كما رُوي في الخبر أن ابن أبي طالب، صلوات الله عليه، قال في خُطبة له: إنما خُلِقتم للأبد، ولكن من دارٍ إلى دارٍ تُنقَلون، من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدُّنيا، ومن الدُّنيا إلى البرزخ، ومن البرزخ إلى الجنة أوإلى النار.

krimbow
24/08/2006, 20:13
فصل واعلم يا أخي بأن الجنة
إنما هي عالمُ الأرواح،

وكله صورةٌ روحانيّة، لا هيولى جرمانية، بل حياة محضةٌ وراحةٌ ولذّة وسرور وغبطة، لا يعرض لها الكون والفساد، ولا التغير والبِلى، لأنها هي دار الحيوان، لوكانوا يعلمون. فإذا كانت الدار هي الحيوان، فما ظنُّك يا أخي بأهل الدار كيف حالهم، فإنه يقصُر الوصف عنهم إلاّ بالاختصار، كما ذكر الله تعالى في كتابه على لسان تبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، فقال: "فيها ما تشتهيه الأنفُسُ تَلذُّ الأعين، وأنتم فيها خالدون".
واعلم يا أخي أن النار وجهنّم هي عالم الأجسام التي تحت فلك القمر، الذي هودائمٌ في الكون والفساد والتغيير والاستحالة والبلى، وأن أهلها "كلما نضِجت جُلودُهم بدّلناهم جُلوداً غيرها ليذوقوا العذاب" فازْهَد يا أخي في غرور هذه الدار كما زهد أنبياء الله، عزّ وجلّ، وأولياؤه والفلاسفة الحكماء، فقد علمتَ بأنها ليست بدار المقام، فاستعدّ للرحلة والانتقال باختيارٍ منك لا مُكرهاً ولا مجبراً قبل فناء العمر وتقارب الأجل.
واعلم أنه لا يستوي لك هذا إلاّ بعد أن تعرف فضل الآخرة على الدنيا، معرفةً صحيحة بلا شكّ ولا تقليدٍ، لأن جبلة الإنسان أن لا يزهد في الحاضر العاجل، ولا يرغب في الغائب الآجل، إلاّ بعد معرفة فضل الآجل الغائب على العاجل الحاضر.
واجتهد يا أخي في معرفة طلب ما أشار إليه أنبياء الله تعالى في الكتب المُنزلة على ألسنتهم، المأخوذة عن الملائكة معانيها في وصف نعيم الجنان وسعادة أهلها، وصِفة النيران وشقاوة أهلها، وما أشار إليه أيضاً الفلاسفة والحكماء في رموزهم في وصف عالم الأرواح، ومدحِ أهلها، وذمّهم عالم الأجسام، وسُوءِ ثنائهم على أهلها. ولعلك تتصوّر بعقلك ما تصوّروا، وتُشاهد بصفاء جوهر نفسك ما شاهدوا بصفاء جوهر نفوسهم، فتنتبه نفسك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتعيش عيش السُّعداء العلماء، وترتقي في المعارف، تعلوهِمّتك نحوملكوت السماء، وتكون في الآخرة من السعداء. وفّقك الله أيها الأخ وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد للرشاد، إنه رؤوف رحيمٌ بالعباد.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأركان الأربعة التي هي دون فلك القمر، وهي النار والهواء والماء والأرض، ووصفنا ما يخصّ كلّ واحدة من الصور المقوِّمة المُبلّغة له إلى أفضل حالاته، وبيّنا كيفيّة استحالات بعضها إلى بعض، وأخبرنا أن أول ما يتحلل من البُخارات، ومن البخارات تنعقد العُصارات، ومن العصارات تتكون الكائنات التي هي المعادن والنباتات والحيوانات، فنختم هذه الرسالة ونبدأ بعدها برسالة أُخرى نذكر فيها البخارات الصاعدة في الهواء، ونصف كيفيّة حوادث الجومنها في رسالة أُخرى، وهي الملقبة برسالة الآثار العلويّة وحوادث الجوّ.
تمت رسالة الكون والفساد ويتلوها رسالة الآثار العلوية.

krimbow
24/08/2006, 20:14
الرسالة الرابعة في الآثار العلويّة
وهي الرسالة الثامنة عشرة من رسائل إخوان الصفاء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، آلله خيرٌ أمّا يُشركون؟
فصل


اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروحٍ منه، أنه لما فرغنا من ذكر الأركان الأربعة، أردنا أن نذكر في هذه الرسالة الملقّبة بالآثار العلوية حوادث الجووتغييرات الهواء وكيفية حدوثها بتأثيرات الأشخاص الفلكية فيها، ولكن من أجل أنّ كثيراً من الناس العقلاء يظنون أن المطر ينزل من السماء من بحرٍ هناك، وأن البرد يقع من جبالٍ، ثم يستشهدون على صحة ظنونهم بقوله، عزّ وجل: "وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً." وقوله تعالى: "ويُنزِّل من السماء من جبالٍ فيها من بردٍ." ولا يعرفون معاني قوله سبحانه، ولا تفسير آيات كتابه، جلّ ثناؤه، احتجنا أن نذكر فيها طرفاً لتزول الشكوك والشُّبهة.

krimbow
24/08/2006, 20:15
فصل في ماهيّة الطبيعة

كان الذين يتكلمون في الحوادث الكائنات، التي دون فلك القمر، من الحكماء والفلاسفة، يَنسُبون هذه الآثار والأفعال كلّها إلى الطبيعة؛ وكما أن أقواماً من العلماء يُنكرون أفعالها، وينكرون الطبيعة أيضاً أصلاً، احتَجنا أن نذكر معنى قولهم: الطبيعة، ونبيّن أن الذين أنكروا أفعالها ذهب عليهم معنى الطبيعة، ولم يعرفوها، فمن ذلك أنكروا أفعالها.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروحٍ منه، أن الطبيعة إنما هي قوةٌ من قوة النفس الكلّية، مُنبثَّة منها في جميع الأجسام التي دون فلك القمر، ساريةٌ في جميع أجزائها كلّها، تسمى باللفظ الشرعي الملائكة الموكَّلين بحفظ العالم وتدبير الخليقة، بإذن الله، وتُسمى باللفظ الفلسفي قُوىً طبيعية، وهي فاعلة في هذه الأجسام بإذن الباري، جلّ ثناؤه. والذين أنكروا فعل الطبيعة إنما ذهب عليهم معنى هذه التسمية، وظنّوا أنها متوجهة نحوالجسم، والجسم، من حيث هوجسمٌ، لا فعل له البتة بالإجماع من الفريقين، بدلائل قد صحّت وبراهين قد قامت.
واعلم يا أخي بأن الذين أنكروا فعل الطبيعة يقولون إنه لا يصحّ الفعل إلا من حيٍّ قادرٍ، وهوقول صحيح، ولكن يظنون أن الحي القادر لا يكون إلا بجسم، إذا كان على هيئةٍ مخصوصةٍ بأعراضٍ تحلّه بزعمهم، مثل الحياة والقدرة والعلم ما شاكلها، ولا يدرون أن مع هذا الجسم جوهراً آخر روحانيّاً غير مرئيٍّ، وهي النفس، وأن هذه التي وصفوها من الأعراض بأنها حالةٌ من الجسم، هي التي تُظهرها فيه، أعني النفس بفعلها في الجسم.
واعلم يا أخي إنما ذهب على الذين أنكروا فعل الطبيعة علم النفس، وخفي عليهم معرفتها، من أجل أنهم طلبوا إدراكها بالحواس، فلم يجدوها، فإنما عرفوا ذلك بالأفعال الصادرة عنها في الأجسام، وذلك أنهم اعتبروا أحوال الجسم، فوجدوه المجرَّده لا فعل له البتة، ولا للأعراض الحالّة فيه، وإنما الأفعال كلّها للنفس، وأما الجسم وأعراضه فإنها للنفس بمنزلة أدواتٍ وآلاتٍ لصانعٍ يُظهر بها ومنها أفعاله، كما يُرى ذلك من الصُّنّاع البشريين، فإنهم بأدواتٍ جسمانية يُظهرون صِناعتهم في الأشياء، مثال ذلك النجار فإنه يُظهر أفعاله في الخشب الذي هوجسمٌ طبيعيٌ بآلاتٍ وأدواتٍ جسمانية، كالفأس والمنشار والمِثقب وما شاكلها، وكلها أجسام صناعيَّة، وأجسام الصُّنّاع هي أيضاً من الأجسام الطبيعية، وهي آلات لنفوسهم، وأدواتٌ لها يُظهرون بها صناعتهم وأفعالهم، كما بيّنا في رسالة تركيب الجسد ورسالة الصنائع العمليّة. وإذ قد بان ما الطبيعة وأنها قوّةٌ من قوى النفس الكلّية والفلكيّة، وأنه لا فعل إلا للنفس، وأنها تفعل أفعالها بقوّتها في الأجسام، وأن الأجسام كلّها آلاتٌ وأدواتٌ ومفعولاتٌ لها، كما أن الفكر والعلم آلاتٌ للنفس في إدراك المعلومات والمعقولات، وإخراجها من القوّة إلى الفعل، فنرجع الآن إلى ذكر الأجسام البسيطة التي دون فلك القمر، ونقول إنها الهيولى الموضوع للطبيعة، وهي فاعلةٌ فيها الأشكال والصُّور، صانعةٌ منها الحيوان والنبات والمعادن، وإن الأشخاص الفلكية لها كالأدوات للصانع، وذلك أن الفلك يدوم دورانه حول الأرض في كل أربعٍ وعشرين ساعة دورةً واحدة، وبحركات كواكبه ومطارح شُعاعاته في سمك الهواء على سطح الأرض والبحار وإسخانها لها، يحلّل المياه فيُصيّرها بخاراً، ويلطّف أجزاء التراب فيصيّرها دخاناً، وتخلطان، ويكون منهما المِزاجات كما يكون من أصباغ المصوّرين،

krimbow
24/08/2006, 20:15
فصل في ماهيّة الطبيعة

كان الذين يتكلمون في الحوادث الكائنات، التي دون فلك القمر، من الحكماء والفلاسفة، يَنسُبون هذه الآثار والأفعال كلّها إلى الطبيعة؛ وكما أن أقواماً من العلماء يُنكرون أفعالها، وينكرون الطبيعة أيضاً أصلاً، احتَجنا أن نذكر معنى قولهم: الطبيعة، ونبيّن أن الذين أنكروا أفعالها ذهب عليهم معنى الطبيعة، ولم يعرفوها، فمن ذلك أنكروا أفعالها.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروحٍ منه، أن الطبيعة إنما هي قوةٌ من قوة النفس الكلّية، مُنبثَّة منها في جميع الأجسام التي دون فلك القمر، ساريةٌ في جميع أجزائها كلّها، تسمى باللفظ الشرعي الملائكة الموكَّلين بحفظ العالم وتدبير الخليقة، بإذن الله، وتُسمى باللفظ الفلسفي قُوىً طبيعية، وهي فاعلة في هذه الأجسام بإذن الباري، جلّ ثناؤه. والذين أنكروا فعل الطبيعة إنما ذهب عليهم معنى هذه التسمية، وظنّوا أنها متوجهة نحوالجسم، والجسم، من حيث هوجسمٌ، لا فعل له البتة بالإجماع من الفريقين، بدلائل قد صحّت وبراهين قد قامت.
واعلم يا أخي بأن الذين أنكروا فعل الطبيعة يقولون إنه لا يصحّ الفعل إلا من حيٍّ قادرٍ، وهوقول صحيح، ولكن يظنون أن الحي القادر لا يكون إلا بجسم، إذا كان على هيئةٍ مخصوصةٍ بأعراضٍ تحلّه بزعمهم، مثل الحياة والقدرة والعلم ما شاكلها، ولا يدرون أن مع هذا الجسم جوهراً آخر روحانيّاً غير مرئيٍّ، وهي النفس، وأن هذه التي وصفوها من الأعراض بأنها حالةٌ من الجسم، هي التي تُظهرها فيه، أعني النفس بفعلها في الجسم.
واعلم يا أخي إنما ذهب على الذين أنكروا فعل الطبيعة علم النفس، وخفي عليهم معرفتها، من أجل أنهم طلبوا إدراكها بالحواس، فلم يجدوها، فإنما عرفوا ذلك بالأفعال الصادرة عنها في الأجسام، وذلك أنهم اعتبروا أحوال الجسم، فوجدوه المجرَّده لا فعل له البتة، ولا للأعراض الحالّة فيه، وإنما الأفعال كلّها للنفس، وأما الجسم وأعراضه فإنها للنفس بمنزلة أدواتٍ وآلاتٍ لصانعٍ يُظهر بها ومنها أفعاله، كما يُرى ذلك من الصُّنّاع البشريين، فإنهم بأدواتٍ جسمانية يُظهرون صِناعتهم في الأشياء، مثال ذلك النجار فإنه يُظهر أفعاله في الخشب الذي هوجسمٌ طبيعيٌ بآلاتٍ وأدواتٍ جسمانية، كالفأس والمنشار والمِثقب وما شاكلها، وكلها أجسام صناعيَّة، وأجسام الصُّنّاع هي أيضاً من الأجسام الطبيعية، وهي آلات لنفوسهم، وأدواتٌ لها يُظهرون بها صناعتهم وأفعالهم، كما بيّنا في رسالة تركيب الجسد ورسالة الصنائع العمليّة. وإذ قد بان ما الطبيعة وأنها قوّةٌ من قوى النفس الكلّية والفلكيّة، وأنه لا فعل إلا للنفس، وأنها تفعل أفعالها بقوّتها في الأجسام، وأن الأجسام كلّها آلاتٌ وأدواتٌ ومفعولاتٌ لها، كما أن الفكر والعلم آلاتٌ للنفس في إدراك المعلومات والمعقولات، وإخراجها من القوّة إلى الفعل، فنرجع الآن إلى ذكر الأجسام البسيطة التي دون فلك القمر، ونقول إنها الهيولى الموضوع للطبيعة، وهي فاعلةٌ فيها الأشكال والصُّور، صانعةٌ منها الحيوان والنبات والمعادن، وإن الأشخاص الفلكية لها كالأدوات للصانع، وذلك أن الفلك يدوم دورانه حول الأرض في كل أربعٍ وعشرين ساعة دورةً واحدة، وبحركات كواكبه ومطارح شُعاعاته في سمك الهواء على سطح الأرض والبحار وإسخانها لها، يحلّل المياه فيُصيّرها بخاراً، ويلطّف أجزاء التراب فيصيّرها دخاناً، وتخلطان، ويكون منهما المِزاجات كما يكون من أصباغ المصوّرين،

krimbow
24/08/2006, 20:17
فصل في ماهيّة الطبيعة

كان الذين يتكلمون في الحوادث الكائنات، التي دون فلك القمر، من الحكماء والفلاسفة، يَنسُبون هذه الآثار والأفعال كلّها إلى الطبيعة؛ وكما أن أقواماً من العلماء يُنكرون أفعالها، وينكرون الطبيعة أيضاً أصلاً، احتَجنا أن نذكر معنى قولهم: الطبيعة، ونبيّن أن الذين أنكروا أفعالها ذهب عليهم معنى الطبيعة، ولم يعرفوها، فمن ذلك أنكروا أفعالها.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروحٍ منه، أن الطبيعة إنما هي قوةٌ من قوة النفس الكلّية، مُنبثَّة منها في جميع الأجسام التي دون فلك القمر، ساريةٌ في جميع أجزائها كلّها، تسمى باللفظ الشرعي الملائكة الموكَّلين بحفظ العالم وتدبير الخليقة، بإذن الله، وتُسمى باللفظ الفلسفي قُوىً طبيعية، وهي فاعلة في هذه الأجسام بإذن الباري، جلّ ثناؤه. والذين أنكروا فعل الطبيعة إنما ذهب عليهم معنى هذه التسمية، وظنّوا أنها متوجهة نحوالجسم، والجسم، من حيث هوجسمٌ، لا فعل له البتة بالإجماع من الفريقين، بدلائل قد صحّت وبراهين قد قامت.
واعلم يا أخي بأن الذين أنكروا فعل الطبيعة يقولون إنه لا يصحّ الفعل إلا من حيٍّ قادرٍ، وهوقول صحيح، ولكن يظنون أن الحي القادر لا يكون إلا بجسم، إذا كان على هيئةٍ مخصوصةٍ بأعراضٍ تحلّه بزعمهم، مثل الحياة والقدرة والعلم ما شاكلها، ولا يدرون أن مع هذا الجسم جوهراً آخر روحانيّاً غير مرئيٍّ، وهي النفس، وأن هذه التي وصفوها من الأعراض بأنها حالةٌ من الجسم، هي التي تُظهرها فيه، أعني النفس بفعلها في الجسم.
واعلم يا أخي إنما ذهب على الذين أنكروا فعل الطبيعة علم النفس، وخفي عليهم معرفتها، من أجل أنهم طلبوا إدراكها بالحواس، فلم يجدوها، فإنما عرفوا ذلك بالأفعال الصادرة عنها في الأجسام، وذلك أنهم اعتبروا أحوال الجسم، فوجدوه المجرَّده لا فعل له البتة، ولا للأعراض الحالّة فيه، وإنما الأفعال كلّها للنفس، وأما الجسم وأعراضه فإنها للنفس بمنزلة أدواتٍ وآلاتٍ لصانعٍ يُظهر بها ومنها أفعاله، كما يُرى ذلك من الصُّنّاع البشريين، فإنهم بأدواتٍ جسمانية يُظهرون صِناعتهم في الأشياء، مثال ذلك النجار فإنه يُظهر أفعاله في الخشب الذي هوجسمٌ طبيعيٌ بآلاتٍ وأدواتٍ جسمانية، كالفأس والمنشار والمِثقب وما شاكلها، وكلها أجسام صناعيَّة، وأجسام الصُّنّاع هي أيضاً من الأجسام الطبيعية، وهي آلات لنفوسهم، وأدواتٌ لها يُظهرون بها صناعتهم وأفعالهم، كما بيّنا في رسالة تركيب الجسد ورسالة الصنائع العمليّة. وإذ قد بان ما الطبيعة وأنها قوّةٌ من قوى النفس الكلّية والفلكيّة، وأنه لا فعل إلا للنفس، وأنها تفعل أفعالها بقوّتها في الأجسام، وأن الأجسام كلّها آلاتٌ وأدواتٌ ومفعولاتٌ لها، كما أن الفكر والعلم آلاتٌ للنفس في إدراك المعلومات والمعقولات، وإخراجها من القوّة إلى الفعل، فنرجع الآن إلى ذكر الأجسام البسيطة التي دون فلك القمر، ونقول إنها الهيولى الموضوع للطبيعة، وهي فاعلةٌ فيها الأشكال والصُّور، صانعةٌ منها الحيوان والنبات والمعادن، وإن الأشخاص الفلكية لها كالأدوات للصانع، وذلك أن الفلك يدوم دورانه حول الأرض في كل أربعٍ وعشرين ساعة دورةً واحدة، وبحركات كواكبه ومطارح شُعاعاته في سمك الهواء على سطح الأرض والبحار وإسخانها لها، يحلّل المياه فيُصيّرها بخاراً، ويلطّف أجزاء التراب فيصيّرها دخاناً، وتخلطان، ويكون منهما المِزاجات كما يكون من أصباغ المصوّرين،

krimbow
24/08/2006, 20:18
ثم إن قوى النفس الكلية الفلكية السارية في جميع الأجسام المسمّاة الطبيعية، تنقُش وتصوّر وتصوغ من تلك المِزاجات والأخلاط أجناس الكائنات التي هي الحيوان والنبات والمعادن، بإذن الله، عزّ وجلّ. ولما كان أول اختلاط ومزاجٍ يحدث في هيئة هذه الأركان، هوتغيرات الهواء وحوادث الجولسهولة انفعاله، وسرعة استحالته، احتجنا أن نذكر حال الهواء أولاً، ثم حال المياه، ثم حال بقاع الأرض فنقول: إنا قد بيّنا في رسالة السماء والعالم أن كرة الهواء محيكة بكرة الأرض من جميع جهاتها، وأن سمكها من ظاهر سطح الأرض إلى أدنى فلك القمر، مثل قطر الأرض ستّ عشرة مرةً ونصفها، وذلك أن قطر الأرض ألفان ومائةٌ وسبعة وستون فرسخاً، فيكون سمك الهواء 35758 فرسخاً.
واعلم يا أخي بأن سمك الهواء ينفصل بثلاث طبائع متبايناتٍ، إحداهما مما يلي سطح الأرض، والأُخرى هي الوسط بينهما، وذلك أن الهواء الذي يلي فلك القمر هونار سموم في غاية الحرارة، يسمى الأثير، والذي في الوسط باردٌ في غاية البرودة، يسمى الزَّمهرير، والذي يلي سطح الأرض مُعتدل المزاج في موضع دون موضع، يسمى النسيم. والعلّة في اختلاف هذه الطبائع الثلاث هوأن الهواء المماس لفلك القمر، لدوام دورانه معه وسرعة حركته، قد حمِيَ حمياً شديداً، حتى صار ناراً سَموماً، ثم إنه لما كان مُنهبطاً إلى أسفل كان أبطأ لحركته وأقلّ لحرارته، وكلما قلَّت الحرارة غلبت البرودة، فلا يزال كذلك إلى أن يصير في غاية البرودة التي تسمى زمهريراً. والذي يلي سطح الأرض معتدل المِزاج في موضع دون موضع، ولا يكون سمك كرة الأثير، بالإضافة إلى كرة الزمهرير، إلاّ شيئاً يسيراً. ولولا مَطارح شعاعات الشمس والقمر والكواكب على سطح الأرض، وانعكاسها في الهواء، وإسخانها له، لكان المُماسّ لظاهر سطح الأرض أشدّ برداً مما سواه، كما يعرض ذلك تحت قطب الشمال، وذلك أنه يصير هناك ستة أشهر ليلاً كلّه، فيبرد الهواء برداً شديداً، وتجمد المياه، ويُظلم الجوويَغلظ ويهلك الحيوان والنبات. وأما في مُقابلة هذا الموضع، مما يلي قطب الجنوب، يكون في هذه الأشهر الستة نهاراً كلّه، فيدوم إشراق الشمس على تلك البقاع، ويتصل انعكاس شُعاعاتها في الهواء، فيُحمى ويُسخن إسخاناً شديداً، حتى يصير ناراً سموماً مُحرقةً للحيوان والنبات. وعلّة أُخرى هي أن الشمس في وقت مُسامتتها لهذه البقاع تكون قريبة من الأرض، لأن حضيضها في آخر القوس. وأما إذا كانت في البروج الشمالية فإن تحت قطب الشمال يكون أيضاً ستة أشهر نهاراً كلّه، ولكن لا تسخن تلك البقاع كإسخانه البقاع التي تحت قطب الجنوب، لأنها تكون بعيدةً من الأرض، مرتفعةً في الفلك، لأن أوجها في آخر الجوزاء.
ثم اعلم يا أخي بأن بين بُعدها في الأوج، وبين قربها في الحضيض، مقدار قطر الأرض مائة مرّةٍ، وهذا مقداره 216755 فرسخاً. ومن أجل هذا صار العامر من الأرض في الربع الشمالي من خط الاستواء إلى نيّف وست وستين درجةً، وهوبين ممر رأس الحمل على سمت الرأس، إلى حيث ممر الكفّ الخضيب على سمت الرأس، وفي هذا الربعالأقاليم السبعة، كما بيّنا في رسالة جغرافيا، ووصفنا فيها ما في كل إقليم من المدن والجبال والبحار والأنهار.
واعلم يا أخي أن على سمت هذه الأقاليم يخترق من الهواء النسيم أكثر، وفي هذه البلدان تعتدل الطبائع. ونريد أن نذكر سمك كرة الغيم والنسيم وأكثر ما ترتفع، وذلك تارةً يزيد في سمكه وارتفاعه، وتارةً ينقُص من ذلك، بحسب زوايا شُعاعات الشمس والكواكب المنعكسة في طرفي النهار وأنصافه، وأيام الشتاء والصيف، وذلك أيضاً بحسب ارتفاعات الشمس والكواكب من الآفاق وممراتها على سمت البقاع.

krimbow
24/08/2006, 20:18
فصل واعلم يا أخي بأن
الزوايا التي تَحدث من انعكاس شُعاعات الكواكب
والشمس، من وجه الأرض ثلاثة أنواع:


حادةٌ وقائمة ومنفرجة. وهذه الزوايا كلّها مُسخِّنة للمياه والأرض والهواء، محرِّكةٌ لها، ولكن أشدُّها إسخاناً الزوايا الحادّة، ثم القائمة، ثم المنفرجة. ولما كانت الزوايا المنفرجة، بعضُها أشدّ انفراجاً من بعضٍ، والحادة بعضها أحدّ من بعض، والزوايا القائمة كلّها متساويةٌ، احتجنا أن نبيّن متى تكون الزوايا منفرجةً، ومتى تكون قائمةً، ومتى تكون حادةً، فنقول:

krimbow
24/08/2006, 20:19
إنه إذا ابتدأت الشمس من الأُفق أوالقمر أوأيّ كوكبٍ كان، وأشرقت على سطح الأرض والبحار، فإن زوايا شُعاعاتها كلّها تنعكس منفرجةً في غاية الانفراج، ثم لا تزال كلّما ارتفعت قلّ انفراجها وتضايقت، حتى إذا صار الارتفاع خمساً وأربعين درجةً، صارت زوايا انعكاس الشعاع كلّها قائمة في تلك البقعة حسب. فإذا زاد الارتفاع نقصت الزوايا وضاقت وصارت حادةً، وكلما ارتفعت وزاد ارتفاعها، زادت الزوايا حِدّةً إلى أن تُسامت الكواكب البقعة، فتنتبق الزوايا وتلتقي الأضلاع. فإذا زالت إلى ناحية المغرب، انفصلت الأضلاع واتفتحت الزوايا الحادة في غاية الحدة، وكلما انحطت الشمس أوأي كوكب كان، ازدادت الزوايا انفراجاً، إلى أن يصير الارتفاع من جهة المغرب خمساً وأربعين مرةً ثانية، وتضير الزوايا كلّها قائمةً مرةً أُخرى. فإذا نقص الارتفاع عن خمس وأربعين درجة، صارت الزوايا كلّها منفرجةً. وكلما انحطت الكواكب إلى المغرب، انفرجت الزوايا إلى وقت المغرب، فتصير كلّها في غاسة الانفراج، كما كانت غُدوة. فمن أجل هذا صارت أنصاف النهار أشدّ حرارة من طرفيه، لأن الزوايا بالغدوات والعشيّات تكون منفرجةً، وفي أنصاف النهار حادةً، وفيما بين الوقتين قائمةً. ويكون الجومتوسطاً ما بين الحر والبرد، ولا تكون أنصاف نهار الشتاء شديدة الحر، كما تكون أنصاف نهار الشتاء شديدة الحر، كما تكون أنصاف نهار الصيف، لأن ارتفاع الشمس في الشتاء لا يبلغ خمساً وأربعين درجة.
وإذ قد فرعنا من ذكر ما احتجنا إلى ذكره فإنّا نقول: إن أكثر ما يكون سمك كرة النسيم ستة عشر ألف ذراعٍ ارتفاعاً في الهواء، وأقلّه ما يطابق سطح الأرض. ومن الدليل على أن أكثر ما يكون سمك كرة النسيم هذا المقدار هوأن أعلى جبل يوجد في الأرض لا يجاوز ارتفاع رأسه في الهواء هذا المقدار، وأن أعلى هذه الجبال لا يبلغ ارتفاع الغيوم رؤوسها، وإنما يمنعها شدة البرد المُفرط هناك، لأن الرافع للغيوم في الهواء هي حرارة الجومن إسخان الكواكب له بمطارح شعاعاتها، وانعكاس تلك الشعاعات من سطح الأرض والبحار على زوايا حادةٍ، كما بيّنا قبل، وأنه أحد ما يتكون الزوايا على سطح الأرض. فأما في الهواء فإنه كلما ارتفع فإن أضلاع تلك الزوايا تنفرج وتتسع، وتقبل التسخين هناك، ويضعف فعلها ويضمحل تأثيرها في العلوفيغلب البرد هناك.
واعلم يا أخي أن أول ما يقبل الهواء من التغييرات والاستحالات هوالنور والظلمة والحرّ والبرد، ثم ما يحدث فيه اختلاف الرياح من كثرة البخارات المتصاعدة، والدخانات الساطعة المُطبِقة، وتتبعها الروابع والهالات والضباب والغيوم والرعود والبروق والصواعق والهزّات، ثم الأمطار والطَّلُّ والندى والصقيع والثلوج وقوس قزح والشُّهُبُ وكواكب الأذناب، وما يتبع هذه من هيجان البحار والمَدّ والجزر في البحار والأنهار.
واعلم يا أخي أن هذه التغييرات التي تكون في الجوّ، لمّا كان يحدث بعضها في سمك كرة النسيم، وبعضها في سمك كرة الزمهرير، وبعضها في سمك كرة الأثير، وبعضها في السطوح المشتركة بينها، نحتاج إلى تفصيلها واحدةً واحدةً، ونبدأ أولاً بشرح حال السطوح. وذلك أن السطوح نوعان: مشتركةٌ ومُتداخلة، فالمشتركة مثل سطح الماء والهواء، والسطح الذي بين الدُّهن والماء، فإنه ليس بين الجسمين إلاّ فاصلٌ مشترك يفصل أحدهما عن الآخر فصلاً وهمياً فقط. وأما السطح المتداخل فمثل سطح الماء الواقف في الطين والرمل، فإن الأجزاء الأرضية مُتداخلةٌ لأجزاء الماء، وأجزاء الماء مُتداخلةٌ لأجزاء التراب، فلا يكون بينهما فاصل مشترك يفصل بينهما.
واعلم يا أخي أن من السطوح ما يقارب طبيعة الجسمين المُتماسين، ومنهما ما لا يقارب، مثل سطح الهواء من أسفل مما يلي الهواء، فإن تلك الأجزاء ألطف من سائر الأجزاء التي تلي أسفل مما يلي الأرض، كذلك سطح الهواء المحيط بالنيران التي عندنا، فإنه يكون أسخن من سائر أجزائه البعيدة عن النار، وكذلك سطح النار مما يلي الهواء المحيط به أقلّ حرارة من سائر أجزائه الباقية. وأما سطوح الأجسام الصّلبة مثل الحديد والخشب والحجر وما شاكلها، إذا تجاوزت فلا يعرض لها هذا الوصف.

krimbow
24/08/2006, 20:20
وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا إلى ذكره، فإنا نقول إن سطح كرة الأثير الذي يلي فلك القمر مشتركٌ غير متداخل الأجزاء، وكذلك سطوح أُكر الأفلاك الكواكب كلّها. وقد ظن كثير من الطبيعين أن بين كرة الزمهرير والأثير سطحٌ متداخل غير مشترك، وليس الأمر كما ظنوا، بل هوكما بيّن بعد. فأما بين سطح كرة النسيم وبين كرة الزمهرير فتبيّن أنه غير مشترك بل متداخل كسطح النار والهواء والأرض. وأما سطح كرة النسيم مما يلي الأرض فتبيّن أنه متداخل الأجزاء أيضاً إلى عنق الأرض، بحسب تخلخل الأجزاء الأرضية إلى نهايةٍ ما، ثم يقف ولا يدخل إلى أكثر من ذلك. ومن الدليل على ذلك ما يعرِض لحافري المعادن إلى أسفل حتى إنهم ربما يحتاجون لترويح النسيم هناك بالمنافخ والأنابيب، ليستنشقوا النسيم وتُضيء سُرُجُهم هناك. فمتى انقطع النسيم لعارضٍ طفئت سرجهم واختنق من كان في المعادن فمات. ولا يمكن أن يكون في المواضع التي لا يخترقها النسيم حيواناتٌ كما بيّنا في رسالة الحيوان.
واعلم يا أخي أن الهواء بحرٌ واقف، لطيف الأجزاء، خفيف الحركة، سريع السيلان، سهل القبول للتغيرات والحوادث. وقد بيّنا في رسالة الحاسّ والمحسوس كيفية قبوله للنور والظلمة والأصوات والروائح، وكيفية قبوله البرد والحرّ في رسالة الكون والفساد. ونريد أن نصف في هذا الفصل كيفية حدوث الرياح، وكمية أنواعها وجهاتها، واختلاف تصاريفها، وما العلّة المُحرِّكة لها في وقتٍ دون وقتٍ، وفي بلدٍ دون بلد، ونبيّن أيضاً كيفية سياقة الغيوم من البحار إلى البراري والقفار ورؤوس الجبال، وكيف تهزّ السحاب حتى يهطل القطر. ولكن نحتاج قبل ذلك أن نذكر حالات القمر ومنازله واتصالاته بالكواكب التي هي الموجبة لإثارة البُخارات والدُّخانات والتسخين الموجبة لكون الرياح فنقول: إن للقمر ثمانيةً وعشرين منزلاً، كما ذكر الله تعالى: "والقمر قدّرناه منازل حتى عاد كالعُرجون القديم".
واعلم يا أخي أن لهذه المنازل خواصّ يظهر تأثيرها في هذه الأركان الأربعة، وفي المكنونات منها عند نزوله يوماً بيومٍ وليلةً بليلةٍ. وللشمس والكواكب أيضاً اتصالاتٌ بالكواكب بعضها ببعضٍ يقوى فعلُها، وتأثيرها فيها يطول شرحه، وهي مذكورةٌ في كتب النجوم. ولكن نذكر منها ما لا بدّ من ذكره في هذا الفصل، وذلك أن من تلك المنازل ما يقوى أفعاله في إثارة البخار من البحار والبطائح والآجام، ومنها ما يقوى أفعاله في إثارة الدخانات من وجه الأرض والبراري، ومنها ما يقوى فعله في تبريد الهواء وزيادة الماء، ومنها ما يقوى فعله في إسخان الهواء ونقصان المياه، وخاصة إذا اتفق نزول القمر بمنزلٍ واتصاله بكوكبٍ مشاكلٍ فعله لخاصيّة المنزل.
واعلم أن الريح ليست شيئاً سوى تموّج الهواء بحركته إلى الجهات الس، كما أن أمواج البحر ليست شيئاً سوى حركة الماء وتدافع أجزائه إلى الجهات الأربع. وذلك أن الماء والهواء بحران واقفان، غير أن أجزاء الماء غليظة ثقيلة الحركة، وأجزاء الهواء لطيفةٌ خفيفة الحركة.
واعلم يا أخي أن أحد أسباب حركة الهواء هوأن صعود البخار، من البحار والبراري والقفار، أثار من البحار بخاراً رطباً، ومن البراري والقفار دخاناً يابساً، أصعدتها بحرارتها في الهواء، فيدفع الهواء بعضه بعضاً إلى الحهات، فيتسع المكان للبخارين الصاعدين، فإن كان الدخان اليابس أكثر، كانت منه الرياح، لأن تلك الأجزاء، إذا صعدت إلى أعلى كرة النسيم وبردت ومنعها برد الزمهرير عن الصعود إلى فوق، عطفت عند راجعةً إلى أسفل، ودافعت الهواء إلى الجهات الأربع، فكانت منها الرياح المختلفة.
واعلم أن الرياح كثيرة التصاريف في الجهات الست، ولكنّ جملتها أربعة عشر نوعاً، منها عند جموع الناس أربعٌ، وهي الصَّبا والدَّبور والجنوب والشمال. وذلك أن الهواء إذا تموّج من المشرق إلى المغرب، يسمّى ذلك التموج ريح الصّبا. وإذا تموج من الجنوب إلى الشمال يسمى التيمُّن. وإذا تموج من المغرب إلى المشرق يسمى دبوراً، وإذا تموج من الشمال إلى الجنوب يسمى الجِرْبِيَاءَ. فأما ما كان تدافعه إلى ما بين هذه الجهات فيسمى النَّكبْاء وهذه ثمانية أنواع.
وأما التي تهبّ من أسفل إلى فوق، فمنها تكون الزوابع، وهما ريحان تلتقيان وتصعدان، كما يلتقي الماء في الكرَّادات وعند نزوله في البَلاليع والثُّقب.

krimbow
24/08/2006, 20:20
وأما التي تهبّ من فوق إلى أسفل، فمنها الرّيح الصَّرْصَر التي أهلكت عاداً، وذلك أنها نفخت عليهم غربيّ ديارهم من خلل الغيم من كرة الزَّمهرير التي فوق كرة النسبم ثمانية أيام ولياليها، كما ذكر الله تعالى. وإذ ذكرنا ماهية الريح وكمية أنواعها، وجهات هبوبها، فإنا نريد أن نذكر علّة تصاريفها في الجهات، وما الغرض منها، وذلك أن أحد الأغراض من تصاريفها هوأن تسوق الغيم من سواحل البحار إلى البلدان البعيدة والبراري المقصودة بها؛ وأيضاً فإن أحد الأغراض من الجبال الشامخة الطوال المسطوحة على بسيط الأرض شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً هوأن تمنع الرياح من سوق السحاب إلى غير البلدان والبراري المقصودة بها. وذلك أن هذه الجبال الراسيات تقوم لمنع الرياح أن تنصرف إلى كل الجهات إلاّ الجهة المقصودة بها، مقام المُسنيّات والبريدات للأنهار والسواقي المانعة لها أن تفيض المياه إلاّ إلى المزارع والمواضع المقصودة بها. وذلك أن كثيراً من البلدان والبراري بعيدةٌ من سواحل البحر، ولولم تكن هذه الجبال الطوال الشامخة، المانعة للرياح، السائقة للغيوم، لما وصلت السحاب والأمطار إلى تلك البلدان والبراري، كما أن الأنهار والسواقي إذا لم تكن لها مُسنيّات وبريداتٌ فاضت لأى الآجام والغدران والبطائح، حيث يقل الانتفاع بها، فلا تبلغ إلى البلدان البعيدة إلاّ بأنهار تُحفر وبَريدات تُعمل. وهذه الجبال الشامخة غرضٌ آخر، وذلك أن في أجوافها مغاراتٍ وأُهْوِيَّةً واسعة، فإذا هطلت في الشتاء في رؤوسها الأمطار والثلوج، وذابت، غاصت المياه في تلك المغارات والأُهوية، وصارت فيها كالمخزونة. وفي أسفل تلك الجبال منافذ ضيقةٌ تخرج منها المياه المخزونة في تلك المغارات والأهوية وهي العيون، وتجري منها جداول، وتجتمع بعضُها إلى بعضٍ، وتسيل منها أودية وأنهار تجري بين المدن والقرى والسوادات، فتسقي، وهي راجعةٌ إلى البحار والآجام والغدران في ممرِّها، الزُّروع والأشجار ومواضع العشب والكلأ؛يفضُل منها ينصبُّ إلى البحار والآجام والغدران. وتُلطِّفها الشمس وتُصعِدُها بخارا من الرأس، وتكون منها الغيوم والسحاب، وتسوقها الرياح إلى المواضع المقصودة بها، كما كان عامَ أَولَ، وذلك دأبها أبداً، ذلك تقدير العزيز العليم.

krimbow
24/08/2006, 20:20
فصل فانظر يا أخي إلى هذه العناية الإلهية الكلّية، والسياسة الربّانية الحكيمة،
وتفكّر فيها، واعتبرها لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورِقدة الجهالة، وتنفتح لها عين البصيرة، فتنظر بنور العقل إلى هذا الصانع الكيم المدبّر لهذه الأمور، كما نظرت بعين الجسد إلى هذه المصنوعات التي نحن في ذكرها، فتكون من الشاهدين الذين مدحهم الله تعالى فقال: "إلاّ من شهد بالحقّ وهم يعلمون" وقال: "وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهِدنا" ثم قال: "شَهِد الله أنه لا إله إلاّ هو، والملائكة وأُولوالعلم، قائماً بالقسط، لا إله إلاّ هوالعزيز الحكيم." وإذا قد فرغنا من ذكر الرياح، فسنذكر الغيوم والأمطار والنَّدى والجليد والضباب والطّلّ والسحاب والرعود والبروق والبّرّد، إذ كانت موادّها البُخارات الصاعدة كما ذكرنا قبل.
واعلم يا أخي أنه إذا ارتفعت البخارات في الهواء، وتدافع الهواء إلى الجهات، ويكون تدافعه إلى جهة أكثر من جهة، ويكون من قُدّام له جبال شامخة مانعة، ومن فوق له بَرْدُ الزمهرير مانع، ومن أسفل مادة البخارين متصلةٌ، فلا يزال البخاران يكثران ويغلظان في الهواء، وتتداخل أجزاء البُخارَين بعضها في بعض، حتى يسخن ويكون منها سحابٌ مؤلّفٌ مُتراكمٌ، وكلما ارتفع السحاب بردت أجزاء الخارين، وانضمت أجزاء البخار الرَّطْب بعضها إلى بعضٍ، وصار ما كان دخاناً يابساً ريحاً، وما كان بخاراً رطباً ماءً وأنداءً. ثم تلتئم تلك الأجزاء المائية بعضها إلى بعضٍ، وتصير قَطراً بَرَداً؛ وتثقُل فتهوي راجعةً من العُلْوإلى السُّفْلِ، فتسمى حينئذٍ مطراً. فإن كان صعود ذلك البخار الرطي بالليل، والهواء شديد البرد، منع أن تصعد البخارات في الهواء، بل جمّدها أولاً فأولاً، وقرّبها من وجه الأرض فيصير من ذلك ندىً وصقيعٌ وطلٌّ. وان ارتفعت تلك البخارات في الهواء قليلاً، وعرض لها البرد، صارت سحاباً رقيقاً، وإن كان البرد مُفرطاً جمّد القَطْر الصِّغار في حلل الغيم، فكان من ذلك الجليد أوالثلج؛ ذلك أن البرد يجمّد الأجزاء المائية، ويختلط بالأجزاء الهوائية، فينزل بالرّفق، فمن أجل ذلك لا يكون لها على وجه الأرض وقعٌ شديد، كما يكون للبرد والمطر. فإن كان الهواء دفيئاً ارتفع البخار في العلو، وتراكم السحاب وطبقاتٍ بعضها فوق بعض، كما يُرى في أيام الربيع والخريف، كأنها جبال من قطن مندوف، مُتراكمة بعضُها فوق بعض. فإذا عرض لها برد الزمهرير من فوق، غلظ البُخار وصار ماءً، وانضمّت بعضها إلى بعض، وصارت قطراً، وإذا عرض لها الثقل أخذت تهوي من أعلى سمك السحاب، ثم تتراكم وتلتئم تلك القطر الصّغار بعضها إلى بعضٍ، حتى إذا خرجت من أسفلها، صارت مطراً كبيراً. فإن عرض لها بردٌ مُفرطٌ في طريقها جمدت وصارت برداً قبل أن تبلغ إلى الأرض، فما كان منها من أعلى السحاب هوالذي يصير برداً، وما كان من أسفل السحاب كان مطراً مختلطاً مع البرد.
ومن أحبّ أن يعلم صدق قولنا، ويتصوّر كيفية وصفنا صعود البخارين، وكيفية تأليف السحاب منها ونزول القطر، فلينظر إلى تصعيدات المياه وتقطيرها، وكيف يعمل منها أصحابها مثل تصعيد ماء الورد والخلّ المُصعّد، وما شاكلها، ومثل البُخارات الصاعدة في بيت المّامات، وكيفية تقطير الماء من سقوفها، وذلك أن سطح كرة الزمهرير الذي يلي كرة النسيم، والجبال الشامخة حوالي البحار تقوم لمنع البخارين الصاعدين، اللذين يتكوّن منهما السحاب والأمطار، أن يتبدّدا، ويتغشّيا حيطان الحمّامات وسقوفها لمنع البخار الصاعد فيها أن يتبدّد ويتغشّى. وأيضاً فإنها تقوم مقام القَرْع والإنبيق، في تصعيد رطوبتها وتقطيرها. وبمثل هذين يدبّر أصحاب الصنعة عقاقيرهم في تصعيد رطوباتها وتقطير مياهها.
وأما البروق والرعود فإنهما يحدُثان في وقت واحد، ولكنّ البرق يسبق إلى الأبصار قبل الصوت إلى المسامع، لأن أحدهما روحانيّ الصورة وهو الضوء، والآخر جسمانيّ وهو الصوت كما بيّناه في رسالة الحاس والمحسوس. وأما علّة حدوثهما فهي البخاران الصاعدان إذا اختلطا في الهواء، والتفّ البخار الرطب على البخار اليابس الذي هوالدخان، واحتوى برد الزمهرير على البخار الرطب، وضغطهما، فانحصر البخار اليابس في جوف البخار الرطب، والتهب في جوف البخار الرطب، وطلب الخروج دفعةً، وانخرق البخار الرطب، وتفرقع من حرارة الدخان اليابس، كما تتفرقع الأشياء الرطبة إذا احتوت عليها النار دفعةً واحدة، وحدث من ذلك قرعٌ في الهواء، واندفع إلى جميع الحهات، كما بيّنا في رسالة الحاس والمحسوس، كيفية الصوت، وانقدح من خروج ذلك البخار اليابس الدخانيّ صوت يسمى البرق، كما يحدث من دخان السراج المنطفئ إذا أُدني من سراج مشتعل ثم ينطفئ. وربما يذوب ذلك البخار ويصير ريحاً، ويدور في جوف السحاب، ويطلب الخروج، فيُسمَع له دويٌّ وتقرقرٌ، كما اسمع من الجوف المنفتح ريحاً. وربما ينشق السحاب دفعةً واحدة بشدّة، فيكون من ذلك صوتٌ هائل يُسمى صوت الصاعقة، كما يحدث من الزِّقِّ المنفوخ إذا وقع عليه حجر ثقيل فيشقُّه.

krimbow
24/08/2006, 20:21
فصل واعلم يا أخي أنه لولا العِناية الإلهية
ورحمة الباري، جلّ جلاله،

بأن جعل سمك كرة النسيم عالياً، ومركز السحاب مرتفعاً بعيداً عن الأرض بمقدار الحاجة إليه، وجعل من شأن السحاب إذا انخرق أن يطلب البخار الصعود إلى فوق، وجعل من شأن قرع الهواء إذا حدث أن تكون حركته إلى فوق، لكانت أصوات الرعد أضرّت بأسماع الحيوانات الضعيفة وقتلتها، كما يكون ذلك في بعض الأحايين، وذلك أن السحب إذا تراكمت وتكابست، يضغط بعضها بعضاً إلى أسفل، حتى تقرب من الأرض، وتحدث الرعود، ويخرق السحاب من أسفل، ويقرع الهواء ويندفع إلى وجه الأرض، فيكون من ذلك صوتٌ هائلٌ هوالصاعقة، فإنها تقتل كثيراً من الحيوانات القريبة منها ومن الناس أيضاً، كما فُعِلَ بقوم شُعيبٍ وصالح، عليهما السلام. فإذا منعهما السحاب المتراكم، رجعت مُنحطّةً إلى الأرض، فأحرقت ما أتت عليه من الحيوان والنبات، ولكن قلّ ما تُحرق الأجسام الرخوة، لأنها نارٌ لطيفة تنفُذ في مسامها. وأما الأجسام الصلبة فلتكابُس أجزائها وتمانُعها تتغلب عليها وتُذوِّبُها وتُحرقها. وأما الهالة التي تكون حول الشمس والقمر فإنها تدلُّ على المطر ورطوبة الهواء، وذلك أنها تحدث في أعلى سطح كرة النسيم وقت ما يرتفع البخار إلى هناك، ويأخذ يتألف منه الغيم، وعِلَّتُها أن النيِّرين إذا أشرقا على ذلك السطح انعكس شعاعهما، من هناك إلى فوق، وحدث من ذلك الانعكاس دائرةٌ كما يحدث من إشراقهما على سطح الماء. ويشفّ رسم تلك الدائرة من تحت ذلك الغيم الرقيق، كما يشفّ من وراء البلّور والزُّجاج، ويكون مركز تلك الدائرة مُسامتاً للبقعة التي يمر بها مَسقِطُ الحجر الخارج من مركز النيّرين إلى مركز الأرض. فكل من كان من الناظرين ممّن يمرّ ذلك النيّر على سمت رأسه سواءً، فإنه يرى مركز تلك الدائرة من فوق رأسه، ومن كان خارجاً من تحته إلى إحدى الجهات، فإنه يرى مركزها في الجهة المقابلة لموضعها، ويكون قطر هذه الدائرة أبداً مثل سمك كرة البخار مرتين، قلّ ذلك السمك أوكثُر، وتقديرها أكثر ما يكون اثنين وثلاثين ألف ذراع، لأن سمك كرة النسيم أكثر ما يكون ستة عشر ألف ذراع كما بيّنا قبل.
وأما قوس قزح فإنه يحدث في سمك كرة النسيم عند ترطيب الهواء مُشبعاً، ولا يكون وضعه إلاّ مُنتصباً قائماً، وحَدبَته إلى فوق مما يلي سطح كرة الزمهرير، وطرفاه إلى أسفل مما يلي وجه الأرض، ولا يكاد يحدث إلاّ في طرفي النهار في الجهة المقابلة لموضع الشمس مَشرِقاً أومغرباً، ولا يُرى منها إلاّ أقلّ من نصف محيط الدائرة، إلاّ أن تكون الشمس في الأُفق سواءً، فإنها عند ذلك تُرى في نصف محيط الدائرة سواءً، لأن الخط الخارج من مركز جرم الشمس يمرّ مُماساً مما يلي وجه الأرض ومركز هذه الدائرة، فيُرى القوس قائماً منتصباً مستوياً. وإذا كانت الشمس مرتفعة فإنها تُرى أقل من نصف محيط الدائرة، وكلما كان الإرتفاع أكثر كان القوس أقل وأصغر، لأن القوس يكون مائلاً مُنحطاً إلى الجهة المقابلة لموضع الشمس.
واعلم يا أخي أن بين وتر هذا القوس وبين قُطر دائرة الهالة التي تقدم ذكرها نِسبةً متساويةً. وأما علّة حدوث هذا القوس فهي أيضاً إشراق الشمس على أجزاء ذلك البخار الرطب الواقف في الهواء، وانعكاس شُعاعها منه إلى ناحية الشمس. وأما أصباغه التي تُرى فهي أربعة مطابقة للكيفيّات الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة؛ ولخاصّيّة الأربعة الأركان التي هي النار والهواء والماء والأرض؛ ولفصول الزمان الأربعة وهي الصيف والخريف والشتاء والربيع؛ ولمُشابهة الأخلاط الأربعة وهي الصفراء والوداء والدم والبلغم؛ ولمُشاكلة ألوان زهر النبات والشجر. لأن هذه القوس إذا حدثت وكانت أصباغها مُشبعة تدل على ترطيب الهواء وكثرة العشب والكلإ وزكاء ثمر الشجر وحب الزرع، فيكون ظهورها ورؤيتها كالبشارة قدّمتها الطبيعة للحيوان والناس، مُنذِرةً بريف الومان وخصبه.
وأما ما يقوله العامة وهوأن حُمرتها تدل على إرهاق الدماء في تلك السنة وصُفرتها تدل على الأمراض، وزُرقتها تدل على الجدب، وخُضرتها تدل على الخصب، وعلى حسب كثرتها وقلتها تكون دلالتها؛ فإن هذا يكون دليلاً عند الزاجر على أصله وفرعه، وقد بينا ذلك في رسالة الزَّجر والفِراسة.

krimbow
24/08/2006, 20:22
وأما ترتيب ألوانها فإن الحمرة أبداً تمون فوق الصُفرة والصُفرة دونها، والزُرقة دون الخُضرة. فإن وجدت قوساً أُخرى دونها، ترتّبت هذه الألوان في القوس السُّفلى عكس ذلك. وشرح العلة في ذلك يطول لأنه لا يفهمه إلاّ المُرتاضون بالأشكال الهندسية والأمور الطبيعية والنِّسَب التأليفيّة.
وقد بينا فيما تقدم أن السحاب لا يرتفع من وجه الأرض في الجوأكثر من ستة عشر ألفذراع، وأن أقربه ما كان مُماساً لوجه الأرض ولكنّ ذلك في الندرة في وقت من الأوقات وبلدٍ دون بلدٍ، لأنه لوكان السحاب، في كل وقت وكل بلد، مارّاً مُماساً لوجه الأرض، لأضرّ ذلك بالحيوان والنبات، ولمنع الناس من التصرّف، كما يُرى ذلك يوم الضَّباب وفي البلدان القريبة من سواحل البحار، مثل البصرة والأنطاكية وطَبَرِسْتانَ لقربها من البحار، يُرى أغفل ما يكون الإنسان، حتى إذا جاء الطَّلُّ والمطر والضّباب مِقداراً ما، يُضيّق الصدر ويأخذ النفس وتبتلُّ الثياب والأمتعة، وأيضاً لوكان السحاب كلّه قريباً من وجه الأرض، لأضرّ الرعد والبرق بأبصار الحيوان وأسماعها؛ ولوكان بعيداً شديد الارتفاع في الهواء بحيث لم يكن يُرى، لكانت الأمطار والثلوج تجيء مُفاجأةً، والناس والحيوان عنها غافلون غير مستعدين لتحرُّز منها. فكان يكون في ذلك ضررٌ عظيم عام.
فلا تنظر يا أخي إلى فعل الطبيعة، وتفكّر في هذه الحكمة الإلهية والعناية الربانية كيف رفعت هذه الأشياء في الهواء بمقدار الحاجة إليها، فلا بعيدٌ مفرطٌ ولا قريب جداً، إذا كان في كلا الأمرين ضررٌ على الناس والحيوان والنبات.

krimbow
24/08/2006, 20:22
فصل فإما علة كثرة الأمطار في الشتاء
وقلّتها في الصيف
فهولأن صعود البُخارَين مُتصلٌ أبداً في العراق وما يليه من الأقاليم الشمالية في الصيف أكثر منهما في الشتاء.
واعلم يا أخي أن لكل كائنٍ تحت فلك القمر أربع عللٍ لا يتكوّن شيء من الكائنات إلاّ بها كلها: إحداها علة هيولانيّة، والأُخرى علة صورية، والأُخرى علة فاعليّة، والأُخرى علة تماميّة.
فأما العلة الهيولانية للسحاب والأمطار وما يتبعهما فهما البُخاران الصاعدان كما وصفنا قبل؛ والعلة الفاعليّة لها هي الشمس والكواكب بمطارح شُعاعاتها كما تقدم ذكرها، والعلة الصورية عقد البُخارين وجمودهما، والعلة الفاعليّة لذلك برد الجو، والعلة التماميّة تكوُّن الأمطار لكما تبتّل الأرض، وينبت النبات، ويتغذى منه الحيوان.
ولما كانت الشمس تقضي ستة أشهر في البروج الشمالية، وتقرب من سمت رأس البلاد، يُسخن جوالهواء إسخاناً شديداً، فتتحرك البُخارات وتتغشى، وتدفعها الرياح الشمالية إلى ناحية الجنوب. وبما أن الشمس تكون بعيدة من سمت تلك البلاد، يُبرد الجوويكون الشتاء هناك والأمطار والغيوم وما يتبعها من حوادث الجو.
فإذا صارت الشمس، بعد ستة أشهر إلى البروج الجنوبية، قريبةً من سمت تلك البلاد، وبَعُدت من البلاد الشمالية، صار الشتاء هذا هُنا والصيف هناك، وذلك دأبها الشتاء والصيف والغيوم والأمطار ما يتبعها من الحوادث التي تقدم ذكرها. وكل هذه الحوادث تكون في سمك كرة النسيم دون مرة الزمهرير.

فصل وأما الحوادث التي في كرة الزمهرير
فهي انقضاض الكواكب التي تُرى في الليالي. فربما كثُر ذلك وربما قلّ.
وأما هيولاها ومادتها فهوالدخان اليابس اللطيف، الصاعد من الجبال والبراري، فإذا بلغت تلك المادة في صعودها إلى الفصل المشترك بين كرة الزمهرير وبين كرة الأثير، استدارت هناك وتشكّلت واشتعلت فيها نار الأثير، كما تشتعل نار السراج المنطفئ، وكما تشتعل نار البرق في الدخان اليابس الدُّهنيّ الذي في السحاب، وكما تشتعل النار في الِّفط الأبيض ثم تفنيه بسرعة فينطفئ. ومما يدلّ على أن مادتها دخانٌ يابس كثرة ما يُرى منها في سني الجدب.
وأما كيفية تشكُّل هذه الدخانات، إذا صعدت إلى هناك واشتعلت فيها النار، فإنها إذا اعتُبرت بالفكر، وجدت تارةً كأنها أعمدةٌ مخروطةٌ قائمةٌ قاعدتها مما يلي كرة النار، ومخروطها مما يلي وجه الأرض. ودليل ذلك أنه إذا اشتعلت النار فيها تُرى عظيمة الاشتعال، ثم لا تزال تصغُر وتنخرط وتقلّ حتى تنطفئ؛ فيتخيّل للناظرين أنها نار هوائية تنزل من السماء في حركتها.

krimbow
24/08/2006, 20:23
وإذا اعتبرنا هذا المثال يُظَنُّ أن بين كرة الزمهرير وكرة الأثير سطحٌ متداخل الأجزاء، غير مشتركٍ. وتارةً تُرى حركتها عند انقضاضها كأنها صغيرة هوذي متدرج على سطح كرة كبيرة، وذلك أنّا نراها أحياناً عند انقضاضها واشتعالها تبتدئ حركتها من المشرق فتمرّ على سمت رؤوسنا إلى المغرب، وتارةً من المغرب إلى المشرق، وتارةً تبتدئ من الجنوب وتمرّ على سمت رؤوسنا إلى الشمال، وتارة من الشمال إلى الجنوب، وتارة تتنكّب هذه الجهات، فيتخيل للناظرين كأنها كرة من قُطنٍ اشتعل فيها النار، ثم رميت في الهواء. وكلما أكلتها النار تناثر شررها وصغُرت حتى تفنى وتنطفئ. ومثالها الكرة التي يلعب بها أصحاب الخيالات بالليل، وذلك أنهم يتّخذون كرة معجونةً من سندرس وأجزاء عقاقير، يُشعلون فيها النار، ويأخذونها في أفواههم، فإذا رقصوا أوتنفسوا، رويت النار تخرج من أفواههم ومناخِرهم، ولا يزال ذلك دأبهم حتى تفنى تلك المادة وتنطفئ تلك النار.

فصل وقد يظن كثير من الناس
أن انقضاض هذه الشهب
هي كواكب تُسقَط ويُرمى بها من السماء في الهواء إلى الأرض، ويستدلّون على صحة ظنونهم الكاذبة بقوله تعالى: ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجوماً للشياطين.
وليس في هذه الآية دلالةٌ على أن الكواكب هي تُرمى بأنفسها، لأنك إذا قلت اتخذت هذه القوس لأرمي بها العدووالكفار، فليس في قولك دلالةٌ على أنك ترمي بنفس القوس، بل ترمي عنها النُّشّاب، فهكذا قوله تعالى: وجعلناها رجوماً للشياطين؛ أي يُرمون عنها بالشهب، لأن هذه الشهب لا تحدث في الهواء إلاّ بإشراق هذه الكواكب وشُعاعاتها في الهواء، كما بيّنا من قبل، وقد فسّرنا معنى هذه الآية وأخواتها في رسائل لنا.
واعلم أن أهل صناعة النجوم متَّفقون على أن هذه الكواكب الثابتة في الفلك الثامن هي من وراء فلك زحل الذي هوالكرسي الواسع، كما بينا في رسالة السماء والعالم، وإنما ذكر الله تعالى أنها زينة السماء الدنيا، لأن أهل الأرض لا يرونها إلاّ دون فلك القمر الذي هوالسماء الدنيا.
ومما يدل على أن هذه الشهب تحدث قريبةً من الأرض، بعيدة من فلك القمر، وسرعة حركتها، فإنها في لحظة تمر من المشرق إلى المغرب، أومن المغرب إلى المشرق، فلوكانت قريبةً من فلك القمر، لما رأيت حركتها بهذه السرعة.
واعلم يا أخي أنها إذا حدث فمرّت مقبلةً على الناظرين، وجازت على سمت رؤوسهم إلى الجانب الآخر، ذاهبةً إلى الأُفق بسيرها على الرؤية، يتخيل للناظرين أنها وقعت إلى الأرض، وليس الأمر كذلك، لأنها مادة خفيفة تطلب العلو، ولا يزيدها اشتعالها إلاّ خفةً. فإما التي تقع منها إلى الأرض فهي التي تحدث في كرة النسيم، فيضغطها السحاب، ويردها إلى أسفل، كنار البرق التي يضعطها السحاب من فوق إلى أسفل.
وأمل علة استدارة تلك المادة فهي أن الأجسام السيّالة من شأنها أن تتشكل، ما لم يمنعها مانع، أشكالاً كرويةً، كما يستدير القطر في الهواء، لأن الشكل الكروي أفضل الأشكال كما بينا في رسالة الهندسة.
وأما علة حركتها إلى جهة دون جهة فبحسب الدافع لها من جهة المقابل، وليست عي الريح، لأنها أسرع حركةً من الريح، وقد بينا على حركتها في رسالة الحركات.