-
دخول

عرض كامل الموضوع : مقالات لجوزيف سماحة


صفحات : [1] 2

رجل من ورق
18/08/2008, 19:44
نصر الله ... الفرنكوفوني



استقبل الأمين العام لحزب الله القمة الفرنكوفونية بترحيب. حسن نصر الله فرنكوفوني؟ لقد استغرب البعض ذلك. والترحيب، إذا كان مفاجئاً، فهو مفاجئ بالمعنى الإيجابي للكلمة. لا يفعل سوى تأكيد أن هناك أصوليين أكثر تعقيداً بكثير مما يريد لهم خصومهم أن يكونوا، ومن الصورة التي يقدمها أصوليون آخرون عن أنفسهم.
أشاد نصر الله بالفرنكوفونية كرابطة ثقافية. كان في وسعه، حسب التبسيطات السائدة، اعتبارها غزواً ثقافياً يهدد الروابط الوحيدة التي يرفض الغلاة أن تشوبها شائبة. لم يصل إلى حد المجازفة بالحديث عن أن كل هوية هي، تعريفاً، مركبة. غير أنه تجاوز عتبة الحديث عن حوار الثقافات، عنوان المؤتمر، من أجل أن يمارسه فعلاً. واما أنه استسهل الأمر الصعب فلم يعد وارداً أن يتردد أمام الدعوة إلى تدعيم الفرنكوفونية لتحويلها الى رابطة سياسية. وفي الحالين كانت التعددية هدفاً يحاول الدفاع عنه. وهذا الهدف، عدا مصالحته مع واقع الحال، يمثل منحى سجالياً مع أحادية ثقافية وسياسية (واستراتيجية) تسعى لأن تفرض نفسها ولأن ترغم كل متباين عنها على أن يعيش وكأنه على حافة الانقراض.
وإذا كانت فرنسا هي القلب النابض للفرنكوفونية فإنها، في ممارستها السياسية، تبدو كمن يحاول الدفاع عن قدر من التعددية. لا داعي لبناء الأوهام في هذا المجال. ولكن لا بد من التسجيل أن باريس عندما تتصلب بعض الشيء، كما في مجلس الأمن هذه الأيام، فإنها تشجع أصواتاً على الارتفاع وترغم »انفراديي« الولايات المتحدة على إجراء حسابات تبدو لهم مهينة: استئذان الشرعية الدولية.
إن دول عدم الانحياز هي التي فرضت النقاش العراقي في نيويورك. والمزاج العام في القمة الفرنكوفونية معارض للجموح الأميركي. وفرنسا، في الموقعين، عنصر فعال. وهو يصبح أكثر فعالية إذا وجد صدى لتمايزه. ولقد أراد نصر الله، بحدود ما ومن يمثل، الإيحاء بأن الصمم عن »الاستثناء« الفرنسي خطأ. وتصرف في ذلك كمن يدرك أن الثنائية، في أسوأ الأحوال، هي شرط للتعددية وأنه ضروري التشبث بكل موقف مغاير من أجل توسيع ثغرة الخروج من الحصار.
حضور نصر الله إلى بيال كرر، بمعنى ما، صورة الوزاني. لا بل يمكن القول إن النجاح (المؤقت؟) في الوزاني لم يكن ممكناً لولا إدارة جيدة للعبة: الاحتماء بالقوانين الدولية، استنفار الوحدة الوطنية الداخلية، توزيع العمل بين الدولة والمقاومة، انتهاز الظرف السياسي. ففي هذه اللعبة يتداخل السياسي بموازين القوى العسكرية بالشروط الدولية والإقليمية، وهي أمور يصعب التقاطها على من يعجز عن فهم المغزى من الجلوس في الصف الأمامي يستمع إلى جاك شيراك يلقي كلمته. ولقد كان لافتاً أن الرئيس الفرنسي أسقط المطلب الصريح بإرسال الجيش اللبناني الى الحدود. وهو مطلب لو كان تحقق لما كانت قضية الوزاني عرفت المسلك الذي سلكته.
ثم إن حضور نصر الله موصول بتطورات تفاعلت منذ عدوان 96 وكان لفرنسا إسهام مباشر فيها. ففي ذلك الوقت كسر شيراك، عبر هيرفيه دو شاريت، الانفراد الأميركي. ونجح في الدفع نحو »لجنة التفاهم« التي حيّدت المدنيين وأمكن القول، آنذاك، إن العد العكسي للاحتلال بدأ. لم يكن متبقياً سوى أن تكون المقاومة فعالة، وقد كانت، خاصة أنها تمتعت، بعد فترة، بتواصل من نوع جديد مع السلطة الرسمية.
كان صعباً لمن شاهد نصر الله حيث كان أمس ألا يتنبّه إلى أن الأصولية متعددة.
فقبل أيام ارتأى البعض أن ضرب ناقلة نفط فرنسية في ميناء عدن هو عمل محبذ. ولم يدر في خلده ان الخطوة مجانية، وعدمية. ولم يهتم بانعدام الصلة بين العملية وبين أي ترتيب للأولويات سواء في فلسطين أو العراق. وقبل أيام، أيضاً، قال أحدهم إن المطلوب استهداف المصالح الألمانية علماً أن غيرهارد شرودر، حالياً، يتحمل الكثير جراء اعتراضه على السياسة الأميركية. وتنتمي هذه الآراء الى التبسيط المشكو منه عند الأميركيين. لا بل تفوقه بؤساً لأنها، ببساطة، لا تملك أدوات أفكارها ومشروعها ولا تفعل سوى زيادة العقبات في وجه الساعين، بما أمكنهم، إلى تعديل موازين القوى.
إن حضور نصر الله إشارة تبرؤ من حادثة عدن ومن تبريراتها. لا بل إنها رسالة تساجل ضد خلط الإرهاب بالمقاومة. فالحضور دليل قدرة على التمييز بين ما يستوجب رفع الصوت تهديداً، كما عشية تدشين الوزاني، وما يفرض مد اليد حواراً.
إن حضور نصر الله الجلسة الافتتاحية لقمة الفرنكوفونية هو عمل ديالكتيكي بامتياز. وليس مهماً إذا رفض اعتبار التوصيف مدحاً... علماً أن هذا هو القصد منه.
10/19/2002

رجل من ورق
18/08/2008, 19:45
النصف الأول من الشهر الجاري



المراصد المعنية بمتابعة »الأنشطة الإرهابية« في العالم يُفترض ان تكون مُنهَكة. لقد كان النصف الأول من الشهر الحالي حافلا. وتشكل حصيلته مادة محيّرة بعض الشيء: هل الحملة التي تقودها الولايات المتحدة ناجحة، أم ان الخصم غيّر طبيعته وأثبت قدرة على التأقلم وربما يكون انتقل إلى هجوم مضاد؟
يصعب تقديم جردة حصرية بما جرى في الأسبوعين الأخيرين. لذا يمكن الاكتفاء بعيّنة ذات مغزى.
لقد جرت اعتقالات في لبنان وايطاليا والمانيا وماليزيا والفليبين والكويت والولايات المتحدة... والواضح فيها ان جنسيات المعتقلين أكثر تنوعا من »بلدان الاعتقال«، وان التهمة كانت، باستمرار، صلة ما، غامضة، مع تنظيم »القاعدة«.
وشهدت ألمانيا وهولندا وفرنسا والولايات المتحدة محاكمات حملت بعضها مفاجآت ليست أقل من ان هجمات 11 أيلول كان مخطَّطا لها ان تشمل البيت الأبيض.
وحصلت تفجيرات في السعودية وفنلندا. كما تعرّض جنود أميركيون للهجوم في الفليبين والكويت (مرتين). وأصيبت ناقلة نفط فرنسية في ميناء عدن، ووقعت كارثة التفجير في أندونيسيا، وهي مروعة بالمقاييس كلها، وتأتي بعد أنباء جرت محاولات لنفيها عن إحباط »شيء ما« ضد السفارة الأميركية.
وفي هذه الأثناء كان قياديو »القاعدة« يُكثرون من البث الاعلامي عبر البيانات والكاسيتات فيهددون، ويدعون الى العمل، ويتبنون ما حصل. وكثرت التسريبات عن ان الاتصالات بينهم لم تنقطع وان حرارة تدب في البريد الالكتروني تنذر بعواصف قادمة.
وحتى لا يعتقد أحد ان هؤلاء القادة يتحدثون في فراغ فإن الوضع في أفغانستان (وأيضا في كشمير) لم يكن هادئا. ففي الولاية المتنازَع عليها يكاد الخبر »العسكري« يكون يوميا. وفي الارض الأهلية للمعركة كانت الاشتباكات بين الفصائل توقع عشرات القتلى، وكان جنود التحالف الدولي يتعرضون لإطلاق نار، وكانت القواعد تصاب بالصواريخ، وكان الأميركيون يوالون الاعلانات عن اكتشاف مخابئ أسلحة وصواريخ.
وفي وقت يزيد الأميركيون انتشارهم العسكري في العالم فإنهم يقلّصون وجودهم المدني، ويحذّرون رعاياهم في العالم، ويرحّلون عائلات دبلوماسييهم، ويفرضون قيودا على القادمين الى عندهم، ويجازفون بتلقي معاملة بالمثل، ويحتارون: هل يُعقل ان نكون هدفا في الكويت؟
وفي هذه الأثناء، تعجز الأجهزة عن اكتشاف ولو خيط يوضح سر »الجمرة الخبيثة«، ويوالي »قناص واشنطن« ترويع العاصمة الفدرالية فيُردي مواطنا بكل طلقة ولا يترك اثرا عنه إلا هذا الاعلان المرَضي: »حضرة الشرطي، أنا الله«! والمثير في هاتين الظاهرتين انهما تؤشران الى منحى خطير يمكن ان يسلكه لا العُصابيون فقط بل كل من يبحث عن وسيلة جديدة تزيد الحرب غير المتوازية انعداما في التوازي.
إن العملية في بالي، بعد الانتخابات الأخيرة في باكستان، تشي باحتمال دخول كتل بشرية هائلة حلبة التجذر الراديكالي. ولكن هذا الدخول لن يلغي ظواهر مستجدة يجدر التوقف عندها:
1 يشهد »الإرهاب العالمي« عملية خصخصة متنامية. فبعد انتقاله من دول الى منظمات ها هو ينتقل من كارتيلات كبرى الى فروع لا حصر لها فيتفتت ويزداد هلامية ويهدد، كما في البلد الذي يقدس حرية الأسواق، أميركا، بالتحول الى »مبادرات فردية« لا تحصى.
2 تزداد إمكانية الاندماج بين قضايا محلية ووطنية وبين توجيه العداء الى من يضع نفسه في المواجهة ولو قاده الأمر الى عزلة يعتبرها استئثارا بالموقع القيادي. إن استهداف الاوستراليين في بالي ذو صلة بما يجري في أندونيسيا من تفكك، وصراعات إتنية، واشتباكات طائفية. وليس صدفة، والحالة هذه، ان يكون الاوستراليون الأكثر حماسا في ما يخص المشاركة في حرب العراق بعد ان كانوا الأكثر حماسا في حماية استقلال تيمور.
3 إذا كان جورج بوش يعتبر الدول المتعثرة مصدر خطر فإن سياسته تدفع بدول تعاني مشاكل الى ان تصبح »متعثرة«. ويكفي للسلطة الأندونيسية ان تراقب باكستان حتى لا تعمل بالنصائح التي توجهها واشنطن اليها.
لا شك في ان هذا المشهد العالمي يعزز حجة القائلين بعدم الإقدام على حرب ضد العراق. فهذه الحرب ستزيد الاحقاد، وتنمّي الفوضى، وتهدد التركيز المطلوب على مكافحة الإرهاب. غير ان الإدارة الأميركية سترفض التعاطي الايجابي مع هذه الخطة.
لنفترض أن مؤرخا وأكاديميا مثل برنارد لويس هو الناصح الرئيسي لجورج بوش و»حزب الحرب« الأميركي. ماذا كان قال؟ سألته »لوموند« عما إذا كان اقترع لصالح الحرب لو كان عضوا في الكونغرس (حائز نوبل للسلام جيمي كارتر أجاب على السؤال بأنه كان صوّت ضد الحرب). أجاب لويس انه كان اقترع للحرب وبرر ذلك بخوفه من ان تفقد الأمم المتحدة دورها (!). سئل عما إذا كان يعتبر »الامتناع عن الحرب ضد صدام حسين خدمة لقضية أسامة بن لادن وأنصاره« فأجاب: »نعم، بالتأكيد. ان عدم فعل شيء يخدم القضايا المعادية للغرب«.
عندما سيفعلون شيئا، ويحصل بعده ما يحصل، لن يحاسب أحد لويس. فالفوضى الموعود بها العالم قد تجعل من النصف الأول من الشهر الجاري واحة سلام.
10/15/2002

رجل من ورق
18/08/2008, 19:47
نصيحة مجانية



قرّرت الولايات المتحدة إنفاق ملايين الدولارات من أجل تشجيع الديموقراطية في العالم العربي. من لبنان إلى البحرين إلى المغرب سترعى الإدارة دورات تدريب لصحافيين وناشطين سياسيين ونقابيين، وستدعم مؤسسات لتحسين النقاش السياسي المفتوح.
وتوحي واشنطن أن التقدم العربي على هذه الطريق هو تقدم نحوها، باتجاه الصداقة معها، وتدجين العداء لها.
إذا كانت تصدق ذلك فعلاً فإن من واجب أي صديق لها أن ينصحها بألا تفعل ذلك. إذ كلما خطا العرب خطوة نحو الديموقراطية كلما ازدادت خصومتهم لها، و»الأخطر« من ذلك، كلما ازدادت قدرتهم على حسم هذه الخصومة لصالحهم. فما يسمى العداء العربي لأميركا ليس هواية. ولا علاقة له بجينات تكوينية. وهو بعيد، كما قيل للرأي العام الأميركي، عن أن يكون رفضاً لقيم الحداثة والحرية والتطور. إن ما يسمى »العداء العربي لأميركا« هو، في الجوهر، تعبير عن وجود قضايا عالقة معها، وعن اعتراضها طريق العرب الى الحداثة والحرية والتقدم. وهو، فوق ذلك، تعبير عن الاستياء مما نجحت في فرضه على شعوب المنطقة، بعد كسر حركتها التحررية، من أنظمة مغالية ومتطرفة في التجاوب مع الإملاءات الأجنبية. ولقد مهّد لذلك، ولا يزال، عملية جراحية مديدة، من دون مخدر أحياناً، أعادت تشكيل البنى العربية كلها لجعلها مطواعة.
إذا كانت الولايات المتحدة تصدق فعلاً ما تقول فواجب أصدقائها الإسراع إلى إفهامها أن المزاج الشعبي أكثر خصومة لها من السلوك الرسمي لا بل أنه يأخذ على هذا السلوك انسحابه من معركة الدفاع عن الحد الأدنى المطلوب من المصالح الوطنية والقومية. وإذا كان هذا المزاج الشعبي يعبّر عن نفسه بتشنجات بشعة أحياناً فذلك لأن النجاح حصل في ضرب المشاريع العقلانية ولأن البديل عنها كان أنظمة حكم تحطم الأعصاب من فرط خنوعها.
هل يملك أحد في الولايات المتحدة إحصاءً دقيقاً عن عدد السجناء السياسيين في البلاد العربية؟ إذا استثنينا قلّة، بينها سعد الدين إبراهيم، فإن أكثرية ساحقة من هؤلاء السجناء موجودة حيث هي لأنها أكثر جذرية في العداء لإسرائيل والولايات المتحدة مما تحتمل حكوماتهم. صحيح أن حفنة من العملاء في المعتقل ولكن القمع الفعلي مسلط، بشكل غير ديموقراطي إطلاقاً، على من يدين العلاقة الدونية بواشنطن. وهذا مؤشر له دلالاته. ويمكن، أيضاً، إجراء مسح دقيق لانتخابات النقابات المهنية. فالديموقراطية هنا، عندما تمارس، تأتي بنتائج لا ترضي الدعاة السذج إلى الارتباط التبعي.
المصالح. فهي ستقود الى تعريف آخر لمصطلح »مناسب« عند الحديث عن سعر النفط. وهي ستؤمن تعبئة أكبر للانخراط في الصراع الذي يخوضه الفلسطينيون بالأصالة عن نفسهم والنيابة عن الآخرين. وهي ستنتج وعياً حاداً برفض أي نزع للسلاح من طرف واحد.
لنصدق بعض الوقت أن الولايات المتحدة تصدق ما تقول. نستنتج من ذلك أنها واهمة وأنها واقعة في خطأ تسببه لها تجربتها التاريخية في مناطق أخرى من العالم. إن الديموقراطية تقود (قادت) شعوب أوروبا الغربية الى الصداقة مع أميركا. هزيمة النازية والحماية من حلف وارسو هما السبب. نعم إن شعوب أوروبا الشرقية رفعت لواء الديموقراطية قبل سقوط الجدار. فمن الطبيعي استعارة إيديولوجيا الخصم العالمي لروسيا الاشتراكية. ولكن، هنا، سرعان ما تبين ان التطلب الوطني مختبئ وراء الشعار الديموقراطي. نعم أمكن فرض الديموقراطية على ألمانيا بعد دخول برلين وعلى اليابان بعد القنبلتين النوويتين. غيرأن ذلك حصل بسهولة لأن الدولتين المهزومتين كانتا في موقع المعتدي.
لا شيء مما تقدم يماثل ما لدينا، نحن في موقع المعتدى عليه من إسرائيل وأميركا. ونعيش تشبعاً بأفكار قومية ويسارية وإسلامية وليبرالية يختبئ وراءها تطلب وطني يتعارض مع تعريف أميركا لمصالحها لدينا. ولذلك فإن تعميم الديموقراطية هو أقصر الطرق الى امتلاك أداة فعالة من أجل خوض مواجهة ناجحة مع الولايات المتحدة.
هل تغيب هذه الحقائق عن ذهن الأميركيين؟ هل تخفي »شجرة« سعد الدين إبراهيم (وغيره) الغابة؟ هل يمكن الفرز بين ما تريده أميركا فعلاً في فلسطين (كسر الممانعة الوطنية) وما تدعيه (الإصلاح والشفافية)، بين ما تريده فعلاً في العراق (السيطرة السياسية على البلد وإمساك المشرق العربي) وما تدعيه (الخلاص من الديكتاتورية)، بين ما تريده فعلاً في إيران (الاحتراب الداخلي) وبين ما تدعيه (الرهان على التحركات الشعبية)، الخ... نعم ان الفرز ممكن والميل واضح الى عدم تصديق الادعاءات.
لسنا، في الواقع، أمام خطأ ترتكبه الولايات المتحدة بحق نفسها وحلفائها عبر تشجيع الديموقراطية. فهذا الشعار يقصد منه شيء آخر. يقصد منه التسلل لتعميم ثقافة يطلق عليها »ثقافة السلام والتسامح والاعتدال«. إن هذه الثقافة قابلة للهزيمة في أي معركة ديموقراطية فعلاً في العالم العربي. تهزمها ثقافة تجعل العدالة مطلباً، والحرية مطلباً، والسيادة المنفتحة على العالم مطلباً. وتهزمها أيضاً ثقافة »السلام العادل« والذي لا يسعه أن يكون دائماً ما لم يكن عادلاً.
إن الديموقراطية مطلب عربي لا مصلحة لأميركا فيه وهي لن تسعى الى تحقيقه أصلاً. فكل ما تريده هو بناء أوضاع قائمة على استبطان لا يُحتمل لانكسار مثالي العدالة والمساواة، وهذا الاستبطان ينفي، جوهرياً، وجود مواطنين أحرار.
08/22/2002

رجل من ورق
18/08/2008, 19:48
اقتراحات إلى شارلوت



كانت متقاعدة. إلا أنها كانت نجمة من نجوم ماديسون أفنيو التي تصنع، مع هوليود، المخيّلة الجماعية للعالم. جاؤوا بها إلى الإدارة. وليس إلى أي موقع كان. إلى وزارة الخارجية مباشرة لتصبح نائبة الوزير لشؤون »الدبلوماسية العامة«. يوحي سجلّها بنجاح بارز في الترويج لسلع عادية. غير أن جورج بوش وكولن باول يريدان من شارلوت بيرز (66 عاماً) أن تبيع ما لم تعتد، أو يعتد غيرها، على بيعه رسمياً: أميركا أو، بالأحرى، صورة أميركا.
فبعد 11 أيلول طرح سؤال في واشنطن: »لماذا يكرهوننا؟«. ووظيفة بيرز هي ألا يعود أحد يكره بلادها فهي تريد، كما تقول، أن تعلّم »مليار مسلم أنه ليس ضرورياً أن تقتلونا للفت انتباهنا«. وبما أنها متواضعة بعض الشيء فإنها تعتبر حسب مقاييس الشركات الكبرى أن »اكتساب حصة ثلاثين في المئة من السوق هو إنجاز كبير«.
عمل شارلوت هو تعليب الولايات المتحدة وتسويقها في العالمين العربي والإسلامي. »نريد أن نبيع سلعة« قال باول. وهذه السلعة ماركة مسجلة: القيم الأميركية.
الوسائل التي ستستخدمها شارلوت متنوعة: كتب، أقراص مدمجة، مجلة شبابية، رحلات، تبادل بعثات مدرسية، استقصاءات رأي، دروس لغة إنكليزية، كليبات تلفزيونية، إعلانات صحافية...
وقبل الاستطراد يجدر القول إن الكليبات باتت موجودة في بيروت وإننا »معرّضون« لرؤيتها قريباً من أجل أن ننام متحفّظين على أميركا ونستفيق معجبين بها. ولقد صرّحت شارلوت في شهادة لها أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ (11 حزيران) بما حرفيته: »نستطيع العمل مع المحطات الفضائية البارزة مثل أم. بي. سي. وإل. بي. سي. والمستقبل والجزيرة. وهي محطات متجهة لبرمجة جديدة ووعدتنا بأنها مفتوحة لموادنا«. أضافت انها أجرت الاتصالات اللازمة في أميركا وستؤمن الأشرطة اللازمة. هل يبادر بيار الضاهر ونديم المنلا إلى نفي ذلك؟
يمكن التقدير، مسبقاً، أن مهمة شارلوت صعبة لأن المشكلة هي في مضمون الرسالة الأميركية إلى العرب وليس في شكلها. ولكن، ريثما تكتشف ذلك بنفسها، وبعد أن تكون أكملت دورتها في معاهد البحث وهيئات التشريع والتقرير، هذه اقتراحات لها قد تفيدها.
أولاً عليها أن تطالب بميزانية تفوق ال600 مليون دولار المرصودة لها. فهي تعلم أن إطلاق منتوج جديد يحتاج إلى نفقات أكبر بكثير من ذلك.
ثانياً يستحسن ألا تكتفي بأن تبيع »صورة أميركا« أي »نمط الحياة الأميركي«. فالجمهور يعرف، مسبقاً، أن ثمة مسلمين وعرباً يصعدون السلم الاجتماعي، وأن المجتمع التعددي هناك يتمتع بقدر من التسامح. عليها أن تركّز، أكثر، على ما تصدّره أميركا إلى العالم، وإلى منطقتنا تحديداً، عبر سياستها الخارجية.
لن تكون مقنعة، هنا، إذا رددت، كما فعلت أمام مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (15 5 2002) بأنه يفترض تجاهل الصراع مع إسرائيل مثلاً من »أجل أن نخلق مواضيع أخرى للتحاور«!
ثالثاً قد يكون جيداً لو أنها تذهب في التحدي إلى نهايته. فهي تتحدث عن 700 ألف زاروا أميركا في إطار برامج منظمة وتدعو إلى تفعيلهم. وواجبها أن تقول لنا من الذي قبل »التفعيل« وما هو دوره. ولا بأس من الذهاب في الشفافية حتى النهاية بالإعلان عن أسماء جميع المتعاونين في البرامج المتعددة التي تنوي إطلاقها من إذاعة »سوا« إلى التلفزيون إلى الصحف المحلية وسواها.
رابعاً أحسنت شارلوت فعلاً باختيار الشباب، في حدود العشرين، هدفاً مركزياً لبيع السلعة. ولكنها إذا اعتقدت أن الإكثار من موسيقى البوب يكفي وحده تكون ترضى لهم ما لا ترضاه للأميركيين.
خامساً يجب أن تحسم أمرها. إذا أرادت تعليب السلعة بالخطاب الأميركي التقليدي عن الحريات وحقوق الإنسان فإنها مهددة بخسارة أصدقاء أميركا بين الحكام. وإذا اختارت التعليب بواسطة شرح الأهداف الأميركية الفعلية فإنها ستواجه مشكلة مع الأكثرية الساحقة. وربما اضطرت، والحال هذه، إلى إنهاء حياتها المهنية بفشل.
تعرف شارلوت بيرز جيداً أن الإعلان، كصناعة، يبرز عند انتهاء المنافسة بواسطة الجودة والسعر. فعندما تصبح مساحيق الغسيل، مثلاً، متقاربة في النوعية والثمن يكون للإعلان دور. وبهذا المعنى فإن السلعة »أميركا« لا حظ لها لأنها رديئة أولاً، وغالية ثانياً. ولذا ربما كان الأفضل، من ناحية تسويقية، التركيز، لدى المستهلكين، على أن لا بديل عن هذا المنتوج. ويعني ذلك أن شارلوت تتوفق أكثر إذا نجحت في إفهامنا أن سلعتها هي الوحيدة المطروحة في السوق وذلك بغض النظر عن مدى فائدتها. عندها لا يعود علينا سوى التكيّف مع ذلك. أي، التصاغر قدر الإمكان من أجل أن نكون صالحين لتقبّل هذه الحالة الاحتكارية. ويقود ذلك، عملياً، إلى تقديس هذه السلعة وتغيير طبيعة المستهلكين بحيث يصبحون في خدمتها بدل أن يكون العكس هو الصحيح.
قد تنجح شارلوت في عملية الإغراء هذه. ولو أن المرأة القادمة إلينا من اختيارات مجلة »غلامور« ترتكب هفوات مضحكة. فلقد شرعت، ذات مرة، في حديث عن الإسلام مستخدمة فيه مصطلح »إيمان« بدلاً من »إمام«. ولما جرى استدراك ذلك تبيّن أنها استخدمت »إيمان« لأنها كلمة أليفة إليها ليس لمعناها الفعلي، معتقد، وإنما لأنها الإسم العلم لعارضة الأزياء الشهيرة!
08/30/2002

رجل من ورق
18/08/2008, 19:50
التأزّم اللبناني في إطاره الإقليمي



لبنان مرشح إلى قدر من التأزم السياسي. نستطيع رؤية النذائر بسهولة. ليس هو التأزم الخاص بعلاقات الرؤساء. ولا ذلك المرتبط بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية. ولا بقضايا التعيينات. هذه كلها ستتراجع ليتقدم ما له علاقة ب»انفتاح« البلد على التجاذبات الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط.
تكمن، في خلفية هذا التأزم، قراءتان تبسيطيتان للعلاقة السورية الأميركية. فمن قائل إنها في حالة سيئة جدا ولذلك لا بد من رصّ الصفوف. ومن قائل إنها في حالة جيدة جداً ولذلك لا بأس من المضي في المطالبة بتوازن لبناني سوري لا يمكن تفسيرها بأنها استقواء بواشنطن على دمشق. ثمة تلاوين أخرى وقراءات أكثر تعقيدا ولكنها تندرج، بشكل عام، في هاتين المدرستين.
إن الرئيس الأميركي جورج بوش (شخصيا!) هو أفضل مساجل مع التصورين المشار اليهما. »إن إدارة علاقاتنا المعقدة مع سوريا«، يقول، »تتطلب استخداما دقيقا ومدروسا لجميع الخيارات المتوافرة لنا لخدمة المصالح الأميركية«. جاء هذا التوصيف للعلاقات بأنها »معقدة« في رسالة من بوش إلى أحد النواب الأميركيين، روبرت ويكسلر، العاملين على تمرير »قانون محاسبة سوريا«. يقول الرئيس الاميركي إن خلافات بلاده مع سوريا »جدية« وإنها »قد تكبّدها أي سوريا أكلافا حقيقية«. ويعبّر عن القلق من الصلات الاقتصادية المتنامية بين سوريا والعراق، ويعلن مواصلة »العمل على عدد من الخيارات لوقف هذا السلوك غير المقبول«. غير أنه يعترض على فرض مزيد من العقوبات، حسب ما يطالب مشروع القانون، لأن ذلك »سوف يقلص من خياراتنا ويقيّد قدرتنا على التعامل مع الوضع الصعب والخطير في المنطقة في هذه المرحلة الحرجة«.
لم ينجح بوش في تأجيل البحث بقانون محاسبة سوريا. ولكن لما انعقدت الجلسة، 12 ايلول، تغيّب عنها مندوب الادارة ديفيد ساترفيلد بداعي المرض. لم يلاحظ لبنانيون سوى ان الجلسة التأمت، وأن تصويتا حصل، وأن هجوما عنيفا شنّه دعاة المشروع على سوريا. لقد فاتهم أمران. الأول هو أن مهاجمي دمشق لم يكونوا شديدي الاهتمام ب»السيادة اللبنانية« وإنما بالأمن الإسرائيلي حصرا. ومن لا يصدق عليه مراجعة الخطابات. الثاني هو ان المداخلة الأهم، بالمطلق، هي تلك التي ألقيت باسم ساترفيلد، وهي أهم لأنها التعبير الأدق عن السياسة الأميركية الفعلية في الأمد المنظور.
لقد طوّر ساترفيلد ما جاء في رسالة رئيسه إلى ويكسلر. أعلن الموافقة الكاملة للادارة على الأهداف الموجودة في القانون. وقال إن بوش شديد الاهتمام بالتجارة السورية غير المشروعة مع العراق، وبانتشار أسلحة الدمار الشامل، وبدعم الإرهاب، وبلبنان خال من القوات السورية. وأوضح أن ثمة عقوبات مفروضة، الآن، على دمشق.
غير انه تساءل عما يخدم، في هذه اللحظة، المصالح الواسعة لاميركا في المنطقة وأمن الصديق الإسرائيلي. واعتبر ان افضل نهج هو ذلك الذي يدمج الحوافز مع غيرها خاصة »إذا نظرنا إلى خياراتنا حيال العراق«. ومرّ على التعاون في مطاردة »القاعدة« ليصل الى خلاصة تقول: »ليس هذا الوقت المناسب لمبادرات تشريعية قد تعقد أو تنسف جهودنا«.
ما يمكن استنتاجه من كلام الرئيس والموظف هو ان العلاقات بين البلدين من وجهة نظر واشنطن، مأزومة الى حد ما، ومعقدة بالتأكيد، ولكنها ضرورية في هذا الوقت، وقابلة للانتكاس في المستقبل. ويمكن، لمن يحسن القراءة، ان يستنتج ان الموضوع السوري، واللبناني استطرادا، لن يرفع الى رأس جدول الاولويات قبل حسم ما يسبقه في هذا المجال: العراق بشكل أساسي. ويمكن، وأيضا لمن يحسن القراءة، ان يستنتج من خطاب فاروق الشرع في الأمم المتحدة أن الميزان يميل نحو المواجهة. فهذا الخطاب قيل بعد خطاب بوش، وخاصة بعد أن تبينت آثار الخطاب الاميركي على مواقف دولية وعربية تحولت في حين بقي موقف دمشق على حاله.
يصح القول، والحالة هذه، ان التوتر سيتصاعد في علاقات الطرفين وأن لبنان يمكنه ان يكون عنوانا اساسيا من عناوين المرحلة ما بعد العراقية.
إذا كان ما تقدم صحيحا وهو، على الارجح صحيح، يصبح ممكنا فهم التشدد الذي تظهره السلطة اللبنانية تجاه معارضة تضع نفسها في موقع واضح الى جانب الأميركيين او في موقع ملتبس. أي ان الحكم اللبناني، يطبق، سياسيا نظرية بوش في »الضربة الاستباقية«. فهذا الحكم يلاحظ، عن حق الى حد بعيد، ان ثمة قوى لبنانية تراهن علنا على الخراب الاقليمي الذي ستقوده الولايات المتحدة (وإسرائيل في فلسطين) من أجل الاعلاء من شأن مشروعه (ميشال عون هو النموذج). وثمة قوى أخرى تضع نفسها في موقع من يقدر على الاستفادة لاحقا من هذا الخراب من دون ان تمضي بعيدا في التورط العلني الراهن لأنها ملدوغة سابقا. ويتقصّد بعض من في الحكم غضّ النظر عن التباينات في هذه الجبهة وإلقاء الشبهة على سلوكيات تحاول العقلنة وشق الطريق نحو »خط آخر« (نسيب لحود) وذلك تصفية لحسابات قد لا تكون موصولة بهموم المواجهات الكبرى.
واللافت في هذه »الضربة السياسية الاستباقية« انها تقوم على تقدير دقيق لموازين القوى الراهنة، وفي المقابل يعيش الذين يتلقون الضربة أوهاما تكاد تكون مضحكة. يعبر عن هذه الاوهام ان نائبا يهدد بالاستقالة في حين انه، في العمق، مهدد بالمثول أمام محكمة بتهمة الخيانة العظمى! والمنطق الضمني لهذه »الضربة الاستباقية« هو ان التحالف السوري اللبناني قد يكون ضعيفا في المرحلة ما بعد العراقية لذا فإنه يريد استخدام الوقت الضائع من أجل ايصال خصومه إلى تلك اللحظة وهم اشد ضعفا.
لذا فإن الوسائل كلها تستخدم: من »أم.تي.في«، الى عدم التصريح عن ثروة، الى إعادة تركيب المشهد السياسي، الى تحريك استنابات، الى التلويح بقانون انتخاب كارثي...
ومن المقدّر لهذه الوجهة ان تستمر وتعنف فارضة على اللبنانيين جميعا ان يكونوا في واحد من المعسكرين وعلى آلطريقة التي باتت سائدة في »المانوية« المشتركة بين بوش وبن لادن: من ليس معنا فهو ضدنا.
أي »فسطاط« يختار من يدعو إلى صد الهجمة الأميركية وتداعياتها الاقليمية واللبنانية ولكنه يعتبر ان ثمة وسائل أخرى غير تلك المستخدمة؟ لا مجال لكثير من الترف في لحظة الحقيقة هذه. وإذا كان هناك من هو واثق من درجة الدمار التي ستحدثها السياسة الأميركية في المنطقة ولبنان فما عليه إلا ان يكون في صف الخيار الاقليمي الاجمالي للحكم. وهو يستطيع، من أجل حماية نفسه أخلاقيا وسياسيا، ان يبدي بعض الاشمئزاز من سياسات يقال له إنها تخدم أهدافا يوافق عليها.

رجل من ورق
18/08/2008, 19:52
قرضاي« صفة ومنصب، لا اسم


»قرضاي« صفة لا اسم علم. مرتبة أيضاً أو منصب. يتهم فلان فلاناً أنه »قرضاي«. أو ينفي أحد هذه الوصمة عن نفسه. ولا يمنع أن يعبّر سياسي عن تمنياته لبلدة بأن يحكمه شخص سمته الأولى »قرضاي«.
ميزة هذه الصفة أن الاتفاق على معناها لم يتم. ويمكن القول، إجمالاً، إنها تحتمل تفسيرين.
قرضاي (1): إنها صفة شخص موال للأجانب. يرتضي ترقيته بواسطتهم ولو أنه معدوم القاعدة الاجتماعية. مدين لهم وممثل لمصالحهم وموصول بها. يكرر، بلهجة محلية، آراء أسياده الفعليين. يقبل وضع بلاده في الخدمة. يوافق على صيغة حكم هي الأكثر تناسباً مع القوى العالمية النافذة. حلت هذه الصفة محل »عميل« أو »خائن«.
قرضاي (2): إنها صفة لشخص يرفض الظلامية والديكتاتورية. يريد إنقاذ بلده من قبضة موتورين يفرضون نظاماً قمعياً. يهتم بفتح الوطن على الخارج. يسعى إلى استعارة مؤسسات حديثة من أجل تطوير المجتمع. يشيع ثقافة متنورة ومتسامحة. يدرك استحالة الانغلاق وضرورة الاندراج في مزاج اللحظة. لا يحمل ضغينة للأجنبي لأنه، بالنسبة إليه، صديق ومنقذ وشريك.
يبدو أصحاب التفسير الأول سائرين في الاتجاه الحالي للرياح. إنهم عصريون. حديثون. وهم أشد تصلباً في الدفاع عن رأيهم بقدر ما كانوا، في زمن مضى، على الضفة الأخرى. إنهم المستقبل. دعاة التفسير الثاني متهمون بأنهم لا يريدون الاعتراف بأنهم ينتمون إلى عالم ينقضي، يندثر. يردون على ذلك بأنهم قابضون على الجمر. ولكن يجب الاعتراف، بحسرة، بأن المطلوب أحياناً إزالة رماد كثيف قبل الوصول إلى الجمر.
واشنطن، هذه الأيام، هي مصنع تفريخ »القرضايات«. وهي فخورة بذلك وعدائية حيال كل من لا يشاركها التقويم الإيجابي لهذه السلعة. ولقد عاشت العاصمة الأميركية ازدحاماً عربياً من نوع خاص في الأيام الماضية. استقبلت وفداً من »السلطة« الفلسطينية ووفداً من المعارضة العراقية.
يحاذر الفلسطينيون، حتى الآن، فخ »قرضاي«. يعتبرونه تهمة. يطمح المعارضون العراقيون إلى »قرضاي«، الصفة والمنصب. يعتبرونه ترقية.
ومع أن الفلسطينيين يحاذرون الفخ فإن ذلك لا يمنع أن المشهد الخرافي حقيقة: مصير الثورة الفلسطينية المعاصرة يُبحث مع المخابرات المركزية الأميركية. وما كان أقل منه يمكنه أن يكون أمراً جللاً وخطيراً، بات يبدو شبه عادي. لقد انكسر المحرّم.ومن دون تبرئة القيادة الفلسطينية يجب القول إن الوضع العربي الرسمي هو الذي بادر إلى الكسر. فالمناخ المسيطر عليه اليوم يمنع النظر إلى الولايات المتحدة كما تقدم نفسها: العدو والخصم. وهكذا فإن وزير خارجية عربي يعتبر »سخيفاً« كل كلام أميركي عن إشكال ما مع بلاده. ويرد بشرح مستفيض لحسن هذه العلاقات متصرفاً كمن يدفع عن نفسه شائنة. ويذهب رئيس وزراء إلى تعريف المؤامرة الإسرائيلية بأنها محاولة للإيقاع بين العرب والولايات المتحدة. وهكذا يصبح التقدير العلمي والموضوعي لواقع العلاقات العربية الأميركية، كما تريده واشنطن وتدفع إليه، يصبح هذا التقدير ضلوعاً في مؤامرة إسرائيلية!
إذا كان هذا هو »الإجماع« العربي الرسمي لا يعود غريباً أن تسود نظرية وضع البيض في سلة واحدة، أميركية، طالما أن 99 في المئة من الأوراق هناك. ومع ذلك يقف الوضع الفلسطيني عند حافة »قرضاي« ويمانع، حتى الآن، وأكثر من غيره، الوقوع فيه.
ليست هذه حالة المعارضة العراقية. فإذا ما وصف أحد أحمد الجلبي ب»قرضاي« رد المعني شاكراً ودغدغته آمال لا حدود لها. فالصفة محببة لديه والمنصب غاية طموحه. هذه هي »الجلبية«. إنها سعي دائم نحو »قرضاي«. غير أن المشكلة التي برزت في الزيارة الأخيرة هي انضمام »المجلس الأعلى للثورة الإسلامية« إلى هذا التيار. دخل، طبعاً، من زاوية بشاعة النظام التي تصل إلى حد أنها تُسقط محاذير تسليم المقادير إلى الولايات المتحدة. ليس الانضمام تفصيلاً من تنظيم مقيم في طهران.
أمام هذه اللوحة يبدو تحفظ »الحركة الدستورية الإسلامية« في الكويت مضحكاً. فهي تدعو، عملياً، إلى عدم مخالفة أميركا في ضرب العراق ولكنها تحذر من أن »ينجح العدو الإسرائيلي ومؤسسات نفوذه في الولايات المتحدة في هندسة العمل العسكري ضد النظام على نحو يحقق أهدافه الإقليمية«. أمام هذا الهذيان لا يمكن سوى الترحم على ناجي العلي. فلقد كان الأقدر على كشف ما هو مضحك ومبك في هذا التحفظ الذي يستر عورة الانضواء الكبير بورقة العداء اللفظي للوكيل الصغير.
ولا يشذ الحاكم السوداني عن هذا السياق. فهو ماض في التأقلم مع إملاءات ما بعد 11 أيلول إلى حد ارتضاء المجازفة بوحدة بلاده. ومن يقل له »لقد أضعت الوطن« يلقَ جواباً: »كان هذا شرطاً لإنقاذ تطبيق الشريعة«. فإسلام الرجل لا يكتمل إلا بسودان ناقص. واللعب بالنسيج الاجتماعي جائز لتطبيق شريعة العسكر على من يتبقى من مواطنين. أما التناغم بين الحل والمطالب الأميركية المزمنة فمصادفة!
أمام هذه اللوحة لا يعود اللبنانيون الطامحون الى »قرضاي« شديدي الاستثنائية. يرتضون الصفة ولكن واشنطن تتأخر في منحهم المنصب. مشاكلهم مع نظامهم معروفة. تظاهروا أنهم مع حلول وطنية لها. غير أنهم باتوا يمعنون في إشهار الرهان على حاجة أميركية إليهم في حال اتخذ القرار بالعلاج الجذري للمنطقة وهو علاج مفتوح، خلافاً لعقد التسعينيات، على تحمّل قدر لا بأس به من الفوضى.
لا خصوصية لبنانية لجهة الاستعداد. ولكن الأخطر من ذلك ان لا خصوصية لبنانية لجهة توظيف هذا الاستعداد ومآله.
لنعد إلى قرضاي الأصلي. إلى حميد. إن الحالة الأفغانية الحالية هي، في العمق، حالة فدرالية. السلطة في كابول راجحة ل»تحالف الشمال« وأمراء الحرب يمسكون البلاد. وحتى المركز نفسه فهو توليفة لا يمكنها أن تنتج استقراراً.
الحل المقترح في السودان حل يمثل التقسيم أفقه المحتمل. وكل حديث عن تغيير في العراق يشير إلى ان التعددية الفدرالية هي »الحل«. إنها رشوة الأميركيين لجماعات من أجل اجتذابها (إلا بقدر ما تمارس تركيا ضغطاً في الحالة الكردية) وتعبير عن توازنات مجتمعية لا يعود يجمعها جامع بعد انكسار العمود الفقري. ويمكن الزعم، في لبنان، نتيجة لاعتبارات كثيرة، ان المشروع المسمى »قرضاي« هو مشروع تقسيمي يطل برأسه مجدداً بديلاً عن »وحدة« لم نحسن إنشاءها ودليلاً على انبعاث شياطين الماضي القريب لدى فئة لا ترفض إلا التدخل الخارجي الذي لم تختره هي. لن تُنتج هذه الفئة »قرضاي« لبنانياً. ستُنتج، في الحالة القصوى، أمراء حرب يطلقون، لحظة اقتتالهم الحتمي، الحشرجة الأخيرة وبعدها سيكون هناك، جدياً، غالب ومغلوب.
08/13/2002

رجل من ورق
18/08/2008, 20:02
ليوت أنجل في أنطلياس



»إن السلطة الوطنية الفلسطينية هي طالبان الشرق الاوسط« (3/11/2001). »من الدلائل على دعم سوريا للارهاب احتلالها لبنان وبقاؤها في حالة حرب مع اسرائيل« (5/11/2001). »عرفات قائد ارهابي ومسؤول عن الهجمات الانتحارية« (24/1/2002). »نحن نقف موحّدين مع الاسرائيليين في الحرب على الارهاب« (في استقبال الوزير الاسرائيلي بنيامين ايلون وريث رحبعام زئيفي وأحد ابرز دعاة »الترانسفير«). »يجب ضم منظمة التحرير الفلسطينية الى لائحة المنظمات الارهابية« (24/1/2002). »لم تكتف سوريا برفض العروض الاسرائيلية السخية للسلام وانما ابقت سيطرتها على العملية السياسية في لبنان وسمحت لحزب الله بمهاجمة اهداف اسرائيلية من مناطق في لبنان«. »هل لاحظ أحد انه منذ ان بدأت اسرائيل عمليتها السور الواقي لسحق البنية التحتية للارهاب في الضفة الغربية لم تحصل عملية إرهابية واحدة في اسرائيل. انها عملية ناجحة جدا وأنا ادعم حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها« (8/4/2002). »لقد تعلمنا في الآونة الاخيرة ان اصدقاء اميركا الحقيقيين هي الديموقراطيات. والديموقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط هي اسرائيل« (25/4/2002). »قال الرئيس بوش إما معنا وإما مع الارهاب. وسوريا تُظهر المرة تلو المرة انها مع الارهابيين... والمندوب السوري في مجلس الأمن يتهم اسرائيل كذبا بذبح الفلسطينيين. سأراقب سوريا عن كثب في الشهر المقبل« (31/5/2002، بمناسبة تسلم سوريا رئاسة مجلس الأمن لشهر). »لقد اخطأ الرئيس بوش بدعوته الى اقامة دولة فلسطينية... هذه مكافأة للسلطة وياسر عرفات على استخدام الارهاب« (4/6/2002). »ان المسؤولين الاوروبيين يقارنون الضربات الاسرائيلية الاستباقية دفاعا عن المواطنين في وجه الفلسطينيين، بالاعمال الوحشية النازية... يجب بالاحرى محاربة النفوذ السوري البشع في الشرق الاوسط« (11/6/2002). »حان الوقت لنقول وداعا لياسر عرفات« (12/6/2002). »ان ادانة اميركا اسرائيل لقتلها زعيما ارهابيا من حماس عبثية... فالجيش الاسرائيلي اظهر باستمرار التزامه بحماية المدنيين. وصلاح شحادة هو المسؤول عن قتل الاطفال لانه اختبأ بينهم« (23/7/2002). »ان تقرير التنمية الانمائية عن الاوضاع العربية يؤكد ان لا حليف لنا سوى اسرائيل وليس الزعماء العرب الفاسدين والاوتوقراطيين«.
... ويمكن الاسترسال، غير ان ما سبق يعطي صورة واضحة بعض الشيء. فهذه العبارات مقتطفة كلها من تصريحات رجل واحد. إنه عضو مجلس النواب الأميركي عن ولاية نيويورك الديموقراطي إليوت أنجل. والرجل هو القوة الدافعة وراء مجموعة قرارات في الهيئات التشريعية الأميركية منها قانون محاسبة سوريا، وقانون تأكيد الحق الإسرائيلي في الدفاع عن النفس، وقانون قطع الاتصالات مع السلطة الوطنية، وقانون مصادرة أموال عربية لإعادة بناء برجي نيويورك...
إن مجرد ذكر اسم هذا الرجل ألهب القاعة تصفيقاً أول من أمس في انطلياس. لقد وجّه برقية الى المؤتمرين وعدهم فيها بأنه سيتابع استخدام مقعده في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي »من أجل استعادة السيادة اللبنانية والاستقلال السياسي وتمرير قانون محاسبة سوريا«. وإذا كان الجنرال ميشال عون بدا وكأنه أكثر المتجاوبين حماسة، فإن الخطباء الآخرين لم يخرجوا عن هذا الجو.
إن المغزى السياسي الوحيد لمهرجان 7 آب هو أن هناك تحالفاً سياسياً لبنانياً يوجه رسالة الى الولايات المتحدة يقول فيها إنه جاهز للخدمة إذا استدعت الظروف ذلك. وليست هذه حالة لبنانية فريدة. فثمة وفد عراقي في الولايات المتحدة اليوم يقول الشيء نفسه. وربما كان في وسع هذا الوفد أن يقدّم مبررات لفعلته هذه أكثر وزناً من تلك التي يقدمها المجتمعون في انطلياس. غير أن الفرق بين الحالتين هو أن »العراقيين« لا يخشون كشف أوراقهم، وأن واشنطن تتعامل معهم على هذا الأساس. أما »اللبنانيون« فلقد اقتربوا خطوة (بعد لوس انجلس) من احتلال هذه الوضعية من دون أن يمتلكوا الجرأة الكافية للإفصاح.
إن من يعامل إليوت أنجل كمرشد روحي، ومن يراهن على هذا التيار المتشدد في الولايات المتحدة، ومن لا يخشى وجود قنوات تحتية تربطه بالاستراتيجية الأميركية في المنطقة واستهدافاتها المتعددة بما في ذلك تأمين الغلبة الإسرائيلية، إن من يفعل ذلك كله لا يجوز له أن يتصرف كالأطفال ويستغرب ردود فعل عنيفة من آخرين يعتبرون ان العاصفة الهوجاء شديدة الخطورة وتستدعي المقاومة.
يُفترض بمؤتمر انطلياس ان يزيل التباسات لوس انجلس. ولقد بادرت حركة التجدد الديموقراطي الى شيء من هذا القبيل. ولكن يبقى الكثير مما يتوجب القيام به حتى تبقى الاختلافات اللبنانية ضمن دائرة إجماعات واسعة (ولو هشة) تعزل من يريد تأسيس نهجه على تجاذبات إقليمية يتراءى له أن المحور الأميركي الإسرائيلي سيخرج منها منتصراً.
08/09/2002

رجل من ورق
18/08/2008, 20:04
معنى أن تكون ناصرياً اليوم



ليست هذه زيارة الى ثورة يوليو. فقط الى حقبة فيها. الحقبة الناصرية. لا نوستالجيا في الأمر. فعبور الزمن سيتم ذهابا من احداث راهنة الى تجربة سابقة، وإيابا منها الى محاولة استكشاف منطق في التعاطي مع مشكلات حالية. والقصد طرح السؤال التالي: هل يمكن للعربي ان يكون ناصريا اليوم؟
البداية، وهي ذريعة، ما حصل لهدى عبد الناصر في »الأهرام«. انه تحريف في عنوان مقال. لكنه تحريف يقول الكثير. ارادت ان تنقل عن والدها شرحه لقبول مبادرة وليام روجرز. فهو يسعى الى تجنب ظرفي لمواجهة مع الولايات المتحدة من أجل ان يتمكن من بناء سد الصواريخ في سياق حرب الاستنزاف. غير ان العنوان اوحى ان الرجل يعتزم الانسحاب الكامل من المواجهة. فبدل موقف »ناصري« معقّد بتنا أمام موقف »ساداتي« بسيط.
موقف جمال عبد الناصر، في هذه الحالة، مركّب. وهو نموذج عن نهج. فهو يسمح لنفسه بالتراجع التكتيكي في معركة. يحيّد خصوما. يكسب اصدقاء ويورطهم. يستخدم الوقت لتعديل موازين القوى. لا يضيّع هدفه النهائي. يحسن تقدير نفوذ القوى الخارجية ومعنى التفوق الاسرائيلي. يستفيد، قدر المستطاع، من تناقضات. يبحث عن تحالفات ثابتة وراسخة تقوم على تبادل المصالح. يظهر معرفة بالعالم كما هو فعلا وكما يحدد سياساته. يراهن على صدقيته الوطنية والقومية بما يوسع هامش المناورة لديه. يتراجع خطوة إعدادا للتقدم خطوتين. يفهم الصلات العميقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل ولا يمنعه ذلك من احراج الطرف الاقوى، عبر استعارة مظلته، من أجل اتقاء هجوم الطرف المحلي او تكبيل يديه. يطوّق بالسياسة ارجحية الخصم العسكرية في انتظار استعادة القدرة الدفاعية في طور ارقى من المواجهة. يميّز بين لحظة هجوم ولحظة دفاع لجهة الشعارات واساليب العمل الخاصة بكل منهما.
من وقف، آنذاك، ضد هذا السلوك. فعل ذلك حشد من فرسان الجملة الثورية. من المزايدين. من الذين اعتبروا هزيمة 67 ازاحة لآخر عقبة من درب الثورة الحقيقية. من الذين خلطوا بين خدش اسرائيل عند القشرة وبين الاعداد لمواجهة جدية معها. من الذين اشتروا راحة الضمير بدولارات يدفعونها لمن يبدو تجاوزا لعبد الناصر عن يساره. من المأخوذين بثورات الطلاب في العالم. من »الخواجات« اليسراويين. من القطريين في فلسطين وغيرها. من اصحاب نظرية التوريط الصبيانية. كان هؤلاء كلهم قلة. لكنهم اعتبروا قبول المبادرة خيانة وعملوا، من حيث يدرون او لا يدرون، في خدمة عرب آخرين وقفوا ضد المبادرة شكلا ومع صاحبها ودولته وإدارته فعلا ومضمونا.
لقد كانت تلك المرحلة مهمة (حوادث أيلول 1970 بعدها، وموت عبد الناصر). ومنذ ذلك الوقت لم نعد نشهد في الحياة السياسية العربية خطا يجمع بين الواقعية الباردة في الحساب وبين التمسك بأهداف بعيدة مع تسخير الوقت والجهد لاحداث التعديلات التي تقيم وصلا بين الوضع الملموس والقصد المنشود.
بتنا أمام واقعية مبتذلة تفهم التغيير انتقالا أي تراجعا من تأقلم الى آخر. وامام نزعة تمردية اخلاقية تخلط بين »ان الحق معنا« وبين توفير امكانات وطنية وقومية ودولية لانتزاعه. وأمام سياسات »قنفذية« تتمسك بالمطالب ولا تنتهج سياسة تراكم الانجازات لكسر التقوقع والاقتراب من الاهداف.
انتهت بموت ناصر هذه المحاولة الفريدة في تاريخ العرب الحديث للمشي على حد الشفرة (مع خطر السقوط دائما)، للمشي باستقامة على حبل حاملا ما يساعده على التوازن: معرفة بالواقع من جهة وحرص على تغييره من جهة ثانية. لم نعد نعيش في ظل سياسات تعرف امكاناتها في بلدها وامتها وعالمها وتطرح الشعارات الملائمة ليس لتأبيد الأمر الواقع وإنما لتحريكه، ولو جزئيا، نحو تأمين مصالح محددة.
صدر، قبل أيام، تقرير التنمية الانسانية العربية. كل صفحة صفعة. نحن أمة في القاع تنمويا وديموقراطيا واندماجا وثقافة وإنتاجا. انه عرض حال مزر. يكاد يكون بيان إفلاس.
سال حبر كثير في عرض التقرير والتعليق عليه. ولأن 23 يوليو كان يقترب ذهب البعض الى اكتشاف العلة في الناصرية. ان جمال عبد الناصر هو الذي سقى جذور هذا التخلف المريع. تناسى اصحاب هذا الرأي ان الناصرية دامت، عمليا، 15 سنة فقط (1955 1970) وأننا نعيش منذ 32 سنة مرحلة لاحقة عليها تحمل، في جوانب كثيرة منها، سمات الارتداد عليها. لقد حصل انعطاف مذهل بعد 1970. وما نحن عليه، اليوم، تعود مسؤوليته الى الفئات التي تولت السلطة بعد ذلك. او، بالاحرى، تعود اليها وإلى مثيلاتها ممن كانت حاكمة قبل 1970 في بلدان عديدة بأكثر مما الى عهد الثورة. خاصة ان هذه الفئات، مهما بدت مختلفة مع بعضها اليوم، كانت على خلاف، من مواقع متباينة، مع عبد الناصر.
ان حكامنا اليوم هم ممثلو الشقاق ما بعد 1970 بين الواقعية المبتذلة والهوبرة الجذرية. وإذا وضعنا جانبا فشلهم المتمادي في حل المسألة الوطنية والقومية فاننا نبقى، بشهادة تقرير التنمية، أمام فشل مذهل في الجواب عن سؤال التنمية.
كانت التنمية هما ناصريا بامتياز. وكانت كذلك الى حد ان قوميين مشارقة اعتبروا ذلك مذمة. دعا عبد الناصر (ومارس) الى السيطرة على ثروات البلاد، وإدارتها من دون انغلاق، وتوسيع رقعة المستفيدين منها. وسعى الى بناء قاعدة صناعية، والاهتمام بالريف، والاصرار على اعلى قدر ممكن من التكامل العربي. وفتح باب التعليم أمام أبناء الفقراء. ان هذه بعض من معالم تلك المرحلة. لم تكن موفقة يقول بعض النقاد. صحيح لم تكن موفقة تماما. ولكنها، في المعايير التي كانت سائدة في ذلك الوقت، عربيا وعالمثالثيا، كانت أفضل من غيرها ضمن الشروط المتاحة لها. ولقد شكل ضغط القضية الوطنية، بفعل وجود اسرائيل وتوسعها ولعبها دورها في قفل طريق الاستقلال، شكل هذا الضغط عنصرا معرقلا لأن المصالح الغربية المتضررة، ومعها ركائز عربية نافذة وداعمة لها، وجدت رأس الحربة النموذجي... والناجح.
ان السياسات التي اتبعت (في عهد عبد الناصر وبعده) تؤكد اننا كنا امام مشروع قاصر للتنمية فبتنا امام مشروع ناجح للتبعية. فمن طفرات الريع النفطي، الى تسخير القطاع العام لمصالح ما دون وطنية، الى إعادة الهيكلة، الى الانفتاح، الى حفز المزاج الاستهلاكي، الى اعدام قيمة العمل والانتاج، الى الارتكاز على سلع تصدير أحادية، الى رفض أي نهج تكاملي، الى... إن ذلك كله هو الذي دفع باتجاه ان تكون حالتنا على ما يصفها التقرير. لقد انتهى التحدي الناصري للآخرين عبر نموذج اقتصادي، اجتماعي مغاير ومع ذلك فإن الفوارق بيننا وبين العالم المتقدم تزداد. ومن دون الادعاء بأن النموذج قابل للاستعادة، في عالم اليوم، فإن فيه توجهات عامة تبقى أكثر قدرة على اعانة العرب في مواجهة عصر العولمة وبناء القدرة الذاتية للخوض في هذا الغمار.
أجرى ثلاثة وزراء خارجية عرب محادثات في واشنطن تناولت الموضوع الفلسطيني في لحظة تأزم خطيرة.
الشكل شكل تضامن عربي. الواقع غير ذلك. غاب السوريون. غاب اللبنانيون برغم ترؤس العمل المشترك حتى القمة المقبلة. وغابت، الى حد بعيد، المبادرة الاجماعية التي اقرت في بيروت. ومن يدقق النظر يكتشف تباينات بين اعضاء الوفد انفسهم. يمكن، لمن يحب المقارنات السريعة، ان يرى في الجهد العربي للتأقلم مع رؤية جورج بوش شيئاً يشبه قبول عبد الناصز مبادرة روجرز. ان في ذلك قدراً من التسرع. فهذا التأقلم لا يريد كسب الوقت لتعديل أي شيء، وهو يأتي، اصلا، في استطراد مبادرة غير مرفقة ببدائل. ان التأقلم هدفه ايجاد امتداد عربي يمارس وصاية »قومية« على قضية فلسطين من دون اي ادعاء بامتلاك تصور ارقى يقود الى بذل جهد اكبر من اجل حل اكثر عدلاً.
لم يكن جمال عبد الناصر فلسطينياً. كان عربياً. او، اصبح عربياً. ولا حاجة، اصلا، لزعيم مصر لان يكون عربياً كما قد تكون حاجة زعيم مشرقي. وعلى الارجح ان الناصرية، كتجربة، تهزأ من الفكرة القائلة ان قضية فلسطين هي قضية العرب المركزية. وهذه الفكرة، بالمناسبة، تستحق الهزء. ان قضية العرب المركزية هي سيرهم نحو مشروع جامع بينهم يؤمن لهم مصالحهم في هذا العالم بأفضل طريقة ممكنة، واسرائيل، بالاصالة عن نفسها والنيابة عن غيرها، هي واحدة من اهم العقبات امام هذا المشروع. لقد وُجدت من اجل ذلك. ومن هنا فإن العرب، في سعيهم الى تحقيق قضيتهم المركزية، مضطرون للتعاطي مع المسألة الاسرائيلية. ويحق للفلسطينيين اعتبار هذه المسألة قضيتهم الوجودية لا المركزية فحسب بحكم الطابع الاستيطاني للصهيونية.
تمثل الناصرية، بهذا المعنى، ارقى حالة عربية (واسلامية طبعاً) في التعاطي مع الموضوع. لقد اكتشفت، بالتجربة، عشية وأثناء وغداة العدوان الثلاثي، معنى اسرائيل المستمد من الاعتراض الاستعماري على نهضة العرب. وحاولت تقديم جواب مركب بقضي بالاستمرار في إيقاظ مصر والعرب وفي خوض اشكال من الحرب الباردة (او الساخنة بمقدار) مع اسرائيل. وتحكم بالصراع مفهوم يقول انه مدعاة الى الترقي العام من اجل الوصول الى حالة تسمح برد التحدي. يصب الصراع، اذاً، في مجرى اوسع منه: انه يستفز التقدم ويوجد مناعة داخلية، بالمعنى الممتد من الاقتصاد الى الثقافة، تحرم اسرائيل من لعب دورها التعطيلي.
يستند هذا الوعي الناصري (المصري؟) الى تقدير لجدلية العلاقة بين القطري والقومي. فضغط القطري يفرض اجوبة خاصة به كمستوى مستقل. وتطلب القومي يشترط وعياً بالمصالح المشتركة المستقبلية وبالتدرج الطوعي نحوها. وهكذا ما لم تنشأ مصلحة قطرية في التحرر والتقدم، وما لم يتم اكتشاف الصدام بين ذلك وبين وظيفة الكيان الاستعماري وادوات الهيمنة الغربية الاخرى، فلا مجال لاقناع شعوب بأكملها وزجها في معارك الدفاع عن طموحاتها.
ان تفسيراً محتملا للناصرية يقول انها تشرط وجود »القومي الجيد« في »القطري الجيد«. لذلك تردد عبد الناصر امام الدعوة السورية الى الاندماج الفوري. ولذلك لم يحبط الانفصال وكان في وسعه ذلك (ليته فعل؟). ولذلك رعى صيغة ما للقطرية الفلسطينية. ولذلك عقد صفقة مع فؤاد شهاب. الناصرية تقود الى، في آن معا، الى تشذيب للقطري وتهذيب للقومي من اجل ضمان مسار مديد يبدأ بتحصين الوحدات الوطنية الداخلية ليصل الى عدم التنابذ بين الدول ثم يتدرج نحو التكامل لتكون الوحدة في الافق البعيد.
والمأساة »القطرية« الفلسطينية واجبة العلاج عبر تطويق اسرائيل وإضعافها وحصارها بالتقدم العربي لانه متى تم الارتضاء بالتعايش مع هذه المأساة باتت المطالبة صعبة بحقوق اخرى تبدأ بحقوق العمال وتمر بحقوق الاقليات ولا تنتهي بحقوق النساء.
ان رغبة في الاستفزاز تدفع الى القول بأن عبد الناصر لامس، ذات مرة، فكرة القبول بالكيانية الاسرائيلية نفسها في عملية مقايضة تاريخية كبرى يحصل فيها العرب، والفلسطينيون ضمنهم، على انجاز حقيقي في ما يخص قضيتهم المركزية. ولكنه، هنا ايضاً، اكتشف استحالة ذلك لانه يعني نسفاً للعلة الجوهرية للكيان الصهيوني وهي علة غبر ذات صلة بتجميع اليهود المضطهدين في العالم.
ان ما يحصل عربياً اليوم هو محطة في التسليم بانتصار المشروع الصهيوني: يأخذ الاسرائيليون ما يريدون وتأخذ القوى الاجنبية الباقي وتستمر في تأقلم انحداري لا قعر له.
***
يمكن الاستطراد في هذه الزيارة، انطلاقاً من وقائع راهنة، الى الناصرية. ويمكن، من دون خجل، التطرق الى مسألة الديموقراطية تقييماً ونقداً للرجل الذي حرك كتلة الملايين الهامدة، غير ان الدليل السياحي منحاز لصالح ترجيح الايجابيات الماضية في ضوء الواقع الحالي.
... ومع ذلك هزم جمال عبد الناصر. لقد حورب لايجابياته وهزم للنواقص الفادحة في نظامه، فهل نرمي الولد مع ماء الغسيل الوسخ؟
أن تكون ناصرياً، اليوم، يعني ان تتمثل نقدياً هذه التجربة لتؤسس على دروسها وتتجاوزها. ليست هذه حالة الناصريين ولا حالة الآخرين على تنوعهم. فالثورة المضادة التي اندلعت عام 1970 تأخذ في طريقها كل شيء بما في ذلك الوعي. وهي ما زالت عاتية وتخبئ لنا ما تعتبره سداداً من جانبنا عن فترة حاولنا فيها حضوراً عاقلا وكريماً.
07/23/2002

رجل من ورق
18/08/2008, 20:05
الخلوي« يستحق خلافاً




يمكن، بسهولة، الوقوع في فخ »شعبوية« تريد التشهير بالطبقة السياسية اللبنانية في ضوء ما يجري في فلسطين. يقال، في هذه الحال، ان حكام لبنان يخوضون في صراعات »خلوية« بينما اسرائيل تهدد استقرار المنطقة، وبينما تستعد الولايات المتحدة لاعادة رسم التوازنات فيها عبر ضرب العراق. وفي حين يبدو المصير الوطني اللبناني مرتبطاً بقوة بما يجري في فلسطين وسيجري في العراق، يتلهّى المسؤولون في بيروت، حسب وجهة النظر هذه، بهوامش لا قيمة لها.
يُستحسن عدم الوقوع في هذا الفخ. فموضوع الخلوي، في لبنان، واليوم، موضوع شديد الاهمية.
له علاقة، اولاً، بفكرة ما عن ممارسة السلطة. فنحن أمام حالة نموذجية من حالات نزاع المصالح. في مثلها يستقيل القاضي أو تُعتبر العدالة مطعونة فيها. لا يعقل، في بلد يحترم نفسه، تقبُّل نزاع مصالح من هذا النوع، فكيف بالقفز اليه قفزاً. وحتى لو اعتبرنا ان المسؤولين لدينا ملائكة من نوع خاص، وحتى لو اعتبرنا انهم يكنّون احتقاراً استثنائياً لحصصهم في كل ما له علاقة بالدولة، وحتى لو استنتجنا من تجربة ماضية معهم انهم فوق كل الشبهات، فإن ما جرى ويجري استفزاز لألف باء المسؤولية في إدارة الشأن العام. ليس في الأمر تهمة لأحد، لا لمن هو موجود في القطاع ولا لمن يسعى، كما يقال، الى التواجد فيه. وليس في الأمر تشهيراً. الموضوع، ببساطة، هو انه ممنوع بالمطلق الوصول الى وضع من هذا النوع. ومن يرتضِ هذا الوضع فليس جديرا بأن يتحكم بمصائر مواطنين يُفترض، من حيث المبدأ، انهم يدفعون راتبه.
ثم إن لموضوع الخلوي علاقة بممارسة الرقابة. فلقد ابدى وزير سابق اسفه لان القضية انتقلت الى وسائل الاعلام. وإذا كان من اسف فهو على هذا الاسف أولا. ثانياً، كان يجب على الوزير المشار اليه ان يوجه انتقادات عنيفة الى وسائل الاعلام جميعاً التي لا زالت تمارس قدراً من الرقابة الذاتية يجعلها تعفّ عن نشر كل ما تعرفه. هذا في ما يخص الاعلام. ولكن الرقابة تتجاوز ذلك الى هيئات المجتمع كلها. فليس هناك من يمارس ضغطاً من اجل شفافية اكبر، وقلائل هم من يحاسبون شركات الخلوي على اسعارها وخدماتها وتقديماتها للخزينة، ولا تبدو الحشرية كبيرة في متابعة الاتصالات مع رساميل اجنبية قد تكون متحمسة للمشاركة، ولا يوجد تطلُّب كبير لنشر تقارير وضعتها هيئات تتناول تقديم التعويضات وعناصر دفتر الشروط.
ثم ان للموضوع علاقة مهمة جداً بالعجوزات التي تعاني منها المالية العامة والسبل المعتمدة من اجل معالجتها. يقال لنا ان الاموال الناجمة عن نقل ملكية الشركتين، أو نقل ادارتهما، او استخدام العائدات في حساب خاص، ان كل ذلك محكوم بهمّ واحد هو إطفاء جزء من الدين من اجل خفض الفوائد فالعجز في الميزانية، علّ ذلك يؤدي الى تراجع الفوائد وتشجيع العملية الاقتصادية. ان الازمة التي نعيشها جعلت البعض يوافق على شر لا بد منه هو كناية عن بيع موجودات عامة لاستخدام الموارد في معالجة المديونية لا في اطلاق عجلة التنمية. ولذلك، فإن ما تجبيه الدولة، وما قد تحصل عليه، والتأكد مما اذا كان المردود عادلا، ان هذا كله في غاية الاهمية ويستحق ان يختلف المسؤولون في شأنه، كما يستحق اللبنانيون ان يعرفوا الاكثر عنه وان يحظوا بنقاش على مستوى الأزمة التي يعيشونها والتي تكاد تطحنهم.
ليس في امكان موظف في القطاع العام، حتى لو كان كسولا، ان يعيش يومياً في موقع المتهم بانه سبب الكوارث المالية كلها، وانه رمز الفساد كله، وان راتبه مصدر العجز، وان مصيره هو التعاقد بدل طمأنينة العمل. ليس في امكانه ذلك وهو يتابع هذا التراشق الذي تساوي كل عبارة فيه ملايين الدولارات.
واخيراً، ان للموضوع علاقة بقضية الخصخصة كلها. ان هذه التعويذة المكتشَفة في العقدين الاخيرين في العالم، وفي لبنان قبل سنوات، استثارت أدباً كثيراً. هناك من حوّلها الى ايديولوجيا جديدة. وهناك من يعارضها من موقع ايديولوجي. ويجب الاعتراف بأنه، في لبنان، ثمة مجال للحديث عن مزاج عام لا يعارضها او بات ميالا الى عدم معارضتها. ان السبب المباشر في ذلك ليس طلب المؤسسات الخارجية ولا الحاح صندوق النقد. ان السبب هو تشكيك المواطنين في القطاع العام، وفي كفاءته، وتحوله الى مزرعة يتقاسمها النافذون.
إلا ان ما يجري في لبنان وما جرى في بلدان كثيرة تعرّضت لهذه الظاهرة هو اجتياح لقطاع خاص فاسد للملكية العامة وذلك عبر الصلة بمواقع في السلطة فاسدة هي الاخرى. لا نكون والحالة هذه امام خصخصة يمكنها ان تحل مشكلة. نكون امام مشكلة جديدة تعرّي الدولة وتضعفها. ويمكن ان نضيف، في ظل الخصوصية اللبنانية، ان إضعاف الدولة ضرب لحيز عام لا تستفيد منه الا القوى النافذة التي تهدد الاقتصاد طبعاً وتهدد، فوق ذلك واهم منه، النسيج الوطني كله.
يقال ان وساطات تجري لطي الخلافات في حين ان المطلوب ضغوطات من اجل بلورة هذه الخلافات في سياقات واضحة ومفهومة تطالب المواطنين بالانحياز الى واحد منها، وتستقوي بالرأي العام، وتوضح له ان التباينات ليست مجرد عدم تناغم في الامزجة.
10/05/2002

رجل من ورق
18/08/2008, 20:06
جارحة... لكنها حقائق



كان يقال، عن حق، ان الشعب الفلسطيني، وحده، لا يستطيع تحرير فلسطين. ويعني ذلك ان ما قد ينطبق على حركات وطنية عديدة لا ينطبق عليه. والسبب في ذلك هو الطبيعة الاستيطانية للمشروع الصهيوني.
كان يقال أيضاً، عن حق، ان التصدي لاسرائيل مهمة عربية عامة. ليس من باب التضامن مع شعب شقيق بل من باب تأكيد المصلحة المشتركة التي يوحدها، عملياً، ارتباط المشروع الصهيوني بالاستهدافات الاجنبية العامة في المنطقة.
ومن باب أولى يجدر ان يقال اليوم ان »شعب الضفة الغربية« لا يستطيع تحريرها. ان توفير أفضل الشروط الذاتية يُبقي هذا الهدف بعيد المنال ومستحيلا. فلو كانت القيادة اكثر حكمة وجذرية، والتنظيمات اكثر وحدة ونضالية، وادارة الحكم الذاتي اكثر شفافية وديموقراطية، لو توفرت هذه العوامل كلها، واكثر، لما كان ثمة مجال لحسم الثنائية مع الاحتلال لصالح التحرير والاستقلال.
هذه حقيقة جارحة. لكنها حقيقة. وما شهدته الارض الفلسطينية المحتلة في العقد الاخير هو، في العمق، نكسة لخيارين استراتيجيين ينطلقان من الثقة بقدرة الفلسطينيين وحدهم. يقول الخيار الأول ان الالتصاق باسرائيل، وطمأنتها، وكسب ود الولايات المتحدة، والاستعداد للدوران في هذا الفلك الشرق اوسطي المرعي اميركياً، ان ذلك كله سيقنع اسرائيل باحقاق بعض الحقوق الوطنية الفلسطينية وذلك بغض النظر عن الصلة بالمسارات العربية الاخرى وبالوضع العربي العام.
ويقول الخيار الثاني ان الدخول في مواجهة عسكرية شاملة مع اسرائيل سيقود الى استنزافها، واضعافها، وارغامها على الجلاء، من دون قيد او شرط تقريباً، من الضفة والقطاع. ويؤدي ذلك الى قيام دولة فلسطينية تُبقي المعركة مفتوحة. ويجادل دعاة هذا الخيار بأن الدور العربي يمكنه ان يكون داعماً من بعيد لان القدرات الفلسطينية، خاصة في صيغتها الاستشهادية، تكتفي بذاتها. وقد جاء نموذج الانسحاب الاسرائيلي من لبنان ليزكي هذا الوهم.
لقد بدا لوهلة ان الوضع الفلسطيني انشق الى تيارين احدهما دون مستوى الممانعة العربية الضعيفة، وثانيهما فوق مستوى هذه الممانعة. ولقد انعكس ذلك تعايشاً بين خطين فلسطينيين يختلفان حول الكثير ولكنهما يلتقيان عند حدود الرهان على القدرة الذاتية الوطنية سواء كانت سلمية أم حربية.
لقد آن الأوان لمراجعة نقدية لهذا الرهان.
ان صعوبة المراجعة كامنة في ان التدهور في الوضع العربي وصل الى حد مقلق. لم تعد انظمة حاكمة تجد مصلحة نظرية ووطنية لها في منع الهزيمة الفلسطينية امام ارييل شارون وجيشه. فتعريف هذه المصلحة بات جغرافياً بالمعنى الحصري للكلمة لا يستطيع ان يستشرف الآثار الدراماتيكية لبزوغ قوة اقليمية عظمى في هذه المنطقة الحساسة والواقعة على تماس مع العرب الافارقة، وعرب الخليج، وعرب المشرق.
تعيد الانظمة العربية صياغة مفهومها لأمنها الوطني باتجاه اكثر تواضعاً اي اكثر اعترافاً بالهزيمة. وهي، إذ تضطر لمراعاة فورات شعبية، فانها تدرك ان في الامكان تطويق الاحتجاج ومنعه من ان يجد حبل الصرة الذي يشده الى قضية فلسطين.
ان مراجعة فلسطينية »واقعية« لاساليب العمل واستراتيجياته في ظل هذا الوضع العربي، ستقود، للوهلة الاولى، الى التسليم بالارجحية الاسرائيلية. ان هذه الواقعية خادعة لاسباب عديدة اهمها ان اسرائيل لا تملك صيغة واقعية لممارسة هذه الارجحية. لقد فاض بها جموحها فوضعت لنفسها اهدافاً يكفي منعها من تحقيقها حتى يكون ذلك مساوياً لالحاق هزيمة بها. إلا ان هذا الانجاز يقتضي توافقاً فلسطينياً داخلياً على وقف التأرجح بين التصدي المسلح المفتوح الآفاق والتراجع بسرعة نحو الانضباط تحت سقف املاءات صعبة. عدا عن ضرورة الخلاص من ممارسة الأمرين في الوقت نفسه وبشكل يهدد بجعل الاقتتال الاهلي شبحاً دائم الحضور. يجب الكف عن سياسة الانتحار الجماعي عبر تنازلات لا قعر لها والكف عن السياسة المراهنة على تحويل الانتفاضة الى عملية استشهادية جماعية.
وعلى قاعدة هذا التوافق يمكن تجديد نسج العلاقات العربية، الرسمية والشعبية، وعلى اساس ان المواجهة مديدة وانه من غير الجائز الزج بالقوى الحية كلها في مواجهات ذات توقيت سياسي خاطئ بل مدهش في تجاهله للخطأ.
اذا حصل ذلك فانه لن يعني انتزاع انتصار سهل. يمكنه ان يعني فقط عدم ارتهان المستقبل وتدمير الاحتمالات التي يحتويها من اجل اشباع نرجسية وطنية وتنظيمية تكاد تصبح خطراً داهماً.
هذه الحقائق جارحة. ولقد كان الأجدى مواجهتها بعد العدوان الاسرائيلي الاخير بدل تسريع الاحداث بطريقة تزيد التفارق ضمن الصف الفلسطيني، وتقفز فوق حقائق الوضع العربي، وتوفر لشارون توسيعاً، ولو مؤقتاً، لهامش المبادرة.
09/05/2002

رجل من ورق
18/08/2008, 20:06
في قلب الإعصار



تواجه المنطقة العربية حالة غير مسبوقة، لم تعرفها في الماضي القريب. فالعقيدة المنسوبة الى رئيس الدولة العظمى جورج بوش تضع هذه المنطقة والعالم الاسلامي المحيط بها في قلب الاعصار.
لم تعتد سياساتنا على هذا المستجد. وفي حين يتحكم بالقرار الأميركي أشخاص اختبروا »الحرب الباردة« جيداً، وأداروها، وانتصروا فيها، تسيطر على التجربة السياسية لحكامنا الدروس المستقاة من تجربة كنا فيها على أطراف هذه الحرب ولو اننا كنا على أطرافها المهمة.
منذ 11 أيلول حدد بوش فلسفة سياسته الخارجية »إما معنا أو ضدنا«، ثم أضاف الى ذلك تشخيصاً ل»محور الشر«، ثم بدا واضحاً أن التركيز سيتم على »الشر« في هذه المنطقة. وبما انه يفعل ذلك بعد انهيار »امبراطورية الشر« التي كانت تقيم توازناً مع الولايات المتحدة، فإنه يشعر بأن المواجهة ليست مضطرة الى ان تكون »باردة« لا بل ان السخونة مطلوبة فيها من فلسطين الى العراق، وان شعاراتها يمكن ألا تخجل من التعبير عن الرغبة في تغييرات جذرية.
كان الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي »ضد« الولايات المتحدة. غير ان الرد الأميركي اكتفى ب»الاحتواء«. وليس صدفة ان يكون »الاحتواء« هو الاسم الذي اعطي، في العقد الماضي، للسياسة المتبعة حيال العراق وإيران.
الجديد في الامر هو اعلان فشل هذا التوجه من أجل برمجة الخلاص السريع من الخصوم. والجديد في الأمر، أيضاً، التغيير الطارئ على مضمون »معنا«. لم يعد مصطلح »معنا« يشمل العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية والاستراتيجية المعقودة، وبقدر من الالتحاق، بين حكومة عربية والحكومة الأميركية. فلو كان الأمر كذلك لكانت الأنظمة العربية، في معظمها ، »معنا«. أصبح لا بد من تضمين هذه ال»معنا« شروطاً إسرائيلية تقتضي الاصطفاف في محاربة »ارهاب« لا يسعه، تكوينياً، ان يكون مقاومة لأنه موجه نحو الهدف الخاطئ! أكثر من ذلك ان هذه الشروط الاسرائيلية، كما هي مطروحة حالياً، مقدمة في صيغة شارونية قصوى تستصعبها »صحة« النظام العربي الراهن بالرغم من تهالكه المريع.
لا ضرورة، والحالة هذه، لاستهجان الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على الحكومات العربية. ان هذه الضغوط توازي التعريف الجديد، من جانب واشنطن، للمنطقة بأنها مسرح العمليات ضد الحرب الكونية على الارهاب.
في أيام »الحرب الباردة« كانت أوروبا هي المسرح. ومن الواجب استذكار الضراوة التي خاضت بها الولايات المتحدة المعركة هناك (التهديد بالسلاح النووي حاضر باستمرار) من أجل ان نحسن تقدير المعاملة التي سنلقاها. لقد اقيمت أحلاف عسكرية عبر أطلسية، وتأمّن حضور أميركي عسكري مباشر، وتم تهميش القوى المعادية كلها، ولاح شبح انقلابات في دول ديموقراطية اذا تغيرت الأكثرية فيها بالاقتراع الحر (ايطاليا)، وأخضعت المبادرات السياسية كلها لمنطق المواجهة من مؤتمر هلسنكي الى »الاوست بوليتيك«. بكلام آخر حكم منطق الاستقطاب تفاصيل التوجهات كلها بحيث يمكن ضبط الوضع في دول التحالف ونقل المعركة الى معسكر الخصم حتى لو كان »الناقل« عدداً محدوداً من »المنشقين«. لم تكن منطقتنا بمنجاة عن هذا الصراع ولو انها لم تكن في قلبه. ولا شك في ان تطورات شديدة الأهمية حصلت بالارتباط مع هذه الثنائية وبتقدير الموقف من التحالفات الدولية ومنطقها والمصالح العربية فيها.
لقد كانت اسرائيل، في تلك الفترة، مرتكزاً مهماً للسياسة الأميركية (منذ أواسط الستينيات على أقل تقدير) . ولكن عرباً كثيرين فضلوا العلاقة مع واشنطن على أي شيء آخر، وتحديداً، على حركة القومية العربية وتخالفاتها مع »الشيوعية العالمية«. ثم مر عقد التسعينيات حيث كبر الطموح الأميركي ليحاول بناء نظام شرق أوسطي يكون لإسرائيل فيه الموقع المميز. وفي هذا العقد الماضي كانت واشنطن ترى، بين العرب، أصدقاء وخصوماً، لأنها لم تكن حددت هذه الرقعة وجوارها بصفتها المسرح المقبل لحربها الكونية الجديدة.
أما وان الوضع انقلب وانتقلنا من الهامش الذي تصارع واشنطن عليه الى المتن الذي تصارع فيه فكان لا بد من أخذ ذلك بالحساب من أجل استباق ما قد يحصل. لم ينجح حكامنا في عملية التكيف هذه بالرغم من ان الولايات المتحدة اعطت اشارات، سابقة على 11 ايلول، الى هذا »التصعيد« في اهتمامها. من هذه الاشارات تغيير العقيدة الدفاعية ل»الناتو«. ومنها تطوير »المبادرة المتوسطية للأطلسي«. ومنها تكثيف الحضور المباشر والمناورات. وتصب هذه العناوين كلها في مجرى واحد نشهد اليوم آثاره.
لقد ارتقى الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط درجات وأصبحت المطالب منه شديدة الجذرية. انه »القلب النابض« ل»محور الشر«. وهو ان لم يكن »معنا« بشروط صعبة فلن يكون مسموحاً به ان يتنعم بحرب باردة مديدة. فهذه الحرب تكون »باردة« اذا كانت موازين القوى تفرض ذلك. أما الخلل الحالي فيغري بقدر لا بأس به من السخونة
04/26/2002

رجل من ورق
18/08/2008, 20:08
8 مقابل 67



عرّبت القمة المبادرة السعودية. لم تسجل دولة تحفظاً. نحن، إذاً، أمام حدث تاريخي فعلاً. وهو كذلك لأنه، في الوقت نفسه، ثمرة تطورات تمتد عقوداً إلى الوراء ونقطة قطع معها.
أما التطورات فذات صلة بتراجع الموقف العربي الإجمالي في مواجهة إسرائيل بنسبة توطد العلاقات مع الولايات المتحدة. أما القطع فهو في الإقدام على صياغة »مبادرة سلام عربية« تقيم فصلاً واضحاً بين مرحلتين من مراحل الصراع مع إسرائيل ما قبل حرب حزيران وما بعدها.
وإذا كان جائزاً إطلاق توصيف مختصر ينفذ إلى جوهر ما خرجت به القمة فهو: 48 مقابل 67.
مرت مرحلة كان الخطاب المسيطر في عالمنا يطالب باسترجاع فلسطين كاملة. وهو مسيطر لأن الأحداث التي خرجت عليه بدت نشازاً. ثم جاءت مرحلة تميزت بوجود خطين يصر الأول على التمسك بالشعارات الماضية ويطالب الثاني باعتماد قدر من البراغماتية أي بتنازل عن بعض الحقوق ويصر على بعض آخر ولو باسم »المرحلية« و»خذ وطالب«.
ومنذ مدريد حتى أمس كان واضحاً أن النظام العربي سلّم بقيام إسرائيل فوق الأرض المحتلة عام 48، ووافق على الاعتراف بها، وإقامة علاقات سلام معها مقابل الانسحاب من المناطق التي احتلت في 67. غير أن قضية واحدة بقيت عالقة من المرحلة الأولى هي قضية حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم بما في ذلك تلك الواقعة ضمن ما يعرف بدولة إسرائيل.
إن ما فعلته قمة بيروت هو قطع حبل الصرة بين حرب 48 ونتائجها وحرب 67 ونتائجها. لقد بات العرب يسلمون لإسرائيل، في أي تسوية محتملة معها، بكل ما حصلت عليه في »معركة الاستقلال«، بما في ذلك حقها في التحكم بحق العودة الفلسطيني.
إذا وضعنا الكلام التزويقي جانباً فإن هذا هو جوهر المغزى السياسي للقمة. ومن لا يصدق فعليه أن يراجع المبادرة في صياغتها الأخيرة. سيلحظ تشديداً استثنائياً على مطلب الانسحاب من الأرض المحتلة. وسيلحظ، من جهة أخرى، تمييعاً مقصوداً في الحديث عن قضية اللاجئين. ف»الحل العادل« المشار إليه هو أي حل يتوافق طرفان على أنه كذلك في ما يخصهما. والمطلوب لم يعد تطبيق القرار 194 بل البناء عليه والانطلاق منه.
إن مراجعة سريعة لتجربة المفاوضات العربية الإسرائيلية وصولاً إلى كامب ديفيد 2 وطابا تظهر الأهمية التي تعلقها إسرائيل، كل إسرائيل بما في ذلك أقصى اليسار فيها، على رفض حق العودة. وإذا كان هناك بين القوى الدولية النافذة من يصر على طلب الانسحاب الكامل فما من دولة أوروبية (ناهيك عن الولايات المتحدة وروسيا) تدعم ما كان حتى الأمس شرطاً عربياً للسلام. ويبدو ان النظام العربي استبطن هذا المعطى وأدرك أن لا مبادرة يمكن لها أن تعيش إلا إذا وازنت بين تصلب في طلب الانسحاب وتراخٍ في طلب العودة.
وبما أن تجربة المفاوضات نفسها تقول إن إسرائيل توافق على »حق العودة« إلى أرض الدولة الفلسطينية المقبلة، بشروط، فإن ذلك يكمل توضيح الصورة. فما يريده العرب هو الحصول في الأرض المحتلة عام 67 على »كل حقوقهم« (الانسحاب الكامل، الدولة، حق العودة) لقاء التنازل لإسرائيل عن كل ما حصلت عليه في 48 بما في ذلك طرد الفلسطينيين.
* * *
إن هذه المعادلة الجديدة، 48 مقابل 67، لن تكون مقبولة من إسرائيل. ليس الحديث هنا عن حكومة آرييل شارون وحدها. فإيهود باراك هو الذي رفض الانسحاب حتى حدود 4 حزيران في الجولان. وهو نفسه الذي أصر على الاحتفاظ بنسبة عالية من الأرض الفلسطينية المحتلة في حرب حزيران.
إن المؤسسة الحاكمة في إسرائيل تتصرف على أساس أن العرب يريدون بيعها مما تملك. ولذلك فإنها ترد بأن ما حصل في 48 حصل والمطلوب تقاسم ما حصل في 67 أي الاحتفاظ بمكاسب من تلك الحرب. وبما أن شارون هو الحاكم اليوم فإن خلافه مع شريكه العمالي لا يتجاوز التباين في تقدير حجم المكاسب التي يمكن »انقاذها« ضمن الشروط الإقليمية والدولية للصراع. فحتى يوسي بيلين ينسب أي انسحاب محتمل إلى عجز عن البقاء لا إلى رغبة في الانكفاء عن شطر من أرض إسرائيل التاريخية.
* * *
إذا كان صحيحاً أن هذا هو الجوهر السياسي لقمة بيروت فإن التساؤل مشروع عن البند الخاص ب»ضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة«. هذا »البند اللبناني« هو بمعنى ما، ثمن استضافة بيروت للقمة.
لنلاحظ، أولاً، انه لم يرد في سياق الحديث عن »التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين«. أي انه لم يرد في ما يطالب العرب إسرائيل بالقيام به. لقد ورد مستقلاً وتحت عنوان »تقوم الدول العربية بما يلي«، أي إنه ضمانة عربية للبنان غير ذات صلة ب»حق العودة« وإنما ب»رفض كل أشكال التوطين«.
إن الموضوع، لأهميته، يستحق تعليقاً على حدة.
03/29/2002

رجل من ورق
18/08/2008, 20:09
بوش يستمع إلى نداءات تاريخية!



»إن التاريخ دعانا إلى التحرك بهدف جعل العالم أكثر سلاماً وأكثر حرية ولن نفوّت هذه الفرصة«. لم يجد التاريخ سوى جورج بوش يدعوه. والرجل لا يسعه رد دعوة من هذا النوع. لذا قرر »الدفاع عن الحرية«، أي قرّر، أو اقترب من أن يقرّر، ضرب العراق.
لم يكن هذا الجو سائداً في أثناء جولة ديك تشيني في المنطقة. ولكنه ما إن وصل واشنطن حتى قرر الأخذ بالنصيحة القائلة إنه لا ضرورة لأخذ نصائح الأصدقاء العرب بالاعتبار. لقد استمع منهم، كما قيل لنا، إلى اعتراضات على عملية ضد العراق. ولمرة، لم تقل الصحافة الأميركية إن زعماءنا مارسوا التقية فأبلغونا، عبر الإعلام، غير ما أسرّوا به أمام ضيفهم الأميركي. غير أن ذلك لم يمنع تشيني، أمام الدعوة الموجهة من التاريخ، من أن ينسب إلى القادة العرب قلقاً يوازي القلق الأميركي »عندما يرون ما يقوم به صدام حسين لتطوير أسلحة كيميائية وجرثومية وجهوده على صعيد الأسلحة النووية«. نحن لم نر ما رآه القادة، ولكن سمعنا أنهم لم يروا ما يبرّر العمل العسكري.
إن »معركة العراق« هي عنوان رئيسي من عناوين القمة العربية. وحتى إذا كانت فلسطين حاضرة بقوة، وهي يجب أن تكون كذلك، فإن نصرة فلسطين فعلياً لا يمكنها إلا أن تمر بضرب طوق من الحماية العربية للعراق.
إن هذا الطوق ممكن.
فالإدارة الأميركية تزداد توحُّداً حول موقف الصقور المغالين في تأييدهم المطلق لإسرائيل. ويستند هذا التوحد إلى ميل قوي في الرأي العام يؤيد حرباً. إلا أن هذا التقارب ليس معطى ثابتاً ولا هو قدَر. فلم يكن الأمر كذلك قبل شهور. وكان هناك من هو مستعد لجعل العقوبات أكثر »ذكاءً«، أي للتقدم خطوة في اتجاه مخالف للمنحى الذي تجري فيه الأمور هذه الأيام. ومن شأن موقف عربي جديّ أن يختبر هذه الصلابة المستجدة، ومن حقه أن يراهن على إحداث تصدعات فيها.
لقد استبق مسؤولون في الإدارة الأميركية التحفظات وأكدوا أنهم سيواجهون العراق ولو من دون حلفاء. ولقد شكل ذلك عنصر ضغط أنتج تحولاً في الاتجاه السيئ لكل من روسيا وفرنسا وكوفي أنان. إلى ذلك، أقدم رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير على العبور إلى »الضفة الحربجية«. ولكن الصراع على الموقفين الروسي والفرنسي مفتوح. وكذلك يمكن إحراج أنان في حال قررت واشنطن التهرّب من استصدار قرار جديد من مجلس الأمن. أما بلير فإنه يواجه، اليوم، رأياً عاماً يخالف مزاجه، وهذه حالة نادرة، ومزاج الرأي العام الأميركي. وثمة أصوات في حزبه وفي حكومته تدعو إلى سياسة أكثر اعتدالاً، وفي الإمكان تطوير هذه الحالة الضاغطة عليه.
لم يتشكل تحالف دولي حتى الآن. ومن المفترض، بالقمة، أن توجه رسالة واضحة مؤداها أن العرب الجاهزين ل»سلام كامل« مع إسرائيل ليسوا في وارد تغطية حرب كاملة ضد بلد شقيق. لا مجال لأن تكون تلبية بوش »دعوة التاريخ« سهلة إذا كانت الجغرافيا الإقليمية ممانعة، وإذا كان العرب يعتبرون أن العالم يكون »أكثر سلاماً وأكثر حرية« بلجم أرييل شارون وليس بفتح أبواب المجهول في العراق.
إن هذا »المجهول« هو عامل من العوامل التي تلعب ضد الجموح الأميركي. فبوش يكتفي بإعلان النوايا حيال بغداد ولكن الواضح أنه لا يملك تصوراً للعملية التي يُفترض بها أن تقود إلى تغيير النظام هناك. ولعله يخلط بين الدعوة التي تلقّاها من التاريخ وتلك التي يوجهها، منذ سنوات، أحمد الجلبي الذي تعلو أسهمه وتهبط، في الكونغرس، بفعل عنصرين: الأول، مدى اقترابه من هواجس اللوبي الصهيوني، والثاني، والأقل نبلاً، نوع التقرير الذي يصدره بحقه أي مدقق وضيع في حسابات ما يسمى »المؤتمر الوطني« الواضع يده على فتات المساعدة المرصودة ل»تحرير العراق«.
يمكن أن نضيف إلى ما تقدم، أن السلوك العراقي في الأسابيع الأخيرة يعقّد المهمة الأميركية. فالسلطة في بغداد اختلفت عن الصورة التي تحب أن ترسمها لها الإدارة الأميركية. والمبعوثون العراقيون يتحدثون بلطف غير معهود، وذلك منذ أن حاولوا تكليف عمرو موسى بإيجاد مخرج. ولعل المطلوب منهم أن يتذكروا، حرفياً، ما قاموا به في قمة عمّان من أجل أن يفعلوا عكسه في قمة بيروت.
لقد واكبت رحلةَ تشيني العراقية انعطافةٌ جزئية أميركية تجلّت في حد أدنى من التوازن بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية. ولكن ما إن غادر الرجل المنطقة، برفض لقاء ياسر عرفات، حتى عادت واشنطن إلى الاصطفاف مع أرييل شارون. وفي هذا التحول، وحده، درسٌ يجدر بالقمة أن تستفيد منه قبل أن يباشر بوش »التحرك« تلبية للدعوة التاريخية (الإلهية؟) المزعومة.
03/22/2002

رجل من ورق
18/08/2008, 20:10
الدوحة كابول: »العولمة السعيدة« ... بأعدائها



تشارف الجولة الأولى من الحرب الأميركية على الإرهاب، على نهايتها. وتوشك الدورة الجديدة من مفاوضات التجارة العالمية على أن تبدأ. سقطت كابول ونجحت الدوحة.
للحرب بُعد كوني مؤكد. والمفاوضات التجارية كونية بالتعريف. القوى الدافعة في الحالة الأولى تكاد تكون نفسها في الثانية. ومثلها مواقع النفوذ الأقل أهمية. وفي حين بدا أن قناة »الجزيرة« هي التي »استضافت« الحرب، فإن قطر استضافت الاجتماعات.
أي نوع من العلاقة بين حدثين بهذا الحجم؟
لا بد، قبل الإجابة، من ملاحظتين تمهيديتين.
1 شهدت العولمة الاقتصادية اندفاعة كبيرة بعد انتهاء الحرب الباردة. وصاحب ذلك تركز كبير للسلطة العالمية في الولايات المتحدة. أصبح نموذجها الليبرالي البوصلة التي تقود البشر. أسعفها ازدهار التسعينيات في ربط النجاح بتصفية دولة الرعاية، والانقضاض على »الرأسمالية ذات الوجه الإنساني«. تأكدت أرجحيتها العلمية والتكنولوجية. اكتسح بثها الثقافي (ما دون الثقافي بالأحرى) المعمورة، فباتت أوروبا، وهي مَن هي، تطالب ب»استثناء«. تمّ إحكام الإمساك بالشرق الأوسط بعد حرب الخليج، وبجزء من أوروبا بعد حروب البلقان. وترافق ذلك مع توسع حلف شمال الأطلسي برغم التلعثم الأوروبي عن »مكوّن خاص« وسياسة خارجية وأمنية مستقلة. وثبتت الهندسة الأمنية الآسيوية. وتزامن هذا كله مع استخدام ذرائعي لافت لصندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة. وبات ميثاق الأمم المتحدة مثل لائحة المطاعم، تنتقي منها واشنطن ما يعجبها.
وكانت النتيجة أن برز تفاوت كبير بين عالم شديد التداخل وبين الافتقاد إلى مؤسسات سياسية دولية (وإقليمية) تدير شؤونه بحد أدنى من الديموقراطية. لا شيء سوى هذه »الهوة الديموقراطية« يوازي، عمقاً، »الهوة الرقمية« الشهيرة.
2 في مقابل هذه الحركة التوحيدية، ونتيجة طبيعتها المالية والتجارية، وبحكم رغبتها في القفز فوق الخصوصيات، كان العالم يعيش، في اللحظة نفسها، تذرراً لا سابق له. لم يعد استقطاب الحرب الباردة يلعب دوراً ناظماً. انفجرت نزاعات إتنية، وطائفية، وقومية، ولغوية يصعب حصرها. من كندا، إلى أميركا نفسها، إلى المكسيك، والبرازيل، وأوستراليا، وفرنسا، وإسبانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، وجمهوريات المعسكر الاشتراكي، والاتحاد السوفياتي، ومعظم البلدان العربية، والهند، والصين، والفيليبين، وأندونيسيا، والقارة الأفريقية بأسرها... إلخ. في كل هذه المناطق والبلدان، وأينما نظرنا في العالم، نجد صعوداً مدوياً للهويات على أنواعها، وبعدوانية تطال الأقربين والأبعدين.
إن هذا التشظي، وحده، يدحض أسطورة »صدام الحضارات«، لأن الدول المركّبة اجتماعياً، شهدت، كلها، توترات أفضت إلى طلاق سلمي، كما في حالة تشيكيا وسلوفاكيا، أو إلى احترابات دموية. إن عدد الحروب الأهلية ضمن حدود »السيادات الوطنية« يفوق بأضعاف عدد الحروب بين الدول وعبر الحدود في العقد الماضي.
إن هاتين »الميزتين« المتناقضتين شكلتا سمتي السنوات التي أعقبت سقوط الجدار وحرب الخليج.
لقد كان للعولمة »رب« يحميها فلم يجد المتضررون، بعضهم، ردا على ذلك سوى الالتجاء إلى آلهتهم، إلى أصنامهم بالأحرى.
بزغت، في الأعوام الماضية، حركات لمناهضة العولمة. وكان واضحا أنها، في كل بلد وعلى صعيد كوني، أقرب إلى تركيبة هجينة تضم قوى من أقصى اليمين العنصري إلى أقصى اليسار الفوضوي. اليمين أكثر كرهاً للعولمة، أي لأي تواصل، واليسار أكثر كرهاً لمضمونها الليبرالي المناقض لأمميته المفترضة وحس العدالة لديه.
غير أن فرزاً سرعان ما أصاب هذه الحركات. ويمكن الحديث، اليوم، عن تيار يعادي العولمة باسم الانغلاق، وآخر (تعددي) ينتقدها باسم عولمة بديلة وأكثر ديموقراطية.
ويمكن القول، مع قدر من المجازفة، إن أسامة بن لادن يرمز إلى التيار الأول. أما الرمز الأكثر تمثيلاً للتيار الثاني فعلينا أن نذهب إلى المكسيك لنجده: القومندان ماركوس. استفاد الاثنان من العولمة وما أنتجته: حرية الانتقال النسبية، حركة الأموال، سرعة التواصل الإعلامي، إنترنت، تنظيم الشبكات... إلخ، غير أن كل واحد من الاثنين سار في طريق.
عبّر بن لادن عن طرح شديد المحافظة والرجعية في تأكيد الهوية في هذا العالم المضطرب، ضد الآخر، أي آخر، ولمجرد أنه ليس أنا أو نحن. وسعى ماركوس إلى وصل هويته الهندية المجروحة في تشاباس، بآلام الآخرين جميعاً في المكسيك والعالم كله وأميركا الجنوبية خاصة. غرس رجلاه في التربة المحلية وبقي رأسه يراقب حركة الكون (بن لادن فعل العكس).
اختار أسامة العنف العاري ولو ضد المدنيين. وانحاز ماركوس، بعد كفاح مسلح دام ساعات وبرغم توفر الأسلحة، إلى العمل السلمي، الدؤوب. يريد الأول أن يقهر. يريد الثاني أن يُقنع. يعبّر الأول عن نموذج رديء للعولمة: ثقافة العنف السينمائي الأميركي، والذكوري تحديداً. يعبّر الثاني عن نموذج راق: ثقافة الحوار عبر إنترنت. ومن يقل حوار يقل وداعة تستتر الصلابة وراءها.
استنفر الأول الجميع ضده فاحتشدوا. أربك الثاني الخصوم فانشقوا. شُنت حرب على الأول وهي في الطريق إلى تحقيق أهدافها. أما الثاني فاضطر رئيسَ المكسيك إلى استقباله في القصر.
وتشاء الصدف، في اليومين الماضيين، أن يتم الدخول إلى كابول لحظة اقتراب مؤتمر الدوحة من نهايته. ينهار نظام طالبان أمام »عولمة مسلحة وسعيدة« تواصل مسيرتها الظافرة. لو كان لها أن تختار أعداءها لما وقعت على من هو »أفضل« من بن لادن.
لقد ألحقت العولمة الليبرالية هزيمة بالشق المحافظ من أعدائها في العالم الثالث (أقرانه في البلدان المتقدمة لم يُمَسوا بعد. حتى هنا ثمة تمييز!). قد لا تكون الهزيمة نهائية. غير أنها ترسم، بالحديد والنار، حدود القدرة على الممانعة المنغلقة على نفسها والرافضة الاندراج في سياق مشروع، ولو جنيني، لبناء عالم بديل.
ليس من الجائز أن يُفرض على الآخرين التعرف إلى أنفسهم في هذه الهزيمة. فهم يدركون أنهم مهزومون سلفاً، وأن سبيلهم إلى الخروج من حيث هم لا تختصره المسافة بين المطار والبرجين، ولا تصادره كلمات قليلة مهما حظيت بنسبة مشاهدة واستماع عالية.
إن رهان هؤلاء على تغيير العالم لا تدميره. وهم يدركون أن الموجة التي تجتاح مواقع المقاومة عاتية جداً. ولعل دليلهم على ذلك، فضلاً عن كابول، الدوحة. فلقد تقرر في العاصمة القطرية المضي في النهج الماضي نفسه معزَّزاً بحراسة الذين أسقطوا العاصمة الأفغانية. هناك مَن يعارض النهج والحراسة ويرفض أن يكون في »فسطاط« بن لادن، أو »معسكر الخير« لصاحبه جورج بوش.
11/15/2001

رجل من ورق
18/08/2008, 20:11
تعويذة 11 أيلول »الملبننة«



لا شيء مثل أحداث دولية كبرى، بحجم ما بعد 11 أيلول، يكشف هزال الحياة السياسية اللبنانية. فعندما »نلبنن« ما جرى نجمع ما بين ادعاء المعرفة وبين التصرف انطلاقاً ممّا كنا عليه عشية الحدث.
ادعاء المعرفة يظهر جلياً في أن عندنا، في لبنان، ودون سائر الكرة الأرضية، من يزعم امتلاك تقديرات دقيقة لما ستكون عليه أحوال العالم. وفي حين ينصرف الكثيرون، في الخارج، إلى طرح الأسئلة وتلمس الأجوبة الأولية، يتصرف الكثيرون، في لبنان، مسترشدين بالجواب الوحيد، المسبق، عن أسئلة لا يطرحونها.
من كان يريد، أصلاً، أن يعدل في سياسته يقل لك إنه يتجاوب مع الزلزال العالمي. ومن كان يعتبر أن وجوده في المعارضة وصمة يصرخ أن الرسالة التعايشية اللبنانية لن تصل إلى العالم إلا إذا أدخل، وخطابه، جنة السلطة. ومن كان يملك ميلاً إلى التشدد الأمني يؤشر على ما حصل في أميركا والغرب فيحول الولايات المتحدة، المكروهة، إلى القدوة التي يتوجب تقليدها. ومن كان يود زيادة »الانفتاح« الاقتصادي أصبح يوده أكثر بعد 11 أيلول. ويصعب أن نجد في لبنان طرفاً سياسياً واحداً لا يفاخر، باسم ضرورة تعديل السياسات، بأن التطورات أثبتت صحة تحليلاته. إن لبنان السياسي في 12 أيلول هو نفسه ما قبل 11 أيلول. والفارق الوحيد، ربما، هو أن كل طرف يطالب الآخرين بتغيير سياساتهم تدليلاً على استيعابهم ما جرى. وتشاء »الصدفة« وحدها أن يكون عنوان هذه المطالبة هو: تبنوا مواقفي المعروفة منذ ما قبل 11 أيلول لتبرهنوا أنكم أدركتم حجم التحول!
برزت لتفجيرات نيويورك وواشنطن وللحرب على أفغانستان
نتيجتان لبنانيتان: التشدد في طلب الرقابة المصرفية على ودائع مشبوهة، وإيراد اسم حزب الله في اللائحة الأميركية الثالثة.
ويمكن القول، من دون مبالغة، إن ثمة توافقات لبنانية جدية حول المواقف المطلوب اتخاذها في هاتين القضيتين. إن أنصار رفع السرية المصرفية خفت صوتهم، ومالوا إلى التيار العام الموافق على تدابير محدودة وملموسة تجنّب لبنان ضغطاً مركزاً. ولم ترتفع أصوات تتكئ على المواقف الأميركية الأخيرة من أجل عرض الخدمات على واشنطن. لا »تحالف شمال« أفغانياً في لبنان، ولا نسخة رديئة عنه مثل »المؤتمر الوطني العراقي«.
لا يعني ذلك أن التمايزات اختفت. ولا يعني أن المعارضة زالت للخيارات الاستراتيجية التي أعاد الرئيس إميل لحود التذكير بها في خطابه الاستقلالي. ولكن لا بد من الاعتراف بأن التوافقات قابلة لأن يبنى فوقها، وقابلة بالتالي، لأن تقود إلى انفراجات لا ضرورة معها لأي تشدد أمني يتجاوز التنبه إلى أننا نعيش في منطقة مضطربة في عالم يشهد اضطراباً.
من المبكر الحديث عن آثار لبنانية لما بعد 11 أيلول غير ما سبقت الإشارة إليه. وربما كان الأجدى التوقف عند آثار جانبية هي تلك التي ستثيرها عودة الاهتمام الأميركي بشؤون التسوية. ولعل بعض التشدد الأميركي مع لبنان مرده أن نوعاً معيناً من التداخل مع ما يجري في فلسطين لا يعجب واشنطن. وسيكون هذا الموضوع مطروحاً بإلحاح في الأسابيع المقبلة، لا بل في الأيام المقبلة.
غير أن هذا الأمر، في شقه اللبناني السوري، كما في شقه اللبناني الفلسطيني، كان مُثاراً في السابق. والجديد فيه أنه مُثار، هذه الأيام، بطريقة جدية أكثر. وسيتضح ذلك مع وصول »العائدَين من أفغانستان« وليام بيرنز وأنطوني زيني إلى المنطقة.
يكاد يكون معروفاً ما سيقوله الرجلان. ويكاد يكون معروفاً ما سيسمعانه من المسؤولين اللبنانيين والسوريين. ويكاد يكون معروفاً ما سيقوله معارضون تعليقاً على الأجوبة الرسمية. لن نسمع جديداً ذا صلة بمواقف تبلورت في ما بعد 11 أيلول. ربما كان رد فعل وليد جنبلاط لافتاً. ولكن، هنا أيضاً، يكفي أن نراجع ما قاله الرجل في 10 أيلول حتى نكتشف أن لا جديد فعلاً.
إن ما بعد 11 أيلول تعويذة لبنانية بامتياز: حاضرة بقوة ولكنها لا تقول شيئاً ولا تفعل شيئاً.
11/23/2001

رجل من ورق
18/08/2008, 20:12
مَن يملك »سلاح« الديموقراطية



قيل ذات مرة، عن حق، إن »الاشتراكية« تحولت إلى أداة من أدوات السياسة الخارجية الروسية. ويمكن القول اليوم، عن حق، إن »الديموقراطية« كانت أداة من أدوات السياسة الخارجية الأميركية. ويعني ذلك أن تعميمها، ومعها ترسانة المفاهيم الخاصة بحقوق الإنسان والأقليات، ليس مطلوباً في ذاته. يصبح هدفاً عند التقائه بالمصالح الوطنية الأميركية. ويسقط بمجرد أن يبرز تناقض بينه وبينها.
ما لم تستوعبه واشنطن كفاية هو أن هذه الأداة باتت مثلومة منذ انهيار جدار برلين. أي إنها كانت فعالة جداً في سياق الحرب الباردة ومسرحها الأوروبي وتراجعت فعاليتها مع انتصار »العالم الحر« وانهيار حلف وارسو.
ففي أوروبا الوسطى والشرقية وفي ما كان يسمى الاتحاد السوفياتي نفسه تلاقى المطلب الديموقراطي مع المطلب القومي. فالشعوب الساعية إلى التحرر الوطني استعارت الشعار الديموقراطي بصفته »إيديولوجيا« الخصم العالمي للجهة التي كانت تعتبرها »استعمارية«. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن هذه الشعوب كانت على مستوى من التطور العام يسمح لها، كما شاهدنا، بخوض تجربة من هذا النوع. ولوحظ، بعد انهيار الجدار، وبعد التحولات الكبرى في الأحزاب العمالية الرئيسية، وبعد إنجاز الاستقلال، أن العودة إلى أطروحات يسارية معتدلة وديموقراطية هي الغالبة وأنها مترافقة مع نزوع شديد إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي أو لحلف شمال الأطلسي.
إن الولايات المتحدة صاحبة فضل على الشطر الغربي من أوروبا لأنها ساهمت في تحريره من النازية. وهي صاحبة فضل على الشطر الشرقي لأنها لعبت دوراً حاسماً في إنقاذه من توتاليتاريات سبق لمركزها السوفياتي أن تحمّل العبء الأكبر من هزيمة النازية.
الاستنتاج مما تقدم هو أن الديموقراطية، في هذه البلدان، تقود، بشكل طبيعي جداً، إلى علاقة وثيقة مع الولايات المتحدة، ولو أنها علاقات تشوبها صراعات مصالح محدودة ومنضبطة بالإطار التحالفي الواسع.
لقد تغيّر العالم فعلاً عند منعطف التسعينيات. وإذا كانت الديموقراطية السياسية والليبرالية الاقتصادية سجلتا انتصارات مدوية فإن معطيات المرحلة الجديدة خففت، إلى حد بعيد، من فعالية الشعار الديموقراطي كأداة من أدوات السياسة الخارجية الأميركية.
لماذا؟ لأنه في العالم غير المتقدم، وفي العالمين العربي والإسلامي خاصة، ثمة تعارض واضح بين المطلب القومي وبين السياسة الأميركية. ويقود ذلك، حكماً، إلى تراجع من جانب واشنطن في التشديد على الديموقراطية منهجياً لصالح التمسك، لا بل الضغط المنظم، لتوسيع أفق الليبرالية الاقتصادية.
تأسيساً على ذلك يمكن القول إن الديموقراطية لم تعد مطلباً أميركياً في هذه المناطق. وبدل أن تكون، كما في أوروبا الشرقية، جسراً لعلاقة إيجابية مع الولايات المتحدة، تحولت، لارتباطها بالمطلب القومي (وأحياناً الاجتماعي)، إلى عنوان مواجهة.
إن جولة سريعة في ما يحصل في العالم، اليوم، تؤكد هذا الانطباع.
ففي بيروت، مثلاً، يطالب السفير الأميركي فنسنت باتل بمصادرة أموال »حزب الله«. ويضيف، بأريحية »ليس فوراً«. ويصر على مطلبه برغم أنه لا يجد أي صدى داخلي، وبالرغم من أن خيار احتضان المقاومة يحظى، ديموقراطياً، بأرجحية حاسمة. ويكاد المرء يقبل من باتل هذا الطلب إذا وافق من جانبه على شرط واحد: تأمين أكبر قدر من الحماية الديموقراطية له. ويعني ذلك أحد أمرين لا ثالث لهما. إما تحترم واشنطن رغبة اللبنانيين وإما تسمح لهم، في أقرب وقت ممكن، بالمشاركة في الانتخابات... الأميركية. كل ما عدا ذلك إملاء لا صلة له بالحريات.
وعلى محور كابول إسلام أباد لا يمكن لأحد إقناع أحد بأن الولايات المتحدة لا تفضل الاستقرار على حساب الديموقراطية. التجربة مع برويز مشرّف ذات معنى. والاستقرار المشار إليه هو ذلك الذي يسمح لواشنطن بتنفيذ سياساتها وليس الذي يسمح للباكستانيين والأفغان بهدوء يجعلهم أقدر على تقرير مصائرهم.
ولن نجد أميركياً واحداً، في موقع المسؤولية، يرتضي الديموقراطية للفلسطينيين إذا كانت تؤدي إلى أي نوع من أنواع الضرر بإسرائيل.
ولعل المثال الأكثر حراجة هو ما يحصل في الدوحة حالياً. فالمتظاهرون ضد اجتماع منظمة التجارة العالمية يرفعون شعاراً مركزياً يقول: »ماذا نريد؟ الديموقراطية!«. وهذا صحيح. فالمنظمة المعنية تريد التقرير بأوضاع العالم عبر مداولات تُحاط بأقصى قدر من السرية. وآلية العمل المعتمدة فيها تعطي لممثلي أكثرية المعمورة صوتاً أقل تأثيراً من صوت الدول الغنية. ولقد كان مثيراً، قبل سنوات، أن مجرد الكشف عن مشروع كانت تعده المنظمة أدى إلى إلغائه وسحبه من التداول في انتظار أوقات أفضل.
إن هذا المثال مهم جداً، وهو كذلك لأنه يضع موضع تساؤل البند الجوهري في السياسة الخارجية الأميركية: الليبرالية المعولمة. وهو يفعل ذلك باستخدام ما كان يفترض أن يكون الشقيق التوأم لهذه الليبرالية: الديموقراطية.
لقد شهد العقد الماضي، بدليل الأمثلة السابقة وغيرها الكثير، انتقالاً للسلاح الديموقراطي من يد إلى يد. لقد أدى اندماجه بالمطالب القومية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لشعوب بكاملها إلى تراجع واضح في القدرة الأميركية على استخدامه كأداة من أدوات السياسة الخارجية. لقد كان ذلك صحيحاً قبل 1990 لكنه، في 2001، أكثر وضوحاً.
11/10/2001

رجل من ورق
18/08/2008, 20:12
قصة »يهودية«



احتج لورنس سامرز على الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل في الجامعات الأميركية. قال إنه يهودي غير ممارس ولكنه بات يشعر برذاذ العداء للسامية يطاله. رد عليه ادوارد سعيد بأن من يكون رئيساً لمعهد هارفرد لا يمكنه ادعاء وجود تمييز ضده. وجاءت دراسة نشرت أمس عن أحوال يهود أميركا تؤكد رأي سعيد. فيهود الولايات المتحدة هم أكثر حضوراً في الفئات المحظوظة والنافذة من المجتمع من نسبتهم إلى عدد السكان. لم يتوقف سعيد كثيراً عند شكوى سامرز من انحياز اليسار الأميركي، والراديكالي منه تحديداً، إلى جانب الفلسطينيين.
* * *
يصعب اعتبار آل غور يسارياً. فهو، مع بيل كلينتون، قادا الحزب الديموقراطي إلى الوسط. ويستحيل الزعم أن نائب الرئيس السابق ليس شديد التعاطف مع إسرائيل. غير أن ذلك لم يمنعه من إعلان تمايزه الحاد عن السياسة الأميركية في ما يخص العراق. خلاف آل غور مع جورج بوش ليس حدثاً. ولكن الافتراق بينه وبين جوزف ليبرمان حدث كبير بالمقاييس كلها. فالثاني كان شريكه في معركة الرئاسة الماضية. ولكنه يتزعم حالياً تياراً في حزبه يحض الإدارة على المواجهة العسكرية وتغيير النظام في بغداد. ولقد كان حاضراً في البيت الأبيض لحظة الإعلان عن تباشير التوافق بين بوش والكونغرس حول صلاحية شن الحرب.
وفي وقت يلعب هذا العنوان دوراً محورياً في الحملة الانتخابية النصفية، وفي وقت يضعف الخلاف بين آل غور وليبرمان من حظوظ الحزب الديموقراطي، فإن التباين له أبعاد أخرى.
يقف ديموقراطيون إلى جانب آل غور بينهم ممثلون عن الأقليات (السود تحديداً) وعدد من النواب والشيوخ اليهود. ولكن الكتلة الرئيسية من يهود الحزب الديموقراطي تصطف وراء ليبرمان ومعها مرشحون يخشون فقدان معركتهم.
الجديد في هذه الحالة هو أنه، لأول مرة تقريباً، يحصل شقاق واضح بين اليهود الديموقراطيين وبين ممثل جدي لمزاج هذا الحزب يؤيده من هم في يساره (كنيدي مثلاً).
يؤكد هذا الشقاق (عدا شكوى سامرز) ظاهرة انحياز نخب يهودية أميركية إلى اليمين. ويطرح، في السياق نفسه، سؤالاً كبيراً على الحزب الديموقراطي ومصيره. وبهذا المعنى تصبح المتابعة واجبة لهذا الجانب في الانتخابات بعد أسابيع. فإذا تأكد أن الحزب الجمهوري زاد نفوذه في هذه البيئة فسيؤكد ذلك اتجاهاً عالمياً يقول إن »الدياسبورا« باتت تعاني من مشاكل جدية في علاقتها مع »الجناح المتنور من الإنسانية« وإن تحالفاتها تنحصر، أكثر فأكثر، باليمين واليمين الأقصى.
* * *
»لندن ريفيو أوف بوكس«، »نيويورك ريفيو أوف بوكس«، »لوموند«، ثلاث مؤسسات إعلامية شديدة النفوذ في بريطانيا والولايات المتحدة، وفرنسا على التوالي. من الأولى مقال عنوانه »الدفع باتجاه الحرب« لأناتول ليفين. من الثانية مقال عنوانه »جورج بوش والعالم« لفرانسيس فيتزجرالد. من الثالثة تحقيق عنوانه »كيف يؤثر المحافظون الجدد على السياسة الأميركية« لباتريك جارو. نقتطف من الثالث مقطعاً طويلاً بعض الشيء: »لأن بينهم من يسمى كوهين، أو كاغان، أو كراوتهامر، وعدداً من هورويتز، ولأنهم يدافعون عن إسرائيل بلا شروط، فإن خصومهم صنّفوهم في خانة مجموعات الضغط اليهودية. وهذا التصنيف معبأ بالأفكار المسبقة... ولكن الحقيقة هي أن مغامرة المحافظين الجدد هي، جزئياً، وفي البداية، قصة يهودية«. يعبّر هذا المقطع عن روحية المقالات المشار إليها.
ليس أسهل من ابتذال تهمة اللاسامية وإلصاقها بهذه المؤسسات الإعلامية. فهي، بحديثها عمّن يحيط ببوش من المتطرفين، وعمّن يدفع باتجاه الحرب على العراق، وعمن يمارس تأثيراً متزايداً في رسم توجهات السياسة الخارجية الأميركية، إنها، بهذا الحديث، لاحظت حضوراً قوياً ل»المحافظين الجدد« وهم، في معظمهم، يساريون متطرفون سابقون ويهود تحولوا في الثمانينيات وبعدها الى اليمين المتطرف. ويتضمن هذا التعريف الجديد ليس الموقف من »الآخر« فحسب وإنما، أيضاً، المواقف من مجموعة القضايا الداخلية في أميركا، وهي اقتصادية واجتماعية، التي تدور حولها الانقسامات الفكرية.
كل ما فعلته هذه المدرسة هو أنها جعلت »رسوليتها« الأممية السابقة في خدمة نزعة شديدة المحافظة وشديدة الاعتداد ب»القيم الأميركية«، ودعت، بناء على ذلك، الى ممارسة دور امبريالي متحرر من كل شعور بالذنب. ولقد التقت، في ذلك، مع تحول كان يعيشه المجتمع الإسرائيلي نفسه بحيث بات في الإمكان ليس الدفاع عن إسرائيل في أميركا بل الدفاع عن إسرائيل الليكودية.
ترمي هذه المدرسة بثقلها كله وراء الحرب على العراق. ولقد نجح تحالفها مع أصوليات مسيحية (ذات ماض لا سامٍ) ومع أصحاب مصالح نفطية وعسكرية في السيطرة على مراكز القرار. ولم يكن ذلك ليحصل لولا أن ال»واسب« الحاكمين يعيشون تماهياً بين رؤيتهم لمصالح أميركا ورؤية اليمين القومي الإسرائيلي لمصالحه. ويمكن، بناء على ذلك، فهم أن الحرب على العراق هي موضع نقاش حتى في الولايات المتحدة وبريطانيا وإنما ليس في إسرائيل!
* * *
عودة الى لورنس سامرز الذي كان مسؤولاً في إدارة كلينتون. دعا، ذات مرة، الى نقل الصناعات التلويثية الى العالم الثالث لأن الإنسان الذي قد تقتله هناك أقل كلفة من ذلك الذي قد تقتله في العالم المتقدم. كان ذلك قبل سنوات. ليس من حقه، اليوم، أن يشكو من ان قضايا عربية عادلة، من فلسطين إلى رفض الحرب على العراق، تخاطب المزاج الأكثر تقدمية في العالم. لا يستطيع المرء أن يحصل، في الوقت نفسه، على بوش وشارون و... راحة الضمير!
10/10/2001

رجل من ورق
18/08/2008, 20:13
التفاهة داء غير قاتل



التفاهة داء. لكنه غير قاتل. لو أنه كذلك لخر ديك تشيني صريعاً فور تأكيده أمام وفد المعارضة العراقية أن واشنطن تريد إقامة نظام ديموقراطي في العراق ولن تحارب لمجرد استبدال ديكتاتور بآخر. وكان لحقه، أو سبقه، دونالد رامسفيلد لأنه قال كلمات »قاتلة« مماثلة.
لقد تفوها بذلك أمام وفد يتشكل من وريث عرش ضائع منح لأجداده في ظروف مشبوهة، ومن مسؤولين حزبيين كرديين أجريا مسرحية انتخابية ثم دخلا في قتال مديد، ومن شقيق لقائد ديني يشك في استعداده للامتثال لنتائج أي اقتراع، ومن شخصية شكلت حزبا لم يختره أحد لرئاسته، ومن »جلبي« تطارده الفضائح المالية ولا تكف المؤسسات الأميركية نفسها عن التشكيك في كيفية تصرفه بأموال معطاة إليه لقاء خدمات تدخل صاحبها السجن.
لا وجود، في هذا الوفد، لفرد ذي تقاليد ديموقراطية. أكثر من ذلك، لا وجود لتقاليد ديموقراطية في البلد المعني. وإذا أضيف الى ذلك سنوات الحروب والحصار، وتبديد الطبقات الوسطى، وتهميش الأحزاب وضربها، والتركيبة الاجتماعية الهجينة، إذا أضيف ذلك كله أصبح بالإمكان تخيير تشيني ورامسفيلد بين تهمتي التفاهة أو الكذب.
إن ما تريده واشنطن من العراق هو نظام موالٍ لها. تسعى الى سلطة في المركز تتحكم بالقرار العسكري الإجمالي والنفطي. ويمكن لها أن تتعايش، عند أطرافها، مع اضطرابات محدودة. فهذا النظام الموالي هو، في عرف غلاة الأميركيين، أي الإدارة الراهنة وأغلبية الرأي العام الحالي، الطريق الى الإمساك بالشرق الأوسط كله.
لا شيء يحول دون أن تكون الديموقراطية حلماً عراقياً ومشروعاً سياسياً. ولكن القول بأن العدوان العسكري كفيل بنقل هذا البلد مما هو فيه الى الديموقراطية ترويج لا معنى له.
يمكن للولايات المتحدة أن تطمح الى شراء ولاءات في العراق. ولكنها مضطرة، من أجل ذلك، الى تسعير التباينات العرقية والمذهبية ووعد كل فئة بأن تجد لها مكاناً في المستقبل. لذلك لم يكن غريباً أن يتلازم الحديث عن »حل« بالحديث عن الفدرالية. فهذه الأخيرة يراد لها أن تستند الى تمايزات قد تكون موجودة من أجل دفعها الى الحد الأقصى. وسيقود الأمر، في حال حصوله، الى جعل الضوابط دون التقسيم الكامل خارجية فقط، والى نشوء تجمعات متعايشة بتجاور يصعب له أن يحتضن، في كل »كانتون«، تعددية جدية.
إذا استخدمنا أفغانستان مقياساً أمكن لنا أن ندرك بالملموس حجم الفارق بين الوعود التي تصاحب حرباً والنتائج الحاصلة بعد الانتصار. فالقوات الأميركية غير معنية إطلاقاً بأي أمن خارج العاصمة. وهي تقيم صلات مع أمراء حرب تسميهم »الزعماء المحليين«. وتراقب بسلبية ارتكاباتهم وصراعاتهم وترفض تعريض نفسها لمخاطر. أما نثر الوعود الاقتصادية، والتلويح بإعادة البناء، والتشديد على عدم تكرار خطأ الماضي بإدارة الظهر... هذه كلها تخلت عنها الولايات المتحدة إما لتتركها تسقط وإما لتكلف الأوروبيين بها.
يستحسن استرجاع ما قاله تشيني ورامسفيلد غداة 11 أيلول في معرض تحضير الحملة الأفغانية للمقارنة بواقع الممارسة اليوم. سيتضح أن الإمساك بالسلطة المركزية هو الهدف الأول وهو هدف تحقق بتدخل شديد الفظاظة لإرغام »لويا جيرغا« على تسمية من طاب لزلماي خليل زاد وتسميتهم في مواقعهم.
والاسترجاع ضروري استباقاً لما قد يحصل في العراق. ان أفق التدخل العسكري لا علاقة له بماك آرثر ولا بتحرير أوروبا الغربية ومشروع مارشال. الأفق هو قبضة من حديد تمسك بالبلد ويكون المعيار الوحيد لمحاكمتها اندراجها في السياسة الأميركية الإجمالية حيال المنطقة وهي سياسة شديدة العدائية والجذرية.
08/15/2001

رجل من ورق
18/08/2008, 20:14
لا النفط سلاح، ولا الجيش...



»النفط ليس سلاحا، النفط ليس دبابة« قال مستشار لدى مسؤول عربي كبير. يريد هذا الكلام طمأنة الاسواق والاصدقاء. الاسواق اولا حتى لا تصاب بذعر في وقت يمر الاقتصاد العالمي بمرحلة حرجة. والاصدقاء حتى لا يشعروا بأن هناك من يريد الضغط عليهم. وإذا وضعنا الاسواق جانبا، فإن الاصدقاء المعنيين، اي الاميركيين، لا يتورعون عن استخدام النفط، او غيره، سلاحا، وأن يعاملوا اكثر من نصف الدول الممثَّلة في الامم المتحدة على قاعدة عقوبات متدرجة.
لقد اشتدت المطالبة الشعبية العربية باستخدام سلاح النفط ضد دول داعمة للاحتلال الاسرائيلي، وذلك، بالضبط، من اجل عدم إحراج حكومات معينة بدعوتها الى استخدام السلاح. اي ان هناك من كان يعطي دولا أسبابا تخفيفية فيكتفي بأن تقنّن استخراج الطاقة، وان لا تعوض عن نقص يفتعله غيرها، وان توحي بأنها تملك خيارات متعددة يمكنها استعمالها من اجل ان يكون صوتها مسموعا.
وإذا أريد للنقاش ان يخرج من هذه الدائرة المغلقة: هل النفط سلاح ام لا؟، فإن السؤال الذي يبقى مطروحا: هل من الجائز لطرف ان يستند الى ما لديه من عناصر قوة من اجل ان يلقي بها سعيا وراء تعديل موازين القوى؟ ان الذهاب الى لب الموضوع يكشف وجود مدرستين. تقول الاولى ان التقرب من الاميركيين، وطمأنتهم، والاندراج في سياساتهم الكونية، تجعلهم يغلّبون علاقتهم مع العرب ويستغنون عن اسرائيل التي يلعب اللوبي المؤيد لها دورا كبيرا وحاسما في تعمية واشنطن عن مصالحها الحقيقية. وتقول المدرسة الثانية ان الولايات المتحدة رتبت اولوياتها في المنطقة اثناء »الحرب الباردة« وبعدها بشكل يجعل كل انتزاع لحق عربي من اسرائىل محكوما بممر إجباري هو قدْر، متدن او مرتفع، من توتير العلاقات مع واشنطن. ولقد دلت التجارب الماضية كلها على ان واشنطن ماضية في تطويع الوضع العربي وإضعافه من اجل إنزاله تحت سقف المقبول اسرائيليا. ولقد عرفت هذه الوجهة اندفاعا اول، بعد حرب الخليج وانتهاء الاستقطاب الدولي، وهي تشهد زخما جديدا منذ 11 ايلول.
لا ضرورة لتبادل الاتهامات بين المنتمين الى هاتين المدرستين بين العرب. غير ان الواجب يقضي تقديم عناصر النقاش الى اوسع جمهور عربي والاحتكام اليه. ولكن بما ان المدرسة المغالية في واقعيتها هي الحاكمة فإنها تحول دون ذلك.
***
جرى تطوير نظرية في بلد عربي اساسي تقول ان الجيش لا يحارب إلا دفاعا عن احتلال ارض وطنية. يبدو، للوهلة الاولى، ان هذا الطرح عقلاني جدا وانه يصدر عن شعور عميق بسطوة فكرة الدولة الامة والسيادة، ويرفض الدخول في مغامرات تبدد القوى. وهكذا نصبح امام واقع يقول ان النفط ليس سلاحا يُستخدم في فلسطين وان الجيوش العربية، بدورها، ليست سلاحا طالما ان لا احتلال مباشرا.
لا يعود مفهوما، والحالة هذه، سبب وجود معاهدة الدفاع العربي المشترك. لا بل لا يعود مفهوما سبب وجود تحالفات وأحلاف في العالم كله. لقد فعّلت دول حلف شمال الاطلسي المادة الخامسة من الميثاق دعما للحرب الاميركية ضد طالبان والقاعدة. وتقول المادة المذكورة ان اعتداء على دولة من دول الحلف هو اعتداء على الكل يجعل الاشتراك في الحرب إلزاميا. لا بل ان جيش الدولة المعنية شارك في حرب الخليج الثانية عند اجتياح دولة عربية لدولة عربية برغم ان ارضه الوطنية لم تكن مهددة. فكيف تستقيم تلك المشاركة مع هذه العقيدة الجديدة المرفوعة في وجه حالة هي كناية عن اجتياح الدولة الاسرائيلية لدولة فلسطين التي تعترف بها الحكومة المشار اليها والتي تفاخر بأنها هي التي ترعى قيامها.
ثم مَن الذي قال ان التهديد للأرض الوطنية يمكن قصره على احتلال اجنبي مباشر؟ ان الحرب تصبح واجبة عند تهديد المصالح الوطنية العليا لأية دولة وبعد ان تفشل المساعي الاخرى في رفع هذا التهديد. وفي الامكان القول ان ما تقوم به اسرائيل في فلسطين ينتمي الى هذا الصنف من التهديد للمصالح الوطنية العليا لغير دولة عربية، لمصر طبعا، ولكن ايضا للاردن وسوريا ولبنان، والى حد أقل الممكلة العربية السعودية.
يمكن للمرء ان يفهم ان مشاعر الأخوّة الإنسانية أو، حتى، القومية لا تستوجب أن يزج بلد نفسه في حروب طاحنة. ولكن ما ليس مفهوما هو الامتناع عن استخدام طاقات اي بلد، اقتصادية أو عسكرية، إذا كانت المصلحة الوطنية في خطر.
إن بعض من لا يشارك في معركة فلسطين اليوم، وبأقصى طاقة ممكنة لديه، سيدفع الثمن لاحقا. سيتم تهميشه، والقضم من مصالحه، والتضييق عليه، وإضعاف سيادته، وإملاء الشروط عليه، والتقليل من اهمية موقعه الاقليمي وما قد يجنيه منه، وارغامه على فقدان الجواب عن سؤال ملح: لماذا تقتطع الشعوب من لقمة عيشها لبناء جيوش وتسليحها، ولماذا تقنع بوضع مصيرها بين ايدي قيادات لا تدرك ان السياسة، هي، بين امور اخرى، فن الاستباق.
04/27/2002

رجل من ورق
18/08/2008, 20:15
كراهية أميركا



... ولكن لماذا يكره العرب والمسلمون أميركا؟ تردد هذا السؤال كثيراً في الولايات المتحدة وغيرها. ووصل صداه إلى أوروبا حيث يتهم كل صاحب ملاحظة على السياسة الأميركية بأنه »بدائي«. لم يكن مبعث السؤال خطاب ابن لادن وإنما »الحياد الإيجابي« الذي استقبلته به قطاعات شعبية واسعة. »يكرهوننا لأننا أفضل منهم« قال بعض الأميركيين. واعتبروا أن نمط حياتهم، وحرياتهم، وازدهارهم، وقوتهم سبب العداء لهم، وهو عداء متعصب يطالهم من حيث هم ما هم عليه. والاستنتاج من ذلك أن الكاره مريض والمريض يعالج بالصدمة. وإذا لم تنفع الصدمة يكون ضرورياً كسر أي إرادة للتعبير العملي عن هذا العداء.
أقدم بعض آخر على توزيع للمسؤوليات مختلف. قال إن السياسة الأميركية مسؤولة نسبياً عما تثيره من مشاعر ولا بد، بالتالي، من تعديلات تجميلية عليها. لكنه أضاف أن التعديلات الفعلية يجب أن تصيب مجالات أخرى في العالمين العربي والإسلامي. والثقافة هي أبرز هذه المجالات لأن المدارس، والمناهج، والإعلام، والكتب، ورسوم الكاريكاتور، والوعي الديني السائد، لا تفعل سوى بث الشعور السلبي. ولما تنبه هذا البعض إلى أن أوضاع الحريات بائسة لجأ إلى نظرية
المؤامرة. بتنا أمام أنظمة عربية توجه كراهية مواطنيها نحو »خارج« ما حتى لا تصيبها علماً أن هذا »الخارج« لم يرتكب إساءة إلى الشعوب إطلاقاً. والجواب المقترح انطلاقاً من ذلك يدعو إلى الضغط على الأنظمة لتمارس رقابة وإلى إرفاق ذلك بحملة إعلامية تذهب إلى القلوب (والعقول) وتكسبها. وتميّز رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير بالدفاع عن هذه الوجهة فحاول أن يمارس سحراً خاصاً عن طريق تسليط ابتسامته على كل من تزيّن له نفسه معارضته.
خلاصة الأجوبة التي قدمتها »المؤسسة« الغربية، بتنويعاتها، هي أن العرب والمسلمين يكرهون أميركا لقصور في وعيهم. اعرفونا تحبونا.
يتجاهل هذا التقدير، عمداً، أن العرب لم يكونوا يوماً أكثر »أميركية« في السياسة والاقتصاد والأمن ممّا هم عليه الآن. فالقوى الحاسمة في نفوذها، في المنطقة، سواء في السلطة أو الجيش أو الاقتصاد، ميالة بشكل كاسح إلى أوثق العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة. أكثر من ذلك تكاد تكون واشنطن، مع ما تعنيه من نفوذ عبر مؤسساتها والمؤسسات الدولية، الطرف المنفرد الأقوى في الحياة الداخلية لمعظم الأقطار العربية.
ولأن هذا هو الواقع، ولأنه واقع تبعي بامتياز، ثمة ردود فعل سلبية. وهي ردود غير منظمة ولا عقلانية في أحيان كثيرة. تعبّر عن نفسها في تشنجات تخبو سريعاً ولا تتحول إلى »قوة مادية«. لا شيء في المنطقة يوازي »كراهية« أميركا النظرية إلا شدة الالتحاق العملي بها ومساعدتها في تأمين مصالحها.
ما من سبب لكراهية أميركا. ما من سبب مقنع. هذا إذا كان المقصود ب»أميركا« الريادة في الثقافة، والعلم، والتكنولوجيا، وإذا كان المقصود نظام الحريات (المهدد؟)، وفصل السلطات، وطيبة الشعب، وإذا كان المقصود حركة الحقوق المدنية، والتفتح الأكاديمي، والحيوية المذهلة. لا بل يمكن الجزم بأنه لا بد من استلهام هذه العناصر كلها من أجل تقديم رؤية نقدية لأميركا بما هي... سياسة، وسياسة خارجية تحديداً، وسياسة خارجية حيال العرب على وجه الخصوص (بالإذن من الأميركيتين الوسطى واللاتينية!).
لم تكن الكراهية في أصل العلاقات العربية مع الولايات المتحدة. ومن لا يصدق فليراجع تجارب الثورات المصرية والجزائرية والفلسطينية وغيرها من حركات وجدت نفسها في مواجهة مع المستعمر الأوروبي. إن الخلافات ظاهرة تاريخية نشأت وترعرعت وكبرت. وكانت، في هذه المراحل كلها، نتيجة خيارات أميركية.
إن أي تعريف رسمي أميركي للمصالح الأميركية في المنطقة يقود إلى استنتاج بسيط: إن التعارض كبير مع أي تعريف للحد الأدنى من المصالح العربية القطرية والقومية. هذه هي المشكلة التي لا تحلها حملة تبشيرية، ولا يرد عليها التأشير على مرض عربي شائع اسمه العداء الفطري لأميركا.
يكفي أن يعي العربي مصلحته حتى يجد أن أميركا تكرهه. ولذا فإن عليها هي أن تكف عن هذه الدهشة التي تصطنع البراءة حين لا يكون كل سياسي عربي مثل أحمد الجلبي، وكل مثقف مثل فؤاد عجمي، وكل رجل أعمال مثل...
11/30/2001

رجل من ورق
18/08/2008, 20:16
العبودية، المحرقة، الصهيونية



قد لا تكون دوربان واحدة من »بوابات اللاعودة«. فهذا الاسم يطلق على المدن الافريقية التي خرج منها الملايين، أُخرجوا بالأحرى، وعلى امتداد قرون ثلاثة، نحو عذابات لا تُحتمل. لا بل إن عذابات »العبيد« كانت أفضل ما يمكن ان يحصل لهم لأن البديل الوحيد عنها كان الموت غرقا في الاطلسي.
غير ان دوربان قد تكون واحدة من بوابات الدخول التي قرر »الرجل الابيض« استخدامها من اجل إعادة ارتكاب الجريمة فوق مسرحها الاصلي. ولقد فعل ذلك في حمأة سياسات استعمارية استيطانية شهدت، في ما شهدت، بدء التسرب الصهيوني الى فلسطين، والشروع في بناء نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا.
تستضيف دوربان، هذه الأيام، مؤتمر مناهضة العنصرية والتمييز، وهي احق من غيرها بذلك بعد سنوات على إلغاء نظام الابارتهايد وتضافر المعطيات المؤكدة ان المرحلة الانتقالية تمر بأقل الأضرار الممكنة. وإذا كان هذا ما يحصل فإن القامة التاريخية لنلسون مانديلا ليست مسؤولة وحدها. لم يكن ذلك ممكنا لولا فحص الضمير، والاعتراف بالأخطاء، ولجنة التقصي برئاسة القس ديسموند توتو وغيرها من المراحل. ان هذه العملية التاريخية هي التي تسمح لسود افريقيا الجنوبية تحمُّل سيطرة البيض، وهم أقلية ضئيلة جدا، على معظم ثروات البلاد.
إن قضية العبودية هي، من حيث المبدأ، في صلب نقاشات دوربان. لقد استُعبد من استُعبد، ومات من مات. ولكن، فوق ذلك، أُفرغت أفريقيا من نسغها بما أسس لحالة التخلف، وأمكن لأوروبيي الحملة الاميركية الاستغناء، بالإبادة، عن هنود القارة الجديدة وسكانها الاصليين.
هل من تعويض عن ذلك؟
لم تكن الفكرة واردة من قبل. غير أنها تبلورت وتطورت مع تجدد النقاش في السنوات الأخيرة في شأن الأموال اليهودية في مصارف سويسرا وغيرها، ثم مع مطالبة شركات بدفع بدائل عن عمل السخرة في فترة الحرب العالمية الثانية. وبما أن الولايات المتحدة كانت، في الحالين، القوة الدافعة فإن المحاكاة فرضت نفسها وارتفعت مطالب تطرح التعويض، واستندت هذه المطالب الى استمرار الوضع الدوني لسود أميركا والى المصير البائس الذي تتخبّط فيه أفريقيا منذ عقود من دون أن تقدم »العولمة السعيدة« اي حل له.
وإذا كان السجال عن التعويض متشعب ويطرح قضايا شائكة وخلافية فما لا شك فيه ان طلب الاعتذار هو القاسم المشترك لمن يرفعون الظلامات. ولكن الدول الغربية ضنينة بذلك مخافة أن يكون الاعتذار مدخلا الى المزيد.
إن الاعتذار هو أقل ما يمكن، طالما ان الحل الجذري هو في نظام اقتصادي عالمي جديد، ولكن الاعتذار، ليس مطلوبا من الدول الغربية فقط، ان الجرأة الاخلاقية كانت تقتضي ان يرتفع صوت عربي يعتذر من الأخوة الأفارقة لأنه، في مرحلة من المراحل، لم يكن العرب بعيدين عن تجارة الرق وإن كان دورهم، في هذا المجال، دون مستوى الآخرين.
لو لم يكن هذا الصوت ناقصاً لكان الموقف العربي أقوى في دوربان.
* * *
ليسمح لنا الأمين العام للامم المتحدة كوفي أنان ان نخالفه الرأي. خاطب المؤتمرين ليقول لهم ما معناه ان هول المحرقة ضد اليهود لا يجوز ان يحجب الاضطهاد الذي يتعرّض له الفلسطينيون. هذا كلام غير موفّق. وهو يقوم على افتراض الفصل بين العرب وسائر البشر في الموقف من المحرقة بحيث يصبح من حقنا ألا نأخذها في الاعتبار.
كان الحري بأنان أن يقول إن هول المحرقة يجب أن يضيء ما يتعرض له الفلسطينيون. وفي هذا القول، المفترض، ما يكشف مسؤولية الغربيين إياهم عن المحرقة، وما يحدد المسؤولية الاسرائيلية الراهنة من منظار تاريخي، وما يجعل عذابات الفلسطينيين المستودع الانساني الراهن لكل الثقافة (والسياسة) الرافضة اي شكل من أشكال التمييز ضد الشعوب والأفراد.
لم يقل أنان ما كان يجب عليه قوله لأنه، ببساطة، ضحية »صناعة الهولوكوست« في جانبها الايديولوجي. أي ضحية فكرة »فرادة المحرقة« التي تقود، في ترجمتها الصهيونية، الى تبخيس عذابات الآخرين وإلى تحصين الممارسات الاسرائيلية وجعلها فوق الشبهات والإدانات.
* * *
إن هذا التحصين هو الذي يتداعى في دوربان. فالرأي الاسرائيلي يقول »بما أننا كنا ضحية المحرقة لا يعود جائزا اتهام الصهيونية بمساواة العنصرية«. وتكشف هذه الأطروحة معنى الاستخدام الذرائعي المديد الذي وظّف مآسي الحرب العالمية الثانية في تقديم التبرير الأخلاقي اللاحق للمشروع الصهيوني، وفي توفير التغطية لممارسات وسياسات نابعة، في الأصل، من أفكار عنصرية.
لنضع اليمين الاسرائيلي جانبا. ولنضع معه الحاخام عوفاديا يوسف، وحركة »كاخ«، وافيغدور ليبرمان. ولننسَ حتى اسحق رابين، وايهود باراك، وبنيامين اليعازر. لنكتف بمثال واحد يمثل عصارة اليسار الثقافي العمالي: ا.ب. يهو شواع.
الرجل روائي كبير. غير أن ذلك لا يمنعه من القول (»لوفيغارو« الفرنسية، 28 آب) بمناسبة مؤتمر دوربان: »الفلسطينيون أغبياء. لو استحصل المئتا ألف فلسطيني في القدس على الجنسية الاسرائيلية لنالوا نصف عدد المقاعد في البلدية ولنجحوا في وقف التمييز ضدهم«. هذا الكلام هو، ببساطة، عنصري. لا يجد يهو شواع حلا ل»وقف التمييز« إلا بإيصال الفلسطيني إلى إعادة تشكيل نفسه إسرائيليا من أجل نيل »حقوق بلدية«. ولكن الكاتب نفسه يحذر من »الخطر الديمغرافي« ويدافع عن حل سياسي يستعيد، حرفيا، ما هو منسوب الى... ارييل شارون!
إذا كانت هذه هي النسخة »المتنوّرة« عن الصهيونية فما على مؤتمر دوربان، بمنظماته غير الحكومية أساساً، إلا
09/03/2001

رجل من ورق
18/08/2008, 20:17
هل نفتح القفل؟



كان المفكر السوري ياسين الحافظ، رحمه الله، يقول ان لا مجال للتقدم العربي من دون فتح قفل الاسلام. هذا الكلام الذي كان صحيحا بالأمس هو صحيح اليوم، وبحدة اكبر. لم يفتح العرب قفل الاسلام ولذلك فهم يوالون الانحدار، ويتلقون الهزائم، ويخرجون من كل هزيمة أشد محافظة وتقليدية، اي اكثر استعداداً لنكسة جديدة. ان المسار العربي مسار تنازلي.
لقد جددت أحداث السنة الماضية، وخاتمتها تفجيرات 11 أيلول وحرب افغانستان، جددت طرح الموضوع المتكرر منذ قرن ونيف. فمن دون ان نعرف اي اسلام نريد لن نستطيع التأسيس لمكان لنا في العالم، مكان يحفظ الحد الادنى من الحقوق. وكشفت التطورات الاخيرة أن خطرا داهما يواجه وعينا. انه خطر الانشطار بين »اسلام طالباني« متشنج، ومنغلق، وبين اسلام يريده لنا الاميركيون »متسامحا« أي تقليديا وغافلا عن الاتصال بمنظومة الوعي الذي يفترض بنا امتلاكه لمأزقنا وقضايانا ومصالحنا.
لقد انطلقت، في الغرب، آلة الدعاية الجبارة داعية المسلمين في كل اقطارهم والعرب بشكل خاص، الى تغيير مناهج التعليم، وتعديل التوجهات الثقافية، ومراقبة خطب المساجد... قد تكون هذه كلها تحتاج الى مراجعة ولكن المطلوب، اميركيا، هو توفير مضمون لهذا التغيير يجتث بؤرة الممانعة التي لم يتم القضاء عليها بعد. أما تطوير هذه النواة الصلبة من اجل توفير بيئة تسمح بسياسة أكثر رشدا، اي اكثر إصراراً على المصالح الوطنية والقومية، فهو ليس على جدول الاعمال.
ولعله بات واضحا، اليوم، أن المسألة الثقافية، بهذا المعنى الواسع، ستكون واحداً من أبرز أسئلة المرحلة المقبلة عربياً وإسلامياً. لقد كانت مطروحة في الماضي ولكن بطريقة جعلت ما حصل، وهو كارثة متصلة، ممكناً.
عندما كان يقال لنا »شرق اوسطية« كنا نشهر السلاح ضد »التطبيع الثقافي«. ونتغافل، والحالة هذه، عن كل الانهيار الذي نعيشه، وتعيشه مجتمعاتنا، في مجال الصراع مع الهجمة الاستعمارية الجديدة وطليعتها الإسرائيلية. وعندما كان يقال لنا »عولمة« كنا نشهر السلاح ضد »الغزو الثقافي« ونتغافل عما عداه مما يشكل، فعلياً، جوهر العولمة الزاحفة.
لم يحصل ذلك في فراغ. إنه النتيجة الطبيعية لتعثر وجودنا، كأمة، سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً وأمنياً، واقتصار هذا الوجود على حالة ثقافية نعتبرها مهددة. ولكن ما يشدنا الى أسفل بقي يفعل فعله خاصة اننا اضفنا الى نقص الوعي بأسباب تراجعنا امتشاقاً لسلاح طاله هذا التراجع مثلما طال غيره وأكثر. ولذلك فإننا نعيش، منذ عقود، انفصاماً لا حدود له بين مبالغات سياسية واقعية تلامس التطرف الاستسلامي وبين مبالغات ايديولوجية جامحة يعبّر عنها تطرف إسلامي تحوّل، في غير بلد، الى فعل تدمير.
إن فتح قفل الاسلام يعني إحداث ثورة فكرية، تنويرية، تحديثية، تعيد للدين موقعه في قلب المشروع القومي الديموقراطي. وما لم يحصل ذلك فإن البديل عنه سيبقى مشروع الثورة المجهضة باسم دين يعاني من تخلفنا قدر ما نعاني من ترجمته الضيقة والمحافظة.
أن يكون العدد السنوي ل»السفير« مخصصاً لتلمّس هذه القضايا هو تحصيل حاصل. لقد بدت الفكرة جذابة بمجرد أن طرحت.
ولا يدّعي العدد إحاطة شاملة بموضوع له هذه الحساسية وهذا الاتساع. انه مجرد محاولة للحض على التفكير والتبصر، وهي محاولة تنطلق من ان التطورات المتلاحقة في السنة الماضية في منطقتنا والعالم كانت على تماس مباشر بهذا العنوان، وهي ستكون كذلك في المدى المنظور.
12/29/2001

رجل من ورق
18/08/2008, 20:18
فرادة المحرقة، فرادة البرجين



ما هو الحدث التاريخي الأكثر مركزية في الوجدان الأميركي العام؟ العبودية؟ الحرب الأهلية؟ بيرل هاربور؟ إنزال النورماندي؟ كوريا؟ فيتنام؟ اغتيال كيندي؟ حركة الحقوق المدنية؟ لا. إن الحدث الأكثر مركزية هو المحرقة. المحرقة النازية بحق اليهود. الأمر غريب ولكن هذا هو الواقع. جريمة حصلت قبل عقود فوق قارة أخرى ومع ذلك فإنها أول ما يتبادر إلى ذهن الأميركي العادي عندما يُطلب منه أن يسمي واقعة تاريخية. ليس في ما تقدم تجاوز. هذه خلاصة أبحاث كثيرة أهمها على الإطلاق كتاب بيتر نوفيتش »المحرقة في الحياة الأميركية« الذي استفاد منه نورمان فنكلشتاين في وضع كتابه »صناعة المحرقة«.
العنوان الثاني دقيق. لقد صُنع وعي المحرقة في الولايات المتحدة من قبل 2 إلى 3 في المئة من السكان الذين نجحوا في تعميمه برغم كونهم في موقع لا علاقة له بوضعية الضحية. ويجمع المؤرخون على أن حرب حزيران 67 هي الموعد الفاصل في هذه العملية. قبل ذلك لم يكن الموضوع مطروحاً في أميركا. بعد ذلك أصبح مهيمناً بفضل الاكتشاف الأميركي لأهمية الموقع الاستراتيجي لإسرائيل واندفاع القسم الأكبر من اليهود الأميركيين إلى الاستفادة من ذلك وتوظيفه، عبر أدب المحرقة، في الحصول على امتيازات معنوية تصب، في النهاية، في خدمة السياسات الإسرائيلية.
* * *
أحداث 11 أيلول هزت الولايات المتحدة هزاً. تغيّرت وتغيّر العالم من حولها. المسافة بين 10 أيلول و12 أيلول لا تُقاس بالساعات.
انبعثت العزة القومية. وُضعت قوانين كان يستحيل وضعها. تعالت النزعة الحربية على قاعدة من ليس معنا فهو ضدنا. انقسم العالم إلى »فسطاطين«. وصبت روافد دينية وسياسية ووطنية ومصلحية في مجرى واحد. ثمة، كما يقال، ما قبل وما بعد.
كان يمكن لهذا الحدث الجلل أن يحتل الموقع الأول في الوجدان الأميركي وأن يزيح المحرقة من الصدارة. هل حصل ذلك؟ من المبكر الإجابة. ولكن في الإمكان القول إن عناصر دفعت نحو إنتاج تسوية من نوع آخر. تسوية تعايش.
1 كانت نيويورك مسرحاً للضربة الأكثر مأساوية. ونيويورك هي المدينة اليهودية الأولى في العالم. ويقود ذلك إلى مشاركة في المشكلة وليس إلى تمايز.
2 لعب رودولف جولياني دوراً خاصاً. فالرجل يكاد يكون الأكثر صهيونية بين السياسيين الأميركيين. وإذا كان تحوّل إلى بطل قومي، وإلى رجل العام، فلقد قنن هذا التوظيف العاطفي كله من أجل أن يأخذه معه في رحلته إلى إسرائيل، هذه الرحلة التي خاطب مضيفيه خلالها انطلاقاً من وحدة حال مفترضة.
3 حصل نجاح في تصوير ما يدور فوق أرض فلسطين وكأنه اعتداء من أقران أسامة بن لادن على شعب شقيق لا بل على بشر تتداخل حياتهم بحياة الأميركيين.
4 وفرت متانة العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل قاعدة لازدهار العواطف المشتركة. ووفر أدب المحرقة مخزوناً ثرياً لأدب تفجيرات 11 أيلول بحيث استعيدت، حرفياً، التفسيرات (اللاتفسيرات بالأحرى) المعطاة للأمرين وهي ذات طابع غير عقلاني لأنها، تعريفاً، وكما يُزعم، »عصيّة على الفهم«.
وهكذا تجاورت التفجيرات مع المحرقة في سياق عملية تماهٍ تضع أميركا وإسرائيل في موقع الضحية لعدو يتناسل: النازية بالأمس والفاشية الإسلامية اليوم.
* * *
هذا الحرث الثقافي، المستند إلى صلابة في العلاقات الاستراتيجية، لعب دوراً مؤكداً في تعزيز الانحياز الأميركي إلى إسرائيل. ويكفي المرء
أن يقارن حتى يستنتج أن الأميركيين يكادون ينسخون الخلاصات التي قادت إليها »صناعة المحرقة«.
لم تعد المقارنة جائزة بين 11 أيلول وأي إرهاب آخر في العالم. كل ما سوى ذلك حوادث أما هذا فهو الحدث. ولم يعد جائزاً أي استدراك عند إبداء الأسف على ضحايا التفجيرات. فلما حاول الوليد بن طلال أن يقول »ولكن« أسكته جولياني نفسه. ولم تعد آلام الآخرين إلا نسبية حيال الألم المطلق والفريد الذي أصاب الأميركيين.
وهكذا يجد كولن باول أن الإتيان على ذكر بيوت رفح المجروفة »كلام هستيري«. وباول نفسه لم يقل الكلام نفسه عندما قورنت تفجيرات القدس بما حصل في نيويورك.
إن فرادة »البرجين« هي استمرار لفرادة المحرقة. كل قول آخر تحريفي، وكل تحريف تعاقبه واشنطن.
... عودة إلى كتاب نوفيتش، وعلى خلفية الموقف الأميركي من الفلسطينيين: »إن خطاب المحرقة (كما خطاب البرجين) يقود، على عكس المفترض، وعبر التركيز على الفرادة، إلى الانسحاب من الواجبات الأخلاقية.
01/22/2002

ooopss
18/08/2008, 20:20
جوزف سماحة في سطور(1949 2007)

////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////

صحافي لبناني، ولد في الخنشارة (المتن الشمالي) العام 1949. أنهى دراسته الثانوية في مدرسة "الفرير" في بيروت، بعدها انتقل إلى الجامعة اللبنانية حيث نال الليسانس في الفلسفة العام 1972، ثم حاز على دبلوم دراسات معمقة في العلوم السياسية العام 1981 في باريس. 
له ولدان: أميّة وزياد.
عمل في مجلة "الحرية" من العام 1972 وحتى 1974، ثم التحق بجريدة "السفير" العام 1974 وبقي فيها حتى 1978.

ترأس تحرير جريدة "الوطن" الناطقة بلسان "الحركة الوطنية اللبنانية" من 1978 وحتى 1980. وما لبث أن عاد إلى "السفير" ليبقى فيها حتى العام 1984.
غادر لبنان إلى فرنسا العام 1984، وعمل مديراً للتحرير في مجلة "اليوم السابع" الى جانب الكاتب الفلسطيني بلال الحسن، وبقي في هذا الموقع حتى العام 1991.

التحق بجريدة "الحياة" في العام 1992، وأصبح لاحقاً نائباً لرئيس التحرير.
شغل مركز مدير تحرير في جريدة "السفير" في العام 1995 وبقي فيها حتى العام 1998، عندما انتقل مجدداً إلى "الحياة"، وأصبح رئيساً للدائرة السياسية فيها ومقرها لندن، ثم عيّن مديراً لمكتبها في بيروت حتى العام 2000.
أصبح رئيساً لتحرير "السفير" في العام 2001، ثم تركها ليحقق حلمه الخاص في آذار 2006، مؤسساً جريدة "الأخبار" ومترئساً تحريرها منذ صدورها في آب 2006. كتب افتتاحيته اليومية في "الأخبار" تحت "ترويسة" هي "خط أحمر"، أما في "السفير" فكانت "ترويسته" هي "الآن هنا"، وفي "اليوم السابع" تحت "بلا ضفاف".

ألّف كتابين:
ـ "قضاء لا قدر: في أخلاق الجمهورية الثانية" (1996)
ـ "سلام عابر: نحو حل عربي للمسألة اليهودية" (1993)
ـ نقل كتباً فلسفية وسياسية عدة عن الفرنسية.

ooopss
18/08/2008, 20:21
يعطيك العافية لنقل المقالات
حطيت مداخلة صغيرة للتعريف بجوزف سماحة بما انو رح نخصصلو هالزاوية :D

رجل من ورق
18/08/2008, 20:22
عمرك اطول من عمري جايي لنزلون هلق
حبيت قوال انو المقالات السابيقة هني من جريدة السفير
ولسا ما خلصنا

رجل من ورق
19/08/2008, 21:42
وبنكمل


الانفراد بصيغة الجمع



»إذا كانت التعددية تعني الالتحاق بالسياسة التي تقررها الولايات المتحدة منفردة فمرحى بها«. يكاد يكون هذا ما قاله، حرفياً، أحد أقطاب المحافظين الجدد الأميركيين، روبرت كاغان. وهو يشبه ما أعلنه جورج بوش في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حين دعا العالم إلى المشاركة في ما تريد أميركا فعله خوفاً عليه، أي العالم، من فقدان معناه.
وتشاء الصدف أن نكون أمام نموذجين متوازيين لفهم واشنطن المشاركة: مناقشات اللجنة الرباعية في ما يخص قضية فلسطين، والمباحثات في مجلس الأمن في ما يتعلق بالعراق. إن الدخول في تفاصيل، ولو مملة بعض الشيء، يؤكد أن ما تفعله الولايات المتحدة هو تطويع هذه المؤسسات الدولية لجعلها لصيقة، قدر الإمكان، بسياسات جرى تقريرها سلفاً.
في ما يخص اللجنة الرباعية تجدر الإشارة إلى أن الإدارة لا تخفي تفضيلها العمل الانفرادي في الشرق الأوسط. وهي، إذ وافقت على إشراك الأمم المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، فإن الأمر لا يصل عندها حد التوصل إلى قواسم تحوّل الكومبارس إلى لاعبين فعليين.
ما ان كشف بوش عن رؤيته حتى تبرع الأوروبيون، فرادى ثم مجتمعين، بوضع »خارطة طرق« تحول الرؤية إلى واقع. غير أن الأميركيين اعتبروا أنفسهم أولى بفعل ذلك بعدما لاحظوا أن الترجمة الأوروبية لا تناسبهم تماماً. وضعت الإدارة »خارطة طرق« وطالبت »شركاءها« بأن يتواضعوا قليلاً ويسحبوا منظورهم من التداول. وإذا كان لديهم رأي فالأحرى به أن يتحول إلى مسعى لتعديل بند في الورقة الأميركية.
تتفق الخارطتان على أمور عديدة:
1 يجب تقسيم أي تسوية على ثلاث مراحل تنتهي في عام 2005.
2 لا بد، في مرحلة مبكرة، من تعيين رئيس حكومة يضع ياسر عرفات في الظل أي يحوله »رمزاً«.
3 في معادلة الإصلاح الأمني الفلسطيني والانسحاب الإسرائيلي يأتي البند الأول أولاً. وهكذا، في كل مرة تكون التبادلية ضرورية يفترض بالطرف الأضعف أن يثبت حسن النية. فالفلسطينيون مطالبون بالكثير لإقناع الدبابات بالتراجع.
4 ثمة توافق أوروبي أميركي على فكرة »الدولة بحدود مؤقتة« أو »الدولة المؤقتة«.
5 لا يجد الطرفان في المبادرة العربية سوى أنها دعوة إلى التطبيع الكامل مع إسرائيل ويعتبران أن الأمر سيحصل بعد حل يشمل سوريا ولبنان.
6 تشير الخارطتان إلى بُعد دولي لمساعي التسوية.
غير أن وجهتي النظر تتباينان. فالأوروبيون من أنصار التجميد السريع للأنشطة الاستيطانية في حين يميل الأميركيون إلى تقسيط ذلك ويعطون الأولوية للمستوطنات التي نشأت في ظل الحكومة الحالية.يصر الأوروبيون على انسحاب إسرائيلي من المناطق »أ« في المرحلة الأولى في حين يميّع الأميركيون ذلك ويمدونه في الزمن. يتحمس الأوروبيون لمؤتمر دولي مبكر في حين يتحدث الأميركيون عن مؤتمرين لا يضغطان على المفاوضات ولا ينتج عنهما ما يؤثر على الانتخابات الإسرائيلية في نهاية 2003.
الملاحظ أن واشنطن تتعمّد باستمرار تأمين مقابل عربي، لا فلسطيني فقط، للخطوات الإسرائيلية فتطالب، على التوالي، بعودة سفيري مصر والأردن، ثم عودة الممثليات التجارية، ثم استئناف المفاوضات الإقليمية، كما تطالب، وبسرعة، بوقف التمويل العربي للمنظمات الإرهابية.
ثمة نقطتا خلاف جوهريتان في الخارطتين. فالأميركية تعتبر أن المواعيد مستحسنة وإنما غير ملزمة لأنه، في فاتحة كل مرحلة، ثمة حق في التأجيل. أما الأوروبية ف»تغامر« بوضع مواصفات لطبيعة الحل النهائي تصلح كمرجعية: الانسحاب حتى حدود 67 مع تعديلات متبادلة، القدس عاصمة لدولتين، الدولة الفلسطينية محدودة التسلح، حل مشكلة اللاجئين أخذاً بالاعتبار المخاوف الديموغرافية لإسرائيل. وهذه المواصفات (أقل مما جرى التوصل إليه في كامب ديفيد وطابا) ترفض واشنطن أن تأتي على ذكرها لعدم إزعاج أرييل شارون.
يمكن الرهان، منذ اليوم، على أن شرط بقاء »الرباعية« هو الانحياز إلى الموقف الأميركي. إن هذا هو الفهم السائد في واشنطن للتعددية والمشاركة. إذا لم يحصل الانحياز تنفذ أميركا سياستها وحدها بدل أن يساعدها الآخرون في تطبيق السياسة... نفسها.
ما يحصل في مجلس الأمن يكاد يكرّر آلية العمل هذه. كانت فرنسا تريد قرارين عن العراق: عودة المفتشين ثم البحث في الواجب عمله بعد الفشل. وكانت روسيا لا تريد أي قرار جديد على الإطلاق. جرى شطب موسكو أولاً ودار سجال بين واشنطن وباريس. كانت الثانية تملك أفكاراً واضحة لكنها لم تقدمها رسمياً. لذا بادرت الأولى إلى طرح مشروعها فأصبح هو قاعدة النقاش.
كان المندوب الأميركي يصر على ثلاثة عناصر: إعلان أن العراق هو، حالياً، في حالة »خرق مادي« لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، تعزيز صلاحيات المفتشين إلى حد أقصى، النص على عواقب وخيمة في حال تمادى السلوك العراقي. وفوق ذلك كان المندوب يذكّر الآخرين بأن الكونغرس فوّض الرئيس صلاحية شن الحرب دفاعاً عن المصالح الوطنية الأميركية ويعني ذلك أن القرار لبوش منفرداً إلا إذا شاءت الدول الدائمة العضوية »مشاركته« به.
عندما كشف النقاب عن مشروع القرار الأميركي تراءى للبعض أن فيه تنازلات دالة: لا يطلب مباشرة حق استخدام القوة، يربط نتيجة عمل المفتشين بتقرير من هانس بليكس، يتخلى عن الحق في إشراك مندوبين من الدول الكبرى في لجان التفتيش.
غير أن هذه التنازلات ليست »جسيمة«. لقد بقي الإصرار قائماً على نظرية »الخرق المادي«. وبات مطلوباً استجواب عراقيين خارج بلادهم. وأصبح من حق »انموفيك« حظر الطيران والسير حيث تشاء. وألغي التفاهم السابق الخاص بالقصور. وجرى تقصير قياسي للفترة الفاصلة بين طلب التفتيش وتنفيذه. وأبقي على حراسة مسلحة للمفتشين...
غير أن النقاش استمر، عملياً، حول البندين 9 و10. ففرنسا تريد العودة إلى مجلس الأمن، بعد تقرير بليكس من أجل اتخاذ القرار. وتقدمت باقتراح يقول: »ان مجلس الأمن يلتئم فوراً وعند استلامه التقرير من أجل أن يقرر اتخاذ أي تدبير، بما في ذلك اللجوء إلى القوة، من أجل فرض احترام قراراته«. أي أنها وافقت على الحرب عبر قرار ثان إذا كان تقرير المفتشين سلبياً. غير أن الولايات المتحدة لم توافق. تريد انتزاع الحق في الحرب من القرار الأول. ولكنها، شكلاً، تراجعت أمام باريس. وافقت في البند 10 من مشروعها على أن مجلس الأمن »يقرر الانعقاد فوراً حال تسلمه التقرير... للنظر في الوضع...«. »النظر في الوضع« هو كل ما هو منسوب إلى الجلسة لأن حق الحرب منتزع في القرار الأول حسب القراءة الأميركية.
يقول الفرنسيون (والروس والصينيون) إن النقاش سيكون صعباً. يقول الأميركيون لماذا تصعيب النقاش طالما الخاتمة معروفة: شاركونا الانفراد حتى لا ننفرد وحدنا!
24/10/2002

رجل من ورق
19/08/2008, 21:43
جار الله القتيل، جار الله القاتل



خذ محطات رئيسية في تاريخ اليمن وحدد منها موقفا.
الإمامة في الشمال كان لا بد لها ان تزول من اجل إنهاء القرون الوسطى وتلمس الطريق نحو حد أدنى من الحداثة.
الاستعمار في الجنوب كان لا بد أن يلقى مقاومة ترغمه على الجلاء.
»التشطير« كان لا بد ان يُتجاوز بعد نجاح الثورتين، وفي أفق الاندراج في المشروع العربي الأكبر.
تقديم همّ بناء دولة عادلة كان لا بد من طرحه من دون السقوط في فخ »اليسراوية« المتطرفة.
السعي الى توحيد الحياة السياسية بين الشمال والجنوب ضروري مرفقا بجعل الهمّ التوحيدي معيارا. اذا كنت شماليا والسلطة الشمالية ضد فأنت جنوبي. والعكس صحيح.
إنهاء »التشطير« لا بد ان يكون مدروسا ومتأنيا ومحافظا على مكتسبات تطال التعددية، واحترام الرأي الاخر، وحقوق المرأة...
الحرب الانفصالية في 94 لا بد ان تكون مرفوضة خاصة وان الاكثر حماسة لها هم من كانوا الاكثر نزوعا نحو الاندماج الفوري والكامل.
مداواة آثار الحرب أولوية مطلقة. لا يكون ذلك بالتخلي عن رفاق أخطأوا ولا بالالتحاق بظافرين ظفروا، يكون بالتشجيع على المصالحة الوطنية، وتنقية الوحدة من الشوائب، ورفض مقاطعة الانتخابات، وبناء موقع قوي للمعارضة.
خذ هذه المحطات الرئيسية ستجد ان جار الله عمر كان باستمرار على الموعد، انه واحد من قلة اجتازوا المراحل المضطربة في اليمن وكانوا على الجانب الصح، او، اقرب ما يكون اليه. لم تغوه سلطة دار بخارها في رؤوس رفاقه. لم يسقط في فخ تسريع التاريخ في هذا البلد الفقير. لم يسمح للعصبيات المناطقية، التي عانى منها كثيرا، ان تؤثر على ثباته ووضوح الرؤية لديه. لم يرتبك في تنويع أشكال النضال، من العمل المسلح الى التبشير الديموقراطي. لم يغب عن باله يوما موقع بلده في المشروع العربي العام ولو انه، احيانا، جمع الوطنية والقومية بطريقة تستحق ان تثير نقاشا. لم يمنعه جسمه المنغرس في تربة اليمن من ان يبقي رأسه مفتوحا على كل ما يستجد في العالم: لقد كان ممتعا الاستماع اليه يناقش
أسباب انهيار الاشتراكية في العالم وهو الذي شاهد »تباشير« ذلك في عدن، ولكن المتعة الاكبر هي الانصات اليه يرسم حدود المراجعة المطلوبة مميزا بين وحدة الالمانيتين ووحدة اليمنين ورافضا ان يكون انهيار الجدار سببا للارتداد عن... بناء دولة.
جار الله عمر القتيل هو من أفضل النماذج التي انتجتها التجارب القومية واليسارية العربية في العقود الاخيرة، ولانه كذلك، وبسبب من تربيته الدينية، فلقد احسن الجمع بين رفض المهادنة الايديولوجية مع التيار الاصولي وبين ضرورات نهوض معارضة واسعة تدافع عن التعددية.
قاتله يدعى علي جار الله ليس معروفا. غير ان الثابت هو انه من خريجي مدارس الايمان التي أدارها الشق الاصولي المتخلف في تجمع الاصلاح.
ان شخصا في اليمن تربى على اعتبار جار الله عمر زعيما سياسيا يستحق الموت قتلا، واليوم، وبتهمة الكفر، ان شخصا من هذا النوع يدل على الهاوية التي نتجه الى الوقوع فيها، وندفع دفعا نحو ذلك بفضل هذا المزيج »الخلاق« من العدوانية الخارجية والعجز الداخلي.
30/12/2002

رجل من ورق
19/08/2008, 21:44
معجم ل... »عبادة الشيطان«



إذا صدقنا الأقاويل فإن لبنان يشهد نمواً مذهلاً ل... »حزب الشيطان«. إنه تنظيم سري، ينتشر كالنار في الهشيم، يخترق المناطق والطوائف، يقيم طقوساً غرائبية، ويترك بصماته على جثث يتكاثر اكتشافها.
وفي حين يكتشف الحقوقيون ثغرات قانونية في التعاطي مع الظاهرة، ويتولى التلفزيون تضخيمها بلا مسؤولية، يغيب المسؤولون الأمنيون ومعهم المعنيون، سياسياً، بمخاطبة المواطنين. ويكاد المرء يعتقد أن هناك من هو مرتاح للذعر الجماعي الذي قد يبرّر مبالغات في تدابير الأمن، ويوفر ذرائع لممارسة الهيبة في غير محلها.
إن الوقائع التي تسند الأقاويل هزيلة إلى أبعد حد. ولذلك فإن السؤال الأول هو عن سر تلقف اللبنانيين للشائعة قبل أن يكون عن سر انصراف شبان قلائل إلى ممارسات خارجة عن المألوف.
قبل العودة إلى هذا »السر« لا بد من القول إن الشبان المعنيين يعيشون مع أهلهم، ومنذ فترة، في عالم ملؤه صراعات الآلهة والشياطين. ويكفي لهم أن يمارسوا قليلاً من الاهتمام بالأخبار حتى يقادوا، رغماً عنهم، إلى »مانوية« يصعب الفكاك منها.
تكاثرت في التظاهرات والكاريكاتورات صورة الشيطان. مرة على شكل أسامة بن لادن. ومرة على شكل جورج بوش. ومرة على شكل صدام حسين. وتعددت عناوين الكتب عن »صدام الحضارات« (البُعد الديني مؤكد)، و»نهاية التاريخ«، و»نهاية الإنسان«، و»نهاية الإيديولوجيا« وذلك في ما لا نهاية له من كتابات ومساجلات عن أننا لا نعيش بل نستمر في البقاء.
إن في الإمكان وضع معجم مصغر بالمصطلحات والتعابير التي تشكل الزاد اليومي الذي ننهل منه. هذه بعضها:
؟ »الأحادية القطبية«. يحيل هذا التوصيف للعالم إلى واقع استراتيجي. ولكن ليس صعباً أن نرى فيه أيضاً الإحالة الدينية إلى التوحيد. وتتصرف الدولة المعنية بهذا التعريف وكأنها قدر إلهي. فهي تملك أن تكافئ أو تعاقب. وهي ترتد على »مخلوقاتها« فتدمرها. وتحدد مواعيد الأجل لخصومها. وتهزأ من القدرة البشرية على مقاومتها ولو تجسّدت في عشرات ملايين المتظاهرين. ثم أنها موجودة في كل مكان وفي كل لحظة. تراقب الكون وتفاصيله، وتستمع إلى الهمسات، وتتدخل حيث تريد. وتتحدث عن مهمة تنتدب نفسها لها ليست أقل من إعادة صياغة حياة البشر جميعاً وذلك في وقت يعيش الناس، في مجال آخر، مخاوف الاستنساخ البشري.
؟ »العدوان الثلاثي«. المصطلح تطبيق على العراق لما حصل ضد مصر عام 56. ولكن رائحة دينية تفوح منه بفعل وجود أب جبار وابن مدلل وناطق فصيح. وتتأكد هذه الرائحة من البُعد التوراتي الموجود وراء هذا العدوان عند الداعين إليه. فالهدف منه، حسب رأيهم، تمكين اليهود وحدهم من أرض الميعاد بما يسمح بالتعجيل بعودة (أو بمجيء، لا فرق) المسيح.
؟ »دمار شامل«. إنها الأسلحة التي يُقال عنها موضوعاً للحرب. ولكن هل قدّر أحد مفعول تكرار »دمار شامل« على العقول عشرات المرات في اليوم. ليس غريباً، والحالة هذه، أن يقفز البعض إلى الاستنتاج بأن يوم الحشر قريب وأننا نعيش عشية »أرماجدون«. يمكن للانتحار، بهذا المعنى، أن يصبح، طالما المفهوم دارج، »فعلاً استباقياً«، أو، لنقل، »فعلاً اختيارياً« يحدد فيه المرء مصيره بدل أن ينتظره وهو لا يملك رداً له.
؟ »محور الشر«. عشنا جميعاً منذ سنة ونيف نعلك الكلمتين. اكتشفنا، أخيراً، أن الذي صك المصطلح كان اقترح »محور الكراهية«. غير أن جورج بوش فضّل »محور الشر« ليس تيمناً ب»أمبراطورية الشر« الريغانية فحسب بل لأنه وجد العبارة »أكثر لاهوتية«. ويعلّق الكاتب البريطاني مارتين امبس على ذلك بقوله: »رفع بوش الصراع إلى المستوى اللاهوتي لأن ذلك يسمح له أن يكون غبياً«. ففي عالم اللاهوت لا يعود الذكاء مطلوباً لفهم ما يجري. الإيمان وحده يكفي. على أن الإيمان هنا يصطدم، تعريفاً، بإيمان آخر.
؟ »صراع الخير والشر«. بوش، إياه، هو صاحب النظرية. وهي تشبه، شبه النقطة للنقطة، نظرية بن لادن بانقسام العالم إلى »فسطاطين«. لعبة مرايا من الطراز الأول. وهي لعبة لسنا مدعوين إلى فهمها. إن الرئيس الأميركي غير مهتم بمن يفهم عليه لأن ما يقوم به يتضمن حكمة إلهية ستنكشف لاحقاً للجهلة. يؤكد مقربون منه أنه يتصرف »بإلهام رباني كما لو أن الله حدّد له الأجندة« (جيم كودي، أصولي مسيحي. في واشنطن بوست). إن الله، حسب كودي، »يختار القادة«. ويشرح أصولي آخر، ستيف كلارك، »إن الله يختار، في أوقات محددة شخصاً لإيداعه وصيته«. وبوش يصدق، كما سنرى لاحقاً، إنه »رجل الله المختار«. أسامة بن لادن يصدق، أيضاً، أن الله (نفسه؟) اختاره لمحاربة... بوش. والله أعلم.
؟ »لا نهائية الصراع«. هذا مفهوم ديني بامتياز. والقصد منه التذكير أن القيامة وحدها تضع حداً للنزاع. وظيفة الأنبياء، والحالة هذه، هي شحذ همم الخير في محطات تاريخية. يكاد بوش يعتبر نفسه واحداً منهم ففي رأيه: »إن الحرب مع القاعدة بدأت ولكنها لن تنتهي إلا بعد أن نكون وجدنا كل مجموعة إرهابية ذات بُعد عالمي وأوقفناها وهزمناها«. إنها حرب إلى الأبد إذاً. وينقل بوب وودوارد أن هناك من سأل بوش: »ماذا لو بقينا وحدنا أحياء؟«. أجاب: »لا بأس بالنسبة لي. نحن أميركا«. قال ذلك دون أن يشعر بالرعب الذي انتاب نورمان ميلر (العدد الأخير من نيويورك ريفيو أوف بوكس) من وراء فكرة الصراع اللامتناهي. كتب: »كل الحروب التي عرفناها سابقاً، ومهما كانت مريعة، تقدم، على الأقل، وعداً أنها ستنتهي«. إلا حروب بوش.؟ »العدو الهلامي«. أسامة بن لادن شخص شبه ميتافيزيقي. حاضر غائب. يدير شبكة غير منظورة. الصورة الأبقى عنه هي صورة الدمار القادم من السماء. غير أن الولايات المتحدة »كائن« حقيقي، مادي، ملموس. إنها تحتاج، في معاركها، إلى دمج مستمر بين التجسيد الهلامي للخطر وبين »كائن« آخر. ولذا يمرّغ مسؤولو أميركا أخلاقهم بالوحل وهم يؤكدون صلة الوصل بين بن لادن والعراق. بين بن لادن وإيران. ولمَ لا... بين بن لادن وكوريا؟
؟ »تنفيذ الإرادة الإلهية«. يتبارى كل من بن لادن وجورج بوش في تقديم نفسه، كأنه مجرد »عميل« ينفذ، كالماشي في نومه، رغبات تتجاوزه كثيراً. إنه نوع من مندوب سام لعناية إلهية. خاطب بوش، قبل أشهر، وفداً من »المولودين ثانية«. قال لهم: »لقد كان حرياً بي أن أكون، الآن، في بار تكساسي لا في المكتب البيضاوي. ثمة سبب واحد لوجودي في المكتب البيضاوي وليس في بار: لقد صادفت الإيمان. لقد صادفت الله. أنا هنا بقوة الصلاة« (من كتاب »الرجل المناسب«، سيرة حياة جورج بوش بقلم ديفيد فروم، الكاتب السابق لخطابات الرئيس). طبعاً إنه موجود في البيت الأبيض لأنه ابن سلالة حاكمة ولأن التزوير ساعد العناية الإلهية ولأن أرباب عمل أرادوا ذلك، غير أنه مقتنع أن هذه »الصدف« خدمت وضع »الرجل المناسب في المكان المناسب في الوقت المناسب«. وبما أن الله، حسب بوش، هو »وراء الحرية الممنوحة للعالم« فإنه، كرئيس، لن يقدم كشف حساب في هذه الدنيا لا لمواطنيه ولا، من باب أولى، لغيرهم. إنه لا يقرّر بل ينفذ، مثل النبي موسى، تعليمات هبطت عليه من علياء. ليس غريباً، والحالة هذه، القول إن »معجزة« فقط تستطيع رده عمّا يعتزمه. إن الله، في اعتقاده، هو من »كتب لي حياتي«. وهكذا فإن على من يريد مساءلته أن يتوجه إلى عنوان آخر غير البيت الأبيض.
؟ »من ليس معنا فهو ضدنا«. تكتسب هذه الجملة معنى بحسب أن قائلها بوش أو بن لادن. لكنها، في الحالين، تعدم التمايز وتحيله إلى شبهة وتهمة. من يختلف مع الأول يصبح »لا وطنياً«، ومع الثاني »كافراً« (مثل الحكم الاشتراكي في بغداد و... عدن!). المعارض مكانه في الغولاغ أو في غوانتامو. والمحتج مريض نفسي. ويصل الأمر في أميركا حد اضطهاد شخص لأنه تجرأ على لبس قميص تحمل عبارات رافضة للحرب.
* * *
لنتخيّل جيلاً يدخل الحياة سابحاً في هذه المفاهيم. لنتخيّل رغبة عند فتى أو فتاة في قدر من غير المألوف. لنتخيّل شرطة أخلاقية تبحث عن دور. لنتخيّل رجال دين في أدوار »نازعي الأرواح الشريرة«. لنتخيّل مجتمعاً مأزوماً لا يجد لغة التعبير عن مآزقه ولا سبل حلها. لنتخيّل مشهد الموت اليومي في فلسطين. لنتخيّل التوزع بين اشتهاء الحياة الأميركية وبين التشفي بالصدمة العدمية للبرجين... لنضف إلى ذلك أزمات شخصية، ونزعات تمرد مقموعة، وميلا إلى تطلّب التماثل والانضواء...
إذا فعلنا ذلك ربما فهمنا وجود أفراد غير أسوياء. ولكننا بالتأكيد سنفهم سر الصدى الذي يحدثونه في مجتمع يتلقف كل شائعة ويحولها إلى تجسيد لخطر داهم يحدق به هو في الواقع »ظل« للخطر الفعلي.
11/3/2003

رجل من ورق
19/08/2008, 21:45
النظرية الجديدة للحرب الأميركية: من يحب جيداً ... يؤدّب جيداً



النظرية الجديدة للحرب الأميركية:
من يحب جيداً ... يؤدّب جيداً
بشرى من »هآرتس«. في السادس من الشهر القادم يكشف كولن باول خارطة الطريق إلى »الشرق الأوسط الجديد«، أي إلى عالم عربي قائم على الديموقراطية والتنمية الاقتصادية. سيركز على دمقرطة المؤسسات الراهنة، وتطوير حقوق النساء، وتعزيز حرية الصحافة، وتوسيع الفرص الاقتصادية والتربوية، وزيادة الشفافية في عمل الحكومات.
يقترب باول، إذ يفعل ذلك، من مدنيي وزارة الدفاع (بيرل، وولفويتز، فيث) الذين غرفوا من التجارب الكولونيالية الغابرة والتي رفعت رايات التنوير فوق بوارج الفتوحات. يعتبر هؤلاء »المثاليون« أن »العنف قابلة التقدم«. فالوضع العربي بات بالغ الانسداد ولا بد من القوة لتحريره من وضع آسن يركد فيه ولا يُنبت إلا العداء لأميركا وسياستها ما يحسم أي جدل في أنه وضع مزر. ويستطيع الكولونياليون الجدد أن يزعموا أن ما دعوا إسرائيل إلى تطبيقه ضد الفلسطينيين نجح: كان يفترض ممارسة هذا القدر من القهر من أجل فتح أبواب الإصلاح الموصدة!
مدنيو وزارة الدفاع هؤلاء باتوا في غنى عن التعريف. إلا أن وسائل الإعلام الأميركية كشفت أنهم، وعلى رأسهم دونالد رامسفيلد، يلجأون دورياً إلى استشارة المؤرخ والأكاديمي برنارد لويس. ولعل الكتاب الأخير للرجل يشكل مرجعية فكرية تتحكّم بما ينوي باول الإعلان عنه. فرداً على السؤال الأميركي بعد 11 أيلول »لماذا يكرهوننا؟« أجاب لويس: »لأنهم فاشلون«. وشرح »أن الفشل يطال الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتربية والعلوم والحريات السياسية واحترام حقوق الإنسان«. أضاف أن ما يقوم به العرب (والمسلمون) هو إسقاط هذا الفشل على أميركا وإسرائيل لنفي مسؤوليتهم عنه. وبما أن هذه هي الثقافة السائدة يصبح ظهور الإرهابيين مفهوماً.
تشكل نظرية لويس الإطار الذي يفسر الاهتمام البالغ الذي حظي به تقرير »برنامج الأمم المتحدة الإنمائي« حول التنمية الإنسانية في البلاد العربية. ومن دون التشكيك بواضعي التقرير أو بمعطياته، كان يصعب ألا يلاحظ المرء المكانة الخاصة التي احتلها في الإعلامين الأميركي والإسرائيلي والتعليقات والمقالات التي تناولته. والتقرير لا يقول شيئاً آخر سوى أن العرب، اليوم، وبصورة إجمالية، يكادون يحتلون أسفل الهرم العالمي لناحية التنمية الإنسانية: الحريات، الاقتصاد، التعليم، المرأة، الهجرة... ولقد جرى توظيف التقرير، رغماً عن إرادة أصحابه، بطريقة تجعله رافداً لما كتب عنه لويس.
في مجال آخر وإنما في السياق نفسه، رد عشرات المثقفين الأميركيين على رد للمثقفين السعوديين. قالوا لهم، قبل أيام، »نطلب منكم أن تعيدوا النظر في التوجه السائد في رسالتكم والذي يلقي اللوم في المشاكل التي يواجهها مجتمعكم على الجميع إلا قادتكم ومجتمعكم. فبعض القادة السياسيين يجد فائدة في بعض الأحيان في اللجوء إلى إثارة البغض إزاء الآخر أو العدو، وذلك في سبيل تحويل أنظار الجمهور عن المشاكل الفعلية القائمة«. أضافت الرسالة الأميركية »نحن ندعوكم، بصفتكم مثقفين، إلى إعادة النظر في ما إذا كان السبيل إلى التصدي للتحديات الملحة التي يواجهها مجتمعكم من البطالة إلى غياب الحريات الديموقراطية وعدم النجاح في تحقيق اقتصاد عصري متنوع، واحتضان العنف الإسلاموي وتصديره هو اللجوء إلى إلقاء اللوم على الآخرين من أفراد وأمم«. المنطق هو نفسه وحتى العناوين تتكرر من باول إلى لويس وصولاً إلى »المثقفين«.
يصل الأمر إلى ذروة غير مسبوقة في مقال لباري روبين عن »الجذور الحقيقية للعداء العربي لأميركا« (فورين افيرز تشرين الثاني كانون الأول 2002). يكذّب »الادعاء« القائل إن الاعتداءات على أميركا هي رد على سياستها الخاطئة ليقول إن
السياسة الأميركية تبالغ في تأييدها للعرب. ويعتبر أن تسعير العداء لواشنطن تتوسله قوى تريد إلهاء الشعوب عن أمور أخرى: الخصخصة، الحرية، المرأة، المجتمع المدني... يستعرض روبين العقود الماضية فلا يرى فيها إلا الانحياز الأميركي للعرب والمسلمين (على حساب إسرائيل أحياناً!) ويهاجم الأنظمة العربية والمنظمات والصحافيين والمثقفين الذين يقننون العداء لأميركا لحماية فشلهم.
والاستنتاج السياسي من ذلك كله، حسب روبين، أنه إذا حاولت الولايات المتحدة إظهار أن نواياها غير عدائية حيال العرب والمسلمين فإنها تكون ترتكب خطأً كبيراً بدعم المتطرفين. ويعني ذلك، عملياً، أنه ليس على أميركا أن تتغيّر وإنما عليها أن تغيّر... العرب. يلتقي روبين هنا مع من سبقه ومع لويس تحديداً الذي اعتبر الامتناع عن تغيير النظام العراقي خدمة لبن لادن والتطرف. وتصب هذه الوجهة كلها في مجرى الدعوة التي يدافع عنها »حزب الحرب« الأميركي وهي دعوة صاغها بول وولفويتز بصفتها الإجراء التأسيسي لإدخال العرب في المعاصرة!
يتبنى هذا التيار الفكرة القائلة إن الحرب على العراق إنما هي لمساعدة العرب تماماً مثلما فعل شارون مع الفلسطينيين. الحرب، إذاً، قضية نبيلة تقوم بها جمعية خيرية اسمها الولايات المتحدة وبغيرية لا يسع غير الأميركيين امتلاكها. يريدون التضحية من أجلنا. لا يهمهم سوى إخراج العرب من حالة الفشل التي أوقعوا أنفسهم فيها. واشنطن هي القائدة الفعلية لحركة التحرر العربي وهي تصادر الشعارات التي ارتفعت ذات مرة في المنطقة واستدعت، من أجل كسرها والانتهاء منها، كل الحروب من 48 إلى 67 إلى 82 إلى المواجهة المستمرة في فلسطين.
لقد دعمت الولايات المتحدة الحروب ضد العرب الداعين إلى الحداثة والتقدم والتنمية والعدالة ومساواة المرأة... وكان دعمها ناجحاً إلى حد أن هذه الموجة تحطمت. يُراد لنا أن نصدق، اليوم، أن المجرم يعود إلى ساحة الجريمة لإحياء الضحية. صحيح أننا نعاني تخلفاً ولكن ليس إلى هذا الحد! فما زال هناك إدراك أن »الشرق الأوسط الجديد« الذي تقود إليه الخارطة الأميركية لا علاقة له ب»شرق أوسط جديد« يلبي الحد الأدنى من طموحات المنطقة وأهلها.
26/10/2002

رجل من ورق
19/08/2008, 21:46
سنونوة البرازيل


هل تنبئ سنونوة البرازيل قدوم ربيع ما؟ فلأول مرة في التاريخ الحديث ربما يصل زعيم يساري بهذه الجذرية إلى موقع الرئاسة حائزاً على أكثرية كاسحة. وبما أن البرازيل هي البلد الخامس في العالم سكانياً والثامن اقتصادياً فإن الحدث لا يمكنه أن يكون هامشياً. فهل يعني، والحالة هذه، أننا أمام افتتاح لمرحلة جديدة لا تستبعد مثل هذا الاحتمال في الأمد المنظور وفي دول ذات ثقل مميّز؟
إن لويس انياسو دا سيلفا (المعروف ب»لولا«) زعيم جذري ببرنامج اشتراكي ديموقراطي حقيقي تبهت أمامه الألوان الزهرية لاشتراكيي »الطريق الثالث« البريطاني، أو »الوسط« الألماني، أو »الاجتماعي الليبرالي« الخجول من نفسه في فرنسا. ناهيك، طبعاً، عن النموذج »الديموقراطي« الأميركي. ويقود انتصاره المدوي إلى طرح سؤال أثاره ذات مرة الكاتب الإنكليزي جون غراي (في كتابه »الفجر الكاذب«): هل ثمة مجال، في ظل العولمة، لمؤسسات اشتراكية ديموقراطية وطنية؟
ستحسم التجربة في الجواب. إن مشكلات البرازيل هائلة: فوارق اجتماعية أسطورية، تمايزات مناطقية واتنية، انعكاسات للبؤس على وضع أمني متدهور، دين يناهز نصف الدخل الوطني، بيئة إقليمية شديدة الاضطراب بعد الأزمة الأرجنتينية، وجار شمالي يمر في مرحلة تشنج تجعل سياسته الداخلية والخارجية رهينة أصحاب المصالح الكبيرة فكيف إذا جاء التهديد من »الفناء الخلفي« وكيف إذا تنفس كاسترو وشافيز الصعداء وعاودت نيكاراغوا أحلامها؟...
إن مهمات هرقلية تنتظر لولا. فصندوق النقد بالمرصاد وقد أصبح دائناً للبرازيل. والرساميل تهدد بالهرب في أي لحظة في ما يشبه الابتزاز الذي أسماه الرئيس الجديد »إرهاباً«. والإصلاحات مكلفة جداً ويمكنها إرهاق القدرة التنافسية. والعملة فقدت، أصلاً، أربعين في المئة من قيمتها. غير أنه يستطيع الاتكال على مجموعة من الميزات ليست بسيطة. فحزبه، حزب العمال، مجرب في إدارة الولايات بنجاح، والتعبئة الشعبية وراءه عالية، وبرنامجه الإنقاذي بات أكثر عقلانية وتواضعاً.
بالإضافة إلى ذلك فإن وصوله إلى السلطة ليس نتيجة تفاقم الانهيار. فسيكون المرء ظالماً إذا لم يعترف أن العقد الماضي شهد ضبطاً للتضخم، وانفتاحاً ليس كارثياً بالكامل، وخصخصة لقطاعات خففت عن كاهل الدولة النجاح الانتخابي، بهذا المعنى، هو ثمرة تلاطم هذه النتائج الاقتصادية والاجتماعية وتوفر قناعة واسعة أن في الإمكان تأمين المزيد من العدالة في التوزيع والإنفاق الاجتماعي بصفتها عنصراً اقتصادياً مربحاً وليست مجرد واجب أخلاقي وإيديولوجي.
ليس صدفة، والحالة هذه، أن يكون لولا هو المرشح الأقوى في الجنوب المتقدم وليس في الشمال الفقير. إن قاعدته الاجتماعية لا تتماهى مع الأكثر بؤساً في المجتمع وإنما مع طبقة عاملة منظمة ومستقرة، ومع فئات وسطى تريد المزيد، ومع مهنيين وجامعيين متماسكين في طرحهم الديموقراطي، ومع شريحة بورجوازية متنورة، ومع اتنيات مقهورة وتشكل من هذا المزيج »كتلة تاريخية« تملك مشروعاً تغييرياً يستند إلى نجاح مؤكد في الإدارة المناطقية.
إن تحولات لولا الشخصية قادته إلى حيث هو الآن. فمن ماسح أحذية في سن السابعة، إلى عامل، إلى زعيم نقابي، إلى سجين رأي، إلى مناضل في سبيل الحريات، إلى خصم للديكتاتورية العسكرية ثم الليبرالية الأصولية، إلى أحد أبرز دعاة العولمة البديلة (بورتو الليغري)، إلى مرشح فاشل للرئاسة، إلى الفوز... تتداخل عناصر السيرة هذه لتشير إلى أن الشخص، الأمي أصلاً، بذل جهداً استثنائياً كي يكتسب قماشة رجل الدولة، واشتغل، قدر المستطاع، على توسيع قاعدته الاجتماعية.
ولقد واكب حزبه هذه التحولات فأعاد صياغة نفسه. إنه زواج ناجح من نقابيين مسيسين، وتيارات اشتراكية جماهيرية، وجذريين كما يمكن لأميركا اللاتينية أن تُنبت، وناشطين اجتماعيين عضويين، ومثقفين ملتزمين، وخبراء يملكون أجوبة محددة على مشاكل محددة. إنه حزب تعددي يلعب دوره بصفته أداة سياسية تتجاوز التمثيل القطاعي لتشكل صلة وصل توسع جبهة التغيير وتعدل برنامجها لتصيب نقطة التوسط التي يمكن لرأسمالي عصري أن يلتقي عندها مع عامل إصلاحي.
الرهان المعقود على التجربة البرازيلية كبير. فالبلد، إضافة إلى أهميته، صاحب »اشعاع« وفرته له، مرة، كرة القدم، وثانية استضافة منتديات »العولمة البديلة«. والنجاح يأتي في لحظة خاٌّصة تمر بها العولمة الليبرالية كونياً وفي أميركا اللاتينية خاصة. إنها لحظة التوقف في محطة النقد الذاتي، والدعوة إلى تصحيح المسار، ورفض الثقة المفرطة بالنفس، والتقليل من النزعة الظافرية. حتى صندوق النقد بات أكثر تواضعاً. ولأن اللحظة هي هذه يصح السؤال: هل يقود لولا البرازيل عكس السير أم أنه يومئ إلى أن السير يعتزم تغيير وجهته
29/10/2002

رجل من ورق
19/08/2008, 21:47
كيسنغر!



كأن الإدارة الأميركية لا يكفيها من فيها: حشد من المتهمين في قضايا مالية سابقة ومن ممثلي مصالح خاصة ومن أصوليين لا يحسدهم بن لادن على شيء... كأن ذلك لا يكفي. فجورج بوش استحضر جون بويندكستر، المسجون سابقاً لدوره في فضيحة إيران غيت ليكلفه مهمة استخباراتية، واستعاد إليوت ابرامز الذي كذب على الكونغرس في الفضيحة نفسها ليسلمه مكتب... الديموقراطية وحقوق الإنسان. ونبش هنري كيسنغر ليطالبه بترؤس لجنة من الحزبين مكلفة التحقيقات في أحداث 11 أيلول.
المعروف بعد تلك الأحداث أن الولايات المتحدة شهدت نقاشاً حول سؤال »لماذا يكرهوننا«؟ غير أن السؤال تحول مع الوقت، حسب لويس لابهام في كتابه الأخير »الجهاد الأميركي«، إلى نوع من الاستهجان.
إن اختيار كيسنغر رئيساً للجنة تحقيق يوفر، من حيث المبدأ، عنصراً من الجواب. فيكفي أن يتذكر المرء الرجل، وتاريخه، وجرائمه، وارتكاباته، وأكاذيبه، والتي طالت المعمورة كلها، من أجل أن يصاب بنوبة كراهية للسياسة الأميركية. ويكفي أن يكافأ الرجل على ماضيه الكريه من أجل الاستنتاج بأن الولايات المتحدة، اليوم، تعيد تبني سياسات عدوانية وتكرّم من كان يفترض أن تتبرأ منه.
عندما اندلعت قضية بينوشيه في بريطانيا كتب أحدهم أن الرجل لا يجب أن يحاسب على ماضيه بل على حاضره الذي لا تتخلله لحظة ندم واحدة. وهكذا فإن بوش، باختياره كيسنغر، يسحب اعتذارات خجولة قدمها بيل كلينتون إلى شعوب عانت من سياسات واشنطن.
لقد كانت قضية بينوشيه، أيضاً، مناسبة استذكر فيها البعض كم أن الرياء سائد. فلقد كان حرياً بالقضاة مطاردة الرجل الذي دبّر، ونظّم، وأشرف على انقلاب 13 أيلول 73 في التشيلي وهو انقلاب على سلطة ديموقراطية قاد إلى حملات قتل وتشريد وتعذيب لا زال ضحاياها أحياء يشهدون. إن كيسنغر هو البطل الفعلي لانقلاب سانتياغو، وهو، إذ كتب عن الموضوع، أسرف في الكذب إلى أن جاءت وثائق رسمية تفضحه.
ما قامت به المحاكم جزئياً (كيسنغر مطلوب للشهادة في عدد من الدول منها التشيلي وفرنسا وبلجيكا...) قام به كتّاب ومثقفون بصورة جدية. فالكتب عن جرائم الوزير الأميركي السابق عديدة وهي موثّقة كلها. وتثبت هذه الكتب أنه مسؤول عن مئات آلاف القتلى في تيمور الشرقية، وباكستان، وأندونيسيا، واليونان، وقبرص، والأرجنتين، وكمبوديا ولاوس وفيتنام وبنغلادش. لقد فعل ذلك ببرودة أعصاب مذهلة وباسم خدمة المصالح الوطنية لبلاده. لم تبق موبقة واحدة لم يرتكبها: كذب، رشى، خدع، حض على الاغتيال، سرق وثائق، أخفى معلومات، شجع عمليات سرية، خرّب مفاوضات سلام، حوّل بلداناً إلى أنقاض، تغاضى عن وحشية حكام أصدقاء، ودعم ديكتاتوريين دمويين يثقلون سجناء الرأي بالحديد، يرمونهم في البحر، تجسس على زملائه في العمل، الخ...
إن من استمع إلى بوش يمتدحه وهو يعلن تنصيبه »محققاً« لن يعود يتعجب من وصف شارون ب»رجل السلام«.
إن الذين سيستدعيهم كيسنغر لسماع إفاداتهم يعرفون عنه أكثر مما نعرف بكثير وهم، إذا كانوا يحترمون ملكاته الفكرية وبرودته في رسم السياسات، فإنهم مدركون أن بينه وبين الأخلاق، بأي تعريف متسامح، هوة غير قابلة للردم.
كان حرياً بالولايات المتحدة أن تحاكم كيسنغر لا أن تجعله قاضياً لو أنها كانت جدية فعلاً في التساؤل عن أسباب كراهية قطاعات واسعة في العالم لسياستها. اختارت العكس. وليس هذا بغريب على إدارة تعبّر عن أحط النزعات في هذا المجتمع الغني جداً ولكن العاجز عن إدراك أزمة علاقته مع الآخرين.
كيسنغر ليس اسماً. إنه برنامج.
29/11/2002

رجل من ورق
19/08/2008, 21:48
تسويق تركيا



بدأ بول وولفويتز، مبعوثاً من الإدارة الأميركية، جولة تندرج تحت العنوان العراقي. حاضر في معهد للدراسات في لندن. لم يجد شيئاً كثيراً يضيفه على الموقف البريطاني الرسمي المعروف. لم يقنع بعض الحضور بأطروحات الصلة بين بغداد و»القاعدة«. لم يبد مهتماً بذلك ما دام ينتظر، بفارغ الصبر، وبتشكك واضح، نتائج عمل لجان التفتيش. ولقد كان لافتاً أنه اختار العاصمة الأوروبية الحليفة من أجل أن يمهّد لزيارته المهمة إلى تركيا. لقد خصص وولفويتز نصف محاضرته في لندن من أجل الإعلاء من شأن أنقرة.
وكما في ما يخص العراق فإن الأميركيين والبريطانيين على موجة واحدة في ما يتعلق بتركيا. يؤيدون، بحماسة، انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، ويدعون إلى أن تحدد قمة كوبنهاغن المقبلة موعد بدء التفاوض معها حول هذا الموضوع.
واللافت أن الدولتين الأقل اهتماماً بالبناء الأوروبي هما الأكثر إلحاحاً على »المصير الأوروبي« لتركيا. وليس الأمر غريباً. فهما تدركان الإشكالات العديدة الحائلة دون ذلك وتريدان للسلسلة الأوروبية أن تصبح محكومة بأضعف حلقاتها. فانضمام تركيا، بعد التوسيع المقرر في 2004، يزيد من أطلسية القارة، ويقلّل من قدرتها على بناء سياسة خارجية وأمنية مستقلة، ويرغمها على أن تبقى سوقاً حرة مفتوحة بدل أن تتحوّل إلى كيان سياسي.
لقد كان هذا هو الموقف التقليدي لواشنطن ولندن. والواضح أن تعديلاً لم يطرأ عليه بعد الانتخابات الأخيرة التي حملت »حزب العدالة والتنمية« إلى السلطة.
لقد استقبل فوز الحزب المذكور بأسئلة كثيرة في أوروبا الغربية، وهي أسئلة لا تخلو من قلق لا بل من عدائية. إلا أن الولايات المتحدة وبريطانيا كانتا الأسرع في التقاط الرسائل الإيجابية لطيّب أردوغان وللتعامل معها بإيجابية.
فالبيت الأبيض كاد يحتفل بالنتيجة. إنه يتعرض إلى هجوم من على يمينه (نعم إن الأمر ممكن!) من أجل أن تكون حربه ضد الإسلام كدين ومؤمنين وليس ضد الإرهاب والأصولية. وهو يحتاج إلى مادة تسمح له بخوض السجال. ثم إن ظروف ما بعد 11 أيلول تشدد الحاجة إلى ذلك. فمنذ انهيار المعسكر الاشتراكي وواشنطن »تبيع« النموذج العلماني التركي ضد النموذج الأصولي الإيراني. ولكن المستجدات تعطي الأولوية ل»بيع« النموذج الإسلامي التركي ضد النموذج الإسلامي العربي.
ويكفي أن نضيف إلى ذلك انفتاح الملف العراقي حتى تتضح أهمية الموقع التركي الذي سمحت له التطورات بأن يدافع عن نفسه بعد انتهاء الحرب الباردة.
وبما أن الحكام الجدد في أنقرة أكدوا الاحترام الشديد للاتفاقات مع صندوق النقد، مع ما يعنيه ذلك من تركيبة اقتصادية، وأعربوا عن رغباتهم الأوروبية واستطراداتها السياسية، فإن واشنطن وجدت أن دورها هو، أيضاً، في »بيع« تركيا للاتحاد الأوروبي.
إن معادلة الأطلسي + صندوق النقد + احترام الدستور العلماني + الميول الأوروبية + الموقع الاستراتيجي المهم، إن هذه المعادلة تكاد تكون حاجة أميركية اليوم. ولقد كان وولفويتز واضحاً في التبخير لهذه المعادلة مستعيداً نظريات المؤرخ المقرب من صقور واشنطن برنار لويس.
4/12/2002

رجل من ورق
19/08/2008, 21:48
المنطقة في مهب جذريتين



الإعصار الذي سيضرب المنطقة يتشكل من التقاء رافدين: الجذرية الأميركية والجذرية الإسرائيلية. وإذا كان هناك من يخطئ في تقدير قوته فلأنه يرفض الاعتراف بأننا أمام أميركا جديدة وأمام إسرائيل جديدة وأمام صيغة جديدة في العلاقة بين الطرفين.
ان الادارة الحاكمة في واشنطن هي، في الوقت نفسه، الأكثر يمينية منذ عقود والأكثر عدوانية. ويدلّ مشروعها للميزانية على نوع من الانحياز الاجتماعي ضد الفقراء يودي بكل ادعاءاتها عن »المحافظة ذات الوجه الانساني«. فالاقتطاعات من ضرائب الأغنياء لا يوازيها إلا الخفض في التقديمات للفئات الأكثر هشاشة. وتأتي الزيادة الصاروخية على نفقات الدفاع من أجل ان تلغي فوائض بيل كلينتون لتعيد الولايات المتحدة الى عصر العجوزات في الميزانية.
والسياسة القائمة على التفارق الاجتماعي الداخلي، أي على التغليب الأناني لمصالح الأشد ثراء، تنعكس، في الخارج، أنانية قدمية لا يسلم منها أقرب الحلفاء في أوروبا القديمة و... الجديدة. وبعد ان تمادت واشنطن في ازدراء الاتفاقات الدولية ها هي تقدم، في مجلس الأمن، نموذجاً عما تعتبره التعدد والتشاور. فالالتحاق بها، وكسر إرادة المختلفين معها، والانتقال من الارجحية الى السيطرة هي معالم السياسة التي يراد لها ان تقود العالم.
لا بد من قول ما تقدم في ظل عناد المتوهمين بالديموقراطية القادمة الى العراق أولاً، والى العرب والمسلمين تالياً، عبر سياسة البوارج والحروب التي لا ذكاء فيها الا في ما خص بعض الأسلحة. لن تشذ توجهات بوش عندنا عن غيرها ولن يعاملنا بأفضل مما يعامل القسم الأكبر من مواطنيه. وهو قادر، الا اذا دفع ثمناً باهظاً، على انقاذ قدر من التماسك
الداخلي مستنداً في ذلك الى كتلة شعبية متطرفة ومشبعة بأفكار »الثورة المحافظة« التي أوصلت رونالد ريغان مرة الى السلطة.
وتجدر الاشارة، برسم من يعتقد ان الادارة، وبعد العراق، ستجعل اقامة الدولة الفلسطينية أولوية، ان بوش، وفي سياق الحرب المقتربة، سيفتتح معركته الانتخابية لولاية ثانية.
لقد كانت هذه المرحلة، على الدوام، مرحلة تقارب بين رئيس الولايات المتحدة واسرائيل ولكنها، هذه المرة، ذات طعم خاص.
ينوي بوش، في ما تبقى له من وقت، حسم قضية الصوت اليهودي لصالح الحزب الجمهوري واليمين الصلب. وهو حقق خطوة في هذا الاتجاه في الانتخابات النصفية للكونغرس. ويعتزم تصديق استطلاع الرأي القائل ان يهود أميركا سيقترعون لصالحه ولو كان منافسه السناتور اليهودي (المحافظ) الديموقراطي جوزف ليبرمان، ولمن يعرف القليل عن السياسة الداخلية الأميركية فان كسب الجمهوريين معركة الصوت اليهودي يعني إلحاق هزيمة مديدة بالحزب الديموقراطي وانشاء واقع سياسي جديد في الولايات المتحدة يقوم على حرمان اليسار الليبرالي من نسغ أمده، طيلة عقود، بحيوية متجددة. ويلتقي توجه بوش هذا مع تحولات سوسيولوجية وايدلوجية تعيشها الأقلية اليهودية في أميركا وتدفع بها الى وسط المشهد السياسي ويمينه وتجعلها تقترب، أكثر فأكثر، من المعسكر القومي المتشدد في إسرائيل. وليس صدفة، والحالة هذه، ان تكون النواة الصلبة لمفكري المحافظين الجدد في الولايات المتحدة متشكلة من يهود متحدرين من أصول يسارية.
لم تخف إدارة بوش انها تفضل شارون لرئاسة الحكومة. تأجيل الاعلان عن خريطة الطريق. الوعد بضمانات القروض. والأهم من ذلك تعيين إليوت ابرامز في مجلس الأمن القومي مشرفاً على ملف الشرق الأوسط. والرجل، اذ يتطلع الى شارون، يرى في المحارب الاسرائيلي قامة تشرشل ويعتبر ان أفضل وسيلة لدعم اليمين في تل أبيب هي تمتين التحالف بين يهود أميركا واليمين الأقصى فيها.
ان ادارة من هذا النوع لن تكتفي بوضع اليد على العراق ولكنها ستعمل على خفض سقف التطلع الفلسطيني الى أدنى مستوى ممكن.
تلتقي هذه الجذرية مع جذرية اسرائيلية واضحة للعيان. وربما كان علينا ان نتساءل عما اذا لم تكن الانتخابات الاسرائيلية الأخيرة مفصلاً هاماً في تاريخ الدولة.
لم يطل الحديث عن »ما بعد الصهيونية« حتى حققت الصهيونية، في صيغتها الأقرب الى التحريفية، انتصاراً. ولعله من الواجب قراءة الحصيلة في المصير البائس لما يسمى اليسار سواء في شقّه الذي شارك في حكومة الوحدة الوطنية (العمل) أو في الشقّ الذي عارض (ميريتس) ولقد كان ملفتاً ان الدرس الذي استخلصه يوسي سريد من هزيمة حزبه هو أن السبب يعود الى عدم اعلاء الصوت كفاية ضد... ياسر عرفات. ويخدم هذا الدرس في تنبيه من يهمه الأمر الى ان المقترعين لم يكونوا يردون على العمليات الاستشهادية فقط وانما على الحركة الوطنية الفلسطينية بمجملها وعلى »الخونة« من بينهم الذين ارتكبوا... اوسلو!
منذ أواسط السبعينات واليمين صاعد في اسرائيل. وأدت المحاولات المتعثرة لما يسمى اليسار (رابين، باراك) الى تأكيد هذا الصعود. فالأمر يعود الى تحولات ديمغرافية جدية (راجع انضمام ناتان شارانسكي وحزبه الى »ليكود«) والى شعور متزايد بالقوة المانعة لأي »تنازل«.
إن يميناً إسرائيلياً معيناً يصعد الى موقع الهيمنة في المجتمع. وإذا كان شارون حلّ أولاً بين الجنود فإن الملفت هو أن عميرام متسناع حل ثالثاً. ولهذا التحول صلة بتيارات عميقة في المجتمع وبحساسية خاصة تشده الى ما يجري في العالم والى التموضع المستجد للدياسبورا اليهودية على يمين الخارطة السياسية في كل بلدان العالم.
عصب الحركة الصهيونية الذي أسس الدولة وادارها لفترة ينتمي الى البنية الشوفينية في الحركة العمالية الأوروبية. وتحديداً الى هذه الحركة في أوروبا الوسطى والشرقية (دولها أكثر انحيازاً الى بوش من أوروبا الغربية) حيث القوميات مأزومة وحيث البديل عن »اليسار الشوفيني« حركات عنصرية حادة مثل جابوتنسكي الترجمة اليهودية لها وشكلت الفاشية مرجعها.
وعاشت دولة إسرائيل لعقود في ظل استقطاب دولي واحتلت مكاناً مميزاً في قلب الاشتراكيين الديمقراطيين الأوروبيين الذين رفضوا الاعتراف بأن الكيبوتس ليس ناظما لحياتها.
لم نعد اليوم أمام شيء من هذا القبيل. ولذا فإنه من المسموح لنا القول بأن نتائج الانتخابات الأخيرة قد تكون مؤشراً الى تأسيس جديد لدولة إسرائيل يستند الى التحولات الداخلية والدولية ويحاول الاستفادة من المعطيات الإقليمية التي ستتولد عن الحرب الأميركية على العراق ومشروعها للتغيير »الجذري« في الشرق الأوسط على حد وصف كولن باول أمس الأول.
كتب ديفيد غروسمان: »انتصر شارون لأن أكثرية الإسرائيليين تعتقد أنه سيضرب الفلسطينيين بقوة أكبر«. وهو سيفعل ذلك مدركاً أن جذريته المعبرة عن »اعتقاد« الأكثرية لن تصدها الولايات المتحدة ولن تقف في وجهها »خارطة طريق« نعاها سلفا ولن يحرص أصحابها عليها كثيراً.
إن واحدة من هاتين الجذريتين كانت كفيلة بالنيل من الضعف العربي الاستثنائي، رسمياً وشعبياً... فكيف إذا التقتا وضربتا معاً؟
8/2/2003

رجل من ورق
19/08/2008, 21:49
نايبول، فوكوياما: استفزاز مُضاعَف



منح جائزة نوبل للآداب إلى في. اس. نايبول استفزاز. ليس أقل من ذلك. إنه، ببساطة، محاولة لإثبات أن أسامة بن لادن على حق. ولو بالمقلوب. فالرجل هو المعادل الروائي لسيلفيو بيرلوسكوني في نسخته الفخورة بتفوق حضارة ودعوتها إلى الهيمنة على غيرها.
إن النظر في القيمة الروائية والأدبية للكاتب الترينيدادي المولد، البريطاني الجنسية، العالمي الإقامة، هو من عمل النقاد المختصين. ولكن نايبول ليس روائياً فحسب. إنه صاحب نظريات في الاستعمار، والتحرر الوطني، ومصائر الشعوب المقهورة. وهو، بالإضافة إلى ذلك، كاتب تحقيقات صحافية مطولة عن رحلات له في بلاد إسلامية (»بين المؤمنين«، 1981، و»أبعد من الإيمان«، 1998) ضمّنها نظرته إلى الإسلام. وهذه النظرة »الرائدة« تتساوى مع أحط ما يُقال، هذه الأيام، في الموضوع نفسه في أوروبا وأميركا.
سُئل ذات مرة عن سر امتناعه عن تضمين بلد عربي في رحلته الباحثة عن الإسلام الآسيوي. أجاب باختصار إنه لا يريد ولا يطيق أن يجمع بين »تخلّفين«. ولأنه معروف بهذا الموقف كان لا بد من سماع رأيه بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن. لم يتحدث لا عن بن لادن، ولا عن الأصولية. ذهب مباشرة إلى الشكوى من »تأثيرات الإسلام الكارثية على البشر«، وإلى »جرائمه« في إخضاع شعوب واستعباد ثقافات وتدمير كل ما سبقه... ولم يكن يفعل في معرض هذا التعليق سوى استعادة ما كتبه قبل سنوات، وفي التركيز على الموازاة بين المفاعيل التدميرية لكل من الإسلام و... الإمبريالية!
وحتى لا يخطئ أحد الظن فيعتقد أن نايبول كاره للإمبريالية كما هو كاره للإسلام والمسلمين تجب العودة إلى كتابه الصادر عام 75 بعنوان »غيريللا« (حرب العصابات). ففي هذه الرواية عن مدينة يجتاحها ثوار التحرر الوطني جزم في أن نزعة الاستقلال والخلاص هي أسوأ ما يمكن للاستعمار أن ينتجه. ليست الإمبريالية تدميرية إذاً إنما... المقاومة! والخلاص، بهذا المعنى، هو اتباع خيار نايبول الحاقد على لونه الغامق، الفخور بلغته الإنكليزية، والمستعد لأن يساعد »الرجل الأبيض« في الانتهاء من عذابات الضمير التي تسبّبها له ممارساته الكولونيالية.
لقد استحق نايبول، لهذه الأسباب، مكانته في قلب البُعد الثقافي للثورة الريغانية التاتشرية في الثمانينيات. احتفى به كل من اعتقد، منذ 75، أنه آن الأوان لرمي عقدة الذنب، وللتبجح بأن الاستعمار هو الخط الوحيد للشعوب وأن خرابها جاء، فقط، من استعادة سيادتها الوطنية.
ولهذه الأسباب، بالضبط، قيل في الأيام الأخيرة إن لا مجال لمنحه جائزة نوبل للآداب. فالظرف العالمي متوتر جداً. والغرب يجاهد للتمييز بين الحرب على بن لادن وطالبان وبين الحرب على الإسلام والمسلمين والعرب. ومع ذلك اختارت الأكاديمية السويدية أن تقدم على هذا الاستفزاز متجاهلة أن هناك بين العرب والمسلمين من يكون قرأ كتابات نايبول غير الأدبية.
إن هذا الاستفزاز ليس فعلاً معزولاً. ثمة موجة تريد أن تقول إنها »تكسر المحرّمات« وأنها تريد تعريض الإسلام، في أي نسخة كانت، إلى المساءلة.
شاءت الصدفة أن تنشر »غارديان« البريطانية، يوم أمس، مقالاً للأميركي من أصل ياباني فرنسيس فوكوياما عنوانه »لقد ربح الغرب«.
يستعيد فوكوياما أطروحته عن »نهاية التاريخ« ويكرر شرحها. لقد انتهى التاريخ بمعنى أن لا مجال لتجازو النموذج الغربي المتميز بالديموقراطية السياسية والرأسمالية الليبرالية الاقتصادية. ويرد على الذين يتبنون أطروحة »صدام الحضارات« لصموئيل هنتنغتون استناداً إلى وقائع التفجيرات الأخيرة والحرب على أفغانستان. يقول فوكوياما إن هذه الأحداث، على أهميتها، لا تغيّر شيئاً في أن التاريخ استقر عند الديموقراطية وحرية السوق. غير أنه يدخل تحفظاً على نظريته لا يخلو من دلالة. فهو يعتبر أنه ليس صدفة نمو الديموقراطية الليبرالية الحديثة في »الغرب المسيحي«. ويشير إلى تقدمها »في شرق آسيا، وأميركا اللاتينية، وأوروبا الأرثوذكسية، وجنوب آسيا، وحتى
أفريقيا«. ويخلص من ذلك إلى أن ثمة مشكلة مع السلام أو مع القراءة الأصولية له. ولكنه يستطرد »إن الإسلام هو النظام الثقافي الوحيد القادر على الانتاج الدوري لأناس مثل بن لادن أو طالبان«، وأكثر من ذلك، على استدراج »تعاطف مع الإرهابيين يتجاوز الأقلية الضئيلة ليطال الفئات الوسطى...«.
هل يعني وجود هذا التحدي أن التاريخ لم ينته فعلاً؟ كلا، يجيب فوكوياما. »لقد انتهى التاريخ لأن نظاماً واحداً سيستمر مهيمناً على السياسات العالمية، وهو النظام الليبرالي الديموقراطي العربي«. والاستنتاج من ذلك أن العرب والمسلمين العاجزين، لأسباب ثقافية فقط، عن الاندراج في »نهاية التاريخ« عليهم أن يخرجوا منه ببساطة »لأن الوقت في صالح الحداثة ولأنني أرى تصميماً أميركياً على النصر«.
من نوبل نايبول إلى استدراك فوكوياما ثمة ملامح واضحة لمناخ هو أقرب إلى »صراحة« بيرلوسكوني منه إلى »خبث« طوني بلير. وهذا المناخ كفيل باسيلاد ألف بن لادن!
ملاحظة: مُنح نايبول جائزة في إسرائيل. وصل لاستلامها. أهين في المطار بسبب لونه. غادر محتجاً. زاد شتائمه للعرب والمسلمين!
10/12/2001

رجل من ورق
19/08/2008, 21:50
البرابرة على الأبواب



لا اسم لما حصل في الولايات المتحدة وضدها. إنه أكبر من مجموعة عمليات »كاميكازية« وأقل من حرب. لنقل إنه يقترب من ممارسة أقصى الأذى في ظل موازين القوى الراهنة و... المنظورة. لماذا يقترب فقط؟ لأنه ليس موجهاً ضد أصدقاء أميركا وحلفائها أو حتى قواتها في الخارج. إنه فوق الأرض الوطنية. هذا أولاً. ثانياً، لأنه يقف على عتبة الحالة التي يعتبرها الأميركيون »كابوسية«: اندماج »الإرهاب« بالأسلحة غير التقليدية ونقل المعركة إلى »الداخل«. ثالثاً، لأنه ليس رمزياً فحسب نظراً إلى الخسائر البشرية الفادحة التي أنزلها وببشر مدنيين لا ذنب لهم. هذا الأمر الذي »لا اسم له« هو البداية الفعلية للقرن الحادي والعشرين. لقد انتهت نهاية الحرب الباردة حتى قبل أن تبادر الإدارة الجمهورية الحالية إلى إعلان وفاتها. وإذا كانت تأخرت بعض الشيء في الإعلان فلأنها تبحث عن خصم مقنع يستحق أن تُعاد الهندسة الأمنية الدولية من أجله.
لا اسم لهذا الخصم. إن الولايات المتحدة، اليوم، كتلة عضلية جبارة تبحث عن متنفس لغضبها وعن تعويض للجرح الوطني الذي أصابها. أي رد، متى حصل، سيكون رهيباً. ولكن لا عدو بحجم رد رهيب. ويكفي لتبيان ذلك كشف بأسماء المشبوهين أو مراجعة سريعة للائحة المطلوبين العشرة الأوائل. التوازن معدوم. هذه نقطة قوة لصالح أميركا. ولكنها نقطة ضعف أيضاً. ما من طرف يوازيها في الحجم، والقدرة، والنفوذ، والإمكانيات. لكن عدم التوازي ينقلب ضدها في لحظة. فهي، منذ سنوات، تنفق 25 مليار دولار كل عام لمكافحة الإرهاب. ولكنها ستدفع مئات المليارات لأن حالة هجينة غامضة الملامح صممت وخططت ونفذت، ولم تكلف نفسها إعلان المسؤولية.
إن ما لا اسم له يضع على المحك المنظومة الأمنية الأميركية كاملة. فالعقيدة الدفاعية الجارية مراجعتها تريد الانتقال من »الحربين الإقليميتين« بعيداً عن الأرض الوطنية إلى »الحرب ثم الثانية«. ضد مَن؟ كوريا الجائعة أو العراق المحاصر! توسيع حلف شمال الأطلسي له صلة بإبقاء »الروابط« مع الحلفاء أكثر من صلته باحتمالات تجدد التهديد الروسي. الانتشار الآسيوي لم يعرف حتى الآن تحديد سياسة واضحة في ما يخص الصين الوطنية.
ثم كان أن ورث جورج بوش عن بيل كلينتون ملفين أمنيين. يقتضي الأول بناء درع صاروخي (مليارات لا تحصى من الدولارات وفعالية مشكوك فيها) ضد دول »مارقة«. أحداث الأيام الأخيرة، بسبب من »عدم التوازي«، وجهت ضربة قاسية للفكرة. ويقتضي الثاني إنفاقاً مذهلاً ضد »الإرهاب السيبرنتيكي«. فالاعتماد الأميركي على التكنولوجيات الجديدة، اقتصادياً وخدماتياً واستراتيجياً، آخذ بالتحول إلى مصدر خطر. غير أن المشروع برمته عاجز أمام طالب في جامعة أو أمام خاطف طائرة يحسن قيادتها.
لا اسم للسياسة الخارجية الأميركية. فهي ليست انعزالية تماماً وليست تدخلية تماماً. وتكاد الصراعات البيروقراطية الداخلية تجعلها بعيدة عن أن تكون »بين بين«. انسحاب من كيوتو ووعد بمشروع جديد لمقاومة الاحتباس. رفض بروتوكول حظر الأسلحة البيولوجية وحملة ضد مَن يرفض. الامتناع عن أي تفاوض خاص بالأسلحة الخفيفة لأن الدستور الأميركي يحمي هذا الحق. شراء تحويل سلوبودان ميلوسيفيتش إلى المحكمة ورفض الانضمام إلى محكمة الجزاء الدولية. التلويح بالانسحاب من معاهدة 72 مع موسكو ومغازلة بوتين و»السماح« للصين بتطوير ترسانتها النووية. مغادرة مؤتمر دوربان، حضور انتقائي في البلقان. »حضور الغائب« في الشرق الأوسط و»فيتو« على حضور مَن يرغب لسد الفراغ...
تريد واشنطن أن تقود من دون موجبات الدور القيادي. غير أن هذا »التمرين« لم يعد ممكناً بعد العمليات الأخيرة. فما لم يحمه المحيط، وما لم يكن ممكناً لدرع ما أن يحميه، لن يحميه قرار باعتكاف مزاجي. سيكون بوش مضطراً إلى استلحاق نفسه بدروس في التاريخ والجغرافيا والعلاقات الدولية، عله، على الأقل، يعرف كيف سيرد الضربة، علماً بأن التحضيرات لها قد تكون سابقة لتعداد الأصوات في فلوريدا.
والشرق الأوسط في كل ذلك؟ نحن متجهون، على الغالب، نحو زيادة التماهي بين إسرائيل والولايات المتحدة. وذلك بغض النظر عن الجهة التي نفذت العمليات. سيقدم أي رد أميركي مقياساً يستخدمه أرييل شارون في تعاطيه مع الفلسطينيين والعرب. كل المقدمات جاهزة من أجل ذلك. ألم يفرح الفلسطينيون للمَصاب الأميركي؟ ألم تبدو إسرائيل جزءاً من الغرب المستهدَف؟ ألم تخض الدولتان »حرب دوربان« معاً؟ ألا تتقاسمان القيم نفسها؟ أليس أعداء الواحدة (العراق، إيران..) أعداء الثانية؟ أما امتدح بوش سياسة ضبط النفس الشارونية ثم عجز عن ضبط نفسه؟ أما انتقد باول »القتل المستهدف« فبات »البرابرة على الأبواب« على ما قال معلق »جيروزاليم بوست« جيرالد ستاينبرغ«؟ ألا يريد العرب والمسلمون »افتراس الغرب« كما يؤكد بنيامين نتنياهو، بدءاً بإسرائيل وصولاً إلى أميركا؟ ألا يشكل عرب إسرائيل، كما عرب أميركا، »طابوراً خامساً«؟ ألا تحتضن دمشق »المعارضة« الفلسطينية وتشجع »حزب الله« منذ تفجير مقر المارينز حتى اليوم؟ ألم تتواطأ السعودية مع إيران في التغطية على انفجار الخُبر؟ ألم يتم إغراق المدمرة كول في المياه اليمنية؟ ألا تشكل »الأممية الإسلامية«، من قندهار إلى وهران مروراً بضواحي القاهرة، جبهة تقوم بدورها في »صراع الحضارات« ضد التراث المسمى »يهودياً مسيحياً«؟
إن محنة الشعب الأميركي المفهومة والبالغة المأساوية، سترتد على الشرق الأوسط تدعيماً لموقع »البرابرة« الذين يطرقون الأبواب ويلوّحون باقتحامها.
09/13/2001

رجل من ورق
19/08/2008, 21:51
»ثورة محافظة« ضد أميركا أيضاً



أُطلق وصف »القوة الفائقة« على الولايات المتحدة الأميركية تمييزاً لها عن »القوة العظمى«. اعتبر صاحب العبارة، وزير الخارجية الفرنسية السابق أوبير فدرين، أنه لم يسبق لدولة أن جمعت في نفسها عناصر الأرجحية الكاسحة السياسية، والاقتصادية، والتكنولوجية، والثقافية، والعسكرية.
اعتبر كثيرون أن الولايات المتحدة، وهي وليدة ثورة، لا تملك مشروعاً للتصدير فحسب وإنما القدرة على ذلك أيضاً. وجاء انتهاء »الحرب الباردة« ليحسم في تفوّق هذا النموذج ما دفع البعض إلى ادعاء »نهاية التاريخ«. وبالعودة إلى عناصر القوة المذكورة يتبيّن أن جزءاً من النفوذ الأميركي في العالم كان مستمداً ممّا يسميه البعض »القوة الوديعة«.
إن ما جرى في الأيام القليلة الماضية، وفي جلسة مجلس الأمن أمس مثلاً، يدل على اضطراب حقيقي في وزن العوامل المشكّلة للقوة الأميركية. لم ينفع الوزن السياسي إلا في تهديد المؤسسات الدولية بدل تأمين انحيازها فكان ما كان من سحب مشروع القرار الثلاثي. ولم يجدِ الوزن الاقتصادي نفعاً في شراء كمية الأصوات المطلوبة لتأمين أكثرية من 9 دول. ولم يكن الوزن
الثقافي مهدداً بفقدان جاذبيته كما هو اليوم. وهكذا وجدت واشنطن نفسها أمام اضطرار اللجوء إلى القوة العارية المستندة إلى، والمستفيدة من، تكنولوجيا عسكرية شديدة التقدم.
وفي آخر استقصاء رأي أُجري في أوروبا يتأكد أن شعبية الإدارة الحالية في تراجع مريع. فقياساً باستقصاء أجري في حزيران الماضي تراجعت النظرة الإيجابية إلى سياسة أميركا من 61 في المئة إلى 25 في ألمانيا، ومن 63 إلى 31 في فرنسا، ومن 70 إلى 34 في إيطاليا، ومن 79 إلى 50 في بولندا، ومن 75 إلى 48 في بريطانيا... ولا فرق في حجم التراجع بين »أوروبا القديمة« أو »أوروبا الجديدة«.
وعندما أعلنت واشنطن أن التحالف الداعم لها يضم 45 دولة تبيّن أن الثلث خجول من نفسه، والثلث كناية عن دول شيوعية سابقة حديثة العهد بالديموقراطية، والثلث الأخير يتمحور حول العصبية الأنغلوساكسونية. ويوضح ذلك كفاية النجاح في تبديد الحالة التي نشأت بعد تفجيرات 11 أيلول والتي جعلت دولاً كثيرة جداً تنحاز إلى الوجهة الأميركية في مكافحة الإرهاب.
إلا أن نظرة مدققة إلى سياسات الإدارة تؤكد أن التعاطف هو الاستثناء لأن الوضع في 10 أيلول لم يكن كذلك. فبين وصول جورج بوش إلى البيت الأبيض وبين سقوط البرجين مارست الولايات المتحدة سياسات، وأعلنت عن خطط وبرامج وتوجهات، استفزازية لمعظم سكان المعمورة. لقد انسحبت من معاهدات ومواثيق دولية، وانكفأت عن سياسات، وامتنعت عن المشاركة في مجهودات دولية، وبدا أن فريق الصقور، بجناحيه اليميني والمحافظ، ماضٍ في فرض أسلوب فوقي في التعاطي مع الآخرين. ولذا لمّا هبّ حلف الأطلسي يعرض خدماته في حرب أفغانستان طُلب منه أن يبقى على حدة. واختير العراق هدفاً تنفيذاً لمضمرات سابقة وامتحاناً لقدرة الجميع على الالتحاق غير المشروط بالمركز الأمبراطوري. وسرعان ما اكتشف الكثيرون أن واشنطن غير معنية بتأمين شروط قيادتها لهم لأنها ماضية نحو الهيمنة. وأنها تريد فعل ذلك مستندة إلى تفوقها العسكري الكاسح بدرجة حاسمة. ولقد أدى ذلك إلى ارتداد قطاعات شعبية واسعة عن الانجذاب نحو الولايات المتحدة بحيث أن لا وجود لأكثرية شعبية تؤيدها إلا في... إسرائيل.
يقول فريد زكريا في مقاله الأخير في »نيوزويك«: »سافرت حول العالم وقابلت مسؤولين رفيعي المستوى في الحكومات من عشرات الدول خلال العام الماضي. يمكن أن أورد أن كل دولة تعاملت الإدارة معها تشعر بالمهانة منها باستثناء بريطانيا وإسرائيل«. وضع عنواناً لمقاله »الإمبراطورية المتغطرسة« وحاول أن يجيب على سؤال: »لماذا تخيف أميركا العالم«. كنا بلماذا يكرهنا العرب والمسلمون فصرنا بخوف العالم كله.
* * *
إن مكوّنات »القوة الفائقة« التي ذكرها فدرين تخضع، حالياً، لترتيب جديد. ويتم هذا الترتيب لصالح البُعد العسكري التكنولوجي بصفته الأداة الرئيسية لفرض الهيمنة. والمهم في الموضوع ما شرع يلاحظه عدد من الساسة والمثقفين الأميركيين: هل سيرتد المشروع الأميركي الكوني على الداخل الأميركي؟ هل تقود حملة التجييش باسم الحروب اللامتناهية إلى المضي قدماً في إعادة صياغة العلاقات الداخلية في الولايات المتحدة نفسها؟
إن ما يبرّر طرح مثل هذين السؤالين هو أن أصحاب مشروع الهيمنة الخارجية يملكون أجندة تهتم بتفاصيل الحياة الأميركية. إن التضييق على الحريات الفردية هو وجه من وجوهها فحسب. أما في الحقيقة فإن الموضوع هو الانقضاض على كل ما نجا من العاصفة الريغانية وهو ذو صلة بالرعاية، والتوازن الاجتماعي، والعلاقات العرقية، وحقوق النساء، وأوضاع الأقليات الخارجة عن الخط القويم، والمسؤولية المدنية للشركات وأصحاب الرساميل، وحظوظ المهمشين في قدر من الحماية، وحريات الإبداع والخروج عن المألوف، والمعتقدات الإيمانية العقلانية، والدور الإنساني للدين، واستقلالية الدولة عن الغيبيات، إلخ...
ليس صدفة أن البيئات ذات الصلة بهذه العناوين هي البيئات التي تصدر عنها، في الولايات المتحدة، معارضة الحرب: من نيويورك تايمز، إلى نيويورك ريفيو اوف بوكس، إلى هوليوود، إلى الكنائس الرسمية، إلى أوساط يسارية في الحزب الديموقراطي، إلى ورثة حركات الحقوق المدنية، إلى جمعيات الدفاع عن حق الاختلاف... ليست المعارضة هنا رفضاً للحرب من أجل الديموقراطية المزعومة، ولا رفضاً للخروج عن مجلس الأمن، ولا، طبعاً، محبة بنظام صدام حسين. فهذه البيئات أيّدت ثلاث حروب لبيل كلينتون خارج الشرعية الدولية (البوسنة، هايتي، كوسوفو) ولكنها، اليوم، ترفض لإدراكها الصلة العميقة بين هذا الشكل المحدد من الاتكال على القوة العسكرية وبين مشروع داخلي شديد المحافظة والرجعية والانغلاق.
إن معارضي الحرب الأميركيين إنما يدافعون عن أنفسهم وحرياتهم والصورة التي يريدونها لبلادهم والتي ساهموا في صنعها. وهم يفعلون ذلك ضد خصوم محليين يتصرفون على أساس أنه آن الأوان للخلاص، ليس من أعداء الخارج فحسب، بل من أشكال »الفجور« الداخلي الداعي إلى ثقافة »مضادة«، وإلى قدر من العدل، وإلى تنظيم لعلاقات الأقوام، وإلى الدفاع عن قيم أوروبية في أميركا، وإلى إلغاء عقوبة الإعدام، وإلى عولمة أقل وحشية...
كلا، إن الإدارة الحالية لا تختصر بلادها. ومن الخطأ اليأس من الأميركيين الذين قد يدفعون، مثل غيرهم، ثمن الجنوح إلى فرض »الثورة المحافظة« على العالم كله وعلى الولايات المتحدة أيضاً. وإذا كان صحيحاً أن »الثورة المحافظة« هو مشروع لأميركا أولاً قبل أن يكون لسواها فإن الرهان واجب على دور للأميركيين أنفسهم في إحباطه.
20/3/2003

رجل من ورق
19/08/2008, 21:52
وصل سيلفيو بيرلوسكوني الى واشنطن حاملاً رأس غيرهارد شرودر. تبعه طوني بلير حاملاً رأس جاك شيراك. وكانا مرّا في اسبانيا عشية وغداة بيان الدول الثماني (أصبحوا 9) للاطمئنان الى حسن سير العملية الموجهة لشق القارة الأوروبية، أي لجعلها تنطق بلسانين، أي لإسكاتها.
لقد بات في وسع جورج بوش القول إن أوروبا ليست ضد سياسته. فهناك من ارتضى، باسم التضامن الأطلسي، ضرب التضامن الأوروبي. وذهب بعض الغلاة الى حد الحديث عن عزلة المانيا وفرنسا مستعيداً توصيف دونالد رامسفيلد لهما: أوروبا القديمة.
تقضي الحقيقة القول إن لا مفاجأة في البيان المشار اليه. فأوروبا لم تكن موحدة يوماً حتى يمكن الحديث عن انقسامها. وليس سراً ان أوروبا السياسية، في ما يخص الأمن والسياسة الخارجية، لا زالت مشروعاً يحبو. وكل ما كشفت عنه المسألة العراقية هو ان القارة بعيدة جداً عن ان تبدأ مسيرتها التوحيدية بحيث يتحول انفتاح الأسواق وإسقاط الحدود واعتماد اليورو الى أمن مستقل يسند سياسة خارجية مستقلة.
ان تقرير الأمر الواقع هذا لا يلغي ظاهرتين. الأولى، والأقل أهمية، هي ان البرلمان الأوروبي اقترع ب287صوتاً مقابل 209 ضد أي عمل عسكري انفرادي. غير ان البرلمان لا صلاحيات له في هذا المجال. الظاهرة الثانية، والمهمة، هي ان المزاج الأوروبي العام، وبنسبة تقارب 80 في المئة، يعارض حرباً خارج الشرعية الدولية. ومع ان بون تبدو أكثر تصلباً من باريس في نزعتها السلمية، ومع ان شيراك أرسل اشارات مرتبكة فإن أكثر من ثلاثة أرباع الفرنسيين يريد ممارسة حق النقض في حال قررت واشنطن التصويت، في مجلس الأمن، على قرار بحرب غير مبررة.
لا ضرورة لتقديس استطلاعات الرأي. ولا منطق في الدعوة الى اعتمادها مرشدا سياسياً. ولكن ثباتها خلال الشهور الماضية، والتباين المستمر الذي تظهره بين ضفتي الأطلسي، يشيران الى ان الشعوب الأوروبية أكثر تقارباً مما يظهره صدور البيان الانشقاقي. ولعل الجديد هو انه بات يصعب اعطاء معنى لهذا
التقارب الا انه دعوة الى أخذ مسافة عن السياسة الأميركية التي تمثل الادارة الحالية لحظة شديدة الرعونة فيها.
ليس في أوروبا، بشرقها وغربها، من يعادي الولايات المتحدة. ولكن الواضح ان قوى كثيرة باتت تجد نفسها متعارضة مع سياسات شديدة الليبرالية، والانانية، والغطرسة.
إن دعاة أوروبا الأوروبية يريدون التحالف مع الولايات المتحدة. ولكنهم يريدون، في الوقت نفسه، بلورة شخصية مستقلة تعتبر انها، بسبب قدمها وتجربتها وتأريخها وموقعها، قادرة على المساهمة في ارساء العلاقات الدولية على قاعدة احترام التعدد والاحتكام الى معايير متفق عليها.
يتواجه هؤلاء مع المتحمسين لأوروبا الأطلسية التي تكتفي بكونها سوقاً حرة، وتتوسع على هذا الأساس، وتخوض، ربما، مواجهات »نقابية« مع واشنطن، ولكنها تترك للشقيق الأكبر الحق شبه الاحتكاري في الأمن والسياسة والدولية.
ويقدم البيان الأخير نموذجاً عما يمكن ان تنحط اليه أوروبا حال استسلامها للولايات المتحدة في صياغة وعي العالم.
القول اننا، اليوم، »أمام خطر أعظم لا يماثله خطر« يكاد يكون مضحكاً في فم أوروبي يعرف تماماً مخاطر القرن العشرين. ورواية 11 أيلول على أساس ان الهجمات كانت ضد »القيم« ليس إلا، تنسف أي رغبة في الاسهام بجعل العلاقات الدولية أكثر توازناً والادعاء ان أميركا انقذت أوروبا مرتين بسبب »الإقدام والكرم وبعد النظر« يرفضه أي عاقل يعرف القليل عن تاريخ أميركا. والتخوف من ان يكون العراق خطراً مميتاً على الأمن العالمي وعلى العلاقات عبر الأطلسي لا يفعل سوى التشكيك برجاحة المتخوف. والزعم ان الفشل في مواجهة التهديد العراقي »يعني التخلي عن مواطنينا والعالم أجمع« لا يساوي بروباغندا تافهة من الدرجة العاشرة.
إن ثمة ما يخيف فعلا في تحويل هذا »النص« الى برنامج. لا تعود الرداءة هي المعيار بل القوة القادرة على ممارسة »الرداءة«.
يمكن القول ان المشروع الأوروبي، بالمعنى النبيل للكلمة، هو ضحية حرب لم تقع بعد. فلقد بات واضحاً ان الأطلسية هي، من وجهة نظر أميركية، شرط الأوروبية. والأطلسية، بمعناها الجديد، لم تعد حلفاً مؤسساً على مصالح مشتركة و»قيم« مشتركة. اصبحت مجرد اداة من أدوات استلحاق القارة أو دول فيها بحيث يمكن »اصطياد« أعضاء جدد واستخدامهم ضد بلدان مجاورة. أما الاداة الأخرى فهي تحويل توسيع الاتحاد الأوروبي الى وسيلة لتذويب »الشخصية« الأوروبية وإغراق النواة الصلبة للقارة بوافدين يستقوون بأطلسيتهم على أوروبيتهم.
وتدعم هذه المعطيات الرأي القائل بأن العدوان المحتمل على العراق يستهدف، بصورة غير مباشرة، حلفاء للولايات المتحدة يظهرون نزعات استقلالية. انه محاولة لهندسة العلاقات الدولية وفق ميزان قوى جديد يضمن لواشنطن أرجحية كاسحة في المدى المنظور وحيال دول أو مجموعات دول لا مجال لمنازعات عسكرية معها.
وبهذا المعنى يمكن القول إن العراق ليس هو الموضوع في خلافات قد تبرز بين الولايات المتحدة ودول متوسطة النفوذ. ومع ما في هذا الكلام من جرح للنرجسية لدى النظام العراقي فإن الواضح ان بغداد هي مجرد عنوان لصراعات تتجاوزها وتتجاوز المنطقة وتتناول العلاقة الثنائية بين كل عاصمة على حدة وبين المركز الامبراطوري. ولهذا السبب، بالضبط، تحول سؤال الحرب المتوقعة الى محور من محاور الحياة السياسية الداخلية في معظم بلدان الأرض، وفي معظم التجمعات الاقليمية.
1/2/2003

رجل من ورق
19/08/2008, 21:53
بيرز. لوموند. مجلس



وداعا شارلوت. جاء بك كولن باول من اجل بيعنا سلعة اسمها »اميركا«. قال انه آمن بقدراتك منذ اقناعه ب»انكل بنز«. كلفك تعليب البضاعة وتسويقها. كانت الباكورة مجموعة من الكليبات التلفزيونية. لم تكوني، شارلوت بيريز، موفقة. فهذه الكليبات إما لم تُعرض وإما اثارت الهزء حين عرضت. ثم سحبها من التداول. هاجمك آخرون في الادارة لأنك لم تنجحي في جعل العرب يحبون اميركا. وبعض من انتقدك كان يؤكد ان واشنطن لا تطلب الحب بل الخوف. واثارة الرعب ليست ميزة لديك. لنقل انها ليست ميزة من يريد اكتساب حصة في الاسواق.
لم تنتبهي الى ان اللعبة مغشوشة من البداية. ان درجة الكراهية لسياسة الادارة الحالية شديدة الارتباط بمعرفة حقيقة السياسة الحالية للادارة. ولذلك ليس غريبا ان تكون التظاهرات اكبر حيث الوعي اعلى. ربما كان عليك، بدل الاستقالة، السعي الى اقناع باول بأن »بيع« اميركا لدى الحلفاء الاوروبيين اجدى. لكن شرط ذلك كما قال احد هؤلاء الحلفاء، إزنار الاسباني، كمّ فم دونالد رامسفيلد. وهذه مهمة لا توكل الى خبيرة حملات اعلانية.
***
في فرنسا ضجة. تمد دُور النشر المكتبات بآلاف النسخ يوميا ولكنها تختفي في لحظات. لقد بات معيبا ألا يعرف مواطن ماذا يتضمن كتاب »الوجه المخفي من لوموند«. انها مطالعة اتهامية جارحة بحق صرح من صروح الاعلام الفرنسي والعالمي. وهي جارحة لأنها تطال التركيبة »الحاكمة« في الصحيفة وتتهمها بما لا يقل عن صرف النفوذ، والابتزاز، والانحيازات السياسية الفاقعة، وتزوير الوقائع، والعداء لفرنسا، وعمالة احد افرادها للمخابرات المركزية الاميركية، والتواطؤ مع اصحاب الرساميل... الخ.
ردت »لوموند« على ما اعتبرته محاولة لزعزعتها ولكنها لم تدخل في التفاصيل. واتخذت في سياق ذلك القرار الخاطئ: عدم المشاركة في اي نقاش تلفزيوني يتناولها. غير ان الشاشات التي ذاقت لوعة النقد الذي مارسته الجريدة بحقها اخذت تثأر. لا يمضي يوم الا وتستضيف قناة ضيوفا يؤدبون يومية اعتادوا على الخوف منها.
النقاش الفعلي في خلفية الظاهرة من شقين: إذا كان الإعلام سلطة رقابية رابعة فمن يراقبه؟ هذا اولا. ثانيا، إذا كان الإعلام المكتوب يعطي لنفسه حق النظر في الاعلام المرئي فهل العكس وارد.
***
يبدو أن المجلس الوطني للإعلام في لبنان يريد »ميثاق شرف« يضبط التعاطي مع الحرب المحتملة على العراق. خطوة ثانية ونقع في مطب »لجان الإرشاد والتوجيه«. إن لم يكن التعاطي مع الحدث المتفاعل والمتوقع تعدديا فإن المهنة تفقد بعض شرفها. وإذا أراد المجلس دورا لنفسه في هذا الموضوع او غيره فإنه من السهل »اقتراح« عشرات المهمات التي تنتظر من يقوم بها.
5/3/2003

رجل من ورق
19/08/2008, 21:54
خيارات صوفي



خيارات صوفي
الجندي الواقف عند مدخل معسكر الإبادة يسأل صوفي (في مشهد من فيلم شهير) عما إذا كانت تختار الإبقاء على حياة ابنها أو ابنتها؟ وهو لا يفعل سوى نقل المسؤولية إليها بدعوتها إلى قتل ابنها أو ابنتها.
لو حولت صوفي سؤال الجندي النازي إلى بعض المثقفين العرب لكانوا اقترحوا عليها جوابا من شقين: »تختار«، أولا، تدمير المعسكر، و»تختار«، ثانيا، تأمين رفاهية مؤبدة للقاطنين بجوار غرف الغاز، رفاهية يتوارثونها جيلا بعد جيل.
لقد كان على صوفي أن تعيش التناقض حتى الموت. أن تعيشه بنبل لا تنتقص منه سذاجة الاعتقاد أنه كان في وسعها »التعالي« فوق لحظتها المأساوية ولكنها، لأنها لم تفعل، باتت شريكة في الجريمة.
إن العراقيين والعرب اليوم أمام نسخة جديدة من »خيارات صوفي«.
المعارضة العراقية الكردية لا تستطيع ممارسة رغبتها الأصلية في قيام وطن يضم شتات هذا الشعب الموزع على غير دولة. ولو كان الرأي رأيها لفضلت الوضع القائم اليوم في كردستان. ولقد بدت لفترة، وبعد تجارب مريرة، كمن اقتنع بأن الولايات المتحدة، فضلا عن الجبال، صديق وفيّ. إن هذه المعارضة مضطرة، الآن، إلى »المشاركة« في حرب ضد العراق وهي تدرك، كما يقول قادة فيها، أن الحرب الفعلية قد تكون، غداً، ضد الجيش التركي. هل كان سيزيف كرديا؟
المعارضة العراقية الشيعية المتحالفة مع إيران لا تملك سببا أصليا للود مع الولايات المتحدة. ولكنها قد تجد نفسها، رغما عنها، جزءا من آلة الحرب الأميركية، حتى إذا نجحت هذه الحرب بات العراق كله موطئا للانقضاض على النظام في طهران. عداء هذه المعارضة لصدام حسين قوي، ولكن يمكن الافتراض أن قشعريرة تصيبها وهي تدرك أنها طرف في لعبة تتجاوزها وتهدف إلى إخضاع بلدها لاحتلال أجنبي مديد، ولإعادة إنتاج صيغة للسلطة لا فضيلة لها إلا الطاعة وتسهيل النهب.
وضمن الثنائي أحمد الجلبي كنعان مكية الذي يعبّر، كتابةً، عن مأزقه، فإن الأول قابل للتأقلم أما الثاني فيبدو ملتاعا: يخشى أن تخذل أميركا ما غرسته فيه من قيم فتنصر أعداءها عليه وتسقط من قيمة ما فعله في ربع القرن الأخير. السياسة
الأميركية، بالنسبة إليه، تكاد تكون قضية شخصية.
نحن أمام معارضين مأزومين. منهم من يتردد في الانحياز إلى واشنطن (ولكنه يفعل) ومنهم من يخاف عدم انحياز واشنطن إليه.
تبدو الحرب المحتملة من دون بطل. قد يكون جورج بوش بطل الغلاة. غير أنهم، عالميا وعربيا، أقلية. وفي المقابل، ليس الرئيس العراقي بطلا عند أحد ولو أن صورا له تُرفع في بعض التظاهرات. فعلى ضفة العراق تبدو »القضية« أكبر من أي شيء آخر، لا بل متباينة عن الرمز المفروض عليها.
وبهذا المعنى، فإن رافضي الحرب، والاحتلال بالتالي، هم، أيضا، في مأزق. لنأخذ الرئيس الفرنسي جاك شيراك مثلا. قال ذات مرة إنه يتمنى لو أن صدام يختفي. غير أنه مضى في تجنيد بلاده وعلاقاتها لإعطاء الحل السياسي فرصة. وهو يرتكب، بتصديه للولايات المتحدة، مغامرة قد تكلف فرنسا موقعها في أوروبا والعالم ومصالحها في الشرق الأوسط. فعل ذلك لأنه أدرك أن اللحظة السياسية الحرجة لا تحتمل إلا الموقف »التحليلي« من طبيعة النظام والموقف العملي ضد الحرب الانفرادية.
ويمكن الذهاب أبعد من ذلك.
ففي تحقيق صحافي عن »الدروع البشرية« في العراق، أي عن المواطنين الغربيين القادمين لمحاولة تفادي الحرب، يتبين أن نقاشا جديا يدور. يقول عالم اجتماع نروجي: »نحن هنا لندافع عن الشعب لا عن النظام. وهذا هو تناقضنا«. يضيف أنه يدرك فائدته للنظام ميتاً تحت قصف أميركي أكثر منه حياً. ومع ذلك فإن قراره هو البقاء. لقد أدرك الرجل أن المهمة غير القابلة للتأجيل هي منع حصول الحرب، أو، على الأقل، السعي إلى ذلك. ارتضى ألا يشرط دفاعه عن شعب العراق بالخلاص من النظام لأنه إن مارس هذا الترف، فسيبقى حيث هو ويزيح عقبة، ولو متواضعة، من أمام العدوان والاحتلال.
يقدم هذا السلوك مدخلا إلى تقييم مواقف صادرة عن بيئات عربية تبحث، في الوحل الذي نحن فيه، عن مخاوف لمآزقها وليس عن طرف خيط يقود إلى تصور للمخرج من المأزق العام.
إن الموقف الداعي إلى تنحية رجالات السلطة في العراق كمدخل لمنع الحرب هو، في أحس الأحوال، تهرّب من المواجهة حيث تدور وإغماض العينين عن العنصر الأساسي في المعادلة: ثمة حرب استعمارية على نظام قمعي لأسباب لا علاقة لها بطبيعته بل بمصالح الدول المحاربة. العنصر الأساسي، هنا، هو الحرب والاحتلال ومن غير الجائز إضاعة جهد، الآن، في ما سوى ذلك.
والموقف القائل: »لا للحرب، لا للديكتاتورية« هو نوع من إراحة الضمير لأن هذه الحرب، بالضبط، قائمة ضد هذه الديكتاتورية بالضبط. إن هذا السلوك طفولي بمعنى ما لأنه يرفض وضعيته الدونية من أجل الهرب نحو شعار يتجاهل، في العمق، البؤس الذي يتخبط به العرب والذي يجعل خياراتهم، الواقعية، مشابهة لتلك المعروضة على صوفي.
إن دعوة »التنحية« لا تحرف الجهد فحسب بل تكاد تذهب به نحو التوظيف في سياق مواز للحرب والاحتلال. أما الدعوة إلى رفض الحرب والديكتاتورية معا، وفي اللحظة نفسها، فهي، على عكس ما يعتقد أصحابها، خروج مَرَضي من الحدث لا دخول صحي إليه.
تبقى قضية يُفترض بها أن تقلق ضمائر الذين يعطون لمنع الحرب أولوية: ماذا عن العراقيين الذين عانوا ويعانون؟ لا يمكن لأي نزيه أن يقفز من فوق هذا الموضوع. ولكن، بالمقابل، لا يمكن لهذا الموضوع أن يصادر النقاش لأنه يمنعه، حينئذ، أن يكون مبنيا على تحليل بارد يقول إن أهوال ما بعد الحرب، على الجميع، أقسى من الوضع الراهن.
هل يحل الإشكالات أن يستمر معارضو الحرب والاحتلال في موقفهم العملي معترفين، نظريا، بطبيعة السلطة في العراق، ومعتذرين من ضحاياها؟ ليسوا هم من اختار هذا السلوك. إنه الجندي الواقف عند مدخل معسكر الإبادة.
27/3/2003

رجل من ورق
19/08/2008, 21:55
الإعلام الحربي



ليس سرا ان السفارة الاميركية في بيروت، كما كل سفارة اميركية في العالم، تتصل بوسائل الاعلام لتعرض عليها خدماتها في ما يخص تغطية »الحرب المحتملة« في العراق. اي ان السفارة تقوم بواجبها.
السر هو ان القارئ او المشاهد اللبناني والعربي لا يعرف الكثير عن تجاوب وسائل الاعلام المعنية. سينتظر، لكي يصبح مطلعا، بدء العمليات القتالية ورؤية المراسلين بأزيائهم الكاكية. في غضون ذلك، يُضرب نطاق من السرية حول الشروط التي يضعها الجانب الاميركي على الصحف والتلفزيونات من اجل الموافقة على اعتماد المراسلين ومن معهم.
فواشنطن تدرك، بعد التجربة المرة في فيتنام، وفي ظل ثورة الاتصالات الحالية، ان الاعلام اكثر خطورة من ان يُترك للاعلاميين. وفي المعلومات ان الصحافيين يُفترض بهم مرافقة القوات الاميركية الغازية حصرا، والتزام »ميثاق شرف« يمنعهم من بث ما لا يحصلون على إذن عسكري ببثه من ضابط الموقع. وعلى الضباط ان يعودوا بالتسلسل الهرمي، امام قضايا شائكة، الى دونالد رامسفيلد شخصيا او الى رئيس الاركان ريتشارد مايرز.
ولقد أكمل البنتاغون، حتى الآن، تدريب 232 صحافيا على مهمات شبه قتالية ولكنه توقف عن ذلك لأن الوقت يضغط ولأن »الامن الاعلامي« سيتوفر ميدانيا. وهكذا، فإن مراسلا تلفزيونيا سيجد نفسه امام المعضلة التالية: هل في الامكان توجيه اي انتقاد الى ممارسة جندي اميركي يتولى حراستي شخصيا؟
لقد جرى اختبار هذا الاسلوب في الحرب السابقة على العراق. وكان علينا ان ننتظر صدور عشرات الكتب اللاحقة من اجل معرفة حقيقة ما جرى، علما بأن بعض هذه الكتب فكك، منهجيا، ما كان يُنقل الينا على انه الحقيقة.
ان تعليب التغطية الاعلامية للحرب هو قمة جبل الجليد في خطة محكمة ترمي الى السيطرة على مسرح العمليات الصحافي. فالبنتاغون لا ينوي ترك شيء للصدف. وهو جدد، من اجل ذلك، الاتفاق مع جون ريندون (ريندون غروب) الذي بات معتمده الرسمي منذ عشرين سنة: نيكاراغوا، بناما، البلقان، هايتي، افغانستان، العراق 1 والعراق 2.
وظيفة راندون هي »هندسة الصورة« بالمعنى الاستراتيجي للكلمة. فهو الذي يساعد في انشاء الاذاعات الموجهة ضد العراق. وهو الذي اكتشف »العشيقة الشقراء« لصدام حسين. وهو الذي ساعد كولن باول في عرضه المرئي والمسموع امام مجلس الامن. وهو لا يتوانى عن اختراع أحداث تتم تغطيتها لاحقا وعن ابتداع جمعيات يصبح رأيها مسموعا (»التحالف من اجل العدالة في العراق«).
والرجل منصرف منذ اشهر الى تحضير الحملة المسبقة للحرب والى وضع قواعد العمل الاعلامي اثناءها. وفي العدد الاخير من »لونوفيل ابسرفاتور« انه هو واضع الافكار التمهيدية للعدوان وعلى رأسها »تركيز السجال العام على ضرورة تغيير النظام في بغداد بسرعة«، ومن اساليبها »عمليات سرية لتغيير الرأي العام المتردد« (عرائض، مقالات، تحقيقات، جمعيات وهمية...).
يُستحسن بوسائل الاعلام اللبنانية والعربية ان توضح للمستهلكين نوع الاجابات التي قدمتها الى الادارة الاميركية في ما يخص هذا الموضوع بالذات. ونحن نعرف ان سباقا محموما يحصل الآن من اجل انتزاع موقع نموذجي من »التغطية الكاملة«. ان هذا الموقع قد يدر مالا اعلانيا كثيرا، ولكن المطلوب تحذير المواطنين مما تدفعه المنطقة ثمنا لحصولها على الصورة الاميركية عن الحرب... وهي، بالضرورة، صورة معقمة او وردية!
19/2/2003

رجل من ورق
19/08/2008, 21:55
الشرق الأوسط الكبير: المشترك بين أميركا وأوروبا



الشرق الأوسط الكبير: المشترك بين أميركا وأوروبا
من الأفضل للعالم أن يكون تعددياً. إنه كذلك بمعنى ما وإن كانت الإدارة الأميركية الحالية تمارس انفراداً ملحوظاً في مجالات كثيرة. إلا أن من المفترض أن نلاحظ أن تعددية اليوم، ولو الجزئية، هي غير قطبية الأمس. فهي لا تقوم على امتلاك كل محور أو مركز رسالة عالمية تناهض رسالة يحملها محور أو مركز آخر. وإذا كان من تمايزات سياسية بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مثلاً، فإنها تمايزات تخترق دول الاتحاد كما تخترق السجالات الأميركية كما هو بيّن في الحملة الرئاسية الحالية.
تظهر هذه الحقيقة التعددية هي غير القطبية في ما يسمى المبادرات الأميركية والأوروبية للإصلاح في الشرق الأوسط الكبير. لسنا، إطلاقاً، أمام مشروعين متنافرين كما كان يمكن أن يكون الأمر أيام الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. نحن أمام مشروعين متكاملين مطروحين أصلاً لنقاش أولي في هيئات تضم دول الغرب وتضيف إليها روسيا مرة (قمة الثماني) أو تركيا مرة أخرى (قمة حلف شمال الأطلسي).
إن الجذر المشترك في المبادرتين الأميركية والأوروبية أكبر ممّا قد يتصوّر البعض. هذه بعض محاوره:
أولاً لا يعادي أي من المشروعين النظام الرسمي العربي الراهن. صحيح أن الأوروبيين أكثر تشديداً على »المشاركة« ولكن الصحيح، أيضاً، هو أن هذا ما انتهى إليه الأميركيون بسرعة. لا مجال للكلام عن تهديد للاستقرار الضامن للمصالح الغربية. كل ما في الأمر هو تطعيم الوضع الراهن عبر استحداث أدوات تدخل عليه قدراً بسيطاً من التطوير. وفي الحالتين معاً، وفي الحالة الأميركية تحديداً، لن نجد تعريفاً للسياسات الفعلية التي تعرف المصالح الوطنية والاستراتيجية بما يمكّن من تحديد موقف من هذه السياسات. كل ما نجده هو نوع من القنابل الدخانية التي تتقدم السياسات في ظلها.
ثانياً إن منظومة المبادئ التي يتم التبشير بها واحدة: الديموقراطية، حقوق الإنسان، حكم القانون، الحاكمية الجيدة... إنها المنظومة نفسها التي يُقال في أوروبا وفي الولايات المتحدة إنها في أساس العلاقة الجامعة بينهما.
ثالثاً إن تحرير الاقتصاد حاضر، على قدم المساواة، في المبادرتين: دعم القطاع الخاص، فتح الأسواق، الانضمام إلى منظمة التجارة، حسن التعامل مع المؤسسات النقدية الدولية، تغيير البيئة التشريعية لتصبح حديقة للاستثمار، والأجنبي منه تحديداً، تطوير التعاون البيني، الارتباط بالعولمة. إلخ...
رابعاً البُعد الثقافي واحد في المبادرتين: التسامح، نبذ التعصب والعنصرية، إصلاح الأنظمة التعليمية، تمكين المرأة، الانفتاح على الخارج، زيادة الاعتماد على التكنولوجيات الحديثة في الاقتصاد والاتصال والتعليم، حوار الثقافات، احترام الأقليات والأفراد...
خامساً كذلك تنهض المبادرتان على أسس مشتركة لجهة الدعوة إلى مكافحة الإرهاب بكل أشكاله، وعدم اللجوء إلى العنف لحل المنازعات، واعتماد الاعتراض السلمي حتى على الاحتلال، والتخلي عن أسلحة الدمار الشامل ولو من طرف واحد، وحسن الجوار، إلخ...
يعني ما تقدم أنه عندما تنظر النخب الأوروبية إلى بعيد فإنها لا ترى شرقاً أوسط كبيراً مختلفاً في شيء عن ذلك الذي تراه النخب الأميركية.
ومع ذلك يمكن تعيين نقاط تمايز، العراق وفلسطين أساساً. ولكن، حتى في هذين العنوانين، يبقى الجذر المشترك متيناً.
ففي ما يخص العراق لا خلاف بين الطرفين على ضرورة إنجاح مرحلة ما بعد الحرب التي سبّبت خلافات. لا يمكن لأي أوروبي أن يتمنى فشل المشروع الأميركي لعراق جديد مسالم. إن الاختلاف محصور بدرجة الاستئثار الأميركي بالملف العراقي ويترجم هذا الاختلاف نفسه بأهمية الدور المعطى للأمم المتحدة، وبشروط زيادة استخدام حلف شمال الأطلسي، وبدرجة إشراك العراقيين في العملية السياسية فوراً.
وفي ما يخص فلسطين لا تباين بين الطرفين على أمن إسرائيل وحمايتها، لا بل حقها في التوسع المحدود في الأرض المحتلة عام 67، وكذلك حقها في رفض عودة اللاجئين صيانة لطابعها اليهودي. كذلك لا يتباين الطرفان على إدانة العمل العسكري كأسلوب في المقاومة خاصة عندما يطال مدنيين. وأخيراً ثمة أساس متنام لاعتبار السلطة الفلسطينية فاسدة وغير متحمسة أو غير راغبة في حل.
يبقى أن خلافاً نظرياً يباعد بين الأوروبيين والأميركيين. فالأوائل يعتبرون أن حل النزاع العربي الإسرائيلي شرط للتغيير الكبير في الشرق الأوسط لأنه يسمح بالضغط من أجل ديموقراطية لا تحمل خطر وصول قوى راديكالية. أما الأخيرون فيعتبرون أن النزاع لم يعد يحتل المكانة التي كان يحتلها، وأن في الإمكان تهميشه، وأن هذا، بالضبط، ما يحاولون فعله في العراق بعد احتلاله حيث لا يبدو موقفهم من القضية الفلسطينية مصدر اعتراض عراقي جوهري على سياستهم (ثمة مصادر اعتراض أخرى). يدرك الأميركيون، في الواقع، أن نجاحاً في حل النزاع يسهّل الأمر أمامهم ولكنهم واثقون من قوتهم إلى حد أنهم يرفضون تقدم مشروعهم بهذا الحل. أضف إلى ذلك أن من غير الممكن، من وجهة نظر أميركية، إعطاء ياسر عرفات حق النقض على مشروعهم العراقي.
إن التباعد في الشأن الخاص بالنزاع قابل للتسوية أو، على الأقل، لقدر من التقارب. فبإمكان الولايات المتحدة الموافقة على أن حل النزاع عنصر دفع كما بإمكان الأوروبيين كما جاء في ورقة جوشكا فيشر فك الارتباط جزئياً بين »الإصلاح« والتسوية.
كذلك يمكن للطرفين أن يلتقيا عند الفكرة القائلة بأن حل النزاع مرهون أكثر بما يتوجب على الفلسطينيين (والعرب) فعله لا بما يتوجب على إسرائيل وأرييل شارون. وثمة مؤشرات أوروبية في هذا الاتجاه ليس معروفاً بعد ما إذا كان الحدث الإسباني سيلجمها.
إن ما هو مشترك بين أوروبا وأميركا، وما هو مختلف عليه، وما هو قابل للتسوية يرسم، إلى حد بعيد، المناخ الدولي الذي يتحرك العرب فيه. إنه مناخ لا علاقة له بذلك الذي ساد أيام الاستقطاب الدولي. يفترض أخذ ذلك بالاعتبار في السياسات العربية كلها، الرسمية والشعبية، سواء حيال قضايا مثل العراق وفلسطين، أو حيال قضايا ذات صلة بالوجهة الاقتصادية، والمضمون الاجتماعي لحركات الاعتراض، وتحديد العناوين العريضة لنهضة عربية مأمولة... ومؤجلة!
19/3/2004

رجل من ورق
19/08/2008, 21:56
الشرق الأوسط الكبير: حذار الابتزاز



لم يبقَ مسؤول أميركي نافذ إلا وذكر بالخير تقارير الأمم المتحدة عن التنمية في الشرق الأوسط: جورج بوش، ديك تشيني، دونالد رامسفيلد، كولن باول، كونداليسا رايس، بول وولفويتز... ومع تضاؤل الأمل بالعثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق تتضخم الادعاءات الأميركية بأن الحرب لم تكن تملك هدفاً سوى وضع الجيش في خدمة برنامج الأمم المتحدة للتنمية و»حرقة« واضعي التقارير على الأوضاع المزرية لأمتهم. يبدو النسر العدواني على شاكلة حمامة إنماء. ولقد صاغ أركان الإدارة الأرق الديموقراطي في عبارات متنوعة، وفي مبادرات عديدة، قبل أن تجد صياغتها في مشروع سيطرح الصيف القادم أمام عدد من القمم الغربية والأطلسية.
وفي مقابل هذه الهجمة الإصلاحية الديموقراطية لم يبق مسؤول عربي إلا ورفع عقيرته بالصراخ استنكاراً. لقد بات الزاد اليومي لحكامنا التصريح ضد هذا الخطر الداهم، والتحذير منه، وإبداء الاستعداد لخوض منازلة مصيرية معه. وجرى التركيز، في هذا السياق، على مجموعة من الأفكار والأطروحات. منها، أولاً، أن الإصلاح لا يمكنه أن يستورد من الخارج وأن يقفز فوق »عاداتنا، وتقاليدنا، وتراثنا، وتركيبتنا السكانية، وثقافتنا، وأنماط حياتنا...«. ومنها، ثانياً، أن الغاية من هطول المبادرات الإصلاحية صرف النظر عن الانشغال بقضية فلسطين وشعبها وهذا ما لن تسمح به أنظمة تغفو وتفيق على همّ »القضية المركزية«. ومنها، ثالثاً، أن الحكومات تمارس إصلاحاً »بالقطارة« فليس جائزاً استعجالها لأنها أدرى بما تستطيع شعوبها تحمّله.
لم يتحول هذا السجال إلى حفلة ردح. ولكنه، بالتأكيد، حفلة أكاذيب يُراد لها، من الجانبين، تنفيذ أجندة ابتزاز.
لنأخذ المبادرة الإصلاحية الأميركية. إن من يقرأها يصعب عليه أن يعترض على بند واحد فيها. فهي كناية عن سلة أفكار واقتراحات يصعب رفضها إلا إذا كان المرفوض هو المرسل لا الرسالة. ولكن المشكلة »الوحيدة« معها أن لا علاقة لها بالسياسة الأميركية الفعلية. إن المبادرة في مكان والسياسة في مكان آخر لا تجمع بينهما إلا صلة واهية.
لا شيء، في المبادرة، عن النفط، وتحرير التجارة والأسواق، ضمان الأرجحية الإسرائيلية، ومكافحة الدول المارقة، وإنتاج أنظمة »صديقة«، ومنع بزوغ قوة إقليمية، وتعزيز النفوذ الأميركي على سواه، ونشر القواعد العسكرية، وتنظيم آليات الاستتباع بالأطلسي، ومحاصرة التعبيرات الوطنية بصيغتها القومية أو اليسارية أو الإسلامية... لا شيء من ذلك علماً أن هذه هي، بالضبط، السياسة الأميركية في الشرق الأوسط الكبير. وتعريف هذه السياسة بصفتها كذلك مستقى من عدد لا يحصى من الوثائق الرسمية الأميركية التي يمكن لأي مبتدئ في العلوم السياسية مطالعتها وفهم محتواها.
إن المبادرة الإصلاحية الأميركية هي الضريبة الترويجية للسياسة الأميركية الفعلية. فهذه الأخيرة لا تنوي هز الاستقرار المفيد إطلاقاً، ولا تبغي أكثر من عمليات تجميلية تجريها أنظمة صديقة، وتسعى إلى أن ترعى نشوء نخب مدينة لها بوجودها ودورها. إن السياسة الأميركية الفعلية مسؤولة إلى حد بعيد عن الأوضاع الكارثية التي تدعي المبادرة الرغبة في إصلاحها.
أما الاعتراضات الرسمية العربية على المبادرة فلها قصة أخرى.
كيف تجرؤ أنظمة على الاحتجاج على فرض الإصلاح من الخارج؟ إن معظم حدودنا مفروضة من الخارج، وكذلك مؤسساتنا الرسمية، واقتصادنا يوجهه صندوق النقد. وبعض سياساتنا الخارجية مستأجرة من الخارج. وإسرائيل فُرضت علينا من الخارج وقبلناها. حتى أسامة بن لادن صناعة خارجية، والقوات التي تحمي حكومات هي الأخرى من الخارج. إن كل ما هو مستورد مقبول إلا إذا فاحت منه رائحة إصلاحية.
أما رفض الانشغال عن قضية فلسطين فزعم لا ينطلي على أحد. يكفي أن نراقب يومياً العسف الإسرائيلي ونقارنه بالتجاهل العربي (وأحياناً بالتواطؤ) حتى نستنتج، بسهولة، أن الحجة في غير محلها. غير أنها تصبح وجيهة عند تقديمها بشكل آخر. فالولايات المتحدة تتظاهر بأنها تضع الديموقراطية شرطاً للتسوية باعتبار أن عالماً عربياً ديموقراطياً لن يناهض إسرائيل التي سبقته في الديموقراطية. أما الأنظمة العربية فتعرف أن كل فسحة حرية قابلة للاستغلال من جانب قوى تأخذ عليها، أي على الأنظمة، تخاذلها في نجدة شعب فلسطين وتخلّيها عن أي برنامج وطني. لذا فإنها تميل إلى مطالبة الولايات المتحدة ببذل جهد للتسوية، وهو جهد لا تكلف نفسها به، حتى لا تنشأ أوضاع تهدد، في الوقت نفسه، المصالح الأميركية وركائزها المحلية.
يبقى التلويح بأن الإصلاح جارٍ فلا ضرورة لتسريعه حتى »لا ينفرط العقد« كما قال أحد الرؤساء. هذا موقف أبوي بالمعنيين. بمعنى التقرير عن الشعب نيابة عنه. وبمعنى ضبط وتيرة الإصلاح على وقع مشاريع »التوريث«.
لقد كان مؤسفاً أن إصلاحيين عرباً وقعوا في الفخ الابتزازي الذي نصبته لهم أنظمتهم. لقد قادتهم إلى فتح النار على »المبادرة«، وساعدتهم في ذلك، من أجل أن تقيم ستاراً تمرر من ورائه خضوعها الكامل للسياسة الأميركية. أي أن الحكام العرب راهنوا على وطنية إصلاحيين عرب ورفضهم لكل إملاء خارجي من أجل حماية نهج يقوم على الخضوع للإملاء الخارجي.
لقد كان، ولا يزال، مطلوباً الدفاع عن الحس النقدي والوعي الاعتراضي، وتسخيف الدعوة القائلة إن المطالبة بالتغيير في الأوضاع العربية باتت موضع شبهة لأن هناك، في واشنطن، من يمارس الاستخدام الذرائعي لتقارير التنمية.
10/3/2004

رجل من ورق
19/08/2008, 21:58
شرق بوش... الموسّع



ينوي الرئيس جورج بوش الاستفادة من مناسبات دولية قريبة (قمم الأطلسي، الدول الصناعية الكبرى، الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي) من أجل طرح مبادرات تخص »الشرق الأوسط الموسّع«: مجموعة اقتراحات لنشر الديموقراطية، دور أكبر للتحالف الأطلسي في العراق وأفغانستان...
سيكون في وسع واشنطن البناء على ما أنجز في التسعينيات مع محاولة تعديل تأخذ في الاعتبار ما استجد على سياستها بعد تفجيرات 11 أيلول.
ما الذي أنجز في التسعينيات؟
طوّرت واشنطن تحت عنوان »المبادرة المتوسطية« أو »الحوار المتوسطي« خطة تقحم حلف شمال الأطلسي في علاقات مع دول عربية (مصر، الأردن، الجزائر، تونس، المغرب، موريتانيا) ومع إسرائيل. جاء ذلك في سياق الاندفاع إلى توسيع الحلف شرقاً بضم دول إليه، وفي إطار توقيع عدد من اتفاقيات »الشراكة من أجل السلام«. غير أن ما يميّز »المبادرة المتوسطية للأطلسي« الاعتراف بأنه ليس في الإمكان الذهاب بعيداً في هذا المجال بما يعني ضرورة الاكتفاء بمناورات مشتركة، وبتبادل خبرات، وبتنسيق لأعمال عسكرية ذات وظيفة إنسانية، وبتكثيف الزيارات والتدريب، وبإنشاء لجان مشتركة... إلخ. ولقد أمكن إبقاء هذه العلاقات خارج دائرة الضوء برغم أنها لا تزعم السرية لنفسها، وبالرغم من أن كثافتها كان يفترض أن تثير اهتماماً جدياً.
في موازاة ذلك، وبالتساوق مع المفاوضات الثنائية لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، سعت واشنطن بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، واليابان، وروسيا، وكندا، والمؤسسات المالية الدولية، لتشجيع المفاوضات الإقليمية الخاصة بالتعاون البيئي، والاقتصادي، والمائي، وبتسيير حياة اللاجئين، ونزع السلاح... وأمكن على هامش هذه المفاوضات عقد قمم اقتصادية بحثت في عنوان عريض أطلقه شمعون بيريز »الشرق الأوسط الجديد«.
من امتعض من »الأوسطية« شارك في »المتوسطية« التي بادر إليها الاتحاد الأوروبي، برعاية أميركية غير مباشرة، وعرفت باسم »مسار برشلونة«.
إلى ذلك، حفل عقد التسعينيات بتوقيع معاهدات أمنية واقتصادية ثنائية، فضلاً عن حوارات إقليمية عربية مع تجمعات خارجية. وأخيراً كان لهيئات اقتصادية دولية، من منظمة التجارة إلى صندوق النقد إلى البنك الدولي، دور كبير في عقد صلات متنامية مع دول عربية.
وفي تطور مواز كانت الولايات المتحدة، بعد الحرب الباردة وانفجار أزمات البلقان، تغيّر في تعريفها لمسرح عمليات حلف شمالي الأطلسي وفي مضمون نشاطه: انتقل المسرح نحو الجنوب وباتت التهديدات ذات صلة بالإرهاب، وأسلحة الدمار، والنزاعات الفائقة عن حدودها والمتحولة إلى تهديد إقليمي... وبرزت في وثائق الحلف، في الذكرى الخمسين لتأسيسه، مفاهيم جديدة تقول إن »الشرق الأوسط الموسّع« بات مجال اهتمام أول لحلف شمال الأطلسي.
حصل هذا كله عشية تفجيرات 11 أيلول (حصلت معه أمور أخرى منها التغييرات الهيكلية في بنية الجيش الأميركي وإعادة تموضعه في أوروبا). أي اننا كنا أمام شبكة علاقات شديدة التعقيد تشد بلدان المنطقة إلى الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، و»الناتو«. صحيح أنه يمكن استكشاف تباينات في أنماط العلاقات ولكن الأصح أنها تحاول أن ترسم أفقاً لا محيد عنه للعالم العربي: التسوية مع إسرائيل، الليبرالية الاقتصادية والانفتاح، والارتباط الوثيق بمركز نفوذ غربي أو أكثر.
قرّرت الولايات المتحدة، بعد 11 أيلول، أن العالم العربي الإسلامي هو حاضن التهديدات الموجهة ضدها. ماشاها كثيرون في بعض استنتاجاتها وأيّدوا حربها في أفغانستان. غير أن
خلافات برزت في ما يخص العراق ونظرية الحرب الاستباقية ودعوات التغيير الهيكلي للشرق الأوسط تحت عنوان »الثورة الديموقراطية«. لقد بدا الانفراد الأميركي هو السمة الغالبة في مرحلة ما بعد الحرب الأفغانية. إلا أن هذا الانفراد اكتشف حدوده نتيجة عوامل متعددة: الكلفة المادية والبشرية للحرب في العراق، فوضى ما بعد الاحتلال والمقاومة والمطالبة بدور للأمم المتحدة، ضرورة تطوير النموذج التدخلي في أفغانستان، حيوية إشراك آخرين في مواجهة الأزمات مع كوريا (روسيا، الصين، اليابان) أو مع إيران (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا)... إلخ.
تراجعت واشنطن بعض الشيء تحت وطأة هذه الضغوط. والواضح أن ما سوف تقترحه على حلفائها ينطلق من فرضية تقول إن »الشرق الأوسط الموسّع« مسؤولية أميركية أوروبية. على أن التراجع يريد الاحتفاظ بجوهر ما استجد على السياسة الأميركية في العامين الأخيرين: تعيين شرق أوسط موسّع ومحدد بطريقة عشوائية كمسرح للعمليات خلال المرحلة المقبلة، إشهار مشروع شديد الجذرية في التعاطي معه باسم الديموقراطية، إسقاط الصراع العربي الإسرائيلي من أن يكون عنصراً محدداً في المشاكل والحلول، الارتضاء بأدوار هامشية للحلفاء على قاعدة المشاركة في الأعباء لا المسؤوليات.
19/2/2004

رجل من ورق
19/08/2008, 21:58
1.ك. س. ب.



»أياً كان سوى بوش« (ا. ك. س. ب). هذا هو الشعار الذي يحفّز الناخبين الديموقراطيين الأميركيين على التوجه بكثافة إلى صناديق الاقتراع. وهذا، أيضاً، هو الشعار اللاعب دوراً حاسماً في اختيارهم جون كيري لمنافسة الرئيس الحالي.
لم تنته الانتخابات الفرعية بعد ولكن نتيجتها باتت شبه محسومة. إن سناتور ماساشوستس هو خصم جورج بوش بعد أشهر.
إن »ا. ك. س. ب« هو، إلى حد بعيد، شعار دولي وعربي أيضاً. يمكن، دون خشية المبالغة، القول إن المزاج الأوروبي العام معه. وكذلك الروسي والصيني والأميركي اللاتيني والآسيوي. لا بل ليس مستبعداً أن يكون طوني بلير نفسه يفضل، في العمق، فوز كيري ويحلم أن يستعيد معه العلاقة التي بناها، ذات مرة، مع بيل كلينتون والتي تجاوزت الالتحاق الاستراتيجي لتتضمن أفكاراً، مهما كان الرأي فيها، عن »الطريق الثالث«، ودور الدولة، واليسار »الحديث«، والليبرالية الاجتماعية، وموقع المؤسسات الدولية، والتعاطي مع أزمات الشرق الأوسط، وتأثيرات تحرير التجارة على العلاقات في العالم، إلخ...
إن مواجهة بين بوش وكيري هي، بمعنى ما، مواجهة بين بوش وبلير. لا أكثر من ذلك. ولكن، أيضاً، لا أقل. علماً أن رئيساً أميركياً مثل كيري يدفع بلير إلى إبراز أفضل ما عنده (وهو قليل)، في حين أن رئيساً مثل بوش يدفع بلير إلى إبراز أسوأ ما عنده (وهو كثير).
تدل المعطيات الأولى على أن المقترعين من أصول عربية في الولايات المتحدة تبنوا الشعار الآنف الذكر (ديترويت). ومن دون امتلاك مؤشرات حاسمة يبدو أن المزاج الشعبي العربي يغلّب التخلص من بوش على ما سواه من اعتبارات. وليس مستبعداً أن يكون المزاج الرسمي كذلك خوفاً من الإحراجات الكثيرة التي تسبّبها السياسات القصوى للإدارة الحالية.
إذا كان ما تقدم صحيحاً، وهو صحيح على الأرجح، سنكون أمام بداية ابتعاد عن وعي عربي تقليدي يعتبر أن الجمهوريين أقرب إلى العرب (لمصالح نفطية وغيرها)، وأن الديموقراطيين أقرب إلى إسرائيل (لعلاقة إيديولوجية حميمة، فضلاً عن
المصالح). أي أن هناك من يأخذ العلم بما استجد من تطورات في الولايات المتحدة وإسرائيل والعالم. وأبرز هذه التطورات أن دعم المشروع الصهيوني في طوره التوسعي الراهن يأتي من أوساط اليمين وأقصى اليمين في حين يميل يسار البلدان الغربية إلى التلاقي مع التوجه العربي المعبّر عنه بعرض التسوية بشروط الحد الأدنى.
تدلّل وقائع السياسة الأميركية في المرحلة الأخيرة، بما في ذلك الحملة الانتخابية، تدلّل على هذا التحول. فبوش، الرئيس، يخوض معركته بسياسة شرق أوسطية موغلة في العداء للمصالح العربية: من تهميش القضية الفلسطينية، إلى إلحاقها بالتغيير في العراق، إلى ربطها بمكافحة الإرهاب، إلى إسقاطها لصالح إطلاق يد شارون، إلى تمويت خريطة الطريق، إلى إغفال »رؤية« الدولتين، إلى تأييد فك الارتباط الذي يمكنه أن يعني انتقالاً حاسماً إلى موقع المحافظين الجدد الذين يعتبرون أن قيام دولة فلسطينية عنصر تأجيج للإرهاب لا إخماد له. وإذا كانت الإدارة، تلوّح بالديموقراطية أفقاً انطلاقاً من العراق فإنها لا تعني بذلك إلا التأشير إلى مدى جذرية التطويع الذي تود قيادة المنطقة إليه.
مقابل ذلك عبّر المرشحون الديموقراطيون كلهم (باستثناء جوزف ليبرمان إلى حد ما) عن وجهة مختلفة بعض الشيء. ثمة تنويعات عديدة لديهم ولكن يمكن الدفاع عن الفرضية القائلة إن جون كيري يمثل خطاً وسطاً بين ليبرمان »اليميني« وهوارد دين »اليساري« (فضلاً عن من هم أكثر جذرية من دين).
يقوم هذا الخط الوسط على مجموعة من المحاور: دور أكبر للأمم المتحدة وللحلفاء، تسريع تسليم السلطة للعراقيين بالتراضي، رفض الانسحاب السريع إذا كانت الفوضى بديلاً، التركيز على دور أميركي فعال في الصراع العربي الإسرائيلي يترجم السعي إلى حل »الدولتين« ولا يلقي التبعات كلها على جانب واحد، الدعوة إلى إعطاء الدبلوماسية والمفاوضات فرصة قبل اللجوء إلى العنف...
إن هذه المحاور هي اقتباسات من القليل الذي قاله كيري عن الشرق الأوسط وعن تصوره للسياسة الخارجية الأميركية. غير أنه، بالطبع، قال أشياء أخرى. فهو عبّر عن دعمه الكامل لإسرائيل، وتعاطفه معها، وتمييزه العلاقة الأميركية معها عن أي علاقة مع دولة أخرى في الشرق الأوسط. وهو اعتبر مكافحة الإرهاب واجباً فلسطينياً يسمح بالانضمام إلى الحرب العالمية ضد الإرهاب التي يعتزم المضي فيها بما لا يسمح لبوش الطعن في تراخيه. ومن المقدّر، في الأسابيع القادمة، أن يشدد كيري على كل ما هو مجز في الانتخابات فيزيد من وسطيته الاجتماعية والاقتصادية، ويزداد تقرّباً من مجموعات الضغط القادرة على تجيير أصوات، ويستعيد مرتكزات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط (والعالم) وهي مرتكزات يمكن قول الكثير فيها خاصة لجهة تعارضها مع ما يمكن للعرب أن يعتبروه مصالح حيوية لهم.
... ومع ذلك سيبقى »أياً كان سوى بوش« هو الموقف الأنسب والأقدر على أن يشكل مرشداً لكل من يريد التدخل في انتخابات تهم العالم بأسره وتسمح للولايات المتحدة بتقديم أجوبة أخرى على التحديات الراهنة بما فيها تحديات ما بعد تفجيرات 11 أيلول واحتلال العراق.
12/2/2004

رجل من ورق
19/08/2008, 21:59
مكتب الدمار الشامل



هذه أسماء كوكبة من الأميركيين مع نبذة سريعة عن البعض منهم حيث تقتضي الضرورة.
ريتشارد بيرل، غني عن التعريف. نيو غينغريتش قائد الأكثرية الجمهورية البرلمانية في أواسط التسعينيات، وأحد أقطاب اليمين الأقصى في الحزب، ومن دعاة التحالف مع ليكود، وعضو في مجلس سياسات الدفاع التابع للبنتاغون والذي كان يرأسه بيرل إلى أن أطاحته فضيحة (من الرئاسة لا من العضوية). جيمس وولسي رئيس أسبق لوكالة الاستخبارات المركزية وعضو فعال في أي منتدى يجمع عتاة اليمين الصهيوني في الولايات المتحدة.
مايكل روبين من محللي قضايا الشرق الأوسط في »أميركان انتربرايز« وهي مؤسسة »بحثية« تمثل قلعة من قلاع المحافظين الجدد وتمد الإدارة الحالية بعدد من مسؤولي الصف الثاني والثالث. الكولونيل وليام برونير مساعد، في مرحلة سابقة، لغينغريتش.
ديفيد وورمسر هو أحد واضعي المذكرة الشهيرة عام 96 إلى بنيامين نتنياهو (مع زوجته ميرياف وريتشارد بيرل ودوغلاس فيث). كما أنه من اللوبي العامل على جمع اليمين الإسرائيلي بأكثر التيارات الأميركية محافظة. مايكل معلوف كان أحد مساعدي بيرل في الثمانينيات.
هارولد رود مستقدم إلى الخدمة في البنتاغون من جانب أصدقائه »المدنيين«. يعتبر المستشار الأقرب إلى وولفويتز لشؤون الإسلام، وهو من تلامذة برنارد لويس النجباء إلى حد أن كتاب لويس الأخير »أزمة الإسلام« مهدى إليه بالإسم.
ابرام شولسكي أحد الذين تعرّفوا إلى بيرل أثناء العمل مع السيناتور »الصقري« هنري جاكسون قبل أن ينتقل مع أستاذه (بيرل) إلى إدارة رونالد ريغان. وضع كتباً ومقالات مع غاري شميت الذي يتولى رئاسة »مشروع القرن الأميركي«.
وليام لوتي رئيس مكتب شؤون الشرق الأوسط وجنوب آسيا في وزارة الدفاع تحت إشراف دوغلاس فيث. سبق له العمل مباشرة مع ديك تشيني ومع غينغريتش. لويس ليبي رئيس مكتب
تشيني ومن المناضلين في صفوف اليمين الصهيوني الأميركي. بول وولفويتز غني عن التعريف. أحمد الجلبي كذلك.
ما هو القاسم الجامع بين هذه الأسماء كلها؟
إذا وضعنا الحماسة الفائقة لإسرائيل الليكودية، فإن ما يجمع هذه »الكوكبة« هو الدعوة المبكّرة، أي منذ مطالع التسعينيات، إلى قلب النظام العراقي ولو باحتلال البلد. إن عدد الكتب والدراسات والمذكرات والمحاضرات والمقالات التي وضعها المذكورة أسماؤهم فرادى أو جماعة، والتي »تثبت« امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، وصلاته بالإرهاب على أنواعه وب»القاعدة« تحديداً، أكثر من أن تحصى. نحن أمام جوقة من صناع الرأي اعتبروا، منذ سنوات، أن واحدة من مهماتهم المركزية شن حرب في الشرق الأوسط وإعادة هيكلة المنطقة.
صناع الرأي هؤلاء باتوا في مواقع مؤثرة ضمن الإدارة الحالية بعد خوضهم معارك ضد بيل كلينتون وتراخيه الأخلاقي وإضاعته فرصة الاستفادة القصوى من انكسار موازين القوى في الشرق الأوسط. لا بل يتميّز البعض منهم (أكثرهم) بلومه الشديد لجورج بوش الأب الذي امتنع عن دخول بغداد و»أرغم« إسرائيل على حضور مؤتمر مدريد.
كان يمكن لهذا القاسم المشترك أن يبقى نظرياً. كان يمكن، أيضاً، لأصحابه أن يكونوا موجودين في ثنايا الإدارة الحالية يمارسون قدراً من النفوذ. غير أن الذي حصل هو أكثر من ذلك بكثير.
لقد التقى هؤلاء جميعاً، من دون إضافة أحد أو استبعاد أحد، في هيئة أنشئت داخل وزارة الدفاع وأطلق عليها اسم »مكتب الخطط الخاصة«.
بدأ المكتب بنواة تشكلت غداة تفجيرات 11 أيلول. ففي حين كان الجهد الاستخباري متجهاً نحو ملاحقة »القاعدة« و»طالبان« وأسامة بن لادن كانت هذه النواة تشير بإصبع الاتهام إلى مكان آخر: بغداد. وكانت تفعل ذلك مستفيدة من أمور عدة:
1 التقارب الذي حصل في قمة السلطة بين المحافظين التقليديين (تشيني، ورامسفيلد) وبين المحافظين الجدد والذي قاد إلى نجاح التيار الإيديولوجي في إعطاء معنى للحدث وفي صياغة رد: جاءنا الهجوم من العالم العربي الإسلامي وعلينا أن نرد بحرب شاملة.
2 بقاء الملف العراقي معلقاً ووجود نظام له »بروفيل« يصلح لإعطائه مثلاً في خصوم تريد الولايات المتحدة الخلاص منهم وبمعونة دولية إذا أمكن.
3 توفر عملاء عراقيين من نوع أحمد الجلبي قادرين على تأمين معلومات ومعطيات تؤكد »الخطر المتعاظم والداهم« لناحية أسلحة الدمار أو الصلة مع الإرهاب.
4 تردد الأجهزة الاستخبارية الرسمية والمحترفة في تقديم وقود معلوماتية تبرّر القرار المتخذ سابقاً، وكذلك ميل كولن باول إلى المبالغة في ضرورة اعتماد التعددية على حساب الانفراد.
تطوّرت هذه النواة لتصبح »مكتب الخطط الخاصة«. وباتت المهمة تجاوز عمل الأجهزة من أجل مد المسؤولين بتقارير غير مدقق فيها تساعدهم في تنفيذ ما بات واضحاً أنه قرار مسبق. وبناء على ذلك جرت عملية »تطهير« في أجهزة البنتاغون، وتمّ استبعاد المحترفين، وتولى »المحافظ الجديد« جون بولتون أمر التغطية من موقعه في وزارة الخارجية.
يعني ذلك أن عدداً من مسعوري الحرب كانوا مسؤولين إلى حد بعيد، وبدعم من قمة هرم السلطة، على توفير الأجواء المناسبة لتبرير الغزو. ولقد أدى ذلك إلى احتكاكات عديدة سواء مع الاستخبارات المركزية أو مع وزارة الخارجية.
إن مناسبة التطرق إلى عمل هذا المكتب هو إعلان بوش تشكيل لجنة تحقيق في تقديرات المخابرات عشية الحرب. إن أي تحقيق لا يبدأ باستجواب الأشخاص المشار إليهم سينتهي إلى خاتمة أسوأ من التي خلص إليها اللورد هاتون.
10/2/2004

رجل من ورق
19/08/2008, 22:00
هنا الوردة ...



هنا الوردة ...
يكاد المرء لا يصدق ما يقرأ. إن هناك، بين القادة الفلسطينيين، من يدعو العرب والمسلمين إلى »ترك مأزق شارون ليتطور«. يبدو أن صاحب الدعوة هو الذي لا يصدق ما يقرأ، أو أنه يقرأ بنظارات خاصة لا تجعله يرى الانهيارات المتتالية في العالمين العربي والإسلامي. ينتمي الرجل إلى فئة مبتلية تعتبر كل إنجاز لخصم مشكلة وقع فيها. وآخر إنجازات هذه الفئة ما تطلق عليه »الاعتقال المأزقي«، قاصدة بذلك الهزيمة الساحقة التي أنزلها صدام حسين بالمحتلين الأميركيين بتركهم يقبضون عليه. لسنا ندري ما كان الوصف لو أن جورج بوش هو المسجون، ولكننا ندري أن المتفائلين الأبديين اغتبطوا كثيراً لسقوط بغداد بالطريقة المعروفة معتبرين أن ذلك فخ سيطبق على الأميركيين ويشكّل محطة تالية في الهزائم النازلة بهم منذ »أم المعارك«!
الاتهام الذي يوجهه القائد الفلسطيني المشار إليه يطال من يرمي طوق نجاة لشارون فيقبل بعدم إدانة وثيقة جنيف ويمتنع عن النضال لإسقاطها، أو يتعاطى مع »خريطة الطريق« ولا يرى فيها مجرد وسيلة لإنقاذ إسرائيل مما تتخبط فيه.
ليست المشكلة في تعريض كل من »الوثيقة« أو »الخريطة« لنقد. المشكلة هي في الإيحاء بأن كلاً منهما، أو أياً منهماً، وسيلة فك الطوق عن رئيس الوزراء الإسرائيلي المحاصر، والموضوع في موقع دفاعي.
إن اقتراح محاربة شارون بتركيز جهد فلسطيني وعربي ضد »وثيقة جنيف« حراثة في البحر. لا »يفيد« ذلك إلا في تشتيت الصف وتحويل الفوضى إلى ما يشبه الفتنة. وهو يقوم على فرضية أن الكل صهاينة لا فرق بين أقصى اليسار وأقصى اليمين، بمعنى أن الشعارات والسياسات يجب أن تتبرأ من ملامسة دنس التمييز والبناء عليه. وهو لا يقيم أي وزن لرأي عام عالمي أو فلسطيني يرى القطاع الأكبر منه سياسة شارون المتطرفة عبر »الوثيقة«. أي ان هذا الاقتراح هو الذي يمنع مشكلة الاحتلال من أن تتطور لأنه يساعد في تبرئة المحتل، ويوفر للإدارة الأميركية فرصة التملص من تحديد مضمون ل»رؤية« الدولتين.
إن الدعوة لتركيز جهد لإسقاط »الوثيقة« حرب على طواحين
هواء. إنها عملية انتحارية، ليس ضد رواد مقهى هذه المرة، وإنما ضد وهم هو وهم بالضبط لأنه أرقى، بما لا يقاس، من موازين القوى الحالية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
إن ما قد لا نخسره بالحرب ضد الوثيقة نخسره في الحرب ضد الخريطة. يؤدي ذلك إلى مزيد من الهشاشة في وضع السلطة الوطنية، وإلى استعداء اليسار والوسط في إسرائيل، أي إلى إرغامهما على الالتحاق أو مزيد من الالتحاق بالخيار الشاروني، وإلى توتير العلاقة مع المجموعة الدولية، رأياً عاماً وحكومات، وإلى تجاهل مجلس الأمن وقراره الأخير، وإلى توفير ذريعة إضافية لبوش من أجل الانفكاك عن وثيقة يدّعي رعايتها...
إن ما يبدأ خطأً في التقدير ينتهي خطيئة في السياسة. وخطأ التقدير هو اعتبار شارون في مأزق والحركة الوطنية الفلسطينية في حالة هجوم. ينتج عن ذلك اعتبار يقول إن إسقاط »الوثيقة« و»الخريطة« هو بعض من فائض الجهد لا يحول دون إحكام الحصار على شارون، وقطع مخارج الطوارئ عليه، وسجنه في دوامة معضلته لأن تباشير القضاء النهائي عليه وعلى دولته أقرب منالاً من أي وقت آخر.
هذا هو تمام العدمية. وهذا هو المدخل المفضل لتبديد ما تبقى من قوة في خوض معارك لا هي ضرورية ولا حاسمة. إن انتقاد وثيقة جنيف ممكن. وكذلك امتلاك وجهة نظر في الخريطة وأوالياتها وأوجه قصورها. غير أنه من غير الجائز وصول عمى الألوان إلى حيث يستحيل التمييز بين مخاطر »حلول افتراضية« وبين خطر »الحل« الواقعي، الملموس، الجاري تنفيذه.
الوردة هنا فلنرقص هنا، قال أحدهم. ويقصد أنه يتعيّن تحديد الحيز الحقيقي للمواجهة في كل لحظة. وهذا الحيز في فلسطين، اليوم، هو ضد المشروع الشاروني المعبَّر عنه في »خطاب هرتسليا«.
فشارون يضع الفلسطينيين أمام الخيار: إما الحرب الأهلية وإما »الحل« من طرف واحد. أي إما تطبيق القراءة الإسرائيلية ل»خريطة الطريق« وإما مواجهة خطر ضم قسم من الضفة، وتقطيع أوصال الأرض المحتلة، وضرب التواصل بين الفلسطينيين، وقطع صلتهم بالمحيط إلا لأغراض التجارة أو... الرحيل. ولا يمضي يوم، ولا تمضي ساعة، إلا وهذا الحل الزاحف يتقدم من دون أن يبدو في الأفق إجماع على مقاومته وإحباطه. ثمة معارضة جذرية تطلق النار في غير اتجاه، وثمة حكومة تدفن رأسها في الرمال مراهنة على »اجتماع مثمر«، وثمة وسطاء يتصرفون وكأن سحر الكلام دواء، وثمة »رعاة« يعرفون أنهم يكذبون عندما يكتشفون جملة في كلام شارون توحي بأنه وفيّ لالتزامات.
لقد بات صعباً تصديق دعاة »ترك مأزق شارون يتطور«. لا يعقل أن هؤلاء لا يعاينون الخط البياني التنازلي للوضع العربي والإسلامي وللوضع الدولي المحيط بقضيتهم. ولا يعقل أن ما يميّزهم عن البن لادنية يتعطل في هذا المجال بالضبط. إن التفسير الممكن لسلوكهم هو أنهم يضبطون سياساتهم على إيقاع الصراع على السلطة وليس على إيقاع الصراع على الأرض. فإذا وضعنا هذه الفرضية في الحسبان بات ممكناً فهم الكثير مما يبدو متناقضاً وغير عقلاني. فهل هذا هو الموضوع فعلاً؟ وهل هذا ما يختبئ وراء الكلام الكبير؟ هل هذه هي الوردة التي يرقصون حولها؟ هل يدركون الآثار »التعبوية« لخطابهم؟ هل يعتذرون من أحمد ماهر؟
23/12/2003

رجل من ورق
19/08/2008, 22:01
الأزمة ووعي الأزمة



مَن زعم أننا عصاة على التغيير؟ ها نحن ننسف طقوسنا. اعتدنا أن ننتقل من الهزيمة إلى النقد الذاتي إلى الإعداد لهزيمة تالية. ها نحن نعبر من الهزيمة إلى الهزيمة من دون عناء التوقف عند محطة المراجعة متظاهرين أننا نحاول التفكير في »معنى النكبة«.
نركب قطار التدهور السريع. ونستغني به عن أكذوبة الاحتفال بجلد النفس التي هي، في حقيقة الأمر، قابلة الأفكار الأكثر تردياً. نستعيض عن جمال عبد الناصر بمسوخ الناصرية. وننحط من صدام حسين إلى »بقايا نظام صدام حسين«. ونحوّل فيصل القاسم إلى أمين عام الجماهير العربية، وأسامة بن لادن إلى مرشد روحي، وعنتر الزوابري إلى قائد ميداني، وسعد الدين إبراهيم إلى رمز النضال الديموقراطي، و»بنك المدينة« إلى نموذج الليبرالية الاقتصادية، والانتخابات بالتعيين إلى ممارسة للتعددية، وتفجير المقاهي إلى تحرير فلسطين، إلخ...
لقد بتنا نرى في الاحتلالات التي نتعرض لها مآزق المحتلين، وفي تصعيد عنف الاحتلال تصديراً لمآزق الخصوم حتى لم يعد مفهوماً لماذا جرى اختيارنا هدفاً تنصب عليه هذه »المآزق«، خاصة إذا ازدادت تأزماً.
إن كل إطلاق نار، عندنا، مقاومة. وكل مأدبة منتدى فكري. وكل رصف للكلمات مطالعة. وكل
إنفاق استثمار. وكل رشوة إعادة توزيع للثروة. وكل إحسان مكرمة. وكل إضراب عطلة. وكل تنظيم عشيرة. وكل طائفة أمة. وكل بلد عربي جار خصم. وكل مؤسسة مشتركة مزحة. وكل حاكم إله. وكل برلمان غرفة صدى. وكل فكرة سلعة. وكل جامعة حضانة.
نعجز عن إنتاج وعي مطابق يكون جذرياً في واقعيته، ممسكاً بالأحوال في جوهرها ومجاريها العميقة، مميزاً بين القشرة التي نراها والعمارة التي تحملها، محلياً قدر الواجب وكونياً قدر الإمكان، مدركاً مشاكل اللحظة وتحديات المستقبل، محدداً المعضلات الملموسة والعلاجات المتاحة.
لم يسبق أن كان التفارق بهذا الهول بين الأزمة ووعي الأزمة. ولم يسبق أن كان المواطن العادي، إلى هذا الحد، متفرجاً، أو مزنراً بحزام ناسف، أو متسكعاً عند أبواب دعاة »التجسير« و»ردم الهوة« المتشكلين بصفتهم الجناح المتنوّر المزعوم لسلطات عربية موغلة في الفشل.
لا يطال الفشل تحقيق إنجاز فحسب. إنه فشل في أن نكون فاشلين. وفي وقت تنحو نزعة الرفض نحو دموية عبثية، تتحول محاولة التكيّف إلى مسخرة، خاصة عندما يقال فيها إنها نتيجة قرارات حرة وليست رعباً، ممّا كان يسميه ياسين الحافظ، »خبطة الحذاء الاستعماري فوق جباهنا«.
لم ننجح في شيء ضد الولايات المتحدة. غير أننا سننجح في إحباط »الديموقراطية القادمة فوق دبابة«. وسينشأ تواطؤ غريب من نوعه بين ثلاثة أقانيم: كذب الادعاء الأميركي، رعونة العداء لما هو أجنبي، الحالة ما قبل المجتمعية لبلداننا. والأفق الواضح لهذا النجاح دوام المستنقع الحالي وزيادة البعوض الطنان فوقه.
... وقل إن هناك من أخذ على أدونيس رثاءه لبيروت. وقل إن هناك من يستطيع الادعاء بأن فورة المعارض، والمنتديات، والزيارات، والأيام الثقافية، وأسابيع السينما أو المسرح، تشكّل حياة جديرة بهذا الاسم تغني وتراكم وتحدث تقدماً.
لو تأخرت محاضرة أدونيس شهراً لكانت الأيام زوّدته بالكثير. ولكن المأساة هو أن الزاد نفسه كان استخدم من قبل الذين اعترضوا عليه وساجلوه من أجل المفاخرة بما تحتضنه المدينة سواء كان إنتاجاً محلياً أو انعكاساً للرثاثة العربية.
لكل الحق في امتلاك وجهة نظر نقدية في بيروت ومآلها، أي لكل الحق في مخالفة ما قاله الشاعر وكاد يعتذر عنه. ولكن ما لا يجوز تمريره هو هذا الخلط الغريب بين نشاطية تفوح لها رائحة المباخر وبين هموم أصلية، عميقة، يتم التعبير عنها بعيداً عن قصور المؤتمرات. ويكاد المرء يقول إن العلنية تهمة أو انها حمّالة تهمة. فلا شيء يرجى من الاحتفال، والأبهة، والفخامة، والاستعراض، ومآدب التكريم، وتحويل المآسي إلى عنصر... ترفيهي. لا شيء يرجى إلا الإدراك أن انحطاطنا ووعينا يسيران في خطين متوازيين، ومتعارضين فوق ذلك!
6/12/2003

رجل من ورق
19/08/2008, 22:01
»جنيف« ... حاجة فرنسية



تسبّب »مبادرة جنيف« مشكلة فلسطينية. وتشكّل إحراجاً لإسرائيل الليكودية. وتطرح تحدياً على واشنطن يُرغم كولن باول على تذكير من يهمه الأمر »أنا وزير خارجية الولايات المتحدة« حتى لا يتصرف معه أرييل شارون وكأنه وزير خارجيته.
إلا أن »مبادرة جنيف«، التي لن تقدم حلاً فورياً للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، تجعل الأوروبيين سعداء. أكثر من ذلك أنها تبدو مثل حاجة فرنسية داخلية ملحّة.
منذ اندلاع الانتفاضة الثانية وثمة شيء يحصل في فرنسا. فشبان الهجرة، وهم بالملايين، يتماهون مع شبان الأرض المحتلة. يعبّرون عن غضبهم، واحتقاناتهم، ورفضهم للتمييز ضدهم، وضيقهم بالغيتوات التي يعيشون فيها، بالاتجاه نحو انطواء إتني قد ينفجر غضباً ضد أجهزة السلطة، أو ضد المحلات التجارية، أو ضد مواطنين يهود.
يحصل ذلك في ظل انطواء مماثل يصعد بين الأخيرين ويجعلهم يغلّبون يهودية معينة على الانتماء إلى الجمهورية، خاصة عندما تبدو لهم متجاهلة لمخاوفهم أو مقصّرة في حمايتهم. ولا يتردد قطاع من هؤلاء في التماهي مع سياسات أرييل شارون، ورفض أي انتقاد لها، وتقديمها بصفتها الخيار الوحيد المتاح لرد التهديد الوجودي الذي تتعرض له »الدولة اليهودية الوحيدة في العالم«.
وينمو، في هذا السياق، صراع جديد على موقع الضحية. فالشبان العرب والمسلمون يعتبرون أنفسهم موضع اضطهاد وعنصرية يرون لهما صورة يومية مضخمة في ما يحصل في فلسطين. ويرد الشبان اليهود، أو شبان يهود، بأنهم يُحشرون في موقع الأقلية المطاردة تماماً كما هي حال إسرائيل في »البحر العربي« المحيط بها.
وفي حين يقول الأوائل إن »الإسلاموفوبيا« هي السمة الأولى للوضع الفرنسي الراهن، يقول الأخيرون إن انبعاث اللاسامية هو الخطر الأول لاتصاله بشياطين الماضي الفرنسي ولارتفاع درجة الخطر في هذه »الشياطين« عن تلك الموجودة في الماضي الكولونيالي.
تدخلت عناصر كثيرة في تسعير هذا التوتر.
لقد اندفع مسؤولون إسرائيليون إلى تصنيف فرنسا بأنها البلد الأكثر عداءً لليهود في أوروبا. وتأسّس على ذلك مطالبة هؤلاء
بالهجرة وعرض المساعدات عليهم في حال قرّروا الانتقال إلى أرض ميعادهم. ووصلت المبالغات، هنا، إلى حد استوجب ردوداً من يهود فرنسيين يرفضون هذا الخيار ويصلون إلى حد تحميل سياسة شارون بعض المسؤولية عمّا يحصل ل»الدياسبورا«.
ولوحظ أن مثقفين فرنسيين، من الحريصين جداً على متانة العلاقات الأوروبية الأميركية، ومن المحتجين على موقف جاك شيراك في حرب العراق، وعلى ما يعتبرونه انحيازاً إلى الجانب الفلسطيني، لوحظ أن هؤلاء طبّقوا على النزاع الفلسطيني الإسرائيلي النظريات السائدة حالياً عن خطر الإرهاب وضرورة محاربته، وصمتوا عن قول كلام نقدي في حق الحكومة اليمينية في إسرائيل. ولم يجد هؤلاء تبريراً لعزلتهم في بيئتهم إلا تحميل الإعلام مسؤولية الترويج لصورة مزورة عن النزاع.
ثمة مثقفون يهود بين هؤلاء طبعاً. ولكنهم، في هذا المجال، صدروا عن موقف لا علاقة له بهذا الانتماء وإنما بتصوّر أعم لما يجب أن يكون عليه الموقف الغربي من التهديد الأصولي الإسلامي خالطين بين برجي نيويورك ومخيم جنين.
تداخل هذا الجو المؤدي إلى تقوقع مع قضايا أخرى من نوع مشكلة الحجاب من أجل أن تجد فرنسا نفسها مهددة بمخاطر تراجع المثال الجمهوري، والعودة القوية للطوائف والجماعات ما دون الوطنية، وهو أمر يجب وضعه في إطار التهديدات الأصلية لفكرة الدولة الأمة المتمثلة في العولمة، وتحويل بعض السيادة إلى أوروبا، وتعزيز اللامركزية على حساب العاصمة.
لا يمكن الإطلالة على الموقف الفرنسي من مبادرة جنيف إلا على قاعدة هذه الخلفية، وهي خلفية تجعل دعم المبادرة حاجة وطنية داخلية.
ليس الحديث هنا عن موقف الدولة الفرنسية فحسب. فهذه لم تُحدث مفاجأة بما فعلت. فالمعروف أنها مع حل متوافق عليه، ومع تصوّر لمضمون الحل قريب لما ورد في الوثيقة، ومع اتخاذ مسافة عن شارون تخدم، في ما تخدم، رد التحية له على مواقف كثيرة بينها الاحتقار الذي يعامل به مندوبي أوروبا، والفيتو الذي يضعه على أي لقاء بياسر عرفات.
إن الحديث هنا هو عن النخبة الفرنسية والرأي العام الفرنسي.
لقد أدى »استيراد النزاع الشرق الأوسطي« إلى فرنسا، وتداخله مع قضايا العولمة والعولمة البديلة، والانغلاقات المذهبية والطوائفية، وإعادة تموضع القوى السياسية الفرنسية حياله، ووفرة الإنتاج الفكري، ومحاولات توسيع مجال تهمة »اللاسامية« لتطال كل انتقاد لإسرائيل، واندماج النقاشات حول فلسطين بتلك الخاصة بحرب العراق بتلك الخاصة بمصير العلاقات الأوروبية الأوروبية ومع الولايات المتحدة، وانفجار قضية الحجاب... إلخ. أدى ذلك كله إلى نوع من »الحرب الداخلية الباردة والمنخفضة التوتر«.
وبدا، لفترة، أن النصاب السياسي والثقافي المؤمّن لانتقاد شارون لا يكفيه موازنة ذلك بالهجوم اللاذع والمحق على العمليات ضد مدنيين إسرائيليين. كان لا بد من أن يتوازن نقد شارون بتأييد لتيار إسرائيلي آخر حتى لا تبدو مواقف فرنسية صباً للزيت فوق نار »الحرب« الفلسطينية الإسرائيلية. وجاءت مبادرة جنيف، بالمشاركة الإسرائيلية فيها، هدية من السماء.
لقد سمحت بإطلاق مبادرات أهلية كثيرة داعية إلى دعمها ورعايتها وتبنيها وجعلها جزءاً من السياسة الخارجية الفرنسية في حين أنها، في الواقع، ضرورة داخلية (لا بأس في ذلك، وربما كان أفضل). ومن يقرأ، اليوم، العرائض الفرنسية المؤيدة للمبادرة، فسيفاجأ بتواقيع لأشخاص أمضوا السنوات الأخيرة في سجالات حادة ضد بعضهم تبادلوا خلالها اتهامات في منتهى الخطورة. ومن الواضح، جداً، أن وظيفة المبادرة تبريد الأجواء المحتقنة في فرنسا، وتوليد توافقات تمتص التوترات، والسعي نحو هدنة عربية إسلامية يهودية تنعكس على المناخ العام.
لقد حاول بعض المنضمين بحماسة إلى تأييد المبادرة، تقديمها بصفتها وثيقة ضد شارون وعرفات على قدم المساواة. غير أن ذلك يبدو تبريراً من أجل تغطية انسحابهم من الزاوية التي حشرهم فيها صمتهم عن رئيس الوزراء الإسرائيلي وارتكاباته ولو أنهم، حتى إشعار آخر، سيرفضون الاعتراف بذلك.
لقد تسبّبت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في تصديع مشروع عمل عربي يهودي مشترك في فرنسا تحت عنوان مكافحة العنصرية. وأوصلت الانتفاضة الثانية الصدع إلى حافة خطيرة لأنها طرحت سؤال المواطنية والقيم الكونية ضد الانغلاق الطوائفي.
ثم جاءت المبادرة لتوجد مخرجاً يسمح بالتأسيس لوئام ما، لوئام يعيش عبره الفرنسيون صيغة التعايش بين يوسي بيلين وياسر عبد ربه، وهي ليست بالضرورة الأفق الأكثر احتمالاً لما قد يعيشه الإسرائيليون والفلسطينيون.
أي إنجاز أكثر من وضع ألين فينكلكروت وبيار أندريه تاغييف إلى جانب طارق رمضان وباسكال بونيفاس!
2/12/2003

رجل من ورق
19/08/2008, 22:02
وورمسر أو »الحرب الحتمية«



»إذا كان على الولايات المتحدة أن تبقى كلاعب كبير في المنطقة، وإذا كان على إسرائيل الاستمرار كأمة، فعلى الجانبين واجب التفكير في الإقدام على ما لا مهرب منه: الحرب«! فالحرب، وحدها، »تحوّل الأزمة إلى فرصة«.
قائل هذا الكلام هو ديفيد وورمسر. نشره في صيف 2001 أي قبل أيام قليلة على تفجيرات 11 أيلول. الحرب التي كان يدعو إليها لاحتفاظ أميركا بموقعها وبمجرد استمرار إسرائيل جاءت إليه وتحولت الأزمة، فعلاً، إلى فرصة.
خبر صغير نشرته الصحف قبل أيام. انتقل ديفيد وورمسر من العمل مع »الصقر الليكودي« جون بولتون (راجع الشهادة في »محاسبة سوريا«) في وزارة الخارجية إلى العمل مع من لا يقل »صقرية« و»ليكودية« لويس ليبي مدير مكتب نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني. سيكون مسؤولاً في وظيفته الجديدة عن ملف الشرق الأوسط. وسيكون محاوره في مجلس الأمن القومي التابع لجورج بوش المدعو إليوت أبرامز أحد أبرز المثقفين اليمينيين اليهود المتميّز بأطروحاته حول حيوية التحالف مع الأصوليين المسيحيين لما فيه أمن... إسرائيل.
* * *
وورمسر كثير الكتابة. له عدد من الكتب وإطلالات تلفزيونية أكثر من أن تحصى. إن مطالعة لأدبياته تستوجب التوقف حيال المقال الذي نشره صيف 2001 في مجلة »الشؤون الأمنية الدولية« الصادرة عن »المعهد اليهودي لشؤون الأمن الوطني«. ليس في التوقف أي اعتباط. المقال خلاصة تفكير الرجل وتفكير الشبكة التي يعمل في إطارها والتي تحتل مواقع نافذة في الإدارة.
إن الاعتذار عن الإطالة واجب ولكن هذا ملخص يحاول أن يكون دقيقاً لأطروحات الرجل.
يعتبر، صيف 2001، أنه لا بد من »إعادة النظر بالسياسة الشرق الأوسطية« في ضوء تفجر الانتفاضة الفلسطينية رداً على عقد كامل من العجز الأميركي والإسرائيلي. »نحن أمام منعطف«، يقول وورمسر، تماماً كما كان الوضع في 1939 حين اتضح فشل أميركا وبريطانيا في استثمار الانتصار الذي تحقق في الحرب العالمية الأولى. بعد الحرب العالمية الثانية طبقت النخبة البريطانية على الشرق الأوسط سياستها السابقة فتراجعت وتخلت عن المشروع الصهيوني. فشلت في أن تلاحظ التطابق الكامل بين كثافة العداء للصهيونية ودرجة الاستبداد والتعاطف مع النازيين ثم السوفيات. لقد أدى تخلي بريطانيا عن إسرائيل إلى طردها من الشرق الأوسط! (أغرب تفسير ممكن للعدوان الثلاثي في 56 ونتائجه).
ورثت السياسة الأميركية، في البداية، الأساليب البريطانية إلى أن انتبهت إلى أنها مع إسرائيل في معركة واحدة، معركة الأمم الحرة ضد الاستبداد.
لقد بدأ عقد التسعينيات، يقول وورمسر، بهيمنة أميركية إقليمية وبتفوّق إسرائيلي في الشرق الأوسط. غير أن العقد انتهى والولايات المتحدة على حافة أن تُطرد وإسرائيل في أزمة عسكرية ووجودية. ولقد حصل ذلك لأنهما اعتقدتا أن الكراهية لهما عائدة إلى ظلم ارتكبتاه وليس إلى السلوك الاستبدادي لخصومهما. فالعداء لهما من طبيعة الأنظمة العربية وهو يزداد بازدياد الاستبداد.
يعتبر وورمسر أن إسرائيل هزمت الجيوش العربية 5 مرات: 48، 56، 67، 70، 73. ولكنها لم تستثمر انتصاراتها فحصلت على هدنات مديدة فقط. الحرب الوحيدة النموذجية، بهذا المعنى، هي الغزو الإسرائيلي للبنان في 1982 حيث استكملت إسرائيل
تدمير منظمة التحرير بدل الاكتفاء بالإضرار بها. ويمضي وورمسر ليعتبر أن الثمانينيات هو، بمعنى ما، عقد ذهبي افتتح بالغزو واختتم بضرب العراق. هذان الانتصاران الإسرائيلي والأميركي جعلا العرب يقتربون من إسرائيل وأميركا. لقد »اصطفت الأمم لتسالم« وبدا أن النصر المشترك آخذ بصياغة المنطقة مع انتقال الراديكاليين العرب، بأطيافهم كافة، إلى الهامش.
غير أن الكارثة، في رأي وورمسر، هي أن تل أبيب وواشنطن لم تفهما انتصارهما وتخلتا عنه. وقعتا في خديعة الاعتقاد بأنهما تسبّبان الكراهية فسعتا إلى إصلاح الأمر ورفع الظلم واستجداء العطف. لقد أخطأت الولايات المتحدة بحق إيران فلم تنقضّ عليها. وأخطأت بحق العراق فاكتفت بحصار متراجع. ولكن الخطأ الأكبر هو ارتكاب »خرافة أوسلو«. لقد اقتنعت إسرائيل، يسارها، أن الظلم الذي أنزل بالفلسطينيين هو القوة الدافعة للنزاع. فبادرت إلى »أبلسة« قوتها، وغرقت في يوتوبيا الحل والتسوية. وغفلت عن الحقيقة القائلة »إن القوة المتفوقة يمكن استخدامها لزعزعة أسس القومية العربية الراديكالية والأصولية الإسلامية«.
نشأ وهم يعتبر أن التخلي عن ثمرة الانتصار في 67 هو المدخل إلى حل. والأنكى من ذلك، في عرف وورمسر، أن التخلي لم يكن معروضاً على الأردن وإنما باسم »تلبية التطلعات الوطنية الفلسطينية«. ففي رأيه أن مجرد الاعتراف بحقوق متساوية للفلسطينيين يشرّع الاعتقاد الفلسطيني بأن وجود إسرائيل نفسه جريمة وسطو.
يلوم وورمسر »أميركا كلينتون« على مشاركتها في الأخطاء، ولومها إسرائيل على تعثر التسوية، واعتناقها »خرافة حل الأزمات« عبر تشجيع »معسكرات سلام« تبحث عن قواسم مشتركة. ويتهم قادة الولايات المتحدة وإسرائيل العمالية بأنهم أوهموا أنفسهم أنهم يكتبون قواعد جديدة للتاريخ غير أن التاريخ انتصر، وانتصاره يقود الطرفين نحو هاوية.
اتفاق أوسلو، إذاً، والفشل الأميركي في إيران والعراق هما أصل البلاء لأنهما أنعشا القوى الاستبدادية المعادية. وبناء عليه فإن الحرب »التي كانت منذ أشهر غير واردة تبدو اليوم حتمية«. يختم وورمسر ناطقاً باسم الأميركيين والإسرائيليين »بما أننا محكومون بالكراهية لما نحن عليه ولما هم عليه فإننا محكومون بالحرب إلى حين توجيه ضربة قاصمة إلى مراكز الراديكالية والحقد: دمشق، بغداد، طرابلس، طهران، غزة.« والأمل أنه، بعد هذه الضربة ستبدو محاربة أميركا وإسرائيل بمثابة انتحار!
* * *
يمكن اعتبار ما تقدم أحد أفضل العروض لمعنى سياسة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة المتحالفين مع أقصى اليمين الصهيوني. فديفيد وورمسر ليس وحده. إنه جزء من تيار موجود في مراكز بحث، ومعاهد دراسات، ومواقع صحافية، والأهم من ذلك في صلب الإدارة.
إنه مقرّب جداً من ريتشارد بيرل (عملا في أميركان أنتربرايز) وكتب الثاني مقدمة كتاب الأول (1999) حول ضرورة شن الحرب على العراق. وزوجة وورمسر، ميرياف، أنشأت موقع »ممري« على أنترنت بالتعاون مع الكولونيل احتياط في الجيش الإسرائيلي يغال كارمون. وهي مديرة دراسات الشرق الأوسط في معهد هدسون وترتبط، مع زوجها، بصلات قوية مع جماعة معهد واشنطن التابع للوبي الإسرائيلي، كما مع جماعة »منتدى الشرق الأوسط« الذي يديره الغني عن التعريف دانيال بايبس (وليام كريستول عضو في المنتدى). ومن بين منشورات »المنتدى« هناك »النشرة الاستخباراتية للشرق الأوسط« المعدة بالتعاون مع ضباط سابقين إسرائيليين ومع »لجنة لبنان الحر« التي تشكل طرفاً يحاول أن يكون فاعلاً في »محاسبة سوريا«.
المعروف عن وورمسر هجومه الدائم على المملكة العربية السعودية ومصر، وصلاته القوية بأحمد الجلبي (والمؤتمر الوطني العراقي) الذي حاول تنظيم لقاءات له مع مسؤولين إسرائيليين كما ساعده في اختراق الكونغرس. غير أن وورمسر يكاد يكون متخصصاً في التحريض ضد سوريا، ككيان، وليس فقط ضد السياسة السورية. وهو يسند دعوته إلى خروجها من لبنان على عداء مكين لفكرة الاتحاد العربي المسؤولة، في رأيه، عن الكوارث كلها.
* * *
لقد ارتقى وورمسر درجة في سلم الإدارة. والمغزى من ذلك أن هناك، في واشنطن، من يريد توجيه رسالة إلى العرب تتبنى المنطق الشاروني: ما لم يحل بالقوة يحل بالمزيد من القوة. لقد كانت الحرب حتمية في رأي وورمسر عشية أيلول 2001. أما وقد اندلعت فلا بد من المضي فيها.
24/10/2003