-
عرض كامل الموضوع : رسائل اخوان الصفا، و خلان الوفا
وأن النفس خادمة للعقل ومقدمة له، وأن العقل خادم للناموس ومقدمة له، وذلك أن الطبيعة إذا أصلت خلقاً وركزته في الجبلة، جاءت النفس الاختيار فأظهرته وبينته، ثم جاء العقل بالفكر والروية فتممه وكمله، ثم جاء الناموس بالأمر والنهي فسواه وقومه وعدله، وذلك أنه متى ظهرت من الطبيعة هذه الشهوات المركوزة في الجبلة، وكانت على ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، من أجل ما ينبغي، سميت خيراً؛ ومتى كانت بخلافه سميت شراً؛ ومتى فعل ذلك باختياره وإرادته، على ما ينبغي، بمقدار ما ينبغي، من أجل ما ينبغي، كان صاحبه محموداً؛ ومتى كان بخلافه كان مذموماً؛ ومتى كان اختياره وإرادته بفكر وروية، على ما وصفنا، كان صاحبه حكيماً فيلسوفاً فاضلاً؛ ومتى كان بخلافه سمي سفيهاً جاهلاً رذلاً؛ ومتى كان فعله وإرادته واختياره وفكره ورويته مأموراً بها ومنهياً عنها، وفعل ما ينبغي كما ينبغي، على ما ينبغي، كان صاحبه مثاباً بها ومجازى عليها؛ ومتى كان بخلاف ما ذكرناه كان مأخوذاً بها ومعاقباً عليها. فقد تبين بما ذكرنا أن الشهوات المركوزة في الجبلة، والأخلاق المنتشئة منها، والأفعال التابعة لها، وجميع المتصرفات من أجلها، هي لأن تبقى النفوس على أفضل حالاتها، ويبلغ كل نوع منها إلى أقصى مدى غاياتها.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الباري- جل ثناؤه- لما رتب النفوس مراتبها كمراتب الأعداد المفردات، على ما اقتضت حكمته، جعل أولها متصلاً بآخرها، وآخرها متصلاً بأولها، بوسائطها المرتبة بينهما، لترتقي بها ما دونها إلى المرتبة التي فوقها، ليبلغها إلى مدى غاياتها، وتمام نهاياتها، وذلك أنه رتب النفوس النباتية تحت الحيوانية وجعلها خادمة لها، ورتب الحيوانية تحت الناطقة الإنسانية وجعلها خادمة لها، ورتب الناطقة الإنسانية تحت العاقلة الحكمية وجعلها خادمة لها، ورتب العاقلة تحت الناموسية وجعلها خادمة لها، ورتب الناموسية تحت الملكية وجعلها خادمة لها؛ فأية نفس منها انقادت لرئيسها وامتثلت أمره في سياستها، نقلت إلى مرتبة رئيسها، وصارت مثلها في الفعل، والمثال في ذلك من المشاهد أن أي تلميذ أومتعلم في علم أوصناعة امتثل أمر أستاذه وانقاد لمعلمه ودام عليه، فإنه سيصير يوماً ما إلى مرتبة أستاذه، ويصير مثل معلمه؛ لا يخفى هذا على كل عاقل متأمل مثل ما وصفنا، فعلى هذا المثال يكون تنقل النفوس في مراتبها.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن أحق النفوس الحيوانية أن تنقل إلى رتبة الإنسانية التي هي الخادمة للإنسان، المستأنسة به، المنقادة لأمره، المتعوبة في طاعته، الشقية في خدمته. وخاصة المذبوحة منها في القرابين. وعلى هذا المثال والقياس حكم النفوس الإنسانية، فإن أحقها أن تنتقل إلى رتبة الملائكة التي هي الخادمة في أوامر الناموس ونواهيه، المنقادة لأحكامه، المتعوبة في حفظ أركانه، كما سنبين بعد هذا الفصل.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الناس أصناف وطبقات في متصرفاهم في أمور الدنيا لا يحصي عددها إلا الله- جل ثناؤه- كما ذكر بقوله تعالى:" وقد خلقكم أطواراً" ولكن يجمعهم كلهم هذه السبعة الأقسام، وذلك أن منهم أرباب الصنائع والحرف والأعمال، ومنهم أرباب التجارات والمعاملات والأموال، ومنهم أرباب البنايات والعمارات والأملاك، ومنهم الملوك والسلاطين والأجناد وأرباب السياسات، ومنهم المتصرفون والخدامون والمتعيشون يوماً بيوم، ومنهم الزمنى؛ والعطل وأهل البطالة والفراغ؛ ومنهم أهل العلم والدين والمستخدمون في الناموس، وكل طائفة من هذه السبعة تنقسم إلى أصناف كثيرة، ولكل صنف منها أخلاق وطباع وسجايا ومآرب أكسبتهم إياها أعمالهم، وأوجبتها لهم متصرفاتهم، لا يشبه بعضها بعضاً، ولا يحصي عددها إلا الله عز وجل.
ولكن نريد أن نذكر منها ما يحتاج إليه، من الأخلاق والسجايا والخصال والأعمال والآداب والعلوم، أهل الدين المتمسكون بأحكام الناموس الحافظون أركانه الذين يرجى لهم النجاة بها والفوز باستعمالها، كما ذكر الله- جل ثناؤه:" قل هذه سبيلي أدعوإلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" وقوله:" ينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم" وقال تعالى:" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" إلى آخر الآية، وآيات كثيرة من القرآن في مثل هذه المعاني.
فصل في مراتب الناس في الأخلاق حسب الأعمال
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الناس إذا اعتبرت أحوالهم وتبينت أمورهم وجدتهم كلهم كالآلات والأدوات لواضعي النواميس الإلهية في تأسيسهم بنيانها، وتتميمهم أحكامها، وتكميلهم شرائطها، وحفظهم أركانها؛ ثم تجدهم خدماً وخولاً للملوك الذين هم خلفاء الأنبياء من بعدهم في حفظها وحراستها على نظامها وترتيبها، كما رتبها واضعوالنواميس وأمروا بمراعاتها، وهم في ذلك أصناف وطبقات ومراتب مرتبات كترتيب الأعداد المفردات، وذلك أن واضع الناموس في مبدئه كالواحد في العدد، وأصحابه وانصاره الذين اتبعوه كالآحاد، ومن تبعهم على مناهجهم كالعشرات، ومن جاء من بعدهم كالمئات، ومن بعدهم كالألوف، ومن جاء من بعدهم كعشرات الألوف ومئات الألوف بالغاً ما بلغ، إلى يوم القيامة، ثم يصيرون بذلك كلهم جملة واحدة، كما ذكر الله- جل ثناؤه- بقوله وأشار إلى هذا المعنى:" يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون" وقال:" وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً، وعرضوا على ربك صفاً".
وأعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه-بأنك إذا أنعمت النظر في الأمور المعقولة، وجودت التأمل لأحكام الناموس وحدوده، واعتبرت أحوال صاحب الناموس ونفاذ أمره ونهيه في نفوس اتباعه وأنصاره، وامتثالهم أمره ونهيه، وطاعتهم له، تبينت وعرفت بأن الناموس مملكة روحانية، وإن وجوده وقوامه في حفظ أركانه الثمانية، وتبينت بأن أركانه الذين هم أتباع صاحب الناموس وأنصاره، وهم ثمانية أصناف، كل صنف منهم كأنهم صف قيام، حاملون ركناً من أركان الناموس.
فأول الأصناف هم قراء تنزيله وكتبه، وحفاظ ألفاظه على رسومها، ومعلموها لمن بعدهم من ذراريهم، ليؤدوا إلى من بعدهم من أتباعهم ما أخذوا عمن قبلهم؛ كل ذلك لكيلا يجهلها من يجيء من بعدهم وتنسى فتندرس معالم الدين، وتضمحل وتبطل أحكام الناموس.
والصنف الثاني هم رواة أخباره، وناقلوأحاديثه، وحافظوسيره، ومؤدوها إلى من بعدهم، ليبلغوها إلى آخرهم كيلا يجهل وينسى فتندرس آثاره، ويموت أخباره فلا تعرف.
والصنف الثالث هم فقهاء أحكام الناموس، وعلماء سننه، وحفاظ حدوده، كيلا تجهل فلا تستعمل، أوتنسى فتندرس معالم الدين، وتضمحل ويبطل الناموس.
والصنف الرابع هم المفسرون ألفاظ تنزيله الظاهرة، وأقاويله المروية والمعبرون عن وجوه معانيه المختلفة، لمن قصر فهمه عنها، وقلت معرفته بها: كل ذلك كيلا يجهلها من يجيء من بعدهم من ذراريهم وأتباعهم في أحكام الناموس، أوتنسى فتندرس معالم الدين، وتضمحل وتبطل أحكام الناموس.
والصنف الخامس هم أنصاره المجاهدون، وغزاة أعدئه، الحافظون ثغور بلاد أتباع صاحب الناموس وأنصاره، كيلا يغلب عليها أعداؤهم ويفسد أمر دينهم عليهم، كما فعل بخت نصر بإيلياء في هيكل بني إسرائيل، وهوببيت المقدس، وكما فعلت الروم بثغور المسلمين.
والصنف السادس هم خلفاء صاحب الناموس في أمته، ورؤساء الجماعات، والحارسون شريعته على أمته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المانعون لهم أن يسيروا بغير سيرة الناموس، الحافظون أطراف المملكة، كيلا يخرج خارجي سراً أوعلانية، فيفسد أحكام الناموس بتمويهه وزروه على قلوب العامة والجهال، كما فعل مزدك الخرمي في مملكة قباذ ملك الفرس.
والصنف السابع هم الزهاد والعباد في المساجد، والرهبان والقوام في الهياكل، والخطباء على المنابر الواعظون الناس المحذورون لهم من ترك استعمال أحكام الناموس، الذامون أمور الدنيا، المحذرون لهم من الاغترار بامانيها، المزهدون للمنهمكين في الشهوات، المذكرون أمر المعاد وأحوال القيامة للغافلين عنها، المشوقون إلى نعيم الآخرة، المقرون بها: كل ذلك كيلا يجهل أمر المعاد، ولا ينسى ذكر الآخرة، والاستعداد للرحلة إليها، والتزود من الدنيا التقوى الذي هوخير الزاد، إذ كان هذا هوالغرض الأقصى في وضع الناموس الإلهي، والغاية والمطلب من الرياضيات الفلسفية.
والصنف الثامن هم علماء تأويل تنزيله، والراسخون في العلوم الإلهية والمعارف الربانية، العارفون خفيات أسرار الناموس، الذين هم الأئمة المهديون، والخلفاء الراشدون الذين يقضون بالحق وبه يعدلون.
فصل
وأعلم يا أخي بأنك إذا تأملت ونظرت إلى كل صنف من هذه الأصناف الثمانية
واعتبرت أحوالهم وما هم عليه ومتعلقون به، من حفظ هذه الأمور الثمانية، وحرصهم على مراعاتهم بشرائطها كما وصفنا، ثم نظرت بعين قلبك ونور بصيرتك وصفاء جوهرك إلى جملتهم، وتخيلتها في وهمك، وفكرت، رأيت الناموس مملكة روحانية، ورأيت أتباع صاحب الناموس وأنصاره يسعون فيه ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل؛ ورأيت واضع الناموس قد استوى على عرشه نافذاً فيهم أمره ونهيه، وهم حاملون عرشه يسبحون بحمد ربهم، ويؤمنون به، ويستغفرون لمن في الأرض، وهم من بعدهم من أتباعهم، لأنهم كالسماء لمن بعدهم، ومن بعدهم كالأرض لهم، ولمن قبلهم من أسلافهم.
وأعلم يا أخي بأن كل طائفة من هذه الأصناف الثمانية تحتاج، في حفظها ركناً من أركان الناموس، إلى شرائط معلومة، وخصال محمودة، وأخلاق جميلة نحتاج أن نشرحها ونصفها: أما التي يحتاج إليها القراء والحفظة من الأخلاق الجميلة والخصال المحمودة والشرائط المعلومة، فأولها فصاحة الألفاظ، وتقويم اللسان، وطيب النغمة، وجودة العبارة، وسرعة الحفظ، وجودة الفهم، ودوام الدرس والنشاط في القراءة، والتواضع لمن يتعلم منه، والتعظيم له، ومعرفة حقه وحرمته، والرفق بمن يعلمه، والشفقة عليه، وقلة الضجر من إبطاء فهمه وحفظه، وترك ضيق الصدر من تلقينه، وقلة الطمع في أخذ العوض منه، وقلة المنة عليه بما يعلمه.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق أصحاب الأخبار وحملة الأحاديث، فأولها جودة الاستماع، واستيفاء الكلام، وضبط الألفاظ على رسمها، وتقييدها بالكتابة، والتحرز والتحرج والحذر من الزيادة فيها والنقصان عن تمامها، والصدق وحسن الأداء وتجنب الكذب، ثم الحكاية عنها بهيأتها، وبذلها ونشرها لمن سأل عنها، اويصلح له الإخبار عنها؛ وطيها وصونها عمن لا تصلح له ولا تليق به: كل ذلك نصيحة للإخوان، ونصرة للدين ولواضع الناموس، وابتغاء وجه الله وجزيل ثوابه في الآخرة.
وأما التي يحتاج إليها الفقهاء والقضاة والمفتون، من هذه الخصال والأخلاق والشرائط المحمودة فيها، والقيام منها بما هم بسبيله، فأولها معرفة الرتب التي رتبها واضع الناموس من الأوامر والنواهي والفرائض والسنن والنوافل والحلال والحرام والحدود والحكام؛ ثم معرفة القياس وكيفية استخراج الفروع من الأصول في الفتاوى والمسائل الواردة التي ليس لها ذكر في الأصول، والتثبت والتأني في الفتيا، والاستقصاء في استفهام السؤال بجميع شرائطه، ثم قلة الترخيص في الشبهات من المحذورات، وترك التحريج في المشكلات، ودرء الحدود بالشبهات؛ وقلة الخلاف مع أبناء الجنس، وترك الحسد للأقران، وبذل النصيحة للإخوان، والشفقة والتحنن على الجهال، وترك الافتخار في الإصابة في الأحكام، وقلة الشنعة على العلماء بزلاتهم، والاحتمال لأذية الجيران، وقلة الرغبة في حطام الدنيا، وعفة الفرج، وترك الطمع، والقيام بواجب أحكام الناموس، وإن لا يكون قوله مخالفاً لعمله.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط المفسرون لألفاظ التنزيل، فأولها معرفة غرض صاحب الناموس في إيراده التنزيل، واستعماله الألفاظ المشتركة المعاني، ثم أن يكون له اتساع في معرفة تصاريف الكلام والأقاويل، وما يحتملها من المعاني مما يؤكد غرض واضع الناموس؛ ويكون له جودة بحث وبعد غور في استخراج المعاني ولطف العبارة عنها، بحسب ما تحتمل عقول المستمعين، ويقرب من فهم المتعلمين، ويكون له من يقظة القلب ما لا يناقض أقاويله وعباراته ولا في المعاني التي يشير إليها في تفسيره لألفاظ تنزيل واضع الناموس وأقاويله وكلامه وبيانه. وأعلم يا أخي بأنه متى لم يكن المفسر عارفاً بغرض واضع الناموس في إيراده الألفاظ المشتركة المعاني في تنزيله وأقاويله وعباراته وبيانه، تخيل له من تلك الألفاظ من المعاني غير ما أشار إليه واضع الناموس، وتوهم سوى ما أراد فيها، فأفهم المستمعينمن تفسيره ما تخيل هو، وعلم المتعلمين ما علم به، فصار له ذلك ديناً ومذهباً غير دين واضع الناموس وطريقته، وكان مخالفاً له في اعتقاده في الشريعة وهولا يشعر؛ ويكون بذلك مفسداً في أحكام الناموس، وهويظن أنه من المصلحين، ولا يدري. فاحذر يا أخي من هذا الباب، فإن فساد ديانات واضعي الناموس وأحكام شرائعهم أكثرها من هذا الباب يكون.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط أنصار واضع الناموس، وغزاة أعدائه، والحافظون ثغور بلاد أتباعه وأنصاره، أن يكون لهم تعصب للدين وغيرة على حرمة الناموس، وحمية من اجل فساد يدخل عليه، وحنق على العداء المجاهرين بالعداوة لواضع الناموس ودينه، المريدين فساد أحكامه؛ وقلة الهيبة منهم، وشجاعة النفس عند البراز، وخفة الحركة عند الجولان، وتيقظ القلب من غدر العدو، وأخذ الحذر في أوقات الغفلة، وقلة الاغترار بقلتهم، وطلب الحيلة للظفر ما استوى من غير قتال، ومخادعة في الحروب، ومبادرة في البراز إلى الأقران والأكفاء، وصبر عند اللقاء، وكثرة الذكر لله عز وجل، والاستعانة به، والأنفة من الفرار وما يكون فيه من العار، وقلة الرغبة في النهب، والتقية من هتك الحريم عند الظفر، وكثرة الشكر لله، وترك الإفساد عند الهزيمة، ورحمة الأسير، وقبول الصلح عند الهدنة، والوفاء بالعهد، وترك الإعجاب عند كثرة عدد الأعوان والأنصار.
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط الزهاد والعباد والمذكرون للناس أمر الآخرة وذكر المعاد، فأولها التي هي أساس الدين وملاك الأمر القناعة باليسير من حطام الدنيا، والرضى بالقليل من متاعها ولذاتها، وصيانة النفس عن الانهماك في شهواتها ولذاتها، وترك طلب المنزلة والجلالة والكرامة، وقلة الحرص في طلب الحاجات فيها، والاشتغال بطلب العلم، والعبادة بالصوم والصلاة مع أبناء الجنس، وترك الخلطة في الراغبين فيها من أبنائها، والتفرد في الخلوات، وكثرة ذكر الموت وفناء نعيم الدنيا وزوال ملكها، والنظر إلى آثار القرون الماضية، والاعتبار بها، والدور الخربة والمنازل الدارسة العافية للأمم الخالية، والنظر في كتب الحكماء وأخبار سير الملوك الماضية، والتفكر في الأمثال المضروبة على ألسنة الحكماء ذوي التجربة في وصفهم الدنيا واعتبارهم تصاريف الزمان ونوائب الحدثان، والتيقن بأمر المعاد، وشدة الاشتياق إلى نعيم الآخرة دار القرار مع الأبرار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،" وحسن أولئك رفيقاً".
وأما التي يحتاج إليها من هذه الخصال والأخلاق والشرائط خلفاء واضع الناموس، وهم طائفتان، إحداهما خلفاؤه في الملك والرياسة في أمور الدنيا والتدبير والسياسة في حفظ ظاهر أحكام الناموس على أهلم، فقد أفردنا له رسالة، إذ كان هذا الباب يحتاج إلى خطب طويل وشرح كثير. وأما خلفاؤه في أسرار أحكام الناموس الذين هم الأئمة المهديون والخلفاء الراشدون فقد بينا أخلاقهم وخصالهم وشرائطهم وعلومهم ومعارفهم وطرائقهم في إحدى وخمسين رسالة عملناها ودوناها، وهذه الرسالة واحدة منها؛ فقم أيها الأخ البار الرحيم- أيدك الله وإيانا بروح منه- بالعمل بواجبها، والقيام بحقها، وأخبر جميع إخواننا حيث كانوا في البلاد بما في هذه الرسالة والرسائل الأخر، إذ الدال على الخير كفاعله.
وقد بينا بما ذكرنا طرفاً من خصال صاحب الناموس وحكم أتباعه معه في حفظهم أركان الناموس، وتصاريف أحوالهم في الدنيا، فنريد أن نذكر طرفاً من كيفية أحوالهم في الآخرة وتصاريف أحكامها، إذ كان هذا هوالغرض الأقصى في وضع النواميس الإلهية وسنن الديانات النبوية.
فأعلم يا أخي بأن لكل شيء من الموجودات في هذا العالم ظاهراً وباطناً، وظواهر الأمور قشور وعظام، وبواطنها لب ومخ، وإن الناموس هوأحد الأشياء الموجودة في هذا العالم منذ كان الناس، وله أحكام وحدود ظاهرة بينة يعلمها أهل الشريعة وعلماء أحكامها من الخاص والعام، ولأحكامه وحدوده أسرار وبواطن لا يعرفها إلا الخواص منهم والراسخون في العلم.
وأعلم يا اخي بأن الناموس وضع لصلاح الدين والدنيا جميعاً، وأن الدنيا والآخرة هما داران متقابلتان، واسماهما مضادتان، ومعناهما وحقيقتهما وصفتهما مختلفات متضادات، إحداهما كالقشرة وهي الدنيا، والأخرى كاللب وهي الآخرة، ولهما أهل وبنون، ولأهلهما وبنيهما صفات وأخلاق وسجايا وأعمال متخالفات متضادات، نحتاج أن نشرحها ونفصلها ونذكر الفرق بينها وبين حقيقتها، ونميز بين أهلها، ليعلمها ويعرفها كل من أراد أن يفهمه، ويريد هذا العلم، إذ كان هومن أشرف العلوم وأجل المعارف التي يتعاطاها الناس من سائر العلوم، فنقول: أما الدنيا فاسمها مشتق من الدنووالقرب، والآخرة من التأخر؛ وأما حقيقتهما، فالدنيا هي تصاريف أمور تجري على الإنسان من يوم ولادة الجسد إلى يوم الممات الذي هوولادة النفس ومفارقتها إياه، والآخرة هي تصاريف أمور تجري على الإنسان من يوم الممات ومفارقة النفس الجسد إلى ما بعدها أبد الآبدين ودهر الداهرين.
وأعلم يا أخي بأن الله- جل ثناؤه- سمى الحياة الدنيا عرضاً ومتعاً إلى حين، لأن كون الإنسان في الدنيا عارض عرض في طريق الآخرة، ولم يكن القصد والغرض المقام فيها، كما أن الغرض في الكون في الرحم لم يكن الغرض والقصد طول المكث والمقام هناك، ولكن طريقاً وجوازاً إلى الدنيا، فكذلك كون النفس في هذا الجسد هوسفينة ومركوب ومعبر إلى الدار الآخرة، وذلك إنه لم يكن الورود إلى الدنيا دون الكون هنالك زماناً لتتميم بنية الجسد، وتكميل صورته كما بينا في رسالة مسقط النطفة، فهكذا ايضاً حكم المكث في الدنيا والكون فيها زماناً هوطريق وجواز إلى ما بعدها، وذلك إنه لم يكن الورود إلى الدار الآخرة دون الجواز على الدنيا والكون فيها زماناً ما لكيما تتم أحوال النفس وتكمل فضائلها، كما بينا في رسالة الإنسان عالم صغير، ورسالة حكمة الموت.
ولهذا المعنى الذي ذكرناه ووصفناه قيل في الخطب على المنابر في الأعياد والجمعات: أعلموا أيها الناس إنكم إنما خلقتم للأبد، ولكن من دار إلى دار تنقلون، ومن الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى البرزخ؛ ومن البرزخ إلى الجنة أوإلى النار، كما ذكر الله- عز وجل- بقوله:" أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً، وأنكم إلينا لا ترجعون". وقوله:ط يريدون عرض الدنيا، والله يريد الآخرة". وقوله:" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً" وآيات كثيرة في القرآن في التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، مثل قوله تعالى:" وإن الدار الآخرة لهي الحيوان؛ لوكانوا يعلمون" يعني أبناء الدنيا لرغبوا فيها أكثر وحرصوا في طلبها أشد، ولكنهم عنها غافلون ساهون جاهلون، لا يدرون ما هناك من النعيم واللذات والسرور والفرح والراحة، كما ذكر الله- عز وجل- واختصر بقوله:" فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأنت فيها خالدون" فلما جهل أبناء الدنيا أمور الآخرة، وغفلوا عنها، اشتغلوا عند ذلك بطلب الدنيا ونعيمها ولذاتها وشهواتها، وتمنوا الخلود فيها، لأنها محسوسة لهم، يشهدونها، وتلك غائبة عن إدراك الحواس، فتركوا البحث عنها، والرغبة فيها، والطلب لها، وإليهم أشار بقوله- جل ثناؤه:" ورضوا بالحياة الدنيا وأطمأنوا بها، والذين هم عن آياتنا غافلون".
وأعلم يا أخي بأن الله- جل ثناؤه- سمى الدار الآخرة الحيوان، لأنها عالم الأرواح ومعدن النفوس، والدنيا عالم الأجسام، وجواهر الأجسام موات بطبائعها، وإنما تكسبها الحياة النفوس والأرواح بكونها فيها ومعها، كما تكسب الشمس الهواء النور والضياء بإشراقها عليه، وفيه الدليل على ان النفوس هي التي تكسب الأجساد الحياة بكونها معها، وما يرى من حال الأجساد قبل الموت من الحس والحركة والشعور والأصوات والتصاريف وكيفية فقدانها ذلك عند الموت الذي ليس هوشيئاً سوى مفارقة النفس الجسد، مما لا خفاء به عند كل عاقل منصف بعقله في موجبات أحكامه.
وأعلم يا أخي بأن أكثر الناس من أتباع واضعي الناموس وأنصارهم مقرون بالآخرة مؤمنون بها، ولكنهم لا يعرفون ماهيتها، ولا يدرون ما حقيقتها ولا كيفيتها ولا أبنيتها، ولا متى وقت الوصول إليها؛ وهكذا أيضاً كثير من المتفلسفين مقرون بعالم الأرواح وجواهر النفوس، ولكن أكثرهم أيضاً لا يدرون كيف الطريق نحوها، ولا كيف الوصول. وقد بينا نحن في رسائلنا الناموسية والعقلية ما يحتاج إليه كلا الفريقين جميعاً في هذا المعنى. وإذ قد تبين بما ذكرنا ما الدنيا وما الآخرة فنقول الان إن الناس كلهم أبناء الآخرة وأهلها، كما هم أبناء الدنيا وأهلها، ولكنهم ينقسمون في الآخرة قسمين اثنين، كما هم في الدنيا قسمان اثنان: سعداء وأشقياء، فأما سعداء بني الدنيا وأشقياؤهم فهم معروفون ولسنا نحتاج إلى ذكرهم، إذ كان هذا هومشاهد، ولكن الذي نحتاج أن نذكره علامات سعداء أبناء الآخرة وأخلاقهم وأعمالهم، إذ كان هذا أمراً خفياً لا يعلم إلا بعد الوصف والشرح والدليل والعلامات.
فصل في انقسام الناس في السعادة أربعة أقسام
أعلم يا أخي أن الناس ينقسمون في سعادة الدنيا والآخرة وشقائها أربعة أقسام: فمنهم سعداء في الدنيا والآخرة جميعاً، ومنهم أشقياء فيهما جميعاً، ومنهم أشقياء في الدنيا سعداء في الآخرة، ومنهم سعداء في الدنيا أشقياء في الآخرة.
فأما السعداء في الدنيا والآخرة جميعاً فهم الذين وفر حظهم في الدنيا من المال والمتاع والصحة، ومكنوا فيها، فاقتصروا منها على البلغة ورضوا بالقليل، وقنعوا به، وقدموا الفضل إلى الآخرة ذخيرة لأنفسهم، كما ذكر الله تعالى بقوله:" وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله" وقال الله سبحانه:" ووجدوا ما عملوا حاضراً" وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
وأما سعداء أبناء الدنيا وأشقياء أبناء الآخرة فهم الذين وفر حظهم من متاعها ومكنوا منها وارتقوا فيها، فتمتعوا وتلذذوا وتفاخروا وتكاثروا، ولم يتعظوا بزواجر الناموس، ولم ينقادوا له، ولم ياتمروا لأمره، وتعدوا حدوده، وتجاوزوا المقدار، وطغوا وبغوا وأسرفوا، والله لا يحب المسرفين، وهم الذين أشار إليهم بقوله- جل ثناؤه:" أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، واستمتعتمم بها" إلى آخر الآية. وقال:" من كان يريد الحياة الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب." وآيات كثيرة في القرآن في وصف هؤلاء.
وأما أشقياء الدنيا وسعداء الآخرة فهم الذين طالت أعمارهم فيها، وكثرت مصائبهم في تصاريف أيامها، واشتدت عنايتهم في طلبها، وفنيت أبدانهم في خدمة أهلها، وكثرت همومهم من أجلها، ولم يحظوا بشيء من نعيمها ولذاتها، وائتمروا بأوامر الناموس، ولم يتعدوا حدوده، وقد ذكر الله ذلك في آيات كثيرة من القرآن:" إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب".
وأما أشقياء الدنيا والآخرة فهم الذين بخسوا حظهم من الدنيا ولم يمكنوا منها وشقوا في طلبها، فعاشوا فيها طول أعمارهم بأبدان متعوبة ونفوس مهمومة، ولم ينالوا خيراً، ثم لم يأتمروا بأوامر الناموس، ولم ينقادوا لأحكامه، وتجاوزوا حدوده، ولم يتعظوا بزواجره، ولم يعملوا في عمارة بنيانه ولا في حفظ أركانه، فهم الذين خسروا الدنيا والآخرة جميعاً، ذلك هوالخسران المبين.
فصل
وإذ قد تبين بما ذكرنا بأقسام عقلية أنه لا يخلوأحد من الناس
من أن يكون داخلاً في أحد تلك الأقسام الأربعة، فنريد أن نذكر أخلاق أبناء الدنيا وطباعهم، وأخلاق أبناء الاخرة وسجاياهم، ليعرف الفرق بينهم.
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن أخلاق بني الدنيا هي التي ركزتها الطبيعة في الجبلة من غير كسب منهم ولا اختيار ولا فكرة ولا روية ولا اجتهاد ولا كلفة، فهم يسعون فيها ويعملون عليها مثل البهائم في طلب منافع الأجساد ودفع المضرة عنها، كما قال الله تعالى ذكره:" يأكلون كما تأكل النعام، والنار مثوى لهم." وأما أخلاق أبناء الآخرة فهي التي اكتسبوها باجتهادهم، إما بموجب العقل والفكر والروية، وإما باتباع أوامر الناموس وتأديبه، كما سنبين، وتصير عند ذلك عادة لهم بطول الدؤوب فيها وكثرة الاستعمال لها، وعليها يجازون ويثابون، كما ذكر الله تعالى بقوله:" وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى".
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأنك إذا أنعمت النظر بعقلك، وفكرت برويتك، وتأملت أوامر الناموس ونواهيه وأحكامه وحدودهه وترغيبه وترهيبه ووعده وعيده وزجره وتهديده، عرفت وتبينت أن أكثر اوامره هي بخلاف ما في طباع الناس، ونواهيه عما هو في الجبلة مركوزة من تركب الشهوات، أوطلب الراحة والنعيم والتلذذ، وما هومركوز في الجبلة، وذلك أنه أمر بالصيام وترك الأكل والشرب عند شدة الجوع والعطش، وبالطهارة عند البرد، وبالقيام في الصلاة وترك النوم على الفراش الوطيء، وبالمواساة عند القلة وشدة الحاجة، وبالتعفف عند هيجان الشهوة، وبالحلم عند سورة الغضب، وبالشجاعة عند المخاوف، وبالعفوعند المقدرة، وبالعدل عند الحكومة؛ وبالصبر عند الشدائد، وبالرضى عند مر المقادير، وبحسن العزاء عند المصائب، وبالاجتهاد والتشمير عند الكسل، وبصدق القول عند شدة الخوف منه، وبالسخاء عند شدة الفقر، وبوفاء العهد عند المغيب، وبالزهد في الدنيا عند التمكن منها، وما شاكل هذه الأفعال والأعمال والأخلاق والسجايا التي في الجبلة خلافها، وفي الطباع مركوز غيرها، ويروى في الخبر إنه سئل رسول الله- صلى الله عليه وآله- عن معنى قول الله عز وجل:" خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين" فقال: جمع في هذه الآية مكارم الأخلاق، وهي سبعة: عفوك عمن ظلمك، وإعطاؤك من حرمك، وصلتك لمن قطعك، وإحسانك إلى من أساء إليك، ونصيحتك لمن غشك، واستغفارك لمن اغتابك، وحلمك عمن أغضبك.
وأعلم يا أخي بأن هذه هي أمهات أخلاق الكرام من أولياء الله الذين أشار إليهم بقوله: " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً؛" إلى آخر الآية، وقوله:" رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً" وهي أخلاق الملائكة الذين أشار إليهم بقوله جل ثناؤه:" الذين يحملون العرش، ومن حوله" الآية.
انظر الآن يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- إلى ما ذكرناه من أخلاق الكرام، وتفكر فيها إن كنت تريد أن تكون من أولياء الله وأهل جنته، ومن حزب ملائكته الكرام البررة؛ فاقتد بهم وتخلق بأخلاقهم باجتهاد منك وروية، وعناية شديدة، وكثرة استعمال لها، وطول دربة بها، لتصير لك عادة وطبيعة وجبلة مركوزة، وتبقى في نفسك مصورة عند المفارقة، ودع أخلاق إخوان الشياطين وجنود إبليس أجمعين، وأعلم علماً يقيناً بأن ليس يصحب الإنسان بعد الموت عند مفارقة النفس الجسد، ويبقى معه من كل ما يملك في الدنيا من المال والأهل والمتاع، إلا ما كسبت يداه من هذه الأخلاق والأعمال المشاكلة لها، والعلوم والمعارف والآراء التي اعتقدها وأضمرها كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إنما هي أعمالكم ترد إليكم. وقال الله- جل ثناؤه-: " ووجدوا ما عملوا حاضراً".
وأعلم يا أخي بأن أخلاق بني الدنيا وسجاياهم إنما جعلت طبيعة مركوزة في الجبلة، لأنهم وردوا إلى الدنيا جاهلين غير مستعدين لها، فأزيحت عللهم في ذلك. فأما أبناء الآخرة فصارت أخلاقهم مكتسبة معتادة، لأنهم أزيحت عللهم قبل ورودهم إلى الآخرة، بما أعلموا بها وأخبروا عنها وبشروا بها وأنذورا منها وجدوا في طلبها، وأوضح لهم طريقها وأزيحت عللهم فيما يحتاجون إليه من البيان والاستطاعة والقدرة والهداية والأمر والنهي والوعد والوعيد والترغيب والترهيب وما شاكل ذلك مما هوبين واضح في أحكام النواميس وحدودها، وفي موجبات العقول وقضاياها، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل والعقول المركوزة. وإذ قد تبين بما ذكرنا ما العلة وما السبب في كون أخلاق أبناء الدنيا مركوزة في الجبلة، وأخلاق أبناء الآخرة مكتسبة معتادة، فنريد أن نبين أن من الأخلاق المكتسبة ما هي مذمومة وما هي محمودة، وإن المحمودة منها ما هي بمموجب العقل وقضاياه، ومنها ما هي بموجب أحكام الناموس وأوامره، وهكذا حكم المذمومة منها.
وأعلم يا أخي بأن كل عاقل ذكي القلب إذا نظر بعقله وتفكر برويته في أحوال الناس، وميز بين طبقاتهم، واعتبر تصاريف أمورهم في دنياهم، عرف وتبين له بأن منهم خاصاً وعاماً وملوكاً وسوقة، ويعلم ويتبين له بأن أخلاق الملوك وسجاياهم وآداب أتباعهم ومن يصحبهم وينادمهم خلاف أخلاق العامة والسوقة؛ ويعلم بأنه لا يترك أحد من العامة والسوقة أن يدخل إلى مجالس الملوك إلا بعد أدب وعلم وسكون ووقار وهيبة وجلالة، فيكون في هذا دلالة له، فيعلم إنه لا يمكن أحداً من الناس ولا يليق به ولا يثق أن يصعد إلى ملكوت السموات وسعة الأفلاك والدخول في زمرة الملائكة إلا بعد عناية شديدة في تهذيب نفسه وإصلاح أخلاقه وصحة اعتقاده وحقيقة معلوماته، فيجتهد عند ذلك في إصلاح ما هوفاسد منها، ويتجنب ما هومذموم بحسب ما توجبه قضية عقله، ويؤدي إليه اجتهاده كما هومذكور في كتب السياسة الفلسفية.
وأعلم يا أخي إنه لما لم يكن في مكنة كل عاقل أن يفعل ما وصفنا، إذ كان يحتاج فيه إلى عناية شديدة وبحث دقيق ونظر قوي، خفف الله تعالى ذلك عليهم، وبعث واضعي النواميس الإلهية مؤيدين مع الوصايا المرضية، وأمرهم بامتثال أمرهم ونهيهم، فبنوا لهم الهياكل والمساجد والبيع ومواضع الصلوات وبيوت العبادات، وأمروهم بالدخول إليها بعد طهارة ونظافة ولبس الزينة بسكينة ووقار وأدب وورع وخشوع وتسبيح واستغفار، وترك أشياء كانت مباحة لهم، وجائزاً أن يفعلوا في بيوتهم وأسواقهم ومجالسهم وطرقاتهم: كل ذلك ليكون دلالة لكل عاقل فهم إنه هكذا ينبغي أن تكون سيرة من يريد أن يدخل الجنة ويعرج بروحه إلى ملكوت السموات، طول عمره وأيام حياته كلها، لتصير عادة له وجبلة وطبيعة ثابتة، فيستحق ويستاهل أن يعرج بروحه إلى هناك كما ذكر الله تعالى بقوله:" إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه" يعني روح المؤمن. فإذا تفكر كل عاقل فيما يسمع من الخطب على المنابر في كل الديانات والملل في الأعياد والجمعات، تبين له حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفنا.
وأعلم يا أخي أن لواضعي النواميس وصايا كثيرة مفننة، لأن دعوتهم عموم للخاص والعام جميعاً، أعني أتباعهم، مختلفوالأحوال، فبينوا لكل طبقة ما ينبغي ويصلح لها، ولكن الذي عمهم كلهم هي الدعوة إلى الإقرار بما جاؤوا به والتصديق لهم بما خبروا عنه من الأمور الغائبة، علم ذلك أتباعهم أولم يعلموا، هذا هوالإيمان كما قال تعالى:" يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً" فآمنوا بالله ورسوله. ثم أمرهم بعد هذا بأشياء، ونهاهم عن أشياء كثيرة هي معروفة معلومة عند علماء أهل الشريعة وفقهائهم، ولكن آخر ما ختمها به قوله:" واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" ويروى في الخبر أن هذا آخر ما نزل من القرآن.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن أوامر الله تعالى لعباده مماثلة لأوامر الملوك، وذلك أن من سنة الملوك والخلفاء وكثير من الرؤساء، ومن آدابهم إنهم إذا تفرس أحدهم في أحد أولاده اوعبيده النجابة والفلاح، عني به أفضل عناية، في تعليمه وتأديبه ورياضته، وحماه من اللعب واللهو والانهماك في الشهوات، ونهاه عن ترك الآداب، وسوء الأخلاق وما لا يليق بأخلاق الرؤساء والعقلاء والأخيار: كل ذلك ليتخرج ويكون مهذباً متهيئاً لقبول ما يراد منه أن يكون خليفة لمولاه ومكان أبيه في الرياسة والملك، وهكذا كان تأديب الله تعالى لأنبيائه ورسله وأوليائه من المؤمنين فيما أمرهم به من أتباع رضوانه، ونهاهم عنه من أتباع هوى أنفسهم كما قال تعالى:" وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى" وهكذا أيضاً إن كثيراً من أولاد الملوك وعبيدهم إذا احس من أبيه أومولاه ما ذكرنا، أخذ نفسه بامتثال أمره ونهيه وترك شهواته وأتباع هواه: كل ذلك لما يرجومن المر الجليل والخطب العظيم، فهكذا حكم أولياء الله من المؤمنين الذين يرجون لقاء الله.
وأما المتخلفون والمدابير؛ من أولاد الملوك والرؤساء وعبيدهم الأشقياء الذين لا يرجون ما يوعدون، فهم لا يقبلون ما يؤمرون ولا يسمعون ما يقال لهم، ولا يفكرون فيما يقال من الترغيب والترهيب، بل يسعون ليلهم ونهارهم في طلب شهواتهم وارتكاب هوى أنفسهم، فلا جرم أنهم يحرمون ما ينال إخوانهم من الرياسة والأمر والنهي والسلطان والعز والكرامات. فأما هؤلاء المدابير من أولاد الملوك فلا يصلحون لشيء غير أن يكونوا رهائن عند أعدائهم أومعتقلين عند إخوانهم، فهكذا يا أخي حكم الكافرين والمنافقين والفاسقين في الآخرة، يحرمون ما ينال المؤمنين من الكرامات والقرب والمراتب والدرجات والسرور واللذات، عقوبة لهم لما تركوا من وصية ربهم، وارتكبوا هوى أنفسهم، وضلوا عن الهدى، وحرموا الثواب والجزاء كما قال الله تعالى: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة" الآية.
وإذ قد تبين بما ذكرنا أن تأديب الله للمؤمنين مماثل لتأديب الملوك لأولادهم، فنقول: أعلم يا أخي أن وعده ووعيده وعذابه للكافرين والمنافقين والفاسقين مماثل لوعيد الطبيب المشفق الحكيم لولده الجاهل العليل، كما بينا في رسالة الآلام واللذات. وقد ذكر الله وعده للمؤمنين ووعيده للكافرين والمنافقين في القرآن في نحومن ألف آية مثل قوله تعالى:" وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار" الآية. وإنما جعل الله- جل ثناؤه- ثواب المؤمنين الجنان ونعيم الآخرة، لأن الإيمان خصلة تجمع فضائل كثيرة ملكية، وشرائط كثيرة عقلية، فللمؤمنين علامات يعرفون بها ويتميزون على الكافرين والمنافقين. وقد بينا طرفاً من هذا العلم في رسالة الإيمان وخصال المؤمنين، ولكن نحتاج أن نذكر في هذه الرسالة طرفاً منها ليكون تذكاراً وموعظة للغافلين، كما أمر الله تعالى بقوله:" وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين".
فصل أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه-
أن خواص عباده المؤمنين العارفين المستبصرين يعاملون الله- جل ثناؤه- بالصدق واليقين، ويحاسبون أنفسهم في ساعات الليل والنهار فيما يعملون، كأنهم يشاهدون الله ويرونه، فيجدون ثواب أعمالهم ساعةً ساعةً لا يتأخر عنهم لحظة واحدة، وهي البشرى في الحياة الدنيا، قبل بلوغهم إلى الآخرة، ويرون جزاء سيئاتهم أيضاً يعقب أفعالهم، لا يخفى عليهم إلا قليل، وإليهم أشار بقوله- جل ثناؤه-" إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا، فإذا هم مبصرون" وبقوله تعالى:" إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" وقال: " إلا عبادك منهم المخلصين." وآيات كثيرة ذكرها بمدحهم وحسن الثناء عليهم، وهم أعرف الناس بالله وأحسنهم معاملة معه.
وذكروا أن واحداً منهم اجتاز يوماً في بعض سياحته براهب في صومعة له على رأس تل، فوقف بإزائه، فناداه: يا راهب، فأخرج رأسه إليه من صومعته وقال: من هذا، قال: رجل من أبناء جنسك الآدميين. قال: فما تريد، قال: كيف الطريق إلى الله، قال الراهب: في خلاف الهوى. قال له: فما خير الزاد، قال: التقوى. قال: لم تباعدت عن الناس وتحصنت في هذه الصومعة، قال: مخافة على قلبي من فتنتهم وحذراً على عقلي الحيرة من سوء عشرتهم، فطلبت راحة نفسي من مقاساة مداراتهم وقبيح أفعالهم، وجعلت معاملتي مع ربي فاسترحت منهم.
قال: فأخبرني كيف وجدتهم، قال: أسوأ قوم وأشر أصحاب، ففارقتهم. قال: فكيف وجدتم، يا معشر أتباع المسيح، معاملتكم مع ربكم، فاصدقني القول ودع عنك تزويق الكلام وزخارف الألفاظ. فسكت الراهب متفكراً ثم قال: أسوأ معاملة تكون. قال له: وكيف ذلك، قال: لأنه أمرنا بكد الأبدان، وجهد النفوس، وصيام النهار، وقيام الليل، وترك الشهوات المركوزة في الجبلة، ومخالفة الهوى الغالب، ومجاهدة العدوالمتسلط، والرضى بخشونة العيش، والصبر على الشدائد والبلوى، ومع هذه كلها جعل الأجر نسيئه؛ في الآخرة بعد الموت، مع بعد الطريق وكثرة الشكوك والحيرة، فهذه حالتنا في معاملتنا مع ربنا؛ فخبرني عنكم، يا معشر أتباع أحمد، كيف وجدتم معاملتكم مع ربكم، قال: خير معاملة تكون وأحسنها.
قال الراهب: صفها لي. قال له: إنه أعطانا سلفاً؛ كثيرة ومواهب جزيلة لا تحصى فنون أنواعها من النعم واإحسان والأفضال، فنحن، ليلنا ونهارنا، نتقلب في أنواع من نعمه وفنون من آلائه ما بين سالف معتاد، وآنف؛ مستفاد، وخالف منقاد. قال الراهب: كيف خصصتم بهذه المعاملة دون غيركم والرب واحد، قال: أما النعمة والإحسان والإفضال فعموم للجميع، قد عمتنا كلنا، ولكن نحن خصصنا بحسن الاعتقاد وصحة الرأي والإقرار بالحق والإيمان والتسليم، فوفقنا لمعرفة الحقائق لما أعطينا بالانقياد والإيمان والتسليم وصدق المعاملة من محاسبة النفس، وملازمة الطريق، وتفقد تصاريف الأحوال الطارئة من الغيب، ومرعاة القلب بما يرد عليه من الخواطر والوحي والإلهام ساعة بساعة.
قال الرهب: زدني في البيان. قال: نعم، اسمع ما أقوله، وافهمه، واعقل ما تفهم، إن الله- جل ثناؤه- لما خلق الإنسان من طين ولم يكن شيئاً مذكوراً، وجعل من سلالة ماء مهين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم قلبه حالاً بعد حال تسعة أشهر، إلى أن أخرجه من هناك، خلق سوياً بنية صحيحة، وصورة تامة، وقامة منتصبة، وحواس سالمة. ثم زوده من هناك لبناً لذيذاً خالصاً سائغاً لذة للشاربين حولين كاملين، ثم رباه وأنشأه وأنماه بفنون من لطفه وغرائب من حكمته، إلى أن بلغه أشده واستوى، ثم آتاه حكماً وعلماً، وقلباً ذكياً، وسمعاً دقيقاً، وبصراً حاداً، وذوقاً لذيذاً، وشماً طيباً، ولمساً ليناً، ولساناً ناطقاً، وعقلاً صحيحاً، وفهماً جيداً، وذهناً صافياً، وتمييزاً وفكراً وروية ومشيئة واختياراً، وجوارح طائعة، ويدين صانعتين، ورجلين ساعيتين؛ ثم علمه الفصاحة والبيان والخط بالقلم، والصنائع والحرف والزراعة والبيع والتجارة والتصرف في المعاش وطلب وجوه المنافع، واتخاذ البنيان، وطلب العز والسلطان والأمر والرياسة، والتدبير والسياسة؛ وسخر له ما في الأرض جميعاً من الحيوان والنبات والمعادن، فغدا متحكماً عليها تحكم الأرباب، ومتصرفاً فيها تصرف الملاك، متمتعاً بها إلى حين. ثم أراد الله أن يزيده من إحسانه وفضله وجوده وإنعامه شيئاً آخر أشرف وأجل مما عددنا وذكرنا، وهوما أكرم الله به ملائكته، وخالص عباده، واهل جنته من النعيم الذي لا يشوبه نقص ولا تنغيض، إذ كان نعيم الدنيا مشوباً بالبؤس، ولذاتها بالآلام، وسرورها بالحزن، وراحتها بالنصب، وعزتها بالذل، وصفوها بالكدر، وغناها بالفقر، وصحتها بالسقم؛ وأهلها فيها معذبون في صورة المنعمين، مغتمون في صورة المغبوطين، مغرورون في صورة الواثقين، مهانون في صورة المكرمين، وجلون غير مطمئنين، خائفون غير آمنين، مترددون بين الأضداد، من نور وظلمة، وليل ونهار، وشتاء وصيف، وحر وبرد، ورطب ويابس، ونوم ويقظة، وجوع وشبع، وعطش وروي، وراحة وتعب، وشباب وهرم، وقوة وصعف، وحياة وموت، وما شاكل ذلك من الأمور التي أهل الدنيا وأبناؤها مترددون بينها، متحيرون فيها، مدفوعون إليها. فأراد ربك أن يخلصهم من هذه الآلام المشوبة باللذات، وينقلهم منها إلى نعيم لا بؤس فيه، ولذة لا يشوبها ألم، وسرور بلا حزن، وفرح بلا غم، وعز بلا ذل، وكرامة بلا هوان، وراحة بلا تعب، وصفولا يخالطه كدر، وأمن بلا خوف، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وحياة بلا موت، وشباب بلا هرم، ومودة لازمة، ونور لا يشوبه ظلام، ويقظة بلا نوم، وذكر بلا غفلة، وعلم بلا جهالة، وصداقة بلا عداوة بين أهلها، ولا حسد ولا غيبة، إخواناً على سرر متقابلين، آمنين مطمئنين أبد الآبدين ودهر الداهرين.
ولما لم يمكن أن يكون الإنسان هناك بهذا الجسد الفاني والجسم الثقيل المستحيل الطويل العريض العميق المظلم المركب من أجزاء الأركان المتضادة، المؤلفة من الأخلاط الأربعة، إذ كان لا يليق بمن هذه سبيله من تلك الأوصاف الصافية والأحوال الباقية، اقتضت العناية بواجب حكمة الباري- جل ثناؤه- أن ينشأ نشوءاً آخر، كما ذكر الله- جل ثناؤه- بقوله:" ولقد علمتم النشأة الأولى، فلولا تذكرون" يعني النشأة الأخرى. وقال:" وننشئكم فيما لا تعلمون" وقال:" ثم الله ينشئ النشأة الآخرة." فبعث بلطفه أنبياءه ورسله يرغبونهم فيها، ويدلونهم على طريقها كيما يطلبوها ويكونوا لها مستعدين قبل الورود إليها، ولكي يسهل عليهم مفارقة ما ألفوا من الدنيا من شهواتها ولذاتها، وتخفف عليهم شدائد الدنيا ومصائبها، إذ كانوا يرجون بعدها ما يغمرها ويمحوما قبلها من نعيم الدنيا وبؤسها، ويحذرونهم أيضاً التواني في طلبها كي لا يفوتهم ما وعدوا به، فإنه من فاتته فقد خسر الدنيا والآخرة جميعاً، وضل ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً. فهذا رأينان واعتقادنا يا راهب في معاملتنا مع ربنا، وبهذا الاعتقاد طاب عيشنا في الدنيا وسهل علينا الزهد فيها وترك شهواتها، واشتدت رغبتنا في الآخرة، وزاد حرصنا في طلبها، وخف علينا كد العبادة، فلا نحس بها، بل نرى أن ذلك نعمة وكرامة وعز وشرف، إذ جعلنا أهلاً أن نذكره، وإذ هدى قلوبنا وشرح صدورنا ونور أبصارنا لما عرفنا من كثرة إنعامه وفنون ألطافه وإحسانه.
قال الراهب: جزاك الله خيراً من واعظ ما أبلغه، ومن ذاكر إنعاماً ما أحسنه، ومن هاد رشيد ما أبصره، وطبيب رفيق ما أحذقه، وأخ ناصح ما أشفقه.
فصل وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه-
بأن الأمور الطبيعية محيطة بنا ومحتوية على نفوسنا كإحاطة الرحم بالجنين، وكإحاطة قشرة البيضة بمحها؛ كل ذلك حرص من الطبيعة على تتميمها وتكميلها وصيانتها من الآفات العارضة، إلى أجل معلوم، فإذا جاء وقت الخروج من هناك بعد تتميم البنية وتكميل الصورة، فالجنين حينئذ هوالذي يحرك أعضاءه، ويركض؛ برجليه، ويضرب بيديه، حتى يخرق المشيمة؛ وتتقطع تلك الأوتار والرباطات التي كانت تمسكه هناك، ويمكنه الخروج من الرحم، وكذلك أفعال الفرخ بالبيضة. فهذا قياس ودليل لكل نفس تريد فراق الدنيا والخروج من عالم الأجسام إلى عالم الأرواح، وتنبيه لها على أنه ينبغي لنا أن نتحرك ونجتهد، حتى ندفع عن أنفسنا الأخلاق الطبيعية المركوزة في الجبلة المذمومة منها، المانعة للنفوس عن النهوض والخروج من عالم الكون والفساد إلى عالم الأفلاك، وسعة السموات، ومعدن الأرواح، ومقر النفوس. فلما كان هذا كما ذكرناه، ولم يكن في منة؛ إنسان أن يعقل هذا الأمر الجليل، ويفهم هذا الخطب الخطير، كان من فضل الله وإحسانه وإكرامه لعباده أن بعث إليهم النبيين والمرسلين مؤيدين، ليعلموا الناس هذه الأمور، ويعرفوهم هذا الخطب، وينبهوهم عليه، ويدعوهم إليه، ويرغبوهم فيه، ويحثوهم على طلبه، ويكلفوهم الاجتهاد في نيله طوعاً أوكرهاً. وهذه من جسيم نعم الله- سبحانه- على عباده، وعظيم إحسانه إليهم الذي عمهم كلهم، ولم يخص أحدهم دون الآخر. وإذ قد تبين بما ذكرنا أن بعض نعم الله تعالى وإحسانه ما هي عموم لجميع خلقه لا يخص واحداً دون الآخر، فنريد أن نذكر ما يخص منها ونبين كيف يكون ذلك، ومن يستحقها ويستأهلها.
فأعلم يا أخي أن من نعم الله وإحسانه وإكرامه ما يخص به خواص من عبيده بحسب اجتهادهم وسعيهم وحسن معاملتهم ويحرمه قوماً آخرين، عقوبة لهم، إذ كان سعيهم واجتهادهم ومعاملتهم بخلاف سعي أولئك واجتهادهم، فهذا الباب من عدله وإنصافه بين خلقه، إذ كان الإحسان إليهم والنعم التي هي من قبله تفضلاً عليهم، تعمهم كلهم والتي يستحقونها بحسب سعيهم ويستأهلونها باجتهادهم لا يساوي بينهم فيها، إذ لم يكونوا متساوين في العمل.
وأعلم يا أخي بأن الله- جل ثناؤه- لما بعث أنبياءه ورسله إلى الأمم الجاهلة الغافلة عن هذا الأمر الجليل الخطير، لم يأمرهم ولا كلفهم شيئاً شاقاً سوى ما في وسع طاقتهم من القول والعمل والنية والإضمار؛ فأول شيء أمرهم الأنبياء وطالبوهم به هوالإيمان الذي هوإقرار اللسان لهم بما جاؤوا به من الأنباء والخبار عن أمور غائبة عن حواسهم، وترك الجحود والإنكار لها، كما ذكر بقوله جل ثناؤه:" قل يا أيها الناس أني رسول الله إليكم جميعاً... فآمنوا بالله ورسوله." فمن أعطاه الإقرار باللسان وثبت ولم يرجع، كان جزاؤه ومكافأته لإقراره في الدنيا عاجلاً، أن يهدي الله قلبه بنور اليقين ويشرح صدره للتصديق بما أخبر به عن الغيب، وينجي قلبه من ألم الكرب والتكذيب، ويخلص نفسه من عذاب الشك والريبة والحيرة، كما وعد- جل ثناؤه-بقوله:" ومن يؤمن بالله يهد قلبه" يعني من يقر بلسانه يهد قلبه للتصديق واليقين والإخلاص. وقال:" والذين اهتدوا" يعني أقروا" زادهم هدى" يعني يقيناً واستبصاراً، " وآتاهم تقواهم" يعني أزال عنهم الشك والارتياب.
وأعلم يا أخي بأن المقر بلسانه والمنكر بقلبه يكون شاكاً مرتاباً متحيراً دهشاً، وهذه كلها آلام للقلوب وعذاب للنفوس، فأراد الله- جل ثناؤه- أن يخلص عباده المقرين لأنبيائه بما جاؤوا به، من هذه الآلام والعذاب، فأمر المقرين بأشياء يفعلونها، ونهاهم عن أشياء ليتركوها: كل ذلك ليبلوهم، فمن قبل وصاياه وعمل بها وثبت عليها، كان جزاؤه وثواب عمله في الدنيا عاجلاً قبل وصوله إلى الآخرة، أن هدى قلوبهم بنور اليقين، وشرح صدورهم من ضيق الشك والريبة والإنكار والحيرة والدهشة والنفاق، وخلصهم من عذابها. وأما من ترك الوصية ولم يعمل بها، بل خادع ومكر، وأضمر خلاف ما أظهر، وأسر غير ما أعلن، وأخلف الوعد، وأقام على هذه المساوئ والمخازي، كان جزاؤه وعقوبته أن يترك في ريبة متردداً في دينه، متحيراً شاكاً مذبذباً معذباً قلبه، متألمة نفسه، كما ذكر الله تعالى بقوله:" فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوا، وبما كانوا يكذبون" وقوله تعالى:" ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ونذرهم في طغيانهم يعمهون؛" وقال لنبيه- صلى الله عليهم وسلم:" هم العدوفاحذرهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون؛" فقد تبين بما ذكرنا طرف من كيفية اختصاص الله تعالى المؤمنين بإفضاله وإنعامه وإحسانه إلى قوم دون قوم مكافأة لهم بحسب معاملتهم مع ربهم في عاجل الحياة الدنيا، قبل وصولهم إلى الآخرة، وكيف يحرم تلك النعم قوماً آخرين عقوبة لهم وجزاء لما تركوا من وصاياه ولم يعملوا بها.
فصل وأعلم يا أخي- أيدك الله، بأنه- جل ثناؤه-
قد فرض على المؤمنين المقرين به وبأنبيائه أشياء يفعلونها، ونهاهم عن أشياء ليتركوها: كل ذلك ليبتليهم بها، وجعلها عللاً وأسباباً ليرقيهم فيها وينقلهم بها حالاً بعد حال، إلى أن يبلغهم إلى أتم حالاتهم وأكمل غاياتهم.
وأعلم يا أخي بأن من بلغه الله درجة ورتبة، فوقف عندها، ولم يرجع القهقرى بعد بلوغها، ثم قام بحقها ووفى بشرائطها، جعل جزاءه وثوابه أن ينقله من تلك الرتبة والدرجة إلى ما فوقها، ويرفعه من تلك إلى ما هوأشرف وأجل منها. ومن جهل قدر النعمة في تلك الرتبة فلم يشكرها، ولا اجتهد في طلب ما فوقها، ولا رغب في الزيادة عليها، كان جزاؤه أن يترك مكانه، ويوقف حيث انتهى به عمله، ويحرم المزيد، فيفوته ما وراء ذلك وفوقه من الدرجات والمراتب، وكان ذلك الفوت والحرمان هوعقوبته. والمثال في ذلك ما تقدم ذكره في أمر المؤمنين المقرين المخلصين الصادقين، والمنافقين المخادعين المرتابين، وقد ذكر الله تعالى علامات المؤمنين المخلصين الموقنين الصادقين وأعمالهم وأخلاقهم في آيات كثيرة من سور القرآن، وذكر أيضاً علامات المنافقين المرتابين المرائين في آيات كثيرة، وخاصة ما في سورة الأنفال، وسورة التوبة، وسورة الأحزاب، بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا.
ويروى في الخبر أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- كان يأمر الناس أيام إمارته بقراءة هذه السور، ويأمرهم بحفظها ودرسها، وأن يأخذوا أنفسهم بواجب ما ذكر فيها وبراءة ساحتهم مما وصف فيها من صفات المنافقين المرتابين الشاكين المرائين المخادعين. فينبغي لك يا أخي أن تجعل هذا الذي ذكرنا دليلاً وقياساً لك في كل ما تعامل به ربك طول عمرك وأيام حياتك، إن أردت أن يرقيك برحمته في المراتب، ويرفعك في الدرجات، حتى يبلغك أقصاها وأشرفها في الدنيا والآخرة جميعاً، كما وعد الله تعالى ذلك بقوله:" يرفع الله الذين آمنوا منكم، والذين أوتوا العلم درجات".
فصل في فضل طلب العلم
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الله- جل ثناؤه- قد فرض على المؤمنين أشياء كثيرة يفعلونها، ونهاهم عن أشياء كثيرة يتركونها، كما قلنا آنفاً. ولكن ليس من فريضة من جميع مفروضات الشريعة وأحكام الناموس أوجب ولا أفضل ولا أجل ولا أشرف ولا أنفع لعبد، ولا أقرب له إلى ربه بعد الإقرار به، والتصديق لأنبيائه ورسله فيما جاؤوا به وخبروا عنه، من العلم وطلبه وتعليمه. وبيان ذكر شرف العلم، على ما ذكرناه من فضيلته وجلالته وفضل طلبه وتعلمه، ما روي عن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: تعلموا العلم فإن في تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمونه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والمؤنس في الوحدة والوحشة، والصاحب في الغربة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والمقرب عند الغرباء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة يهتدى بهم، وأئمة في الخير تقتفى آثارهم، ويوثق بأعمالهم، وينتهى إلى آرائهم، وترغب الملائكة في خلتهم؛ وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تستغفر لهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، حتى الحيتان في البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، والسماء ونجومها، لأن العلم حياة القلب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ به العبد منازل الأحرار ومجالس الملوك، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، والفكر فيه يعدل بالصيام، ومدارسته بالقيام؛ به يطاع الله، وبه يعبد، وبه يعلم الخير، وبه يتورع، وبه يؤجر، وبه توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال والحرام، وأعلم أن العلم إمام العمل، والعمل تابعة، ويلهمه الله السعداء، ويحرمه الأشقياء.
فصل وأعلم يا أخي - أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن
طالب العلم يحتاج إلى سبع خصال أولها السؤال والصمت، ثم الاستماع، ثم التفكر، ثم العمل به، ثم طلب الصدق من نفسه، ثم كثرة الذكر أنه من نعم الله، ثم ترك الإعجاب بما يحسنه. والعلم يكسب صاحبه عشر خصال محمودة، أولها الشرف وإن كان دنياً، والعز وإن كان مهيناً، والغنى وإن كان فقيراً، والقوة وإن كان ضعيفاً، وانبل وإن كان حقيراً، والقرب وإن كان بعيداً، والقدر وإن كان ناقصاً، والجمود وإن كان بخيلاً، والحياء وإن كان صلفاً، والمهابة وإن كان وضيعاً، والسلامة وإن كان سقيماً. وقال الله- جل ذكره:" هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوالألباب" وقال سبحانه:" إنما يخشى الله من عباده العلماء" وقال:" ومن يؤت الحمة فقد أوتي خيراً كثيراً" وآيات كثيرة في القرآن في مدح العلماء وفضائلهم، وحسن الثناء عليهم في مثل ذلك.
وأعلم يا أخي بأن للعلماء، مع كثرة فضائل العلم، آفات وعيوباً وأخلاقاً ردية تحتاج أن تتجنبها وتتحذرها، فمنها الكبر والعجب والافتخار. وقد روي عن رسول الله أنه قال: من ازداد علماً ولم يزدد لله تواضعاً، وللجهال رحمة، وللعلماء مودة، لم يزدد من الله إلى بعداً. ومنها كثرة الخلاف والمنازعة فيه، وطلب الرياسة به، والتعصب والعداوة والبغضاء فيما بينهم. وقال لقمان الحكيم لبنه: يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتك، فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور العلم، كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر؛ وإياك ومنازعة العلماء، فإن الحكمة نزلت من السماء صافية، فلما تعلمها الرجال صرفوها إلى أهواء أنفسهم. ومن آفات العلماء الخوض في المشكلات، والترخيص؛ في الشبهات، وترك العمل بموجبات العلم. ومن آفات العلماء أيضاً كثرة الرغبة في الدنيا وشدة الحرص في طلبها. وقد قيل في المثل: إن حب الدنيا رأس كل خطيئة، والحرص في طلبها مرض للنفوس وسقام لها؛ وعلماء أحكام الناموس هم أطباء النفوس ومداووها، فمثل العالم الراغب في الدنيا، الحريص على طلب شهواتها، كمثل الطبيب المداوي غيره وهومريض لا يرجى صلاحه، فكيف يشفي المرريض بعلاجه، وقد قيل إن عالماً زاهداً في الدنيا، يكون عالماً بدين الله، وبصيراً بطريق الآخرة، خير من ألف عالم راغب فيها. وقال المسيح- عليه السلام-: أيها العلماء والفقهاء فعدتم على طريق الآخرة، فلا أنتم تسيرون إليها فتدخلون الجنة، ولا تتركون أحداً يجوزكم فيصل إليها، وإن الجاهل أعذر من العالم، وليس لواحد منهما عذر.
وأعلم يا أخي بأن كل علم وأدب لا يؤدي صاحبه إلى طلب الآخرة، ولا يعينه على الوصول إليها، فهو وبال على صاحبه وحجة عليه يوم القيامة، وذلك أن الملوك والجبابرة والفراعنة والقرون الماضية كانت لهم عقول رضية، وآداب بارعة، وسياسة وحكمة وصنائع عجيبة، وهكذا من كان يعاشرهم وينادمهم ويقرب إليهم، من وزرائهم وكتابهم وعمالهم وقوادهم وعلمائهم وأدبائهم، ولكن هلكوا من أجل إنهم صرفوا تلك القوى والعقول والأفهام وأكثر أفكارهم وتمييزهم ورويتهم في طلب شهوات الدنيا والتمتع بلذاتها ونعيمها، بالرغبة الشديدة والحرص والتمني للخلود فيها، وجعلوا أكثر كدهم وسعيهم في صلاح أمور الدنيا، حتى عمروها وأهملوا الآخرة وذكر المعاد، ولم يستعدوا له، وذكروا الدنيا وغفلوا عن الآخرة ولم يتزودوا من الدنيا، وتركوها لغيرهم، ورحلوا عنها كارهين، فصارت تلك النعم وبالاً عليهم، إذ لم ينالوا بها الآخرة، فخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هوالخسران المبين.
وإنما أكثر الله سبحانه في القرآن ذم هؤلاء وسوء الثناء عليهم، لكيما يعتبر بهم المعتبرون ممن يجيء بعدهم، ويتعظوا بحالهم، ولا يغتروا بالدنيا كاغترارهم، كما قال الله- جل ذكره:" فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور" وقال:" إنما الحياة الدنيا لعب ولهووزينة" إلى آخر الآية. وقال تعالى ذكره:" زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة" الآية.
وقال:" إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء، فاختلط به نبات الأرض، فأصبح هشيماً تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدراً، المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوباً وخير أملا" وآيات كثيرة في القرآن في ذم الراغبين في الدنيا، والتحذير منها ومن غرورها وأمانيها، كل ذلك نصح من الله-سبحانه- لعباده المؤمنين، ولطف بهم ونظر ورحمة، لئلا تفوتهم الآخرة كما فاتت أولئك، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من يحيا عن بينة، قال الله تعالى:" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين".
فصل وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه-
بأن من الأخلاق المكتسبة ما هي محمودة منسوبة إلى الملائكة، كما سنبينها بعد، ومنها ما هي مذمومة منسوبة إلى الشيطان، وهي كثيرة نحتاج أن نبينها ونشرحها، ليظهر الفرق بينهما، ويعرفها إخواننا الكرام، فيجتنبوا أخلاق الشياطين ويتركوها، ويتخلقوا بأخلاق الملائكة الكرام ويؤثروها، ويجتهدوا في اكتسابها، إذ كانت أخلاق النفوس هي أحد الأربعة الأشياء التي لا تفارق النفس بعد مفارقتها الجسد، وعليها أيضاً تجازى النفوس إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً. وهذه الأربعة الأشياء التي ذكرنا أن النفس تجازى عليها بعد الفراق، أولها الأخلاق المكتسبة المعتادة، والثاني العلوم التعليمية، والثالث الآراء المعتقدة، والرابع الأعمال المكتسبة بالاختيار والإرادة. فمن أخلاق الشياطين أولها كبر إبليس، وحرص آدم، وحسد قابيل؛ وأعلم يا أخي بأن هذه الخصال الثلاث هي أمهات المعاصي وأصول الشرور، ولها أخوات مشاكلات لها، وفروع وأغصان متفننات منها نحتاج أن نذكر طرفاً منها ليعلم صحة ما قلنا، ويعرف حقيقة ما وصفنا، فمن أخوات الكبر وأشكاله عجب المرء برأي نفسه، والأنفة عن قبول الحق، وترك الإقرار به، والانقياد لأمر الآمر والناهي الواجب الطاعة، والتعدي والخروج عن الحد الواجب والحق اللازم، والظلم والجور عند القدرة في الحكومات، وترك الإنصاف في المعاملة، والتهاون في الواجبات، والإعراض عن اللوازم من الحقوق، والقحة والصلابة في الوجه في دفع الحق والعيان والضرورات والفحش والسفاهة في الخطاب، والجال، واللجاج في الخصومات، والخرق؛ والنزق في العشرة، والحدة والطيش في التصرف، والغش والمكر في المعاملة، والاستصغار والاحتقار لأبناء الجنس، والاستطالة عليهم والافتخار في الأمور بما خص من المواهب، والإنكار لفضل من فضل عليه، والبغي والعدوان وما شاكلها من الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة والأفعال السيئة والأعمال القبيحة.
ومن أخوات الحرص وأشكاله الطمع الكاذب، وشدة الرغبة، والطلب الحثيث، والعجلة في السعي، وتعب البدن، وعناء النفس، وكد الروح في الجمع والإدخار، والاستكثار والاحتكار من خوف الفقر، والبخل والمنع والشح واللؤم والنكد؛ وما يتبعها من الشؤم والخذلان، وقلة الانتفاع بالموجود، والحرمان من المذخور، والمضايقة في المعاملة، والمناقشة في المحاسبة، وسوء الظن بالأمين، والتهمة للثقات والمؤتمنين، والخيانة في الأمانة، وطلب الحرام، وارتكاب الفحشاء، وإضمار القلب على الإضرار، وإظهار الكذب لكتمان السر، والحيل في أسباب الطلب من البيع والشراء، والغش في الأمتعة، وقلة النصيحة في الصنائع، والحلف واليمين الكاذبة عند الاعتذار في الحكومات، وأقاويل الزور في أسباب الخصومات، والعداوة والتعدي في الحدود، وما شاكلها من الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة والأقاويل الباطلة والأفعال القبيحة والعمال السيئة.
ومن أخوات الحسد وأشكاله الحقد والغل؛ والدغل؛ ثم تدعوهذه الخصال إلى المكاشفة بالعداوة، والبغضاء، والبغي، والغضب والحرد، والتعدي والعدوان، وقساوة القلب وقلة الرحمة والفظاظة والغلظ، والطعن واللعن والفحشاء؛ وتكون سبباً للخصومة والشر والحرب والقتال، إن أمكن ذلك جهاراً وإعلاناً، وإلا يدعوإلى المكر والحيلة والخداع والغدر والخيانة والسعاية والغيبة والنميمة والزور والبهتان والكذب والمداهنة والنفاق والرياء؛ ويصير ذلك سبباً لتشتيت الشمل، وتفريق الجميع، وقطيعة الرحم، والبعد من الإخوان، ومفارقة الإلف، وخراب الديار، ووحشة الوحدة، والحزن والغم، وألم القلب، وهموم النفس، وعذاب الأرواح، وتنغيص العيش، وسوء المنقلب وخسران الدنيا والآخرة؛ نعوذ بالله من هذه الخصال والشرور، والأخلاق والأفعال القبيحة، والأعمال السيئة الدنية التي تنكرها العقول السليمة والنفوس المهذبة والأرواح الطاهرة.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن المتكبر عن قبول الحق عدوللطاعة، وقد قيل إن الطاعة هي اسم الله الأعظم الذي به قامت السموات والأرض بالعدل. وضد الكبر التواضع للحق، والقبول له، ويقال في المثل السائر: من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله.
وقيل في بعض كتب بني إسرائيل: قال الله سبحانه وتعالى: الكبر ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما كببته في نار جهنم على منخريه. قال الله- عز وجل- في القرآن:" أليس في جهنم مثوى للمتكبرين" وقيل إن الحرص الشديد ربما كان سبب الحرمان؛ والحاسد عدولنعم الله، وليس للحاسد إلا ما حسد. وقال الله جل ذكره:" أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" فاحذر يا أخي من هذه الخصال والأخلاق والأعمال، فإنها من أخلاق الشياطين وجنود إبليس أجمعين الذين يبغض بعضهم بعضاً، ويعادي بعضهم بعضاً، كما ذكر الله تعالى بقوله:" كلما دخلت أمة لعنت أختها" وقال تعالى:" لا مرحباً بهم، إنهم صالوالنار" وآيات كثيرة في القرآن في ذم هؤلاء وسوء الثناء عليهم.
فقد تبين بما ذكرنا أن الكبر والحرص والحسد أصول وأمهات لسائر الخصال المذمومة والأخلاق الرديئة المنتشئة منها الشرور والمعاصي كلها، فاحذر يا أخي منها. فإن قيل: ما الحكمة والفائدة في كون هذه الخصال الثلاث موجودة في الخليقة، مركوزة في الجبلة، فنقول: أما التكبر فهو من كبر النفس، وكبر النفس هومن على همتها، وعلوالهمة جعل في جبلة النفس لطلب الرياسة، وطلب الرياسة من أجل السياسة، وذلك أن الناس محتاجون في تصاريف أمورهم إلى رئيس يسوسهم على شرائط معلومة، كما ذكر ذلك في كتب السياسات بشرح طويل، وقد ذكرنا طرفاً منها في رسالة سياسة النبوة والملك، فإذا لم يكن الرئيس عالي الهمة، كبير النفس، لم يصلح للرياسة؛ وكبر النفس يليق بالرؤساء، ويصلح للملوك، وسياسة الجماعات؛ فأما الرعية والأعوان والأتباع والخدم والعبيد فلا يصلح لهم كبر النفس ولا يليق بهم.
وأقول بالجملة إن كبر النفس في كل وقت وفي كل شيء ليس بأمر محمود، ولكن إذا استعمل كما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، بمقدار ما ينبغي، من أجل ما ينبغي، سمي ذلك محموداً، فيكون عامل ذلك طلق النفس ذا مروءة، عالي الهمة عفيفاً كريماً جميلاً ديناً، ويكون صاحبه محموداً معظماً مبجلاً مهيباً. وأما التكبر عن قبول الحق وترك الإقرار بالواجب، والفسق؛ عن أمر الرئيس، وترك الانقياد والإذعان للطاعة المفروضة، فهو المذموم، وهوهوالشر والمعصية والمنكر.
وأقول بالجملة: ينبغي لك يا أخي أن تعلم وتتيقن بأنك كما تريد وتحب وتشتهي من عبدك أن ينقاد لأمرك، وكذلك خادمك وأجيرك وتابعك وزوجك وولدك، ولا يتكبرون عليك، ولا يخرجون عن أمرك، ولا يجاوزوننهيك، فهكذا ينبغي ويجب أن تكون لرئيسك، ومن هوفوقك في الأمر والنهي، حتى تكون عادلاً منصفاً محقاً ممدوحاً مثاباً مجازى ملتذاً فرحاً مسروراً منعماً مكرماً. فقد تبين، بما ذكرنا، ما الحكمة والفائدة في وجود التكبر في طباع النفس المركوزة في جبلتها، ومتى يكون صاحبه مذموماً معاقباً، ومتى يكون محموداً مثاباً. وأما كون الحرص في طلب المرغوب فيه الموجود في الخليقة، المركوز في الجبلة، فهو من أجل إن الإنسان لما خلق محتاجاً إلى مواد لبقاء هيكله ودوام شخصه مدة ما، وإبقاء صورته في نسله زماناً ما، جعل في طبعه وجبلته الرغبة فيها والحرص في طلبها والجمع لها والادخار والحفظ لوقت الحاجة إليها، إذ كان ليس في كل وقت وفي كل مكان موجوداً ما يريده ويحتاج إليه. فإذا رغب الإنسان فيما يحتاج إليه، وطلب ما ينبغي له، وجمع مقدار الحاجة وحفظه إلى وقت الحاجة، ثم استعمل ما ينبغي كما ينبغي، وأنفق بقدر الحاجة، فهو يكون محموداً عادلاً منصفاً محقاً مصيباً مأجوراً ملتذاً مثاباً منعماً فرحاً مسروراً مكرماً.
فقد بينا ما الحكمة والفائدة في كون الرغبة والحرص في الجبلة المركوزة؛ فإذا طلب ما لا يحتاج إليه كان مذموماً، أوجمع أكثر مما يحتاج إليه كان متعوباً، أوجمع ولم ينفق ولم يستعمل في وقت الحاجة إليه كان مقتراً محروماً؛ فإن أنفق واستعمل فيما لا ينبغي كان مسرفاً مخطئاً جائراً معاقباً معذباً. وروي عن رسول الله- صلى الله عليه وآله - أنه قال:" من طلب الدنيا تعففاً عن المسألة، وتوسعاً على عياله، وتعطفاً على جاره، لقي الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا مكاثراً مفاخراً مرائياً، جعل الله فقره بين عينيه، ولم يبال الله به بأي واد هلك.
فأما كون الحسد المركوز في الجبلة، الموجود في الخليقة، فهو من أجل التنافس في الرغائب من نعم الله، وذلك أن نعم الباري تعالى على خلقه كثيرة لا يحصي عددها إلا هو، ولم يمكن أن يجمع عددها كلها على شخص واحد، ففرقت في الأشخاص بالقسط؛ كما شاء ربهم- عز وجل- وضعها، وفضل بعضهم على بعض كما اقتضت حكمته، فلم يخل أحد من الخلق من نعم الله وآلائه، ولا استوفاها أحد من خلقه. فمن رأى على أحد من الخلق نعمة ليست عليه بعينها، فلينظر هل عليه نعمة ليست بعينها على ذلك الشخص، فيقابل هذه بتلك، ويشكر الله، ويسأله أن يديمها عليه. ومن رأى على أخيه نعمة ليس عليه مثلها، فليسأل الله تعالى من فضله، ولا يتمن زوال تلك عن أخيه، فإن ذلك هوالحسد بعينه، وهوالمذموم الذي يكون الحاسد به معذبة نفسه، مؤلماً قلبه، عدواً لنعم الله على خلقه.
فصل في الحرص والزهد ودرجات الناس
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأنك إن أنعمت النظر بعقلك، وجودت الفكر برويتك، وتأملت أمور الدنيا، واعتبرت تصاريف أحوال الناس، تبينت وعرفت أن أكثر الشرور التي تجري بين الناس إنما سببها شدة الرغبة في الدنيا، والحرص على طلب شهواتها ولذاتها ورياستها، وتمني الخلود فيها. وإذا تأملت واعتبرت وجدت أس كل خير وأصل كل فضيلة الزهد في الدنيا وقلة الرغبة في شهواتها ونعيمها ولذاتها، والرغبة في الآخرة، وكثرة ذكر المعاد في آناء الليل وأطراف النهار، والاستعداد للرحلة إليها.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الخلق كلهم عبيد الله وأهل طاعته طوعاً أوكرهاً، ولكن منهم خاص وعام، وما بينهما طبقات متفاوتة الدرجات، فأول الخواص هم العقلاء الذين توجه نحوهم الخطاب بالأمر والنهي والوعد والوعيد والمدح والذم والترغيب والترهيب؛ ثم إن الله تعالى بواجب حكمته رفع قدر المؤمنين على سائر العقلاء، وهم المقرون والقابلون أوامره ونواهيه، المنقادون لطاعته فيما رسم لهم في أحكام النواميس وموجبات العقول، التاركون لما نهوا عنه سراً وعلانية. ثم إن الله- سبحانه- رفع من المؤمنين المقرين المخلصين، واصطفى منهم طائفة وفضلهم على غيرهم، وهم العلماء والفقهاء الذين اجتهدوا في تعلم أوامر الناموس ونواهيه وأحكامه وحدوده وشرائطه بواجبها، كما ذكر الله تعالى بقول:" يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين آوتوا العلم درجات".
ثم إن الله- جل اسمه- رفع من جملة العلماء طائفة، وهم التائبون العابدون الصالحون الورعون المتقون المحسنون بما استحقوا باجتهادهم من القيام بواجبات أحكام الناموس، درجات، كما ذكر الله- عز وجل- بقوله:ط أمن هوقانت آناء الليل وقائماً، يحذر الآخرة ويرجورحمة ربه"؛ الآية. وقال تعالى:" قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولوالألباب" وقال تعالى: " تتجافى جنوبهم عن المضاجع" الآية، وآيات كثيرة في القرآن في ذكر هؤلاء ومدحهم وحسن الثناء عليهم.
ثم إن الله- جل ثناؤه- رفع من هؤلاء طائفة في الدرجات، وهم الزاهدون في الدنيا، العارفون عيوبها، الراغبون في الآخرة، المحققون بها، الراسخون في علمها، وهم أولياء الله المخلصون، وعباده المؤمنون، وصفوته من خلقه أجمعين، الذين سماهم الباري تعالى أولي الألباب، وأولي الأبصار، وأولي النهى، وأخلصهم بخالصه ذكرى الدار التي هي الحيوان؛ وإليهم أشار بقوله سبحانه:" وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار" وقوله:" إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" وآيات كثيرة في القرآن في ذكرهم ومدحهم وحسن الثناء عليهم.
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن للمؤمنين فضائل كثيرة من محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال وفضائل الأعمال وجميل الفعال؛ لا يمكن أن تجمع كلها في شخص واحد، بل في عدة أشخاص، فمقل ومكثر، ولكن ليس بعد العلم والإيمان خصلة للمؤمنين، ولا خلق من أخلاق الكرام أشرف ولا أجل ولا أفضل من الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، وذلك إن الزهد في الدنيا، إنما هوترك فضول متاع الحياة الدنيا وترك طلب شهواتها، والرضى بالقليل، والقناعة باليسير من الذي لا بد منه، وهذه خصلة تتبعها خصال كثيرة من محاسن الأخلاق وفضائل الأعمال وجميل الأفعال. وضد الزهد هوالرغبة في الدنيا والحرص في طلب شهواتها، وهي خصلة تتبعها أخلاق ردية وأفعال قبيحة وأعمال سيئة، كما تقدم ذكره، وذلك أن من خصال الزهاد وشعارهم قلة الأكل وترك الشهوات، وفي قلة الأكل وترك الشهوات خصال محمودة كثيرة، ومناقب حسنة جميلة، فمنها ما روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " أجيعوا أنفسكم تفرح بكم سكان السماء. ومنها أن الإنسان يكون أصح جسماً، وأجود حفظاً، وأزكى فهماً، وأجلى قلباً، وأقل نوماً، وأصدق رؤيا، وأخف نفساً، وأحد بصراً، وألطف فكراً، وأصغى سمعاً، وأصح حساً، وأثبت رأياً، وأقبل للعلم، وأسرع حركة، وأسلم طبيعة، وأقل مؤنة، وأوسع مواساة، واكرم خلقاً، وأثبت صحبة، وأحلى في القلوب. وقلة الأكل، إذا ساعدته القناعة، كان مزرعة الفكر، وينبوع الحكمة، وحياة الفطنة، ومصباح القلب، وطبيب البدن، وقاتل الشهوات، وهادم الوسواس، ومنزل الإلهام، وعصمة من شر النفس، وأماناً من شدة الحساب؛ والشكر له تابع، وكفر النعمة عنه زائل.
فصل في آفات الشبع
فصل في آفات الشبع وكثرة الأكل وخصال الزهاد
يروى عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد ذهاب نبيها- صلى الله عليه وسلم- الشبع وكثرته؛ وذلك أن القوم إذا شبعت بطونهم، سمنت أبدانهم، وقست قلوبهم، وجمحت نفوسهم، واشتدت شهواتهم. ومن آفات الشبع وكثرة الأكل عفونة القلب، ومرض الأجساد، وذهاب البهاء، ونسيان الرب، وعمى القلوب، وهزال الروح، وسلاح الشياطين، وحراجة الدين، وذهاب اليقين، ونسيان العلم، ونقصان العقل، وعداوة الحكمة، وذهاب السخاء، وزيادة البخل، ومزرعة إبليس، وترك الأدب، وركوب المعاصي، واحتقار الفقراء، وثقل النفس، وإدرار الشهوات، وزيادة الجهل، وكثرة فضول القول، ويزيد في حب الدنيا، وينقص الخوف، ويكثر الضحك، ويحبب العيش، وينشي ذكر الموت، ويهدم العبادة، ويقل الإخلاص، ويذهب بالحياء، ويهيج عادة السوء، ويطيل النوم، ويكثر الغفلة، ويسبب تفريق الأصحاب، ويحرج الأعمال؛ ويكدر الصفو، ويذهب الحلاوة من القلوب، ويحبب الشيطان، ويبغض الرحمن، ويكثر الغم يوم الحساب، ويقرب من النيران، ويبعد من الجنان، لأنه سبب المعاصي، ويحرك الكبر، ويثبت الحسد، ويقل الشكر، ويذهب الصبر، فهذه خمسون خصلة تهيج من الشبع وكثرة الأكل.
ويقال إن المعدة قدر الطعام، ونارها حرارة الكبد، فإذا لم ينطبخ كان سبب الأمراض المختلفة، فحسب ابن آدم أكلات تعمر بطنه، فإن غلبت الآدمي نفسه، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس.
ومن خصال الزهاد وشعارهم العفة والتصون، فهذه خصلة يتبعها أخلاق جميلة، وخصال محمحودة، وفضائل كثيرة، فمنها الكف والورع والحفظ والوقار والتقى والأمانة والمروءة والكرم واللين والسكون والمراقبة والتوقي والصحة والسلامة وحسن الثناء عليهم والتزكية لهم والغبطة والسرور ومحبة القلوب وبراءة الساحة وسكون الناس إليهم والثقة بهم والإجلال لهم والإكرام. ومن خصال الزهاد أيضاً وشعارهم السخاء والكرم والجود والبذل والمواساة والإحسان والإيثار والإفضال والرأفة والرحمة والتودد والبر والمعروف والصدقة والهدية. ومن خصالهم أيضاً وشعارهم الحلم والأناة والتثبت والرزانة والتؤدة والرفق والمداراة والسكينة والوقار والحياء والصفح والعفووالتغافل والشفقة والرحمة والعدل والنصفة والمحبة والقبول والإجابة والتواضع والاحتمال. ومن خصالهم أيضاً الرضى والقناعة والتجمل والكفاف واليأس من الطمع والراحة من العناء والتسليم للقضاء والصبر في الشدائد والبلوى وحسن العزاء. ومن خصالهم وشعارهم التوكل على الله والثقة به والطمأنينة إليه والإخلاص له في العمل والدعاء والصدق بالقول والتصديق في الضمير والنصح للإخوان والوفاء بالعهد والحزم والعزم في عمل الخير والإحسان والبر والمعروف، والمسارعة في الخيرات رغباً ورهباً، وهم من خشية ربهم مشفقون؛ فهؤلاء هم أولياء الله وخالص عباده من المؤمنين الذين يحبون الله ويحبهم، كما ذكر بقوله:" والذين آمنوا أشد حباً لله" وهم الذين يتمنون لقاءه، لما يرجون من التحية؛ قال الله تعالى:" تحيتهم يوم يلقونه سلام" فهل لك يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن ترغب في صحبتهم، وتقصد مناهجهم، وتقفوأثرهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتسير بسيرتهم، لعلك تفوز بمفازتهم" لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون".
وأعلم يا أخي بأن الطريق إلى هذه الخصال التي وصفناها هوأن تبتدئ أولاً بسنة الناموس، فتعمل بوصايا صاحبه كما هي في كتب النواميس الإلهية يعرفها أكثر علماء أهل الشريعة قد استغنينا عن ذكرها، والذي نوصيك به نحن أن تنزع عن نفسك القشور التي تعلقت عليها من صحبة الجسد، وتخلع اللباس الذي أحاط بها من الأمور الطبيعية والصفات الجسمانية، وتجلوعنها الصدأ الذي تركب عليها من أخلاط البدن وسوء الأخلاق وتراكم الجهالات وفساد الآراء، وتنحي عنها هذه الأشياء ليصفولك اللب والمخ وهوجوهر نفسك النيرة الشفافة الروحانية النورانية التي هي كلمة من كلمات الله وروح منه نفخها في الجسد وأحياه بها، وهي التي مدحها الله تعالى بقوله:ومثل كلمة طيبة" كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء" الآية. وقال:" إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" يعني به روح المؤمن إذا فارقت الجسد صعد بها إلى سعة السموات وفسحة الأفلاك فيكون سائحاً هناك حيث شاء ذهب وجاء؛ كما روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح بالنهار في الجنة على رؤوس أشجارها وأنهارها وثمارها، وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش. فهذه حال أرواح المؤمنين الصالحين بعد الموت، وأما حال أرواح الكافرين والفاسقين والفاجرين والمنافقين فلا يصعد بها إلى هناك بل تحجب دون السماء وتهيم في هاوية البرزخ إلى يوم يبعثون؛ وإليهم أشار بقوله تعالى:" لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة" إلى قوله:" وكذلك نجزي الظالمين" لأنه لا يليق بها ذلك المكان الشريف والمحل الأعلى، كما لا يليق بالأوساخ من الناس والأقذار منهم مجالس الملوك والسادة والكرام.
فإن أردت يا أخي أن تعرج بروحك إلى هناك بعد فراق الجسد، فاجتهد قبل ذلك، وأغسلها من درن الأخلاق الرديئة ووسخ الآراء الفاسدة، وأخرجها من ظلمات الجهالات المتراكمة، وجنبها الأعمال السيئة، وألبسها لباس التقوى، وزمها عن الانهماك في الشهوات الجرمانية والغرور باللذات الجسمانية. فأما الآراء الفاسدة فقد بيناها في رسالة لنا، وأما كيفية الخروج من الجهالات المتراكمة، فقد بيناها في إحدى وخمسين رسالة عملناها في فنون العلوم وغرائب الحكم وطرائف الآداب، وأما تهذيب الأخلاق فقد وصفنا بعضها في هذه الرسالة وبعضها في رسالة عشرة إخوان الصفاء، والأصدقاء الكرام، فاقرأهما واعمل بما ذكرنا فيهما، وعلمهما إخوانك وأصدقاءك، فإنك بذلك تفوز وتنال الزلفى عند ربك أبد الآبدين ودهر الداهرين مع النبين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
فصل في بيان علامات أولياء الله
عز وجل وعباده الصالحين
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن لأولياء الله صفات وعلامات كثيرة يعرفون بها ويمتازون عمن سواهم، وهكذا أيضاً لأعداء الله علامات وصفات يعرفون بها ويمتازون عن غيرهم، نحتاج أن نذكر طرفاً منها ليعلم كل عاقل فهم مميز مستبصر، إذا أراد أن يعرف من أي الفريقين هولم يخف عليه ذلك.
وأعلم يا أخي بأن العاقل الفهم المستبصر هوالذي يعرف الفرق بين الأشياء المتشابهة، ويميز بين الأمور المتجانسة ويفضل بعضها على بعض بعلامات وصفات مختصة بواحد واحد منها، فنقول الآن إن من علامات أولياء الله الصالحين المختصين به ما ذكره الله تعالى بقوله لإبليس اللعين: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" وحكي أيضاً قول إبليس مجاوباً له: فبعزتك" لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين" وآيات كثيرة في القرآن في ذكر أولياء الله وصفاتهم وعلاماتهم وهي مثل قوله تعالى:" وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون" إلى آخر الآية، وآيات كثيرة في القرآن في ذكر أولياء الله تعالى ومدحهم وصفاتهم وعلاماتهم وحسن الثناء عليهم.
ومن علاماتهم وصفاتهم أيضاً حفظ الجوارح من كل ما لا يحل في الشريعة ولا يجوز في السنة ولا يحسن في المروءة. ومن علاماتهم وصفاتهم حفظ اللسان عن الكذب والغيبة والبهتان والزور والنميمة والفحش والسفاهة والطعن واللغووالوقيعة في أحد من الخليقة عدواً كان أوصديقاً، مخالفاً كان أومؤالفاً. ومن علاماتهم أيضاً وصفاتهم وهي العمدة والأصل في جميع الخيرات والخصال المحمودة سلامة الصدر من الغل والغش والدغل والحسد والبغض والتكبر والحرص والطمع والمكر والنفاق والرياء وما أشبهها من الخصال المذمومة، ومما هي مملوءة منها قلوب أبناء الدنيا الراغبين فيها، المكبين عليها، الطالبين لها. ومن علاماتهم أيضاً وصفاتهم المختصة بهم الرحمة والتحنن ورقة القلب على كل ذي روح يحس بالآلام. ومن خصالهم أيضاً النصيحة والشفقة والرفق والمداراة والتلطف والتودد لكل من يصحبهم ويعاشرهم. ومن علامات أولياء الله وعباده المخلصين، ومن أخص صفاتهم التي يمتازون بها عن غيرهم هي معرفتهم بحقيقة الملائكة وكيفية إلهامها. وقد ذكرنا طرفاً من هذا العلم في رسالة الإيمان وماهيته وخصال المؤمنين. ومن دقيق معرفتهم ولطيف علومهم معرفة حقيقة الشياطين وجنود إبليس اللعين، وكيفية وسواسهم ومسهم كما ذكر الله سبحانه بقوله:" إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان، تذكروا، فإذا هم مبصرون، وإخوانهم؛ يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون".
ومن علاماتهم وصفاتهم ودقيق علومهم ولطيف أسرارهم معرفة البعث والقيامة والنشر والحشر والحساب والميزان والصراط والجواز، وذلك أن أكثر علماء أهل الشرائع النبوية وفقهائهم المتعبدين فيها، متحيرون في معنى الإبليسية وحقيقة إبليس المخاطب لرب العالمين بقوله: " أنظرني إلى يوم يبعثون" وأكثر العلماء شاكون في وجود هذا القائل:" لأغوينهم أجمعين" وأكثر المتفلسفة منكرون قصته مع آدم وعداوته له، وخطابه لرب العالمين، ومواجهته له بخشونة الخطاب، بما ذكر الله سبحانه في القرآن في نحومن خمسين آية مثل قوله:" ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين" وآيات كثيرة في أمثال هذه الحكايات موجودة في التوراة والإنجيل، وصحف الأنبياء- عليهم السلام- كثيرة، وقد بينا نحن معانيها في رسالة البعث والقيامة، ولكن نريد أن نذكر في هذا الفصل منها طرفاً في كيفية عداوة أولياء الله تعالى مع إبليس، وكيفية محاربتهم مع الشياطين ومخالفتهم معهم طول أعمارهم ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، وإنه لا يخفى عليهم مكايدهم، ولا يذهب عنهم غرورهم وأمانيهم.
فصل فما حكاه ولي من أولياء الله عن كيفية معرفة مكايد الشياطين ومحاربته معهم ومخالفته جنود إبليس أجمعين قال العالم المستبصر لأخ له من أبناء جنسه فيما جرى بينهما من المذاكرة في أمر الشياطين وعداوتهم: كيف عرفت الشياطين ووساوسهم، قال: إني لما نشأت وتربيت، وشدوت من الآداب طرففاً، وأخذت من العلم نصيباً، وعقلت من أمر المعاش قسطاً، وعرفت أمر المنافع والمضار، تبينت ما يجب علي من أحكام الناموس من الأوامر والنواهي والسنن والفرائض والأحكام والحدود والوعد والوعيد والذم والمدح على الأعمال والأفعال وعلى تركها، ثم قمت بواجبها جهدي وطاقتي بحسب ما وفقت له وقضي علي ويسر لي. ثم تفكرت في قول الله تعالى:" إن الشيطان لكم عدوفاتخذوه عدواً" وقوله:" إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً" وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى، وتفكرت في قول النبي- صلى الله عليه وآله-: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، يعني مجاهدة النفس، وتصديقه قول الله تعالى:" ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه" وفكرت في قوله- عليه السلام-" لكل إنسان شيطانان يغويانه" وقوله:" إن شيطاني أعانني الله عليه فأسلم"، وقوله:" إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" وتصديق ذلك قول الله تعالى:" من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس" إلى آخر السورة، وقوله تعالى:" إنه يراكم هووقبيلته من حيث لا ترونهم" وآيات كثيرة في القرآن في مثل هذا المعنى وأحاديث مروية أيضاً في هذا المعنى كثيرة.
فلما سمعت ما ذكر الله تعالى وتفكرت فيما روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في هذا المعنى، نظرت عند ذلك بعقلي، وفكرت بقلبي، وتأملت برويتي، فلم أر أحداً في ظاهر الأمر يضادني في هذا المعنى ولا يخالفني ولا يعاديني من أبناء جنسي، وذلك لأني وجدت الخطاب متوجهاً عليهم كلهم مثل ما هومتوجه علي، ووجدت حكمهم في ذلك حكمي سواء لا فرق بيني وبينهم في هذا الأمر، فعلمت أن هذا أمر عموم يشمل جميع بني آدم ويعمهم. ثم تأملت وبحثت ودققت النظر، فوجدت حقيقة معنى الشياطين، وكثرة جنود إبليس اللعين أجمعين، ومخالفتهم بني آدم، وعدواتهم لهم، ووساوسهم إياهم، هي أمور باطنة وأسرار خفية مركوزة في الجبلة، مطبوعة في الخليقة، وهي الأخلاق الرديئة، والطباع المذمومة المنتشئة منذ الصبا مع الإنسان بالجهالات المتراكمة، واعتقادات آراء فاسدة من غير معرفة ولا بصيرة، وما يتبعها من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة المكتسبة بالعادات الجارية، الخارجة من الاعتدال بالزيادة والنقصان، المنسوبة إلى النفس الشهوانية والنفس الغضبية، ثم تأملت ونظرت، فوجدت الخطاب في الأمر والنهي والوعد والوعيد والمدح والذم متوجهاً كله إلى النفس الناطقة العاقلة المميزة المستبصرة، ووجدتها هي بما توصف من الأخلاق الجميلة والمعارف الحقيقة والآراء الصحيحة والأعمال الزكية ملكاً من الملائكة بالإضافة إلى النفس الشهوانية والغضبية جميعاً. ووجدت هاتين النفسين، أعني الشهوانية والغضبية، بما توصفان به توصفان به من الجهالات المتراكمة، والأخلاق المذمومة، الطباع المركوزة، والأفعال القبيحة التي لهما بلا فكر ولا روية كأنهما شيطانان بالإضافة إلى النفس الناطقة.
ثم تأملت وبحثت ودققت النظر، فوجدت جميع الأعمال الزكية والأفعال الحسنة التي هي منسوبة إلى النفس الناطقة إنما هي لها بحسب آرائها الصحيحة واعتقاداتها الجميلة. ثم وجدت تلك الآراء والاعتقادات إنما هي لها بحسب أخلاقها المحمودة المكتسبة بالاجتهاد والروية، والعادات الجارية العادلة، أوما كانت مركوزة في الجبلة، فتبينت عند ذلك، وعرفت بهذا الاعتبار أن أصل جميع الخيرات وصلاح الإنسان كلها هي الأخلاق المحمودة المكتسبة بالاجتهاد والروية، والمركوزة في الجبلة، وتبين لي وعرفت أيضاً أن أصل جميع الشرور وفساد أمور الإنسان كلها هي الأخلاق المذمومة المكتسبة بالعادات الجارية منذ الصبا من غير بصيرة، وأما ما كانت مركوزة في الجبلة؛ فلما تبين لي ما قلت، وعرفت حقيقة ما وصفت، تأملت قول النبي-صلى الله عليه وعلى آله أجمعين: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" وقول الله تعالى:" إن الشيطان لكم عدوفاتخذوه عدواً" يعني خالفوه وحاربوه كما تحاربون أعدائكم المشركين، فتبين لي بقول النبي - صلى الله عليه وسلم وقول الله- عز وجل- أن العدوجنسان والعداوة نوعان والجهاد قسمان: أحدهما ظاهر جلي، وهوعداوة الكفار والمخالفين في الشريعة، وحربهم وجهادهم، والاخر باطن خفي، وهوعداوة الشياطين المخالفين في الجبلة المتضادين في الطبيعة، وتبين أن حربهم وعداوتهم وخلافهم هي الحقيقة، وعداوة الكفار وحربهم هي العرضية. وذلك أن عداوة الكفار هي من أجل أسباب دنيوية، وعداوة الشياطين من أجل أسباب دينية، وإن غلبتهم وظفرهم يعرض منها شقاوة الدنيا، ويفوت العز والسلطان والتمتع باللذات الدنيوية ونعيمها وطيب عيشها، ثم تزول يوماً ما. وأما عداوة الشياطين وغلبتهم وظفرهم فيعرض منها شقاوة الآخرة وعذابها، ويفوت عزها وسلطانها ونعيمها ولذاتها وسرورها وفرحها وروحها وريحانها ودوامها، فبحسب التفاوت ما بين هذين الأمرين، قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم:" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" وما ذكر الله سبحانه في القرآن في عدة سور في آيات كثيرة من التحذير من مكر الشياطين والغرور بخطراتهم، والأمر بمخالفتهم وعداوتهم والجهاد لهم، إذ كان الخطب فيهم أجل والخطر أعظم، بحسب التفاوت ما بين السعادتين في الدنيا والآخرة والشقاوة فيهما، فلما تبين لي ما ذكرت وعرفت حقيقة ما وصفت، تبين لي أعدائي وشياطيني ومخالفي ومن يريد أن يغويني عن رشدي ويضلني عن هداي الذي دعاني إليه ربي وإلهي وأوصاني به، وما نصحني نبيي- عليه السلام- ببيانه لي، وعلمت أني إن لم أقبل وصية ربي ونصيحة نبيي، وأني متى توانيت وتركت الاجتهاد في مخالفة أعدائي وعدواتهم غلبوني وظفروا بي، وأسروني وملكوني واستخدموني في أهوائهم ومراداتهم المشاكلة لأفعالهم السيئة، وصارت تلك الأشياء عادة لي وجبلة في وطبيعة ثانية، فتصير نفسي الناطقة التي هي جوهرة شريفة شيطانة مثلهم، فأكون قد هلكت وبقيت في عالم الكون والفساد مع الشياطين معذباً كما قال الله سبحانه:" كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها" الآية، وكقوله تعالى: " لابثين فيها أحقاباً" الآية.
ثم تفكرت وعرفت وتبين لي أني إذا قبلت وصية ربي ونصيحة نبيي، واقتديت بهما، واستعنت بربي وشمرت واجتهدت وخالفت هوى نفسي الشهوانية، وعاديت نفسي الغضبية، وحاربت أعدائي المخالفين لنفسي الناطقة، فإني أظفر بهم وأغلبهم بقوة ربي، وأملكهم بإذنه، وأستعبدهم بحوله وقوته، وأكون ملكاً عليهم وسلطاناً، ويصيرون كلهم عبيداً لي وخدماً وخولاً، فأصرفهم تحت أمر نفسي الناطقة ونهيها، وتكون هي عند ذلك ملكاً من الملائكة بإظهار أفعالها الحسنة وأعمالها الزكية وأخلاقها الجميلة وآرائها الصحيحة ومعارفها الحقيقية، وتكون هاتان النفسان الباقيتان، أعني الشهوانية والغضبية، عبدين مقهورين لها وتحت أمرها ونهيها، ويكون جميع أخلاقهما وسجاياهما كالجنود والأعوان والخدم والعبيد للنفس الناطقة، مسوسين بسياسة عادلة، جارية على هذا السداد، كما رسم في الشريعة الوضية أوفي الموجبات العقلية، فأكون عند ذلك قد فعلت ما وصاني به ربي بقولي وفعلي بقوله:" إن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه" الآية، وقال لنبيه- عليه السلام-:" قل هذه سبيلي أدعوإلى الله" الآية.
فلما تبين لي ما ذكرت وعرفت حقيقة ما وصفت، نظرت عند ذلك في أحوالي وتفكرت في تصاريف أموري، فوجدت بنية هيكلي مركبة من أخلاط ممتزجة، متضادة القوى، مركوزة فيها شهوات مختلفة، فتأملها فإذا هي كأنها نيران كامنة في أحجار كبريتية، ووجدت وقودها هي المشتهيات من ملاذ الدنيا ونعيمها، ووجدت اشتعال تلك النيران عند الوقود كأنها حريق لا يطفأ ولهب لا يخمد، أوكأمواج بحر متلاطمة، أورياح عاصفة تدمر كل شيء، أوكعساكر أعداء حملت في غارة، وذلك أني وجدت حرارة شهوات المأكولات والمشروبات في نفسي عند هيجان نار الجوع والظمأ كأنها لهب النيران التي لا تطفأ، ووجدت نفسي الشهوانية عند الأكل والشرب من الشره كأنها كلاب وقعت على جيف تنهش، ووجدت حرارة الحرص في نفسي عند هيجان نار الطمع كأنها حريق تلهب الدنيا كلها، ووجدت نفسي عند ذلك كأنها وعاء لا يمتلئ من جميع ما في الدنيا من المتاع، ووجدت حرارة الغضب في نفسي الحيوانية عند هيجان نار الحركة كأنها حريق ترمي بشرر كالقصر، ورأيتها عند هيجان حرارة نار الافتخار والمباهاة كأنها خير خليقة الله وأشرفهم، ورأيتها عند هيجان نار حرارة شهوة الرياسة وتملكها لها كأن الناس كلهم عبيد لها وخول، ورأيتها عند هيجان حرارة نار شهوة الكرامة وطلبها كأنها دين لازم حال؛ ورأيتها عند هيجان نار طلب خدمة خولها كأنها ترى الطاعة لها حتماً فريضة كالطاعة لله، وكالحتم والفريضة، ورأيتها عند قضاء ما يجب عليها من حق من حقوق غيرها متوانية في تأديته كأنها ناقلة أجبال، وكأنها عليها أحمال ثقيلة، ورأيت حركتها عند اللهوواللعب كأنها مجنونة والهة سكرانة؛ ورأيتها عند محبة المدح والثناء عليها كأنها أعقل الناس وأفضلهم وأجلهم؛ ورأيتها عند هيجان نار الحسد كأنها عدويريد خراب الدنيا وزوال النعم عن أهلها وحلول النقم بهم؛ وعلى هذا المثال وجدت ورأيت سائر أخلاقها الرديئة وخصالها المذمومة وأعمالها السيئة وأفعالها القبيحة وآرائها الفاسدة، فعملت عند ذلك أن هذه كلها نيران لا تخمد وحريق لا يطفأ، وأعداء لا يتصالحون، وحرب لا تهدأ وقتال لا يسكن، وداء لا يبرأ ومرض لا يشفى، وعناء طويل، وشغل لا يفرغ منه إلى الموت.
فشمرت عند ذلك بالعزم الصحيح والنية الصادقة، وشددت وسطي بإزار الحزم، وأخذت سلاح الاجتهاد، وارتديت براءة الورع، ولبست قميص الحياء وتسربلت سربال الجد، ووضعت على رأسي تاج الزهد في الدنيا، وأثبت قدمي على التقوى، وأسندت ظهري إلى الله بالتوكل عليه، وجعلت شعاري الخوف منه والرجاء، وزممت قوى نفسي بالنهي، وفتحت عيني بالنظر إلى إشارة المعلم، وجعلت دليلي حسن الظن بربي، وسلكت منهاج السنة، وقصدت الصراط المستقيم للقاء ربي وناديته نداء الغريق، ودعوته دعوة المضطر، وأقررت بالعجز والتقصير، وطرحت نفسي بين يديه بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وتضرعت إليه مثل الصبي إلى والده الشفيق الرفيق. فلما رآني ربي على تلك الحال سمع ندائي وأجاب دعائي ورحم ضعفي، وأعطاني سؤلي، وأمدني بجنوده، ودلني على مكايد أعدائي، فغزوتهم مع ملائكته، وأظفرني بهم وأعانني عليهم وحرسني من غرورهم وأحرزني من خطواتهم، وسلمت من خطر كيدهم، وفزت بالغنيمة سالماً غانماً، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً، وجند الله كانوا هم الغالبين، وحزب الشيطان كانوا هم الخاسرين، وكل هذا من فضل ربي ليبلوني: أأشكر أم أكفر:" ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم".
فصل في حكاية أخرى
عن ولي من أولياء الله تعالى لما تفكر في معنى التكليف والبلوى، ولم يتجه له وجه الحكمة فيهما، قال في مناجاته: رب خلقتني ولم تستأمرني، وتوفيتني ولم تستشرني، وأمرتني ونهيتني، ولم تخيرني، وسلطت علي هوى مؤذياً وشيطاناً مغوياً، وركبت في نفسي شهوات مركوزة، وجعلت في عيني دنيا مزينة، وخوفتني وزجرتني بوعيد وتهديد، وقلت لي: فاستقم كما أمرت ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيلي، واحذر الشيطان لا يغوينك، والدنيا لا تغرنك، وتجنب شهواتك لا تردك، وأمانيك وآمالك أن تلهيك. وأوصيك بأبناء جنسك فدارهم، ومعيشة الدنيا فاطلبها من وجه الحلال، وأما الآخرة فلا تنسها ولا تعرض عنها فتخسر الدنيا والآخرة، وذلك هوالخسران المبين، فقد حصلت يا رب بين أمور متضادة، وقوى متجاذبة، وأحوال متغالبة، فلا أدري كيف أعمل، ولا أي شيء أصنع، وقد تحيرت في أموري، وضلت عني حيلتي، فأدركني يا رب وخذ بيدي، ودلني على سبيل نجاتي، وإلا هلكت.
فأوحى الله- سبحانه- إليه وألقى في سره وألهمه وقال: يا عبدي أمرتك بشيء تعاونني فيه، ولا نهيتك عن شيء كان يضرني إن فعلته، بل إنما أمرتك لتعلم بأن لك رباً وإلهاً هوخالقك ومصورك ورازقك ومنشيك وحافظك وهاديك وناصرك ومعينك، ولتعلم بأنك محتاج في جميع ما أمرتك به إلى معاونتي وتوفيقي وهدايتي وتيسيري وعنايتي، ولتعلم أيضاً بأنك محتاج في جميع ما نهيتك عنه إلى عصمتي وحفظي ورعايتي، وإنك محتاج في جميع متصرفاتك وأحوالك في جميع أوقاتك من أمر دنياك وآخرتك ليلاً ونهاراً إلى تأييدي لك، وإنه لا يخفى علي من أمرك صغيرة ولا كبيرة سراً وعلانية، وليتبين لك وتعرف إنك محتاج ومفتقر إلي، وأنك لا بد لك مني، فعند ذلك لا تعرض عني ولا تنساني، بل تكون في دائم الأوقات في ذكري، وفي جميع أحوالك تدعوني، وفي جميع حوائجك تسألني، وفي جميع متصرفاتك تخاطبني، وفي جميع خلواتك تناجيني وتشاهدني وتراقبني، وتكون منقطعاً إلى عن جميع خلقي، ومتصلاً بي دونهم، وتعلم أني معك حيث ما تكون أراك ولا تراني، فإذا عرفت هذه كلها، وتيقنت وبان لك حقيقة ما قلت وصحة ما وصفت، تركت كل شيء وراءك، وأقبلت علي وحدك، فعند ذلك أقربك مني وأوصلك إلي وأرفعك عندي وتكون من أوليائي وأصفيائي وأهل جنتي في جواري مع ملائكتي مكرماً مفضلاً فرحاً مسروراً منعماً ملتذاً آمناً أبداً دائماً سرمداً. فلا تظن بي يا عبدي الظن السوء، ولا تتوهم على غير الحق، واذكر سالف إنعامي عليك وقديم إحساني إليك وجميل آلائي لديك، إذ خلقتك ولم تكن شيئاً مذكوراً خلقاً سوياً، وجعلت لك سمعاً لطيفاً، وبصراً حاداً، وحواس دراكة، وقلباً ذكياً وفهماً ثاقباً، وذهناً صافياً، وفكراً لطيفاً، ولساناً فصيحاً، وعقلاً رصيناً، وبنية تامة، وجناناً ثابتاً، وصورة حسنة، وأعضاء صحيحة، وأدوات كاملة، وجوارح طائعة؛ ثم ألهمتك الكلام والمقال، وعرفتك المنافع والمضار؛ وكيفية التصرف في الأحوال والصنائع والأعمال، وكشفت الحجب عن بصرك، وفتحت عينيك لتنظر إلى ملكوتي وترى عجائب فعلي، وتقدير مجاري الليل والنهار، والأفلاك الدوارة والكواكب السيارة؛ وعلمتك حساب الأوقات والأزمان والشهور والأعوام، وسخرت لك ما في البر والبحر من المعادن والنبات والحيوان تتصرف فيها تصرف الملاك، وتتحكم عليها تحكم الأرباب، فلما رأيتك متعدياً وجائراً ظالماً طاغياً باغياً متجاوزاً للحدود والمقدار، عرفتك الحدود والأحكام والقياس والمقدار والعدل والإنصاف والحق والصواب والخير والمعروف والسيرة العادلة، ليدوم لك الفضل والنعم وينصرف عنك العذاب والنقم، وعرضتك لما هوخير وأفضل وأجل وأشرف وأعز وأكرم وألذ وأنعم، ثم أنت تظن بي ظنون السوء وتتوهم غير الحق.
يا عبدي، إذا تعذر عليك فعل شيء مما أمرتك به، فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، كما قال حملة العرش لما ثقل عليهم حمله. وإذا أصابتك مصيبة، فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، كما يقول صفوتي وأهل ولايتي. وإذا زلت بك القدمان في معصيتي، فقل كما قال صفيي آدم وزوجته:" ربنا ظلمنا أنفسنا" إلى آخر الآية. وإذا أشكل عليك أمر وأهمك رأي وأردت رشداً وقولاً صواباً، فقل كما قال خليلي إبراهيم:" الذي خلقني فهو يهدين، والذي هويطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين" إلى آخر الآيات إلى قوله:" إلا من أتى الله بقلب سليم". وإذا أصابتك مصيبة أوغم أوحزن، فقل كما قال يعقوب إسرائيل:" إنما أشكوبثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون" وقال:" يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن" الآية. وإذا جرت منك خطيئة، فقل كما قال موسى نجيي:" وهذا من عمل الشيطان" الآية. وإذا صرفت عنك معصية، فقل كما قال يوسف الصديق:" وما أبرئ نفسي" الآية. وإذا ابتليت بفتنة فافعل كما فعل داود خليفتي: " فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب". وإذا رأيت العصاة من خلقي والخاطئين من عبادي ولا تدري ما حكمي فيهم فقل كما قال المسيح روحي:" إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم". وإذا استغفرتني وطلبت عفوي فقل كما قال محمد نبيي- صلى الله عليه وآله وأنصاره:" ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أوأخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا؛" إلى آخر السورة. وإذا خفت من عواقب الأمور ولا تدري بماذا يختم لك، فقل كما قال أصفيائي:" ربنا لا تزغ قلوبنا بعد أن هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب".
فصل في فضل التوبة والاستغفار والدعاء
وأعلم يا اخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الله- عز وجل- لم يذكر ذنوب أنبيائه وخطاياهم في القرآن، شنعة عليهم، ولا تقبيحاً لآثارهم، ولا لسوء الثناء عليهم، ولكن ليكون للباقين قدوة بهم في التوبة والندامة، والرجوع عن الذنوب، والاستغفار لله- عز وجل- والإنابة إليه، كما أمر الله بقوله:" توبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون" وقال الله تعالى:" إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين" يعني الذين لم يدنبوا، وقال لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم-:" قل يا عبادي الذين أسرفوا" الآية، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
ويروى عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لولا أن بني آدم إذا أدنبوا تابوا واستغفروا، فيغفر الله لهم، لخلق الله خلقاً يذنبون فيتوبون ويستغفرون، فيغفر لهم. وإنما ذكرنا هذه الحكايات لكيما تتفكر فيها وتعتبر، وما ذكر الله من أخبار رسوله وقصص أوليائه، فلا تيأس من روح الله ولا تقنط من رحمته، إذا سمعت قول الذين لا يعلمون، وذلك أن قوماً من أهل الحشوية؛ والجدل يتعصبون في الورع من غير حقيقة، ولا معرفة بأحكام الدين، فيكفرون المؤمنين بالذنوب، ويفسقونهم ويحكمون لهم بالخلود في النار بغير علم ولا بيان، بل بقياسات لفقوها لهم وسولوها بعقولهم الناقصة، وحكموا بها بزعمهم، فلا جرم أنهم انقطعوا عن الله ويئسوا من روحه وقنطوا من رحمته.
وأعلم يا أخي- ايدك الله وإيانا بروح منه- بأن لكل طائفة من المؤمنين وجماعة من المتدينين صناعة ينفردون بها عن غيرهم، أوحرفة يمتازون بها عمن سواهم، وأن من صنعة أولياء الله وعباده الصالحين الدعاء إلى الله بالتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، على بصيرة ومعرفة ويقين وحقيقة كما ذكر الله تعالى وأخبر عنهم واحداً واحداً.
من ذلك حكاية عن رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه قوله:" أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم" إلى قوله:" فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب" ومن ذلك قوله:" يا ليت قومي يعلمون" الآية، وقوله حكاية عن نفر من الجن قولهم: " يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم" إلى آخر الآية. ومن ذلك قوله:" إنهم فتية آمنوا بربهم" الآية. ومن ذلك قوله حكاية عن أحد الأخوين في الدنيا:" أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً" إلى قوله:" فلن تستطيع له طلباً"، وقوله عن أخ مؤمن في الآخرة قوله لأهل الجنة:" إنه كان لي قرين يقول أإنك لمن المصدقين" إلى آخر الآية. ومن ذلك قوله حكاية عن لقمان:" يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أوفي السموات أوفي الأرض يأت بها الله" الآية.
ومن ذلك قوله حكاية عن السحرة لفرعون:" إنما تقضي هذه الحياة الدنيا" إلى آخر الآيات ومن ذلك قوله حكاية عن العلماء المستبصرين في أمر الآخرة إذ قالوا لقومهم المريدين الحياة الدنيا، إذ قالوا:" يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، إنه لذوحظ عظيم. وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن" إلى آخر الآية. ومن ذلك قول أصحاب طالوت؛ وقال الذين لا يعلمون:" لا طاقة لنا اليوم بجالوت؛ وجنوده. وقال الذين يظنون أنهم ملاقوالله: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين" ومن ذلك قول أتباع المسيح: إذ قال المسيح:" من أنصاري إلى الله، قال الحواريون: نحن أنصار الله" وقول أتباعه أيضاً لما سمعوا القرآن:" وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق" الآية، ومن ذلك قول المؤمنين العارفين المستبصرين:" ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة، أنك أنت الوهاب" وآيات كثيرة في القرآن في صفات المؤمنين، وعلامات أولياء الله، وكلام عباد الله الصالحين.
فهذه الكلمات والأقاويل وأمثالها من كلام أولياء الله وعباده الصالحين المستبصرين تدل على أنهم يعرفون حقيقة المعاد وحقيقة أمر الآخرة، وهؤلاء العلماء بأسرار النبوات والمتخرجون بالرياضات الفلسفية، وهم ورثة الأنبياء، وصناعتهم الدعاء إلى الله وإلى الدار الآخرة التي هي دار الحيوان لوكانوا يعلمون، يعني أبناء الدنيا.
ومن صناعتهم أيضاً التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة بضروب الأمثال، والوصف البليغ، والمواعظ الحسنة، والحكمة البالغة، والتذكار والبشارة والإنذار، بمعرفة واستبصار ويقين ودراية، بلا شك ولا ريبة. وقال الله تعالى في مدحهم:" ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً، وقال إنني من المسلمين".
ومن علامات أولياء الله أيضاً وصفات عباده الصالحين أنهم لا يذكرون في مجالسهم وخلواتهم أحداً إلا الله، ولا يتفكرون إلا في مصنوعاته، ولا ينظرون إلا إلى فنون إحسانه وعظيم إنعامه وجميل آلائه، ولا يعلمون إلا لله، ولا يخدمون إلا إياه، ولا يرغبون إلا إليه، ولا يرجون إلا منه، ولا يسألون إلا هو، ولا يخافون غيره، وهم من خشيته مشفقون. كل ذلك لصحة آرائهم وتحقق اعتقادهم في ربهم، وشدة استبصارهم أنه لا يقدر على ذلك بالحقيقة إلا الله تعالى. وهذا الاعتقاد الحق والرأي الصحيح الجميل، ينتج لهم من صحة معرفتهم بربهم وتيقن علمهم به، وذلك أنهم يرونه رؤية الحق في جميع متصرفاتهم، ويشاهدونه في كل حالاتهم، لا يسمعون إلا منه، ولا ينظرون إلا إليه، ولا يرون غيره على الحقيقة، فمن أجل ذلك انقطعوا إليه عن الخلق، واشتغلوا بالخالق عن المخلوق، وبالرب عن المربوب، وبالصانع عن المصنوع، وبالمسبب عن السبب، وتساوت عندهم الأماكن والأزمان، وانمحقت الأغيار؛ عند رؤيتهم حقيقته، فتركوا الشك وأخذوا باليقين، وباعوا الدنيا بالدين، وربحوا السلامة من التعب والعناء، وعاشوا في الدنيا آمنين، ورحلوا عنها سالمين، ووصلوا إلى الآخرة غانمين، لأنهم كانوا في الدنيا محسنين، وما على المحسنين من سبيل.
وقد ذكر الله تعالى نعت هؤلاء القوم في القرآن في آيات كثيرة، وأثنى عليهم ومدحهم.
ووردت عن النبي- عليه السلام- أخبار كثيرة في نعتهم وصفتهم ومدحهم وحسن الثناء عليهم، ومن ذلك ما روي عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لا يزال في هذه الأمة أربعون رجلاً من الصالحين على ملة إبراهيم الخليل، عليه السلام. فقيل: يا رسول الله، خبرنا عن ملة إبراهيم عند ربه. فقال: إنه كان حنيفاً مسلماً سليم القلب، وذلك أنه لما هم به قومه يقذفونه في النار، بكت الملائكة في السماء رحمة له، فأوحى الله- سبحانه- إلى جبرائيل: أن الحقه وأعنه إن استعان بك، فجاء جبرائيل- علسه السلام- وهو؛ في المنجنيق، ليرمى به في النار. فقال له: يا إبراهيم هل لك من حاجة، فلشدة تعلق قلبه بربه وتوكله عليه، وثقته بوعده، ويقينه بتخليصه إياه، واستغنائه عمن سواه، قال: أما إليك فلا. فعند ذلك قال الله تعالى:" يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم." ويقال إن من هؤلاء الأربعين رجلاً أربعة منهم الأبدال؛ وإنما سموا الأبدال لأنهم بدلوا خلقاً بعد خلق، وصفوا تصفية بعد تصفية.
وذلك أن هؤلاء الأربعين منتقون من جملة أربعمائة من الزاهدين العارفين المحققين منتقون من أربعة آلاف من المؤمنين التائبين المخلصين، وكلما مضى شخص من الأربعة قام في رتبته شخص من الأربعين؛ وإذا مضى من الأربعين قام في رتبته شخص من الأربعمائة؛ وإذا مضى شخص من الأربعمائة ارتقى إلى منزلته شخص من الأربعة الآلاف، فبلغ مرتبته وقام مقامه؛ وكلما مضى شخص من الأربعة الآلاف ارتقى مكانه بدلاً منه واحد من المؤمنين التائبين المخلصين، فبلغ درجته وقام مقامه؛ وإليهم أشار أمير المؤمنين علي- عيله السلام- بقوله لكميل بن زياد: أولئك الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح حقيقة اليقين، إلى آخر كلامه. وفيهم يقول: صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى. وإليهم أشار موسى- عليه السلام- بقوله في مناجاته: يا رب إني أجد في التوراة نعت رجال كادوا يكونون أنبياء من قوة التمييز والمعرفة والصلاح، من هم يا رب، اجعلهم من أمتي، فأوحى الله تعالى إليه وقال الله: تلك أمة أحمد، وإليهم أشار بقوله تعالى:" ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله." وأعلم يا أخي بأن هؤلاء القوم الذين تقدم ذكرهم هم ورثة أنبياء الله وخلفاء رسله في الأرض، وأن الذي ورثوه منهم إنما هوالعلم والإيمان والتعبد، وقبول التأييد والإلهام، والزهادة في الدنيا وترك طلبها، والرغبة في الآخرة والاشتياق إليها، وذلك أنهم متشبهون بالملائكة في أفعالهم وأخلاقهم وسرتهم من تركهم الشهوات الجسمانية، وإعراضهم عن اللذات الحسية المركوزة في الطبيعة، بالامتناع عنها بعد المقدرة عليها، مع شدة مجاذبة الطبيعة لهم إليها، وهم يتركونها باجتهاد منهم وعناية شديدة بعد الفكر والروية، ويختارون الشدة على الرخاء، والتعب على الراحة، ومخالفة الهوى وحمل ثقل التعبد على النفس؛ وكل ذلك لمرضاة الله والاقتداء بأنبيائه ورسله في سنة الدين، فلا جرم أنهم ملائكة بالقوة، فإذا فارقت نفوسهم أجسادهم، كانت ملائكة بالفعل، فهذا الذي كان الغرض من رباط النفس بالجسد، أن تصير النفس الناطقة ملكاً من الملائكة بالفعل بعدما كانت بالقوة.
وأعلم يا أخي بأنه لولم يكن في قوة النفس الناطقة أن تصير ملكاً بالفعل، لما جاءت الوصية من الله تعالى لها بأمرها بالتشبه بالملائكة في أفعالها وأخلاقها وسيرتها، ولا كانت موعودة بملاقاتها ومخاطبتها مثل قوله- جل ثناؤه-:" تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون" يعني المؤمنين عند قبض أرواحهم مثل قوله تعالى:" الذين تتوفاهم الملائكة طيبين، يقولون: سلام عليكم، ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون". ومثله قوله تعالى:" والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار" وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى يطول تعدادها.
وأعلم يا أخي أن هؤلاء الذين ذكرناهم من الصالحين هم الذين سماهم الله تعالى أولي الألباب وأولي النهى وأولي الأبصار، وهم أولياء الله وأحباؤه، وإليهم أشار بقوله تعالى لإبليس: " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" وهم المفلحون وهم الفائزون وإليهم أشار رسول الله- صلىالله عليه وسلم- في وصيته لأبي هرية بقوله: عليك يا أبا هريرة بطريق أقوام إذا فزع الناس لم يفزعوا، وإذ طلب الناس الأمان من النار لم يخافوا. قال: من هم يا رسول الله، عدهم لي وصفهم حتى أعرفهم. قال: قوم من أمتي في آخر الزمان يحشرون يوم القيامة محشر الأنبياء، إذا نظر إليهم الخلائق ظنوهم أنبياء مما يرون من حالهم، حتى أعرفهم أنا بسيماهم فأقول: أمتي أمتي، ليعرف الخلائق أنهم ليسوا بأنبياء. ويمرون مثل البرق والريح يغشى أبصار الجميع نورهم. قلت: يا رسول الله مرني بمثل عملهم لعلي ألحق بهم. قال: يا أبا هريرة إن القوم ارتكبوا طريقاً صعباً لحقوا بدرجة الأنبياء، آثروا الجوع بعدما أشبعهم الله، والعطش بعدما أرواهم الله، والعري بعدما كساهم الله، تركوا ذلك رجاء ما عند الله، تركوا الحلال مخافة حسابه، صحبوا الدنيا بأبدانهم، من غير أن تعلق بشيء منها قلوبهم، تعجب الأنبياء والملائكة من طاعتهم لربهم، فطوبى لهم، وددت أن الله جمع بيني وبينهم، ثم بكى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شوقاً إلى رؤيتهم، ثم قال: إذا أراد الله- سبحانه- بأهل الأرض عذاباً، فنظر إليهم إن كان واحد منهم صرف العذاب عنهم، فعليك، يا أبا هريرة، بطريقتهم، فمن خالف طريقتهم، وقع في شدة الحساب.
وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طوبى لإخواني، قيل: يا رسول الله، أولسنا إخوانك، قال: أنت أصحابي، وأولئك إخواني. قيل: من هم إخوانك يا رسول الله- صلى الله عليك، قال: قوم يكونون في آخر الزمان يؤمنون بي ولم يروني، يصدقونني ويتبعونني، هم إخواني وأنتم أصحابي، طوبى لهم، وإليهم أشار بقوله في وصيته لأسامة بن زيد: عليك بطريق الجنة، وإياك أن تختلج بدونها. قال: يا رسول الله، ما أيسر ما يقطع به تلك الطريق، قال: الظمأ في الهواجر، وكسر النفوس عن لذة الدنيا. يا أسامة، عليك بالصوم، فإنه يقرب إلى الله، إنه ليس شيء أحب إلى الله من ريح فم الصائم وترك الطعام والشراب لله تعالى، فإنك إن استطعت أن يأتيك الموت وبطنك جائع، وكبدك ظمآن، فافعل، فإنك تدرك بذلك أشرف المنازل في الآخرة وتحل مع النبيين- عليهم السلام- وتفرح الأنبياء والملائكة بقدوم روحك عليهم، ويصلي عليك أهل الجنان. إياك، يا أسامة، ودعاء كل كبد جائع، قد أذابوا اللحوم وأحرقوا الجلود في الرياح والسمائم، وأظمأوا الأكباد حتى غشيت أبصارهم، فإن الله- سبحانه- إذا نظر إليهم باهى كرام الملائكة بهم، بهم يصرف الله الزلازل والفتن حيث كانوا. ثم بكى رسول الله شوقاً إلى رؤيتهم، حتى اشتد بكاؤه وعلا نحيبه، وهاب الناس أن يتكلموا، حتى ظنوا أنه أمر حدث من السماء. ثم قال: ويح لهذه الأمة ما يلقى منهم من اطاع الله فيهم، كيف يقتلونهم ويكذبونهم من أجل أنهم أطاعوا الله، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله- والناس يومئذ على الإسلام- قال: نعم، قال: فيم يقتلون من أطاع الله، قال: ياعمر، ترك القوم الطريق، وركبوا فره؛ الدواب، ولبسوا الحرير والديباج واللين من الثياب، وأكلوا الطيبات، وشربوا بارد الشراب، وجلسوا على أرائكهم متكئين، وخدمهم أبنار فارس والروم. يتزين الرجل منهم زينة المرأة لزوجها، ويتبرج النساء بزي كسرى بن هرمز والملوك الجبابرة، ويسمنون أبدانهم، ويتباهون بالكساء واللباس، فإذا نظروا أولياء الله، وعليهم العباء، منحنية أصلابهم، قد ذبحوا أنفسهم من شدة العطش، وإن تكلم منهم متكلم كذب وأبعد وطرد، وقيل: قرين الشيطان ورأس ضلالة، يحرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق، فأولوا كتاب الله بغير تأويله، واستذلوا أولياء الله وأخافوهم. يا أسامة، إن أقرب الناس إلى الله، يوم القيامة، من طال حزنه وجوعه وعطشه في الدنيا، هم الأخيار الأبرار الذين إن شهدوا؛ لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، يعرفهم أهل السماء، ويخفون على أهل الأرض، تشتاق إليهم البقاع وتحف بهم الملائكة، ينعم الناس بالدنيا، وينعمون بالجوع والعطش، لبس الناس لين الثياب، ولبسوا الخشن، افترش الناس الوطاء؛ وافترشوا هم الجباه والركب، ضحك الناس وبكواهم. يا أسامة، ألا لهم الشرف الأعلى يوم القيامة، وددت أني رأيتهم، وبقاع الأرض لهم رحيبة، والجبار عنهم راض، والراغب إلى الله من رغب فيما رغبوا، والخاسر من خالفهم، تبكي الأرض إذا فقدتهم، ويسخط الجبار على بلد ليس فيه منهم أحد. يا أسامة، إذا رأيت أحدهم في قرية، فأعلم أنه أمان لأهلها، لا يعذب الله قوماً فيهم منهم أحد؛ اتخذهم، يا أسامة، لنفسك أصحاباً، عساك تنجومعهم، وإياك أن تسلك غير طريقهم، فتزل قدمك، فتهوي في النار. يا أسامة، ترك القوم الحلال من الطعام والشراب، طلبوا الفضل في الآخرة، ولم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيف، أكلوا العلق؛ ولبسوا الخلق، تراهم شعثاً غبراً، إذا رآهم الناس ظنوا إن بهم داء، وما بهم داء، وظنوا أنهم خولطوا؛ وما خولطوا، ولكن خالط القوم أمر عظيم؛ ظن الناس أن قد ذهبت عقولهم وما ذهبت، ولكن نظروا بقلوبهم إلى أمر إلهي، فهم في الدنيا عند أهلها يمشون بلا عقول. يا أسامة، عقلوا حين ذهبت عقول الناس، طوبى لهم وحسن مآب، ألا لهم الشرف الأعظم.
ويحكى عن بعضهم أنه كان يسمع في خلواته وهويقول: يا رب، ويحي، كيف أغفل، ولست بمغفول عني، أم كيف يهنئني العيش، واليوم الثقيل أمامي، أم كيف لا يطول حزني، ولا أدري ما يكون من ذنبي، أم كيف أؤخر عملي، ولا أدري متى يأتي أجلي، أم كيف أسكن إلى الدنيا، وليست بداري، أم كيف أجمعها، وفي غيرها مقامي ومأواي، أم كيف تعظم رغبتي فيها، والقليل منها يكفيني، أم كيف آمن فيها، وأنا لا يدوم فيها حالي، أم كيف يشتد حرصي عليها، ولا ينفعني منها ما أخلفه لغيري، أم كيف أؤثرها، وقد طردت من آثرها قبلي، أم كيف لا أبادر بعملي من قبل أن يتصرم منها مدتي، أم كيف لا أعمل في فكاك نفسي، قبل أن يغلق ذهني؛ أم كيف يشتد عجبي بها، وهي مفارقة لي ومنقطعة عني.
وسئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن قوله تعالى:" إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى." قال: كان فيها مكتوباً: عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف يعمل السيئات، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب؛ بدنه، وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجبت لمن ايقن بالجنة كيف لا يعمل الحسنات، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ويروى عن أبي ذر- رحمة الله عليه- أنه قال: قلت لرسول الله: أوصني. قال: عليك بتقوى الله، فإنه رأس أمرك. فقلت: زدني يا رسول الله.قال: عليك بذكر الله، فإنه رأس كل خير خير، وقراءة القرآن، فإنه نور لك في السماء وذكر لك في الأرض. قلت: زدني. قال: عليك بالجهاد، فإنه رهبانية هذه الأمة. قلت: زدني. قال: انظر إلى من دونك، ولا تنظر إلى من هوفوقك. قلت: زدني. قال: أقل الكلام إلا من ذكر الله، فإنك بذلك تغلب الشيطان. قلت: زدني. قال: أحب المسكين وجالسهم. قلت: زدني. قال: كن في الدنيا كأنك غريب وعد نفسك في الموتى. قلت: زدني. قال: قل الحق ولوكان مراً. قلت: زدني. قال: لا يأخذك في الله لومة لائم. قلت: زدني. قال: ارض من الدنيا بكسرة تقيم بها جسدك، وخرقة تواري بها عورتك، وظل تسكن فيه. قلت: زدني. قال: اكظم الغيظ وأحسن إلى من أساء إليك. قلت: زدني. قال: إياك وحب الدنيا، فإنه رأس الخطايا، إن الدنيا تهلك صاحبها، وصاحب الدنيا لا يهلكها. قلت: زدني.قال: انصح للناس كما تنصح لنفسك ولا تعب عليهم بما فيك مثله، يا أبا ذر، إنه لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق.
وقال رسول الله: من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات، ومن أشفق من النار سلا عن الشهوات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات. ويقال إن الزهد في الدنيا مفتاح كل خير، والرغبة فيها مفتاح كل شر وخطيئة. وقيل في الحكمة: الدنيا قنطرة فاعبروها إلى الاخرة، ولا تعمروها، إنكم خلقتم للآخرة لا للدنيا، وإنما الدنيا دار العمل، والاخرة دار الجزاء، وهي دار القرار ودار المقام ودار النعيم ودار الخلود
فصل في حسن التكليف
وأعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الله تعالى كلم موسى بن عمران، وناجاه باثني عشر ألف كلمة، يقول له في عقب كل كلمة: يا موسى، أدن مني، وأعرف قدري، فأنا الله. يا موسى، أتدري لم كلمتك من بين خلقي، واصطفيتك لرسالتي من بين بني إسرائيل، قال موسى: فمن علي يا رب. قال: لأني أطلعت على أسرار عبادي، فلم أر قلباً أصفى لمودتي من قلبك. قال موسى- عليه السلام: لم خلقتني يا رب بعد أن لم أكن شيئاً، قال: أردت بك خيراً. قال: رب من علي. قال: أسكنك جنتي، وأدخلك دار كرامتي مع ملائكتي، فتخلد هناك منعماً، ملتذاً مسروراً. قال: فما الذي ينبغي لي أن أعمل، قال: لا يزل لسانك رطباً من ذكري، وقلبك وجلاً من خشيتي، وبدنك مشغولاً بخدمتي، ولا تأمن مكري إلى أن ترى رجلك في الجنة. قال: يا رب لم ابتليتني بفرعون، قال: إنما اصطنعتك على أن أخاطب بلسانك بني إسرائيل، فأسمعهم كلامي وأعلمهم شريعة التوراة وسنة الدين، وأدلهم على الآخرة، ومن اتبعك منهم ومن غيرهم كائناً من كان. يا موسى، بلغ بني إسرائيل أني لما خلقت السموات والأرض جعلت لهما أهلاً وسكاناً، فأهل سماواتي هم ملائكتي وخالص عبادي الذين لا يعصونني، ويفعلون ما يؤمرون. يا موسى، قل لبني إسرائيل وبلغهم عني أنه من قبل وصيتي ووفي بعهدي، ولم يعصني، رقيته إلى رتبة ملائكتي، وأدخلته جنتي، وجازيته بأحسن الذي كانوا يعملون. يا موسى، قل لبني إسرائيل وأبلغهم عني أني لما خلقت الجن والإنس والحيوانات أجمع، ألهمتهم مصالح الحياة الدنيا وعرفتهم كيفية التصرف فيها لطلب منافعها والهرب من المضار منها: كل ذلك بما جعلت لهم من السمع والبصر والفؤاد والتمييز والشعور أجمع.
وهكذا ألهمت أنبيائي ورسلي والخواص من عبادي، وعرفتهم أمر المبدأ والمعاد والنشأة الآخرة.
وبينت له الطريق وكيفية الوصول إليها. يا موسى، قل لبني إسرائيل يقبلون من أنبيائي وصيتي، ويعملون بها، واضمن لهم عني أني أكفيهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح الدنيا والاخرة جميعاً، ومن وفى بعهدي وفيت بعهده، كائناً من كان من بني آدم، وألحقتهم بأنبيائي وملائكتي في الآخرة دار القرار. قال موسى: يا رب لوخلتنا في الجنة وكفيتنا محن الدنيا ومصائبها وبلاءها، أليس كان خيراً لنا، قال: يا موسى، قد فعلت بأبيكم آدم ما ذكرت، ولكن لم يعرف حقي وقدر نعمتي، ولم يحفظ وصيتي، ولم يوف بعهدي بل عصاني، فأخرجته منها، فلما تاب وأناب، وعدته أن أرده إليها، وآليت على نفسي أن لا يدخلها أحد من ذريته إلا من قبل وصيتي وأوفى بعهدي، ولا ينال عهدي الظالمين، ولا يدخل جنتي المتكبرون، لأني جعلتها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين. يا موسى، ادع لعبادي وذكرهم آلائي، فإنهم لا يذكرون مني إلا كل خير سالفاً وخالفاً، عاجلاً وآجلاً. يا موسى، ويل لمن تفوته جنتي، ويا حسرة عليه وندامة، حين لا ينفعانه.
يا موسى، خلقت الجنة يوم خلقت السموات، وزينتها بألوان المحاسن، وجعلت نعيم أهلها وسرورها روحاً وريحاناً، فلونظر أهل الدنيا إليها نظرة من بعيد، لما تهنوا بالحياة في الدنيا بعدها.
يا موسى، هي مدخرة لأوليائي والصالحين من عبادي، تحيتهم يوم يلقونه سلام وطوبى لهم وحسن مآب.
قال موسى: يا رب، قد شوقتني إليها، فأرني يا رب لأنظر إليها. قال: يا موسى، لا يهنئك العيش في الدنيا بعد النظر إليها، لأنك من أبناء الدنيا إلى وقت معلوم، فإذا فارق الروح الجسد رأيتها، ووصلت إليها ودخلتها، وتكون فيها ما دامت السموات والأرض، فلا تعجل يا موسى، وأعمل كما أمرت، وبشر بني إسرائيل بالذي بشرتك به، وادعهم إليها، ورغبهم فيها، وزهدهم في الدنيا.
فصل وأعلم يا أخي بأن الرغبة في الدنيا مع طلب الآخرة لا يجتمعان.
فمن زهد في الآخرة رغب في الدنيا، ومن رغب في الآخرة زهد في الدنيا. وقال المسيح- عليه السلام- في بعض مواعظه لبني إسرائيل: أعلموا أن مثل دنياكم مع الآخرة، كمثل مشرقكم ومغربكم، كلما أقبلتم إلى الغرب ازددتم من المشرق بعداً، وكلما أقبلتم إلى المشرق ازددتم من المغرب بعداً. وقيل في بعض كتب يني إسرائيل: رغبناكم في الآخرة فلم ترغبوا، وزهدناكم في الدنيا فلم تزهدوا، وخوفناكم من النار فلم تخافوا، وشوقناكم إلى الجنة فلم تشتاقوا، ووبخناكم فلم تبكوا. بشر القائلين بأن لله سيفاً لا ينام، وهونار جهنم، ويقول الله تعالى: يا ابن آدم خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد، أتحبب إليك بالغنى، وأنت تتبغض إلى بالمعاصي، لا يزال يأتيني كل يوم ملك كريم بقبيح أفعالك. يا ابن آدم، أما تراقبني، أما تعلم أنك بعيني، يا ابن آدم، اذكرني عند خلواتك، وعند حضور الشهوات الحرام، وأسألني أن أنزعها من قلبك، وأعصمك عن معصيتي، وأبغضها إليك، وأيسر لك طاعتي وأحببها إليك، وأزينها في عينيك. يا ابن آدم، إنما أمرتك ونهيتك لتستعين بي وتعتصم بحبلي، لئلا تستغني وتتولى عني، فأعرض عنك، وأنا الغني عنك وأنت الفقير إلي؛ إنما خلقتك في الدنيا وسخرتها لك لتستعد للقائي وتتزود منها للقدوم علي، لئلا تعرض عني وتخلد إلى الأرض. وأعلم يا ابن آدم بأن الدار الآخرة خير لك من الدنيا، فلا تختر غير ما اخترت لك، ولا تكره لقائي، فإنه من كره لقائي كرهت لقاءه، ومن أحب لقائي أحببت لقاءه.
فصل في عظات مختلفة
تأمل يا اخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- ما ترى من الأمور الدنيوية، واعتبر بما تشاهد فيها من تصاريفها بأهلها حالاً بعد حال، وتفكر فيما ذكرنا في هذه الرسالة من هذه الحكايات عن أنبياء الله وأوليائه وعباده الصالحين، وما وصفنا من أخلاقهم الحسنة وسيرتهم العادلة وأفعالهم الجميلة، فاجتهد أن تقتدي بهم وتسلك بهم وتسلك طريقهم؛ واستعن بالله وأسأله التوفيق؛ وانظر إن استوى لك أن تكون في أعلى المراتب، فلا ترض لنفسك بأدونها، واحذر مخالفتهم وترك الاقتداء بهم، فإنهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى، والدعاة والهداة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، وهم حجج الله على خلقه، وصفوته من عباده، فالمفلح من أتبعهم، والخاسر من خالف طريقهم، هم صفوة الله وخيرته من خلقه.
وأعلم يا أخي بأنه ليس بين الله- عز وجل- وبين أحد من خلقه من قرابة، وأن أكرم عباده عنده أتقاهم، وأحبهم إليه أطوعهم له، وأكثرهم له ذكراً، وأكيسهم في الأمور، وأشدهم اجتهاداً، وأشدهم استعداداً للرحلة من الدنيا إلى الآخرة، وأكثرهم زاداً للمعاد.
وأعلم أن أخفهم مؤنة في الدنيا وأروحهم قلباً من زهد فيها، فبادر يا أخي وتزود من الدنيا لطريق الآخرة، فإن خير الزاد التقوى، فسارع إلى الخيرات ونافس في الدرجات قبل فناء العمر ونفاد الأجل وقرب الفوت.
وأعلم يا أخي بأن خير مناقب الإنسان العقل، وأفضل خصاله العلم، ولكل شيء خاصية، وخاصية العقل صحة التمييز، ومعرفة الحقائق، والسيرة العادلة، وحسن الاختيار، فانظر إن كنت عاقلاً، واختر من الأمور أفضلها، ومن الأخلاق أجملها، ومن الأعمال خيرها، ومن المراتب أشرفها، ومن المنافع أعمها وأدومها.
وأعلم يا أخي بأن الآخرة أفضل من الدنيا، وأهلها أفضل من أهل الدنيا، وأخلاقهم أكرم من أخلاقهم، وسيرتهم أعدل من سيرتهم، ومراتبهم أشرف، ونعيمهم أدوم، وسرورهم أبقى، ولذاتهم أخلص، فانظر الآن على ما يقع اختيارك، وكيف يكون، ولأيهما تعمل، ولا يكن إيثارك، إن كنت عاقلاً، إلا للآخرة فقد تبين لك الرشد من الغي، وعرفت الضلالة من الهدى، وميزت الصواب من الخطأ، وعلمت الحق من الباطل، وانزاحت العلة، وقد أعذر من أنذر، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
فانظر الآن يا أخي إن كان لم يتبين لك بعد ما شرحناه من هذه الأوصاف، ولم ينبهك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة ما خولناك، ولم يشفك ما ذكرناه، ولم ينفعك ما وصفناه، فأبيت إلا التغمد والغمرة؛ في طغيان أبناء الدنيا المغرورين بها، الغافلين عن الآخرة الجاهلين لها، بأن تقول: لا بد لي من الاقتداء بهم، ومداخلتهم فيما هم فيه من الغرور، ومزاحمتهم على ما هم مزدحمون عليه، ورضيت لنفسك بالتشبه بهم في سوء أخلاقهم، وتراكم جهالاتهم، وفساد آرائهم، وسوء أعمالهم، وقبيح أفعالهم، وسيرتهم الجائرة، وأمورهم المسيئة، واحوالهم المتغايرة، وتصاريفهم المختلفة، وأسبابهم المتضادة، من عداوة بعضهم بعضاً، وحسد بعضهم بعضاً، وبغي بعضهم على بعض، وتكبرهم وتكاثرهم وتفاخرهم فيما هم فيه من أمور هذه الدنيا الدنية، والاغترار بها، وما يتكلفونه بينهم من زخرف القول غروراً، ويتمكنون به من الكلام خداعاً، وقلوبهم مملوءة غشاً وغلاً وحسداً وكبراً وحرصاً وطمعاً وبغضاً وعداوة ومكراً وحيلاً، مثل قوم دينهم التعصب، واعتقادهم النفاق، وأعمالهم الرياء، واختيارهم شهوات الدنيا، يتمنون الخلود فيها مع علمهم بأنه لا سبيل إليه، يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويؤملون ما لا يدركون، ويكسبون من الحرام وينفقون في المعاصي، ويمنون من المعروف، ويركبون كل منكر؛ سكارى متمردون، في طغيانهم يعمهون، لا يسمعون النداء، ولا يبصرون الهدى، ولا ينجع فيهم الوعظ ولا الذكر، ولا الأمر ولا النهي، ولا الوعد ولا الوعيد، ولا الترغيب ولا الترهيب، ولا الزجر ولا التهديد، بل تراهم في غيهم يترددون، وفي ظغيانهم يعمهون، مولون مدبرون، عن الآخرة معرضون، على الدنيا يتكالبون تكالب الكلاب على الجيفة، منهمكين في الشهوات، تاركين للصلوات، لا يسمعون الموعظة، ولا تنفعهم التذكرة، فلا جرم أنهم يمهلون قليلاً،ويمتعون يسيراً، ثم تجيئهم سكرة الموت بالحق، إن شاؤوا أوأبوا، فيفارقون محبوباتهم على رغم منهم، ويتركون ما جمعوا لغيرهم، يتمتع بمال أحدهم حليل زوجه، وامرأة ابنه، وبعل ابنته، وصاحب ميراثه، لهم المهنأة، وعليه الوبال، ثقيل ظهره بأوزاره، معذب النفس بما كسبت يداه، يا حسرة عليهم قامت القيامة على أهلها، وفقك الله، أيها الأخ، للسداد، وهداك للرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد، إنه رؤوف بالعباد.
تمت رسالة الأخلاق، والحمد لله، والصلاة على رسوله مستنبط ينابيع الحكمة بصفاء جوهره، والمقارع به أنوف الجاحدين لأوله ومصدره، والمفصح عن غرائبه، وعلى آله، وسلم، حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى، ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العيظم.
الرسالة العاشرة من القسم الرياضي في إيساغوجي
بسم الله الرحمن الرحيم
أعلم أيها الأخ البار الرحيم- ايدك الله وإيانا بروح منه- أنه لما كان الإنسان أفضل الموجودات التي تحت فلك القمر، وكان من فضيلته العلوم والصنائع، وكان النطق من أفضل الصنائع البشرية، أردنا أن نبين ماهية النطق، وكميته وكيفيته، إذ كان به ينفصل الإنسان عن سائر الحيوانات، كما يقال في حده إنه حي مناطق مائت، لأن سائر الحيوانات كلها أحياء مائتون غير ناطقين، وأيضاً فإن النطق من سائر الصنائع البشرية إلى الروحانية ما هوأقرب، وذلك أن سائر الصنائع الموضوع فيها الأجسام الطبيعية، موضوعاتها كلها جواهر جسمانية، كما بينا في رسالة الصنائع.
فأما النطق فإن الموضوع فيه جواهر النفس الجزئية الحية، وتأثيراته فيها روحانية، مثل الوعد والوعيد والترغيب والترهيب والمديح والهجاء؛ والدليل على ذلك ما يتبين لنا من تأثيرات الكلام في النفوس، مثل ما يرى من تأثيرات الجسام بعضها في بعض.
وذلك أن تأثيرات الأجسام بعضها في بعض نوعان: مفسد ومصلح، فالمصلح مثل الطعام والشراب المصلحين لأجساد الحيوانات، ومثل العقاقير والأدوية المصلحة لأجساد المرضى؛ والمفسد مثل النار المهلكة لأجساد الحيوانات وأجساد النبات، ومثل الضرب بالسيف والسكين وما شاكله من الأجساد المفسدة المهلكة لأجسام الحيوانات. فكذا حكم الكلام والأقاويل في النفوس نوعان: مصلح ومفسد، فالمصلح كالمديح والثناء الجميل الباعثين للنفوس على مكارم الأخلاق، ومثل المواعظ والمواعيد الزاجرين للنفوس عن الأفعال القبيحة وعن مساؤى الأخلاق، والمفسد من الكلام للنفوس كالشتيمة والتهديد والقبيح من الأقاويل الجالبة إلى النفوس العداوة والبغضاء، كما يقال: رب كلمة جلبت فتنة وحروباً. كما قيل في المثل: إن سبب العداوة بين الغربان والبوم كلمة تكلم بها الغراب يوم اجتماع الطير على تمليك البوم، ورب كلمة أطفأت نيران الحروب كما قيل في قصيدة: لفظ يثبت في النفوس مهابة،يكفي كفاية قائد الـقـوادا تبلغ الأسياف باستهلاكهـاما تبلغ الأقلام بـالإيعـادومن فضيلة النطق أيضاً أنه كاد أن يكون مطابقاً للموجودات كلها كمطابقة العدد للمعدودات، والدليل على ذلك كثرة اللغات، واختلاف الأقاويل، وفنون تصاريف الكلام، مما لا يبلغ أحد كنه معرفتها إلا الله- عز وجل- فنريد أن نذكر من ذلك طرفاً شبه المدخل ليقرب على المتعلمين وليسهل على الناظرين في علم المنطق فهم معانيها.
فصل في اشتقاق المنطق
وانقسام النطق إلى قسمين
أعلم يا أخي- أيدك الله وإيانا بروح منه- أن المنطق مشتق من نطق ينطق نطقاً، والنطق فعل من أفعال النفس الإنسانية، وهذا الفعل نوعان: فكري ولفظي، فالنطق اللفظي هوأمر جسماني محسوس، والنطق الفكري أمر روحاني معقول، وذلك أن النطق اللفظي إنما هوأصوات مسموعة لها هجاء وهي تظهر من اللسان الذي هوعضومن الجسد، وتمر إلى المسامع من الآذان التي هي أعضاء من أجساد أخر، وأن النظر في هذا المنطق والبحث عنه والكلام على كيفية تصاريفه وما يدل عليه من المعاني، يسمى علم المنطق اللغوي. وأما النطق الفكري الذي هوأمر روحاني معقول، فهو تصور النفس معاني الأشياء في ذاتها، ورؤيتها لرسوم المحسوسات في جوهرها، وتمييزها لها في فكرتها، وبهذا النطق يحد الإنسان، فيقال إنه حي ناطق مائت، فنطق الإنسان وحياته من قبل النفس، وموته من قبل الجسد، لأن اسم الإنسان إنما هوواقع على النفس والجسد جميعاً.
وأعلم أن النظر في هذا النطق والبحث عنه ومعرفة كيفية إدراك النفس معاني الموجودات في ذاتها بطريق الحواس، وكيفية انقداح المعاني في فكرها من جهة العقل الذي يسمى الوحي والإلهام، وعبارتها عنها بألفاظ بأي لغة كانت، يسمى علم المنطق الفلسفي.
ولما كان النطق اللفظي أمراً جسمانياً ظاهراً جلياً محسوساً، وضع بين الناس لكيما يعبر به كل إنسان عما في نفسه من المعاني لغيره من الناس السائلين عنه، والمخاطبين له، احتجنا إلى أن نذكر من هذا المنطق طرفاً شبه المدخل لقرب على المتعلمين فهم علم المنطق الفلسفي، ويسهل تأمله على الناظرين، فنقول أيضاً إنه لما كان النطق اللفظي هوألفاظ مؤلفة من الحروف المعجمة، احتجنا أن نذكر الحروف أولاً، فنقول: إن الحروف ثلاثة أنواع: فكرية ولفظية وخطية. فالفكرية هي صورة روحانية في أفكار النفوس مصورة في جواهرها قبل إخراجها معانيها بالألفاظ؛ والحروف اللفظية هي أصوات محمولة في الهواء، فمدركة بطرق الأذنين بالقوة السامعة، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس والخطية هي نقوش خطت بالأقلام في وجوه الألواح وبطون الطوامير؛ مدركة بالقوة الباصرة بطريق العينين.
وأعلم أن الحروف الخطية إنما وضعت سمات ليستدل بها على الحروف اللفظية، والحروف اللفظية وضعت سمات ليستدل بها على الحروف الفكرية، والحروف الفكرية هي الأصل.
إن الكلام لفي الفؤاد، وإنمـاجعل اللسان على الفؤاد دليلا وسنبين ماهيتها في فصل آخر.
أعلم أن الحروف اللفظية إنما هي أصوات تحدث في الحلقوم والحنك، وبين اللسان والشفتين عند خروج النفس من الرئة بعد ترويحها الحرارة الغريزية التي هي في القلب، وهي ثمانية وعشرون حرفاً في اللغة العربية، وأما سائر اللغات فربما تزيد وتنقص، وقد بينا علة ذلك في رسالة اختلاف اللغات. وأعلم أن الحروف إذا ألفت صارت ألفاظاً، والألفاظ إذا ضمنت المعاني صارت أسماء، والسماء إذا ترادفت صارت كلاماً، والكلمات إذا اتسقت صارت أقاويل والأقاويل نوعان: موزون ونثر، فالموزون كالشعر والرجز والقوافي، والنثر نوعان، فمنه فصاحة وبلاغة، ومنه مخاطبات ومحاورات، والخطاب نوعان، فمنه ما يتكلم به جمهور الناس فيما بينهم في طلب حاجاتهم بلا احتجاج ولا خصومة، ومنه ما يتكلمون به في دعاويهم وخصوماتهم باحتجاج وبراهين.
والدعاوي والخصومات نوعان: إما في أمور الدنيا، وإما في أمور الديانات والمذاهب والعلوم.
ولما كانت البراهين على صحة الدعاوي التي في أمور الدنيا لا تكون إلا بالشهود والعقود والصكوك، صارت البراهين أيضاً على صحة الدعاوي في أمور الديانات والمذاهب والعلوم، لا تكون إلا باستشهاد ما في الكتب الإلهية، والإخبار عن أصحاب الشرائع، أوإجماع الخصوم، أوشهادة العقول بالقياس الصحيح الذي هوميزان الحق.
ولما كان اختلاف الناس بالحزر والتخمين في مقادير الأشياء الموزونة والمكيلة دعتهم إلى وضع الموازين والمكاييل ليرفع الخلف بها عند الحزر، وكذلك اختلاف العلماء في الحكم بالحزر والتخمين على الأمور الغائبة عن الحواس، دعتهم إلى وضع القياسات ليرفع الخلف بها عند النظر.
ولما كان في صحة الوزن والكيل يحتاج إلى شرائط من عيار الصنجات، وصحة المكيال والميزان، وتقويم الكيل والوزن بها، كذلك حكم القياسات التي يعرف بها الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والخير من الشر، يحتاج إلى شرائط ليصح بها الحكم، وقد ذكر ذلك في كتب المنطق الفلسفي بشرح طويل، ولكن نريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفاً، ليقرب على المتعلمين فهمها، ونرجع الآن إلى ذكر الألفاظ الدالة على المعاني التي في أفكار النفوس فنقول:
فصل في الألفاظ الدالة على المعاني
أولاً: ما الاسم، وما المسمي، وما التسمية، وما المسمى، ونقول أيضاً: من الواصف، ومن الموصوف، وما الصفة، وأيضاً: من الناعت، ومن المنعوت، وما النعت.
تفسيرها: الاسم كل لفظة دالة على معنى من المعاني بلا زمان؛ والمسمي هوالقائل، والتسمية هي قول القائل، والمسمى هوالمعنى المشار إليه، والواصف هوالقائل، والوصف هوقول القائل، والموصوف هوالذات المشار إليه، والصفة هي معنى متعلق بالموصوف، والناعت هوالقائل، والنعت هوقول القائل، والمنعوت هوالذات المشار إليه؛ وليس له لفظة رابعة تدل على معنى متعلق بالمنعوت كما كانت الصفة متعلقة بالموصوف.
فصل في الألفاظ الستة
وأعلم أن الألفاظ التي تستعملها الفلاسفة في أقاويلها وإشاراتها إلى المعاني التي في أفكار الناس ستة أنواع: ثلاثة منها دالات على الأعيان التي هي موصوفات، وثلاثة منها دالات على المعاني التي هي الصفات. فالألفاظ الثلاثة الدالة على الموصوفات قولهم: الشخص والنوع والجنس، والثلاثة الدالة على الصفات هي قولهم: الفصل والخاصة والعرض.
وأما شرح معانيها فنقول: الشخص كل لفظة يشار بها إلى موجود مفرد عن غيره من الموجودات، مدرك بإحدى الحواس، مثل قولك: هذا الرجل، وهذه الدابة، وهذه الشجرة، وذا الحائط، وذاك الحجر، وما شاكل هذه الألفاظ المشار بها إلى شيء واحد بعينه.
والنوع كل لفظة يشار بها إلى كثرة تعمها صورة واحدة، مثل قولك: الإنسان والفرس والجمل والغنم والبقر والسمك، وبالجملة كل لفظة تعم عدة أشخاص متفقة الصور.
وأما الجنس فهو كل لفظة يشار بها إلى كثرة مختلفة الصور، تعمها كلها صورة أخرى، كالحيوان والنبات والثمار والحب وما شاكلها من الألفاظ، فإن كل لفظة منها تعم جماعات مختلفة الصور، وذلك أن قولك: الحيوان، يعم الناس كلهم، والسباع والطيور والسمك وحيوان الماء أجمع، وهي كلها صور مختلفة يعمها الحيوان، وهي صورة روحانية متممة للجسم.
وأما قولهم: الفصل والخاص والعرض، فهي ألفاظ دالة على الصفات التي يوصف بها الأجناس والأنواع والأشخاص. وأعلم أن الصفات ثلاثة، فمنها صفات إذا بطلت بطل وجدان الموصوف معه، فتسمى فصولاً ذاتية جوهرية مثل حرارة النار ورطوبة الماء ويبوسة الحجر، وما شاكلها، وذلك أن حرارة النار إذا بطلت بطل وجدان النار؛ وكذلك حكم رطوبة الماء ويبوسة الحجر، وكل صفة لموصوف هكذا حكمه سميت فصلاً ذاتياً جوهرياً. ومنها صفات إذا بطلت لم يبطل وجدان الموصوف، ولكنها بطيئة الزوال، مثل سواد القير؛ وبياض الثلج وحلاوة العسل ورائحة المسك والكافور، وما شاكلها من الصفات البطيئة الزوال، ولكن ليس من الضرورة أنه إذا بطل سواد القير أوبياض الثلج أن يبطل وجدان أعيانها، فمثل هذه الصفات تسمى خاصية.
ومنها صفات سريعة الزوال تسمى عرضاً، مثل حمرة الخجل وصفرة الوجل ومثل القيام والقعود والنوم واليقظة، وما شاكل هذه من الصفات يسمى عرضاً، لأنها تعرض لشيء وتزول عنه من غير زواله، وسميت الصفات البطيئة الزوال خاصية لأنها صفات تختص بنوع دون سائر الأنواع.
وتسمى الصفات الذاتية الجوهرية فصولاً لأنها تفصل الجنس فتجعله أنواعاً.
وأعلم أن الصفات التي تسمى خاصية أربعة أنواع، فمنها ما يكون خاصية لنوع، ويشاركه فيها نوع آخر، مثل خاصية الإنسان أنه ذو رجلين من بين سائر الحيوانات، ولكن يشاركه فيه الطير، ومنها ما هي خاصية لنوع، ولا يشاركه فيها غيره، ولكن لا يوجد في جميع أشخاصه تلك الخاصية مثل الكتابة والتجارة وأكثر الصنائع، فإنها خاصية لنوع الناس، ولكن لا توجد في كل إنسان.
ومنها خاصية قد توجد لكل أشخاص النوع، ولكن لا توجد في كل وقت، مثل المشيب، فإنه خاصية للإنسان دون سائر الحيوانات، ولكن لا يوجد إلا في آخر العمر. ومنها خاصية لنوع دون غيره وتوجد في كل أشخاصه وفي كل وقت، وتسمى خاص الخاص، مثل الضحك والبكاء، فإنهما من خاصية الإنسان دون سائر الحيوانات، ولكل أشخاصه وفي كل وقت، وذلك أن الضحك والبكاء يوجدان للإنسان من وقت ولادته إلى وقت موته، وكذلك الصهيل للفرس والنهيق للحمار والنباح للكلاب؛ وبالجملة ما من نوع من أنواع الحيوان إلا وله خاصية تختص به دون غيره، وهكذا حكم كل موجود من الموجودات له خاصية تميزه عما سواه تسمى رسوماً، علم ذلك أولم يعلم.
وأعلم أن بالفصول تنقسم الأجناس فتصير أنواعاً، وبها تحد الأنواع، لأنها مركبة منها، وبالرسوم تختلف الأنواع ويخالف بعضها بعضاً، يعني خاص الخاص. وبالخواص التي هي أعراض بطيئة الزوال تختلف الأشخاص التي تحت نوع واحد، مثل الزرقة والشهلة والفطسة؛ والنحافة والسمرة والطول والقصر، وما شاكلها من الصفات التي تختلف بها أشخاص الناس ويمتاز بعضهم عن بعض، وكل هذه الصفات بطيئة الزوال. وبالأعراض تختلف أحوال الأشخاص مثل القيام والقعود والغضب والرضا، وما شاكلها من الصفات التي لا تدوم ويتعاقبها ضدها.
وأعلم بأن كل صفة للجنس فهي في جميع انواعه، وكل صفة للنوع فهي في جميع أشخاصه ضرورة، وليس من الضرورة أن كل صفة للشخص لجميع نوعه، ولا صفة النوع لجميع جنسه.
فصل في أن الأشياء كلها صور وأعيان
وإذ قد ذكرنا طرفاً من المنطق اللفظي شبه المدخل، فنريد أن نذكر طرفاً من المنطق الفكري، إذ كان هوالأصل، وهذا فرع عليه، كما ذكرنا قبل. فإن الألفاظ إنما هي سمات دالات على المعاني التي في أفكار النفوس، وضعت بين الناس ليعبر كل إنسان عما في نفسه من المعاني لغيره من الناس، عند الخطاب والسؤال، فنقول إن الأشياء كلها بأجمعها صور وأعيان غيريات؛ أفاضها الباري تعالى على العقل الفعال الذي هوجوهر بسيط مدرك حقائق الأشياء، كما بينا في رسالة المبادئ العقلية؛ ومن العقل على النفس الكلية الفلكية التي هي نفس العالم بأسره، كما بينا في الرسالة التي فسرنا فيها معنى قول الحكماء إن الإنسان عالم صغير، وإن العالم إنسان كبير؛ ومن النفس الكلية فاضت على الهيولى الأولى التي بينا ماهيتها في رسالة الهيولى والصورة؛ ومن الهيولى على النفس الجزئية البشرية التي بينا كيفية نشوئها في رسالة لنا ترجمتها" الإنسان عالم صغير" وهي ما يتصور الناس في أفكارهم من المعلومات بعد مشاهدتهم لها في الهيولى بطريق الحواس.
فمن أراد أن يعرف كيف كانت صور الأشياء في النفس الكلية قبل فيضها على الهيولى، فليعتبر صور مصنوعات البشر كيف تكونها في نفوسهم قبل إظهارهم لها في الهيوليات الموضوعة لهم في صناعتهم كما بينا في رسالة الصنائع. ومن أراد أن يعرف أيضاً كيف كانت صور الأشياء في العقل الفعال قبل فيضه على النفس الكلية، وكيف كان قبولها تلك الرسوم والصور، فليعتبر حال رسوم المعلومات التي في أنفس العلماء، وكيف إفادتهم للمتعلمين، وكيف قبولهم لها، كما بينا في رسالة التعليم. ومن أراد أيضاً أن يعرف كيف حال المعلومات في علم الباري- عز وجل- قبل فيضه على العقل، فليعتبر حال العدد كيف كان في الواحد الذي قبل الاثنين، وكيف نشأ منه كما بينا في رسالة خواص العدد.
فصل في العلم والتعلم والتعليم
وأعلم أن العلم ليس بشيء سوى صورة المعلوم في نفس العالم، وأن الصنعة ليست شيئاً سوى إخراج تلك الصورة التي في نفس الصانع العالم ووضعها في الهيولى.
وأعلم يا أخي أن أنفس العلماء علامة بالفعل، وأنفس المتعلمين علامة بالقوة؛ والتعليم ليس شيئاً سوى إخراج ما في القوة إلى الفعل، والتعلم هوالخروج من القوة إليه؛ وأن كل شيء بالقوة لا تخرج إلى الفعل إلا لشيء هوبالفعل يخرجه إليه، وأن النفس الكلية الفلكية هي علامة بالفعل، والأنفس الجزئية علامة بالقوة. فكل نفس جزئية تكون أكثر معلومات وأحكم مصنوعات، فهي أقرب إلى النفس الكلية، لقرب نسبتها إليها وشدة شبهها بها، كما قيل في حد الفلسفة إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية. فاجتهد أن تكتسب معلومات كثيرة تكن أفعالك كلها حكمية زكية، فإنها القنية الروحانية، كما تجتهد أبناء الدنيا في اكتساب المال الذي هوالقنية الجسدية.
وأعلم أنه كما أن المال يتمكن الإنسان به مما يريده من اللذات في الدنيا وطيب العيش، فهكذا بالعلم تتمكن النفس من اللذات في الدار الآخرة، وبالعلم يتقرب إلى الله أبناء الآخرة، وبه يتفاضل بعضهم على بعض، كما قال الله تعالى:" قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" الآية.
وأعلم أن بالعلم تحيا النفوس من موت الجهالة، وبه تنتبه من نوم الغفلة كما قال الله: " أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به" الآية. فالعلم يهديك إلى طريق ملكوت السماء، ويعينك على الصعود إلى هناك، كقوله تعالى:" إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه." وأخبر عن أهل الجهالة فقال تعالى:" لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط." وهذا وعيد لهم بالإياس عن الصعود إلى ملكوت السماء، فأعيذك أيها الأخ أن ترضى بأن تكون منهم أومعهم، وقيل إن المرء مع من أحب، بل كن من الذين أمرهم رسول الله فقال: كن عالماً أومتعلماً، أوتجالس العلماء أوتحب العلماء، وإياك والخامس، إلا أن تكون من الطوائف.
فصل في اشتراك الألفاظ وأخواتها
وإذ قد فرغنا من ذكر المعاني، وأخبرنا بأنها صور كلها ورسوم في أفكار النفوس الجزئية، وأنها تناولتها من الهيولى بطريق الحواس، وقلنا أيضاً إن الصور التي في الهيولى فاضت عليها من النفس الكلية الفلكية، وإن التي في النفس أيضاً فاضت عليها من العقل الفعال، وإن التي في العقل أيضاً أفاضها عليه الباري- عز وجل - وذكرنا أيضاً الألفاظ بمجردها، وأخبرنا أن الحروف التي هي أصوات مفردة إذا ألفت صارت ألفاظاً، وأن الألفاظ إذا ضمنت المعاني صارت أسماء، وأن الأسماء إذا ترادفت صارت كلاماً، وأن الكلام إذا ألصق صار أقاويل. وأعلم أن المعاني هي الأرواح، والألفاظ كالأجساد لها، وذلك أن كل لفظة لا معنى لها فهي بمنزلة جسد بلا روح فيه. وكل معنى في فكر النفس لا لفظ له فهو بمنزلة الأقاويل تختلف تارة من جهة اللفظ، وتارة من جهة المعنى، وتارة منهما جميعاً، وهي خمسة أنواع، فمنها المشتركة في اللفظ، المختلفة في المعنى، كقولك: عين الإنسان، وعين الماء، ومقابلتها هي المترادفة التي هي المختلفة في اللفظ المتفقة في المعنى، كقولك: البر والحنطة. ومنها المتباينة في اللفظ والمعنى جميعاً، كقولك: حجر وشجر، ومقابلتها المتواطئة وهي المتفقة في اللفظ والمعنى جميعاً، كقولك: هذا إنسان اسمه زيد، وهذا اسمه عمرو. ومنها المشتق أسماؤها وهي كقولك: الضارب والمضروب، وما شاكلها من الأسماء المشتقة من الأفعال.
فصل في أن الأشياء كلها جواهر وأعراض
وأعلم يا أخي أن العلماء قالوا: إن الأشياء كلها نوعان: جواهر وأعراض، وإن الجواهر كلها جنس واحد قائمة بأنفسها، وإن الأعراض تسعة أجناس، وهي حالة في الجواهر، وهي صفات لها، وإن الباري- عز وجل- ليس يوصف بأنه عرض ولا جوهر بل هوخالقهما وعلتهما الفاعلة، ونحن نقول: إن الأشياء كلها صور وأعيان غيريات؛ مرتب بعضها تحت بعض كترتيب العدد، ومتعلق وجود بعضها ببعض كوجود العدد من الواحد الذي قبل الاثنين، كما بينا في رسالة العدد، وإن الباري- جل جلاله- هوعلتها وهوموجدها كما بينا في رسالة المبادئ العقلية.
وأعلم أن الصورة نوعان: مقومة ومتممة، وقد سمت العلماء الصور المقومة جواهر، وسمت الصور المتممة أعراضاً، وقد بينا الفرق بين الصورة المقومة والصورة المتممة في رسالة الهيولى والصورة، وفي رسالة الكون والفساد، فأعرفهما من هناك إن شاء الله.
فصل في حاجة الإنسان إلى المنطق
وأعلم أيها الأخ أنه لوأمكن الناس أن يفهم بعضهم من بعض المعاني التي في أفكار نفوسهم من غير عبارة اللسان، لما احتاجوا إلى الأقاويل التي هي أصوات مسموعة، لأن في استماعها واستفهامها كلفة على النفوس من تعليم اللغات وتقويم اللسان والإفصاح والبيان، ولكن لما كانت نفس كل واحد من البشر مغمورة في الجسد، مغطاة بظلمات الجسم، حتى لا ترى واحدة منهما الأخرى إلا الهياكل الظاهرة التي هي الأجسام الطويلة العريضة العميقة، ولا يدري ما عند كل واحد منها من العلوم إلا ما عبر كل إنسان عما في نفسه لغيره من أبناء جنسه، ولا يمكنه ذلك إلا بأدوات وآلات مثل اللسان والشفتين واستنشاق الهواء، وما شاكلها من الشرائط التي يحتاج الإنسان إليها في إفهامه غيره من العلوم، واستفهامه منه، فمن أجل هذا احتيج إلى المنطق اللفظي وتعليمه، والنظر في شرائطه التي يطول الخطاب فيها.
فأما النفوس الصافية الغير المتجسدة فهي غير محتاجة إلى الكلام والأقاويل في إفهام بعضها بعضاً من العلوم والمعاني التي في الأفكار، وهي النفوس الفلكية، لأنها قد صفت من درن الشهوات الجسمانية، ونجت من بحر الهيولى وأسر الطبيعة، واستغنت عن الكون مع الأجساد المظلمة التي هي أسفل السافلين وعالم الكون والفساد، وارتفعت إلى أعلى أفق العالم العلوي، وسرت في الجواهر النيرة والشفافة التي هي الكواكب والأفلاك، وذلك كما توجب الحكمة الإلهية والعناية الربانية، إذ لم تقرن بالأجسام الساترة، ولم تحتج إلى كتمان أسرارها، ولا إلى إخفاء ما في ضمائرها، إذ كانت صافية من الخبث والدغل، وبريئة من الإضمار للشر، فقرنت بالجواهر النيرة والأكر الشفافة التي يتراءى الجزء منها في الكل، والكل يتراءى في الجزء، كما تتراءى وجوه المرايا المجلاة بعضها في بعض، وكما تتراءى وجوه الجماعة المتقابلين في عين الواحد منهم، ووجه الواحد في أعين الجميع، فهم غير محتاجين إلى الإخبار عن الإضمار، ولا السؤال عن كتمان الأسرار، لأنهم في الإشراق والأنوار التي هي معدن الأخيار والأبرار.
فاجتهد يا أخي فلعل نفسك تصفو، وهمتك تعلومن الرغبة في هذه الدنيا الدنية التي ذمها رب العالمين فقال- عز وجل:" إنما الحياة الدنيا لعب ولهووزينة وتفاخر" إلى قوله:" وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور." وقال تعالى:" زين للناس حب الشهوات من النساء" الآية. وقال تعالى:" قل: أأنبئكم بخير من ذلكم اتقوا عند ربهم جنات" الآية. وقال تعالى:" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، والعاقبة للمتقين".
وأعلم بأنه إذا عدم الجنس عدم جميع أنواعه معه، وإذا عدم النوع عدم جميع أشخاصه معه، وليس من الضروري إذا وجد الشخص وجد النوع كله، ولا إذا وجد النوع وجد الجنس كله. وأعلم بأن الأجناس أربعة أنواع: ثلاثة يستعملها صاحب اللغة في أقاويله، وواحد يستعمله صاحب الفلسفة في أقاويله. فالذي يستعمله صاحب اللغة من هذه الثلاثة، أحدها جنس البلدي، والآخر جنس الصناعي، والآخر جنس النسبي. فالجنس البلدي كقولك لجماعة تشير إليهم فنقول: البغداديون والبصريون والخراسانيون وما شاكله؛ والصناعي كقولك لجماعة تشير إليهم فنقول: نجارون حدادون خبازون وما شاكله؛ والنسبي كقولك لجماعة: هاشميون علويون ربعيون. وأما الذي يستعمله الفيلسوف في أقاويله فهو عشرة ألفاظ بيناها في قاطيغورياس.
الرسالة الحادية عشرة في المقولات العشر
التي هي قاطيغورياس
بسم الله الرحمن الرحيم
وإذ قد فرغنا من ذكر الستة الألفاظ التي في إيساغوجي، وبينا ماهية المعاني التي تدل عليها واحداً واحداً، فنريد أن نذكر العشرة الألفاظ التي في قاطيغورياس، ونبين معانيها، ونصف كيف هي، وأن كل لفظة منها اسم لجنس من الأجناس الموجودة، وأن المعاني كلها كيف هي داخلة تحت هذه العشرة الألفاظ.
أعلم أيها الأخ البار الرحيم- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن الحكماء الأولين لما نظروا إلى الأشياء الظاهرة بأبصار عيونهم، وشاهدوا الأمور الجليلة بحواسهم، تفكروا عند ذلك في معاني بواطنها بعقولهم، وبحثوا عن خفيات الأمور برويتهم، وأدركوا حقائق الموجودات بتمييزهم، وبان لهم أن الأشياء كلها أعيان غيريات، مرتبة في الوجود كترتيب العدد، ومتعلقة مرتبطة بعضها ببعض في البقاء والدوام عن العلة الأولى الذي هوالباري- سبحانه- كتعلق الأعداد، ورباط بعضها ببعض من الواحد الذي قبل الاثنين كما بينا في رسالة والعدد.
ولما تبين لهم هذه الأشياء، كما ذكرنا، لقبوا وسموا الأشياء المتقدمة في الوجود الهيولى، وسموا الأشياء المتأخرة في الوجود الصورة؛ ولما بان لهم أن الصورة نوعان: مقومة ومتممة، كما بينا في رسالة" الكون والفساد"، وسموا الصور المقومة جواهر، وسموا الصور المتممة أعراضاً؛ ولما بان لهم أيضاً أن الصور المقومة حكمها حكم واحد، قالوا: إن الجواهر كلها جنس واحد. وكذلك لما تبينوا أن الصور المتممة أحكامها مختلفة قالوا: إن الأعراض مختلفة الأجناس، وهي تسعة أجناس مثل تسعة آحاد. فالجوهر في الموجودات كالواحد في العدد، والأعراض التسعة كالتسعة الآحاد التي بعد الواحد، فصارت الموجودات كلها عشرة أجناس مطابقة لعشرة آحاد، وصارت الأعراض مرتبة بعضها تحت بعض كترتيب العدد وتعلقه في الوجود عن الواحد الذي قبل الاثنين.
فأما الألفاظ العشرة التي تتضمن معاني الموجودات كلها فهي قولهم: الجوهر والكم والكيف والمضاف والأين ومتى والنصبة" الوضع" والملكة ويفعل وينفعل.
فصل وأعلم يا أخي بأن
كل لفظة من هذه الألفاظ اسم لجنس
من الأشياء الموجودة،
وكل جنس ينقسم إلى عدة أنواع، وكل نوع إلى أنواع أخر، وهكذا دائماً إلى أن تنتهي القسمة إلى الأشخاص كما سنبين بعد.
وأعلم يا أخي بأن الحكماء لما نظروا إلى الموجودات، فأول ما رأوا الأشخاص مثل زيد وعمرو وخالد؛ ثم تفكروا فيمن لم يروه من الناس الماضين والغابرين جميعاً، فعلموا إن كلهم تشملهم الصورة الإنسانية، وإن اختلفوا في صفاتهم من الطول والقصر والسواد والبياض والسمرة والزرقة والشهلة والفطسة والقنوة وما شاكلها من الصفات التي يمتاز بها بعضهم من بعض، فقالوا: كلهم إنسان، وسموا الإنسان نوعاً، لأنه جملة الأشخاص المتفقة في الصور، المختلفة بالأعراض ثم رأوا شخصاً آخر مثل حمار زيد وأتان عمرووجحش خالد، فعلموا أن الصورة الحمارية تشملها كلها، فسموها أيضاً نوعاً. ثم رأوا فرس زيد وحصان عمر ومهر خالد، فعلموا أن صورة الفرسية تشملها كلها، فسموها أيضاً نوعاً. وعلى هذا القياس سائر أشخاص الحيوانات من الأنعام والسباع والطير وحيوان الماء ودواب البر كل جماعة تشملها صورة واحدة سموها نوعاً. ثم تفكروا في جميعها، فعلموا أن الحياة تشملها كلها، فسموها الحيوان، ولقبوها الجنس الشامل لجماعات مختلفة الصور وهي أنواع له. ثم نظروا إلى أشخاص أخر كالنبات والشجر وأنواعها، فعلموا أن النمو والغذاء يشملها كلها، فسموها النامي، فقالوا: هي جنس، والحيوان والنبات نوعان له، ثم رأوا أشياء أخر مثل الحجر والماء والنار والهواء والكواكب، وعلموا بانها كلها أجسام، فسموها جنساً، وعلموا بأن الجسم من حيث هوجسم، لا يتحرك ولا يعقل ولا يحس ولا يعلم شيئاً؛ ثم وجدوه متحركاً منفعلاً ومصنوعاً فيه الأشكال والصور والنقوش والأصاغ، فعلموا أن مع كل الجسم جوهراً آخر هوالفاعل في الأجسام هذه الأفعال والآثار، فسموه روحانياً. ثم جمعوا هذه كلها في لفظة واحدة وهي قولهم: جوهر، فصار الجوهر جنساً، والروحاني والجسماني نوعان له؛ والجسم جنس لما تحته من النامي والجماد، وهما نوعان له؛ والنامي جنس لما تحته من الحيوان والنبات، وهما نوعان له؛ والحيوان جنس لما تحته من الناس، والطير التي هي سكان الهواء، والسابح التي هي سكان الماء، والمشاء التي هي سكان البر، والهوام التي هي سكان التراب، وهي كلها أنواع الحيوان، وهوجنس لها.
فالإنسان نوع الأنواع، والجوهر جنس الأجناس، والجسم والنامي والحيوان نوع من جنس المضاف، لأنها إذا أضيفت إلى ما تحتها سميت أجناساً لها، وإذا أضيفت إلى ما فوقها سميت أنواعاً لها. فهذا وجيز من القول في معاني أحد المقولات العشر التي هي الجوهر وأقسامه وأنواعه وأشخاصه، وليس له حد، ولكن رسمه أنه القائم بنفسه القابل للأعراض المتضادة.
ولما رأوا من الجوهر ما يقال له ثلاثة أذرع وأربعة أرطال وخمسة مكاييل وما شاكلها، جمعوا هذه وسموها جنس الكم، وهي كلها أعراض في الجوهر. ولما رأوا أشياء أخر، ليست بالجوهر ولا يقال لها كم، مثل البياض والسواد والحلاوة والمرارة والرائحة وما شاكلها، جمعوها كلها، وسموها جنس الكيف، وهذه الأعراض هي صفات للجوهر، وهوموصوف بها، وهي قائمة به، وكلها صور متممة له، كما بينا في رسالة" الكون والفساد" ثم إنهم وجدوا أشياء شتى تقع على شيء واحد لم يتغير في ذاته، بل من أجل إضافته إلى أشياء شتى، فسموها جنس المضاف؛ مثال ذلك رجل يسمى أباً وابناً وأخاً وزوجاً وجاراً وصديقاً وشريكاً وما شاكلها من الأسماء التي لا تقع إلا بين اثنين يشتركان في معنى من المعاني، وذلك المعنى لا يكون موجوداً في ذاتيهما، ولكن في نفس المفكر، سموها جنس المضاف، وأصحاب الصفات يسمون هذه المعاني أحوالاً. ثم إنهم وجدوا أسماء أخر، معانيها غير معاني ما تقدم ذكرها، مثل فوق وتحت وهاهنا وما شاكلها من الأسماء، فجمعوها كلها وسموها جنس الأين. ثم وجدوا أسماء أخر، معانيها غير معاني ما ذكرنا، مثل يوم وشهر وسنة وحين ومدة وما شاكلها من الأسماء، فجمعوها كلها وسموها جنس المتى. ثم وجدوا أسماء، معانيها غير ذلك، مثل قائم وقاعد ونائم ومنحن ومتكئ ومستند ومستلق وما شاكل ذلك من الأسماء، فجمعوها كلها وسموها جنس النصبة يعني الوضع. ثم وجدوا أسماء أخر، مثل قولك: له وبه ومنه وعليه وعنده وما شاكلها من الأسماء، فجمعوها كلها وسموها جنس الملكة. ثم وجدوا أسماء أخر، مثل قولك: ضرب وفعل وصنع وما شاكلها من الألفاظ التي تدل على تأثير الفاعل، فجمعوها كلها وسموها جنس يفعل. ثم وجدوا أسماء أخر، مثل قولك: انقطع انكسر انبعث انبجس، وما شاكلها من الألفاظ، وجمعوها كلها وسموها جنس ينفعل. ثم تأملوا الأشياء كلها فلم يجدوا معنى خارجاً عن هذه التي ذكرنا، فاجتمعت لهم معاني الأشياء كلها في عشرة ألفاظ حسب، كما وجدوا لمراتب الآحاد عشرة ألفاظ حسب.
وأعلم يا أخي بأنه قد جمعت هذه الأجناس كل موجود من الجواهر والأعراض، وما كان وما يكون، ولا يقدر أحد أن يتوهم شيئاً خارجاً عن هذه الأجناس وما تحتويه من الأنواع والأشخاص.
وأعلم بأنه ربما اجتمعت هذه المعاني في شخص واحد، مثال ذلك زيد، فإنه جوهر، وفيه كمية، لأنه طويل، وفيه كيفية، لأنه أسود، وفيه مضاف، لأنه ابن، وأين لأنه في مكان، ومتى لأنه في زمان، ونصبة لأنه قائم أوقاعد، وملكة لأنه ذومال، ويفعل إذا ضرب، وينفعل إذا ضُرب.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأجناس العشرة بقول وجيز، فإنا نذكر الآن طرفاً من كيفية تقسيمها إلى الأنواع ليكون إرشاداً للمتعلمين إلى أحد طرق التعاليم، إذ كانت طرق التعاليم أربعة أنواع، أحدها طريق الحدود، والآخر طريق البرهان، والآخر طريق التحليل، والآخر طريق التقسيم، وهي هذه: الجوهر نوعان: جسماني وروحاني، فالجسماني نوعان: فلكي وطبيعي، فالطبيعي نوعان: بسيط ومركب، فالبسيط أربعة أنواع: نار وهواء وماء وأرض؛ والمركب نوعان: جماد ونام، فالجماد هوالجسام المعدنية، والنامي نوعان: نبات وحيوان، والنبات ثلاثة أنواع، منه ما يكون بالغرس كالأشجار، ومنه ما يتكون بالبذر كالزرع، ومنه ما يكون بنفسه كالحشائش والكلاء. والحيوان نوعان: ناطق كالإنسان، وغير ناطق كسائرها، وهوثلاثة أنواع، منه ما يتكون في الرحم، ومنه ما يتكون في البيض، ومنه ما يتكون في العفونات كالدبيب؛ وتحت كل نوع من هذه أنواع، وتحت تلك الأنواع انواع أخر إلى أن ينتهي إلى الأشخاص.
وأما الجواهر الروحانية فتنقسم قسمين: الهيولى والصورة. فالصورة نوعان: مفارقة؛ كالنفس والعقل، وغير مفارقة كالأشكال والأصباغ، والكم ينقسم نوعين: متصل ومنفصل. فالمتصل خمسة أنواع: الخط والسطح والجسم والمكان والزمان، والمنفصل نوعان: العدد والحركة. والخط ثلاثة أنواع: مستقيم ومقوس ومنحن؛ والسطوح ثلاثة أنواع: بسيط ومقبب ومقعر؛ والجسم قد تقدم ذكر أقسامه؛ والمكان سبعة أنواع: فوق وتحت وقدام وخلف ويمنة ويسرة ووسط؛ والزمان ثلاثة: ماض ومستقبل وحاضر، وكل واحد ينقسم أربعة أنواع: السنون والشهور والأيام والساعات. والعدد نوعان: أزواج وأفراد، ووجه آخر صحيح وكسور، ووجه آخر آحاد وعشرات ومئون وألوف. والحركة ستة أنواع: الكون والفساد، والزيادة والنقصان، والتغير والنقلة؛ وخاصة هذا الجنس مساووغير مساو. والكيف نوعان: جسماني وروحاني، فالجسماني ما يدرك بالحواس، والروحاني ما يعرف بالعقول، كالعلم والقدرة والشجاعة والاعتقادات، والجسماني نوعان: مفردة ومركبة، فالمفردة نوعان: فاعلة وهي الحرارة والبرودة، ومنفعلة وهي اليبوسة والرطوبة. والمركبة نوعان: ملازمة ومزايلة، فالملازمة كالطعوم والألوان والروائح وزرقة الأزرق وفطسة الأفطس، والمزايلة كالقيام والقعود وصفوة الوجل، وحمرة الخجل. والكيفية الروحانية أربعة أنواع: الأخلاق والعلوم والآراء والأعمال؛ وخاصية هذا الجنس الشبيه وغير الشبيه، والمضاف نوعان: النظير وغير النظير، فالنظير ما كان المضافان في الأسماء سواء، كالأخ والجار والصديق، وغير النظير ما كان المضافان في الأسماء مختلفين، كالأب والابن والعبد والمولى والعلة والمعلول والأول والآخر والنصف والضعف والأصغر والأكبر وكلها في الإضافة معاً. فأما ذواتها في الوجوه فعلى وجهين، الوجه الأول أن يكون أحدهما قبل الآخر كالأب والابن والعلة والمعلول، والآخر أن يكونا موجودين قبل الإضافة، مثل العبد والمولى والجار والصديق، وجنس المضاف إذا أضيفت إدارته دخل باقي الأجناس كلها فيه بالعرض لا بالذات، وذلك أن الجوهر موصوف بالأعراض، والأعراض صفات له، والصفة صفة الموصوف، والموصوف موصوف بالصفة، كما أن الأب أب للابن، والابن ابن للأب؛ وخاصية هذا الجنس أن المضافين يدوران، أحدهما على الآخر، ولا يتنافيان، وهما في الإضافة معاً. فهذه الأربعة الأجناس يقال لها البسيطة.
وأما الستة الباقية فيقال لها مركبة أولها الأين وهومن تركيب جوهر مع المكان، والأماكن سبعة أنواع كما بينا في جنس الكمية التي هي من تركيب جوهر مع الزمان، وقد بينا أنواع الزمان في جنس الكم؛ والنصبة تركيب جوهر مع جوهر آخر، فإن المتكئ على المتكأ، والمستند مستند على المستند. والملكة من تركيب جوهر مع جوهر آخر، وهوينقسم نوعين: إما داخل، وإما خارج، فالداخل إما في النفس كما يقال له: علم وعقل وحلم، وإما في الجسم كما يقال له حسن وجمال ورونق. والذي من خارج نوعان: حيوان وجماد كما يقال له: عبيد ودواب ودراهم وعقارات وتجارات، وجنس يفعل نوعان، إما أن يكون أثر الفاعل يبقى في المصنوع، كالكتابة والبناء وما شاكلهما من الصنائع، ومنها ما لا يبقى للفاعل أثر كالرقص والغناء. وجنس ينفعل نوعان: إما في الأجسام كما بينا في رسالة الصنائع العملية، وإما في النفوس كما بينا في رسالة الصنائع العلمية.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأجناس العشرة، وبينا كيفية انقسامها إلى الأنواع، فنحتاج أن نذكر الأشياء التي لا بد من ذكرها، وذلك أن هذه الأشياء، إذا قابل بعضها بعضاً، فلا تخلوأن يكون تقابلها في القول أوفي ذواتها، فالذي في القول هوالإيجاب والسلب، فالإيجاب هوإثبات صفة لموصوف، والسلب هونفي صفة عن موصوف، والذي يخص هذا التقابل الصدق والكذب. وأما الذي في ذوات الأشياء فهو ثلاثة أنواع، أحدها في الأشياء المتضادة، والآخر في الأشياء التي في جنس المضاف، والآخر في القنية والعدم. والمتضادان هما الشيئان اللذان ينافي كل واحد منهما صاحبه، ولا يدور عليه؛ والمتضادان نوعان: ذووسط وغير ذي وسط. فالذي هوذووسط مثل السواد والبياض اللذين هما ضدان وبينهما وسائط من الألوان كالحمرة والصفرة والخضرة وغيرها، ومثل الحلو والمر، فإنهما ضدان وبينهما طعوم أخر، كالحموضة والملوحة والعذوبة وغيرها من الطعوم.
وغير ذي الوسط كالصحة والمرض. ومن خاصية هذين الضدين أن أحدهما إذا كان في الجسم فالآخر أيضاً يكون في الجسم، فإن كان إحدهما في النفس فالآخر أيضاً يكون في النفس؛ وخاصية أخرى أن إدراك أحدهما إذا كان بحاسة، فالآخر أيضاً يدرك بتلك الحاسة. مثال ذلك أن السواد لا يكون إلا في الجسم ولا يدرك إلا في البصر، كذلك حكم البياض؛ والعلم لا يكون إلا في النفس ولا يدرك إلا بالعقل، والجهل كذلك حكمه. وأما المضافان فإنهما متقابلان ولا يتنافيان، ويدور أحدهما على الاخر كما بينا قبل. وأما القنية والعدم فشبيه الضد والمضاف جميعاً، وذلك أن العدم يضاف إلى القنية، والقنية لا تضاف إلى العدم، فيقال: عمى البصر ولا يقال بصر العمى. والقنية والعدم لا يجتمعان، كما أن الضدين لا يجتمعان، فإذا كانت القنية جسمانية كان العدم أيضاً جسمانياً، وإن كانت روحانية فكذلك العدم أيضاً روحاني. ولا يقال العادم للقنية إلا إذا حان وقت وجوده، مثال ذلك لا يقال للطفل إنه أدرد؛ إلا إذا حان خروج أسنانه، ولا تاركاً للفعل إلا حين إمكانه الفعل.
فصل في معنى قدم الأشياء
وأعلم بأن تقدم الأشياء بعضها على بعض من خمسة أوجه أحدها بالزمان والكون كما يقال: إن موسى أقدم من عيسى، والآخر بالطبع كما يقال: إن الحيوان أقدم من الإنسان، والثالث بالشرف كما يقال: الشمس أقدم من القمر، والرابع بالمرتبة كما يقال في العدد: إن الخمسة أقدم من الستة، والوجه الخامس بالذات، كالعلة والمعلول، والشيء في الشيء على عدة أوجه، الشيء في المكان وفي الزمان وفي الوعاء، والعرض في الجوهر، والجوهر في العرض، والشخص في النوع، والنوع في الجنس، وعكس هذا، والسائس في السياسة، والسياسة في السائس والشيء في التمام، والجزاء في الكل وما شاكلها، والشيء مع الشيء يقال على ثلاثة أوجه: مع الزمان مثل الفيء مع الضوء، ومثل المضافين كما بينا، ومثل الأنواع التي كلها معاً تحت جنس واحد.
وأعلم يا أخي بأن مثل هذه العشرة الألفاظ، وما يتضمنها من المعاني التي هي عشرة أجناس، المحتوية على جميع معاني الأشياء وما تحت كل واحد من الأنواع، وما تحت تلك الأنواع من الأشخاص، كمثل بستان فيه عشر أشجار، على كل شجرة عدة فروع وأغصان، وعلى كل غصن عدة قضبان، وعلى كل قضيب عدة أوراق، وتحت كل ورقة عدة أنوار؛ وثمار، وكل ثمرة لها طعم ولون ورائحة لا تشبه الأخرى. وأن مثل النفس إذا هي عرفت معاني هذه العشرة الأجناس وتصورتها في ذاتها، وتأملت فنون تصاريفها، وما تحتوي عليه من المعلومات المختلفة الصور، المفننة الهيئات، المتلونة الأصباغ، كمثل صاحب ذلك البستان، إذا فتح بابه ونظر إلى ما فيه من الألوان والأزهار، واشتم من روائح تلك الأنوار، وتناول من تلك الثمار، وتطعم من تلك الطعوم، وتمتع بنتائج ذلك البستان، فاجتهد يا أخي في طلب العلوم وفنون الآداب، فإن العلوم بساتين النفوس، وفنون معانيها وفوائدها وألوان الثمار. والعلوم غذاء النفس كما أن الطعام غذاء الجسد، وبها تكون حياتها ولذة عيشها وسرورها ونعيمها بعد مفارقة الجسد كما بينا في رسالة المعاد.
وفقك الله أيها الأخ البار الرحيم للسداد والرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
تمت الرسالة الحادية عشرة في المنطق الفلسفي، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على نبيه محمد وآله أجمعين.
الرسالة الثانية عشر في معنى بارامانياس
وهي الرسالة الثالثة من المنطقيات
بسم الله الرحمن الرحيم
وإذ قد فرغنا من ذكر العشرة الألفاظ التي يسميها الحكماء المنطقيون" المقولات العشرة"، ووصفنا كمية ما يتضمن كل واحد منها جنساً من المعاني، وهي الصور المنتزعة من الهيولى، ورسومها المصورة في أفكار النفوس الإنسانية، مثالها في رسالة قاطيغورياس؛ وقبل ذلك قد ذكرنا في فصل آخر الستة الألفاظ التي تستعملها الفلاسفة في أقاويلها، وفي فصل آخر قبله وصفنا أن الحروف المفردة، إذا ألفت صارت ألفاظاً، وأن الألفاظ إذا ضمنت المعاني صارت سمات، وأن السمات إذا ترادفت صارت كلاماً مفيداً، فنقول في هذا الفصل:
إن الكلام كله ثلاثة أنواع، فمنها ما هي سمات دالات على الأعيان يسميها المنطقيون والنحويون الأسماء؛ ومنها ما هي سمات دالات على تأثيرات الأعيان بعضها في بعض، ويسميها المنطقيون الكلمات؛ ومنها ما هي سمات دالات على معان كأنها أدوات للمتكلمين تربط بعضها ببعض، كالأسماء بالأفعال، والأفعال بالأسماء، يسميها النحويون الحروف، ويسميها المنطقيون الرباطات.
فالأسماء هي كل لفظة دالة على معنى بلا زمان، كقولك: زيد وعمرووحجر وخشب وما شاكلها من الألفاظ، والفعل مثل ضرب يضرب وعقل يعقل، وهوكل لفظة دالة على معنى في زمان. والحروف مثل قولك: من وفي وعلى وما شاكلها من ألفاظ مذكورة شرحها في كتب النحو. وبالجملة ينبغي لمن يريد أن ينظر في المنطق الفلسفي أن يكون قد ارتاض أولاً في علم النحوقبل ذلك.
وأعلم يا أخي أن الكلمات والأسماء إذا اتسقت صارت أقاويل، والأقاويل نوعان، فمنها ما يقع فيه الصدق والكذب، ومنها ما لا يقع فيه لا الصدق ولا الكذب، وهذه أربعة أنواع: الأمر والسؤال والنداء والتمني. والذي يقع الصدق والكذب فيه يسمى الأخبار، والأخبار نوعان، إما إيجاب صفة لموصوف، وإما سلبها عنه كقولك: النار حارة وليست بحارة، فقولك: ليست بحارة سلب. فالإيجاب إما أن يكون صدقاً، وإما أن يكون كذباً، وكذلك السلب مثل قولك إذا قلت: النار حارة فصدق، وإذا قلت: باردة فكذب؛ وإذا قلت: النار ليست بباردة فصدق، وإذا قلت: ليست بحارة فكذب. فقد تبين لك كيف يكون السلب والإيجاب تارة صدقاً وتارة كذباً.
وأعلم بأن الإيجاب والسلب تارة يكون حكماً حتماً، وتارة شرطاً واستثناء، فالإيجاب الحتم مثل قولك: الشمس فوق الأرض وهونهار، والشرط مثل قولك: إن كانت الشمس فوق الأرض فهو نهار. وكذلك حكم السلب مثله، مثال ذلك: ليست الشمس فوق الأرض ولا هونهار، والشرط والاستثناء مثل قولك: إن كانت الشمس ليست فوق الأرض فليس هونهاراً.
وأعلم بان الحكم نوعان: تارة يكون الصدق والكذب فيه ظاهرين، وتارة يكونان فيه خفيين، بيان ذلك أنه متى كان قول القائل محتملاً للتأويل، لم يتبين فيه الصدق والكذب، ومتى كان غير محتمل للتأويل بان فيه الصدق والكذب.
وأعلم بأن القول يكون غير محتمل للتأويل متى كان محصوراً، والمحصور من الأقاويل ما كان عليه سور؛ وسور الأقاويل نوعان: كلي وجزئي، فالسور الكلي مثل قولك: كل إنسان حيوان، فهذا صدق وظاهر بين لأن عليه سوراً كلياً. والكذب الظاهر البين مثل قول القائل: ليس واحد من الناس حيواناً، فكذب ظاهر، لأن عليه سوراً كلياً، وأما السور الجزئي فمثل قولك: بعض الناس كاتب، وبعض الناس ليس بكاتب، والصدق فيهما ظاهر بين، لأن عليهما سوراً جزئياً. وأما ما كان من الأقاويل الغير المحصورة فهو الذي ليس عليه سور، وهونوعان: مهمل ومخصوص. فالمهمل مثل قولك: الإنسان كاتب، والإنسان ليس بكاتب، فلا يتبين فيه الصدق والكذب، لأنه لا يمكن للقائل أن يقول أردت بعض الناس. وأما المخصوص فمثل قول القائل: زيد كاتب، وزيد ليس بكاتب، فلا يتبين فيهما الصدق والكذب، لأنه يمكنه أن يقول: أردت بزيد الفلاني. وأما إذا جعل على كل قول قائل سور كلي كما وصفنا، فيتبين الصدق عند ذلك لأنه لا يمكنه أن يقول: أردت غير ما أوجبه الحكم.
وأعلم أنه يجب على المستمع أن يلزم القائل ما يوجبه قوله، ويطالبه به، لا ربما في ضميره، لأن الضمائر لا يطلع عليها أحد إلا الله تعالى؛ فقد تبين بهذا المثال أن الكلام إذا لم يكن محصوراً بسور، لا يتبين فيه الصدق ولا الكذب ظاهراً.
وأعلم بأن الأسوار إنما تحصل الصفات للموصوفات، وتحتاج أيضاً أن يكون الموصوف محصلاً بصفات معلومة معروفة، وذلك أن الموصوف إذا لم يكن معروفاً باسم، فلا يتبين فيه الصدق والكذب في القول، مثل قولك: غير الإنسان حيوان، وغير زيد كاتب، وما سوى الحيوان جواهر ميتة، وما شاكل هذه الألفاظ التي هي سمات لأعيان غير معروفة، بل مشتركة لكل شيء سوى ذلك المستثنى منه.
وأعلم يا أخي بأن السلب والإيجاب هما حكمان متناقضان في اللفظ والمعنى جميعاً، لا يجتمعان في الصدق والكذب في صفة واحدة، في زمان واحد، من جهة واحدة، في إضافة واحدة، لأنه رفع الشيء الذي أوجب من الشيء الذي أوجبته له، على النحوالذي أوجبته له، في الوقت الذي أوجبته له، من الوجه الذي أوجبته له. ومتى نقصت من هذه الشرائط واحدة جاز اجتماعها على الصدق والكذب جميعاً، مثال ذلك قولك: بعض الناس كاتب، وبعض الناس ليس بكاتب، وفي الصبي إنه كاتب بالقوة ليس بكاتب بالفعل، وإليه أشار بقوله- عليه السلام-:" كنت نبياً وآدم بين الماء والطين" عنى كنت نبياً بالقوة لا بالفعل؛ وفي الرجل الواحد إنه عالم بشيء ليس بعالم بشيء آخر، وصائم في رمضان بالنهار ليس بصائم بالليل، وكبير بالإضافة إلى ما هوأصغر منه، وليس بكبير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه، والكلب ليس يتحرك لأن الكلب اسم مشترك، وكذلك يتحرك، اسم يقع فيه الحركات الست.
وأعلم يا أخي بأنه إذا حكم بالقول على موصوف بصفة سميت تلك الصفة قضية ثنائية مثل قولك: زيد كاتب لأنه يجوز أن يكون كاتباً وغير كاتب، فإذا قطعت على أحد الخبرين كان قولاً جازماً وقضية جازمة. وإذا قرن بهذه القضية أحد الأزمان الثلاثة، سميت قضية ثلاثية مثل قولك: زيد كتب أمي أويكتب غداً، أوهوكاتب اليوم. وإن زدت على إحدى القضايا الثلاثية أحد العناصر الثلاثة الذي هومن الممكن والممتنع والواجب سميت رباعية مثل قولك" يمكن أن يكون هذا الصبي يوماً ما رجلاً جلداً، وممتنع أن يحمل ما ألف رطل، وواجب أن يموت يوماً ما.
وأعلم بأن السلب والإيجاب نوعان: كلية وجزئية، فالكلية الموجبة مثل قولك: كل نار حارة، وسالبتها: ليس شيء من النيران حارة. فإذا تقابلتا سميتا أضداداً كبرى. والموجبة الجزئية مثل قولك: بعض الناس كاتب، وسالبتها: ليس واحد من الناس بكاتب. وإذا تقابلنا سميتا أضداداً صغرى، وإذا تقابلت قضيتان موجبتان أوسالبتان سميتا متتاليتين مثل قولك: بعض الناس حيوان، بل كل الناس حيوان، وإن بعض الناس لا يطير، بل كل الناس لا يطيرون. والقضيتان المتلائمتان هما اللتان تتفقان في المعنى وتختلفان في اللفظ، مثال ذلك: كل نار حارة، وليست شيء من النيران باردة، وبعض الناس كاتب، ليس بعض الناس أمياً.
وأعلم أن الصفة تسمى محمولاً، والموصوف يسمى موضوعاً لحمله، فإذا كثرت الموصوفات، والصفة واحدة، فالقضايا تكون كثيرة مثل قولك: زيد كاتب وخالد كاتب وعمروكاتب. وإذا كثرت الصفات، والموصوف واحد، فالقضايا كثيرة مثل قولك: زيد كاتب وحداد ونجار.فإذا كثرت الصفات في اللفظ، والمعنى واحد، فالقضية واحدة مثل قولك: زيد فهم فقيه عالم.
وأعلم أن القضايا تختلف تارة بالسلب والإيجاب، وتارة بالكل والجزء. والاختلاف بالسلب والإيجاب يسمى كيفية، وبالكلية والجزئية يسمى كمية. فإذا اختلفت القضايا بالكيفية والكمية سميتا متناقضتين، وإذا اختلفت بالكيفية سميتا متضادتين، والمتناقضان أشد عناداً من المتضادين؛ والمتضادان مثل قولك: كل إنسان كاتب، كل إنسان ليس بكاتب؛ والمتناقضان مثل قولك: كل إنسان كاتب، ليس كل من الناس بكاتب.
وأعلم بأن الواجب في الكون أقدم في الطبع من الممكن، والممكن أقدم من الممتنع، لأنه لولم يكن الواجب في الكون لما عرف الممكن، ولولم يكن الممكن لما عرف الممتنع.
وأعلم أيها الأخ- أيدك الله وإيانا بروح منه- بأن كل قضية كلية أوجزئية، موجبة كانت أوسالبة، فهي مركبة من حدين يسمى أحدهما الموضوع والآخر المحمول، مثال ذلك قولك: النار حارة، فالنار هي الموضوعة، والحرارة هي المحمولة.
وأعلم بأنه ربما جعل الموضوع محمولاً، والمحمول موضوعاً، مثال ذلك إذا قيل: النار حارة، ثم قيل: الحارة نار، ويسمى هذا عكس القضية.
وأعلم بأنه ربما تكون القضية قبل العكس صادقة، وبعده كاذبة مثل قولك: كل حيوان إنسان، وكل إنسان حيوان. وربما تكون صادقة قبل العكس وبعده مثل قولك: كل إنسان ضحاك، وكل ضحاك إنسان. وربما تكون كاذبة في الحالتين جميعاً مثل قولك: كل إنسان طائر، وكل طائر إنسان.
هذه آخر رسالة بارامانياس وتليها رسالة أنولوطيقا الأولى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
الرسالة الثالثة عشرة من القسم الرياضي في معنى أنولوطيقا
فصل في أنولوطيقا الأولى
أعلم يا أخي بأن كل قضيتين إذا قرنتا ووجب عنهما حكم آخر، سميت القضيتان مقدمتين، وسمي ذلك الحكم نتيجتهما، مثال ذلك: إذا قيل كل إنسان حيوان، وكل حيوان نام، فينتج من هاتين أن كل إنسان نام.
وأعلم بأن المقدمتين لا تقترنان إلا أن تشتركا في كل حد واحد، وتتباينان بحدين آخرين، وذلك الحد لا يخلومن أن يكون موضوعاً في إحدهما، ومحمولاً في الأخرى، أويكون محمولاً في كلتيهما، أويكون موضوعاً فيهما جميعاً.فإن كان موضوعاً في إحداهما، محمولاً في الأخرى، يسمى ذلك الشكل الأول، وهومثل قولك: كل إنسان حيوان، وكل حيوان متحرك، فالحيوان هوالحد المشترك في المقدمتين جميعاً، محمولاً في الأولى، موضوعاً في الأخرى. وإن كان محمولاً فيهما جميعاً سمي ذلك الشكل الثاني، وهوقولك: كل إنسان حيوان وكل طير حيوان، فالحد المشترك الذي هوالحيوان محمول فيهما جميعاً. وإن كان موضوعاً فيهما سمي ذلك الشكل الثالث، وهومثل قولك: كل إنسان حيوان، وكل إنسان ضحاك.
وأعلم يا أخي بانه إذا اقترنت هذه المقدمات على هذه الشرائط، واستخرج بها حكم ما، سمي جميع ذلك الشكل" سلوجيموس" يعني القياس المنتج.
وأعلم يا أخي بأن من المقدمات ما هومنتج، ومنها ما هوغير منتج، فالمنتج ما تقدم ذكره، وغير المنتج هوما ليس له حد مشترك، مثل قولك: كل إنسان حيوان، وكل حجر يابس، فإن هاتين المقدمتين، وإن كانتا صادقتين، فليستا تنتجان شيئاً، لأنه ليس لهما حد مشترك.
وأعلم يا أخي أنه إنما احتيج في المقدمات إلى الحد المشترك ليقع الازدواج بينهما، وإنما يراد الازدواج لتخرج النتيجة التي هي الغرض من تقديم المقدمات، كما أن الغرض من تزويج الحيوان الذكور مع الإناث هوأن ينتج منها أولاد مثلها، فهكذا أيضاً حكم المقدمتين واقترانهما هولأن ينتج منهما حكم على شيء ليس بظاهر للعقول، فمن أجل هذا احتيج إلى اقتران المقدمات.
وأعلم يا أخي بأنه ليس كل اقتران منتجاً، كما أنه ليس من كل تزويج يكون الولادة، وذلك أنه إذا قيل كل إنسان حيوان، وكل طائر حيوان، فإن هاتين المقدمتين وإن كانتا قد اشتركتا في حد فليس ينتج من اقترانهما نتيجة، لأنهما من الشكل الثاني. وهكذا إذا قيل ليس واحد من الناس طائراً، ولا واحد من الناس حجراً، فإن هاتين المقدمتين، وإن كانتا قد اشتركتا، فليس ينتج من اقترانهما شيء لأنهما من الشكل الثالث. وهذان الشكلان ليس يوثق بنتيجتهما، دون أن يعتبر بالشكل الأول كما بين ذلك في كتب المنطق بشرح طويل.
وأعلم يا أخي بأن مقدمات الشكل الأول منتجة كلها، كلية كانت اوجزئية، سالبة كانت أوموجبة؛ مثال ذلك إذا قيل: كل إنسان حيوان، كلية موجبة صادقة؛ وكل حيوان متحرك، كلية موجبة صادقة، ينتجان: كل إنسان متحرك، كلية موجبة صادقة. وإذا قيل: ليس واحد من الناس حجراً، كلية سالبة صادقة، ولا واحد من الأحجار طائراً، كلية سالبة صادقة، نتيجتهما: ليس واحد من الناس طائراً، كلية سالبة صادقة. وبعض الناس كاتب، جزئية موجبة صادقة؛ وبعض الكتاب حاسب، جزئية موجبة صادقة؛ نتيجتهما: بعض الناس حاسب، جزئية موجبة صادقة، وبعض الناس ليس بكاتب، جزئية سالبة صادقة، وبعض الكتاب ليس بحاسب، جزئية سالبة صادقة؛ نتيجتهما: بعض الناس ليس بحاسب، جزئية سالبة صادقة. فقد بان أن هذا الشكل ومقدماته ينبغي أن يتحفظ بها ويعرف استعمالها في القياسات، وكيفية استخراج نتائجها، ويتحرز من السهو والغلط فيها، فإنه يدخل عليها الآفات العارضة، كما يدخل في سائر الموازين والقياسات، إما بقصد من المستعملين لها، أوبسهويدخل عليهم فيها، وذلك أنه ربما تكون المقدمات صادقة، ونتائجها كاذبة، وربما كانت المقدمات كاذبة، ونتائجها صادقة، وربما تكون المقدمات والنتيجة كاذبة كلها اوصادقة كلها.
وأعلم يا أخي بأن هذا الباب ينبغي أن يتفحص وينظر موضع المغالطة فيه، ويتحرز منه، فإن الذين راموا إبطال القياس المنطقي من هذا الباب أتوا، وذلك أن أرسطاطاليس لما عمل كتاب القياس، وبين فيه القياس الصحيح الذي لا يدخله الخطأ والزلل، وذكر أنه ميزان يعرف به الصدق من الكذب في الأقاويل، والصواب نت الخطأ في الآراء، والحق من الباطل في الاعتقادات، والشر من الخير في الأفعال، فكثر الراغبون فيه في ذلك الزمان، والطالبون له، وتركوا ما سواه من كتب الجدل، وزال الاختلاف الذي كان بينهم لرجوعهم إلى الميزان الذي يريهم الحق، ووثقوا به، وأيقنوا أنه لا يجوز غيره، كقوم اختلفوا في وزن شيء من الأشياء، فلما اعتبروه بالميزان عرفوه يقيناً، ورجعوا إليه وتركوا الجدل والمراء. فلما زال الاختلاف فيما بينهم حسده جماعة من أبناء جنسه من المتفلسفة، وراموا إبطال ذلك عليه من هذا الطريق، وهوأن أتوا بمقدمات صادقة، نتائجها كاذبة، وبمقدمات كاذبة، نتائجها صادقة، وبمقدمات كاذبة، نتائجها كاذبة، وعارضوا بها تلامذة أرسطاطاليس، لكيما ينفروهم عنها، ويزهدوهم فيها، وهي هذه: ليس واحد من الناس بحجر، سالبة صادقة؛ ولا واحد من الأحجار بحيوان، سالبة صادقة، نتيجتهما: لا واحد من الناس بحيوان، سالبة كاذبة. والآخر: كل إنسان طائر، موجبة كاذبة، وكل طائر ناطق، موجبة كاذبة، نتيجتهما: كل إنسان ناطق، موجبة صادقة. وكل إنسان طائر، موجبة كاذبة، وكل طائر حجر، موجبة كاذبة، نتيجتهما: كل إنسان حجر، موجبة كاذبة، وكل إنسان حيوان، موجبة صادقة.
وأعلم يا أخي بأن مثل هذه المغالطة تدخل في الصناعة من وجهين، أحدهما أن يكون المتعاطي جاهلاً بصناعة القياس أوناقصاً فيها، فيغالط ولا يدري من أين وكيف ولم، كما يغلط من يحسب ولا يدري الحساب، أويزن أويكيل ولا يدري كيف الوزن والكيل، أويكون عارفاً بالصناعة، ولكن يقصد عمداً وعناداً لغرض من الأغراض، كما يفعل الحاسب والوزان والكيال دغلاً وغشاً وحيلة، فمن أجل هذه المغالطة التي أتى بها القوم أوصىأرسطاطاليس تلاميذه بسبع شرائط أن لا يستعمل قياس برهاني من مقدمتين سالبتين لا كليتين ولا جزئيتين أصلاً، ولا مهملتين، ولا جزئية ولا خاصة البتة، إذ كان منها تكون هذه المقدمات التي أتى بها القوم لمغالطتهم، بل يقتصر على استعمال المقدمات الصادقة التي نتائجها صادقة، وهي التي تغافل القوم عن ذكرها.
والمقدمات التي تصدق هي ونتائجها في كل مادة، وفي كل زمان قبل العكس وبعد العكس، تبين ذلك كله في أنولوطيقا الثانية.
فصل في
بيان العلة الداعية إلى تصنيف القياسات المنطقية
أعلم يا أخي بأن الحكماء الأولين، لما نظروا في فنون العلوم وأحكموها، واستخرجوا الصنائع العجيبة وأتقنوها، واستنبطوا عند ذلك لكل علم وصناعة أصلاً منه تتفرع أنواعه، ووضعوا له قياساً يعرف به فروعها، وميزاناً يتبين به الزائد والناقص والمستوي منها، مثل صناعة العروض التي هي ميزان الشعر يعرف بها الصحيح والمنزحف من الأبيات، ومثل صناعة النحوالتي هي ميزان الإعراب يعرف بها اللحن والصواب في الكلام، ومثل الأسطرلاب الذي هوميزان يعرف به الأوقات في صناعة النجوم، ومثل المسطرة والبركار والكونيا؛ التي هي موازين في أكثر الصنائع يعرف بها الاستواء من الاعوجاج، ومثل المكيال والذراع والشاهين؛ والقبان التي هي موازين يعرف بها الزائد والناقص والمستوي في البيع والشراء في معاملات التجار، ومثل الحساب الذي هوميزان العمال وأصحاب الدواوين.
وأعلم يا أخي بأن هذه المقاييس والموازين هي أحكام بين الناس، نصبها الله الباري- جل ثناؤه- بين خلقه قضاة وعدولاً تحكم بالحق فيما يختلف الناس فيه من الحكم بالجزر والتخمين، لكيما، إذا تحاكموا إلى الموازين والمكاييل والمقاييس، حكمت بينهم بالحق، وقضي الأمر وانفصل الخطاب وارتفع الخلف؛ فلما رأى الحكماء المنطقيون اختلاف العلماء في الأقاويل والحكم على المعلومات بالجزر والتخمين بالأوهام الكاذبة، ومنازعتهم فيها، وتكذيب بعضهم بعضاً، وادعاء كل واحد أن حكمه الحق وخصمه المبطل، ولم يجدوا لهم قاضياً من البشر يرضون بحكمه، لأن ذلك القاضي أيضاً يكون أحد الخصوم، فرأوا من الرأي الصواب والحكمة البالغة أن يستخرجوا بقرائح عقولهم ميزاناً مستوياً وقياساً صحيحاً، ليكون قاضياً بينهم فيما يختلفون فيه، لا يدخله الخلل، وإذا تحاكموا إليه قضى بالحق وحكم بالعدل، لا يحابي أحداً، وهوالقياس الذي يسمى البرهان المنطقي، المماثل للبرهان الهندسي الذي يشبه البرهان العددي.
فصل في القياس المنطقي
وأعلم بأنه لما كان مقياس كل صناعة، وميزان كل بضاعة متخذاً من الأشياء التي تشاكلها من موضوعاتها، كالموازين التي يعرف بها الأثقال بصنجات؛لها ثقل، وميزان المساحة الذي تعرف به أبعاد أشياء لها أبعاد، وهي الذراع والباب والأشل، ومثل المسطرة التي تعرف بها الأشياء المستوية، فهكذا قاس الذين استخرجوا البرهان المنطقي وقالوا: إن اختلاف العلماء فيما يدعون من الحق والباطل والصواب والخطأ الذي في ضمائرهم لا يتبين لنا إلا في أقاويلهم من الصدق والكذب، وإن الأقاويل الصادقة والكاذبة لا تعرف إلا بميزان وقياس يقاس بهما ويوزن. ولما كان الميزان أيضاً لا يكون إلا من أشياء تجمع وتركب ضرباً من التأليف، حتى تصير ميزاناً يمكن أن يوزن به ويقاس عليه، مثال ذلك الميزان الذي تعرف به الأثقال، فإنه مجموع من كفتين وعمود وخيوط وصنجات، فهكذا سلكوا في اتخاذ الميزان المنطقي الذي يسمى البرهان، وبدأوا أولاً فذكروا الأشياء التي منها يكون الميزان والموزون جميعاً في قاطيغورياس، ثم ذكروا في بارامانياس كيف تركب وتؤلف تلك الأشياء، حتى يكون منها ميزان ومقياس، ثم ذكروا في أنولوطيقا الأولى كيف يعتبر ذلك الميزان، حتى لا يكون فيه الغبن والاعوجاج، ثم ذكروا كيفية الوزن به، حتى يصح ولا يدخل الخلل في أنولوطيقا الثانية.
فصل في أن الحكم على الأشياء بالعقل
والحث على تحري الصواب
وأعلم يا أخي بأن الإنسان قادر على أن يقول خلاف ما يعلم، ولكن لا يقدر أن يعلم خلاف ما يعقل، وذلك أنه يمكنه أن يقول: زيد قائم قاعد في حال واحدة، ولكن لا يمكنه أن يعلم ذلك، لأن عقله ينكره عليه. فلما كان هذا هكذا فلا ينبغي أن ينزل بالحكم على قول القائلين، ولكن على حكم العقول.
وأعلم يا أخي بأن أهل كل صناعة يحرصون على حفظ أنفسهم من الخطأ والزلل في صناعتهم، وذلك أن أهل كل علم يتجنبون الخطأ، ويتحرون الصواب والحق، ويجتهدون في ذلك، فينبغي لإخواننا- أيدهم الله وإيانا بروح منه- ومن يتعاطى منهم المنطق الفلسفي أن يحفظ أقاويله من التناقض من اولها إلى آخرها؛ فإن من المتكلمين من يحفظ أقاويله من التناقض في مجلس واحد أوعدة مجالس، ولكن قل من يحفظ كل أقاويله من أوائلها إلى أواخرها، حتى لا يناقض بعضها بعضاً. مثال ذلك من قال في كتاب له: إن من شأن النفس أن تتبع مزاج البدن. ثم قال في كتاب آخر: إن النفس مزاج البدن. ثم قال في كتاب آخر: لا أدري ما النفس، أومثل من يعتقد بأن الله- عز وجل- خلق الخلق لينفعهم، ثم يقول ويعتقد بأنه لا يغفر لهم ولا يخرجهم من النار. ومثل من يعتقد بأن المكان جسم أوعرض حال في الجسم، ثم يعتقد أنه يبطل الجسم ويبقى المكان فارغاً. ومثل من يقول: إن الجزء لا يتجزأ. ثم يعتقد بأن له ست جهات، وهويشغل الحيز. وما شاكل ذلك من الأوقايل المتناقضة والآراء الفاسدة يعتقدها إنسان واحد في نفسه، ثم يتعاطى مع هذا المنطق الفلسفي والرهان الحقيقة.
وأعلم يا أخي علماً يقيناً بأن أهل كل صناعة وعلم إذا لم يكن لهم أصل صحيح في صناعتهم، منه يتفرع علمهم، وقياس مستو، عليه يقاس ما يعلمونه، مثل صناعة العدد كما بينا قبل، فإنه لا يمكنه أن يتحرز فيه من الخطأ، ولا أن يتجنب فيه من الباطل، لأن الأصل إذا كان خطأً فالفروع عليه تدور.
وأعلم بأن من لا يحس بالتناقض في أقاويله، فكيف يوثق به في آرائه واعتقاده، وكيف يؤمن عليه أنه غير معتقد آراء متناقضة، ويكون فيها مخالفاً لنفسه ولا يدري، وكيف يرجى منه الوفاق مع غيره وهومخالف لنفسه، ومناقض لاعتقاده، وجاهل في معلوماته.
فصل في أن المنطق أداة الفيلسوف
وأعلم يا أخي بأن الحكماء المنطقيين إنما وضعوا القياس المنطقي، واستخرجوا البرهان الصحيح، ليكون المتعاطي للمنطق يبتدئ أولاً، ويقيم البرهان من عند نفسه على اعتقاده. فإذا صحت في نفسه تلك رام أن يصححها عند غيره. وقبل كل شيء تحتاج يا أخي أن تعلم كيف تحفظ أقاويلك من التناقض، فإنك إذا فعلت ذلك فقد أحكمت صناعة المنطق الفلسفي.
وأعلم بأن المنطق ميزان الفلسفة، وقد قيل إنه أداة الفيلسوف، وذلك أنه لما كانت الفلسفة أشرف الصنائع البشرية بعد النبوة، صار من الواجب أن يكون ميزان الفلسفة أصح الموازين، وأداة الفيلسوف أشرف الأدوات، لأنه قيل في حد الفلسفة إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
وأعلم بأن معنى قولهم: طاقة الإنسان، هوأن يجتهد الإنسان ويتحرز من الكذب في كلامه وأقاويله، ويتجنب من الباطل في اعتقاده، ومن الخطأ في معلوماته، ومن الرداءة في أخلاقه، ومن الشر في أفعاله، ومن الزلل في أعماله، ومن النقص في صناعته. هذا هومعنى قولهم: التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان، لأن الله- عز وجل- لا يقول إلا الصدق، ولا يفعل إلا الخير. فاجتهد يا أخي في التشبه به في هذه الأشياء، فلعلك توفق لذلك، فتصلح أن تلقاه، فإنه لا يصلح للقائه إلا المهذبون بالتأديب الشرعي والرياضات الفلسفية.
وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا أن نقدمه من هذه الرسالة بلفظ وجيز، عمدنا إلى الرسالة التي هي موضوعة للبرهان.
الرسالة الرابعة عشرة في معنى أنولوطيقا الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
وإذ قد فرغنا من ذكر المقولات العشرة، وكمية أنواعها، وكيفية اقتراناتها، وفنون نتائجها فيما تقدم، فنريد الآن أن نبين ما القياس البرهاني، وكمية أنواعه، وكيفية تأليفه واستعماله، واستخراج نتائجه، ولكن نحتاج قبل ذلك كله أن نخبر أولاً ما غرض الفلاسفة في استعمال القياس البرهاني.
وأعلم يا أخي بأنه لما كانت طرق العلوم والمعارف والاستشعار والإحساس كثيرة، كما بينا بعضها في رسالة الحاس والمحسوس، وبعضها في رسالة العقل والمعقول، وبعضها في رسالة أجناس العلوم؛ وكانت الطرق التي سلكها الفلاسفة منها في التعاليم وطلبهم معرفة حقائق الأشياء أربعة أنواع، وهي التقسيم والتحليل والحدود والبرهان، احتجنا أن نذكر واحداً واحداً منها، ونبين كيفية المسلك فيها، وأن المعلومات كيف تعرف بها، ولم هي أربع طرق لا أقل ولا أكثر، أما علة ذلك، فإنه لما استبان واتضح في قاطيغورياس بطريق القسمة أن الموجودات كلها ليست تخلوأن تكون أجناساً وأنواعاً وفصولاً وأشخاصاً، وجب ضرورة أن تكون طريق المعرفة بكل واحد منها غير الأخرى؛ بيان ذلك أنه بالقسمة تعرف حقيقة الأجناس من الأنواع، والأنواع من الأشخاص، وبالتحليل تعرف حقيقة الأشخاص، أعني كل واجد منها ماذا هومركب، ومن أي الأشياء هومؤلف، وإلى ماذا ينحل؛ وبالحدود تعرف حقيقة الأنواع من أي الأجناس كل واحد منها، وبكم فصل يمتاز عن غيره؛ وبالبرهان تعرف حقيقة الأجناس التي هي أعيان كليات معقولات، كما سنبين بعد هذا الفصل. فنريد أن نشرح أولاً طريق التحليل في هذا الفصل، إذ قد فرغنا من طريق القسمة في قاطيغورياس، ولعلة أخرى أيضاً أن طريق التحليل أقرب إلى إفهام المتعلمين، لأنها طريق يعرف بها حقيقة الأشخاص، والأشخاص هي أمور جزئية محسوسة، كما سنبين بعد هذا الفصل، أما طريق الحدود وطريق البرهان فهما أدق وألطف، وإنما يعرف بهما الأشياء المعقولة وهي الأنواع والأجناس.
فصل في طريق التحليل والحدود والبرهان
وأعلم بأن معنى قولنا: الشخص، إنما هوإشارة إلى جملة مجموعة من أشياء شتى، أومؤلفة من أجزاء عدة منفردة متميزة عن غيرها من الموجودات. والأشخاص نوعان، فمنها مجموع من أجزاء متشابهة مثل هذه السبيكة، وهذا الحجر، وهذه الخشبة، وما شاكل ذلك من الأشخاص التي أجزاؤها كلها من جوهر واحد. ومنها أشخاص مجموعة من أجزاء مختلفة الجواهر، متغايرة الأعراض، مثل هذا الجسد، وهذه الشجرة، وهذه المدينة، وما شاكل ذلك من المجموعات من أشياء شتى.
فإذا أردنا أن نعرف حقيقة شخص من هذه الأشخاص، نظرنا أولاً إلى الأشياء التي هي مركبة منها: ما هي، وبحثنا عن الأجزاء التي هي مؤلفة منها: كم هي.
وأعلم يا أخي بأن الأشياء المركبة كثيرة الأنواع، لا يحصي عددها إلا الله- عز وجل- ولكن يجمعها كلها ثلاثة أجناس، إما أن تكون جسمانية طبيعية، أوجرمانية صناعية، أونفسانية روحانية. فنريد أن نذكر من كل جنس منها مثالاً واحداً لكيما يقاس عليه سائرها. فمن الأشخاص الجسمانية الطبيعية جسد الإنسان. فإنه جملة مجموعة مؤلفة من أعضاء مختلفة الأشكال، كالرأس واليدين والرجلين والرقبة والصدر وما شاكلها. وكل عضومنها أيضاً مركب من أجزاء مختلفة الجواهر والأعراض، كالعظم والعصب والعروق واللحم والجلد وما شاكلها. وكل واحد منها مكون من الأخلاط الأربعة. وكل واحد من الأخلاط له مزاج من الكيموس، والكيموس من صفوالغذاء، والغذاء من لب النبات، والنبات من لطائف الأركان، والأركان من الجسم المطلق بما يخصها من الأوصاف، والجسم مؤلف من الهيولى والصورة، وهما البسيطان الأولان، والجسد هوالمركب الأخير، وأما سائرها فبسائط ومركبات بالإضافة، ومثال آخر من الجرمانية الصناعية، وهوقولنا: المدينة، فإنا نشير به إلى جملة من أسواق ومحال، وكل واحد منها جملة من منازل ودور وحوانيت، وكل واحد منها مؤلف ومركب من حيطان وسقوف، كل واحد منها أيضاً مركب من الجص والآجر والخشب، وما شاكل ذلك، وكلها من الأركان، والأركان من الجسم، والجسم من الهيولى والصورة.
ومثال آخر من الروحاني والنفساني، وهوقولنا: الغناء، إشارة إلى ألحان مؤتلفة، واللحن مؤلف من نغمات متناسبة وأبيات متزنة، والأبيات مؤلفة من المفاعيل، والمفاعيل من الأوتاد والأسباب، وكل واحد منهما أيضاً مؤلف من حروف متحركات وسواكن. وإنما يعرف هذه الأشياء صاحب العروض، ومن ينظر في النسب الموسيقية. وعلى هذه المثالات يعتبر طريق التحليل حتى يتضح أن الأشياء المركبة من ماذا هي مركبة ومؤلفة، فعند ذلك يعرف حقيقتها.
وأما طريق الحدود فالغرض منها حقيقة الأنواع، وكيفية المسلك فيه هوأن يشار إلى نوع من الأنواع، ثم يبحث عن جنسه وكمية فصوله، وتجمع كلها في أوجز الألفاظ، ويعبر عنها عند السؤال؛ مثال ذلك: ما حد الإنسان، فيقال: حيوان ناطق مائت. فإن قيل: ما حد الحيوان، فيقال: جسم متحرك حساس. فإن قيل: ما حد الجسم، فيقال: جوهر مركب طويل عريض عميق. فإن قيل: ما حد الجوهر، فيقال: لا حد له، ولكن له رسم، وهوأن تقول: هوالموجود القائم بنفسه، القابل للصفات المتضادة، فإن قيل: ما الصفات المتضادة، فيقال: أعراض حالة في الجواهر لا كالجزء منها. فعلى هذا القياس يعتبر طريق الحدود، وقد أفردنا لها رسالة.
وأما طريق البرهان والغرض المطلوب فيه فهو معرفة الصور المقومة التي هي ذوات أعيان موجودة، والفرق بينها وبين الصور المتممة لها التي هي كلها صفات لها ونعوت وأحوال ترادفت عليها، وهي موصوفة بها، ولكن الحواس لا تميزها لأنها مغمورة تحت هذه الأوصاف، مغطاة بها، فمن أجل هذا احتيج إلى النظر الدقيق والبحث الشافي في معرفتها، والتمييز بينها وبين ما يليق بها ويترادف عليها بطريق القياس والبرهان.
فصل في ماهية القياس
وأعلم يا أخي أنه لما كان أكثر معلومات الإنسان مكتسباً بطريق القياس، وكان القياس حكمه تارة يكون صواباً، وتارة يكون خطأ، احتجنا أن نبين ما علة ذلك، لكيما يتحرز من الخطأ عند استعمال القياس، فنقول: القياس هوتأليف المقدمات، واستعماله هواستخراج نتائجها، ومقدمات القياس مأخوذة من المعلومات التي في أوائل العقول، وتلك المعلومات أيضاً مأخوذة أوائلها من طرق الحواس، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس كيفيتها.
فصل في بيان حاجة الإنسان إلى استعمال القياس
أعلم يا أخي بأنه لما كانت الحواس تدرك أن الأشخاص مركبة من جواهر بسيطة، في أماكن متباينة، وأعراض جزئية، في محال متميزة، عرفت أنها أعيان غيريات موجودة فحسب. وأما كمياتها وكيفياتها فلم تعلم على الاستقصاء إلا بالقياسات الموضوعة المركبة. مثال ذلك أنه إذا علم الإنسان بالحواس أن بعض الأجسام ثقيلة أوكثيرة أوعظيمة، فإنه لا يمكنه أن يعلم كمية أثقالها إلا بالميزان، ولا كثرتها إلا بالكيل، ولا عظمها إلا بالذراع، وما شاكل هذه، وهي كلها موازين ومقاييس يعلم الإنسان بها ما لا يمكنه أن يعلمه بالحزر والتخمين.
فصل في وجوه الخطأ في القياس وأعلم يا أخي بأن الخطأ يدخل في القياس من وجوه ثلاثة، أحدها أن يكون المقياس معوجاً ناقصاً أوزائداً، والثاني أن يكون المستعمل للقياس جاهلاً بكيفية استعماله، والثالث أن يكون القياس صحيحاً، والمستعمل عارفاً، ولكن يقصد فيغالط دغلاً وغشاً لمأرب له.
فصل في كيفية الخطأ
فصل في كيفية الخطأ من جهة المستعمل الجاهل
وأعلم يا أخي بأن الإنسان مطبوع على استعمال القياس منذ الصبا، كما هومجبول على استعمال الحواس، وذلك أن الطفل إذا ترعرع واستوى، وأخذ يتأمل المحسوسات، ونظر إلى والديه وعرفهما حساً وميز بينهما، وبين نفسه، أخذ عند ذلك باستعمال الظنون والتوهم والتخمين. فإذا رأى صبياً مثله وتأمله علم عند ذلك أن له والدين وإن لم يرهما حساً، قياساً على نفسه، وهذا قياس صحيح لا خطأ فيه، لأنه استدلال بمشاهدة المعلول على إثبات العلة. فإن كان له إخوة وقد عرفهم بالحس، أخذ عنه ذلك أيضاً بالتوهم والظن والتخمين، بأن لذلك الصبي أيضاً إخوة، قياساً على نفسه، وهذا القياس يدخله الخطأ والصواب، لأنه استدلال بمشاهدة المعلول على إثبات أبناء جنسه، لا على إثبات علته. وهكذا أيضاً كلما رأى هذا الصبي امرأة ورجلاً، ظن وتوهم أن لهما ولداً وإن لم ير ولدهما، قياساً على حكم والديه، وربما صدق هذا القياس حكمه، وربما كذب، لأنه استدلال بمشاهدة أبناء جنس العلة على إثبات معلولاتها. وعلى هذا المثال يقيس الإنسان من الصبا كلما وجد حالاً اوسبباً لنفسه أولأبويه أولإخوته، ظن مثل ذلك وتوهم لسائر الصبيان ولآبائهم وإخوتهم، قياساً على نفسه وأبويه وإخوته، حتى إنه كلما أصابه جوع أوعطش أوعري، أووجد حراً أوبرداً، أوأكل طعاماً فاستلذه، أوشرب شراباً فاستطابه، أولبس لباساً فاستحسنه، أوحزن على شيء فاته، أوفرح بشيء وجده، ظن عندما يصيبه من هذه الأحوال شيء أن قد أصاب سائر الصبيان الذين هم أبناء جنسه مثل ذلك.
وعلى هذا المثال تجري سائر ظنونه وتوهمه في أحكام المحسوسات، حتى ربما كان في دار والديه دابة أومتاع أوأثاث أوبئر ماؤها مالح، ظن وتوهم أن سائر دور الصبيان مثل ذلك، حتى إذا بلغ وعقل وتفحص الأمور المحسوسة، واعتبر أحوال الأشخاص الموجودة، عرف عند ذلك حقائق ما كان يظن ويتوهم في أيام الصبا، واستبان له شيء بعد شيء صواباً كان ظنه أوخطأ.
فصل في بيان طريق الخطأ عند العقلاء وخطأ القياس عند الفلاسفة
وأعلم يا أخي بأن على هذا المثال يجري سائر أحكام العقلاء وظنونهم وتوهمهم في الأشياء قبل البحث والكشف، وذلك أن أكثر الناس إذا رأوا في بلدهم ريحاً أومطراً أوحراً أوبرداً أوليلاً أونهاراً أوشتاءً أوصيفاً، ظنوا وتوهموا بأن ذلك موجود في سائر البلدان، قياساً على ما يجدون في بلدهم، كما كانوا يظنون، وهم صبيان، في سائر بيوت الناس مثل ما كانوا يجدون في بيوت آبائهم، حتى استبان لهم بعد التجربة حقيقة ما كانوا يتوهمون كما بينا قبل. فهكذا يجري حكم العقلاء من الناس في ظنونهم وتوهمهم في مثل هذه الأشياء التي تقدم ذكرها، حتى إذا نظروا في العلوم الرياضية، وخاصة علم الهيئة؛ استبان لهم عند ذلك حقيقة ما كانوا يظنون ويتوهمون صواباً كان أوخطأ.
وأعلم يا أخي بأن الإنسان لا ينفك من هذه الظنون والأوهام، لا العقلاء المتيقنون، ولا العلماء المرتاضون، ولا الحكماء المتفلسفون أيضاً، وذلك أنا نجد كثيراً ممن يتعاطى الفلسفة والمعقولات والبراهين يظنون ويتوهمون أن الأرض في موضعها الخاص بها هي ثقيلة أيضاً، قياساً على ما وجدوا من ثقل أجزائها، أي جزء كان. فإذا كان هذا هكذا، فغير مأمون أن تكون سائر القياسات تجري هذا المجرى، وفي هذا ما يدل على ضعف القياس وفساده ودلالته، وهكذا يظن كثير منهم: من يكون في مقابلة بلدهم من جانب الأرض، أن قيامهم يكون منكوساً، قياساً على ما يجدون من حال من يكون واقفاً تحت سطح، وآخر هوقائم فوقه، رجلاه في مقابلة رجليه، وهكذا يظن كثير منهم أن خارج العالم فضاء بلا نهاية إما ملاء؛ وإما خلاء، قياساً على ما يجدون من خارج دورهم من أماكن أخر، وخارج بلدهم بلداناً أخر، وخارج عالمهم عالم الأفلاك، وهكذا يظنون أن الباري- عز وجل- خلق العالم في مكان وزمان، قياساً على ما يجدون من أفعالهم وصنائعهم في مكان وزمان. ولهذه العلة ظن كثير منهم أن الباري- جل جلاله- جسم، قياساً على ما شاهدوا، إذ لم يجدوا فاعلاً إلا جسماً، ووجدوا الباري فاعلاً، وإذا ارتاضوا في العلوم الإلهية، استبان لهم أن الأمر بخلاف ذلك كما بينا في الرسالة الإلهية.
وأعلم يا أخي بأن الإنسان لا يرتقي في درجات العلوم والمعارف رتبة إلا وتسنح له أمور يكون علمه بها قبل البيان والكشف كظنونه بالأشياء المحسوسات قبل معرفة حقائقها وهوطفل كما بينا قبل.
فصل في معقولات الحواس ونتائجها وأعلم يا أخي بأن نسبة المعلومات التي يدركها الإنسان بالحواس الخمس، بالإضافة إلى ما ينتج عنها في أوائل العقول، كثيرة كنسبة الحروف المعجمة بالإضافة إلى ما يتركب عنها من الأسماء.
ونسبة المعلومات التي هي في أوائل العقول، بالإضافة إلى ما ينتج عنها بالبراهين والقياسات من العلوم، كثيرة، كنسبة الأسماء إلى ما يتألف عنها في المقالات والخطب والمحاورات من الكلام واللغات، والدليل على صحة ما قلنا بأن المعلومات القياسية أكثر عدداً من المعلومات التي هي في أوائل العقول ما ذكر في كتاب أقليدس، وذلك أنه يذكر في صدر كل مقالة مقدار عشر معلومات أقل أوأكثر مما هي في أوائل العقول، ثم يستخرج من نتائجها مئتي مسألة معلومات برهانية، وهكذا حكم كتاب المجسطي، وأكثر كتب الفلسفة هكذا حكمها. وإذ قد فرغنا من ذكر كيفية دخول الخطأ في القياس من جهة جهل المتعلمين، فنريد أن نذكر كيفية دخول الخطأ من جهة القياس واعوجاجه.
فصل في كيفية أعوجاج القياس وكيف التحرز منه
وأعلم يا أخي بأن الخطأ الذي يدخل في القياس من جهة اعوجاجه كثير الفنون كثرة يطول شرحها، ذكر ذلك في كتب المنطق، إلا أنا نريد أن نذكر في هذا الفصل شرائط القياس المستوي حسب، ليتحفظ بها ويقتصر على استعمال ما في البراهين، ويترك ما سواه من القياسات التي لا يؤمن فيها من الخطأ والزلل. فمن القياسات التي تخطئ وتصيب القياس على مجرى العادة بالأنموذج، وهوقياس الجزء على الكل.
وأعلم يا أخي أن القياس الذي لا يدخله الخطأ والزلل هوالذي حفظ في تركيبه واستعماله الشرائط التي أوصى بها أرسطاطاليس تلاميذه، وهي هذه: ينبغي أن يؤخذ في كل علم وتعلم قياسي معنيان معلومان، مما هو في أوائل العقول، وهما: هل هو، وما هو، وإنما أوصى بهذا من أجل أنه لا يمكن ان يعلم مجهول بمجهول، ولا أن يقاس على شيء مجهول وشيء معلوم، فلا بد أن يؤخذ شيء معلوم مما هو في أوائل العقول، ثم يقاس عليه سائر ما يطلب بالبرهان. والذي في أوائل العقول شيئان اثنان: هويات الأشياء وماهياتها، وذلك أن هويات الأشياء تحصل في النفوس بطريق الحواس، وماهياتها بطريق الفكر والروية والتمييز، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس.
وإذا حصلت هويات المحسوسات في النفس بطريق الحواس، وماهياتها بطريق الفكر والروية والتمييز، سميت النفوس عند ذلك عاقلة. وإذا تأملت وأردت يا أخي أن تعرف ما العقل الإنساني، فليس هوشيئاً سوى النفس الإنسانية التي صارت علامة بالفعل بعدما كانت علامة بالقوة. وإنما صارت علامة بالفعل بعدما حصل فيها صور هوية الأشياء بطريق الحواس، وصور ماهيتها بطريق الفكر والروية.
فصل في أساس القياس البرهاني
وأعلم يا أخي بأن على هذين العلمين يبنى سائر القياسات البرهانية، أعني: هل هو، وما هو، مثال ذلك ما ذكر في كتاب أقليدس في أول المقالة الأولى تسع معلومات مما هو في أوائل العقول، ثم بتوسطها يبرهن على سائر المسائل، وهي قوله: إذا كانت أشياء متساوية لشيء واحد، فهي أيضاً متساوية، وإن زيد على أشياء متساوية أشياء متساوية، صارت كلها متساوية؛ وإن نقص منها متساوية، كانت الباقية متساوية. وإن زيد على أشياء غير متساوية أشياء متساوية، كانت كلها غير متساوية، وإن نقص منها أشياء متساوية، كانت الباقية غير متساوية. وإن كان كل واحد مثلين لشيء واحد، فهي متساوية، وإن كان كل واحد نصف الشيء، فهي أيضاً متساوية. وإذا انطبقت مقاديرها ولم يفضل بعضها على بعض، فهي أيضاً متساوية؛ والكل أكثر من جزء. فهذه الحكومات كلها مأخوذة من العلوم التي هي في أوائل العقول بالسوية، لا يختلف العقلاء في شيء منها، ثم يقاس عليها ما هم مختلفون فيه.
فصل في أوائل العقول وأوائل المعلومات
وأعلم يا أخي بأن هذه الأشياء وأمثالها تسمى أوائل في العقول، لأن كل العقلاء يعلمونها، ولا يختلفون فيها إذا تأملوها وأنعموا النظر فيها؛ وإنما اختلافاتهم تكون في الأشياء التي تعلم بطريق الاستدلال والمقاييس، وسبب اختلافهم فيها كثرة الطرق وفنون المقاييس وكيفية استعمالها، وشرح ذلك طويل قد ذكر في كتب المنطق وكتب الجدل، ونريد أن نبين كيف تحصل حقائق هذه المعلومات في أنفس العقلاء.
وأعلم يا أخي بأن هذه المعلومات التي تسمى أوائل في العقول إنما يحصل في نفوس العقلاء باستقراء الأمور المحسوسة شيئاً بعد شيء، وتصفحها جزءاً بعد جزء، وتأملها شخصاً بعد شخص، فإذا وجدوا منها أشخاصاً كثيرة تشملها صفة واحدة حصل في نفوسهم بهذا الاعتبار أن كل كما كان من جنس ذلك الشخص ومن جنس ذلك الجزء هذا حكمه، وإن لم يكونوا يشاهدون جميع أجزاء ذلك الجنس، وأشخاص ذلك النوع. مثال ذلك أن الصبي إذا ترعرع واستوى وأخذ يتأمل أشخاص الحيوانات واحداً بعد واحد، فيجدها كلها تحس وتتحرك، فيعلم عند ذلك أن كل ما كان من جنسها هذا حكمه. وهكذا إذا تأمل كل جزء من الماء أي جزء كان، فوجده رطباً سيالاً؛ وكل جزء من النار، فوجده حاراً محرقاً؛ وكل جزء من الأحجار، فوجده صلباً يابساً؛ علم عند ذلك أن كل ما كان من ذلك الجنس فهذا حكمه. فبمثل هذا الاعتبار تحصل المعلومات في أوائل العقول بطريق الحواس.
وأعلم يا أخي بأن مراتب العقلاء في مثل هذه الأشياء التي تحصل في النفوس بطريق الحواس متفاوتة في الدرجات، وذلك أن كل من كان منهم أنعم نظراً وأحسن تأملاً وأجود تفكراً وألطف روية وأكثر اعتباراً، كانت الأشياء التي تعلم ببدائه العقول في نفوسهم أكثر مما في نفوس من يكون طول عمره ساهياً لاهياً مشغولاً بالأكل والشرب واللهوواللذات والأمور الجسمانية.
وأعلم يا أخي بأن أكثر ما يدخل الخطأ على المتأملين في حقائق الأشياء المحسوسة، إذا حكموا على حقيقتها بحاسة واحدة. مثال ذلك من يرى السراب ويتأمله، فيظن أنه غدران وأنهار. وإنما دخل الخطأ عليه لأنه حكم على حقيقتة بحاسة واحدة، وليس كل الأشياء تعرف حقائقها بحاسة واحدة، ذلك أن بحاسة البصر لا يدرك إلا الألوان والأشكال، وحقيقة الماء لا تعرف باللون واللمس والشكل، بل بالذوق، وذلك أن كثيراً من الأجساد السيالة تشبه لون الماء مثل الخل المصعد؛ والنفط الأبيض وما شاكلها.
وأعلم بأن لكل جنس من المحسوسات حاسة تعرف بها حقيقة ذلك الجنس، والأجسام السيالة يعرف فرق ما بينها وبين غيرها باللمس، وبعضها يعرف الفرق بينها بالذوق، وألوانها تعرف بالبصر، فلا ينبغي للمتأمل أن يحكم على حقيقة شيء من المحسوسات إلا بتلك الحاسة المختصة بمعرفة حقيقة ذلك الجنس من المحسوسات، كما بينا في رسالة الحاس والمحسوس. ونرجع الآن إلى ما كنا فيه فنقول:
وأما قوله: ينبغي أن يوضع في القياس البرهاني أولاً شيء معلوم: هل هو، وما هو، ليعلم به شيء آخر، كما يفعل المهندس فيضع خط اثم يعمل عليه مثلثاً متساوي الأضلاع، أويقسمه بقسمين، أويقيم عليه خطاً آخر، أويعلم عليه زاوية، وما شاكل ذلك مما قد ذكر في كتاب أقليدس وغيره من كتب الهندسة. والمعلوم: هل هو، وما هو، خط اوالمطلوب المجهول، ليعلم أويعمل، هوالمثلث. فهكذا ينبغي أيضاً أن يعمل في القياس البرهاني أن تؤخذ أولاً أشياء مما هي معلومة في أوائل العقول، ويركب التأليف ضرباً من التركيب، ثم يطلب بها أشياء مجهولة، ليس تعلم بأوائل العقول، ولا تدرك بالحواس. وأما قوله: ولا ينبغي في البرهان أن يكون الشيء علة لنفسه، فهذا بين في أوائل العقول، أي أن الشيء المعلول لا يكون علة نفسه، ولكن من أجل أن كثيراً ممن يتعاطى البرهان ربما جعل المعلول علة لنفسه، وهولا يشعر لطول الخطاب.
مثال ذلك من يتعاطى علم الطبيعيات، إذا سئل: ما علة كثرة الأمطار في بعض السنين، فيقول: كثرة الغيوم. فإن سئل: ما علة كثرة الغيوم، فيقول: كثرة البخارات المتصاعدة من البحار والآجام في الهواء. فإن سئل: ما علة كثرة البخارات المتصاعدة، فيقول أويظن: كثرة المدود وانصباب مياه الأنهار والأودية والسيول إلى البحار. فإن سئل: ما علة كثرة المياه والمدود والسيول إلى البحار، فيقول: كثرة الأمطار. فعلى هذا القياس يلزمه أن علة كثرة الأمطار هي كثرة الأمطار، فمن أجل هذا يحتاج صاحب البرهان أن يقول: إحدى العلل كيت وكيت، والثانية والثالثة والرابعة، ليسلم من الاعتراض، إذ قد تكون الغيوم كثيرة، والأمطار قليلة، لأن لكل شيء معلول أربع علل كما بينا في رسالة العلل والمعلولات.
فصل في أن المعلول لا يوجد قبل العلة وقوله: أن لا يكون المعلول قبل العلة، فهذا أيضاً بين في أوائل العقول، لأن المعلول لا يكون قبل العلة، ولكن من أجل أنهما من جنس المضاف إنما يوجدان معاً في الحس، وإن كانت العلة قبل المعلول بالعقل، حتى ريما يشكل، فلا تتبين العلة من المعلول؛ مثال ذلك إذا سئل من يتعاطى علم الهيئة: ما علة طول النهار في بلد دون بلد، فيقول: كون الشمس فوق الأرض هناك زماناً أطول.
وإذا عكس هذه القضية وقيل: كل بلد يكون فيه مكث الشمس فوق الأرض أكثر، فنهاره أطول، فتصدق، فيخفى على كثير ممن ليست له رياضة بالتعاليم، أيهما علة للآخر، أكون الشمس فوق الأرض لطول النهار، أوطول النهار لكون الشمس فوق الأرض. وهكذا النار والدخان ربما يوجدان معاً، وربما يوجد أحدهما قبل الآخر، وربما يستدل بالدخان على النار، وربما تجعل النار سبباً لوجود الدخان، فلا يدري أيهما علة للآخر.
وأعلم يا أخي بأن النار والدخان ليس أحدهما علة للآخر، بل علتهما الهيولانية هي الأجسام المستحيلة؛ وعلتهما الفاعلية هي الحرارة، وهما يختلفان في الصورة، وذلك أن الحرارة إذا فعلت في الأجسام المستحيلة فعلاً تاماً، صارت ناراً، وإن قصرت عن فعلها لرطوبة غالبة، صارت دخاناً وبخاراً.
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة