-
عرض كامل الموضوع : رسائل اخوان الصفا، و خلان الوفا
شكرا كريم
كتاب مهم
انا قريتوا
بس في كتير شغلات ما فهمتها
:p :p :p :p
شكرا كريم فعلا هالرسائل تعتبر من اروع ما اخرجت الحضارة العربية .... :gem:
بس انشاء الله ما طلعلك كم ذكي ينتقدوا الموضوع لانو متل ما بعرف انو هالرسائل غير مقبولة عند البعض!!!! :dunno: :dunno:
يا هلا شباب
لسا ما خلصوا
و شكلي مطول كتير لبين ما نزلهم لأنو الموضوع طويييييييييييييييييييييل جدا
جدا جدا
و اعرف اني تورطت جدا
بقا انتوا بلشوا اقروا
لنشوف شو الله بييسر
نتابع
الرسالة الخامسة من القسم الرياضي في الموسيقى
بسم الله الرحمن الرحيم
وإذا قد فرغنا من ذكر الصنائع العلمية الروحانية التي هي أجناس العلوم، ومن ذكر الصنائع العلمية الجسمانية التي هي أجناس الصنائع، وبينا ماهية كل واحد منهما، وكمية أنواعهما، وما الأغراض المطلوبة منهما في رسالتين لنا، فنريد لأن نذكر في هذه الرسالة الملقبة بالموسيقى الصناعة المركبة من الجسمانية والروحانية التي هي صناعة التأليف في معرفة النسب، وليس غرضنا من هذه الرسالة تعليم الغناء وصنعة الملاهي، وإن كان لا بد من ذكرها، بل غرضنا هومعرفة النسب وكيفية التأليف اللذين بهما وبمعرفتهما يكون الحذق في الصنائع كلها.
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن كل صناعة تعمل باليدين، فإن الهيولى الموضوعة فيها إنما هي أجسام طبيعية، ومصنوعاتها كلها أشكال جسمانية، إلا الصناعة الموسيقية فإن الهيولى الموضوعة فيها، كلها جواهر روحانية، وهي نفوس المستمعين، وتأثيراتها فيها مظاهر كلها روحانية أيضاً. وذلك أن ألحان الموسيقى أصوات ونغمات، ولها في النفوس تأثيرات كتأثيرات صناعات الصناع في الهيوليات الموضوعة في صناعاتهم، فمن تلك النغمات والأصوات ما يحرك النفوس نحوالأعمال الشاقة، والصنائع المتعبة، وينشطها ويقوي عزماتها على الأفعال الصعبة المتعبة للأبدان، التي تبذل فيها مهج النفوس وذخائر الأموال، وهي الألحان المشجعة التي تستعمل في الحروب، وعند القتال في الهيجاء، ولا سيما إذا غني معها بأبيات موزونة في وصف الحروب ومديح الشجعان مثل قول القائل: لوكنت من مازن لم تستبح إبلي بنواللقيطة من ذهل بن شيبانا
ومثل قول البسوس بنت منقذ: لعمري لوأصبحت في دار منـقـذ لما ضيم سعد وهوجار لأبـياتـي
ولكنني أصبحي فـي دار غـربة متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي
فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحـل، فإنك في قوم عن الجار أمـوات
فإن هذه الأبيات وأخواتها يقال إنها كانت سبباً لإثارة أقوام إلى الحرب والقتال بين قبيلتين من قبائل العرب سنين متواترة. ومن الأبيات الموزونة أيضاً ما يثير الأحقاد الكامنة، ويحرك النفوس الساكنة، ويلهب نيران الغضب مثل قول القائل: واذكروا مصرع الحسين وزيد وقتيلاً بجانب الـمـهـراس
فإن هذه الأبيات وأخواتها أيضاً أثارت أحقاداً بين أقوام وحركت نفوسهم، والتهبت فيها نيران الغضب، وحثتهم على قتل أبناء الأعمام والأقرباء والعشائر، حتى قتلوهم بذنوب آبائهم ووزر أجدادهم، ولم يرحموا منهم أحداً. ومن الألحان والنغمات أيضاً ما يسكن سورة الغضب ويحل الأحقاد ويوقع الصلح، ويكسب الألفة والمحبة، فمن ذلك ما يحكى في بعض مجالس الشراب اجتمع رجلان متغاضبان، وكان بينهما ضغن قديم وحقد كامن، فلما دار الشراب بينهما ثار الحقد والتهبت نيران الغضب، وهم كل واحد منهما بقتل صاحبه. فلما أحس الموسيقار بذلك منهما، وكان ماهراً في صناعته، غير نغمات الأوتار، وضرب اللحن الملين المسكن وأسمعهما؛ وداوم حتى سكن سورة الغضب عنهما، وقاما فتعانقا وتصالحا.
ومن الألحان والنغمات ما ينقل النفوس من حال إلى حال ويغير أخلاقها من ضد إلى ضد، ومن ذلك ما يحكى أن جماعة كانت- من أهل هذه الصناعة- مجتمعة في دعوة رجل رئيس كبير، فرتب مراتبهم في مجلسه، بحسب حذقهم في صناعتهم، إذ دخل عليهم إنسان رث الحال، عليه ثياب رثة، فرفعه صاحب المجلس عليهم كلهم، وتبين إنكار ذلك في وجوههم، فأراد أن يبين فضله، ويسكن عنهم غضبهم، فسأله أن يسمعهم شيئاً من صناعته، فأخرج الرجل خشبات كانت معه فركبها، ومد عليها أوتاره وحركها تحريكاً، فأضحك كل من كان في المجلس من اللذة والفرح والسرور الذي حل داخل نفوسهم، ثم قلبها وحركها تحريكاً آخر أبكاهم كلهم من رقة النغمة وحزن القلوب، ثم قلبها وحركها تحريكاً نومهم كلهم، وقام وخرج، فلم يعرف له خبر.
فقد تبين بما ذكرنا أن لصناعة الموسيقى تأثيرات في نفوس المستمعين مختلفة كاختلاف تأثيرات صناعات الصناع في الهيوليات الموضوعة في صناعاتهم، فمن أجلها يستعملها كل الأمم من بني آدم وكثير من الحيوانات أيضاً. ومن الدليل على أن لها تأثيرات في النفوس استعمال الناس لها، تارة عند الفرح والسرور في الأعراس والولائم والدعوات، وتارة عند الحزن والغم والمصائب وفي المآتم؛ وتارة في بيوت العبادات وفي الأعياد، وتارة في الأسواق والمنازل، وفي الأسفار وفي الحضر، وعند الراحة والتعب، وفي مجالس الملوك ومنازل السوقة، ويستعملها الرجال والنساء والصبيان والمشايخ والعلماء والجهال والصناع والتجار وجميع طبقات الناس.
فصل في أن أصل صناعة الموسيقى للحكماء
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الصنائع كلها استخرجتها الحكماء بحكمتها، ثم تعلمها الناس منهم، وبعضهم من بعض، وصارت وراثة من الحكماء للعامة، ومن العلماء للمتعلمين، ومن الأساتذة للتلامذة.فصناعة الموسيقى استخرجتها الحكماء بحكمتها، وتعلمها الناس منهم، واستعملوها كسائر الصنائع في أعمالهم بحكمتها، وتعلمها الناس منهم، واستعملوها كسائر الصنائع في أعمالهم ومتصرفاتهم بحسب أغراضهم المختلفة. فأما استعمال أصحاب النواميس الإلهية لها في الهياكل وبيوت العبادات، وعند القراءة في الصلوات، وعند القرابين والدعاء والتضرع والبكاء، كما كان يفعل داود النبي- عيه السلام- عند قراءة مزاميره، وكما يفعل النصارى في كنائسهم، والمسلمون في مساجدهم من طيب النغمة ولحن القراءة، فإن كل ذلك لرقة القلوب، ولخضوع النفوس ولخشوعها، والانقياد لأوامر الله تعالى ونواهيه، والتوبة إليه من الذنوب، والرجوع إلى الله- سبحانه وتعالى- باستعمال سنن النواميس كما رسمت.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أن أحد الأسباب التي دعت الحكماء إلى وضع النواميس، واستعمال سننها، هوما قد لاح لهم من موجبات أحكام النجوم من السعادات والمناحس، عند ابتداء القرانات وتحاويل السنين من الغلاء أوالرخص، أوالجدب أوالخصب، أوالقحط أوالطاعون والوباء، أوتسلط الأشرار والظالمين، وما شاكلها من تغيرات الزمان وحوادث الأيام. فلما تبين لهم ذلك طلبوا حيلة تنجيهم منها إن كانت شراً، وتوفر حظهم فيها إن كانت خيراً، فلم يجدوا حيلة أنجى ولا شيئاً أنفع من استعمال سنن النواميس الإلهية التي هي الصوم والصلاة والقرابين والدعاء عند ذلك بالتضرع إلى الله تعالى- جل ثناؤه- بالخضوع والخشوع والبكاء والسؤال إياه أن يصرف عنهم ذلك، ويكشف ما قد أوجبته أحكام النجوم من المناحس والبلاء، وكانوا لا يشكون أنهم إذا دعوا الله بالنية والإخلاص ورقة القلب والبكاء والتضرع والتوبة والإنابة؛ أن يصرف عنهم ما يخافون، ويكشف عنهم ما هم مبتلون به، ويتوب عليهم؛ ويغفر لهم، ويجيب دعاءهم، ز يعطيهم سؤالهم. وكانوا يستعملون عند الدعاء والتسبيح والقراءة ألحاناً من الموسيقى تسمى" المحزن" وهي التي ترقق القلوب إذا سمعت، وتبكي العيون، وتكسب النفوس الندامة على سالف الذنوب، وإخلاص السرائر وإصلاح الضمائر. فهذا كان أحد أسباب استخراج الحكماء صناعة الموسيقى، واستعمالها في الهياكل وعند القرابين والدعاء والصلوات.
وكانوا أيضاً قد استخرجوا لمناً آخر يقال له" المشجع" كانت تستعمله قادة الجيوش في الحروب والهيجاء، يكسب النفس شجاعة وإقداماً. واستخرجوا أيضاً لحناً آخر كانوا يستعملونه في المارستانات؛ وقت الأسحار، يخفف ألم الأسقام والأمراض عن المريض، ويكسر سورتها، ويشفي من كثير من الأمراض والأعلال. واستخرجوا أيضاً لحن آخر يستعمل عند المصائب والأحزان والغموم في المآتم، يعزي النفوس ويخفف ألم المصائب، ويسلي عن الاشتياق، ويسكن الحزن. واستخرجوا أيضاً لحناً آخر يستعمل عند الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة مثل ما يستعمله الحمالون والبناؤون وملاح الزواريق وأصحاب المراكب، يخفف عنهم كد الأبدان وتعب النفوس.
واستخرجوا أيضاً ألحاناً أخر تستعمل عند الفرح واللذة والسرور في الأعراس والولائم وهي المستعملة في زماننا هذا. وقد تستعمل هذه الصناعة للحيوانات أيضاً مثل ما يستعمله الجمالون من الحداء في السفار وفي ظلم الليل، لينشط الجمال في السير، ويخفف عليها ثقل الأحمال، ويستعملها رعاة الغنم والبقر والخيل عند ورودها الماء من الصفير ترغيباً لها في شرب الماء؛ ويستعملون لها أيضاً ألحاناً أخر عند هيجانها للنز والفساد، وألحاناً أخر عند حلب ألبانها لتدر؛ ويستعمل صياد الغزلان والدراج؛ والقطا وغيرها من الطيور ألحاناً في ظلم الليل، يوقعها بها حتى تؤخذ باليد؛ وتستعمل النساء للأطفال ألحاناً تسكن البكاء، وتجلب النوم. فقد تبين بما ذكرنا أن صناعة الموسيقى يستعملها كل أحد من الأمم، ويستلذها جميع الحيوانات التي لها حاسة السمع، وإن للنغمات تأثيرات في النفوس الروحانية، كما أن لسائر الصنائع تأثيرات في الهيوليات الجسمانية، فنقول الآن: إن الموسيقى هي الغناء، والموسيقار هوالمغني، والموسيقات هوآلة الغناء، والغناء هوألحان مؤلفة، واللحن هونغمات متواترة، والنغمات هي أصوات متزنة، والصوت هوقرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام بعضها ببعض، كما بينا في رسالة" الحاس والمحسوس" ولكن نحتاج أن نذكر من ذلك في هذه الرسالة ما لا بد منه.
فصل في كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات
فأما كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات، فأعلم يا أخي أن الأصوات نوعان: حيوانية وغير حيوانية؛ وغير الحيوانية أيضاً نوعان: طبيعية وآلية.
فالطبيعية هي كصوت الحجر والحديد والخشب والرعد والريح وسائر الأجسام التي لا روح فيها من الجمادات، والآلية كصوت الطبل والبوق والزمر والأوتاد وما شاكلها. والحيوانية نوعان: منطقية وغير منطقية، فغير المنطقية هي أصوات سائر الحيوانات الغير الناطقة، وأما المنطقية فهي أصوات الناس، وهي نوعان: دالة وغير دالة. فغير الدالة كالضحك والبكاء والصياح، وبالجملة كل صوت لا هجاء له؛ وأما الدالة فهي اكلام والأقاويل التي لها هجاء.وكل هذه الأصوات إنما هي قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجرام، وذلك أن الهواء لشدة لطافته وخفة جوهره وسرعة حركة أجزائه، يخلل الأجسام كلها، فإذا صدم جسم جسماً آخر، انسل ذلك الهواء من بينهما، وتدافع وتموج إلى جميع الجهات، وحدث من حركته شكل كروي، واتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزجاج فيها، وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت حركته وتموجه، إلى أن يسكن ويضمحل. فمن كان حاضراً من الناس وسائر الحيوانات الذي له أذن بالقرب من ذلك المكان، فبتموج ذلك الهواء بحركته يدخل في أذنيه إلى صماخيه؛ في مؤخر الدماغ، ويتوج أيضاً ذلك الهواء الذي هناك، فتحس عند ذلك القوة السامعة بتلك الحركة وذلك التغيير.
وأعلم أن كل صوت له نغمة وصفية وهيئة روحانية، خلاف صوت آخر، وإن الهواء من شرف جوهره ولطافة عنصره يحمل كل صوت بهيأته وصفته، ويحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض، فيفسد هيأتها، إلى أن يبلغها إلى أقصى مدى غاياتها عند القوة السامعة، لتؤديها إلى القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ، وذلك تقدير العزيز الحكيم الذي جعل لكم السمع والأبصار والفئدة، قليلاً ما تشكرون. وإذ قد فرغنا من ذكر ماهية الأصوات وكيفية حل الهواء، وكيفية إدراك القوة السامعة لها، فنذكر الآن كيفية حدوث أنواعها من تصادم الأجسام بعضاً ببعض، فنقول: إن كل جسمين تصادما برفق ولين لا تسمع لهما صوتاً، لأن الهواء ينسل من بينهما قليلاً قليلاً، فلا يحدث صوتاً، وإنما يحدث الصوت من تصادم الأجسام، متى كان صدمها بشدة وسرعة، لأن الهواء عند ذلك يندفع مفاجأة، ويتموج بحركته إلى الجهات الست بسرعة، فيحدث الصوت، ويسمع كما بينا في فصل قبل هذا. والأجسام العظيمة، إذا تصادمت كان صوتها أعظم، لأنها تموج هواء أكثر. وكل جسمين من جوهر واحد، مقدارهما واحد، وشكلهما واحد، نقرا نقرة واحدة معاً، فإن صوتيهما يكونان متساويين، فإن كان أحدهما أجوف، كان صوته أعظم، لأنه يصدم هواء كثيراً داخلاً وخارجاً. والأجسام الملس أصواتها ملساء، لأن السطوح المشتركة التي بينها وبين الهواء ملساء.
والأجسام الخشنة تكون أصواتها خشنة، لأن الشطوح المشتركة بينها وبين الهواء خشنة. والأجسام الصلبة المجوفة كالأواني والطرجهارات؛ والجرار، إذا نقرت طنت زماناً طويلاً، لأن الهواء في جوفها يتردد ويصدمها مرة بعد مرة، وتاروبعد أخرى، إلى أن يسكن، فما كان منها أوسع، كان صوتها أعظم، لأنه يصدم هواء كثيراً داخلاً وخارجاً. والبوقات الطوال كان صوتها أعظم، لأن الهواء المتموج فيها يصدمها في مروره مسافة بعيدة. والحيوانات الكبيرة الرئات، الطويلة الحلاقيم، الواسعة المناخر والأشداق، تكون جهيرة الأصوات، لأنها تستنشق هواء كثيراً وترسله بشدة.
فقد تبين بما ذكرنا أن علة عظم الصوت إنما هي بحسب عظم الأجسام المصوتة وشدة صدمها وكثرة تموج الهواء في الجهات عنها فنقول:إن أعظم الأصوات صوت الرعد وقد بينا علة حدوثه في رسالة الآثار العلوية، ولكن نذكر هنا ما لا بد منه. أما علة حدوثه فهو أن البخارين الصاعدين في الجومن البحار والبراري إذا ارتفعا في الهواء، واختلطا، واحتوى البخار الرطب اليابس الذي هوالدخان، واحتوى الزمهرير على البخارين الرطب واليابس، وحصرهما انضغط البخار اليابس في جوف البخار الرطب والتهب، وطلب الخروج، فدفع البخار الرطب وخرقه، فيقرقع البخار الرطب من حرارة ذلك الدخان اليابس، كما تفرقع الأشياء الرطبة إذا احتوت عليها حرارة النار دفعة واحدة، ويحدث من ذلك قرع في الهواء، ويندفع إلى جميع الجهات، وينقدح من خروج ذلك الدخان اليابس في جوف السحاب ضوء يسمى البرق، كما يحدث من دخان السراج المنطفئ إذا أدني من سراج مشتعل، ثم ينطفئ وربما يذوب من ذلك البخار الرطب شيء من جوف السحاب، ويصير ريحاً، ويدور في خلل السحاب، وجوف الغيوم، ويطلب الخروج، ويسمع له دوي وتقرقر، كما يسمع الإنسان من جوفه، إذا كان يعرض له ريح وانتفاخ، وربما ينشق السحاب دفعة واحدة مفاجأة، فتخرج تلك الريح، ويكون منها صوت هائل يسمى صاعقة. فهذه علة صوت الرعد وكيفية حدوثه. فأما أصوات الرياح وعلة حدوثها فهي أن الرياح ليست شيئاً سوى تموج الهواء شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً وفوقاً وتحتاً، فإذا صدم في حركته وجريانه الجبال والحيطان والأشجار والنبات، وتخللها حدث من ذلك فنون الأصوات والدوي والطنين مختلفة الأنواع، كل ذلك بحسب كبر الأجسام المصدومة وصغرها، وأشكالها وتجويفها، ويطول شرحها.
وأما أصوات المياه في جريانها وتموجها وتصادمها مع الجسام، فإن الهواء، للطافة جوهره وسيلان عنصره، يتخللها كلها، ويكون حدوث تلك الأصوات وفنون أنواعها بحسب تلك الأسباب التي ذكرناها في أمر الرياح. وأما أصوات الحيوانات ذوات الرئة، واختلاف أنواعها وفنون نغماتها، فهي بحسب طول أعناقها وقصرها، وسعة حلاقيمها وتركيب حناجرها، وشدة استنشاقها الهواء وقوة إرسال أنفاسها من أفواهها ومناخرها، يطول شرحها. وأما أصوات الحيوانات التي ليست لها رئة كالزنابير والجراد والصرصر؛ وما شاكلها، فإنها تحرك الهواء بجناحين لهما سرعة وخفة، فيحدث من ذلك أصوات مختلفة كما يحدث من تحريك أوتار العيدان، وتكون فنونها واختلاف أنواعها بحسب لطافة أجنحتها وغلظها وطولها وقصرها وسرعة تحريكها لها. وأما الحيوانات الخرس كالسمك والسرطان والسلاحف وما شاكلها، فهي خرس لأن ليس لها رئة ولا جناحان.
وإن اختلاف تلك الأصوات يكون بحسب شدة يبسها وصلابتها، وكمية مقاديرها من الكبر والصغر والطول والقصر والسعة والضيق؛ وفنون أشكالها من التجويف والتقبيب والثقب وقوة الصدمة وما يعرض فيها من الأسباب كما سنبين ذلك في موضعه.
وأما فنون أصوات الآلت المتخذة للتصويب كالطبول والبوقات والدبادب والدفوف والسرناي والمزامير والعيدان وما شاكلها، فهي بحسب أشكالها وجواهرها التي هي متخذة منها، وكبرها وصغرها وطولها وقصرها وسعة أجوافها وضيق ثقبها ورقة أوتارها وغلظها، وبحسب فنون تحريك المحركين لها.
ونحتاج أن نذكر من هذا الفن طرفاً إذ كان أحد أغراضنا من هذه الرسالة تبيان ماهية الموسيقى الذي هوألحان مؤتلفة ونغمات متزنة، وهوالمسمى الغناء، ولما تبين، بما ذكرنا، أن الغناء إنما هوألحان مؤتلفة، واللحن هونغمات متزنة، والنغمات المتزنة لا تحدث إلا من حركات متواترة بينها سكنات متتالية، احتجنا أن نذكر أولاً ما الحركة وما السكون، فنقول: إن الحركة هي النقلة من مكان إلى مكان في زمان ثان، وضدها السكون وهوالوقوف في المكان الأول في الزمان الثاني.
والحركة نوعان: سريعة وبطيئة، والحركة السريعة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة بعيدة في زمان قصير، و البطيئة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة أقل منها في ذلك الزمان بعينه. والحركتان لا تعدان اثنتين إلا أن يكون بينهما زمان سكون، والسكون هووقوف المتحرك في مكانه الأول زماناً ما كان يمكنه أن يكون متحركاً فيه حركة ما. وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا أن نبينه فنقول الآن: إن الأصوات تنقسم من جهة الكيفية ثمانية أنواع، كل نوعين منها متقابلان من جنس المضاف، فمنها العظيم والصغير والسريع والبطيء والحاد والغليظ والجهير والخفيف. فأما العظيم والصغير من الأصوات فبإضافة بعضها إلى بعض، والمثال في ذلك أصوات الطبول، وذلك أن أصوات طبول المواكب، إذا أضيف إلى أصوات طبول المخانيث، كانت عظيمة، وإذا أضيفت إلى أصوات الكوس كانت صغيرة. وأصوات الكوس إذا أضيفت إلى أصوات الرعد والصواعق كانت صغيرة، والكوس هوطبل عظيم يضرب في ثغور خراسان عند النفير يسمع صوته من فراسخ.
فعلى هذا المثال يعتبر عظم الأصوات وصغرها بإضافة بعضها إلى بعض.وأما السريع والبطيء من الأصوات بإضافة بعضها إلى بعض، فهي التي تكون أزمان سكونات ما بين نقراتها قصيرة بالإضافة إلى غيرها، والمثال في ذلك أصوات كوذينات؛ القصارين ومطارق الحدادين فغنها سريعة بالإضافة إلى أصوات دق الرزازين؛ والجصاصين؛ وهي بطيئة بالإضافة إليها، وأما بالإضافة إلى أصوات مجاذيف الملاحين فهي سريعة. وعلى هذا المثال يعتبر سرعة الأصوات وبطؤها بإضافة بعضها إلى بعض. وأما الحاد والغليظ من الأصوات بعضها إلى بعض فهي كأصوات نقرات الزير؛ وحدته، بالإضافة إلى نقرات المثنى؛ والمثنى إلى المثلث؛ والمثلث إلى البم؛ فإنها تكون حادة. فأما بالعكس فإن صوت البم بالإضافة إلى المثلث، والمثلث إلى المثنى، والمثنى إلى الزير فغليظة. ومن وجه آخر أيضاً فإن صوت كل وتر مطلقاً غليظ بالإضافة إلى مزمومه أي مزموم كان. فعلى هذا القياس تعتبر حدة الأصوات وغلظها بإضافة بعضها إلى بعض. وأما الخفيف والجهير من الأصوات فقد تقدمت إبانتهما عند ذكر علتهما في الفصل الأول. والأصوات تنقسم من جهة الكمية نوعين، متصلة ومنفصلة. فالمتصلة هي التي بين أزمان حركة نقراتها زمان سكون محسوس، مثل نقرات الأوتار وإيقاعات القضبان. وأما المتصلة من الأصوات فهي مثل أصوات المزامير والنايات والدبادب والدواليب والنواعير وما شاكلها.
والأصوات المتصلة تنقسم نوعين: حادة وغليظة، فما كان من النايات والمزامير أوسع تجويفاً وثقباً، كان صوته أغلظ؛ وما كان أضيق تجويفاً وثقباً، كان صوته أحد. ومن جهة اخرى أيضاً ما كان من الثقب إلى موضع النفخ أقرب، كانت نغمته أحد، وما كان أبعد، كان أغلظ.
فصل في امتزاج الأصوات وتنافرها أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أن أصوات الأوتار المتساوية الغلظ والطول والخرق إذا نقرت نقرة واحدة كانت متساوية؛ وإن كانت متساوية في الطول، مختلفة في الغليظ، كانت أصوات الغليظ أغلظ وأصوات الدقيق أحد؛ وإن كانت متساوية في الطول والغلظ، مختلفة في الخرق، كانت أصوات المخروقة حادة، وأصوات المسترخية غليظة؛ وإن كانت متساوية في الغلظ والطول والخرق، مختلفة في النقر، كان أشدها نقراً أعلاها صوتاً.
وأعلم بأن الأصوات الحادة والغليظة متضادان، ولكن إذا كانت على نسبة تأليفية ائتلفت وامتزجت واتحدت، وصارت لحناً موزوناً، واستلذتها المسامع، وفرحت بها الأرواح، وسرت بها النفوس؛ وإن كانت على غير النسبة تنافرت وتباينت، ولم تأتلف ولم تستلذها المسامع، بل تنفر عنها وتشمئز منها النفوس، وتكرهها الأرواح. والأصوات الحادة حارة تسخن مزاج أخلاط الكيموسات؛ الغليظة وتلطفها. والأصوات الغليظة باردة ترطب مزاج أخلاط الكيموسات الحارة اليابسة. والصوات المعتدلة بين الحادة والغليظة تحفظ مزاج أخلاط الكيموسات المعتدل على حالته كيلا يخرج عن الاعتدال. والأصوات العظيمة الهائلة الغير المتناسبة إذ وردت على المسامع دفعة واحدة مفاجأة، أفسدت المزاج وأخرجت عن الاعتدال، وتحدث موت الفجأة، ولها آلة صناعية كان اليونانيون يستعملونها عند الحروب، ويفزعون بها نفوس الأعداء، ويسد النافخون فيها آذانهم عند استعمالها وتحريكها. والأصوات المعتدلة المتزنة المتناسبة تعدل مزاج الأخلاط، وتفرح الطباع، وتستلذ بها الأرواح، وتسر بها النفوس.
فصل في تأثر الأمزجة بالأصوات أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن أمزجة الأبدان كثيرة الفنون، وطباع الحيوانات كثيرة الأنواع، ولكل مزاج وكل طبيعة نغمة تشاكلها، ولحن يلائمها لا يحصي عددها إلا الله عز وجل. والدليل على حقيقة ما قلنا، وصحة ما وصفنا، أنك تجد إذا تأملت لكا أمة من الناس ألحاناً ونغمات يستلذونها ويفرجون بها، لا يستلذها غيرهم ولا يفرح بها سواهم، مثل غناء الديلم والأتراك والأعراب والأرمن والزنج والفرس والروم وغيرهم من الأمم المختلفة الأسن والطباع والأخلاق والعادات. وهكذا أيضاً أنك تجد في الأمة الواحدة من هذه أقواماً يستلذون ألحاناً ونغمات، وتفرح نفوسهم بها، ولا يسر بها من سواهم.
وهكذا ايضاً ربما تجد إنساناً واحداً يستلذ وقتاً ما لحناً ويسره، ووقتاً آخر لا يستلذه بل ربما يكرهه ويتألم منه. وهكذا تجد حكمهم في مأكولاتهم ومشروباتهم وفي مشموماتهم وملبوساتهم وسائر الملاذ والزينة والمحاسن، كل ذلك بحسب تغيرات أمزجة الأخلاط، واختلاف الطبائع، وتركيب الأبدان، والأماكن والأزمان، كما بينا طرفاً من ذلك في رسالة الأخلاق.
فصل في أصول الألحان وقوانينها
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أن لكل أمة من الناس ألحاناً من الغناء وأصواتاً ونغمات لا يشبه بعضها بعضاً ولا يحصي عددها كثرة إلا الله تعالى الذي خلقهم وصورهم وطبعهم على اختلاف أخلاقهم وألسنتهم وألوانهم، ولكن نريد أن نذكر أصول الغناء وقوانين الألحان التي منها يتركب سائرها، وذلك أن الغناء مركب من الألحان، واللحن مركب من النغمات والنغمات مركبة من النقرات والإيقاعات، وأصلها كلها حركات وسكون كما أن الأشعار مركبة من المصاريع، والمصاريع مركبة من المفاعيل، والمفاعيل مركبة من الأسباب والأوتاد والفواصل، وأصلها كلها حروف متحركات وسواكن، كما بينا ذلك في كتاب العروض. وكذلك الأقاويل كلها مركبة من الكلمات، والكلمات من الأسماء والفعال والأدوات، وكلها مركبة من الحروف المتحركات والسواكن، كما بينا في كتاب المنطق. ومن يريد أن ينظر في هذا العلم، فيحتاج أن يرتاض أولاً في علم النحووالعروض مما لا بد منه، وقد ذكرنا في رسالة المنطق ما يحتاج إليه المتعلم والمبتدئ، ونحتاج أن نذكر ها هنا أصل العروض وهوميزان الشعر وقوانينه، إذ كانت قوانين الموسيقى مماثلة لقوانين العروض، فنقول: إن العروض هوميزان الشعر يعرف به المستوي والمزحف؛ وهي ثمانية مقاطع في الشعار العربية وهي هذه: فعولن، مفاعيل، متفاعلن، مستفعلن، فاع لاتن، فاعلين، مفعولات، مفاعلتن. وهذه الثمانية مركبة من ثلاثة أصول وهي: السبب، والوتد، والفاصلة. فالسبب حرفان: واحد متحرك، وآخر ساكن أومتحرك، مثل قولك: هل لم وما شاكلها. والوتد ثلاثة أحرف، اثنان متحركان، وواحد ساكن، مثل قولك: نعم وبلى وأجل وما شاكلها. والفاصلة أربعة أحرف: ثلاثة متحركة، وواحد ساكن، مثل قولك: غلبت فعلت وما شاكلها. وأصل هذه الثلاثة حرف ساكن وحرف متحرك، فهذه قوانين العروض وأصوله.
وأما قوانين الغناء والألحان فهي أيضاً ثلاثة أصول وهي السبب والوتد والفاصلة. فأما السبب فنقرة متحركة يتلوها سكون، مثل قولك: تن تن تن تن، ويكرر دائماً. والوتد نقرتان متحركتان يتلوهما سكون، مثل قولك: تنن تنن تنن تنن، يكرر دائماً. والفاصلة ثلاث نقرات متحركة يتلوها سكون، مثل قولك: تننن تننن تننن تننن. فهذه الثلاثة هي الأصل والقانون في جميع ما يركب منها من النغمات، وما يركب من النغمات في جميع اللغات من الألحان، وما يتركب منها من الغناء في جميع اللغات. فإذا ركبت من هذه الثلاثة الأصول اثنين اثنين كانت منها تسع نغمات ثنائية، وهي هكذا: نقرة ونقرتان مثل قولك: تن تنن، وتكرر دائماً. ومنها نقرتان ونقرة مثل قولك تنن تن، وتكرر دائماً. ومنها نقرة وثلاث نقرات مثل قولك: تن تننن، ويكرر دائماً. ومنها نقرتان ونقرتان مثل قولك: تنن تنن، ويكرر دائماً. ومنها ثلاث نقرات وثلاث نقرات مثل قولك: تننن تننن. ومنها ثلاث نقرات ونقرتان مثل قولك: تننن تنن، ويكرر دائماً. ومنها ثلاث نقرات ونقرة مثل قولك: تننن تن، ويكرر دائماً. ومنها نقرة وسكون قدر نقرة، وهي الأصل والعمود، مثل قولك: تن تن تن تن، ويكرر دائماً. فهذه جملة النغمات الثنائية.
وأما الثلاثية فهي عشرة تركيبات: نقرة ونقرتان، وثلاث نقرات، ونقرتان ونقرة وثلاث نقرات، ونقرة وثلاث نقرات ونقرتان، وثلاث نقرات ونقرة ونقرتان، ونقرتان وثلاث نقرات ونقرة، وثلاث نقرات ونقرتان ونقرة، ونقرة وثلاث نقرات ونقرة، ونقرتان وثلاث نقرات ونقرتان، وثلاث نقرات ونقرة وثلاث نقرات، وثلاث نقرات ونقرتان وثلاث نقرات. فهذه جميع أنواع الإيقاع المركبة من النقرات: ثلاثة منها مفردة، وتسعة ثنائية، وعشرة ثلاثية، فذلك اثنا وعشرون تركيباً.
والذي تركب من هذه في غناء العربية ثمانية أنواع وهي: الثقيل الأول وخفيفه، والثقيل الثاني وخفيفه، والرمل وخفيفه، والهزج وخفيفه، وهذه الثمانية الأجناس هي الأصل ومنها يتفرع سائر أنواع الألحان، وإليها تنسب، كما أن الثمانية مقاطع يتفرع سائر ما في دوائر العرض. فقد تبين بما ذكرنا إن كل صناعة من الرياضيات أربعة أصول، منها يتركب سائرها، وتلك الأربعة أصلها واحد، كما بينا في رسالة الأرثماطيقي كيفية تركيب العدد من الواحد الذي قبل الاثنين؛ وفي رسالة جومطريا بينا بأن النقطة في صناعة الهندسة مماثلة للواحد في صناعة العدد؛ وفي رسالة الاسطرنوميا بينا إن الشمس وأحوالها من بين الكواكب كالواحد في العدد والنقطة في صناعة الهندسة؛ وفي رسالة النسب العددية بينا أن نسبة المساواة أصل وقانون في علم النسب كالواحد في صناعة العدد؛ وفي هذه الرسالة قد بينا أن الحركة كالواحد، والسبب كالاثنين، والوتد كالثلاثة، والفاصلة كالأربعة، وسائر نغمات الألحان والغناء مركبة منها، كما ان سائر الأعداد من الآحاد والعشرات والماين والألوف مركبة من الأربعة والثلاثة والاثنين والواحد؛ وفي رسالة المنطققد بينا أيضاً أن الجوهر كالواحد، والتسع المقولات الأخر كتسعة الآحاد: أربعة منها متقدمة على باقيها، وهي الجوهر والكم والكيف والمضاف، وسائرها مركبة منها. وفي رسالة الهيولى بينا أن الجسم مركب من الجوهر والطول والعرض والعمق، وسائر الأجسام مركبة من الجسم المطلق. وفي رسالة المبادئ بينا أن الباري- جل ثناؤه- نسبته من الموجودات كنسبة الواحد من العدد، والعقل كالاثنين، والنفس كالثلاثة، والهيولى كالأربعة، وسائر الخلائق مركبة من الهيولى والصورة المخترعين من النفس الكلية، والنفس الكلية منبعثة من العقل الكلي، والعقل مبدع بأمر الباري جل ثناؤه، أبدعه الله لا من شيء، وصور فيه جميع الأشياء بالقوة والفعل. وغرضنا من هذه الرسائل كلها أن نبين لأهل كل صناعة وحدانية الباري- جل ثناؤه- من صناعتهم، لتكون أقرب إلى فهمهم، وأبين لحجتهم، وأوضح لبرهانهم، وهكذا فعلنا في سائر الرسائل. ونبين أيضاً كيفية حدوث الموجودات بعضها من بعض، بإذن الله- جل ثناؤه- وحسن عنايته، وإتقان حكمته، ودقة صنعته، فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. ونرجع الآن إلى ما كنا فيه فنقول: إن كا نقرتين من نقرات الأوتار وإيقاعات القضبان فلا بد من أن يكون بينهما زمان سكون طويلاً كان أوقصيراً؛ وإنه إذا تواترت نقرات تلك الأتار وإيقاعات تلك القضبان، تواترت أيضاً سكونات بينهما، ثم لا تخلوأزمان تلك السكونات من أن تكون مساوية لأزمان تلك الحركات، أوتكون أطول منها؛ وإذا كانت أقصر منها فالمتفق عليه بين أهل هذه الصناعة أن زمان الحركة لا يمكن أن يكون أطول من زمان السكون الذي هومن جنسه، فإن كانت أزمان السكونات مساوية لأزمان الحركات في الطول، ولا يمكن أن يقع في تلك الأزمان حركة أخرى، سميت تلك النغمات عند العمود الأول، وهوالخفيف الذي لا يمكن أن يكون أخف منه، لأنه أن وقعت في تلك الأزمان حركة أخرى صارت نغمتها متصلة بنغمة النقرة التي قبلها والتي بعدها، وصار الجميع صوتاً متصلاً؛ وإن كانت أزمان السكزنات طولها بمقدار ما يمكن أن يقع فيها حركة أخرى سميت تلك النغمات العمود الثاني والخفيف الثاني، وإن كانت أزمان تلك السكونات أطول من هذه بمقدار ما يمكن أن يقع فيها حركتان، سميت تلك النغمات الثقيل الأول، وإن كانت تلك الأزمان أطول من هذه بمقدار ما يمكن أن يقع فيها ثلاث حركات سميت تلك النغمات الثقيل الثاني. وهذا الذي ذكرناه ووصفناه على ما يوجبه القياس والقانون، فأما على ما يعرفه أهل هذا الزمان ووصفناه على ما يوجبه القياس والقانون، فأما على ما يعرفه أهل هذا الزمان من المغنين وأصحاب الملاهي من الخفيف والثقيل فهو غير هذا وسنذكره بعد هذا الفصل.
وأعلم يا أخي بأنه إذا زادت أزمان السكونات التي بين النقرات والإيقاعات على هذا المقدار من الطول، خرج من الأصل والقانون والقياس أعني من أن تدركها وتميزها القوة الذائقة السمعية، والعلة في ذلك أن الأصوات لا تمكث في الهواء زماناً طويلاً إلا ريثما تأخذ المسامع حظها من الطنين، ثم تضمحل تلك الأصوات من الهواء الحامل لها المؤدي إلى المسامع، كما بينا في فصل قبل هذا. وهكذا أيضاً طنين الأصوات لا يمكث في المسامع زماناً إلا ريثما تأخذ القوة المتخيلة رسومها.
ثم تضمحل من المسامع تلك الطنينات. وإذا طالت أزمان السكونات بين النقرات والإيقاعات وزادت على المقدار الذي تقدم ذكره، اضمحلت النغمة الأولى وطنينها من المسامع قبل أن ترد النغمة الأخرى، فلا تقدر القوة المفكرة أن تعرف مقدار الزمان الذي بينهما، فتميزهما وتعرف التناسب الذي بينهما، لأن جودة الذوق في المسامع هي معرفة كمية الأزمان التي بين النغمتين، وما بين أزمان السكونات وبين أزمان الحركات من التناسب والمقدار. وعلى هذا المثال يجري حكم سائر المحسوسات والقوى الحاسة المدركة لها. ولك أن القوة الباصرة أيضاً لا تقدر أن تعرف مقدار أبعاد ما بين المرئيات إلا إذا كانت متقاربة في الأماكن، وأما إذا بعد ما بينها من الأماكن كما بعد ما بين المسموعاعت بالأزمان، فلا تقدر القوة الباصرة أن تدركها وتميز البعد ما بينها إلا بآلات هندسية كالذراع والشل والباب والقبضة والأصابع، كما بينا في رسالة الجومطريا. وهكذا إذا بعد ما بين أزمان الحركات بطول أزمان السكونات، فلا تقدر القوة الذائقة السامعة أن تدركها وتعرف بعد ما بينها إلا بآلات رصدية كالطرجهارات؛ والشياهين؛ والاصطرلاب؛ وما شاكلها من آلات الرصد. فأما إن كانت قريبة أدركها السمع وميزها الذوق، كما هومعروف في العروض. فقد تبين بما ذكرناه من العلة في أزمان السكونات التي بين النقرات، أنه إذا زاد طولها على المقدار المذكور خرج من الأصل والقانون. وعلة أخرى أيضاً وهي أن النغمة الواحدة إذا وردت على القوة السامعة لا يمكث فيها صوتها إلى أن يضمحل إلا بمقدار زمان ثلاث نقرات أخرى من أخواتها، بين كل واحدة زمان سكون أحدهما. فتكون جملتها ثمانية أزمان فحسب، مثل هذا الشكل: اه اه اه اه الألف علامة السكون، والهاء علامة المتحرك. وإذ فرغنا من ذكر مقادير أزمان الحركات والسكونات وما بينهما من البعد والتناسب، فنريد أن نذكر أيضاً طرفاً من أمر الآلات المصونة وكيفية صناعتها وإصلاحها، وما التام الكامل منها.
فصل في كيفية صنناعة الآلات وإصلاحها
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الحكماء قد صنعوا آلات وأدوات كثيرة لنغمات الموسيقى وألحان الغناء، مفننة الأشكال، كثيرة الأنواع، مثل الطبول والدفوف والنايات والصنوج والمزامير والسرنايات والصفارات والسلباب والشواشل والعيدان والطنابير والجنك والرباب والمعازف والأراغن والأرمونيقي وما شاكلها من الآلات والدوات المصوتة. ولكن أتم آلة استخرجتها الحكماء، وأحسن ما صنعوها الآلة المسماة بالعود. ونحتاج أن نذكر من كيفية وصنعها وإصلاحها واستعمالها،وكمية نسب ما بين نغمات أوتارها و طولها وغلظها ورقتها نقراتها، طرفاً شبه المدخل والمقدمات ليكون تنبيهاً لنفوس الطالبين للعلوم الفلسفية، والناظرين في الآداب الرياضية؛ ونبين لهم دقائق الحكمة وأسرار الصنائع التي هي كلها دلالة على الصانع الحكيم الذي هوالباري- تبارك وجل ثناؤه-وهوالذي خلق الصناع وألهمهم الصنائع الأول والحكم والعلوم والمعارف، والله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين.
ولكن نبدأ أولاً بذكر ما قال أهل هذه الصناعة، فإنه قد قيل: استعينوا في كل صناعة بأهلها، فنقول: إن أهل هذه الصناعة قالوا: ينبغي أن تتخذ الآلة التي تسمى العود خشباً طوله وعرضه وعمقه يكون على النسبة الشريفة، وهي أن طوله مثل عرضه ومثل نصفه، ويكون عمقه مثل نصف العرض، وعنق العود مثل ربع الطول، وتكون ألواحه رقاقاً متخذة من خشب خفيف، ويكون الوجه رقيقاً من خشب صلب خفيف يطن إذا نقر. ثم يتخذ أربعة أوتار بعضها أغلظ من بعض على النسبة الأفضل، وهوأن يكون غلظ البم مثل غلظ المثلث ومثل ثلثه، وغلظ المثلث مثل غلظ المثنى ومثل ثلثه، وغلظ المثنى مثل غلظ الزير ومثل ثلثه، وهوأن يكون البم أربعاً وستين طاقة إبريسم؛ والمثلث ثمانياً وأربعين طاقة، والمثنى ستاً وثلاثين طاقة، والزير سبعاً وعشرين طاقة إبريسم. ثم تمد هذه الأوتار الأربعة على وجه العود مشدودة أسفالها في المشط، ورؤوسها في الملاوي فوق عنق العود، فعند ذلك تكون أطوالها متساوية، وهي في دقتها وغلظها مختلفة على هذه النسبة:" سد مح لوكز" ثم يقسم طول الوتر الواحد بأربعة أقسام متساوية، ويشد دستان؛ الخنصر عند الثلاثة الأرباع مما يلي عنق العود، ثم يقسم طول الوتر من الرأس بتسعة أقسام متساوية، ويشد دستان السبابة على التسع مما يلي عنق العود؛ ثم يقسم طول الوتر عند دستان السبابة إلى المشط بتسعة أقسام متساوية، ويشد دستان البنصر على التسع منه، فإنه يقع فوق دستان الخنصر مما يلي دستان السبابة.
ثم يقسم طول الوتر عند دستان الخنصر مما يلي المشط بثمانية أقسام، ويزاد عليها هذا الدستان أعني دستان الوسطى يشد بحيال نقطة من الوتر بينها وبين دستان الخنصر ثمن ما بين الخنصر إلى المشط، فيصير نسبة نغممة الوسطى هذه إلى نغمة الخنصر مثلها، فما بقي من الوتر فوق. ويشد عند ذلك دستان الوسطى، فإنه يقع فيما بين دستان السبابة والبنصر. فهذا هوإصلاح العود ونسب الأوتار ومواضع الدساتين.
فأما كيفية إصلاح النغم ومعرفة ما يكون بينها من النسب، فهو أن يمد الزير ويحزق؛ بحسب ما يحتمل أن لا ينقطع؛ ثم يمد المثنى فوق الزير ويحزق ثم يزم بالخنصر وينقر مع مطلق الزير، فإذا سمعت نغمتاهما متساويتين فقد استويا، وإلا يزاد في حزق المثنى وإرخائه حتى يستويا. ثم يمد المثلث ويحزق ويزم بالخنصر، وينقر مع مطلق المثنى حتى تسمع نغمتاهما متساويتين، وإلا يزاد في الحزق والإرخاء حتى يستويا ويسمع نغمتاهما كأنهما نغمة واحدة. ثم يمد المثلث ويحزق ويزم بالخنصر، وينقر مع مطلق المثنى حتى يسمع نغمتاهما متساويتين كانهما نغمة واحدة. ثم يمد البم ويحزق ويزم بالخنصر، وينقر مع مطلق المثلث، فإذا سمعت نغمتاهما متساويتين كأنهما نغمة واحدة، فقد استويا. وإذا استوت هذه الأوتار على هذا الوصف وجدت نغمة مطلق كل وتر بالإضافة إلى نغمة مزمومة بالخنصر مثله ومثل ثلثه في الغلظ والثقل؛ ويوجد أيضاً نغمة كل وتر مزموم بالخنصر مثل نغمة الوتر الذي تحته مطبقاً بالسواء، وأيضاً نغمة مطلق كل وتر مثل نغمة مزمومة بالسبابة ومثل ثلثه سواء؛ ويوجد أيضاً نغمة مطلق كل وتر ضعف نغمة الوتر الذي تحته وهوالثالث منه مزموماً بالسبابة؛ ويوجد أيضاً نغمة سبابة كل وتر منه مثل نغمة بنصره ومثل ثمنه سواء؛ ويوجد أيضاً نغمة وسطى كل وتر مثل نغمة خنصره ومثل ثمنه سواء. وبالجملة ما من وتر ولا دستان من هذه الأوتار والدساتين إلا ولنغماتها نسبة بعضها إلى بعض. ولكن منها ما هي فاضلة شريفة، ومنها ما دون ذلك. فمن النسب الفاضلة الشريفة أن تكون النغمة مثل الأخرى سواء، وتكون النغمة الغليظة مثل الحادة ومثل ثلثها ومثل نصفها، أومثلها ومثل ربعها، اومثلها ومثل ثمنها. فإذا استوت هذه الأوتار على هذه النسب الفاضلة وحركت حركات كتواترة متناسبة حدث عند ذلك منها نغمات متواترة متناسبة، حادات خفيفات، وثقيلات غليظات. فإذا ألفت ضروباً من التأليفات كما تقدم ذكرها في فصل قبل هذا، وصارت النغمات الغليظات الثقال للنغمات الحادات الخفاف كالأجساد وهي لها كالأرواح، واتحد بعضها ببعض، وامتزجت وصارت ألحاناً وغناءً، كانت نقرات تلك الأوتار عند ذلك بمنزلة الأقلام، والنغمات الحادات منها بمنزلة الحروف، والحان بمنزلة الكلمات، والغناء بمنزلة الأقاويل، والهواء الحامل لها بمنزلة القراطيس، والمعاني المتضمنة في تلك النغمات والألحان بمنزلة الأرواح المستودعة في الأجساد. فإذا وصلت المعاني المتضمنة في تلك النغمات والألحان إلى المسامع، استلذت بها الطباع، وفرحت فيها الأرواح، وسرت بها النفوس؛ لأن تلك الحركات والسكونات التي تكون بينها تصير عند ذلك مكيالاً للأزمان وأذرعاً لها، ومحاكية لحركات الأشخاص الفلكية، كما أن حركات الكواكب والأفلاك المتصلات المتناسبات هي أيضاً مكيال للدهور وأذرع لها. فإذا كيل بها الزمان كيلاً متساوياً متناسباً معتدلاً، كانت نغماتها مماثلة لنغمات حركات الأفلاك والكواكب، ومناسبة لها؛ فعند ذلك تذكرت النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد سرور عالم الفلاك ولذات النفوس التي هناك، وعلمت وتبين لها بأنها في أحسن الأحوال وأطيب اللذات وأدوم السرور، لأن تلك النغمات هي أصفى، وتلك الألحان أطيب، لأن تلك الأجسام أحسن تركيباً، وأجود هنداماً، واصفى جوهراً، وحركاتها أحسن نظاماً، ومناسباتها أجود تأليفاً. فإذا علمت النفس الجزئية التي في عالم الكون والفساد أحوال عالم الأفلاك، وتيقنت حقيقة ما وصفنا، تشوقت عند ذلك إلى الصعود إلى هناك، واللحوق بأبناء جنسها من النفوس الناجية في الأزمان الماضية، من الأمم الخالية. فإن قال قائل إن الفلك طبيعة خامسة لا يجوز أن يكون لأجسامه نغمات وأصوات، فليعلم هذا القائل إن الفلك وإن كانت طبيعته خامسة، فليس بمخالف لهذه الأجسام في كل الصفات، وذلك أن منها ما هومضيء مثل النار، وهي الكواكب، ومنها ما هومشف كالبلور، وهي الأفلاك، ومنها ما هوصقيل كوجه المرآة، وهوجرم القمر؛ ومنها ما هويقبل النور والظلمة مثل الهواء، وهوفلك القمر وفلك عطارد. وبيان ذلك أن ظل الأرض يبلغ مخروطه إلى فلك عطارد؛ وهذه كلها أوصاف للأجسام الطبيعية، والأجسام الفلكية تشاركها فيها. فقد تبين أن الفلك، وإن كانت طبيعته خامسة، فليس بمخالف للأجسام الطبيعية في كل الصفات، بل في بعضها
دون بعض، وذلك أنها ليست بحارة ولا باردة ولا رطبة بل يابسة صلبة أشد صلابة من الياقوت، وأصفى من الهواء، واشف من البلور، وأصقل من وجه المرآة، وأنها يماس بعضها بعضاً، وتصطك وتحتك، وتطن كما يطن الحديد والنحاس، وتكون نغماتها متناسبات مؤتلفات، وألحانها موزونات، كما بينا مثالها في نغمات أوتار العيدان ومناسباتها.
فصل في أن لحركات الأفلاك نغمات كنغمات العيدان
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أنه لولم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات ولا نغمات، لم يكن لأهلها فائدة من القوة السامعة الموجودة فيهم. فإن لم يكن لهم سمع فهم صم بكم عمي، وهذه حال الجمادات الجامدات الناقصات الوجود. وقد قام الدليل وصح البرهان بطريق المنطق الفلسفي أن أهل السموات وسكان الأفلاك هم ملائكة الله وخالص عباده، يسمعون ويبصرون ويعقلون ويقرأون ويسبحون الليل والنهار لا يفترون. وتسبيحهم ألحان أطيب من قراءة داود للزبور في المحراب، ونغمات ألذ من نغمات أوتار العيدان الفصيحة في الإيوان العالي؛ فإن قال قائل: فإنهم ينبغي أن يكون لهم أيضاً شم وذوق ولمس، فليعلم هذا القائل بأن الشم والذوق واللمس إنما جعل للحيوان الآكل للطعام، والشارب للشراب، ليميز بها النافع من الضار، ويحرز جثته عن الحر والبرد المفرطين المهلكين لجثته، فأما أهل السموات وسكان الأفلاك فقد كفوا هذه الأشياء، وهم غير محتاجين إلى أكل الطعام والشراب بل غذاؤهم التسبيح، وشرابهم التهليل، وفاكهتهم الفكر والروية والعلم والشعور والمعرفة والإحساس واللذة والفرح والسرور والراحة. فقد تبين بما ذكرنا أن لحركات الأفلاك والكواكب نغمات وألحاناً طيبة لذيذة مفرحة لنفوس أهلها، وإن تلك النغمات والألحان تذكر النفوس البسيطة التي هناك سرور عالم الأرواح التي فوق الفلك التي جواهرها أشرف من جواهر عالم الأفلاك، وهوعالم النفوس، ودار الحياة التي نعيمها كلها روح وريحان في درجات الجنان، كما ذكر الله تعالى في القرآن. والدليل على صحة ما قلنا، والبرهان على حقيقة ما وصفنا، أن النغمات حركات الموسيقار تذكر النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد سرور عالم الأفلاك، كما تذكر نغمات حركات الأفلاك والكواكب النفوس التي هي هناك سرور عالم الأرواح؛ وهي النتيجة التي أنتجت من المقدمات المقرر بها عند الحكماء، وهي قولهم إن الموجودات المعلولات الثواني تحاكي أحوالها أحوال الموجودات الأولى التي هي علل لها، فهذه مقدمة واحدة؛ والأخرى قولهم إن الأشخاص الفلكية علل أوائل لهذه الأشخاص التي في عالم الكون والفساد، وإن حركاتها علة لحركات هذه، وحركات هذه تحاكي حركاتها، فوجب أن تكون نغمات هذه تحاكي نغماتها. والمثال في ذلك حركات الصبيان في لعبهم، فإنهم يحاكون أفعال الآباء والأمهات، وهكذا التلامذة والمتعلمون يحاكون في أفعالهم وصنائعهم أفعال الأستاذين والمعلمين وأحوالهم. وإن أكثر العقلاء يعلمون بأن الأشخاص الفلكية وحركاتها المنتظمة متقدمة الوجود على الحيوانات التي تحت فلك القمر، وحركاتها علة لحركات هذه؛ وعالم النفوس متقدم الوجود على عالم الأجسام، كما بينا في رسالة الهيولى ورسالة المبادئ العقلية.
فلما وجد في عالم الكون حركات منتظمة، لها نغمات متناسبة، دلت على أن في عالم الأفلاك، لتلك الحركات المنتظمة المتصلة، نغمات متناسبة مفرحة لنفوسها، ومشوقة لها إلى ما فوقها، كما يوجد في طباع الصبيان اشتياق إلى أحوال الآباء والأمهات، وفي طباع التلامذة والمتعلمين اشتياق إلى أحوال الأستاذين، وفي طباع العامة اشتياق إلى أحوال الملوك، وفي طباع العقلاء اشتياق إلى أحوال الملائكة والتشبه بهم، كما ذكر في حد الفلسفة إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسية.
ويقال إن فيثاغورس الحكيم سمع بصفاء جوهر نفسه وذكاء قلبه نغمات حركات الأفلاك والكواكب، فاستخرج بجودة فطرية أصول الموسيقى ونغمات الألحان، وهوأول من تكلم في هذا العلم، وأخبر عن هذا السر من الحكماء؛ ثم بعده نيقوماخس وبطليموس وأقليدس وغيرهم من الحكماء. وهذا كان غرض الحكماء من استعمالهم الألحان الموسيقية ونغم الأوتار في الهياكل وبيوت العبادات، عند القرابين في سنن النواميس الإلهية، وخاصة الألحان المحزنة المرققة للقلوب القاسية، المذكرة للنفوس الساهية والأرواح اللاهية الغافلة عن سرور عالمها الروحاني ومحلها النوراني، ودارها الحيوانية. وكانوا يلحنون مع نقرات تلك الأوتار كلمات وأبياتاً موزونة قد ألفت في هذا المعنى ووصف فيها نعيم عالم الأرواح ولذات أهله وسرورهم، كما يقرأ غزاة المسلمين عند النفير آيات من القرآن أنزلت في هذا المعنى لترقق القلوب، وتشوق النفوس إلى عالم الأرواح ونعيم الجنان، مثل قوله تعالى:" إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن اوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به." وأخوات هذه الآيات من القرآن؛ وكما ينشد غزاة المسلمين عند اللقاء أيضاً أوالحملة على الهيجاء ما قيل من أبيات الشعر في وصف الحور العين ونعيم الجنان مما يشوق النفوس إلى هناك، أويشجع على الإقدام، بالعربية والفارسية، نحوقول الشاعر: أبت لي عفتـي وأبـى بـلائيوأخذي الحمد بالثمن الـربـيحوإقدامي على المكروه نفسـي،وضربي هامة البطل المشيح؛وقولي كلما جشأت وجاشـت:مكانك تحمدي أوتستـريحـيلأدفع عن مآثر صـالـحـات،وأحمي بعد عن عرض صحيح وقول الشارعر الفارسي: بيا تادل وجان بخد أوند سبـاريمأندوه درم وغم دينـارنـه داريمجانرازبي دين وديانت بفروشـيموأين عمر فنار ابره غزوكذاريم فأما الأشعار التي كان الحكماء الإلهيون يلحنونها عند استعمالهم الموسيقى في الهياكل وبيوت العبادات، لترقيق القلوب القاسية، وتنبيه النفوس الساهية من نومة الغفلة، والأرواح اللاهية في رقدة الجهالة، ولتشويقها إلى عالمها الروحاني ومحلها النوراني، ودارها الحيوانية؛ ولإخراجها من عالم الكون والفساد،ولتخليصها من غرق بحر الهيولى، ونجاتها من أسر الطبيعة، فهي ما هذه معانيها: " يا أيتها النفوس الغائصة في بحر الأجسام المدلهمة، ويا أيتها الأرواح الغريقة في ظلمات الأجرام ذوات الثلاثة الأبعاد، الساهية عن ذكر المعاد، المنحرفة عن سبيل الرشاد، اذكروا عهد الميثاقإذ قال لكم الحق:" ألست بربكم، قلتم بلى شهدنا" أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين." أوتقولوا:" إنمارأشرك آباؤنا الجسمانيون من قبل، وكنا ذرية من بعدهم جرمانيين في دار الغرور.
وضنك القبور. اذكروا عالمكم الروحاني وداركم الحيوانية ومحلكم النوراني، وتشوقوا إلى آبائكم وأمهاتكم وإخوانكم الروحانيين، الذين هم في أعلى عليين، الذين هم من أوساخ الأجرام مبرؤون، وعن ملابسة الأجسام الطبيعية منزهون. بادروا وارحلوا من دار الفناء إلى دار البقاء قبل أن يبادر بكم إلى هناك مكرهين مجبورين، غير مستعدين، نادمين خاسرين".
ففي مثل هذه الأوصاف وما شاكل هذه المعاني، كانت الحكماء تلحن مع نغمات الموسيقى في الهياكل وبيوت العبادات. فقد تبين إذاً بما ذكرنا طرف من غرض الحكماء في استعمالهم الموسيقى واستخراجاتهم أصول ألحانهوتركيب نغماته. وأما علة تحريم الموسيقى في بعض شرائع الأنبياء- عليهم السلام- فهو من أجل استعمال الناس لها على غير السبيل التي استعملها الحكماء، بل على سبيل اللهوواللعب، والترغيب في شهوات لذات الدنيا، والغرور بأمانيها. والأبيات التي تنشد مشاكلة لها مثل قول قائل: خذوا بنصيب من نعيم ولـذة،فكل، وإن طال المدى يتصرم وقول القائل: ما جاءنا أحد يخـبـر إنـهفي جنة مذ مات، أوفي نار
وأعلم بأن مثل هذه الأبيات إذا سمعها أكثر الناس ظنوا وتوهموا أنه ليست لذة ولا نعيم ولا فرح ولا سرور غير هذه المحسوسات التي يشاهدونها، وإن الذي أخبرت به الأنبياء- عليهم السلام- من نعيم الجنات ولذات أهلها باطل؛ والذي أخبرت به الحكماء من سرور عالم الأرواح وفضله وشرفه كذب وزور ليست له حقيقة، فيقعون في شكوك وحيرة. وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- إنك إنلم تؤمن للأنبياء- عليهم السلام- بما أخبروك عنه من نعيم الجنان ولذات أهلها، ولم تصدق الحكماء بما عرفوك من سرور عالم الأرواح، ورضيت بما تخيل لمك الأوهام الكاذبة والظنون الفاسدة، بقيت متحيراً شاكاً ضالاً مضلاً.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن غرض الأنبياء- عليهم السلام- في وضعهم النواميس والشرائع، وغرض الحكماء في وضع السياسات ليس هوإصلاح أمور الدنيا فحسب، بل غرضهم جميعاً في ذلك إصلاح الدين والدنيا جميعاً. فأما غرضهم الأقصى فهو نجاة النفوس من محن الدنيا وشقاوة أهلها، وإيصالها إلى ميعاد الآخرة ونعيم أهلها.
ونرجع الآن إلى ما كنا فيه فنقول: إنه إذا وصلت معاني النغمات والألحان إلى أفكار النفوس، بطريق السمع، وتصورت فيها رسوم تلك المعاني التي كانت مستودعة في تلك الألحان والنغمات، استغني عن وجودها في الهواء كما يستغني عن المكتوب في الألواح إذا فهم وحفظ ما كان فيها مكتوباً من المعاني، وهكذا يكون حكم النفوس الجزئية إذا ما هي تمت وكملت، وبلغت إلى أقصى مدى غاياتها مع هذه الأجسام، فعند ذلك هدمت أجسامها إما بموت طبيعي أوعرضي، أوبقربان في سبيل الله تعالى، واستخرجت تلك النفوس من الأجسام كما يستخرج الدر من الصدف، والجنين من الرحم، والحب من الأكمام، والثمرة من القشرة، واستؤنف بها أمر آخر، كما يستأنف بالدر أمر آخر إذا رمي بالصدف وحصل الدر، وهكذا حكم الثمار والحب إذا أدركت ونضجت، فليس إلا الصرام؛ والحصاد والرمي بقشورها، وتحصيل لبها، ويستأنف بها حكم آخر. وهذا حكم النفوس بعد مفارقة الأجسام يراد بها أمر آخر، كما ذكر الله تعالى:" أفرأيتم ما تمنون، أأنتم تخلقونه، أم نحن الخالقون، نحن قدرنا بينكم الموت، وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون". هكذا أيضاً حكم نفوس الحيوانات بعد الذبح يستأنف بها أمر آخر، فلا تقدر يا أخي بأن غرض واضعي النواميس في تحليل ذبح البهائم في الهياكل عند القرابين إنما هولأكل لحومها حسب، بل غرضهم تخليص نفوسها من دركات جهنم عالم الكون والفساد، ونقلها من حال النقص إلى حال التمام والكمال في الصورة الإنسانية التي هي أتم وأكمل صورة تحت فلك القمر؛ وهذه الصورة هي آخر باب في جهنم عالم الكون والفساد، كما بينا في رسالة حكمة الموت. فانظر الآن يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- وتفكر وأعلم بأن جسمك صدف ونفسك درة ثمينة، لا تغفل عنها فإن لها قيمة عظيمة عند بارئها وخالقها، وقد بلغت آخر باب في جهنم، فإن بادرت وتزودت وسعيت وخرجت من هذا الباب الذي ظاهره من قلبه العذاب، ودخلت من الباب الذي باطنه فيه الرحمة، ساجداً في صورة الملائكة، فقد أفلحت وفزت ونجوت.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه-أن صورة الملائكة هي التي توفي نفسك عند مفارقة الجسد، كما ذكر الله تعالى بقوله:" قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم، ثم إلى ربكم ترجعون." وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن ملك الموت هوقابلة الأرواح وداية النفوس، كما أن الداية للأجسام هي قابلة الأطفال.
وأعلم يا أخي بأن لكل نفس من المؤمنين أبوين في عالم الأرواح، كما أن لأجسادهم أبوين في عالم الأجساد، كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعي، رضي الله عنه: أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة. قال الله تعالى:" ملة أبيكم إبراهيم، هوسماكم المسلمين." وهذه الأبوة روحانية لا جسمانية. فنرجع إلى ما كنا فيه فنقول: إن الحكماء الموسيقاريين إنما اقتصروا من أوتار العود على أربعة لا أقل ولا أكثر، لتكون مصنوعاتهم مماثلة للأمور الطبيعية التي دون فلك القمر، اقتداء بحكمة الباري- جل ثناؤه- كما بينا في رسالة الأرثماطيقي، فوتر الزير مماثل لركن النار،
ونغمته مناسبة لحرارتها وحدتها؛ والمثنى مماثل لركن الهواء، ونغمته مناسبة لرطوبة الهواء ولينه؛ والمثلث مماثل لركن الماء، ونغمته مناسبة لرطوبة الماء وبرودته؛ والبم مماثل لركن الأرض، ونغمته مماثلة لثقل الأرض وغلظها. وهذه الأوصاف لها بحسب مناسبة بعضها إلى بعض، وبحسب تأثيرات نغماتها في أمزجة طباع المستمعين لها، وذلك أن نغمة الزير تقوي خلط الصفراء، وتزيد في قوتها وتأثيرها، وتضاد خلط البلغموتلطفه؛ ونغمة المثنى تقوي خلط الدم، وتزيد في قوته وتأثيره، وتضاد خلط السوداء وترققه وتلسنه؛ ونغمة المثلث تقوي خلط البلغم، وتزيد في قوته وتأثيره، وتضاد خلط الصفراء، وتكسر حدتها؛ ونغمة البم تقوي خلط السوداء، و تزيد في قوتها وتأثيرها، وتضاد خلط الدم، وتسكن فورانه. فإذا ألفت هذه النغمات في الألحان المشاكلة لها، و استعملت تلك الألحان في أوقات الليل والنهار المضادة طبيعتها طبيعة الأمراض الغالبة والعلل العارضة، سكنتها وكسرتسورتها، وخففت على المرضى آلامها، لأن الأشياء المتشاكلة في الطباع إذا كثرت واجتمعت، قويت أفعالها وظهرت تأثيراتها، وغلبت أضدادها، كما يعرف الناس مثل ذلك في الحروب والخصومات.
فقد تبين بما ذكرنا طرف من حمة الحكماء الموسيقيين المستعملين لها في المارستانات في الأوقات المضادة لطبيعة الأمراض والأغراض والأعلال. وهم اقتصروا على أربعة أوتار لا أكثر ولا أقل. فأما العلة التي من أجلها جعلوا غلظ كل وتر مثل غلظ الذي تحته ومثل ثلثه، فذلك منهم أيضاً اقتداء بحكمة الباري- جل ثناؤه- وأتباع لآثار صنعه في المصنوعات الطبيعية، وذلك أن الحكماء الطبيعيين ذكروا أن أقطار أكر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، كل واحد منها مثل الذي تحته ومثل ثلثه في الكيفية، أعني في اللطافة والغلظ، فقالوا أن قطر كرة الأثير، أعني كرة النار التي دون فلك القمر، مثل قطر كرة الزمهرير ومثل ثلثها؛ وقطر كرة الزمهرير مثل قطر كرة النسيم ومثل ثلثها؛ وقطر كرة النسيم مثل قطر كرة الماء ومثل ثلثها؛ وقطر كرة الماء مثل قطر كرة الأرض ومثل ثلثها. ومعنى هذه النسبة أن جوهر النار في اللطافة مثل جوهر الهواء ومثل ثلثه؛ وجوهر الماء في اللطافة مثل جوهر الماء ومثل ثلثه؛ وجوهر الماء في اللطافة مثل جوهر الأرض ومثل ثلثها. وأما علة شدهم الزير الذي هومماثل لركن النار ونغمته مماثلة لحرارة النار وحدتها، تحت الأوتار كلها؛ وشدهم البم المماثل لركن الأرض فوقها كلها، والمثنى مما يلي الزير، والمثلث مما يلي البم، فهي أيضاً لعلتين اثنتين، إحداهما أن نغمة الزير حادة خفيفة تتحرك علواً، ونغمة البم غليظة ثقيلة تتحرك إلى أسفل، فيكون ذلك أمكن لمزاجهما واتحادهما. وكذلك حال المثنى والمثلث.
والعلة الأخرى أن نسبة غلظ الزير إلى غلظ المثنى، والمثنى إلى المثلث، والمثلث إلى البم كنسبة قطر الأرض إلى قطر كرة النسيم، وكرة النسيم إلى كرة الزمهرير، والزمهرير إلى الأثير؛ فهذا كان سبب شدهم لها على هذا الترتيب. وأما استعمالهم نسبة الثمن في نغمة الأوتار دون الخمس والسدس والسبع، وتفضيلهم إياها، فمن أجل إنها مشتقة من الثمانية. والثمانية هي أول عدد مكعب؛ وأيضاً فإن الستة لما كانت أول عدد تام، وكانت الأشكال ذوات السطوح الستة أفضلها، والمقدم عليها هوالمكعب، لما فيه من التساوي، كما بينا في رسالة الجومطريا، وذلك أن طول هذا الشكل وعرضه وعمقه كلها متساوية، وله ستة سطوح مربعات كلها متساويات؛ وله ثماني زوايا مجسمة كلها متساوية؛ وله اثنا عشر ضلعاً متوازية متساوية؛ وله أربع وعشرون زاوية قائمة متساوية، وهي من ضرب ثلاثة في ثمانية. وقد قلنا إن كل مصنوع كان التساوي فيه أكثر فهو أفضل، وليس بعد الشكل الكري شكل أكثر تساوياً من الشكل المكعب، فمن أجل هذا قيل في كتاب أقليدس في المقالة الأخيرة إن شكل الأرض بالمكعب أشبه؛ وشكل الفلك بذي اثنتي عشرة قاعدة مخمسات أشبه.
وقد بينا في رسالة الاسطرنوميا فضيلة الشكل الكري والعدد الاثني عشر. ومن فضله الثمانية ما ذكره الحكماء الرياضيون بأن بين أقطار أكر الأفلاك وبين قطر الأرض والهواء نسبة موسيقية؛ وبيان ذلك أنه إذا كان نصف قطر الأرض ثمانية، وكان نصف قطر كرة الهواء تسعة، فإن قطر كرة فلك القمر اثنا عشر؛ وقطر فلك عطارد ثلاثة عشر؛ وقطر فلك الزهرة ستة عشر؛ وقطر فلك الشمس ثمانية عشر؛ وقطر فلك المريخ واحد وعشرون ونصف؛ وقطر فلك المشتري أربعة وعشرون؛ وقطر فلك زحل سبعة وعشرون وأربعة أسباع؛ وقطر فلك الكواكب الثابتة اثنان وثلاثون. فنسبة قطر فلك القمر من قطر الأرض مثله وثلث، ومن قطر الهواء المثل و الربع؛ ونسبة قطر الزهرة من قطر الأرض نسبة الضعف، ومن قطر القمر المثل والثلث؛ ونسبة قطر الشمس من قطر الهواء الضعف، ومن قطر الأرض الضعفان والربع، ومن قطر القمر المثل والنصف؛ ونسبة قطر المشتري من قطر القمر الضعف؛ ومن قطر الأرض الثلاثة الأضعاف، ومن الزهرة المثل والنصف؛ ونسبة قطر فلك الكواكب الثابتة من قطر المشتري المثل والربع، ومن الزهرة الضعف، ومن الشمس المثل والثلاثة الأرباع، ومن القمر الضعفان والثلاثة الأرباع، ومن الأرض أربعة أضعاف. وأما عطارد والمريخ وزحل فغير هذه النسبة، فمن أجل هذا قيل إنها نحوس. وذكر هؤلاء الحكماء أيضاً أن بين عظم أجرام هذه الكواكب بعضها لبعض نسباً شتى، إما هندسية وإما موسيقية، وهكذا بينها وبين جرم الأرض هذه النسب أيضاً موجودة، ولكن منها شريفة فاضلة، ومنها دون ذلك يطول شرحها.
فقد تبين بما ذكرنا أن جملة جسم العالم بجميع أفلاكه وأشخاص كواكبه وأركانها الأربعة وتركيب بعضها جوف بعض، مركبة ومؤلفة ومصنوعة وموضوعة بعضها من بعض على هذه النسب المذكورة المقدم ذكرها؛ وأن جملة جسم العالم يجري مجرى جسم حيوان واحد، وإنسان واحد، ومدينة واحدة، وأن مدبرها ومصورها ومركبها ومؤلفها ومبدعها ومخترعها واحد لا شريك له؛ وهذا كان أحد أغراضنا في هذه الرسالة. ومن فضيلة الثمانية أيضاً أنك إذا تأملت يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- وتصفحت الموجودات وعنصر الكائنات الفاسدات، وجدت موجودات كثيرة مثمنات كطبائع الأركان: الحار الرطب والبارد الرطب والحار اليابس ثمانية، وهي أصل الموجودات الطبيعية، وعنصر الكائنات الفاسدات. وأيضاً من فضيلة الثمانية أنك تجد مناظرات الكواكب إلى ثمانية مواضع في الفلك مخصوصة دون غيرها، وهي المركز والمقابلة والتثليثات و التربيعات والتسديسات؛ وهذه الثمانية هي أيضاً أحد أسباب الكائنات الفاسدات التي دون فلك القمر. وإذا تأملت أيضاً واعتبرت وجدت الثمانية والعشرين حرفاً التي في اللغة العربية المماثلة لثمان وعشرين منزلة من منازل القمر، هجاؤها ثمانية أحرف، وهي" ا ل ف ي م ن د و"؛ ومفاعيل أشعار العرب ايضاً ثمانية أجزاء، و هي أجزاء العروض؛ وأجناس ألحان غنائهم أيضاً ثمانية، كما سنبين في فصل آخر.وقد قيل إن للجنان ثماني مراتب، وحملة العرش ثمانية، والنيران سبعة أبواب، وقد بينا في رسالة البعث والقيامة حقيقتها. وعلى هذا القياس يا أخي، إذا تأملت الموجودات، وتصفحت أحوال الكائنات، وجدت أشياء كثيرة ثنائيات وثلاثيات ورباعيات وخماسيات وسداسيات وسباعيات وثمانيات ومتسعات ومعشرات، وما زاد على ذلك بالغاً ما بلغ. وإنما أردنا بذكر المثمنات أن ننبهك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ولتعلم أن المسبعة الذين قد شغفوا بذكر المسبعات وتفضيلها على غيرها إنما كان نظرهم جزئياً وكلامهم غير كلي؛ وكذلك حكم الثنوية في المثنويات، والنصارى في تثليثهم، والطبيعيين في مربعاتهم، والحزمية في مخمساتهم،والهند في مسدساتهم، والكيالية في متسعاتهم، وليس هذا مذهب إخواننا الكرامذ أيدهم الله وإيانا بروح منه- حيث كانوا في البلاد، بل نظرهم كلي وبحثهم عمومي وعلمهم جامع ومعرفتهم شاملة ولنعد الآن إلى ما كنا فيه فنقول: قد تبين إذاً بما ذكرنا طرف من صفة العود و كمية أوتاره، وتناسب ما بين غلاظها ودقاقها، وكمية دساتينها، وكيفي شدها، وما بينها من التناسب، و كمية نغمات نقرات أوتاره مطلقاً ومزموماً، وما بينها من التناسب. فإن أحكمك المصنوعات وأتقن المركبات وأحسن المؤلفات ما كان تأليف أجزائه وهيئة تركيبه على النسبة الأفضل، ومن أجل هذا صارت الألحان تستلذها اكثر المسامع، وتستحسن صفتها واستعمالها أكثر العقول، ويغنى بها في مجالس الملوك والرؤوساء.
فصل في أن إحكام الكلام صنعة من الصنائع
ومن المصنوعات المحكمة المتقنة أيضاً صنعة الكلام والأقاويل، وذلك أم أحكم الكلام ما كان أبين و أبلغ؛ وأتقن البلاغات ما كان أفصح؛ وأحسن الفصاحة ما كان موزوناً مقفى؛ وألذ الموزونات من الشعار ما كان غير منزحف، والذي غير منزحف من الأشعار هوالذي حروفه الساكنة وأزمانها مناسبة لحروف متحركاتها وأزمانها، والمثال في ذلك الطويل والمديد والبسيط؛ فإن كل واحد منها مركب من ثمانية مقاطع، وهي هذه: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن. وهذه الثمانية مركبة من اثني عشر سبباً وثمانية أوتاد، جملتها ثمانية وأربعون حرفاً، عشرون منها سواكن، وثمانية وعشرون حرفاً متحركات. والمصراع منه أربعة وعشرون حرفاً، عشرة سواكن وأربعة عشر متحركات. ونصف المصراع الذي هوربع البيت اثنا عشر حرفاً، خمسومنها سواكن، وسبعة متحركات. ونسبة سواكن حروف ربعه إلى متحركاته كنسبة سواكن حروف نصفه إلى متحركاته وكنسبة سواكن حروفه كلها إلى متحركاته كلها.
وهكذا تجد حكم الوافر والكامل، فإن كل واحد منهما مركب من ستة مقاطع، وهي هذه: مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن ست مرات. ونسبة سواكن حروف ثلث البيت إلى حروف متحركاته كنسبة حروف سواكن نصفه إلى متحركاته، وكنسبة سواكن كله إلى متحركات كله، وعلى هذا المثال والحكم يوجد كل بيت من الأشعار إذا سلم من الزحاف منصفاً كان أومربعاً أومسدساً، وكذلك حكم الأزمان التي بينها، وهذه صورتها: فعولن مفاعيلن " ه ه ا ه ا ه ه ا ه اه ا" الهاءات علامة المتحركات والألفات علامة السواكن.
فقد تبين بهذا المثال أيضاً أن أحكم المصنوعات وأتقن المركبات ما كان تأليف أجزائه وأساس بنيته على النسبة الأفضل. ومن أمثال ذلك أيضاً صناعة الكتابة التي هي أشرف الصنائع، وبها يفتخر الوزراء والكتاب وأهل الأدب في مجالس الملوك، مع كثرة أنواعها وفنون فروعها، وذلك أن لكل أمة من الأمم كتابة غير ما للأخرى، كالعربية والفارسية والسريانية والقبطية والعبرانية واليونانية والهندية وما شاكلها، لا يحصي عددها إلا الله- عز وجل- الذي خلقهم مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأخلاقهم وطبائعهم وصناعاتهم وعلومهم ومعارفهم؛ كل ذلك لسعة علمه، ونفاذ مشيئته، وإتقان حكمته، سبحانه وتعالى.
ونريد أن نذكر في هذا الفصل أصل الحروف، وكيفية ترتيبها، وكمية مقاديرها، ونسب تأليفها الفاضلة بينها فنقول: إن أصل حروف الكتابات كلها في أي لغة وضعت، ولأي أمة كانت، وبأي أقلام كتبت وخطت، أوبأي نقش صورت، وإن كثرت، فإن أصلها كلها هوالخط المستقيم الذي هوقطر الدائرة، والخط المقوس الذي هومحيط الدائرة، فأما سائر الحروف فمركبة منهما، ومؤلفة كما بينا في رسالة الجومطريا شبه المدخل إلى صناعة الهندسة. ونبين مثالاً لما ذكرنا من الحروف التي في الكتابة العربية ليكون دليلاً على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، من أن أصل الحروف كلها هوالخط المستقيم والخط المقوس اللذان أحدهما قطر الدائرة والآخر محيطها، وهي هذه: أ ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن ه ولا ي.
فانظر الآن واعتبر وتأمل يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- فإنك تجد هذه الحروف بعضها خطاً مستقيماً مثل هذا: أ ب ت ث، وبعضها مقوساً مثل هذا: د ذ ر ز، وبعضها مركباً منهما مثل سائر الحروف. وعلى هذا المثال والقياس توجد حروف كتابات سائر الأمم مثل الهندية، فإنها هكذا: 1 2 3 4 5 6 7 8 9، وكذلك السريانية والعبرانية واليونانية والرومية، فإن لكل منها اصطلاحاً في أشكال الحروف وصورها لا يخرج عما قلنا. وإذ قد تبين بما ذكرنا أن أصل الحروف والكتابات كلها هوالخط المستقيم الذي هوقطر الدائرة، والخط المقوس الذي هومحيطها. فنريد أن نبين أيضاً أن أجود الخطوط وأصح الكتابات وأحسن المؤلفات ما كان مقادير حروفها بعضها من بعض على النسبة الأفضل، فلنذكر أولاً ما قاله أهل هذه الصناعة اعني صناعة الكتابة، ليكون أقوى و أصح للحجة، وأوضح للبيان، وأرشد إلى القياس والقانون، قال المحرر الحاذق المهندس: ينبغي لمن يريد أن يكون خطه جيداً وكتابته صحيحة أن يجعل لها أصلاً يبني عليه حروفه، وقانوناً يقيس عليه خطوطه، والمثال في ذلك في كتابة العربية هوأن يخط الألف أولاً بأي قدر شاء ويجعل غلظه مناسباً لطوله، وهوالثمن، وأسفله أدق من أعلاه؛ ثم يجعل الألف قطر الدائرة، ثم يبني سائر الحروف مناسباً لطول الألف ولمحيط الدائرة التي الألف مساولقطرها، وهوأن يجعل الباء والتاء والثاء كل واحد منها طوله مساولطول الألف، وتكون رؤوسها إلى فوق الثمن مثل هذا: أ ب ت ث؛ ثم يجعل الجيم والحاء والخاء كل واحد منها مدته من فوق نصف الألف، وتقويسه إلى الأسفل نصف محيط الدائرة التي الألف مساولقطرها مثل هذا: ج ح خ؛ ثم يجعل الدال والذال كل واحد منهما مثل طول الألف إذا قوس مثل هذا: د ذ؛ ثم يجعل الراء والزاي كل واحد منهما كمثل ربع محيط الدائرة التي الألف قطرها؛ ثم يجعل السين والشين كل واحد منهما رؤوسها إلى فوق ثمن الألف، ومدتها إلى أسفل نصف محيط الدائرة مثل هذا: س ش؛ ثم يجعل الصاد والضاد مدة طول كل واحد منهما إلى قدام مثل طول الألف، وفتحتها مثل ثمن الألف، ومدتها إلى أسفل مثل نصف الدائرة المقدم ذكرها مثل هذا: ص ض؛ ويجعل الطاء والظاء كل واحد منهما طوله مثل طول الألفوفتحتها مثل ثمن الألف، ورؤوسها إلى فوق بطول الألف مثل هذا: ط ظ؛ ثم يجعل العين والغين كل واحد منهما تقويسه من فوق ربع محيط تلك الدائرة، وتقويسه من أسفل نصف محيطها، مثل هذا: ع غ؛ ثم يجعل مدة الفاء إلى قدام كمثل طول الألف، وفتحته ثمن الألف، وحلقته وحلقة القاف والواووالميم والهاء كلها متساوية مثل ثلث الألف إذا دور مثل هذا: ف ق وم ه؛ ويجعل مدة القاف إلى أسفل مثل نصف محيط تلك الدائرة مثل هذا: ق؛ ثم يجعل مدة الكاف إلى قدام مثل طول الألف، وفتحته مثل ثمن الألف، وكسرته إلى فوق ربع الألف مثل هذا: ك؛ ثم يجعل طول اللام مثل الألف، ومدته إلى قدام نصف الألف، مثل هذا: ل؛ ثم يجعل مدة الميم والواوكل واحد منهما إلى أسفل مثل تقويس الراء والزاي مثل هذا: م و؛ ثم يجعل تقويس النون مثل نصف محيط تلك الدائرة التي الألف مساولقطرها مثل هذا: ن؛ ثم يجعل الياء مثل الدال ومدته إلى خلف مثل طول الألف، أوتقويسه إلى أسفل مثل نصف محيط الدائرة مثل هذا: ي. وهذا الذي ذكرناه من نسب هذه الحروف وكمية مقاديرها طولاً وعرضاً بعضها عند بعض، فهو شيء توجبه قوانين الهندسة والنسب الفاضلة. وأما ما يتعارفه الناس ويستحسنه الكتاب فعلى غير ما ذكرنا من المقادير والنسب، وذلك بحسب موضوعاتهم ومرضياتهم واختياراتهم دون غيرها؛ وبحسب طول الدربة وجريان العادة فيها. وإذ قد تبين بما ذكرنا ماهية النسب الفاضلة ومقادير الحروف وكمية أطوالها، فنريد أن نذكر ها هنا أيضاً طرفاً من كيفية صورها وتخطيط أشكالها، وكيفية تركيبها بعضها مع بعض على ما يوجبه القياس والقانون بطريق الهندسة.
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن صور حروف الكتابات كثيرة الفنون مختلفة الأنواع، كما تقدم ذكرها، وهي بحسب موضوعات الحكماء من الكتاب، واختياراتهم لها، وتواطئهم عليها، يطول ذكر علة ذلك وشرحه. ولكن نذكر قولاً مجملاً مختصراً في ثلاث كلمان بحسب ما توجبه قوانين الهندسة والقياسات الفلسفية، كما أوصى المحرر الحاذق المهندس فقال: ينبغي أن تكون صور الحروف كلها لأي أمة كانت، في أي لغة كانت، وبأي أقلام خطت، إلى التقويس والانحناء ما هوالألف التي في كتابة العربية، وإن يكون غلظ الحروف إلى الانخراط ما هو؛ وأن يكون عند التركيب الزوايا كلها حادة وإلى التدوير ما هو. فهذا ما قاله أهل الصناعة في تقدير هذه الحروف ومناسباتها مفردة مفردة. فأما عند التركيب والتأليف فربما تختلف وتتغير لعلل يطول شرحها، ولكن يجب على المحرر عند تعليمه للخط التوقيف؛ عليها.
فقد تبين إذاً بما ذكرنا أن أحكم المصنوعات، وأتقن المركبات، وأحسن المؤلفات ما كان تركيب بنيته وتأليف أجزائه على النسبة الأفضل. والنسب الفاضلة هي المثل، والمثل والنصف، والمثل والثلث، والمثل والربع، والمثل والثمن، كما قد بينا قبل. ومن أمثال ذلك أيضاً صورة الإنسان وبنية هيكله، وذلك أن الباري- جل جلاله- جعل طول قامته مناسباً لعرض جثته، وعرض جثته مناسباً لعنق تجويفه، وطول ذراعيه مناسباً لطول ساقيه، وطول عضديه مناسباً لطول فخذيه، وطول رقبته مناسباً لطول عمود ظهره، وكبر رأسه مناسباً لكبر جثته، واستدارة وجهه مناسبة لسعة صدره، وشكل عينيه مناسباً لشكل فمه، وطول أنفه مناسباً لعرض جبينه، وقدر أذنيه مناسباً لمقدار خديه، وطول أصابع يديه مناسباً لأصابع رجليه، وطول أمعائه مناسباً لطول أوردته؛ وتجويف معدته مناسباً لكبر كبده، ومقدار قلبه مناسباً لكبر رئته، وشكل طحاله مناسباً لشكل كبده، وسعة حلقومه مناسبة لكبر رئته، وطول أعضائه وغلظها مناسباً لكبر عظامه، وطول أضلاعه وتقويسها مناسباً لصندوق صدره، و طول عروقه وسعتها مناسباً لبعد مسافة أقطار جسده. وعلى هذا المثال إذا تأملت واعتبرت كل عضومن أعضاء بدن الإنسان وجدته مناسباً لجملة جثته نسبة ما ومناسباً لعضوعضومن أعضاء الجسد نسبة أخرى، لا يعلم كنه معرفتها إلا الله- جل ثناؤه- الذي خلقها وصورها كما شاء، كما ذكر بقوله- جل ثناؤه:" لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم." وقال:" خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك".
فصل في تناسب الأعضاء على الأصول الموسيقية
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أن النطفة إذا سلمت في الرحم من الآفات العارضة هناك، و من فساد الأخلاط وتغير المزاج ومناحس أشكال الفلك، عند مسقط النقطة، وعند المبادئ شهراً بشهر، وتمت بنية البدن وكملت صورة الجسد، كما بينا في رسالة لنا، خرج الطفل من الرحم صحيح البنية تام الصورة، فكان طول قامته ثمانية أشبار بشبره سواء. فمن رأس ركبتيه إلى أسفل قدميه شبران، ومن رأس ركبتيه إلى حقويه؛ شبران، ومن حقويه إلى رأس فؤاده شبران، ومن رأس فؤاده إلى مفرق رأسه شبران. وإذا فتح يديه ومدهما يمنة ويسرة كما يفتح الطائر جناحيه، وجد ما بين رأس أصابع يده اليمنى إلى رأس أصابع يده اليسرى ثمانية أشبار: النصف من ذلك عند ترقوته؛ و الربع عند مرفقيه؛ وإذا مد يديه إلى فوق رأسه، ووضع رأس البركار على سرته، وفتح إلى رؤوس أصابع يديه، ثم أدير إلى رؤوس أصابع رجليه، كان البعد بينهما مساوياً عشرة أشبار بزيادة ربع طول قامته. ويوجد طول وجهه من رأس ذقنه إلى منبت الشعر فوق جبينه شبراً وثمناً؛ ويوجد البعد ما بين أذنه شبراً وربعاً، ويوجد طول أنفه ربع شبره؛ ويوجد طول شق عينيه كل واحد ربع ثمن شبره، وطول جبينه ثلث طول وجهه؛ ويوجد شق فمه وشفتيه كل واحد مساوياً لطول أنفه، وطول قدميه كل واحد شبراً وربع شبر، وطول كفيه من رأس الكرسوع؛ إلى رأس الإصبع الوسطى شبراً؛ ويوجد طول إبهامه وطول خنصره متساويين، ورأس البنصر زائداً على رأس الخنصر ثمن شبره، وكذلك زيادة الوسطى على البنصر، وكذلك السبابة؛ ويوجد عرض صدره شبراً ونصفاً، وبعد ما بين ثدييه شبراً، وما بين سرته إلى عانته شبراً، ومن رأس فؤاده إلى رأس ترقوته شبراً؛ ويوجد البعد ما بين منكبيه؛ شبرين. وعلى هذا المثال والقياس يوجد إذاً اعتبر طول أمعائه، ومصارين جوفه، وعروق جسده، والعصبات الممسكات لعظامه، وأوتار مفاصله متناسبات بعضها إلى بعض طولاً وعرضاً وعمقاً مثل ما ذكرنا ممن مناسبات مقادير أعضائه الظاهرة. وعلى هذا القياس والمثال يوجد بنية أبدان سائر الحيوانات مناسبة أعضاء صورة كل نوع منها لجملة بدنه، اوبعضها إلى بعض، مناسبة، إما بالكيفية، وإما بالكمية، وإما بهما جميعاً، لا تخل شيئاً إذا سلمت من الآفات العارضة عند الابتداء، وعند النشوء، من فساد الأخلاط، وتغيير المزاج، ومناحس أشكال الفلك. وعلى هذا المثال والقياس يعمل الصناع الحذاق مصنوعاتهم، من الأشكال والتماثيل والصور، مناسبات بعضها لبعض في التركيب والتأليف والهندام، كل ذلك اقتداء بصنعة الباري- تعالت قدرته- وتشبه بحكمته، كما قيل في حد الفلسفة إنها هي التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
فصل في حقيقة نغمات الأفلاك
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أن في اعتبار هذه المقالات التي تقدم ذكرها في هذه الفصول الدالة على أن أحكم المصنوعات، وأتقن المركبات، وأحسن التأليفات هوما كان تركيب بنيته على النسبة الأفضل، وتأليف أجزائه على مثل ذلك وقياس لكل عاقل متفكر معتبر، على أن تركيب الأفلاك، وكواكبها ومقادير أجرامها ومقادير الأركان ومولداتها موضوعة بعضها على بعض على النسبة الأفضل. وهكذا أبعاد هذه الأفلاك وكواكبها وحركاتها متناسبات على النسبة الأفضل. وإن لتلك الحركات المتناسبة نغمات متناسبات مطربات متوازنات لذيذات، كما بينا في حركات أوتار العيدان ونغماتها. فإذا تفكر ذواللب واعتبر تبين له عند ذلك وعلم بأن لها صانعاً حكيماً صنعها، ومركباً حاذقاً ركبها، ومؤلفاً لطيفاً ألفها؛ وتيقن بذلك، فتزول الشبهة المموهة التي دخلت على قلوب كثير من المرتابين، وترتفع الشكوك، ويتضح الحق؛ ويعلم أيضاً ويتبين له أن في حركات تلك الأشخاص ونغمات تلك الحركات لذة وسروراً لأهلها، مثل ما في نغمات أوتار العيدان لذة وسرور لأهلها في هذا العالم. فعند ذلك تشوقت نفسه إلى الصعود إلى هناك والاستماع لها والنظر إليها، كما صعدت نفس هرمس؛ الثالث بالحكمة، لما صفت ورأت ذلك، وهوإدريس النبي- عليه السلام- وإليه أشار بقوله تعالى:" ورفعناه مكاناً علياً"؛ وكما سمعته نفس فيثاغورس الحكيم لما صفت من درن الشهوات الجسمانية، ولطفت بالأفكار الدائمة، وبالرياضات العددية والهندسية والموسيقية. فاجتهد يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- في تصفية نفسك وتخليصها من بحر الهيولى، وأسر الطبيعة، وعبودية الشهوات الجسمانية، و أفعل كما فعلت الحكماء ووضعت في كتبها، فإن جوهر نفسك من جوهر نفوسهم. وأعمل كما وصفنا في كتاب الأنبياء- عليهم السلام- وصف نفسك من الأخلاق الرديئة والآراء الفاسدة والجهالات المتراكمة و الأفعال السيئة، فإن هذه الخصال هي المانعة لها عن الصعود إلى هناك بعد الموت، كما ذكر الله تعالى بقوله:" لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة، حتى يلج الجمل في سم الخياط؛" وأعلم يا أخي- ايدك الله وإيانا بروح منه- أن جوهر نفسك من الأفلاك نزل يوم مسقط النطفة كما بينا في رسالة لنا، وإلى السماء يكون مصيرها بعد الموت الذي هومفارقة الجسد، كما أن من التراب يكون جسدك، وإلى التراب يكون جسدك بعد الموت.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن هذه الحياة الدنيا للنفوس المتجسدة إلى وقت المفارقة التي هي الموت مماثلة لمدة كون الجنين في الرحم من يوم مسقط النطفة إلى يوم الولادة.
وأعلم يا أخي، إن الموت ليس شيئاً سوى مفارقة النفس الجسد، كما أن الولادة ليست شيئاً سوى مفارقة الجنين الرحم. وقال المسيح- عليه السلام-:" من لم يولد ولادتين لم يصعد إلى ملكوت السماء". وقال- جل ثناؤه- في صفة أهل الجنة:" لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى" وهومفارقة النفس الجسد مرة واحدة على الشريطة التي تقدم ذكرها، وهم السعداء الذين أشار إليهم بقوله:" وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي، لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق."فأما الأشقياء فهم الذين يتمنون العود إلى الدنيا والتعلق بالأجساد مرة أخرى، ويذوقون الموت مرة أخرى، كما ذكر الله تعالى حكاية عنهم:" قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين، فاعترفنا بذنوبنا، فهل إلى خروج من سبيل." أعاذك الله أيها الأخ من حال هذه الطائفة، وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد، إنه لطيف بالعباد.
فلنرجع إلى ما كنا فيه وقد وعدنا به من ذكر قوانين اللحان العربية فنقول: إن اللغة العربية وألحانها ثمانية قوانين، هي كالأجناس لها، ومنها يتفرع سائرها، وإليها ينسب باقيها، كما أن لأشعارها ثمانية مقاطع منها يتركب سائر دوائر العروض وأنواعها، وإليها ينسب، وعليها يقاس باقيها، كما هومذكور في كتب العروض برحها.
وأما الثمانية التي هي قوانين غناء العربية، فأولها الثقيل الأول، ثم خفيف الثقيل، ثم الثقيل الثاني، ثم خفيفه، ثم الرمل، ثم خفيف الرمل، ثم خفيف الخفيف، ثم الهزج، فهذه الثمانية هي كالأجناس، وسائرها كالأنواع المتفرعة منها، المنسوبة إليها. فأما الثقيل الأول فهو تسع نقرات، ثلاث منها متواليات، وواحدة مفردة ثقيلة ساكنة، ثم خمس نقرات، واحدة مطوية في أولها، مثل قولك: مفعولن مف مفاعيلن، مف تن تن تن تن تن تن تن تن؛ ثم يعود الإيقاع ويكرر دائماً إلى أن يسكت الموسيقار. وأما الثقيل الثاني فهو إحدى عشرة نقرة، ثلاث نقرات متواليات، ثم واحدة ساكنة، ثم واحدة ثقيلة، ثم ست نقرات في أولها واحدة مطوية، مثل قولك: مفعولن مفعومفاعيلن مفعوتن تن تن تن تن تن تن تن تن تن؛ ثم يعود الإيقاع ثانياً دائماً. وأما خفيف الثقيل الأول فهو سبع نقرات، نقرتان منها متواليتان، لا يكون بينهما زمان نقرة، ثم نقرة مفردة ثقيلة، ثم أربع نقرات، واحدة مطوية في أولها، مثل قولك: مفاعل مفاعيلن تنن تن تنن تن؛ ثم يعود الإيقاع ويكرر إلى أن يسكت المغني، وأهل زماننا يسمون هذا الحن الماخوري، وهومثال صياح الفاختات؛ ككوكوكككوكو. وأما خفيف الثقيل الثاني فهو ثلاث نقرات متواليات لا يكون بينها زمان نقرة، ولكن بين كل ثلاث نقرات وثلاث نقرات زمان نقرة، مثل قولك: فعلن فعلن تكرر دائماً تننن تننن إلى أن يسكت المغني. وأما الرمل فهو عكس الماخوري، وذلك أنه سبع نقرات مثله، ولكن أوله نقرة مفردة ثقيلة، ثم نقرتان متواليتان لا يكون بينهما زمان نقرة، ثم أربع نقرات، كل اثنتين منها متواليتان، لا يكون بينهما زمان نقرة مثل قولك: فاعلن مفاعلن مثل صياح القباج؛ تن تنن تنن كي ككي ككي ككي. وأما خفيف الرمل فهو ثلاث نقرات متواليات متحركات مثل قولك: متفاعلتن تننن تننن. وأما خفيف الخفيف فهو نقرتان متواليتان لا يكون بينهما زمان نقرة، ولكن بين كل نقرتين ونقرتين زمان نقرة مثل قولك: مفاعلن مفاعلن تنن تنن تنن تنن. وأما الهزج فهو نقرة مسكنة ونقرة أخرى أخف منها، بينهما زمان نقرة، وبين كل اثنتين زمان نقرتين مثل قولك: فاعل فاعل.
فهذه الثمانية الأجناس التي قلنا أنها أصل وقوانين لغناء العرب وألحانها. وأما غير العربية كالفارسية والرومية واليونانية فلألحانها وغنائها قوانين أخر غير هذه، ولكنها كلها مع كثرة أجناسها وفنون أنواعها ليست تخرج من الأصل والقانون الذي ذكرناه قبل هذا الفصل. وإذا تأملت يا أخي- أيدك الله وإيانا- وجدت صحة ما قلنا، وعرفت حقيقة ما وصفنا.
فصل في ذكر المربعات
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أن الله تعالى جعل بواجب حكمته الأشياء الطبيعية التي تحت الكون والفساد، وأسبابها وعللها الموجبة، لكونها أكثرها مربعات، بعضها متضادات وبعضها متشاكلات، لما فيها من إحكام الصنعة وإتقان الحكمة، لا يعلم أحد من خلقه كنه معرفتها إلا هوالذي أبدعها واخترعها وأوجدها وركبها وألفها كما شاء كيف شاء.
ونريد أن نذكر طرفاً من تلك الأشياء المربعات المتضادات والمتشاكلات ليكون تنبيهاً لنفوس الغافلين عن النظر فيها، وحثاً لهم على التفكر بها والاعتبار لها، وتسهيلاً لنفوس الباحثين عن معرفة عللها، والطالبين ما الحكمة فيها. فمن الأمور المربعات الظاهرات البينات الأزمان الأربعة التي هي فصول السنة، وهي الربيع والصيف والخريف والستاء، والذي يشاكل الربيع من البروج من أول الحمل إلى آخر الجوزاء، والذي يشاكلها من أرباع الفلك الربع الشرقي الصاعد إلى وتد السماء، والذي يشاكلها من الشهر الربع الأول، سبعة أيام من أول الشهر، والذي يشاكلها من اتصالات الكواكب التربيع الأيسر، ومن الأركان الأربعة ركن الهواء، ومن الطبائع الحرارة والرطوبة، ومن الجهات الجنوب، ومن الرياح التيمي؛ ومن أرباع اليوم الست ساعات الأولى، ومن أخلاط المزاج الدم، ومن أرباع العمر أيام الصبا، ومن القوى الطبيعية القوة الهاضمة، ومن القوى الحيوانية القوة المتخيلة، ومن الأفعال الظاهرة الفرح والسرور والطرب، ومن الأخلاق الجود والكرم والعدل، ومن المحسوسات المشاكلات لهذه أيضاً وتر المثنى ونغماته، ومن الألحان الترنم، ومن الكلام والأشعار المديح، ومن الطعوم الحلاوات، ومن الألوان ما اعتدلت أصباغه كالمنثور؛ ومن الروائح الغالية البنفسج والمرزنجوش؛ وما شاكلها من الروائح الحارة اللينة. وبالجملة كل طعم ورائحة ولون معتدل.
والذي شاكل زمان الصيف من أرباع الفلك الربع الهابط من وتد السماء إلى وتد المغرب، ومن البروج من أول السرطان إلى آخر السنبلة، ومن أرباع الشهر الربع الثاني سبعة أيام، ومن الاتصالات ما جاوز التربيع الأيسر إلى المقابلة، ومن الأركان ركن النار، ومن الطبائع الحرارة واليبس، ومن الجهات الشرق، ومن الرياح الصبا، ومن أرباع اليوم ست ساعات إلى آخر النهار، ومن الأخلاط المرة الصفراء، ومن أرباع العمر أيام الشباب، ومن القوى الطبيعية القوة الجاذبة، ومن القوى الحيوانية القوة المفكرة، ومن الأخلاق الباطنة الشجاعة والسخاء، ومن الأفعال الظاهرة سرعة الحركة والقوة والجلد، ومن المحسوسات المقوية لها مثل نغمات وتر الزير، ومن الألحان الماخوري وما شاكله، ومن الكلام الأشعار وما شاكلها من مديح الفرسان والشجعان، ومن الطعوم الحريفات؛ ومن الألوان الصفرة والحمرة، ومن الروائح المسك والياسمين وما شاكلهما. وبالجملة كل طعم ولون ورائحة حارة يابسة.
والذي شاكل زمان الخريف من أرباع الفلك الربع الهابط من وتد المغرب إلى وتد الأرض، ومن البروج من أول الميزان إلى آخر القوس، ومن أرباع الشهر الربع الثالث السبعة الأيام بعد النصف، ومن الاتصالات بعد المقابلة إلى التربيع الأيمن، ومن الأركان ركن الأرض، ومن الطبائع البرودة واليبوسة، ومن الجهات المغرب، ومن الرياح الدبور؛ ومن أرباع اليوم ست ساعات من أول الليل، ومن الأخلاط المرة السوداء، ومن أرباع العمر أيام الكهولة، ومن القوى الطبيعية القوة الماسكة، ومن القوى الحيوانية القوة الحافظة، ومن الأخلاق العفة، ومن الأفعال الظاهرة التأني والتثبت، ومن المحسوسات المشاكلة لها نغمات المثلث، ومن الألحان الثقيل وما شاكله، ومن الكلام المديح وما كان في وصف العقل والرزانة والزكانة؛ والحصافة؛ ومن الطعوم الحموضات، ومن الألوان السواد الغبرة وما شاكلهما، ومن الروائح رائحة الورد والعود وما شاكلهما من الروائح الباردة اليابسة.
والذي شاكل زمان الشتاء من أرباع الفلك الربع الصاعد من وتد الأرض إلى أفق المشرق، ومنالبروج من أول الجدي إلى آخر الحوت، ومن أرباع الشهر الربع الأخير سبعة أيام، ومن الاتصالات التربيع الأيمن، ومن الأركان ركن الماء، ومن الطبائع البرودة والرطوبة، ومن الجهات الشمال، ومن الرياح الجربياء؛ ومن أرباع اليوم النصف الأخير من الليل، ومن أخلاط المزاج البلغم، ومن القوى الطبيعية القوة الدافعة، ومن القوى الحيوانية القوة المذكرة، ومن الأخلاق الحلم والتجاوز، ومن الأفعال الظاهرة السهولة في المعاملة وحسن المعاشرة، ومن المحسوسات المشاكلة له أيضاً نغمات وتر البم، ومن الألحان الهزج والرمل، ومن الكلام والأشعار ما كان مديحاً في الجود والكرم والعدل وحسن الخلق، ومن الطعوم الدسومات والعذوبات، ومن الألوان الخضرة، ومن الروائح النرجس والنيلوفر؛ وما شاكلهما، وبالجملة كل لون أوطعم أورائحة باردة رطبة.
وعلى هذا المثال والقياس إذا تصفحت يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أحوال لموجودات الطبيعيات، واعتبرت أنواع الكائنات المحسوسات، وجدت كلها داخلة في هذه الأقسام الأربعة، مشاكلات بعضها لبعض، أومضادات بعضها لبعض، كما ذكر الله بقوله جل ثناؤه:" ومن كل شيء خلقنا زوجين اثنين" وقوله عز وجل:" خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون".
وأعلم يا أخي بأن هذه الأشياء المتشاكلة إذا جمع بينها على النسبة التأليفية، ائتلفت وتضاعفت قواها وظهرت أفعالها وغلبت أضدادها، وقهرت ما يخالفها؛ وبمعرفتها استخرجت الحكماء الأدوية المبرئة من الأمراض، الشافية للأسقام مثل الترياقات والمراهم والشرابات المعروفة بين الأطباء، الوصوفة في كتبهم؛ وعلى مثل ذلك عمل أصحاب الطلسمات بعد معرفتهم بطبائع الأشياء، وخواصها، ومشاكلتها، وكيفية تركيبها، ونسب تأليفها. والمثال في ذلك الشكل المتسع في تسهيل الولادة، إذا كتب فيه الأعداد التسعة في الشهر التاسع من الحمل، في الساعة التاسعة من الطلق، ويكون رب الطالع في التاسع، أورب التاسع في الطالع، أويكون القمر التاسع، أومتصلاً بكوكب منه في التاسع، وما شاكل ذلك من المتسعات.
فصل في الانتقال من طبقات الألحان
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- إن الله- جل جلاله- جعل بواجبحكمته لكل جنس من الموجودات حاسة مختصة بإدراكها، وقوة من قوى النفس تنالها بها وتعرفها بطريقها، لا تنال بطريقة أخرى، وجعل أيضاً في جبلة كل حاسة دراكة، أوقوة علامة، أن تستلذ من إدراك محسوساتها، وتتشوق إليها إذا فقدتها وملت منها إذا دامت عليها، وتستروح؛ إلى غيرها من أبناء جنسها، مثل ما هومعروف بين الناس في مأكولاتهم ومشروباتهم، وملبوساتهم، ومشموماتهم، ومبصراتهم، ومسموعاتهم؛ فالموسيقار الحاذق الفاره؛ هوالذي إذا علم بأن المستمعين قد ملوا من لحن، غنى لهم لحناً آخر، إما مضاداً له أومشاكلاً له.
وأعلم يا أخي أن الخروج من لحن إلى لحن، والانتقال منه ليس له طريق إلا على أحد الوجهين، إما أن يقطع ويسكت ويصلح الدساتين والأوتار بالحزق؛ والإرخاء، ويبتدئ ويستأنف لحناً آخر، أويترك الأمر بحاله، ويخرج من ذلك اللحن إلى لحن آخر قريب منه مشاكل له وهوأن ينتقل من الثقيل إلى خفيفه، أومن الخفيف إلى ثقيله أوإلى ما قارب منه. والمثال في ذلك إنه إذا أراد أن ينتقل من خفيف الرمل إلى الماخوري أن يقف عند النقرتين الأخيرتين من ثقيل الرمل ثم يتلوهما بنقرة، ثم يقف وقفة خفيفة، ثم يبتدئ بالماخوري؛ ومن حذق الموسيقار أيضاً أن يكسوالأشعار المفرحة الألحان المشاكلة لها، مثل الأرمال والأهزاج، وما كان منها من المديح في معاني المجد والجود والكرم أن يكسوها من الألحان المشاكلة لها مثل الثقيل الأول والثاني؛ وما كان في المديح من معاني الشجاعة والإقدام والنشاط والحركة أن يكسوها من الألحان مثل الماخوري والخفيف وما يشاكلها.
ومن حذق الموسيقار أيضاً أن يستعمل الألحان المشاكلة للأزمان، في الأحوال المشاكلة بعضها لبعض، وهوان يبتدئ في مجالس الدعوات والولائم والشرب بالألحان التي تقوم الأخلاق والجود والكرم والسخاء، مثل ثقيل الأول وما شاكلها، ثم يتبعها بالألحان المفرحة المطربة، مثل الهزج والرمل، وعند الرقص والدستبند؛ الماخوري وما شاكله، وفي آخر المجلس أن خاف من السكارى الشغب والعربدة والخصومة أن تستعمل الألحان الملينة المنومة الحزينة.
فصل في نوادر الفلاسفة في الموسيقى
يقال أنه اجتمعت جماعة من الحكماء والفلاسفة في دعوة ملك من الملوك، فأمر أن يكتب كل ما يتكلمون به من الحكمة، فلما غنى الموسيقار لحناً مطرباً، قال أحد الحكماء: إن للغناء فضيلة يتعذر على المنطق إظهارها، ولم يقدر على إخراجها بالعبارة، فأخرجها النفس لحناً موزوناً، فلما سمعتها الطبيعة استلذتها وفرحت وسرت بها، فاسمعوا من النفس حديثها ومناجاتها، ودعوا الطبيعة والتأمل لزينتها لا تغرنكم. وقال آخر: احذروا عند استماع الموسيقى أن تثور بكم شهوات النفس البهيمية نحوزينة الطبيعة، فتميل بكم عن سنن؛ الهدى، وتصدكم عن مناجاة النفس العليا. وقال آخر للموسيقار: حرك النفس نحوقواها الشريفة من الحلم والجود والشجاعة والعدل والكرم والرأفة، ودع الطبيعة لا تحرك شهواتها البهيمية. وقال آخر: الموسيقار إذا كان حاذقاً بصنعته حرك النفوس نحوالفضائل ونفى عنها الرذائل. وقال آخر: إنه سمع فيلسوف نغمة القينات، فقال لتلميذه: امض بنا نحوهذا الموسيقار لعله يفيدنا صورة شريفة، فلما قرب منه سمع لحناً غير موزون ونغمة غير طيبة، فقال لتلميذه: زعم أهل الكهانة أن صوت البوم يدل على موت إنسان، فإن كان ماقالوا صدقاً، فصوت هذا الموسيقار يدل على موت البوم. وقال آخر: الموسيقار وإن كان ليس بحيوان فهو ناطق فصيح يخبر عن أسرار النفوس وضمائرالقلوب، ولكن كل كلامه اعجمي يحتاج إلى الترجمان، لأن ألفاظه بسيطة ليس لها حروف معجمة.وقد أنشدت أبيات بالفارسية تدل على تصديق قول هذا الفيلسوف، وهي هذه: وقت شب كيرنانك ناله زيرخوشتر أيد بكوشم ازتكـيرزاري زير واين مدار شكفتكرزوشت اندراورد نخجيرتن اوتيرنه زمان بـزمـانبدل اندرهمي كذازد شـيركان كريان وكه تبـالـدزاربامداد أن وروزتا شبـكـيران زبان أوري زباتـش نـهخبر عاشقان كند تفـسـيركان ديوانه راكند هـشـياركه بهشيار برنهد زنـجـيروقال آخر: أصوات الموسيقار ونغماته، وأن كانت بسيطة ليس لها حروف معجم، فإن النفوس إليها أشد ميلاً، ولها أسرع قبولاً لمشاكلة ما بينهما، وذلك أن النفوس أيضاً جواهر بسيطة روحانية غير مركبة، ونغمات الموسيقار كذلك، والأشياء إلى أشكالها اميل. وقال آخر: إن الموسيقار هوالترجمان عن الموسيقى، والمعبر عنه، فإن كان جيد العبارة عن المعاني، أفهم أسرار النفوس، وأخبر عن ضمائر القلوب، وإلا فالتقصير منه يكون.
وقال آخر: لا يفهم معاني الموسيقار، ولطيف عبارته عن أسرار الغيوب إلا النفوس الشريفة الصافية من الشوائب الطبيعية، والبريئة من الشهوات البهيمية. وقال آخر: إن الباري- جل ثناؤه- لما ربط النفوس الجزئية بالأجساد الحيوانية، ركب في جبلتها الشهوات الجسمية، ومكنها من تناول اللذات الجرمانية في أيام الصبا، ثم سلبها عنها في أيام الشيخوخة، وزهدها فيها، كما يدلها على الملاذ والسرور والنعيم الذي في عالمها الروحاني، ويرغبها فيها؛ فإذا سمعتم نغمات الموسيقار، فتأملوا إشاراته نحوعالم النفوس. وقال آخر: إن النفوس الناطقة إذا صفت عن الشهوات الجسمانية، وزهدت في الملاذ الطبيعية، وانجلت عنها الأصدية لهيولانية، تونمت بالألحان الحزينة، وتذكرت عالمها الروحاني الشريف العالي، وتشوقت نحوه، فإذا سمعت الطبيعة ذلك اللحن تعرضت للنفس بزينة أشكالها، ورونق أصباغها، كيما ترد إليها؛ فاحذروا من مكر الطبيعة أن لا تقعوا في شبكتها. وقال آخر: إن السمع والبصر هما من أفضل الحواس الخمس وأشرفها التي وهب الباري- جل ثناؤه- للحيوان، ولكن أرى البصر أفضل، لأنه كالنهار، والسمع كالليل، وقال آخر: لا بل السمع أفضل من البصر، لأن البصر يذهب في طلب محسوساته، ويخدمها حتى يدركها مثل العبيد؛ والسمع يحمل إليه محسوساته حتى تخدمه مثل الملوك. وقال آخر: إن البصر لا يدرك المحسوسات إلا على خطوط مستقيمة، والسمع يدركها من محيط الدائرة. وقال آخر: محسوسات البصر أكثرها جسمانية، ومحسوسات السمع كلها روحانية. وقال آخر: النفس بطريق السمع تنال خبر من هوغائب عنها بالمكان والزمان، وبطريق البصر لا ينال إلا ما كان حاضراً في الوقت. وقال آخر: السمع أدق تمييزاً من البصر، إذ كان يعرف بجودة الذوق الكلام الموزون، والنغمات المتناسبة، والفرق بين الصحيح والمنزحف، والخروج من الإيقاع، واستواء اللحن، والبصر يخطئ في أكثر مدركاته، فإنه ربما يرىالكبير صغيراً والصغير كبيراً، والقريب بعيداً والبعيد قريباً، والمتحرك ساكناً الساكن متحركاً، والمستوي معوجاً والموج مستوياً.
وقال آخر: إن جوهر النفس لما كان مجانساً ومشاكلاً للأعداد التأليفية، وكانت نغمات ألحان الموسيقار موزونة، وأزمان حركات نقراتها وسكونات ما بينها متناسبة، استلذ بها الطباع، وفرحت بها الأرواح، وسرت بها النفوس، لما بينها من المشاكلة والتناسب والمجانسة، وهكذا حكمها في استحسان الوجوه، وزينة الطبيعيات، لأن محاسن الموجودات الطبيعية هي من أجل تناسب صنعتها وحسن تأليف أجزائها.
وقال آخر: إنما تشخص أبصار الناظرين إلى الوجوه الحسان، لأنها أثر من عالم النفس، ولأن عامة المرئيات في هذا العالم غير حسان، لما يعرض لها من الآفات المشينة؛ المشوهة، إما في أصل التركيب أوبعده، وبيان ذلك أن الصغار من المواليد يكونون ألطف بنية وأظرف شكلاً وصورة لقرب عهدها من فراغ الصانع منها، وهكذا حكم ما يرى من حسن الثياب ورونقها في مبدأ كونها قبل الآفات العارضة لها من الهوام؛ والبلى والفساد.
وقال آخر: إنما تشخص أبصار النفوس الجزئية نحوالمحاسن اشتياقاً إليها، لما بينها من المجانسة، لأن محاسن هذا العالم من آثار النفس الكلية الفلكية.
وقال آخر: إن وزن نقرات وتر الموسيقار، وتناسب ما بينها، ولذلذ نغماتها تنبئ النفوس الجزئية بأن لحركات الأفلاك والكواكب نغمات متناسبة مؤتلفة لذيذة.
وقال آخر: إذا تصورت رسوم المحسوسات الحسان في الأنفس الجزئية، صارت هذه مشاكلة ومناسبة للنفس الكلية، ومشتاقة نحوها، ومتمنية للحوق بها، فإذا فارقت الهيكل الجسداني ارتقت إلى ملكوت السماء ولحقتبالملأ الأعلى؛ وعند ذلك أيقنت بالبقاء، وأمنت من الفناء، ووجدت لذة العيش صفواً. فقال قائل منهم: وما الملأ الأعلى، فقال: أهل السموات وسكان الأفلاك، فقال: أنى لهم السمع والبصر، فقال: إن لم يكن في عالم الأفلاك وسعة السموات من يرى تلك الحركات المنظمة، وينظر إلى تلك الأشخاص الفاضلة، ويسمع تلك النغمات اللذيذة الموزونة، فقد فعلت الحكمة إذاً شيئاً باطلاً، ومن المقدمات المتفق عليها بين الحكماء أن الطبيعة لم تفعل شيئاً باطلاً لا فائدة فيه.
وقال آخر: إن لم يكن في فضاء الأفلاك وسعة السموات خلائق وسكان، فهي إذاً قفر خاوية، وكيف يجوز في حكمة الباري- جل ثناؤه- أن يترك فضاء تلك الأفلاك، مع شرف جواهرها، فارغاً خاوياً قفراً بلا خلائق هناك، وهولم يترك قعور البحار المالحة المرة المظلمة فارغاً، حتى خلق في قعرها أجناس الحيوانات من أنواع الأسماك والحيتان وغيرها؛ ولم يترك جوهذا الهواء الرقيق، حتى خلق له أجناس الطيور تسبح فيه كما تسبح الأسماك والحيتان في المياه؛ ولم يترك البراري اليابسة، والآجام الوحلة، والجبال الراسية، حتى خلق فيها أجناس السباع والوحوش، ولم يترك ظلمات التراب وأجناس النبات والحب والثمر، حتى خلق فيها أجناس الهوام والحشرات.
وقال آخر: إن أجناس هذه الحيوانات التي في هذا العالم إنما هي أشباح ومثالات لتلك الصور والخلائق التي في عالم الأفلاك وسعة السموات، كما أن النقوش والصور التي على وجوه الحيطان والسقوف أشباح ومثالات لصور هذه الحيوانات اللحمية، وإن نسبة الخلائق اللحمية إلى تلك الخلائق التي جواهرها صافية كنسبة هذه الصور المنقشة المزخرفة إلى هذه الحيوانات اللحمية الدموية.
وقال آخر: إن كانت هناك خلائق وليس لهم سمع، ولا بصر، ولا عقل، ولا فهم، ولا نطق، ولا تمييز، فهم إذاً صم بكم عمي.
وقال آخر: فإن كان لهم سمع وبصر، وليس هناك أصوات تسمع، ولا نغمات تلذ، فسمعهم وبصرهم إذاً باطل لا فائدة فيه؛ فإن لم يكن لهم سمع وبصر وهم يسمعون ويبصرون، فهم إذاً أشرف وأفضل مما هاهنا، لأن تلك الجواهر هي أصفى وأنور وأشف وأتم وأكمل.
وقال آخر: إنما استخرجت هذه الألحان الموسيقية التي هاهنا مماثلة لما هناك، كما عملت الآلات الرصدية مثل الأسطرلاب والرباب والبنكان؛ وذوات مماثلة لما هناك.
وقال آخر: إن لم تكن تلك المحسوسات التي هناك أشرف وأفضل مما هاهنا، ولم يكن للنفوس إليها وصول، فترغيب الفلاسفة في الرجوع إلى عالم الأرواح، وترغيب الأنبياء- عليهم السلام- وتشويقهم إلى نعيم الجنان إذاً باطل وزور وبهتان، ومعاذ الله من ذلك، فإن توهم متوهم أوظن ظان أوقال مجادل إن الجنان هي من وراء هذه الأفلاك،وخارجة من فسحة السموات، قيل له وكيف تطمع في الوصول إليها إن لم تصعد أولاً إلى ملكوت السموات، وتجاوز سع الأفلاك، ويقال إنه هبت نسيم الجنان بالأسحار تحركت أشجارها، واهتزت أغصانها، وتخشخشت أوراقها، وتناثرت ثمارها، وتلألأت أزهارها، وفاحت روائحها؛ فلوعاين أهل الدنيا منها نظرة واحدة لما تلذذوا بالحياة في الدنيا بعد ذلك أبداً. فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وبذلك فليفرحوا، هوخير مما يجمعون؛ والفلاسفة تسمى الجنة" عالم الأرواح".
فصل في تلون تأثيرات الأنغام
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن تاثيرات نغمات الموسيقار في نفوس المستمعين مختلفة الأنواع، ولذة النفوس منها وسرورها بها متفننة متباينة، كل ذلك بحسب مراتبها في المعارف، وبحسب معشوقاتها المألوفة من المحاسن، فكل نفس إذا سمعت من الأوصاف ما يشاكل معشوقاتها، ومن النغمات ما يلائم محبوبها، فرحت وسرت والتذت، بحسب ما تصورت من رسوم معشوقها، واعتقدت في محبوبها، حتى ربما وقع النكير من الآخرين، إذا لم يعرفوا مذهبه، ولا ما قصد نحوه. والمثال في ذلك ما يحكى أن رجلاً من أهل الوجد من المتصوفة سمع قارئاً يقرأ" يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية" فاستعادها من القارئ مراراً، وجعل يقول: كم أقول لها ارجعي، فليس ترجع، وتواجد؛ وزعق وصعق صعقة فخرجت روحه. وسمع آخر يقرأ: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين، قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو " جزاؤه" فاستعادها وزعق وصعق، فخرجت روحه. فقال أهل الوجد: إنما حمل معنى قوله:" جزاؤه من وجد في رحله" إن المحبوب مصورة في نفس الحبيب، ورسوم شكله منقوشة في قلبه، فذلك جزاؤه. ألا ترى يا أخي كيف حمل معنى القول على مذهبه ومقصده مع شهرة معنى الآية في الظاهر، وآخر سمع قول القائل وهويغني:
قال الرسول: غداً تزو- ر، فقلت: تدري ما تقول، فاستفزه القول واللحن، وتواجد وجعل يكرره ويجعل مكان التاء نوناً، ويقول: غداً نزور، حتى غشي عليه من شدة الفرح واللذة والسرور. فلما أفاق سئل عن وجده مم كان، فقال: ذكرت قول الرسول- صلى الله عليه وسلم- إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة مرة.
ويروى في الخبر أن ألذ نغمة يجدها أهل الجنة، وأطيب نغمة يسمعونها مناجاة الباري- جا ثناؤه- وذلك قوله تعالى:" تحيتهم يوم يلقونه: سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين." ويقال إن موسى- عليه السلام- لما سمع مناجاة ربه، داخله من الفرح والسرور واللذة ما لم يتمالك نفسه حتى طرب وترنم وصغر عنده بعد ذلك كل النغمات والألحان والأصوات.
وفقك الله أيها الأخ لفهم معاني هذه الإشارات اللطيفة والأسرار الخفية، وبلغك بلاغها وإيانا وجميع إخواننا حيث كانوا وأين كانوا من البلاد، إنه رؤوف بالعباد.
تمت الرسالة الخامسة في الموسيقى، الحمد لله حمد الشاكرين، وصلى الله على سدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرسالة السادسة من القسم الرياضي
في النسبة العددية والهندسية في تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، الله خير أما يشركون، أعلم أيها الأخ- أيدك الله وإيانا بروح منه- أنا قد فرغنا من الرسالة التي تقدم ذكرها، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة نسبة العدد بعضها إلى بعض، فنقول: أعلم بأن النسبة هي قدر أحد المقدارين عند الآخر، وكل عددين إذا أضضيف أحدهما إلى الآخر، فلا يخلومن أن يكونا متساويين أومختلفين، فإن كانا متساويين، فيقال لإضافة أحدهما إلى الآخر نسبة التساوي؛ وإن كانا مختلفين، فلا بد من أن يكون أحدهما أكثر والآخر أقل؛ فإن أضيف الأقل إلى الأكثر، يقال له الاختلاف الأصغر، ويعبر عنه بأحد تسعة الألفاظ التي ذكرنا قبل، وهي النصف والثلث والربع والخمس والسدس والسبع والثمن والتسع والعشر، وما تركب من هذه الألفاظ؛ ويضاف إليها مثل ما يقال نصف السدس وثلث الخمس، وما شاكل ذلك. وهذه النسبة معروفة بين الحساب مثل نسبة الستة إلى الستين وغيره من الأعداد. وأما إن أضيف العدد الأكثر إلى الأقل، فيقال له الاختلاف الأعظم، والنظر والكلام في مثل هذه النسبة للمتفلسفين لا لحساب الدواوين.
وهذه النسبة معروفة تتنوع بخمسة أنواع، ويعبر عنها بخمسة ألفاظ، أولها نسبة النصف، والثاني نسبة المثل الزائد جزاءاً، والثالث نسبة المثل والزائد جزء، والرابع نسبة الضعف والزائد جزء، والخامس نسبة الضعف والزائد جزء. ولا يمكن أن يضاف عدد أكثر إلى عدد أقل، فيكون خارجاً من هذه النسب الخمس.
أما نسبة الضعف فهو مثل إضافة سائر الأعداد المبتدأة من الاثنين على النظم الطبيعي، بالإضافة إلى الواحد بالغاً ما بلغ. فإن الاثنين ضعف الواحد، والثلاثة ثلاثة أضعافه، والأربعة أربعة أضعافه، وكذلك الخمسة خمسة أضعافه. وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغاً ما بلغ. وإذا أضيف إلى الواحد يقال له نسبة ذي الأضعاف، وهذه صورتها: 1 2 3 4 5 6 7 8 9 وأما نسبة المثل والزائد جزء، فهو مثل نسبة سائر الأعداد المبتدأة من الاثنين، المنتظمة على النظم الطبيعي، كل واحدة إلى نظيرتها، كالثلاثة إلى الاثنين، والأربعة إلى الثلاثة، والخمسة إلى الأربعة، والستة إلى الخمسة، وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغاً ما بلغ، إذا أضيف إلى الذي قبله بواحد، فغنه لا يخرج من هذه النسبة التي هي مثل وجزء منه، وهذه صورتها: 3 4 5 6 7 8 9 2 3 4 5 6 7 8 وأما نسبة المثل والزائد أجزاء، فهو مثل نسبة سائر الأعداد المبتدأة من الثلاثة، المنتظمة على النظم الطبيعي، إذا أضيف إليها سائر الأعداد المبتدأة من الخمسة، المنتظمة على نظم الأفراد، دون الأزواج، كالخمسة إلى الثلاثة، والسبعة إلى الأربعة، والتسعة إلى الخمسة، والأحد عشر إلى الستة، والثلاثة عشر إلى السبعة، وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغاً ما بلغ، وهذه صورتها: 5 7 9 11 13 15 3 4 5 6 7 8
وأما نسبة الضعف والزائد جزء، فهو مثل سائر الأعداد المبتدأة من الاثنين، المنتظمة على النظم الطبيعي، إذا أضيف إليها سائر الأعداد المبتدأة من الخمسة على نظم الأفراد دون الأزواج، كالخمسة إلى الاثنين، والسبعة إلى الثلاثة، والتسعة إلى الأربعة، والأحد عشر إلى الخمسة، وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغاً ما بلغ، وهذه صورتها: 5 7 9 11 2 3 4 5 وأما نسبة الضعف والزائد أجزاء، فهو مثل نسبة سائر الأعداد المبتدأة من الثلاثة على النظم الطبيعي إذا أضيف إليها سائر الأعداد المبتدأة من الثمانية بزيادة الثلاثة، كالثمانية إلى الثلاثة، والأحد عشر إلى الأربعة، والأربعة عشر إلى الخمسة، والسبعة عشر إلى الستة، وعلى هذا القياس سائر الأعداد بالغاً ما بلغ يتخطى ثلاثة ثلاثة على هذا المثال، وهذه صورتها: 8 11 14 17 3 4 5 6 فقد تبين أن كل عددين مختلفين إذا أضيف الأكثر إلى الأقل، فلا يخلومن هذه الخمس النسب التي ذكرناها، وهي نسبة الضعف والمثل وجزء، والمثل وأجزاء، والضعف وجزء، والضعف وأجزاء. وأما إذا أضيف الأقل إلى الأكثر، على هذا الترتيب الذي بيناه، فيزاد في هذه الخمسة الألفاظ لفظة أخرى، هي لفظة تحت، فيقال: إذا أضيف الواحد إلى سائرالأعداد، فهي تحت ذي الأضعاف، والاثنان إذا أضيفت للثلاثة فيقال: تحت المثل والزائد جزءاً، وكذلك إذا أضيف الثلاثة إلى الأربعة، والأربعة إلى الخمسة، وعلى هذا القياس وبالعكس مما ذكرناه في الباب الأول من نسبة الأكثر إلى الأقل كل واحد بالنسبة إلى نظيره، كالثلاثة إذا أضيف إلى الخمسة، والأربعة إلى السبعة، والخمسة إلى التسعة، فيقال تحت المثل والزائد أجزاء. وأما الاثنان إلى الخمسة، والثلاثة إلى السبعة، والأربعة إلى التسعة، فيقال تحت الضعف والزائد جزءاً. وأما الثلاثة إلى الثمانية، والأربعة إلى الأحد عشر، والخمسة إلى الأربعة عشر، والستة إلى السبعة عشر، فيقال تحت الضعف والزائد أجزاء. فقد تبين أن نسبة الأقل إلى الأكثر لا تخلومن هذه الخمسة المعاني التي تحت ذي الأضعاف وتحت المثل والزائد جزءاً، وتحت المثل والزائد أجزاء، وتحت ذي الأضعاف والزائد جزءاً، وتحت ذي الأضعاف والزائد أجزاء.
فصل في النسب
أعلم أن النسبة على ثلاثة أنواع، إما بالكمية، وإما بالكيفية، وإما بهما جميعاً، فالتي بالكمية يقال لها نسبة عددية، والتي بالكيفية يقال لها نسبة هندسية، والتي بهما جميعاً يقال لها نسبة تأليفية وموسيقية. وأما النسبة العددية فهي تفاوت ما بين عددين مختلفين بالتساوي، مثال ذلك: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة، عشرة، فإن تفاوت ما بين كل عددين من هذه الأعداد واحد واحد، وكذلك: اثنان، أربعة، ستة، ثمانية، عشرة، اثنا عشر، أربعة عشر، ستة عشر، ثمانية عشر، وما زاد فإن التفاوت بين كل عددين من هذه الأعداد اثنان اثنان. وكذلك: واحد، ثلاثة، خمسة، سبعة، تسعة، أحد عشر، وما زاد على ذلك فإن التفاوت بين كل عددين منها اثنان اثنان. وعلى هذا القياس تبنى سائر النسب العددية، وإنما يعتبر مساواة تفاوت ما بينهما. ومن خاصية هذه النسبة أن كل عددين- أي عددين كانا- إذا أخذ نصف كل واحد منهما، وجمع يكون منهما عدد آخر متوسط بين العددين؛ مثال ذلك: ثلاثة وأربعة تفاوت ما بينهما واحد، فإن أخذ نصف الثلاثة وهو واحد، ونصف الأربعة وهواثنان، وجمع بينهما يكون ثلاثة ونصفاً، وثلاثة ونصف أكثر من ثلاثة بنصف، وينقص عن الأربعة بنصف، وعلى هذا القياس يعتبر سائر النسب العددية.
وأما النسبة الهندسية فهي قدر أحد العددين المختلفين عند العدد الآخر، مثال ذلك: أربعة، ستة، تسعة، فإنما هي في نسبة هندسية، وذلك أن نسبة الأربعة إلى الستة كنسبة الستة إلى التسعة، وذلك أن الأربعة ثلثا الستة، والستة ثلثا التسعة، وكذلك بالعككس، فإن نسبة التسعة إلى الستة كنسبة الستة إلى الأربعة، وذلك أن التسعة مثل الستة ومثل نصفها، والستة مثل الأربعة ومثل نصفها، وهكذا: ثمانية واثنا عشر، وثمانية عشر وسبعة وعشرون، فإنها كلها في نسبة هندسية، وذلك أن الثمانية ثلثا الاثني عشر، ولاثني عشر ثلثا الثمانية عشر، والثمانية عشر ثلثا السبعة والعشرين، وكذلك بالعكس سبعة وعشرون مثل ثمانية عشر ومثل نصفها، وعلى هذا المثال يعتبر سائر النسب الهندسية.
وهي تنقسم نوعين متصلة ومنفصلة، فالمتصلة مثل هذه التي قدمنا ذكرها، ومن خاصية هذه النسبة، إذا كانت ثلاثة أعداد، فإن ضرب الأول في الثالث مثل ضرب الثاني في نفسه، مثال ذلك أن ضرب الأربعة في التسعة مثل ضرب الستة في نفسها، وإن كانت أربعة أعداد، فإن ضرب الأول في الرابع مثل ضرب الثاني في الثالث، مثال ذلك ثمانية واثنا عشر، وثمانية عشر وسبعة وعشرون.
وأما المنفصلة فهي مثل أربعة وستة وثمانية واثني عشر، فإن نسبة الأربعة إلى الستة كنسبة الثمانية إلى الاثني عشر، لأن الثمانية ثلثا الاثني عشر، وليست الستة ثلثي الثمانية، لكن الأربعة ثلثا الستة، فهذه النسبة وأمثالها يقال لها منفصلة. ومن خاصية هذه النسبة إن ضرب الأول في الرابع مثل ضرب الثاني في الثالث. ومن خاصية النسبة المتصلة إن الحد الأوسط مشترك في النسبة، وأما المنفصلة فالحد الوسط غير مشترك في النسبة. وأما النسبة التأليفية فهي المركبة من الهندسية والعددية، مثال ذلك واحد واثنان وثلاثة وأربعة وخمسة وستة، فالستة تسمى الحد الأعظم، والثلاثة الحد الأصغر، والأربعة الحد الأوسط، وواحد واثنان هما التفاضل بين الحدود، وذلك أن فضل ما بين الستة والأربعة اثنان، وفضل ما بينالأربعة والثلاثة واحد؛ فنسبة الاثنين الذي هوالتفاضل بين الستة والأربعة والثلاثة إلى الواحد الذي هوالتفاضل بين الأربعة والثلاثة، كنسبة الحد الأعظم الذي هوالستة إلى الحد الأصغر الذي هوالثلاثة. وكذلك بالعكس نسبة الثلاثة الذي هوالحد الأصغر إلى الستة الذي هوالحد الأعظم، كنسبة الواحد إلى الاثنين الذي هوتفاوت ما بين الأربعة والستة. ومن وجه آخر نسبة الواحد إلى الاثنين كنسبة الاثنين إلى الأربعة، وكنسبة الثلاثة إلى الستة؛ وعكس ذلك نسبة الستة إلى الثلاثة كنسبة الأربعة إلى الاثنين، ونسبة الاثنين إلى الواحد. ومن وجه آخر نسبة الستة إلى الأربعة إلى الاثنين، الثلاثة إلى الاثنين، وعكس ذلك نسبة الاثنين إلى الثلاثة كنسبة الأربعة إلى الستة. فإن هذه النسبة مؤلفة من العددية والهندسية ومركبة منهما. ومن هذه النسبة استخراج تأليف النغم والألحان كما بينا في رسالة الموسيقى.
فصل في استخراج النسب المتصلة
كل عدد، أي عدد كان، أضيف إلى عدد آخر أكثر منه، فله إليه نسبة ما، وقد يجد عدد آخر أقل منهه في تلك النسبة، مثال ذلك عشرة إذا نسبت إلى مئة، فإنها في نسبة العشر، ودونها الواحد في تلك النسبة، لأن الواحد عشر العشر، كما أن العشرة عشر المئة؛ وكذلك نسبة العشرة إلى التسعين كنسبة الواحد والتسع إلى العشرة؛ وكذلك نسبة العشرة إلى الثمانين كنسبة الواحد والربع إلى العشرة؛ وكذلك نسبة العشرة إلى السبعين كنسبة الواحد وثلاثة أسباع إلى العشرة؛ وكذلك نسبة العشرة إلى الستين كنسبة الواحد والثلثين إلى العشرة، وكذلك نسبة العشرة من الخمسين كنسبة الاثنين من العشرة، ونسبة العشرة من الأربعين كنسبة الاثنين ونصف إلى العشرة، ونسبة العشرة من الثلاثين كنسبة الثلاثة والثلث من العشرة، ونسبة العشرة من العشرين كنسبة الخمسة من العشرة؛ وعلى هذا القياس تعتبر سائر النسب المتصلة.
والقياس في استخراج هذه النسبة أن يضرب ذلك العدد في نفسه، ويقسم العدد الحاصل منه على العدد الأكثر، فما خرج فهو العدد الأقل في تلك النسبة؛ وإن قسم المبلغ على العدد الأقل خرج العدد الأكثر في تلك النسبة، مثال ذلك إذا قيل لك: أجدني عدداً يكون نسبته إلى العشرة كنسبة العشرة إلى الأحد عشر، فبابهأن تضرب العشرة في نفسها، ويقسم المبلغ على أحد عشر، فيخرج تسعة وجزء من أحد عشر؛ فيكون نسبة التسعة وجزء من أحد عشر إلى العشرة كنسبة العشرة إلى الأحد عشر. وإن قسمت ذلك على تسعة خرج أحد عشر وتسع، فنسبة العشرة إلى التسعة كنسبة الأحد عشر والتسع إلى العشرة. ومن خاصية هذه النسبة إنه متى كان اثنان منها معلومين والثالث مجهولاً، يمكن أن يعلم ذلك المجهول من المعلومين، فبابه أن يضرب أحد المعلومين في نفسه، ويقسم المبلغ على الآخر، فما خرج فهو ذلك المجهول المطلوب. مثال ذلك إذا قيل لك: أوجدني عدداً يكون نسبته إلى الاثنين كنسبة الأربعة إلى الستة، أوقال: نسبة الأربعة إليه كنسبة الستة إلى الأربعة. فالقياس فيهما واحد وهوأن تضرب الأربعة في نفسها، فيكون ستة عشر، فنقسمها على الستة فيكون اثنين وثلثين، فنقول: نسبة الاثنين وثلثين إلى الأربعة كنسبة الأربعة إلى الستة، وعكس ذلك نسبة الأربعة إلى الاثنين والثلثين كنسبة الستة إلى الأربعة. فإن ذكر الستة فافعل بها مثل ما فعلت بالأربعة، فإن الباب فيهما واحد، وذلك أن الستة، إذا ضربت في نفسها، وقسم المبلغ على أربعة، كانت تسعة، فنقول نسبة التسعة إلى الستة كنسبة الستة إلى الأربعة، وعكس ذلك نسبة الستة إلى التسعة كنسبة الأربعة إلى الستة، وعلى هذا المثال فقس نظائر ذلك. ومن هذه النسبة يستخرج المجهولات الهندسية بالمعلومات، وكذلك المجهولات التي في المعاملات إن كان ثمناً أومثمناً، مثاله إذا قيل: عشرة نسبة إلى أربعة بكم، فاضرب الأربعة في ستة، واقسم المبلغ على العشرة، فما خرج فهو المطلوب.
وأعلم بأنه تارة يكون المجهول هوالثمن، وتارة هوالمثمن، فاجتهد في القياس أن لا يضرب الثمن والمثمن في المثمن، ولكن الثمن في المثمن، والمثمن في الثمن.
فصل في التناسب
أعلم أن التناسب هواتفاق أقدار الأعداد بعضها من بعض، والعددان لا يتناسبان. أقل النسبة من ثلاثة أعداد، وأقل الأعداد المتناسبة بثلاثة أعداد المتناسبة إذا كانت ثلاثة، فإن قدر أولها من ثانيها كقدر ثانيها من ثالثها، وكذلك بالعكس، كل ثلاثة أعداد متناسبة، فإن مضروب أولها في ثالثها كمضروب ثانيها في نفسه، وهذا مثال ذلك 964، كل ثلاثة أعداد متناسبة إذا كانت حاشيتاها معلومتين والواسطة مجهولة، أعني بالحاشيتين الأول والثالث، فإذا ضربت إحدى الحاشيتين في الأخرى، وأخذ جذر المجتمع، كان ذلك هوالواسطة المجهولة. فإن كانت إحدى الحاشيتين معلومة والواسطة معلومة، ضربت الواسطة في مثلها، وقسم المبلغ على الحاشية المعلومة، فما خرج من القسمة فهو الحاشية المجهولة الأعداد المتناسبة، إذا كانت أربعة فإن نسبتها على نوعين، إحدهما نسبة التوالي، والآخر غير التوالي. فأما الأعداد المتناسبة المتوالية على نسبتها إذا كانت أربعة، فإن قدر أولها من ثانيها كقدر ثانيها من ثالثها، وثانيها من ثالثها من رابعها، مثال ذلك:" ب د ح يو" إذا كانت أعداداً متناسبة غير متوالية، كان قدر أولها من ثانيها كقدر ثالثها من رابعها، ولم يكن قدر ثانيها من ثالثها كقدر ثالثها من رابعها، مثل هذه الصورة: ح وج يو، كل أربعة أعداد متناسبة متوالية كانت أوغير متوالية، فإن مضروب أولها في رأبعها مثل مضروب ثانيها في ثالثها. وإذا ضربت إحدى الواسطتين في الأخرى، وقسم المبلغ على الحاشية المعلومة، فما خرج فهو الحاشية المجهولة، فإن كانت إحدى الواسطتين مجهولة وسائرها معلومة، ضربت إحدى الحاشيتين في الأخرى، وقسمت المبلغ على الواسطة المعلومة، فما خرج فهو الواسطة المجهولة الأعداد المتناسبة المتوالية على نسبتها.
إذا كانت أربعة وكان عددان منها معلومين والباقيان مجهولين أمكن إخراج المجهولين بالمعلومين، فإن كان الأول والثاني معلومين ضربت الثاني في مثله وقسمت المبلغ على الأول، فما خرج فهو الثالث؛ فإن كان الأول والثالث معلومين ضربت الأول في الثالث واخذت جذر المبلغ، فما كان فهو الثاني، ثم ضربت الثالث في نفسه، وقسمت المبلغ على الثاني، فما خرج فهو الرابع.
وكذلك العمل في سائر الأعداد. فأما إذا كانت أربعة أعداد متناسبة غير متوالية، وكان المعلوم منها عددين، لم يمكن استخراج المجهولين بالمعلومين، غير أنه إذا كان الأول والثاني معلومين، وكان الثاني أكثر من الأول، قسم الثاني على الأول، فما خرج من أضعاف الأول ونسبته، فإن في الرابع مثل ذلك من أضعاف الثالث؛ وإذا كان الأول أكثر من الثاني قسم الأول على الثاني، فما خرج من القسمة، ففي الثالث مثل ذلك من اضعاف الرابع.
وأما قلب النسبة فأن تجعل نسبة الأول إلى الثالث، كنسبة الثاني إلى الرابع على الاستواء والعكس. وأما ترتيب النسبة، فأن تجعل نسبة الأول إلى الأول والثاني معاً، كنسبة الثالث إلى الثالث والرابع معاً، وكذلك هو في العكس والتبديل. وأما تفضيل النسبة فهو نسبة زيادة الأول على الثاني، إلى الثاني، كذلك يكون نسبة زيادة الثالث على الرابع، إلى الرابع. وأما تنقيص النسبة فأن تجعل نسبة ما بقي من الثاني، بعد ما نقص منه الأول، إلى الأول، كنسبة الرابع، بعد ما نقص منه الثالث، وكذلك في العكس وتبديل النسبة.
فصل في فضيلة علم النسب العددية والهندسية
والموسيقية
أعلم أيها الأخ البار الرحيم- أيدك الله وإيانا بروح منه- أنه قد اتفقت الأنبياء- صلوات الله عليهم- والفلاسفة بأن الله- عز وجل- الذي لا شريك له ولا شبه له، واحد بالحقيقة من جميع الوجوه، وأن كل ما سواه من جميع الموجودات مثنوية مؤلفة ومركبة. وذلك أن الله لما أراد إيجاد العالم الجسماني اخترع أولاً الأصلين وهما الهيولى والصورة، ثم خلق منهما الجسم المطلق، وجعل بعض الأجسام يعني الأركان على الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، والأركان هي النار والهواء والماء والأرض. ثم خلق من هذه الأركان جميع ما على وجه الأرض من الحيوان والنبات والمعادن.
وأعلم أن هذه الأركان متفاوتات القوى، متضادات الطبائع، مختلفات الصور، متباينات الأماكن، متعاديات متنافرات، لا تجتمع إلا بتأليف المؤلف لها. والتأليف متى لا يكون على النسبة لم يمتزج ولم يتحد، ومن أمثال ذلك أصوات النغم الموسيقية، وذلك أن نغمة الزير رقيق خفيف، ونغمة البم غليظ ثقيل، والرقيق ضد الغليظ والخفيف ضد الثقيل، وهما متباينان متنافران لا يجتمعان ولا يلتقيان إلا بمركب ومؤلف يؤلفهما. ومتى لا يكون التأليف على النسبة لا يمتزجان ولا يتحدان ولا يستلذهما السمع، فمتى ألفا على النسبة ائتلفا وصارا كنغمة واحدة، لا يميز السمع بينهما، وتستلذهما الطبيعة، وتسر بهما النفوس، وهكذا أيضاً الكلام الموزون إذا كان على النسبة، يكون في السمع ألذ من النثر الذي ليس بموزون، لما في الموزون من النسب ومن أمثال ذلك عروض الطويل، فإنه ثمانية وأبعون حرفاً: ثمانية وعشرون حرفاً متحركة وعشرون حرفاً ساكنة؛ فنسبة سواكنه إلى متحركاته كنسبة خمسة أسباع، وهكذا نسبة نصف البيت، وهوأربعة عشر حرفاً متحركة، وعشرة أحرف ساكنة؛ وهكذا نسبة الربع سبعة أحرف متحركة، وخمسة أحرف سواكن. وأيضاً فهو مؤلف من اثني عشر سبباً، والأسباب اثنا عشر حرفاً متحركة، واثنا عشر ساكنة، وثمانية أوتاد: ثمانية أحرف منها سواكن، وستة عشر حرفاً متحركة.
ومن أمثال ذلك أيضاً حروف الكتابة، فغنها مختلفة الأشكال، متباينة الصور، وإذا جعل تقديرها ووضع بعضها من بعض على النسبة، كان الخط جيداً، وإن كان على غير النسبة كان الخط رديئاً. وقد بينا نسبة الحروف بعضها من بعض كيف ينبغي أن تكون في رسالة أخرى.
ومن أمثال ذلك أيضاً أصباغ المصورين، فإنها مختلفة الألوان، متضادة الشعاع، كالسواد والبياض والحمرة والخضرة والصفرة، وما شاكلها من سائر الألوان؛ فمتى وضعت هذه الأصباغ بعضها من بعض على النسبة، كانت تلك التصاوير براقة حسنة تلمع، ومتى كان وضعها على غير النسبة، كانت مظلمة كدرة غير حسنة. وقد بينا في رسالة أخرى كيف ينبغي أن يكون وضع تلك الأصباغ على النسبة بعضها من بعض حتى تكون حسنة.
ومن أمثال ذلك أيضاً أعضاء الصور ومفاصلها، فإنها مختلفة الأشكال، متباينة المقادير، فمتى كانت مقادير بعضها من بعض على النسبة ووضع بعضها من بعض على النسبة، كانت الصورة صحيحة محققة مقبولة، ومتى كانت على غير ما وصفنا، كانت سمجة مضطربة غير مقبولة في النفس. وقد بينا من ذلك طرفاً كيف ينبغي تقدير الصور ووضع أعضائها بعضها من بعض في الرسالة المتقدم ذكرها.
ومن أمثال ذلك أيضاً عقاقير الطب وأدويتها، فغنها متضادات الطباع، مختلفات الطعوم والروائح واللوان، فإذا ركبت على النسبة، صارت أدوية ذات منافع كثيرة؛ مثل الترياقات والمراهم وما شاكل ذلك، ومتى ركبت على غير نسبة في أوزانها ومقاديرها، صارت سموماً ضارة قاتلة.
ومن أمثال ذلك أيضاً حوائج الطبيخ، فإنها مختلفة الطعم واللون والروائح والمقادير، فمتى جعلت مقاديرها في القدر عند الطبخ لها على النسبة، كان الطبيخ طيب الرائحة، لذيذ الطعم، جيد الصنعة؛ ومتى كان على غير النسبة كان بخلاف ذلك. ومن أجل هذا ذكر في كتاب الطب وفي كتب الصنعة أن تلك العقاقير متى ركبت على النسبة ودبرت على تلك النسبة؛ صحت؛ ومتى كانت على غير ذلك فسدت ولم تصح. وعلى هذا القياس تركيب جواهر المعادن كلها من الزئبق والكبريت، وذلك أن الزئبق والكبريت متى امتزجا وكان مقدارهما على النسبة، وطبختهما حرارة المعدن على ترتيب واعتدال انعقد من ذلك على طول الزمان الذهب الإبريز؛ ومتى لم تكن أجزاؤهما على تلك النسبة وقصرت حرارة المعدن عن طبخهما صارت فضة بيضاء؛ ومتى كانت أجزاء الكبريت زائدة الحرارة نشفت رطوبة الزئبق، وغلب اليبس عليها، وصارت نحاساً أحمر، ومتى كان الزئبق والكبريت غليظين غير صافيين صار منهما الحديد؛ ومتى كان الزئبق أكثر والكبريت أقل، والحرارة ناقصة، غلب البرد عليها وصارت أسرباً؛ وعلى هذا القياس تختلف جواهر المعادن بحسب مقادير الزئبق والكبريت، وامتزاجهما على النسبة، والخروج إلى الزيادة والنقصان، واعتدال طبخ الحرارة لها، والخروج منها بالإفراط والتقصير.
وعلى هذا القياس تختلف أشكال الحيوان والنبات، وهيئاتها وألوانها وطعومها وروائحها على حسب تركيب أجزاء الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ونسبة مقادير أجزائها، وقوى بعضها من بعض. ومن أمثال ذلك أن المولودين من البشر متى كانت كمية الأخلاط التي ركبت منها أجسامهم أعني الدم والبلغم والمرتين في أصل تركيبهم على النسبة الأفضل، ولم يعرض لها عارض، كانت أجسادهم صحيحة المزاج، وبنية أبدانهم قوية، وألوانهم صافية، وهكذا متى كان تقدير أعضائهم ووضع بعضها من بعض على النسبة الأفضل كانت صورهم حسنة، وهيئاتهم مقبولة، وأخلاقهم محمودة؛ ومتى كانت على خلاف ذلك كانت أجسادهم مضطربة، وصورهم وحشة، وأخلاقهم غير محمودة؛ والمثال في ذلك المولودون الذين غلبت على أمزجة أبدانهم الحرارة، فإن أجسادهم تكون نحيفة، وألوانهم سمراً، ويكونون سريعي الحركة والغضب، زائدين في الشجاعة إلى التهور، ومن السخاء إلى التبذير. وأما الذين الغالب على أبدانهم البرودة، فغنهم يكونون بطيئي الحركة عبل؛ الأجساد، بيض الألوان، قليلي الغضب، زائدين في الجبن والبخل، وقد تبين هذا في كتب الطب، وكتب الفراسة بشرح طويل، وإنما أردنا نحن أن نذكر من كل جنس من الموجودات مثالاً، ليكون دالاً عى شرف علم النسب الذي يعرف بالموسيقى، وإن هذا العلم محتاج إليه في الصنائع كلها، وإنما خص هذا العلم باسم الموسيقى الذي هوتآلف الألحان والنغم، لأن المثال فيه أبين، وذلك أن القدماء من الحكماء إنما استخرجوا أصول الألحان والنغم من المعرفة بالنسبة العددية والهندسية، لما جمعوا بينهما، خرجت النسبة الموسيقية كما بينا في الفصل الذي في استخراج النسب.
وذكر أصحاب النجوم والمتفلسفون أن للسعود من الكواكب، لأفلاكها ولأعظام أجرامها، ولسرعة حركاتها إلى الأركان الأربعة، نسبة موسيقية، وإن لتلك الحركات نغمات لذيذة، وإن النحوس من الكواكب ليست لها تلك النسبة، وكذلك لبيوت الفلك التي يناظر بعضها بعضاً نسبة شريفة، وإن البيوت التي لا تتناظر ليست لها تلك النسبة؛ وإن لبيوت النحوس وأفلاكها بعضها إلى بعض نسبة، وإن لبيوت السعود وأفلاكلها بعضها إلى بعض نسبة شريفة، ليست بينها وبين النحوس تلك النسبة، ولا بين النحوس بعضها من بعض. ومن أجل شرف علم النسبة ولطيف معانيها أفرد في كتاب أقليدس مقالتان في علم النسب بمثالات وبراهين. وبالجملة إن كل مصنوع من أشياء متضادة الطبائع، متعادية القوى، مختلفة الأشكال، فإن أحكمها وأتقنها ما كان تركيب أجزائه وتأليف أعضائه على النسبة الأفضل.
ومن عجائب خاصية النسبة ما يظهر في البعاد والأثقال من المنافع. من ذلك ما يظهر في القرسطون أعني القبان، وذلك أن أحد رأسي عمود القرسطون طويل بعيد من المعلاق، والآخر قصير قريب منه؛ فإذا علق على رأسه الطويل ثقل قليل، وعلى رأسه القصير ثقل كثير، تساويا وتوازنا، متى كانت نسبة الثقل القليل إلى الثقل الكثير كنسبة بعد رأس القصير إلى بعد رأس الطويل من المعلاق. ومن أمثال ذلك ما يظهر في ظل الأشخاص من التناسب بينها، وذلك أمن كل شخص مستوي القد منتصب القوام، فإن له ظلاً ما، وإن نسبة طول ظل ذلك الشخص إلى طول قامته في جميع الأوقات، كنسبة جيب الارتفاع، في ذلك الوقت، إلى جيب تمام الارتفاع سواء، وهذا لا يعرفه إلا المهندسون أومن يحل الزيج. وهكذا توجد هذه النسبة في جر الثقيل بالخفيف، وفي تحريك المحرك زماناً طويلاً بلا ثقل ثقيل. ومن ذلك ما يظهر أيضاً في الأجسام الطافية فوق الماء، وما بين أثقالها ومقعر أجرامها في الماء من التناسب، وذلك أن كل جسم يطفوفوق الماء، فإن مكانه المقعر يسع من الماء بمقدار وزنه سواء، فإن كان ذلك الجسم لا يسع مقعره بوزنه من الماء، فإن ذلك الجسم يرسب في الماء ولا يطفو.وإن كان ذلك المقعر يسع بوزنه من الماء سواء، فإن ذلك الجسم لا يرسب في الماء، ولا يبقى منه شيء ناتئ عن الماء، بل يبقى سطحه منطفحاً مع سطح الماء سواء، وكا جسمين طافيين فوق الماء، فإن نسبة سعة مقعر أحدهما إلى الآخر، كنسبة ثقل أحدهما إلى الآخر سواء. وهذه الأشياء التي ذكرناها يعرفها من كان يتعاطى صناعة الحركات، أوكان عالماً بمراكز الأثقال والأفلاك والأجرام والأبعاد.
ومن الفوائد ما يظهر من المجهولات علمها بمعرفة النسب، من ذلك ما يتبين من التناسب بين الأشياء المثمنة، وبين أثمانها المفروضة لها، وذلك أن كل شيء يقدر بقدر كما من الوزن والكيل والذرع والعدد، ثم يفرض له ثمن، فإن بين ذلك الشيء المقدر وبين ثمنه المفروض له، نسبتين، إحداهما مستوية والأخرى معكوسة؛ مثال ذلك: إذا قيل: عشرة بستة، فالعشرة هي الشيء المقدر، والستة هي الثمن المفروض، وبينهما نسبتان، إحداهما مستوية، والأخرى معكوسة، وذلك أن الستة نصف العشرة وعشرها، وعكس ذلك العشرة، فإنها مثل الستة وثلثيها. وكل سائل إذا سأل عن ثمن شيء ما، فلا بد له أن يلفظ بأربعة مقادير: ثلاثة منها معلومة وواحدة مجهولة؛ وبين كل قدرين منها نسبتان: مستوية ومعكوسة، مثال ذلك إذا قيل: عشرة بستة بأربعة كم، فقوله: عشرة هي قدر معلوم، وكذا ستة وأربعة؛ وأما قوله: كم، فقدر مجهول. فنقول: إن بين الستة والعشرة نسبتين، كما بينا، وكذلك بين الأربعة وبين الكم، الذي هوالقدر المجهول، نسبتان، وكذلك بين العشرة وبين المجهول نسبتان، وكذلك بين الستة وبينه نسبتان: بيان ذلك أن القدر المجهول هوالستة وثلثان، فنقول: إن الكم ثلثا العشرة، كما أن الأربعة ثلثا الستة، وإن العشرة مثل الكم ومثل نصفه، كما أن الستة مثل الأربعة ومثل نصفها. وأيضاً الكم مثل الأربعة ومثل ثلثيها، كما إن العشرة مثل الستة ومثل ثلثيها، وعكس ذلك أن الأربعة نصف الكم وعشره، كما أن الستة نصف العشرة وعشرها.
فإذا قيس هذا المثال وجد بين كل مثمن وبين ثمنه نسبتان: مستوية ومعكوسة، وعرف المجهول بالمعلوم. وإن ضرب أحد المعلومين في الآخر، وقسم المبلغ على الثالث، فما خرج فهو المجهول المطلوب؛ مثال ذلك إذا قيل: عشرة بستة كم بأربعة، فاضرب الأربعة في عشرة، وأقسمها على ستة، فما خرج فهو المجهول المطلوب، وهوستة وثلثان.
وعلى هذا المثال فقد بان أن على نسبة العدد على شريف جليل، وإن الحكماء، جميع ما وضعوه من تأليف حكمتهم فعلى هذا الأصل أسسوه وأحكموه وقضوا لهذا العلم بالفضل على سائر العلوم، إذ كانت كلها محتاجة إلى أن تكون مبنية عليه، ولولا ذلك لم يصح عمل ولا صناعة، ولا ثبت شيء من الموجودات على الحال الأفضل. فأعلم ذلك أيها الأخ، وتفكر فيه غاية التفكر، فإنه علم يهدي إلى سواء الصراط، نفعك الله، وأرشدنا وإياك، وجميع إخواننا بمنه ورحمته.
الرسالة السابعة في الصنائع العلمية والغرض منها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، آلله خير أما يشركون.
أعلم أيها الأخ- أيدك اله وإيانا بروح منه- إنا قد فرغنا من ذكر النسب العددية، وأخبرنا بماهياتها وكمية أجناسها وأنواع تلك الأجناس، ووصفنا كيفية إظهارها من القوة إلى الفعل، وبينا أن الموضوع فيها كلها أجسام طبيعية، وإن مصنوعاتها كلها جواهر جسمانية، وإن أغراضها كلها عمارة الأرض لتتميم أمر معيشة الحياة الدنيا؛ فنريد أن نذكر في هذه الرسالة الصنائع العلمية التي هي الموضوع فيها جواهر روحانية، التي هي أنفس المتعلمين، ونبين أن تأثيراتها في المتعلمين كلها روحانية، كما ذكرنا في رسالة المنطق، ونبين أيضاً ماهية العلوم، ونذكر كمية أجناسها وأنواع تلك الأجناس، ونصف أيضاً كيفية إخراج ما في قوة النفس من العلوم إلى الفعل الذي هوالغرض الأقصى في التعاليم، وهوإصلاح جواهر النفوس، وتهذيب أخلاقها وتتميمها وتكميلها للبقاء في دار الآخرة التي هي دار الحيوان، لوكانوا يعلمون، والذين يريدون الخلود في الدنيا هم الغافلون عن أمر الآخرة.
فصل في مثنوية الإنسان
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الإنسان لما كان هوجملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، وهما جوهران متباينان في الصفات، متضادان في الأحوال، ومشتركان في الأفعال العارضة والصفات الزائلة، صار الإنسان من أجل جسده الجسماني مريداً للبقاء في الدنيا، متمنياً للخلود فيها، ومن أجل نفسه الروحانية صار طالباً للدار الآخرة، متمنياً للبلوغ إليها، وهكذا أكثر أمور الإنسان وتصرف أحواله مثنوية، متضادة كالحياة والممات والنوم واليقظة والعلم والجهالة والتذكر والغفلة والعقل والحماقة والمرض والصحة والفجور والعفة والبخل والسخاء والجبن والشجاعة والألم واللذة، وهومتردد بين الصداقة والعداوة والفقر والغنى والشبيبة والهرم والخوف والرجاء والصدق والكذب والحق والباطل والصواب والخطأ والخير والشر والقبح والحسن وما شاكلها من الأخلاق والأفعال والأقاويل المتضادة المتباينة التي تظهر من الإنسان الذي هوجملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية.
وأعلم يا أخي بأن هذه الخصال التي عددنا لا تنسب إلى الجسد بمجرده ولا إلى النفس بمجردها، ولكن إلى الإنسان الذي هوجملتها والمجموع منهما الذي هوحي ناطق مائت، قحياته ونطقه من قبل نفسه وموته من قبل جسده، وهكذا نومه من قبل جسده ويقظته من قبل نفسه. وعلى هذا القياس سائر أموره وأحواله المتباينات المتضادات، بعضها من قبل النفس، وبعضها من قبل الجسد، مثال ذلك عقله وعلمه وحلمه وتفكيره وسخاؤه وشجاعته وعفته وعدله وحكمته وصدقه وصوابه وخيره وما شاكلها من الخصال المحمودة، فكلها من قبل نفسه وصفاء جوهرها، وأضدادها من قبل أخلاط جسده ومزاج أخلاطه.
فصل في الصفات المختصة بالجسد والنفس
وأعلم يا أخي بأن الصفات المختصة بالجسد بمجرده هي أن الجسد جوهر جسماني طبيعي ذوطعم ولون ورائحة وثقل وخفة وسكون ولين وخشونة وصلابة ورخاوة، وهومتكون من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمرتان المتولدة من الغذاء الكائن من الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض ذوات الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة؛ وهومنفسد أعني الجسد ومتغير ومستحيل وراجع إلى هذه الأركان الأربعة بعد الموت الذي هومفارقة النفس الجسد وتركها استعماله.
وأما الصفات المختصة بالنفس بمجردها فهي أنها جوهرة روحانية سماوية نورانية حية بذاتها علامة بالقوة، فعالة بالطبع، قابلة للتعاليم، فعالة في الأجسام، ومستعملة لها، ومتممة للأجسام الحيوانية والنباتية إلى وقت معلوم، ثم إنها تاركة لهذهه الأجسام ومفارقة لها، وراجعة إلى عنصرها ومعدنها ومبدئها كما كانت، إما بربح وغبطة أوندامة وحزن وخسران، كما ذكر الله- عز وجل-بقوله:" كما بدأنا تعودون: فريقاً هدى، وفريقاً حق عليهم الضلالة." وقال عز وجل:" كما بدأنا أول خلق نعيده، وعداً علينا إنا كنا فاعلين." وقال تعالى:" أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون." فكفى بهذا يا أخي زجراً ووعيداً وتهديداً وتوبيخاً ومذكراً ونذيراً، إن كنت منتبهاً من نوم الغفلة ومستيقظاً من رقدة الجهالة.
وأعيذك أيها الأخ البار الرحيم أن تكون من الذين ذمهم رب العالمين بقوله:" لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أؤلئك كالأنعام، بل هم أضل؛ أؤلئك هم الغافلون." أفترى ذمهم من أجل أنهم لم يكونوا يعقلون أمر معيشة الدنيا، إنما ذمهم لأنهم لم يكونوا يتفكرون في أمر الآخرة والمعاد ولا يفقهون ما يقال لهم من معاني أمر الآخرة وطريق المعاد فقال:" يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون." وقال عز وجل:" فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون." فصل في مثنوية قنية الإنسان ومثنوية الأعمال ولما تبين أن أكثر أمور الإنسان وتصرف أحواله مثنوية متضادة، من أجل أنه جملة مجموعة من جوهرين متباينين، جسد جسماني ونفس روحانية، كما بينا قبل، صارت قنيته أيضاً نوعين: جسمانية، كالمال ومتاع الدنيا، وروحانية، كالعلم والدين، وذلك أن العلم قنية للنفس، كما أن المال قنية للجسد. وكما أن الإنسان يتمكن بالمال من تناول اللذات من الأكل والشرب في الحياة الدنيا، فهكذا بالعلم ينال الإنسان طريق الآخرة، وبالدين يصل إليها، وبالعلم تضيء النفس وتشرق وتصح، كما أن الأكل والشرب ينمي الجسد ويزيد ويربوويسمن. فلما كان هكذا صارت المجالس أيضاً اثنين: مجلس للأكل والشرب واللهوواللعب واللذات الجسمانية، من لحوم الحيوان ونبات الأرض، لصلاح هذا الجسد المستحيل الفاسد الفاني؛ ومجلس للعلم والحكمة وسماع روحاني من لذة النفوس التي لا تبيد جواهرها، ولا ينقطع سرورها في الدار الآخرة، كما ذكر الله- جل ثناؤه- بقوله:" وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون." فلما كانت المجالس اثنين صار أيضاً السائلون اثنين، واحد يسأل حاجة من عرض الدنيا، لصلاح هذا الجسد ولجر المنفعة إليه، أولدفع المضرة عنه؛ وواحد يسأل مسألة من العلم، لصلاح أمر النفس وخلاصها من ظلمات الجهالة، أوللتفقه في الدين طلباً لطريق الآخرة، واجتهاداً في الوصول إليها، وفراراً من نار جهنم، ونجاة من عالمالكون والفساد، وفوزاً بالوصول إلى عالم الأفلاك وسعة السموات، والسيحان في درجات الجنان، والتنفس من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن.
فصل في العلم والمعلوم والتعلم والتعليم
وأوجه السؤال
وينبغي لطالبي العلم والباحثين عن حقائق الأشياء أن يعرفوا أولاً ما العلم وما المعلوم، وعلى كم وجه يكون السؤال، وما جواب كل سؤال، حتى يدروا ما الذي يسألون وما الذي يجيبون إذا سئلوا، لأن الذي يسأل ولا يدري أي شيء سأل، فإذا أجيب لا يدري بأي شيء أجيب.
وأعلم يا أخي بأن العلم إنما هوصورة المعلوم في نفس العالم، وضده الجهل وهوعدم تلك الصورة من النفس. وأعلم بأن أنفس العلماء علامة بالفعل، وأنفس المتعلمين علامة بالقوة، وأن التعلم والتعليم ليسا شيئاً سوى إخراج ما في القوة، يعني الإمكان، إلى الفعل، يعني الوجود. فإذا نسب ذلك إلى العالم سمي تعليماً، وإن نسب إلى المتعلم سمي تعلماً.
وأعلم بأن السؤالات الفلسفية تسعة أنواع مثل تسعة آحاد: أولها، هل هو، والثاني، ما هو والثالث، كم هو، والرابع، كيف هو، والخامس، أي شيء هو، والسادس، أين هو، والسابع، متى هو، والثامن، لم هو، والتاسع، من هو، تفسيرها: هل هو: سؤال يبحث عن وجدان شيء أوعن عدمه، والجواب نعم أولا، وقد بينا معنى الوجود والعدم في رسالة العقل والمعقول، وما هو: سؤال يبحث عن حقيقة الشيء؛ وحقيقة الشيء تعرف بالحد اوبالرسم، ذلك أن الأشياء كها نوعان، مركب وبسيط، فالمركب مثل الجسم، والبسيط ممثل الهيولى والصورة، وقد بينا معناهما في رسالة الههيولى. والأشياء المركبة تعرف حقيقتها إذا عرفت الأشياء التي هي مركبة منها، مثال ذلك إذا قيل: ما حقيقة الطين، فقال: تراب وماء مختلطان؛ وهكذا إذا قيل: ما حقيقة السكنجبين، فيقال: خل وعسل ممزوجان. وعلى هذا القياس كل مركب إذا سئل عنه، فيحتاج أن يذكر الأشياء التي هي مركب منها وموصوف بها؛ والحكماء يسمون مثل هذا الوصف الحد، ومن أجل هذا قالوا في حد الجسم إنه الشيء الطويل العريض العميق؛ فقولهم: الشيء، إشارة إلة الهيولى، وقولهم: الطويل والعريض والعميق، إشارة إلى الصورة، لأن حقيقة الجسم ليست بشيء غير هذه التي ذكرت في حده. وهكذا قولهم في حد الإنسان إنه حي ناطق مائت، فقولهم: حي ناطق، يعنون به النفس، ومائت، يعنون به الجسد، لأن الإنسان هوجملة مجموعة منهما، أعني جسداً جسمانياً ونفساً روحانية. وعلى هذا القياس تعرف حقائق الأشياء المركبة من شيء.
وأما الأشياء التي ليست مركبة من شيء، بل مخترعة مبدعة كما شاء باريها وخالقها تعالى، فحقيقتها تعرف من الصفات المختصة بها، مثال ذلك إذا قيل: ما حقيقة الهيولى، فيقال: جوهر بسيط قابل للصورة، لا كيفية فيه البتة. وإذا قيل: ما الصورة، فيقال: هي التي يكون الشيء بها ما هو. فمثل هذا الوصف تسمية الحكماء الرسم. والفرق بين الحد والرسم أن الحد مأخوذ من الشياء التي المحدود مركب منها، كما بينا، والرسم مأخوذ من الصفات المختصة بالرسوم، وفرق آخر أن الحد يخبرك عن جوهر الشيء المحدود، ويميزه عما سواه، والرسم يميز لك المرسوم عما سواه حسب. فينبغي لك أيها الأخ البار الرحيم- أيدك الله وإيانا بروح منه- إذا سئلت عن حقيقة شيء من الأشياء أن لا تستعجل بالجواب بل تنظر هل ذلك الشيء المسؤول عنه مركب أم بسيط حتى تجيب بحسب ذلك. وأما كم هوفسؤال يبحث عن مقدار الشيء، والأشياء ذوات المقادير نوعان، متصل ومنفصل؛ فالمتصل خمسة أنواع: الخط والسطح والجسم والمكان والزمان، والمنفصل نوعان، العدد والحركة. وهذه الأشياء كلها يقال فيها: كم هو، وقد بينا ماهية العدد في رسالة الأرثماطيقي، وماهية الحركة والزمان والمكان والجسم في رسالة الهيولى، وماهية الخط والسطح في راسلة الهندسة. وأما كيف هوفسؤال يبحث عن صفة الشيء. والصفات كثيرة الأنواع، وقد بيناها في رسالة شرح المقولات العشر التي كل واحدة منها جنس الأجناس. وأما أي شيء هوفسؤال يبحث عن واحد من الجملة أوعن بعض من الكل، مثال ذلك إذا قيل: طلع الكوكب، فيقال: أي كوكب هو، لأن الكواكب كثيرة. وأما إذا قيل طلعت الشمس، فلا يقال: أي شمس هي، إذ ليس من جنسها كثرة، وكذلك القمر، وأما أين هوفسؤال يبحث عن مكان الشيء أوعن رتبته. والفرق بينهما أن المكان صفة لبعض الأجسام لا لكلها، مثال ذلك إذا قيل: أين زيد، فيقال: في البيت أوفي المسجد أوفي السوق أوفي موضع آخر. وأما المحل فهو صفة للعرض، والعرض نوعان: جسماني وروحاني؛ فالأعراض الجسمانية حالة في الأجسام، مثال ذلك إذا قيل: أين السواد، فيقال: حال في الجسم الأسود. وهكذا الألوان كلها والطعوم والروائح حالة في الأجسام ذات الطعم واللون والرائحة؛ وهكذا حكم جميع الأعراض الجسمانية.
وأما الأعراض الروحانية فحالة في الجواهر الروحانية، مثال ذلك إذا قيل: أين العلم، فيقال:حال في نفس العالم؛ وكذلك السخاء والشجاعة والعدل وما شاكلها من الصفات حالة في النفس، وهكذا حكم أضدادها. وقد ظن كثير من أهل العلم ممن ليست له خبرة بأمر النفس، ولا معرفة بجوهرها، أن هذه الأعراض حالة في الجسم، كل واحد في محل مختص، مثال ذلك ما قالوا إن العلم في القلب، والشهوة في الكبد، والعقل في الدماغ، والشجاعة في المرارة، والجبن في الطحال، وعلى هذا القياس سائر الأعراض. وقد بينا نحن أن هذه الأعضاء آلات وأدوات للنفس تظهر بها ومنها في الجسد هذه الأفعال والأخلاق، في رسالة تركيب الجسد.
وأما الرتبة فهي من صفات الجواهر الروحانية، مثال ذلك إذا قيل: أين النفس، فيقال: هي دون العقل وفوق الطبيعة. وهكذا إذا يل: أين الخمسة من العدد، فيقال: بعد الأربعة وقبل الستة.
وعلى هذا القياس حكم الجواهر الروحانية التي لا توصف بالمكان ولا بالمحل، ولكن بالرتبة كما بينا في رسالة المبادئ العقلية.
وأما متى هوفسؤال يبحث عن زمان مكزن الشيء. والأزمان ثلاثة: ماض مثا أمس، ومستقبل مثل غد، ومحاضر مثل اليوم، وهكذا حكم السنين والشهور والساعات. وقد بينا ماهية الزمتن واختلاف أقاويل العلماء في ماهيته في رسالة الهيولى. وأما لم هوفسؤال يبحث عن علة الشيء المعلول.
وأعلم يا أخي بأن لكل معلول صناعي أربع علل، إحداها علة هيولانية، والثانية علة صورية، والثالثة علة فاعلية، والرابعة علة تمامية، مثال ذلك الكرسي والباب والسرير، فإن العلة الهيولانية فيها الخشب، والعلة الصورية الشكل والتربيع، والعلة الفاعلية النجار، والعلة التمامية للكرسي القعود عليه، وللسرير النوم عليه، وللباب ليغلق على الدار. وعلى هذا القياس كل معلول لا بد له من هذه الأربع العلل. فإذا سئلت عن علة شيء، فأعرف أولاً عن أيها تسأل، حتى يكون الجواب بحسب ذلك.
وأما من هوفسؤال يبحث عن التعريف للشيء، ويقول علماء النحو:إن هذا السؤال لا يتوجه إلا إلى كل ذي عقل، ويقول قوم آخرون: إلى كل ذي علم وتمييز والجواب فيه أن يعرف السؤال بأحد ثلاثة أشياء، أما أن ينسب إلى بلده، أوإلى أصله، أوإلى صناعته، مثال ذلك إذا قيل: من زيد، فيقال: البصري، ينسب إلى بلده، والهاشمي إلى أصله، والنجار إلى صناعته.
فهذه جملة مختصرة في كمية السؤالات وأجوبتها، ومباحث العلوم والنظر في حقائق الأشياء، شبه المدخل والمقدمات، ليقرب من فهم المتعلمين النظر في المنطق الفلسفي، وليوافقوا عليها قبل النظر في إياغوجي؛ الذي هوالمدخل إلى المنطق الفلسفي.
فصل في أجناس العلوم وإذ قد فرغنا من ذكر ماهية العلوم وأنواع السؤالات، وما يقتضي كل واحد من الأجوبة، فنريد أن نذكر أجناس العلوم، وأنواع تلك الأجناس، ليكون دليلاً لطالبي العلم إلى أغراضهم، وليهتدوا إلى مطلوباتهم، لأن رغبة النفوس في العلوم المختلفة وفنون الآداب، كشهوات الأجسام للأطعمة المختلفة الطعم واللون والرائحة.
فأعلم يا أخي بأن العلوم التي يتعاطاها البشر ثلاثة أجناس، فمنها الرياضية، ومنها الشرعية الوضعية، ومنها الفلسفية الحقيقية. فالرياضية هي علم الآداب التي وضع أكثرها لطلب المعاش وصلاح أمر الحياة الدنيا؛ وهي تسعة أنواع، أولها علم الكتاب والقراءة، ومنها علم اللغة والنحو، ومنها علم الحساب والمعاملات، ومنها علم الشعر والعروض، ومنها علم الزجر والفأل؛ وما يشاكله، ومنها علم السحر والعزائم؛ والكيمياء والحيل؛ وما شاكلها، ومنها علم الحرف والصنائع، ومنها علم البيع والشراء والتجارات والحرث والنسل، ومنها علم السير والأخبار.
فأما أنواع العلوم الشرعية التي وضعت لطب النفوس وطلب الآخرة فهي ستة أنواع: أولها علم التنزيل، وثانيها علم التأويل، والثالث علم الروايات والأخبار، والرابع علم الفقه والسنن والأحكام، والخامس علم التذكار والمواعظ والزهد والتصوف، والسادس علم تأويل المنامات.
فعلماء التنزيل هم القراء والحفظة، وعلماء التأويل هم الأئمة وخلفاء الأنبياء، وعلماء الروايات هم أصحاب الحديث، وعلماء الأحكام والسنن هم الفقهاء، وعلماء التذكار والمواعظ هم العباد والزهاد والرهبان ومن شاكلهم، وعلماء تأويل المنامات هم المعبرون.
وأما العلوم الفلسفية فهي أربعة أنواع: منها الرياضيات، ومنها المنطقيات، ومنها الطبيعيات، ومنها الإلهيات. فالرياضيات أربعة أنواع: أولها الارثماطيقي وهومعرفة ماهية العدد، وكمية أنواعه، وخواص تلك الأنواع، وكيفية نشوئها من الواحد الذي قبل الاثنين، وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض؛ والثاني الجومطريا وهوالهندسة، وهي معرفة ماهية المقادير ذوات الأبعاد، وكمية أنواعها، وخواص تلك الأنواع، وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض، وكيفية مبدئها من النقطة التي هي رأس الخط، وهي في صناعة الهندسة كالواحد في صناعة العدد؛ والثالث الأسطرنوميا وهي النجوم، وهي معرفة كمية الأفلاك والكواكب والبروج، وكمية أبعادها ومقادير أجرامها، وكيفية تركيبها وسرعة حركاتها، وكيفية دورانها، وماهية طبائعها، وكيفية دلائلها على الكائنات قبل كونها؛ والرابع الموسيقى الذي هوعلم التأليف، وهومعرفة ماهية النسب، وكيفية تأليف الأشياء المختلفة الجواهر، المتباينة الصور، المتضادة القوى، المتنافرة الطبائع كيف تجمع ويؤلف بينها، كيما لا تتنافر وتأتلف وتتحد وتصير شيئاً واحداً، وتفعل فعلاً واحداً أوعدة أفعال. وقد عملنا في كل صناعة من هذه الصناعات رسالة شبه المدخل والمقدمات.
والعلوم المنطقيات خمسة أنواع: أولها أنولوطيقا وهي معرفة صناعة الشعر؛ والثاني ريطوريقا وهي معرفة صناعة الخطب، والثالث طوبيقا وهي معرفة صناعة الجدل. والرابع بولوطيقا وهي معرفة صناعة البرهان؛ والخامس سوفسطيقا وهي معرفة صناعة المغالطين في المناظرة والجدل. وقد تكلم الحكماء الأولون والمتأخرون في هذه الصنائع والعلوم وصنفوا فيها كتباً كثيرة، وهي موجودة في أيدي الناس. وقد عمل أرسطاطاليس ثلاثة كتب أخر، وجعلها مقدمات لكتاب البرهان اولها قاطيغورياس؛ والثاني باريميناس؛ والثالث أنولوطيقا الأولى. وإنما جعل عنايته أكثرها بكتاب البرهان لأن البرهان ميزان الحكماء يعرفون به الصدق من الكذب في الأقوال، والصواب من الخطأ في الآراء، والحق من الباطل في الاعتقادات، والخير من الشر في الأفعال، كما يعرف جمهور الناس بالموازين والمكاييل والأذرع تقدير الأشياء الموزونة والمكيلة والمذروعة إذا اختلفوا في حزرها وتخمينها؛ فهكذا العلماء العارفون بصناعة البرهان يعرفون بها حقائق الأشياء إذا اختلف فيها حزر العقول وتخمين الرأي، كما يعرف الشعراء العروضيون استواء القوافي وانزحافها إذا اختلف فيه، بصناعة العروض الذي هوميزان الشعر. وقد عمل فرفوريوس الصوري كتاباً وسماه ايساغوجي، وهوالمدخل إلى صناعة المنطق الفلسفي، ولكن من أجل إنهم طولوا الخطب فيها، ونقلها من لغة إلى لغة من لم يكن عارفاً بها وبمعانيها، انغلق على الناظرين في هذه الكتب فهم معانيها وعسر على المتعلمين أخذها. وقد عملنا في كل واحدة من هذه الصنائع رسالة ذكرنا فيها نكت ما يحتاج إليه وتركنا التطويل.
لكن نريد أن نذكر غرض ما في رسالة منها هاهنا، ليكون من ينظر فيها قد عرف غرض كل صناعة من هذه قبل النظر فيها، فنقول: أما غرض ما في ايساغوجي فهو معرفة معاني الستة الألفاظ التي تستعملها الفلاسفة في أقاويلها، وهوقولهم: الشخص والنوع والجنس والفصل والخاصة والعرض، وماهية كل واحد منها وكيفية اشتراكها، وماهية رسومها التي تميز بعضها من بعض، وكيفية دلالاتها على المعاني التي في أفكار النفوس. وأما غرض قاطيغورياس فهو معرفة معاني العشرة ألفاظ التي كل واحد منها يقال له جنس الأجناس، وإن واحداً منها جوهر، وتسعة أعراض؛ وماهية كل واحد منها وكمية أنواعها، ورسم كل واحد منها المميز لها بعضها من بعض، وكيفية دلالتها على جميع المعاني التي في أفكار النفوس. وأما غرض ما في باريمنياس فهو معرفة تلك العشرة الألفاظ التي هي في قاطيغورياس، وما تدل عليه من المعاني عند التركيب، حتى تصير كلمات وقضايا، ويكون منها الصدق والكذب. وأما غرض ما في انولوطيقا الأولى فهو معرفة كيفية تركيب تلك الألفاظ مرة أخرى، حتى يكون منها مقدمات، وكمية أنواعها وكيف تستعمل حتى يكون منها شيء محسوس، واقتران القضايا ونتائجها. وأما غرض ما في انولوطيقا الثانية فهو معرفة كيفية استعمال القياس الحق والبرهان الصحيح الذي لا خطأ فيه ولا زلل.
وأما العلوم الطبيعية فهي سبعة أنواع: أولها علم المبادئ الجسمانية، وهي معرفة خمسة أشياء: الهيولى والصورة والزمان والمكان والحركة، وما يعرض فيها من المعاني إذا أضيف بعضها إلى بعض؛ والثاني علم السماء والعالم، وهومعرفة جواهر الأفلاك والكواكب وكميتها وكيفية تركيبها وعلة دورانها، وهل تقبل الكون والفساد، كما تقبل الأركان الأربعة التي هي دون فلك القمر أم لا، وما علة حركات الكواكب واختلافها في السرعة والإبطاء، وما علة حركة الأفلاك، وما علة سكون الأرض في وسط الفلك في المركز، وهل خارج العالم جسم آخر أم لا، وهل في العالم موضع فارغ لا شيء فيه، وما شاكل ذلك من المباحث.
والثالث علم الكون والفساد، وهومعرفة ماهية جواهر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، وكيف يستحيل بعضها إلى بعض بتأثيرات الأشخاص العالية، ويكون منها الحوادث والكائنات من المعادن والنبات والحيوان، وكيف تستحيل إليها راجعة عند الفساد.
والرابع علم حوادث الجو، وهومعرفة كيفية تغييرات الهواء بتأثيرات الكواكب، بحركاتها ومطارح شعاعاتها على هذه الأركان، وانفعالاتها منها، وخاصة الهواء، فإنه كثير التلون والتغير من النور والظلمة والحر والبرد وتصاريف الرياح والضباب والغيوم والأمطار والثلوج والبرد والبروق والرعود والشهب والصواعق وكواكب الأذناب وقوس قزح والزوابع والهالات وما شاكلها مما يحدث فوق رؤوسنا من التغييرات والحوادث.
والخامس علم المعادن، وهومعرفة الجواهر المعدنية التي تنعقد من البخارات المختقنة في باطن الأرض، والعصارات؛ المنعقدة في الأهوية، وكهوف الجبال، وقعور البحار، من العقاقير والجواهر، من الكباريت والزوابيق؛ والشبوب؛ والأملاح والنوشادر والذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والأسرب؛ والكحل والزرنيخ والبلور والياقوت والبازهرات؛ وما شاكلها، ومعرفة خواصها ومنافعها ومضارها.
والسادس علم النبات، وهومعرفة كل نبت يغرس أويبذر أوينبت على وجه الأرض، أوفي رؤوس الجبال، أوقعر المياه، أوشطوط الأنهار، من الأشجار والزروع والبقول والحشائش والعشب والكلاء؛ ومعرفة كمية أنواعها، وخواص تلك الأنواع، ومواضع منابتها من البقاع، وكيفية امتداد عروقها في الأرض، وارتفاع فروعها وأصولها في الهواء، وانبساطها على وجه الأرض وتفرق فروعها في الجهات، وأشكال أغصانها من الطول والقصر، والدقة والغلظ، والاستقامة والاعوجاج؛ وكيفية أشكال أوراقها من السعة والضيق، واللين والخشونة، وألوان أزهارها، وأصباغ أنوارها؛ وكيفية صور ثمارها وحبوبها، وبذورها، وصموغها، وطعومها، وروائحها، وخواصها، ومنافعها ومضارها، واحداً واحداً.
والسابع علم الحيوان، وهومعرفة كل جسم يغتذي وينمي ويحس ويتحرك، مما يمشي على وجه الأرض، أويطير في الهواء، أويسبح في الماء، أويدب في التراب، أويتحرك في جوف جسم آخر، كالديدان في جوف الحيوان، وفي لب النبات والثمر والحبوب وما شاكلها؛ ومعرفة كمية أجناسها، وأنواع الأجناس، وخواص تلك الأنواع؛ ومعرفة كيفية تكونها في الأرحام، أوفي البيض، أوفي العفونات؛ ومعرفة كيفية تأليف أعضائها، وتركيب أجسادها، واختلاف صورها، وائتلاف أزواجها وفنون أصواتها، ومنافرة طباعها، وتباين أخلاقها، وتشاكل أفعالها؛ ومعرفة أوقات هيجانها وسفادها، واتخاذ أعشاشها، ورفقها بتربية أولادها، وتحننها على صغار نتاجها، ومعرفتها بمنافعها ومضارها، وأوطانها، وأربابها وأعدائها ومعارفها، وما شاكل ذلك.
فالنظر في هذه كلها، والبحث عنها ينسب إلى العلوم الطبيعيات، وكذلك علم الطب والبيطرة، وسياسة الدواب والسباع والطيور والحرث والنسل؛ وعلم الصنائع أجمع داخل في الطبيعيات.
فصل في العلوم الإلهية
والعلوم الإلهية خمسة أنواع: أولها معرفة الباري- جل جلاله وعم نواله- وصفه وحدانيته، وكيف هوعلة الموجودات، وخالق المخلوقات، وفائض الجود، ومعطي الوجود، ومعدن الفضائل والخيرات، وحافظ النظام، ومبقي الدوام، ومدبر الكل؛ وعالم الغيب والشهادة لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وأول كل شيء ابتداء، وآخر كل شيء انتهاء، وظاهر كل شيء قدره، وباطن كل شيء علماً، وهوالسميع العليم اللطيف الخبير الرؤوف بالعباد- عز شأنه- وجلت قدرته، وتعالى جده، وجل ثناؤه، وإله غيره، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
والثاني علم الروحانيات، وهومعرفة الجواهر البسيطة العقلية، العلامة الفعالة، التي هي ملائكة الله، وخالص عباده؛ وهي الصور المجردة من الهيولى، المستعملة للأجسام المدبرة بها، لها ومنها أفعالها، ومعرفة كيفية ارتباط بعضها ببعض، وفيض بعضها على بعض، وهي أفلاك روحانية محيطات بالأفلاك الجسمانية.
والثالث علم النفسانيات، وهي معرفة النفوس والأرواح السارية في الأجسام الفلكية والطبيعية، من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض؛ ومعرفة كيفية إداراتها للأفلاك، وتحريكها للكواكب، وتربيتها للحيوان والنبات، وحلولها في جثث الحيوانات، وكيفية انبعاثها بعد الممات.
والرابع علم السياسة وهي خمسة أنواع: أولها السياسة النبوية، والثاني السياسة الملوكية، والثالث السياسة العامية، والرابع السياسة الخاصية، والخامس السياسة الذاتية.
فأما السياسة النبوية فهي معرفة كيفية وضع النواميس المرضية والسنن الزكية بالأقاويل الفصيحة، ومداواة النفوس المريضة من الديانات الفاسدة، والآراء السخيفة، والعادات الردية، والفعال الجائرة؛ ومعرفة مكيفية نقلها من تلك الأديان والعادات، ومحوتلك الآراء عن ضمائرها بذكر عيوبها ونشر تزييفها، ومداواتها من سقام تلك الآراء وتلك العادات بالحمية لها من العود إليها، وشفائها بالرأي المرضي، والعادات الجميلة، والأعمال الزكية والأخلاق المحمودة، بالمدح لها والترغيب في جزيل الثواب يوم المآب؛ وكيفية سياسة النفوس الشريرة بصدودها عن قصد سبيل الرشاد، وسلوكها في وعور طرق الغي والتمادي بالقمع لها والزجر والوعيد والتوبيخ والتهديد، لترجع إلى سبيل النجاة، وترغب في جزيل الثواب؛ ومعرفة كيفية تنبيه الأنفس اللاهية، والأرواح الساهية من طول الرقاد، ونسيانها ذكر المعاد، والإذكار لها عهد يوم الميثاق، لئلا يقولوا: ما جاءنا من رسول ولا كتاب. وهذه السياسة تختص بعا الأنبياء والرسل- صلوات الله عليهم- وأما السياسة الملوكية فهي معرفة حفظ الشريعة على الأمة، وإحياء السنة في الملة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بإقامة الحدود، وإنفاذ الأحكام التي رسمها صاحب الشريعة، ورد المظالم، وقمع الأعداء، وكف الأشرار،ونصرة الأخيار؛ وهذه السياسة يختص بها خلفاء الأنبياء- صلوات اله عليهم- والأئمة المهديون الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون.
وأما السياسة العامية التي هي الرياسة على الجماعات، كرياسة الأمراء على البلدان والمدن، ورياسة الدهاقين على أهل القرى، ورياسة قادة الجوش على العساكر، وما شاكلها؛ فهي معرفة طبقات المرؤوسين وحالاتهم وأنسابهم وصنائعهم ومذاهبهم وأخلاقهم، وترتيب مراتبهم، ومراعاة أمورهم، وتفقد أسبابهم، وتأليف شملهم، والتناصف بينهم، وجمع شتاتهم، واستخدامهم في ما يصلحون له من الأمور، واستعمالهم في ما يشاكلهم من صنائعهم وأعمالهم اللائقة بواحد واحد منهم.
وأما السياسة الخاصية فهي معرفة كل إنسان كيفية تدبير منزله وأمر معيشته، ومراعاة أمر خدمه وغلمانه وأولاده ومماليكه وأقربائه، وعشرته مع جيرانه، وصحبته مع إخوانه، وقضاء حقوقهم، وتفقد أسبابهم، والنظر في مصالحهم من أمور دنياهم وآخرتهم.
وأما السياسة الذاتية فهي معرفة كل إنسان نفسه وأخلاقه، وتفقد أفعاله وأقاويله فيحال شهواته وغضبه ورضاه، والنظر في جميع أموره.
والخامس علم المعاد وهومعرفة ماهية النشأة الأخرى، وكيفية ابنعاث الأرواح من ظلمة الأجساد، وانتباه النفوس من طول الرقاد، وحشرها يوم المعاد، وقيامها على الصراط المستقيم، وحشرها لحساب يوم الدين، ومعرفة كيفية جزاء المحسنين وعقاب المسيئين.
وقد علمنا في كل فصل من هذه العلوم التي تقدم ذكرها رسالة، وذكرنا فيها طرفاً من تلك المعاني، وأتممناها بالجامعة، ليكون تنبيهاً للغافلين، وإرشاداً للمريدين، وترغيباً للطالبين، ومسلكاً للمتعلمين. فكن به يا أخي سعيداً، وأعرض هذه الرسالة على إخوانك واصدقائك، ورغبهم في العلم، وزهدهم في الدنيا، ودلهم على طريق الآخرة، فإنك بذلك تنال الزلفى من الله تعالى، وتستوجب رضوانه، وتفوز بسعادة الآخرة، وتبلغ به المرتبة العليا كما دل عليه قول النبي- عليه السلام- الدال على الخير كفاعله.
وأعلم يا أخي بأن هذه الطريقة هي التي سلكها الأنبياء- صلوات الله عليهم- واتبعهم عليها الأخيار الفضلاء من العلماء والحكماء، فاجتهد لعلك تحشر في زمرتهم، كما وعد الله تعالى فقال:" فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، ذلك الفضل من الله"، " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين." وفقك الله وإيانا أيها الأخ للسداد، وهدانا وإياك سبيل الرشاد.
الرسالة الثامنة في الصنائع العملية والغرض منها
بسم اله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، آلله خير أما يشركون، وإذ قد فرغنا من ذكر الجواهر الجسمانية، ووصفنا هيولاتها وصورها وتركيبها، وما يعرض للمركب من الأغراض، وبينا أيضاً كيفية إدراكها بطريق الحواس بتوسط أعراضها، في رسائلنا " الطبيعيات" نريد أن نذكر في العقليات الجواهر الروحانية، لأنه لما كانت الموجودات كلها معقولة أومحسوسة، جواهر أوأعراضاً، أومجموعاً منهما؛ صوراً، أوهيولى، أومركباً منهما؛ جسمانياً، أوروحانياً، أومقروناً بينهما؛ وكانت الجواهر الجسمانية منفعلة كلها، مدركة بطريق الحواس؛ والجواهر الروحانية فاعلة ولا تدرك بطريق الحواس، ولا تعرف إلا بالعقل وبما يصدر عنها من الأفعال العقلية، والصنائع في الهيوليات، وماهياتها وكمياتهها وكيفياتها، وكيفية إظهار صناعاتها في الهيوليات الموضوعة لها، ليكون أوضح في الدليل على إثبات الذوات الروحانية الفاعلة، وأبين لمعرفة جواهرها، وفنون حركاتها، وعجائب قوتها، وغرائب علومها، وبدائع صنائعها، واختلاف أفعالها.
فأعلم أيها الأخ البار الرحيم- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الصنائع البشرية نوعان علمية وعملية، وتقدم القول في العلمية فيما تقدم، فنقول: أولاً ما العلوم، العلوم هي صور المعلومات في نفس العالم.
وأعلم يا أخي بأن العلم لا يكون إلا بعد التعليم والتعلم، والتعليم هوتنبيه النفس العلامة بالفعل للنفس العلامة بالقوة، والتعلم هوتصور النفس لصورة المعلوم.
وأعلم يا أخي بأن النفس إنما تنال صور المعلومات من طرقات ثلاث، إحداها طريق الحواس، والأخرى طريق البرهان، والأخيرة طريق الفكر والروية. وقد عملنا في كل واحدة منها رسالة، فنريد أن نذكر الآن الصنائع العملية فنقول: إن الصنعة العملية هي إخراج الصانع العالم الصورة التي في فكره، ووضعها في الهيولى. والمصنوع هوجملة مصنوعة من الهيولى والصورة جميعاً، وابتداء ذلك من تأثير النفس الكلية فيها بقوة تأييد العقل الكلي بأمر الله جل ثناؤه.
وأعلم بأن المصنوعات أربعة أجناس: بشرية وطبيعية ونفسانية وإلهية. فالبشرية مثل ما يعمل الصناع من الأشكال والنقوش والأصباغ في الأجسام الطبيعية، في أسواق المدن وغيرها من المواضع. والمصنوعات الطبيعية هي صور هياكل الحيوانات، وفنون أشكال النبات، وألوان جواهر المعادن. والمصنوعات النفسانية مثل نظام مراكز الأركان الأربعة التي هي تحت قلك القمر، وهي النار والهواء والماء والأرض، ومثل تركيب الأفلاك، ونظام صورة العالم بالجملة. والمصنوعات الإلهية هي الصور المجردة من الهيوليات المخترعات من مبدع المبدعات- تعالى- وجوداً من العدم، ليس من ليس، وشيء لا من شيء، دفعة واحدة بلا زمان، ولا مكان ولا هيولى، ولا صورة ولا حركة، لأنها كلها مبدعات الباري ومخترعاته ومصنوعاته. فتبارك الله أحسن الخالقين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
وأعلم يا أخي بأن كل صانع من البشر محتاج في تتميم صنعته إلى ستة أشياء مختلفة، وهوالسابع؛ وإلى سبع حركات، وإلى سبع جهات. فأما الأشياء المختلفة فهي الهيولى والمكان والزمان والأداة والآلة والحركة، والسابع النفس. وكل صانع طبيعي فمحتاج إلى أربعة منها، وهي الهيولى والمكان والزمان والحركة، وكل صانع نفساني فمحتاج إلى اثنين منها، وهما الهيولى والحركة حسب؛ وكل صانع عقلي فمحتاج إلى صورة واحدة فقط، وهوالعقل الأول أثر من مبدع البدائع الحق، لا من شيء إلى شيء. وأما الباري- جل ثناؤه- فغير محتاج إلى شيء منها، لأنها كلها مخترعاته ومبدعاته، أعني الهيولى والصورة والمكان والزمان والحركة والآلة والأدوات كلها.
فصل في الصورة والهيولى والأداة
وأعلم يا أخي أن الجسم الواحد يسمى تارة هيولى، وتارة موضوعاً، وتارة صورة، وتارة مصنوعاً، وتارة آلة، وتارة أداة؛ وإنما يسمى الجسم هيولى للصورة التي يقبلها وهي الأشكال والنقوش والأصباغ وما شاكلها؛ ويسمى موضوعاً للصانع الذي يعمل منه وفيه صنعته من الأشكال والنقوش، وإذا قبل ذلك سمي مصنوعاً؛ وإذا استعمله الصانع في صنعته أوفي صنعة أخرى يسمى أداة. مثال ذلك قطعة حديد، فإنه يقال لها هيولى لكل صورة تقبلها، ويقال لها أيضاً إنها موضوع للحداد الذي يعمل فيها صنعته، وإذا صنع الحداد منه سكيناً أوفأساً أومنشاراً أومبرداً أوغير ذلك، سمي مصنوعاً؛ وإذا استعمل السكين القصاب أوغيرة تسمى أداة، وهكذا الفأس وغيرها.
وأعلم يا أخي أن موضوعات الصناع البشريين في صناعاتهم نوعان فقط: بسيط ومركب، فالبسيط أربعة أنواع، وهي النار والهواء والماء والأرض؛ والمركب ثلاثة أنواع، وهي الأجسام المعدنية، والأجسام النباتية، والأجسام الحيوانية، وهي كلها مصنوعات الطبيعة، كما أن موضوعات الطبيعة كلها مصنوعات نفسانية، وأن الموضوعات النفسانية كلها مصنوعات إلهية.
وأعلم أن كل صانع من البشر لا بد له من أداة أوأدوات أوآلة أوآلات يستعملها في صنعته. والفرق بين الآلة والأداة أن الآلة هي اليد والأصابع والرجل والرأس والعين، وبالجملة أعضاء الجسد، وأن الأداة ما كانت خارجة من ذات الصانع كفأس النجار، ومطرقة الحداد، وإبرة الخياط، وقلم الكاتب، وشفرة الإسكاف، وموس المزين، وما شاكل هذه من الأدوات التي يستعملها الصناع في صنائعهم، ولا تتم صناعاتهم إلا بها.
وأعلم بأن كل صانع له في صنعته أدوات مختلفة الأشكال والهيئات، وهذا أحد أسبابه في اختلاف أفعاله، وهويظهر بكل واحد منها في صنعته ضروباً من الحركات، وفنوناً من الأفعال، مثال ذلك النجار، فإنه بالفأسينحت، وحركته من فوق إلى أسفل؛ وبالمنشار ينشر، وحركته من قدام إلى خلف؛ وبالمثقب يثقب، وحركته قوسية يمنة ويسرة، وحركة مثقبه دورية. وعلى هذا القياس يوجد في كل صنعة لصانعها سبع حركات، واحدة دورية وست مستقيمة، وذلك بواجب الحكمة الإلهية، لأنه لما كانت حركات الأجرام العلوية الفلكية سبعة أنواع، واحدة دورية بالقصد الأول، وست عرضية كما بينا في رسالة" السماء والعالم" صارت حركات الأشخاص التي تحت فلك القمر أيضاً مماثلة لها، لأن تلك علل، وهذه معلة لات، ومن شأن المعلولات أن يوجد فيها علتها وتأثيراتها، ومن أجل هذا قالت الحكماء إن الثواني من الأمور تحكي أوائلها، كما يحكي الصبيان في لعبهم صناعة الآباء والأمهات والأستاذين.
وأعلم يا أخي بأنه لا بد لكل صانع من البشر من تحريك عضومن أعضائه في صناعته، أوعدة أعضاء، كاليد والرجل والظهر والكتف والركبة؛ وبالجملة ما من عضوفي الجسد إلا وللنفس بذلك العضوفعل أوعدة أفعال، خلاف ما يكون بعضوآخر، فإن أعضاء الجسد هي آلات للنفس، وأدوات لها، وقد بينا طرفاً من ذلك في تركيب الجسد، وفي رسالة الحاس والمحسوس، وفي رسالة العقل والمعقول، وفي رسالة الإنسان عالم صغير.
فصل في أن موضوع الصناع نوعان
وأعلم يا أخي بأنه لا بد ف كل صنعة من موضوع يعمل الصانع منه وفيه صنعته، فالموضوع في صناعة البشريين نوعان: روحاني وجسماني. فالروحاني هوالموضوع في الصناعة العلمية، كما بينا في رسالة المنطق، والجسماني هوالموضوع في الصناعة العملية، وهونوعان: بسيطة ومركبة، فالبسيطة هي النار والهواء والماء والأرض، والمركبة ثلاثة أنواع، وهي الأجسام المعدنية، والأجسام النباتية، والأجسام الحيوانية.
فمن الصنائع ما هي الموضوع فيها الماء حسب، كصناعة الملاحين والسقائين والروائين؛ والشرابين والسباحين ومن شاكلهم؛ ومنها ما هي الموضوع فيها التراب حسب، كصناعة حفار الآباء والأنهار والقني والقبور والمعادن، وكل من ينقل التراب ويقلع الحجارة؛ ومنها ما هي الموضوع فيها النار حسب، كصناعة النفاطين؛ والوقادين والمشعلين؛ ومنها ما هي الوضوع فيها الهواء حسب، كصناعة الزمارين والبواقين والنفاخين جمع؛ ومنها ما هي الموضوع فيها الماء والتراب حسب، كصناعة الفخارين والغضارين؛ والقدوريين وضرابي اللبن؛ وكل من يبل التراب، ومنها ما هي الموضوع فيها أحد الأجسام المعدنية، كصناعة الحدادين والصفارين؛ والرصاصين والزجاجيين والصواغين ومن شاكلهم؛ ومنها ما هي الموضوع فيها أصول النبات من الأشجار والقضبان والأوراق، كصناعة النجارين والخواصين؛ والبوارين؛ والحصريين والأقفاصيين ومن شاكلهم؛ ومنها ما هي فيها لحاء؛ النبات حسب، كصناعة الكتانين؛، ومن يعمل القنب والكاغد؛ ومن شاكلهم؛ ومنها ما هي الموضوع فيها ورق الأشجار والحشائش وزهر النبات ونزورها وعروقها وقشورها؛ ومنها ما هي الموضوع فيها ثمر الأشجار وحب النبات، كصناعة الدقاقين؛ والرزازين؛ والنوائيين؛ والعصارين؛ والبزارين والشيرجيين؛ وكل من يخرج الأدهان من ثمر الشجر وحب النبات؛ ومنها ما هي الموضوع فيها الحيوان كصناعة الصيادين، ورعاة الغنم والبقر، وساسة الدواب، والبياطرة وأصحاب الطيور ومن شاكلهم؛ ومنها ما هي الموضوع فيها أحد الأجسام الحيوانية من اللحم والعظم والجلد والشعر والصوف والقز، كصناعة القصابين والشوائين والطباخين والدباغين والأساكفة والخرازين؛ والسيوريين؛ والدنانين؛ والحذائين ومن شاكلهم؛ ومن الصنائع ما هي الموضوع فيها مقادير الأجسام، كصناعة الوزانين والكيالين والذراعين ومن شاكلهم؛ ومن الصنائع ما هي الموضوع فيها قيمة الأشياء، كصناعة الصيارفة والدلالين والمقومين ومن شاكلهم؛ ومن الصنائع ما هي الموضوع فيها أجساد الناس، كصناعة الطب والمزيين ومن شاكلهم؛ ومن الصنائع مما هي الموضوع فيها نفوس الناس، كصناعة المعلمين أجمع، وهي نوعان: عملية وعلمية، فالعلمية مثل ما ذكرنا في رسالة أجناس العلوم وأنواعها، مما قد شرحناه في إحدى وخمسين رسالة من رسائلنا؛ والعملية مثل ما ذكرنا في ما تقدم.
<H4>فصل في الحاجة إلى الآلات والأدوات
? وأعلم يا أخي أن من الصناع من يحتاج في صنعته إلى استعمال عضومن جسده، أوعضوين، وأداة من خارج، أوأدوات كثيرة، كالحراث والبناء والدباغ والحائك وأمثالهم، فإن كل واحد منهم يحتاج إلى أدوات من خارج، وتحريك يديه ورجليه في صناعته؛ ومن الصنائع ما لا يحتاج فيها إلى أدوات من خارج، بل يكفيه عضومن جسده، كالخطيب والشاعر والقاضي والقارئ ومن شاكلهم، فإن كل واحد منهم يكفيه لسانه حسب، وكذلك الناطور والديابان؛ وأصحاب المراتب يكفيهم في صناعتهم العينان حسب؛ ومنهم من يستعمل في صنعته عضوين كالحاكي والنائحة، باليد والسان؛ ومنهم من يحتاج إلى استعمال جسده كله كالرقاص والسابح؛ ومن الصناع من يحتاج في صنعته إلى المشي كالساعي والماسح؛ ومنهم من يحتاج إلى القعود دائماً، كالرفاء؛ والنداف؛ ومن الصناع من لا يحتاج في صناعته إلا إلى أداة واحدة، كالبواق والزمار والدفاف؛ ومنهم من يحتاج إلى أداتئن كالخياط والكاتب، فإن الخياط يكفيه في صنعته الإبرة والمقص، والكاتب يكفيه القلم والدواة، وأما استعمال الكاتب السكين فليس من صناعة الكتابة، ولكن من صناعة النجارة؛ ومن الصناع من يحتاج إلى القيام دائماً في صناعته كالحلاج؛ ودقاق الأرز والذي يدير الدولاب برجليه.
</H4>
فصل في أن النار من الأدوات المفيدة في الصناعة
وأعلم يا أخي بأن أكثر الصنائع لا بد من استعمال النار فيها، وكل صانع استعمل النار في صناعته فلأحد أسباب ثلاثة، إما في موضوعه كالحدادين والصفارين والزجادين، ومن يطبخ الجص؛ والنورة؛ وأمثالهم، وغرضهم هوتليين الهيولى لقبول الصورة والأشكال، وذلك أنه لما كانت موضوعاتهم أحجاراً صلبة لا تقبل الصورة والأشكال إلا بعد تليين بالنار، فإذا لانت أمكن الصانع أن يصنع الصنعة التي في فكره، فتصير الهيولى بعد قبولها تلك الصورة مصنوعة؛ ومن الصناع من يستعمل النار كالجرارين؛ والقدوريين والغضارين، ومن يطبخ الآجر، وغرضهم في ذلك تقييد الصورة في الهيولى، وثباتها فيها لءلا تنسك منها الصورة بالعجلة، لأن من شأن الهيولى دفع الصورة عن ذاتها، ورجوعها إلى حالها الأول جوهراً بسيطاً لا تركيب فيه، ولا كمية ولا كيفية، ومن الصناع من يستعمل النار في موضوعه ومصنوعه كالطباخين والشوائين والخبازين وأمصالهم، وغرضهم تتميمها وتنضيجها ليتم الانتفاع بها.
فصل في مراتب الصناعات
وأعلم يا أخي بأن من هذه الصنائع ما هي بالقصد الأول دعت الضرورة إليها، ومنها ما هي تابعة لها وخادمة، ومنها ما هي متممة لها ومكملة، ومن الصنائع ما هي جمال وزينة.فأما التي بالقصد الأول فثلاثة، وهي الحراثة والحياكة والبناء؛ وأما سائرها فتابعة وخادمة ومتممة، وذلك أن الإنسان لما خلق رقيق الجلد عرياناً من الشعر والصوف والوبر والصدف والريش، وما هوموجود لسائر الحيوان، دعته الضرورة إلى اتخاذ اللباس بصناعة الحياكة؛ ولما كانت الحياكة لا تتم إلا بصناعة الغزل، وصناعة الغزل لا تتم إلا بصناعة الحلج، فصارت هذه الثلاثة تابعة لها وخادمة.
وأيضاً لما كان اللباس لا يتم إلا بالحياكة حسب، صارت الخياطة والقصارة؛ والرفة والطرز متممة لها ومكملة. وأيضاً لما خلق الإنسان محتاجاً إلى القوت والغذاء، والقوت والغذاء لا يكونان إلا من حب النبات وثمر الشجر، دعت الضرورة إلى صناعة الحراثة والغرس؛ ولما كانت صناعة الحراثة والغرس محتاجة إلى إثارة الأرض وحفر الأنهار، ولا يتم هذا إلا بالمساحي؛ والفدن؛ وما شاكلها، والمساحي والفدن لا تكون إلا بصناعة النجارة والحدادة، دعت الضرورة إلى اتخاذهما؛ وصناعة الحديد محتاجة إلى صناعة المعدن وإلى صنائع أخرى، فصارت كلها تابعة وخادمة لصناعة الحراثة والغرس.
ولما كان حب الزرع وثمر الشجر يحتاج إلى الدق والطحن، دعت الضرورة إلى اتخاذ صناعة الطحن والعصر. ولما كان الطحن لا يتم الغذاء به إلا بعد الخبز، دعت الضرورة إلى صناعة الخبز والطبخ، وكل واحد منهما محتاج إلى صناعة أخرى متممة له وخادمة. وأيضاً لما كان الإنسان محتاجاً إلى ما يكنه من الحر والبرد، والتحرز من السباع، وتحصين القوت، دعته الضرورة إلى صناعة البناء، وصناعة البناء محتاجة أيضاً إلى صناعة النجارة والحدادة، وكل واحدة منهما محتاجة إلى صناعة أخرى معينة أومتممة بعضها لبعض. وأما صناعة الزينة والجمال فهي كصناعة الديباج والجرير وصناعة العطر وما شاكلها. والصنائع كلها الحذق فيها هوتحصيل الصور في الهيولى وتتميمها وتكميلها، لينال الانتفاع بها في الحياة الدنيا حسب.
وأعلم يا أخي أن الناس كلهم صناع وتجار أغنياء وفقراء، فالصناع هم الذين يعملون بأبدانهم وأدواتهم في مصنوعاتهم الصور والنقوش والأصباغ والأشكال، وغرضهم طلب العوض عن مصنوعاتهم، لصلاح معيشة الحياة الدنيا. والتجار هم الذين يتبايعون بالأخذ والإعطاء، وغرضهم طلب الزيادة فيما يأخذونه على ما يعطون. والأغنياء هم الذين يملكون هذه الأجسام المصنوعة الطبيعية والصناعية، وغرضهم في جمعها وحفظها مخافة الفقر. والفقراء هم المحتاجون إليها وطلبهم الغنى.
وأعلم أن الغرض في كون الناس أكثرهم فقراء، وخوف الأغنياء من الفقر، هوالحث لهم على الاجتهاد في اتخاذ الصنائع، والثبوت فيها، والتجارات، والغرض فيها جميعاً هوإصلاح الحاجات، وإيصالها إلى المحتاجين؛ والغرض في ذلك متاع لهم إلى حين. والغرض في تمتعهم إلى حين هوأن تتمم النفس بالمعارف الحقيقية والأخلاق الجميلة والآراء الصحيحة والأعمال الزكية، والغرض في تتميم النفس التمكين لها من الصعود إلى ملكوت السماء، والغرض في صعودها إلى ملكوت السماء هوالنجاة من بحر الهيولى وأسر الطبيعة، والخروج من هاوية عالم الكون والفساد إلى فسحة عالم الأرواح، والمكث هناك فرحاً مسروراً ملتذاً مخلداً أبداً.
فصل في أن كل صناعة تحتاج إلى الفكر والتعقل
وأعلم يا أخي أنا إنما ذكرنا هذه الصنائع والمهن، ونسبنا هذه الرسالة إلى رسائل العقل والمعقول، لأن هذه الصنائع يعملها الإنسان بعقله وتمييزه ورويته وفكريته التي كلها قوى روحانية عقلية. وأيضاً إن كل عاقل إذا فكر في هذه الصنائع والأفعال التي تظهر على أيدي البشر، فيعلم أن مع هذا الجسد جوهراً آخر هومظهر هذه الأفعال المحكمة، وهذه الصنائع المتقنة من هذا الجسد، لأن الجسد قد يوجد بعد الممات برمته تاماً لم ينقص منه شيء، وقد فقدت منه هذه كلها، فيعلم أن معه جوهراً آخر فارقه، فمن أجل ذلك فقدت هذه الفضائل كلها، لأنه هوالذي يحرك هذا الجسد وينقله من موضع إلى موضع في الجهات الست، وكان يحرك أيضاً بتوسطه أشياء خارجة من ذاته، وكان أيضاً يحمل معه حملاً على ظهره وكتفه، فلما فارقه احتاج هذا الجسد إلى أربعة نفر يحملونه على لوح مطروحاً عليه لا يطيق قياماً ولا قعوداً ولا حركة، ولا يحس بوجوده، ولا م يفعل به من غسل ودفن. وقد زعم كثير من أهل العلم ممن ليست له خبرة بأمر النفس، ولا معرفة بجوهرها أن هذه الصنائع المحكمة والأفعال المتقنة التي تظهر على أيدي البشر، الفاعل لها هوهذا الجسد المؤلف من اللحم والدم والشحم والعظام والعصب بأعراض تحله مثل الحياة والقدرة والعلم وما شاكلها، ولم يعرفوا أن هذه الأعراض ليس حلولها في الجسم، وإنما هي أعراض نفسانية تحل جوهر النفس، وذلك أن الإنسان لما كان مجموعاً من جسم ميت ونفس حية، وجدت هذه الأعراض في حال حياته، وفقدت في حال مماته، وليست الحياة شيئاً سوى استعمال النفس الجسد، ولا الممات شيئاً سوى تركها استعماله، كما إنه ليست اليقظة سوى استعمالها الحواس الخمس، ولا النوم شيئاً سوى تركها استعمالها.
فصل في شرف الصنائع أعلم يا أخي بأن الصنائع يتفاضل بعضها على بعض من عدة وجوه: إحداها من جهة الهيولى التي هي الموضوع فيها، ومنها من جهة مصنوعاتها، ومنها من جهة الحاجة الضرورية الداعية إلى اتخاذها، ومنها من جهة منفعة العموم، ومنها من جهة الصناعة نفسها. فأما التي شرفها من جهة الحاجة الضرورية إليها فهي ثلاث أجناس، وهي الحياكة والحراثة والبناء كما ذكرنا قبل.
وأما التي شرفها من جهة الهيولى الموضوع فيها فمثل صناعة الصاغة والعطارين وما شاكلها. وأما التي من جهة مصنوعاتها فمثل صناعة الذين يعملون آلات الرصد مثل الأسطرلاب وذوات الحلق والأكر الممثلة بصورة الأفلاك وما شاكلها، فإن قطعة من الصفر قيمتها خمسة دراهم، إذا عمل منها أسطرلاب يساوي مائة درهم، فإن تلك القيمة ليست للهيولى ولكن لتلك الصورة التي جعلت فيها.
وأما الذهب والفضة اللذان هما الهيولى الموضوع في صناعة الصواغين أوالضرابين، إذا ضرب منهما دراهم ودنانير أوصياغة ما، فليس مبلغ تفاوت القيمة ما بين الموضوع والمصنوع مثل ما يبلغ في صناعة أسطرلاب وغيرهما. وأما التي شرفها من جهة النفع منها للعموم فهي مثل صناعة الحمامين والسمادين؛ والكناسين وغيرهم، وذلك أن الحمام المنفعة منه للصغير والكبير والشريف والوضيع والمدني والغريب والقريب والبعيد كلهم بالسوية لا يتفاضلون في الانتفاع به.
وأما أكثر الصنائع فأهلها متفاوتون في منافعها كاختلافهم في الملبوسات والمأكولات والمشروبات والمسكونات وأمثالها من الأمتعة المصنوعة، حال الغني فيها خلاف حال الفقير، إلا الحمام المزين وأمثالهما. وأما صناعة السمادين والزبالين فإن الضرر في تركها عظيم عام على أهل المدينة، وذلك أن العطارين الذين الموضوع في صناعاتهم مضاد للموضوع في صناعة السمادين، لوأنهم أغلقوا دكاكينهم وأسواقهم شهراً واحداً لم يلحق من ذلك من الضرر لأهل المدينة مثل ما يلحق من الضرر من ترك السمادين صناعاتهم أسبوعاً واحداً، فإن المدينة تمتلئ من السماد والسرقن؛ والجيف والقاذورات، وما يتنغص عيش أهلها من أجله.
وأما التي شرفها من الصناعة نفسها فهي مثل صناعة المشعبذين؛ والمصورين والموسيقيين وأمثالهم، وذلك أن الشعبذة ليست شيئاً سوى سرعة الحركة وإخفاء الأسباب التي يعملها الصانع فيها؛ حتى إنه مع ضحك السفهاء منها، يتعجب العقلاء أيضاً من حذق صانعها. وأما صناعة المصورين فليست شيئاً سوى محاكاتهم صور الموجودات المصنوعات الطبيعية أوالبشرية أوالنفسانية، حتى إنه يبلغ من حذقهم فيها أن تصرف أبصار الناظرين إليها عن النظر إلى الموجودات أنفسها، بالتعجب من حسنها ورونق منظرها؛ ويبلغ أيضاً التفاوت بين صناعها تفاوتاً بعيداً، فإنه يحكى أن رجلاً في بعض المواضع عمل صوراً وتماثيل مصورة بأصباغ صافية وألوان حسنة براقة، وكان الناظرون إليها يتعجبون من حسنها ورونقها، ولكن كان في الصنعة نقص حتى مر بها صانع فارة؛ حاذق، فتأملها فاستزرى بها وأخذ فحمة من الطريق ومثل بجانب تلك التصاوير صورة رجل زنجي كأنه يشير بيديه إلى الناظرين. فانصرفت أبصار الناظرين بعد ذلك عن النظر إلى تلك التصاوير والأصباغ،بالنظر إليه والتعجب من عجيب صنعته وحسن إشارته وهيئة حركته.
وأما شرف صناعة الموسيقى فمن وجهين اثنين: أحدهما من جهة الصناعة نفسها، والآخر من جهة تأثيراتها في النفوس، وأيضاً من جهة تفاوت ما بين صناعها، وذلك أن الواحد منهم يضرب لحناً فيطرب بعض المستمعين، وآخر يضرب لحناص فيطرب كل المستمعين. وقد يحكى أن جماعة من أهل هذه الصناعة كانوا مجتمعين في دعوة رجل كبير رئيس، إذ دخل عليهم إنسان رث الحال، عليه ثياب النساك، فرفعه صاحب المجلس عليهم كلهم، فتبين الإنكار في وجوههم، فأراد أن يبين فضله، فسأله أن يسمعهم شيئاً من صنعته، فأخرج خشبات وركبها تركيباً، ومد عليها أوتاراً كانت معه، وحركها تحريكاً، فأضحك كل من كان في المجلس، من اللذة والفرح، ثم قلب وحرك تحريكاً آخر، فأبكى كل من كان في المجلس، من الحزن ورقة القلب، ثم قلب وحرك تحريكاً، فنوم كل من كان في المجلس، وقام وخرج فلم يعرف له خبر.
وأعلم يا أخي بأن الحذق في كل صنعة هوالتشبه بالصانع الحكيم الذي هوالباري- جل ثناؤه- ويقال أن الله تعالى يحب الصانع الفاره الحاذق. وروي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن الله تعالى يحب الصانع المتقن في صنعته. ومن أجل هذا قيل في حد الفلسفة إنها التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان. وإنما أردنا بالتشبه التشبه في العلوم والصنائع وإفاضة الخير، وذلك إن الباري- جل ثناؤه- أعلم العلماء وأحكم الحكاء وأصنع الصناع وأفضل الأخيار؛ فكل من زاد في هذه الأشياء درجة، ازداد من الله قربه،كما ذكر الله سبحانه في وصف الملائكة الذين هم خالص عباده فقال:" يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته".
وأعلم يا أخي أن الوسيلة لا تكون إلا بعمل أوعلم أوعبادة، لأن العباد لا يملكون شيئاً سوى سعيهم كما ذكر الله- عز وجل- فقال:" وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى".
فصل في قابلية الإنسان الصنعة
وأعلم أن قبول الصبيان تعلم الصنائع يختلف بحسب طباعهم المختلفة؛ واختلاف طباعهم بحسب مواليدهم، وقد شرحنا ذلك في رسالة تاثيرات النجوم في المواليد، ولكن نريد أن نذكر هاهنا من ذلك طرفاً، فأعلم أن من الناس من هومطبوع على تعلم صناعة واحدة أوعدة صنائع بسهولة في قبولها، حتى أن كثيراً من الناس من يتعلم صناعة بجودة قريحته، إذا رأى أهل تلك الصناعة في أعمالهم بأدنى تأمل، كأنه قد وقف عليها؛ ومنهم من يحتاج إلى توقيف؛ شديد وحث دائم وترغيب، وربما لا يفلح فيها إذا لم يكن فيها موافقاً للطبيعة، وما اوجبه له مولده؛ ومن الناس من لا يتعلم الصناعة البتة، ويكون فارغاً خلواً منها جميعاً. والسبب في ذلك إن الصناعة لا تأتي للمولود إلا بدلالة كوكب متول لبرج العاشر من طالعه، وذلك إنه إذا استولى عليه من أحد الكواكب الثلاثة واحد، فلا بد من صنعة يتعلمها، وهي المريخ والزهرة وعطارد، وذلك إن كل صنعة فلا بد لها من حركة ونشاط وحذق، فالحركة للمريخ، والنشاط للزهرة، والحذق لعطارد.
وأربعة منها إذا انفرد أحدها بالدلال فلا يعطي الصنعة ولكن يدل على ما يشاكله من الأعمال، وهي الشمس وزحل والمشتري والقمر، وذلك أن من استولى عليه في مولده، على الدرجة العاشرة، الشمس، فهو لا يتعلم الصناعة لكبر نفسه مثل أولاد الملوك؛ وأما من استولى عليه المشتري، فهو لا يتعلم ولا يعمل لزهده وورعه ورضاه بقليل من أمور الدنيا، وإقباله على طلب الآخرة، مثل الأنبياء- عليهم السلام- ومن يقتدي بهم؛ وأما من استولى عليه زحل، فإنه لا يعمل ولا يتعلم لكسله وثقل طبيعته عن الحركة، ويرضى بالذل والهوان في طلب معاشه كالمكدين والشؤال؛ وأما من استولى عليه القمر، فإنه لا يعمل من أجل مهانته، واسترخاء طبيعته، وقلة فهمه، مثل النساء وأمثالهن من الرجال.
ومن أجل هذا كان اليونانيون الذين كانوا في قديم الزمان، إذا أرادوا تسليم الصبي إلى صناعة من الصنائع، اختاروا له يوماً من الأيام، وأدخلوه إلى هيكل الصنائع وصور سائر الكواكب، وقربوا قرباناً لصنم ذلك الكوكب الذي من مولده، وإن لم يكونوا عرفوه من مولده عرضوا عليه الصنائع المصورة في ذلك الهيكل، فإن رغب في واحدة منها بعد توقيفهم له على أحوال تلك الصنعة، سلموه إليها.
وأعلم يا أخي بأن صناعة الآباء والأجداد أنجع في الأولاد من صناعة الغرباء، وخاصة من دل مولده عليها، ويكونون فيها أحذق وأنجب، ومن أجل هذا أوجبوه في سياسة أردشير بن بابكان على أهل كل طبقة من الناس لزوم صناعة آبائهم وأجدادهم قطعاً، وأن لا يتجاوزوها، وزعموا أن ذلك فرض من اله- عز وجل- في كتاب زرادشت.
وأعلم بأن هذا كله صيانة للملك أن لا يرغب فيه من ليس من أهله، لأنه إذا كثر الطالبون للملك، كثر التنازع بينهم، وإذا كثر التنازع، كثر الشغب، واضطربت الأمور، وأنفسد النظام؛ وفساد النظام يتبعه البوار والبطلان؛
فصل في الغرض من الملك
وأعلم بأن الغرض من الملك هوحفظ الناموس على أهله أن لا يندرس بتركهم القيام بموجباته، لأن أكثر أهل الشرائع النبوية والفلسفية، لولا خوف السلطان، لتركوا الدخول تحت أحكام الناموس وحدوده وتأدية فرائضه، وأتباع سنته، واجتناب محارمه، وأتباع اوامره ونواهيه.
وأعلم بأن الغرض من حفظ الناموس هوطلب صلاح الدين والدنيا جميعاً، فمتى ترك القيام بواجباته، انفسدا جميعاً، وبطلب الحكمة، ولكن السياسة الإلهية والعناية الربانية لا تتركهما بنفسدان، لأنها هي العلة الموجبة لوجودهما وبقائهما ونظامهما وتمامهما وكمالهما، وكل صورة في المصنوع فإنها أولاً تكون في فكر الصانع وعلمه.
فصل في أن الجسم لا يتحرك من ذاته
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن موضوعات الصناع ومصنوعاتهم وآلاتهم وأدواتهم وأجسادهم كلها أجسام، والجسم من حيث الجسمية ليس بمتحرك والفعال لا تكون إلا بالحركة، فالمحرك للأجسام جوهر آخر، وهوالذي نسميه نفساً، والنفوس، من حيث النفسية، جوهر واحد، كما أن الأجسام، من حيث الجسمية، جوهر واحد، وإنما تختلف النفوس بحسب اختلاف قواها؛ واختلاف قواها بحسب اختلاف أفعالها ومعارفها وأخلاقها، كما أن اختلاف الأجسام بحسب اختلاف أشكالها، واختلاف أشكالها بحسب اختلاف أعراضها.
وأعلم بأن نفس العالم نفس واحدة، كما أن جسمه جسم واحد بجميع أفلاكه وكواكبه وأركانه ومولداته، ولكن لما كانت لنفس العالم أفعال كلية بقوى كلية، وأفعال جنسية بقوى جنسية، وأفعال نوعية بقوى نوعية، وأفعال شخصية بقوى شخصية، وهي حركتها من المشرق إلى المغرب وبالعكس، ومن الشمال إلى الجنوب وبالعكس، ومن فوق إلى أسفل وبالعكس، سميت هذه القوى بأفعالها نفوساً جنسية ونوعية وشخصية، فتكثرت النفوس بحسب قواها المختلفة، وتكثرت قواها بحسب أفعالها المفتنة، كما تكثر جسم العالم بحسب اختلاف أشكاله، وتكثرت أشكاله بحسب اختلاف أعراضه، فأفعال نفس العالم الكلية هي إدارتها الأفلاك والكواكب من المشرق إلى المغرب بالقصد الأول، وتسكينها مركزها الخاص بها؛ وأفعالها الجنسية ما يختص بكل فلك وكل كوكب من الحركات الست العارضة، كما بينا في رسالة السماء والعالم، وما يختص أيضاً بالأركان الأربعة التي تحت فلك القمر من الحركات الطبيعية، كما بينا في رسالة الكون والفساد؛ وأفعالها النوعية ما يختص بالكائنات المولدات التي هي الحيوان والنبات والمعادن وفعالها الشخصي التي تظهر من أشخاص الحيوانات وما يجري على أيدي البشر من الصنائع التي تقدم ذكرها.
وأعلم يا أخي بأن النفس جوهرة روحانية حية بذاتها، فإذا قارنت جسماً من الأجسام صيرته حياً مثلها، كما أن النار جوهرة جسمانية حارة بذاتها، فإذا جاورت جسماً من الأجسام صيرته حاراً مثلها. وأعلم بأن للنفس قوتين اثنتين، إحداهما علامة، والأخرى فعالة، فهي بقوتها العلامة تنزع رسوم المعلومات من هيولاها، وتصورها في ذاتها، فتكون ذات جواهرها لتلك الرسوم كالهيولى، وهي فيها كالصورة؛ وبقوتها الفعالة تخرج الصور التي في فكرها، وتنقشها في الهيولى الجسماني، فيكون الجسم عند ذلك مصنوعاً لها.
وكل متعلم علماً فإن صورة المعلوم في نفسه بالقوة، فإذا تعلمها صارت فيها بالفعل؛ وهكذا كل متعلم صنعة فإن صور المصنوعات في نفسه بالقوة، فإذا تعلمها صارت فيها بالفعل. والتعلم ليس شيئاً سوى الطريق من القوة إلى الفعل، والتعليم ليس شيئاً سوى الدلالة على الطريق، والأستاذون هم الأدلاء وتعليمهم هوالدلالة، والتعلم هوالطريق، والمعلوم هوالمطلوب المدلول عليه؛ فنفوس الصبيان علامة بالقوة، ونفوس الأستاذين علامة بالفعل، وكل نفس علامة بالقوة لا بد لها من نفس علامة بالفعل تخرجها من القوة إلى الفعل.
وأعلم يا أخي بأن كل صانع من البشر لا بد له من أستاذ يتعلم منه صنعته أوعلمه، وذلك الأستاذ من أستاذ له قبل وهكذا حتى ينتهي إلى واحد ليس علمه من أحد من البشر، فيكون عند ذلك أحد الأمرين، إما أن نقول إنه استخرجه بقوة نفسه وفكره ورويته واجتهاده، كما يزعم المتفلسفون، وإما أن نقول إنه أخذه عن موقف له ليس من البشر، كما يقول الأنبياء- صلوات الله عليهم.
وأعلم يا أخي علماً يقيناً أنه ليس من البشر أحد يحيط بعلم من العلوم، لا الأنبياء ولا الفلاسفة، ولا غيرهم، إلا بما شاء الذي وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يؤوده؛ حفظهما وهوالعلي العظيم، وذلك أن الذين زعموا أنهم استخرجوا العلوم والصنائع بقوة عقولهم وجودة فكرهم ورويتهم، لولا أنهم رأوا وشاهدوا مصنوعات الطبيعة، فاعتبروها وقاسوا عليها، وكان ذلك لهم كالتعليم من الطبيعة، لما اهتدوا إلى شيء منها. والطبيعة أيضاً لولا أنها مؤيدة بالنفس الكلية، والنفس الكلية لولا إنها مؤيدة بالعقل الكلي الذي هوأول الموجودات من الباري- سبحانه- والباري - سبحانه- هوالمؤيد للكل كيف شاء، الذي هوصانع الأسباب، والمؤيد للب ذوي الألباب.
وإذ قد فرغنا من ذكر الصنائع البشرية وموضوعاتها وأغراضها وشرفها ومنافعها، فقد بينا أن خير صناعة تبلغ إليها طاقة البشر وضع الناموس الإلهي، وقد ذكرنا كيفيتها وشرائطها في رسالة الناموس الإلهي، فاجتهد يا أخي في معرفة أسراره، لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة، ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف العقلية، فتعيش بعيش العلماء الربانيين، وتنال نعيم عالم الروحانيين في جوار الملائكة المقربين مخلداً أبد الآبدين، فإن لم يستولك ذلك فكن خادماً في الناموس بحفظ أحكامه والقيام بحدوده، فلعلك تنجوبشفاعة أهله من بحر الهيولى، وأسر الطبيعة وهاوية عالم الجسام بالكون والفساد ذوي الآلام، وفقك الله وإبانا- أيها الأخ- للرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد، إنه كريم جواد، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله وآله.
الرسالة التاسعة في بيان الأخلاق وأسباب اختلافها
وأنواع عللها ونكت من آداب الأنبياء وزبد من أخلاق الحكماء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، آلله خير أم يشركون، وإذ قد فرغنا من ذكر الجواهر الجسمانية، ووصفنا هيولاتها وصورها وتركيبها.
وإذ فرغنا من ذكر تصاريف الأحوال بالإنسان في الرحم من يوم مسقط النطفة إلى يوم ولادة الجسد، وبينا كيف ينضاف إلى خلقة الجنين قوى روحانيات الكواكب، وكيف تنطبع في جبلته الأخلاق المختلفة المركوزة في الطبيعة تسعة أشهر شهراً بعد شهر، الذي هوالمكث الطبيعي إلى يوم ولادة الطفل، واستئناف الإنسان العمر في الحياة الدنيا مائة وعشرين سنة، الذي هوالعمر الطبيعي في رسالة مسقط النطفة، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة ما ينضاف إلى تلك الطباع المركوزة في الأخلاق المكتسبة بعد الولادة بالعادات الجارية، والأسباب الداعية المولدة لها، إما زائدة عليها أوناقصة عنها في تصاريف أيام الحياة الدنيا إلى يوم الممات الذي هومفارقة النفس الجسد، وولادتها الثانية التي هي النشأة الأخرى، كما ذكر الله- جل ثناؤه- بقوله:" ولقد علمتم النشأة الأولى، فلولا تذكرون." يعني النشأة الآخرة، وقال تعالى:" وننشئكم فيما لا تعلمون." وقال الله- عز وجل-: " ثم الله ينشئ النشأة الآخرة، إن الله على كل شيء قدير".
فصل في قابلية الإنسان جميع الأخلاق
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الله- جل ثناؤه- لما أراد أن يجعل في الأرض خليفة له من البشر ليكون العالم السفلي الذي هودون فلك القمر عامراً بكون الناس فيه، مملوءاً من المصنوعات العجيبة على أيديهم، محفوظاً على النظام والترتيب بالسياسات الناموسية والملكوتية والفلسفية والعامية والخاصية جميعاً، ليكون العالم باقياً على أتم حالاته وأكمل غاياته، كما ذكر في السفر الرابع من صحف هرمس وهوإدريس النبي- عليه السلام- وذكرناه في الرسالة الجامعة، وأشرنا إليه في رسائلنا، وكما سنبين في هذه الرسالة، فبدأ أولاً ربنا تعالى فبنى لخليفته هيكلاً من التراب عجيب البنية، ظريف الخلقة، مختلف الأعضاء، كثير القوى، ثم ركبها وصورها في أحسن صورة من سائر الحيوانات، ليكون بها مفضلاً عليها، مالكاً لها، متصرفاً فيها كيف يشاء؛ ثم نفخ فيه من روحه، فقرن ذلك الجسد الترابي بنفس روحانية من أفضل النفوس الحيوانية وأشرفها، ليكون بها متحركاً حساساً دراكاً علاماً فاعلاً ما يشاء؛ ثم أيد نفسه بقوى روحانية سائر الكواكب في الفلك، ليكون متهيئاً له بها، وممكناً له قبول جميع سائر الأخلاق، وتعلم جميع العلوم والآداب والرياضيات والمعارف والسياسات، كما مكنه وهيأ له بأعضاء بدنه المختلفة الأشكال والهيئات تعاطي جميع الصنائع البشرية، والأفعال الإنسانية، والأعمال الملكية.
وذلك أنه قد جمع في بنية هيكله جميع أخلاط الأركان الأربعة، وكل المزاجات التسعة في غاية الاعتدال، ليكون بها متهيئاً وقابلاً لجميع أخلاق الحيوانات، وخواص طباعها؛ كل ذلك كيما يسهل عليه ويتهيأ له إظهار جميع الأفعال، والصنائع العجيبة، والأعمال المتقنة المختلفة، والسياسات المحكمة، إذ كان إظهارها كلها بعضوواحد وأداة واحدة وخلق واحد ومزاج واحد يتعذر على الإنسان، كما بينا في رسالة الصنائع البشرية. والغرض من هذه كلها هوأن يتمكن للإنسان ويتهيأ له التشبه بإلهه وباريه الذي هوخليفته في أرضه، وعامر عالمه، ومالك ما فيه، وسائس حيوانها؛ ومربي نباتها، ومستخرج معادنها، ومتحكم ومتسلط على ما فيها، ليدبرها تدبيرات سياسية، ويسوسها سياسة ربوبية، كما رسم له الوصايا الناموسية والرياضات الفلسفية؛ كل ذلك كيما تصير نفسه بهذه العناية والسياسة والتدبير ملكاً من الملائكة المقربين، فينال بذلك الخلود في النعيم إبد الآبدين ودهر الداهرين، كما ذكر في بعض كتب أنبياء بني إسرائيل، قال الله تعالى:" يا بن آدم خلقتك للأبد، وأنا حي لا أموت؛ أطعني فيما أمرتك به، وأنته عما نهيتك عنه، أجعلك حياً لا تموت أبداً، يا بن آدم أنا قادر على أن أقول للشيء كن فيكون؛ أطعني فيما أمرتك به، وأنته عما نهيتك عنه، أجعلك قادراً على أن تقول للشيء كن فيكون."وإذ قد تبين بما ذكرنا ما الغرض وما المراد من وجود الأخلاق المختلفة في جبلة الإنسان وطبيعته، فنريد أن نذكر العلل والأسباب التي بها ومن أجلها تختلف أخلاق البشر وسجاياهم: كم هي، وما هي، وكيف هي، إذ قد تبين، فيما تقدم، لم هي.
فصل في وجوه اختلاف الأخلاق أعلم يا أخي أن أخلاق الناس وطبائعهم تختلف من أربعة وجوه، أحدها من جهة أخلاط أجسادهم ومزاج أخلاطها، والثاني من جهة تربة بلدانهم واختلاف أهويتها، والثالث من جهة نشوئهم على ديانات آبائهم ومعلميهم وأستاذيهم ومن يربيهم ويؤدبهم؛ والرابع من جهة موجبات أحكام النجوم في أصول مواليدهم، ومساقط نطفهم، وهي الأصل وباقيها فروع عليه.
ونحتاج إلى شرح هذا الباب ليتبين صدق ما قلنا، وحقيقة ما وصفنا، ونبدأ أولاً بذكر العلل والأسباب التي تكون من جهة أخلاط الجسد وتغيرات أمزجتها من الاعتدال والزيادة والنقصان، وما يتبعها من الخلاق والسجايا المختلفة المتضادة.
فصل في اختلاف الأخلاق من جهة الخلاط أعلم يا أخي بأن المحروري الطباع من الناس وخاصة مزاج القلب يكونون على الأمر الأكثر شجعان القلوب، أسخياء النفوس، متهورين في الأمور المخوفة، قليلي الثبات والتأني في الأمور، مستعجلي الحركة، شديدي الغضب، سريعي المراجعة، قليلي الحقد، أذكياء النفوس، حادي الخواطر، جيدي التصور؛ والمبرودين في الأمر الأكثر يكونون بليدي الذهن في أكثر الطباع، ثقيلي الأرواح، غير نضيجي الأخلاق؛ والمرطوبين يكونون في أكثر الأمر ذوي طباع بليدة وقلة ثبات في الأمور، ليني الجانب، سمحاء النفوس، طيبي الأخلاق، سهلي القبول، سريعي النسيان، مع كثرة تهور في الأمور الطبيعية؛ واليابسي المزاج يكونون في أكثر الأمور صابرين في الأعمال، ثابتي الرأي، عسري القبول، الغالب عليهم الصبر والحقد والبخل والإمساك والحفظ.
فصل في خلق آدم- عليه السلام-
كما وجد في بعض كتب بني إسرائيل
وجد في بعض كتب أنبياء بني إسرائيل من صفة خلقة آدم وتكوين جسده، أن الله- عز وجل- حين ابتدعه واخترعه قال:" أني خلقت آدم وركبت بدنه من أربعة أشياء، ثم جعلتها وراثة في ولده وذريته تنشأ في أجسادهم، وينمون عليها إلى يوم القيامة: ركبت جسده من رطب ويابس، وحار وبارد، وذلك أني خلقته من تراب وماء، ثم نفخت فيه نفساً وروحاً، فيبوسة جسده من قبل التراب، ورطوبته من قبل الماء، وحرارته من النفس، وبرودته من الروح. ثم جعلت في الجسد بعد هذا أربعة انواع أخر، هن ملاك أمور الجسد، لا يقوم الجسد إلا بهن، ولا تقوم واحدة منهن إلا بالأخرى، فمنهن المرة السوداء، والمرة الصفراء، والدم، والبلغم، ثم أسكنت بعضها في بعض، فجعلت مسكن اليبوسة في المرة السوداء، والحرارة في المرة الصفراء، والرطوبة في الدم، والبرودة في البلغم. فأيما جسد اعتدلت فيه ههذه الأربعة الأخلاط التي جعلتها ملاكه وقوامه، وكانت كل واحدة منهن ربعاً لا تزيد ولا تنقص، كملت صحته واعتدلت بنيته؛ وإن زادت واحدة منهن على إخوانها وقهرتهن ومالت بهن، دخل السقم على الجسد من ناحيتها، بقدر ما زادت؛ وإذا كانت ناقصة ضعفت طاقتها عن مقاومتها فغلبنها ودخل السقم على الجسد من نواحيهن بقدر قلتها عنهن وضعف طاقتها عن مقاومتهن.
" ثم علمته الطب وكيفية الدواء، وكيف يزيد في الناقص، أوينقص في الزائد، حتى يعتدل ويستقيم أمر الجسد؛ فالطبيب الماهر العالم بالداء والدواء هوالذي يعرف من أين دخل السقم على الجسد من الزيادة والنقان، ويعلم الدواء الذي يعالج به، فيزيد في ناقصها، وينقص من زائدها، حتى يستقيم أمر الجسد على فطرته، ويعتدل الشيء بأقرانه.
" ثم صيرت هذه الأخلاط التي ركبت عليها الجسد فطراً وأصولاً عليها تبنى أخلاق بني آدم، وبها توصف، فمن التراب العزم، ومن الماء اللين، ومن الحرارة الحدة، ومن البرودة الأناة. فإن مالت به اليبوسة وأفرطت، كانت عزمته قساوة وفظاظة؛ وإن مالت به الرطوبة، كان لينه توانياً ومهانة؛ وإن مالت به الحرارة، كانت حدته طيشاً وسفاهة؛ وإن مالت به البرودة، كانت أناته ريثاً وبلادة؛ وإن اعتدلت وكن سواءً، اعتدلت أخلاقه واستقام أمره، وكان عازماً في أناته، ليناً في عزمه، هادئاً في لينه، متأنياً في حدته، لا يغلبه خلق من أخلاقه، ولا تميل به طبيعة من أخلاطه عن المقدار المعتدل، من أيها شاء استكثر، ومن أيها شاء قلل، وكيف شاء عدل.
" ثم نفخت فيه من روحي وقرنت بجدسه نفساً وروحاً: فبالنفس يسمع ابن آدم ويبصر ويشم ويذوق ويلمس ويحس ويأكل ويشرب وينام ويقعد ويضحك ويبكي ويفرح ويحزن؛ وبالروح يعقل ويفهم ويدري ويتعلم ويستحي ويحلم ويحذر ويتقدم ويمنع ويتكرم ويقف ويهجم؛ فمن النفس تكون حدته وخفته وشهوته ولعبه ولهوه وضحكه وسفهه وخداعه ومكره وعنفه وخرقه؛ ومن الروح يكون حلمه ووقاره وعفافه وحياؤه وبهاؤه وفهمه وتكرمه وحذقه وصدقه ورفقه وصبره، فإذا خاف ذواللب أن يغلب عليه خلق من أخلاق النفس، قابله بضده من أخلاق الروح، وألزمه إياه فيعدله به ويقومه، فيقابل الحدة بالحلم، والخفة بالوقار، والشهوة بالعفاف، واللعب بالحياء، واللهوبالبهاء، والضحك بالهم، والسفه بالكرم، والخداع بالشجاعة، والكذب بالصدق، والعنف بالرفق، والنزق بالصير، والخرق بالأناة، إذ كل مرض يعالج بضده. ومن التراب تكون قساوته وبخله وفظاظته وشحه ويأسه وقنوطه وعزمه وإصراره؛ ومن الماء يكون لينه وسهولته واسترساله ومعروفه وتكرمه وسماحته وقوته وقربه وقبوله ورجاؤه واستبشاره. فإذا خاف ذواللب أن يغلب عليه خلق من أخلاقه الترابية، قابله بضده من الأخلاق المائية، وألزمه إياه ليعدله ويقومه، فيقابل القسوة باللين، والبخل بالعطاء، والفظاظة بالبشر، والشح بالكرم، واليأس بالرجاء، والقنوط بالاستبشار، والعزم بالقبول، والإصرار بالعدل."
وأعلم يا أخي بأن لكل خلق من الأخلاق أخوات مشاكلات، ولهن أضداد مخالفات، ولهن كلهن أفعال متباينات متضادات تحتاج إلى شرح لتبين وتعرف، لأن هذا الباب من العلوم الشريفة والمعارف اللطيفة، إذ كان من هذا الفن تعرف أخلاق الكرام من بني آدم، وأخلاق الملائكة الذين هم سكان الجنان، كما ذكر الله تعالى فقال:" كراماً كاتبين" و" كرام بررة" ومن هذا الباب تعرف أيضاً أخلاق الشياطين الذين هم أهل النيران كما ذكر الله تعالى بقوله:" كلما دخلت أمة لعنت أختها. وقالوا: لا مرحباً بهم، إنهم صالوالنار" وإذ قد تبين بما ذكرنا طرف من الأسباب المؤدية إلى اختلاف أخلاق الإنسان من جهة مزاج أخلاط جسده، فنريد أيضاً أن نذكر طرفاً من الأسباب التي تكون من جهة اختلاف تربة البلاد، وتغييرات أهويتها المؤدية إلى اختلاف الأخلاق.
فصل في تأثير طبيعة البلدان في الأخلاق
وأعلم يا أخي بأن ترب البلاد والمدن والقرى تختلف، وأهويتها تتغير من جهات عدة، فمنها كونها في ناحية الجنوب، أوالشمال، أوالشرق، أوالغرب، أوعلى رؤوس الجبال، أوفي بطون الأودية والأغوار، أوعلى سواحل البحار، أوشطوط الأنهار، أوفي البراري والقفار، أوفي الآجام والدحال؛ والأرض ذات الرملة والأرضين السباخ؛ السهلة، أوفي البقاع الصخرية والحجارة والحصى والرمال، أوفي الأرضين السهلة والتربة اللينة بين الأنهار والأشجار والزروع والبساتين والزهر والنور. وأيضاً فإن أهوية البلاد والبقاع تختلف بحسب اختلاف تصاريف الرياح الأربع ونكباواتها؛ وبحسب مطالع البروج عليها، ومطارح شعاعات الكواكب عليها من أفاقها، وهذه كلها تؤدي إلى اختلاف أمزجة الأخلاط؛ واختلاف أمزجة الأخلاط يؤدي إلى اختلاف أخلاق أهلها وطباعهم وألوانهم ولغتهم وعاداتهم وآرائهم ومذاهبهم وأعمالهم وصنائعهم وتدابيرهم وسياساتهم، لا يشبه بعضها بعضاً، بل تنفرد كل أمة منها بأشياء من هذه التي تقدم ذكرها لا يشاركها فيها غيرها.
مثال ذلك أن الذين يولدون في البلاد الحارة ويتربون هناك، وينشأون على ذلك الهواء، فإن الغالب على باطن أمزجة أبدانهم البرودة؛ وهكذا أيضاً الذين يولدون في البلدان الباردة، ويتربون هناك، وينشأون على ذلك الهواء، يكون الغالب على باطن أمزجة أبدانهم الحرارة، لأن الحرارة والبرودة هما ضدان لا يجتمعان في حال واحدة، في موضع واحد، ولكن إذا ظهر أحدهما، استبطن الآخر واستجن؛ ليكونا موجودين في دائم الأوقات، إذ كانت المكونات لا وجود لها ولا قوام إلا بهما. والدليل على ما قلنا أن مزاج أبدان أهل البلدان الجنوبية من الحبشة والزنج والنزبة وأهل السند وأهل الهند، فإنه لما كان الغالب على أهوية بلادهم الحرارة بمرور الشمس على سمت تلك البلاد في السنة مرتين، سخنت أهويتها، فحمي الجو، فاحترقت ظواهر أبدانهم، واسودت جلودهم، وتجعدت شعورهم لذلك السبب، وبردت بواطن أبدانهم، وأبيضت عظامهم وأسنانهم، واتسعت عيونهم ومناخرهم وأفواههم بذلك السبب. وبالعكس في هذا حال أهل البلدان الشمالية، وعلتها أن الشمس لما بعدت من سمت تلك البلاد، وصارت لا تمر عليها لا شتاءً وصيفاً، غلب على أهويتها البرد، وأبيضت لذلك جلودهم، وترطبت أبدانهم، واحمرت عظامهم واسنانهم، وكثرت الشجاعة والفروسة فيهم، وسبطت شعورهم، وضاقت عيونهم، واستجنت الحرارة في بواطن أبدانهم لذلك السبب. وعلى هذا القياس توجد صفات أهل البلدان المتضادة بالطباع والأهوية، يكونون مختلفين في الطباع والأخلاق في أكثر الأمر وأعم الحالات.
وإذ قد تبين ذكرنا طرف من تغير أخلاق الناس من جهة اختلاف ترب البلاد، وتغير أهويتها، فنريد أن نذكر طرفاً من أسباب موجبات أحكام النجوم فنقول: إن الذين يولدون بالبروج النارية في الأوقات التي يكون المستولي عليها الكواكب النارية مثل المريخ وقلب الأسد وما شاكلهما من الكواكب، فإن الغالب على أمزجة أبدانهم الحرارة وقوة الصفراء؛ والذين يولدون بالبروج المائية في الأوقات التي يكون المستولي عليها الكواكب المائية مثل الزهرة والشعرى اليمانية، فإن الغالب على أمزجة أبدانهم يكون الرطوبة والبلغم، وهكذا الذين يولدون بالبروج الترابية في الأوقات التي يكون المستولي عليها زحل وما شاكله من الكواكب الثابتة، فإن الغالب على أمزجة أبدانهم اليبوسة والمرة السوداء؛ وهكذا الذين يولدون بالبروج الهوائية في الوقات التي يكون المستولي عليها المشتري وما شاكله من الكواكب الثابتة، فإن الغالب على أمزجة أبدانهم الدم والاعتدال، يعرف حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا أهل الصناعات والتجارب.
وإذ قد تبين بما قلنا وذكرنا ما الأسباب والعلل الموجبة لوجود الأخلاق المركوزة في الجبلة، فنريد أن نبين ما الأخلاق المركوزة في الجبلة، وما المكتسبة بالعادة الجارية منها، وما الغرض في ذلك، وما الفرق بينهما، يعني الأخلاق المكتسبة والمركوزة.
فصل في ماهية الأخلاق
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أن الأخلاق المركوزة في الجبلة هي تهيؤ ما في كل عضومن أعضاء الجسد يسهل به على النفس إظهار فعل من الأفعال، أوعمل من الأعمال، أوصناعة من الصنائع، أوتعلم علم من العلوم، أوأدب من الآداب، أوسياسة من غير فكر ولا روية، مثال ذلك أنه متى كان الإنسان مطوعاً على الشجاعة فإنه يسهل عليه الإقدام على الأمور المخوفة من غير فكر ولا روية، وهكذا متى كان مطبوعاً على السخاء يسهل عليه بذل العطية من غير فكر ولا روية، وهكذا متى كان الإنسان مطبوعاً على العفة، سهل عليه اجتناب المحظورات المحرمات من غير فكر ولا روية؛ وهكذا من كان مطبوعاً على الاعتدال، سهل عليه الحكومة في الخصومات، والعدل والنصفة في المعاملات، وعلى هذا المثال والقياس سائر الأخلاق والسجايا المطبوعة في الجبلة المركوزة فيها، إنما جعلت لكيما يسهل على النفس إظهار أفعالها وعلومها وصنائعها وسياساتها وتدبيرها بلا فكر ولا روية.
وأما من كان مطبوعاً على الضد من ذلك فهو يحتاج عند استعمال هذه الخصال، وإظهار هذه الأفعال، إلى فكر وروية واجتهاد شديد، وكلفة، ولا يفعل الإنسان هذه الأمور إلا بعد أمر ونهي، ووعد ووعيد، ومدح وذم، وترغيب وترهيب. وعلى هذا المثال يكون كل حكم في الطبع خلافه، يحتاج صاحبه إلى أمر ونهي وفكر واجتهاد ورغبة. وبهذه العلة وردت أكثر أوامر الناموس ونواهيه؛ ولهذا السبب كان وعده ووعيده وترغيبه وترهيبه.ولوكان الإنسان الواحد مطبوعاً على جميع الأخلاق، لما كان عليه كلفة في إظهار كل الفعال وجميع الصنائع، ولكن الإنسان المطلق الكلي هوالمطبوع على قبول جميع الأخلاق، وإظهار جميع الصنائع والأعمال، لا الإنسان الجزئي.
وأعلم بأن كل الناس أشخاص لهذا الإنسان المطلق، وهوالذي أشرنا إليه أنه خليفة الله في أرضه منذ يوم خلق آدم أبوالبشر إلى يوم القيامة الكبرى، وهي النفس الكلية الإنسانية الموجودة في كل أشخاص الناس، كما ذكر- جل ثناؤه- بقوله:" ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" كما بينا في رسالة البعث.
وأعلم يا أخي- أيدك الله بروح منه- بأن هذا الإنسان المطلق الذي قلنا هوخليفة الله في أرضه، وهومطبوع على قبول جميع الأخلاق البشرية، وجميع العلوم الإنسانية والصنائع الحكمية، هوموجود في كل وقت وزمان، ومع كل شخص من أشخاص البشر، تظهر منه أفعاله وعلومه وأخلاقه وصنائعه، ولكن من الأشخاص من هوأشد تهيؤاً لقبول علم من العلوم، أوصناعة من الصنائع، أوخلق من الأخلاق، أوعمل من الأعمال؛ والإظهار بحسب ذلك يكون.
مطلب في التربية
وأعلم بأن العادات الجارية بالمداومة فيها، تقوي الأخلاق المشاكلة لها، كما أن النظر في العلوم والمداومة على البحث عنها، والدرس لها، والمذاكرة فيها، يقوي الحذق بها والرسوخ فيها؛ وهكذا المداومة على استعمال الصنائع، والدؤوب فيها يقوي الحذق والأستاذية فيها؛ وهكذا جميع الأخلاق والسجايا. والمثال في ذلك أن كثيراً من الصبيان إذا نشأوا مع الشجعان والفرسان وأصحاب السلاح، وتربوا معهم، تطبعوا بأخلاقهم، وصاروا مثلهم؛ وهكذا أيضاً كثير من الصبيان إذا نشأوا مع النساء والمخانيث والمعيوبين، وتربوا معهم، تطبعوا بأخلاقهم، وصاروا مثلهم، إن لم يكن في كل الخلق ففي بعض. وعلى هذا القياس يجري حكم سائر الأخلاق والسجايا التي يتطبع عليها الصبيان منذ الصغر، إما بأخلاق الآباء والأمهات، أوالأخوة والأخوات والأتراب والأصدقاء والمعلمين والأستاذين المخالطين لهم في تصاريف أحوالهم. وعلى هذا القياس حكم الآراء والمذاهب والديانات جميعاً.
فصل أعلم يا أخي بأن
من الناس من يكون اعتقاده تابعاً لأخلاقه
ومنهم من تكون أخلاقه تابعة لاعتقاده، وذلك أن من يكون مطبوعاً على طبيعة مريخية فإنه تميل نفسه إلى الآراء والمذاهب التي يكون فيها التعصب والجدال والخصومات أكثر، وهكذا أيضاً من يكون مطبوعاً طبيعة مشترية، فإنه تكون نفسه مائلة إلى الآراء والمذاهب التي يكون فيها الزهد والورع واللين أكثر. وعلى هذا القياس توجد آراء الناس ومذاهبهم تابعة لأخلاقهم، وأما الذي تكون أخلاقه تابعة لاعتقاده فهو الذي إذا اعتقد رأياً أومذهباً وتصوره وتحقق به، صارت أخلاقه وسجاياه مشاكلة لمذهبه واعتقاده، لأنه يصرف أكثر همه وعنايته إلى نصرة مذهبه، وتحقيق اعتقاده في جميع متصرفاته، فيصير ذلك خلقاً له وسجية وعادة يصعب إقلاعه عنها وتركه لها.
وعلى هذا الجنس من الأخلاق تقع المجازاة من المدح والذم والثواب والعقاب والوعد والوعيد والترغيب والترهيب، لأنه اكتساب من صاحبه وفعل له، والمثال في ذلك ما جاء في الخبر أن رجلين اصطحبا في بعض الأسفار، أحدهما مجوسي من أهل كرمان، والآخر يهودي من أهل أصفهان، وكان المجوسي راكباً على بغلة عليها كل ما يحتاج إليه المسافر في سفره من الزاد والنفقة والأثاث، فهو يسير مرفهاً، واليهودي كان ماشياً ليس معه زاد ولا نفقة. فبينما هما يتحدثان، إذ قال المجوسي لليهودي: ما مذهبك واعتقادك، يا خوشاك، قال اليهودي: اعتقادي أن هذه السماء إلهاً هوإله بني إسرائيل وأنا أعبده. وأسأله وأطلب إليه ومنه سعة الرزق، وطول العمر، وصحة البدن، والسلامة من الآفات، والنصرة على الأعداء؛ أريد منه الخير لنفسي ولمن يوافقني في ديني ومذهبي، فحلال لي دمه وماله، وحرام علي نصرته اونصيحته أومعاونته اوالرحمة أوالشفقة عليه. ثم قال للمجوسي: قد أخبرتك عن مذهبي واعتقادي لما سألتني عنه، فأخبرني، يا مغا، أنت ايضاً عن مذهبك واعتقادك. قال المجوسي: أما اعتقادي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي ولأبناء جنسي كلهم؛ ولا أريد لأحد من الخلق سوءاً، لا لمن كان على ديني ويوافقني، ولا لمن يخالفني ويضادني في مذهبي. فقال اليهودي له: وإن ظلمك وتعدى عليك، قال: نعم، لأني أعلم أن في هذه السماء إلهاً خبيراً فاضلاً عادلاً حكيماً عليماً لا تخفى عليه خافية في أمر خلقه، وهويجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين على اساءتهم. فقال اليهودي للمجوسي: فلست أراك تنصر مذهبك وتحقق اعتقادك. فقال المجوسي: وكيف ذلك، قال: لأني من أبناس جنسك، وأنت تراني أمشي متعوباً جائعاً، وأنت راكب شبعان مترفه. قال: صدقت، وماذا تريد، قال: أطعمني واحملني ساعة لأستريح فقد أعييت. فنزل المجوسي عن بغلته، وفتح له سفرته، فأطعمه حتى أشبعه، ثم أركبه ومشى معه ساعة يتحدثان. فلما تمكن اليهودي من الركوب، وعلم أن المجوسي قد أعيا، حرك البغلة وسبقه، وجعل المجوسي يمشي فلا يلحقه، فناداه: يا خوشاك، قف لي وانزل فقد أعييت. فقال له اليهودي: أليس قد أخبرتك عن مذهبي يا مغا، وخبرتني عن مذهبك، ونصرته وحققته، وأنا أريد أيضاً أن أنصر مذهبي وأحقق اعتقادي؛ وجعل يجري البغلة والمجوسي في أثره يعدو، ويقول: ويحك، يا خوشاك، قف لي قليلاً واحملني معك، ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعاً وعطشاً، وارحمني كما رحمتك. وجعل اليهودي لا يفكر في ندائه، ولا يلوي عليه، حتى مضى وغاب عن بصره.
فلما يئس المجوسي منه وأشرف على الهلاك، تذكر تمام اعتقاده، وما وصف له بأن في السماء إلهاً خبيراً فاضلاً عالماً عادلاً لا يخفى عليه من أمر خلقه خافية، فرفع رأسه إلى السماء فقال: يا إلهي، قد علمت إني قد اعتقدت مذهباً ونصرته وحققته ووصفتك بما سمعت وعلمت وتحققت، فحقق عند اليهودي خوشاك ما وصفتك به ليعلم حقيقة ما قلت. فما مشى المجوسي إلا قليلاً حتى رأى اليهودي وقد رمت به البغلة فاندقت عنقه، وهي واقفة بالبعد منه تنتظر صاحبها. فلما لحق المجوسي بغلته ركبها ومضى لسبيله، وترك اليهودي يقاسي الجهد ويعالج كرب الموت. فناداه اليهودي: يا مغا، ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه البرية تأكلني السباع وأموت جوعاً وعطشاً، وحقق مذهبك، وانصر اعتقادك. قال المجوسي: قد فعلت مرة، ولكن بعد لم تفهم ما قلت لك، ولم تعقل ما وصفت لك. فقال اليهودي: وكيف ذلك، فقال: لأني وصفت لك مذهبي فلم تصدقني بقولي حتى حققته بفعلي، وأنت بعد لم تعقل ما قلت لك، وذلك أني قلت لك أن في هذه السماء إلهاً خبيراً فاضلاً عالماً عادلاً لا يخفى عليه خافية، وهويجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين بإساءتهم. قال اليهودي: قد فهمت ما قلت وعلمت ما وصفت. فقال له المجوسي: فما الذي منعك أن تتعظ بما قلت لك يا خوشاك، فقال اليهودي: اعتقاد قد نشأت عليه ومذهب قد ألفته وصار عادة وجبلة بطول الدؤوب فيه، وكثرة الاستعمال له، اقتداء بالآباء والأمهات والأستاذين والمعلمين من أهل ديني ومذهبي، فقد صار جبلة وطبيعة ثابتة، يصعب علي تركها والإقلاع عنها. فرحمه المجوسي وحمله معه حتى جاء به إلى المدينة وسلمه إلى أهله مكسوراً. وحدث الناس بقصته وحديثه معه، فجعلوا يتعجبون. فقال بعض الناس للمجوسي: كيف حملته بعد شدة جفائه بك وقبيح مكافأته إحسانك إليه، قال المجوسي: اعتذر إلى وقال: مذهبي كيت وكيت، وقد صار جبلة وطبيعة ثابتة لطول الدؤوب فيه وجريان العادة به، يصعب الإقلاع عنها والترك لها، وأنا أيضاً قد اعتقدت رأياً وسلكت مذهباً صار لي عادة وجبلة، فيصعب الإقلاع عنها والترك لها.
وإذ قد تبين بما ذكرنا أن العلل الموجبة لاختلاف أخلاق النفوس، والأسباب المؤدية إليها أربعة أنواع حسب، كما قلنا في أول الرسالة، فنقول الآن إن الأخلاق كلها نوعان، إما مطبوعة في جبلة النفوس مركوزة فيها، وإما مكتسبة معتادة من جريان العادة وكثرة الاستعمال؛ ومن وجه آخر أيضاً إن الأخلاق نوعان، منها ما هي أصول وقوانين، ومنها ما هي فروع وتابعة لها، فنحتاج ان نبينها ونفصلها ليعرف بعضها من بعض، إذ كان هذا الفن من المعرفة من العلوم الشريفة النافعة جداً، وخاصة لمن له عناية برياضة النفس وتهذيبها وإصلاح أخلاقها، إذ كانت أخلاق النفوس هي أحد الأسباب المنجية لها من الهلكة، المفصلة بعضها من بعض، كما بينا في رسالة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
فصل في مراتب الأنفس
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الباري- جل ثناؤه- لما أبدع النفوس واخترعها وأبرز المستكن والمستجن من الكائنات، رتبها ونظمها كمراتب الأعداد المفردات، كما ذكر تعالى بقوله حكاية عن الملائكة قولهم:" وما منا إلا له مقام معلوم، وإنا لنحن الصافون، وإنا لنحن المسبحون".
وأعلم يا أخي بأن أعداد النفوس كثيرة لا يحصيها إلا الله- جل ثناؤه- كما قال:" وما يعلم جنود ربك إلا هو" ولكن نحتاج أن نذكر طرفاً من مراتبها ومقاماتها الجنسية، إذ كانت الأنواع والأشخاص لا يمكن تعديدها ولا يعلمها إلا هو.
وأعلم يا أخي بأن مراتب النفوس ثلاثة أنواع، فمنها مرتبة الأنفس الإنسانية، ومنها ما هي فوقها، ومنها ما هي دونها؛ فالتي هي دونها سبع مراتب، والتي فوقها سبع أيضاً، وجملتها خمس عشرة مرتبة. والمعلوم من هذه المراتب التي ذكرناها عند العلماء، ويمكن لكل عاقل أن يعرفها ويحس بها، خمس، منها اثنتان فوق رتبة الإنسانية وهي رتبة الملكية والقدسية، ورتبة الملكية هي رتبة الحكمية، ورتبة القدسية هي رتبة النبوة والناموسية، واثنتان دونها وهي مرتبة النفس النباتية والحيوانية، ويعلم صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، الناظرون في علم النفس من الحكماء والفلاسفة وكثير من الأطباء.
وأما الرتبتان اللتان فوق رتبة الإنسانية فهي مرتبة الحكمة وفوقها الناموسية؛ وأما مرتبة الإنسانية فهي التي ذكرها الله تعالى بقوله:" لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" وأما التي فوق هذه فما أشار إليه بقوله:" ولما بلغ أشده واستوى" يعني الإنسان" آتيناه حكماً وعلماً؛" وقال أيضاً: " أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها" يعني الإنسان احيينا نفسه بنور الهداية، وهذه هي مرتبة نفوس المؤمنين العارفين والعلماء الراسخين.
فأما التي فوقها فمرتبة النفوس النبوية الواضعين النواميس الإلهية، وإليها أشار بقوله- جل ثناؤه-:" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" وهذه المرتبة تلي مرتبة القدسية الملكية. فقد تبين بما ذكرنا، المراتب الخمس التي يمكن الإنسان أن يعلمها ويحس بها. فأما المراتب التي دون النباتية وفوق القدسية فبعيدة معرفتها على المرتاضين بالعلوم الإلهية، فكيف على غيرهم.
وإذ قد فرغنا من ذكر ما أردنا أن نقدمه فنقول الآن ونخبر بكل ما يخص كل نوع من هذه النفوس الخمس من المعونة والتأييد.
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أن الله- جل ثناؤه- لما ربط الأنفس الجزئية بالأجسام الجزئية للعلة التي ذكرناها في رسالة" الإنسان عالم صغير" أيدها وأعانها بضروب من المعاونة وفنون من التأييدات: كل ذلك جود منه ولطف بها، وأنعام منه عليها، وإفضال وإحسان غليها، وإكرام لها، وذلك أنه كلما بلغت نفس منها رتبة ما، أمدها بزيادة فضلاً منه وجوداً، أونقلها إلى ما فوقها وأرفع منها وأعز وأشرف وأجل وأكرم: كل ذلك ليبلغها إلى أقصى مدى غاياتها وتمام نهاياتها، وإذ تبين بما ذكرنا، مراتب النفوس الخمس، وما الفائدة والحكمة في رباطها بالأجسام، فنريد أن نذكر ما يخص كل نوع منها من المعاونة والتأييد، وهي القوى الطبيعية، والأخلاق المركوزة، والهياكل الجسمانية، والأدوات الجسدانية، والشعورات الحسية، والأوهام الفكرية، والحركات المكانية، والأفعال الإرادية، والأعمال الاختيارية، والصنائع الحكمية، والأوضاع الناموسية، والسياسات الملكوتية؛ ونبدأ بذكر الشهوات المركوزة في الجبلة والقوى الطبيعية المعينة لها، إذ كانت هي الأصل والقانون في جميع القوى والأخلاق والخصال والأفعال والحركات والحس والشعور بها ومن أجلها، كما سنبين بعد.
فصل
وأعلم يا أخي بأن من الأخلاق والقوى
ما هي منسوبة إلى النفس النباتية الشهوانية، ومنها ما هي منسوبة إلى الحيوانية الغضبية، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس الإنسانية الناطقة، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس العاقلة الحكمية، ومنها ما هي منسوبة إلى النفس الناموسية الملكية.
فأما المنسوبة إلى النفس الشهوانية من الخصال والقوى التي تخصها، فأولها شهوة الغذاء، وهي النزوع والشوق نحوالمأكولات والمشروبات والمشتهيات، والرغبة فيها، والحرص في طلبها، واحتمال المشقة والذل من أجلها، والفرح والسرور بوجدانها، والراحة واللذة في تناولها، والملل والشبع عند الاستكفاء منها، والنفور من الضار منها والبغض له، ومن القوى المختصة بها أيضاً القوة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمصورة؛ومن الشعور والتمييز معرفة الجهات الست، ومن الأفعال إرسال العروق نحوالجهات الندية والتراب اللين، وتوجيه الفروع والقضبان إلى الجهات المتسعة، والميل والانحراف عن الأمكنة الضيقة والأجسام المؤذية.
كل هذه الخصال مركوزة في الجبلة من غير فكر ولا روية، وكل ذلك معاونة من الطبيعة لنفوسها وتأييد لها بإذن باريها- جل ثناؤه- على طلب مشتهياتها والوصول إلى منافعها، والفرار من المضرة، إذ كانت تلك المشتهيات هي غذاء لأجسامها، ومادة لقوامها وسبباً لبقائها كلها، إذ كان في بقائها كلها تتميم لمعارفها وتكميل لفضائلها؛ وفي تتميم معارفها وتكميل فضائلها ترق لها إلى أفضل حالاتها وأشرف نهاياتها.
وأما المنسوبة إلى النفس الحيوانة المختصة بها من الخصال المركوزة في الجبلة زيادة على ما تقدم فهي شهوة الجماع، وشهوة الانتقام، وشهوة الرياسة، ولها أيضاً الهياكل اللحمية، والأعضاء المختلفة للأغراض العجيبة، والمفاصل اللينة للحركات المكانية والتنقل في الجهات الست لمآرب ومنافع كثيرة؛ ولها الشعور بالحواس المخصوصة والأصوات المختلفة لدلالات متبانية، ولها أيضاً الوهم والتخيل للمطالب والمنافع، والحفظ والذكر لعرفان أبناء الجنس والمخالف، وإمكان الاحتراس من المضار، والنفور والفرار من العدو: كل هذه مركوزة في جبلة الحيوانات القريبة النسبة إلى الإنسان. فأما علة شهوة الجماع المركوزة في جبلتها فهي من أجل التناسل، والتناسل هومن أجل بقاء الصورة في الأشخاص المتواترة، إذ كانت الهيولى دائمة في السيلان لا تقف طرفة عين. وأما علة شهوة الانتقام المركوزة في جبلتها فهي من أجل دفع المضرات المفسدات لهياكلها المتشخصة وأعلم يا أخي بأن دفع المضار تارة يكون بالقهر والغلبة، وتارة يكون بالهرب والفرار، وتارة بالتحرز والتحصن، وتارة بالمكر والحيلة، كما قد شرحنا ذلك في رسالة الحيوانات. وأما شهوة الرياسة المركوزة في جبلتها فهي من أجل تأكيد السياسة، إذ كانت السياسة لا تتم إلا بعد وجدان الرياسة.
وأعلم يا أخي بأن المراد من السياسة هوصلاح الموجودات وبقاؤها على أفضل الحالات وأتم الغايات كما سنبين في فصل آخر.
وأما المنسوبة إلى النفس الناطقة المختصة بها زيادة على ما تقدم ذكره، فهي شهوة العلوم والمعارف والتبحر والاستكثار منها، وشهوة الصنائع والأعمال والحذق فيها والافتخار بها، وشهوة العز والرفعة والترقي في غايات نهاياتها، والشوق إليها والرغبة فيها، والحرص في طلبها، واحتمال الذل والمشقة من أجلها، والفرح والسرور من وجدانها، واللذة والراحة عند الوصول إليها، والغم والحزن من فقدانها.
فصل في اختلاف مناهج النفوس
وأعلم يا أخي بأن هذه الخصال مركوزة في جبلة الإنسان، ولكن تختلف اختيارات كل واحد لها حسب ما تيسر له وتتأكد أسبابه، وذلك أن من الناس من تيسر له أسباب الصنائع والحرف، وآخر أسباب العلوم والآداب، وآخر تيسر ه أسباب العمل والتصرف، وآخر أسباب التجارات والبيع والشراء، وآخر أسباب الملك والسلطان، وآخر أسباب البطالة والفراغ، وآخر أسباب الحكم والمعارف كما سنبينه بعد هذا الفصل. ومما أعطيت النفس الناطقة من نعم الله تعالى وخصت به من إحسانه، من بين نفوس سائر الحيوانات، وأعينت به على البلوغ إلى أقصى مدى غاياتها، وأيدت للوصول إلى تمام نهاياتها، وهذا الهيكل العجيب البنية، المحكم الصورة، المتقن الصنعة الذي قد عجزت الحكماء عن كنه معرفته، وتركيب بنيته من غرائب الصنعة مما قد وصف طرف منه في كتاب منافع الأعضاء وكتاب التشريح من كيفية انتصاب قامته من بين سائر الحيوانات، وما خص به أيضاً من فصاحة لسانه وغرائب لغاته وفنون أقاويله وحسن بيانه من بين سائرها، وما خص به أيضاً من طريف شكل يديه، وما يتأتى له بهما من الصنائع المحكمة والأعمال المتقنة من بين سائرها، وما خص به أيضاً من طرائف أدوات حواسه وغرائب طرقات إدراكها للمحسوسات، كما وصفنا في رسالة الحاس والمحسوس.
ومما خصت به أيضاً النفس الناطقة الإنسانية من نعم الله تعالى وإحسانه العقل الغريزي وكثرة أعوانه وجنوده وخصاله المحمودة، كما سنبين بعد، وأما التي تنسب من الخصال المحمودة إلى النفس الحكمية فشهوة العلوم والمعارف وما أعينت به على طلبها وإدراكها والوصول إليها من الخصال المركوزة والقوى المجبولة: كالذهن الصافي والفهم الجيد وذكاء النفس، وصفاء القلب وحدة الفؤاد، وسرعة الخاطر، وقوة التخيل وجودة التصور، والفكر والروية والتأمل والاعتبار، والنظر والاستبصار، والحفظ والتذكار، ومعرفة الروايات والأخبار، ووضع القياسات واستخراج النتائج بالمقدمات، والتكهن والقيافة والفراسة، وقبول الوحي والإلهام، ورؤية المنامات والإنذار بالكائنات بعلم النجوم والزجر: كل ذلك معاونة لها وتأييد إلى البلوغ إلى الغاية والوصول إليها. وأما التي تنسب إلى النفس الملكية القدسية فهي شهوة القرب إلى ربها والزلفى لديه، وقبول الفيض منه، وإفاضة الجود على من دونها من أبناء جنسها، كما ذكر الله تعالى بقوله:" يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب"، وقوله سبحانه:" يستغفرون لمن في الأرض"، وقوله:" فأغفر للذين تابوا"، وقال:" كراماً كاتبين" الآية. فهذا تفصيل جملة ما ينسب إلى كل جنس من النفوس، والمخصوص بها من الشهوات المركوزة فيها، فأما التي تعمها كلها فشهوة البقاء على أتم الحالات وأكمل الغايات وكراهية الفناء والنقص عن الحال الأفضل والكمل.
فصل
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه-
بأنك أن أنعمت النظر فيما وصفنا، وتأملت ما ذكرنا، وجودت البحث عن مبادئ الكائنات وعلة الموجودات، علمت وتيقنت أن هاتين الحالتين، أعني شهوة البقاء وكراهية الفناء، أصل وقانون لجميع شهوات النفوس المركوزة في جبلتها وإن تلك الشهوات المركوزة في جبلتها أصول وقوانين لجميع أخلاقها وسجاياها، وتلك الأخلاق أصول وقوانين لجميع أفعالها وصنائعها ومعارفها ومتصرفاتها كما سنبين في هذه الفصول.
وإنما صارت هاتان الحالتان مركوزتين في جبلة كل الموجودات، وجميع الكائنات، من أجل أن الباري- جل ثناؤه- لما كان هوعلى الموجودات وسبب الكائنات ومبدعها ومخترعها وموجدها ومبقيها ومتممها ومكملها ومبلغها إلى أقصى مدى غاياتها وأفضا حالاتها، وكان- جل ثناؤه- دائم البقاء لا يعرض له شيء من الفناء، صار من أجل هذا في جبلة الموجودات محبة البقاء وشهوته وكراهية الفناء وبغضه، لأن في جبلة المعلول يوجد بعض صفات العلة دلالة دائمة عليها، وإنما لا يعرض للباري- جل ثناؤه- شيء من النقص والفناء، من أجل إنه علة الوجود لذاته، وبقاؤه من نفسه. وأما سائر الموجودات وجميع الكائنات فلوجودها أسباب وعلل، ومتى عدم منها شيء أونقص، عرض لها الفناء والنقص والقصور عن البلوغ إلى الحال الأفضل والوجود الأكمل، والمثال في ذلك النبات والحيوان، فإنه متى عدم الغذاء الذي هوهيولى الأجساد، ومادة بقائها، هلك وانفسد وتغير واضمحل.
وهكذا حكم نفوسها متى بطلت هياكلها بطل شعورها وإحساسها، ولم يمكنها إظهار أفعالها وتأثيراتها، فتكون بتلك الحال النفوس موجودة ولكن على حال النقص، كما أن تراب أجسادها يكون موجوداً لكن على حال النقص. وقد يعلم بأوائل العقول بأن الوجود على الحال الأفضل ألذ وأشرف وأفضل من الوجود على النقص. وقد قالت الحكماء والفلاسفة بأن كل شيء يراد فهو من أجل الخير، والخير يراد من أجل ذاته، والخير المحض السعادة، والسعادة تراد لنفسها لا لشيء آخر. وقد قلنا وبينا في رسالة الإيمان بأن السعادة نوعان دنيوية وأخروية. فالسعادة الدنيوية هي أن يبقى كل موجود أطول ما يمكن على أفضل حالاته وأتم غاياته. والسعادة الأخروية أن تبقى كل نفس إلى أبد الآبدين على أفضل حالاتها وأتم غاياتها.
وأعلم يا اخي بأن النفوس الجزئية إنما ربطت بأجسادها التي هي أجسام جزئية كيما تكمل فضائلها، وتخرج كل ما في القوة والإمكان إلى الفعل والظهور من الفضائل والخيرات. ولم يمكن ذلك إلا بارتياطها بهذه الأجساد وتدبيراتها لها، كما أن الباري- جل ثناؤه- لم يكن إظهار جوده وفيض إحسانه وأفضاله وإنعامه إلا بايجاد هذا الهيكل العظيم المبني بالحكمة، المصنوع بالقدرة، أعني الفلك المحيط وما يحويه من سائر الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات الكائنات، وتدبيره لها وسياسته إياها.
وإذ قد تبين بما ذكرنا ما الغرض وما الفائدة من الشهوات المركوزة في الجبلة، وما يتبعها من الأخلاق والخصال، وهي أن تدعوتلك الشهوات النفوس إلى طلب المنفعة لأجسادها ودفع المكروه والمضرة عنها، وتعينها تلك الأخلاق والخصال عليها، فنريد أن نبين الآن ما الخير منها وما الشر وما المذموم منها وما المحمود، ومتى يكون الإنسان مثاباً بها أومعاقباً.
فصل في ترتب الأخلاق على بعضها
وكونها فضيلة أورذيلة
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الإنسان لما كانجسده مركباً من الخلاط الأربعة، وكان مزاجه من الطبائع الأربعة، جعل الباري- جل ثناؤه- بواجب الحكمة، أكثر أموره وتصاريف أحواله مربعات مشاكلات مطابقات بعضها لبعض، ليكون أعون له على ما يراد منه وأدل: من ذلك أنك تجد أخلاقه وأفعاله بعضها طبيعية مركوزة في الجبلة، كما ذكرنا طرفاً من ذلك، وبعضها عقلية فكرية، وبعضها ناموسية سياسية.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الطبيعة هي خادمة للنفس ومقدمة لها،
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة