كان... واختها لجنة ميليس
خالص عزمي
20 ديسمبر 2005
يقولون: ما شأني ولبنان كلمـــــا تغنيت فيه جن في الشعر شيطــاني
فقلت : هبوني فخر بغداد محتدا فمن غير لبنان رعاني وربانــــي
ومن غير لبنان شكوت فرق لـي ومن غير لبنان بكيت فواسـانـــي
ومن غير لبنان اذا ما وهبتـــــه حياتي ؛ أحال الارز قبرا فواراني
( الشاعر العراقي حافظ جميل)
في الثمانينات من القرن الماضي توكلت في دعوى اغتيال شخص كانت مهمته تعقب متهمين بالسرقة في وضح النهار وذلك بأن تابعوا تحركاته مدة تزيد على اسبوع ؛ فلما ظفرو به اردوه قتيلا باربعة عيارات نارية اصابته بالرأس والصدر ولاذوا بالفرار في ازقة ضيقة لا تبعد كثيرا عن مركز شرطة المنطقة . فلما اوكلتني اسرة المغدور بالدعوى سرت فيها بدءا من التحقيق الابتدائي؛ مرورا بمرحلة التحقيق امام القاضي المختص . ودونت في الاضبار الخاصة جميع ما وقعت عليه من ملابسات وتشابك واسباب ودوافع الاغتيال ؛ وبينما كنت في مكتبي وانا في غمرة العمل مر بذهني ما حدثني به صديقي المستشار المصري الدكتور محمد توفيق مصطفي ونحن نزور بعض المحاكم في القاهرة لاطلع على اسلوب سير المرافعات اثناء النظر في الدعاوى الحقوقية او الجنائية في الخمسينات من القرن الماضي؛ حيث قال : لقد استمعت الى بعض الوقائع الجنائية في محكمتين مختلفتين ؛ و كلها تدور في فلك واحد هو ( القتل مع سبق الاصرار والترصد ) ولكن الاختلاف يكمن من حيث المكان والزمان والدوافع والعادات والتقاليد التي ادت الى هذه الجريمة دون تلك ؛ ان المهم في مثل هذه الدعاوى وغيرها هو مراجعة السوابق القضائية المتقاربة في الموضوع والهدف ؛ قد يكون ذلك متعبا للمحامي ولكنه سيكون مجزيا اثناء السير في الدعوى تحقيقا او اثناء مواجهة الشهود او تهيئة الدفاع ثم طلب الحكم بما يكون مناسبا تبعا لذلك .
في اليوم التالي راجعت محكمة التميز وأخذت ارا جع السوابق القضائية المتقاربه في وقائعها مع دعواي من حيث الباعث الجنائي والوقائع التفصيلية والتنفيذية في موقع الجريمة ؛ واسلوب التحقيق ... ثم قرار المحكمة المختصة بالموضوع .؛ وقراري الاستئناف والتمييز ... الخ فأفدت من ذلك حبش استقيت معلومات دقيقة كانت مجزية حقا لدعواي ؛ فضلا عن رفدها دفاعي بكثير من الاسانيد وا لنصوص القانونية و المعلومات والوقائع ذات العلاقة بصلب الدعوى ؛ بحيث ادى كل ذلك الى صدور قرار قضائي متين أويد استئنافا وصدق تمييزا وتصحيحا .
عرضت هذه المقدمة لكي اتوصل مع القاري الى ما تعانيه مهمة لجنة ميليس وهي تحقق في قضية اغتيال االشهيد الحريري ..؛ من ناحيتين اثنتين هما: ـ
الاولى ـ صعوبة العثور على تحقيقات دولية دقيقة كسابقة قضائية في مواضيع الاغتيالات السياسية في المنطقة العربية ؛ وذلك لخلو السجل الدولي من قرار لمجلس الامن يبيح التدخل المباشر في التحقيق محليا ؛يحيث يصبح بامكان لجنة ميليس الرجوع اليه والافادة من وقائع ذلك السجل فيما لوكانت قد جرت تحقيقات في اغتيالات سابقة على ذات المستوى من الشرعية والاوامر الدولية الصارمة ؛ من مجلس الامن كما هي الحال في هذه الوقائع..
الثانية ــ ان صعوبة التحقيق تتأتى بالدرجة الاولى من الضغوط الدولية التي تعنى باتهام بعض الاطراف اكثر من عنايتها بالعثور على الجناة الحقيقين ؛اضافة الى توجيه التحقيق نحو انجاز الاتهام بسرعة ؛ والابتعاد عن التعمق بالتحقيق ضمن اطار الحرفية والخبرة القضائية والتي تهتم بالمباديءأ القانونية االتي تنص على ان ( المتهم بريء حتى تثبت ادانته ) و ( ان لا اجتهاد في معرض النص ) و ( وليس للقاضي ان يحكم بحسب علمه )... الخ
ان تكثيف التحقيق حول اغتيال الشهيد الحريري ــوهو تلك القامة الوطنية اللبنانية الشامخة في العطاء ــ؛ كان ولم يزل من صيغ العدالة الاساسية التي كنا نحلم بها كقانونيين ؛ والتي تهدف الى اجراء تحقيقات معمقة؛ تستند على قاعدة متينة من الرعاية والعناية الدولية التي تعنى بقضايا الاغتيالات الواسعة التي جرت على الساحة العربية خلال فترة طويلة من الزمن وبخاصة ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث تأسست الامم المتحدة ومجلس الامن .ومنظمات حقوق الانسان التي وضعت في ديباجاتها وعناوينها الرئيسة رعاية وحماية الانسان من كل ما يتهدده بغض النظر عن الجنس واللون والعقيدة ... الخ
ان هذا الموقف الصحيح والصلب الذي تتخذه امريكا تجاه اغتيال الشهيد الحريري وربما ستتخذه حيال اغتيال الراحل جبران تويني قريبا ، لا نجد له موقفا شبيها من قبل (هذه الام الرؤوم) التي يفترض بها الا تمايز بين ما يحدث في هذه البقعة او تلك بخاصة حينما تكون( تلك) اقرب اليها من حبل الوريد كالعراق مثلا ؛ الذي يقع تحت احتلالها المباشر ومسؤولياتها طبقا للقانون الدولي ومعاهدة جنيف الرابعة بالذات
لقد كان هناك اكثر من اغتيال واحد في اكثر من بلد عربي ولم نشاهد( لأخت) لجنة ميليس موقعا في تلك الاحداث!
لقد اغتيل عدد من المسؤولين في العراق والذي جاء اغلبهم مع الاحتلال وتحت كنفه اوغيرهم ممن يحسبون واقعا وقانونا تحت حمايته الامنية ؛ وبغض النظرعن اسباب ودوافع الاغتيال ا واستحقاقاتها فان الامثلة التالية خير شاهد على ذلك التمايز الامريكي الواضح: ــ
1 ــ سيرجو دي ميلو ـ ممثل الامين العام للامم المتحدة : اغتيل في تفجيرا ت ضخمة لبناية الامم المتحدة في بغداد بتاريخ 19 آب / اغسطوس / 2003 مع 24 شخصا من منتسبي الامم المتحدة وحراسها .
2 ــ السيد محمد باقر الحكيم : ــ اغتيل بسيارة متفجرات امام ضريح الامام على بن ابي طالب ( عٍ ) بتاريخ 29 آب / / مع 86 \ 2003 مع 86 من حراسه وزوار العتبات المقدسة (
3 ــ عقيلة الهاشمي ــ عضو مجلس الحكم : ـ اغتيلت يوم 25 ايلول / سبتمبر / 2003 حيث اطلق عليها الرصاص فنقلت الى مستشفى ا احد قواعد الاحتلال العسكري في بغداد و اجريت لها عملية جراحية وتوفيت هناك .
4 ــ عز الدين سليم : ــ ( عبد الزهرة عثمان محمد ) رئيس مجلس الحكم : اغتيل بسيارة مفخخة عند بوابة قلعة الخضراء بتاريخ 17/ مايس / مايو /2004 .
وهناك عشرات من الاساتذة وكبار المسؤولين من عسكريين ومدنيين اغتيلوا تحت راية الاحتلال وسمعه وبصره ولم تطلب امريكا من الامم التحدة ولا مجلس الامن التدخل الحازم والعاجل للاقتصاص من الجناة !!! او حتى طبقا لاسلوب حكايات الفارس النبيل روبن هود الذي كان يقاتل بشرف دفاعاعن المظلومين اوالتابعين او اللائذين به !!
من حقك ايها القاريء اللبيب التعقيب بان ( موضوعنا ينصب اساسا على لبنان فما لنا واغتيالات اخرى خارجة عن الصدد ) فأجيبك بأن القلم قد شط بي كما هي عادة الشعراء ؛ فمعذرة .... ولنعد ادراجنا الى ذات الموضوع :
لقد اغتيلت شخصيات لبنانية كبيرة ايضا ؛ وكانت امريكا ولم تزل معنية تماما بكل صغيرة وكبيرة مما يدور في العالم وبخاصة ما يتعلق منه بالشرق الاوسط ( صغيره وكبيره) ؛ فلم نرها تحرك ساكنا ؛ غير ما يمليه عليها العرف من شجب واستنكار وارسال التعازي ؛ فهي لم تطلب تدخلا دوليا ولا اقليميا ولا مشاركة في التحقيق
لا مباشرة ولا عن طريق مجلس الامن ؛ وخذ هذه الامثلة دليلا على صحة القول : ــ
1 ــ كمال جنبلاط : ـ زعيم سياسي ورئيس حزب ووزير ونائب : اغتيل في 16/ آذار / مارس/ 1977 على مدخل بلدة دير دوريت ( الشوف ) مع مرافقيه حافظ الغصيني وفوزي رشيد .
2 ـ بشير الجميل : ــ رئيس الجمهورية اللبنانية : اغتيل بعبوة ناسفة زرعت في الطابق الاول من مبنى الكتائب في منطقة الاشرفية بتاريخ 14/ ايلول / سبتمبر / 1982.
3ـ رشيد كرامي : ــ رئيس وزراء لبنان : ــ اغتيل بقنبلة وضعت تحت كرسيه فأنفجرت في طائرة هيلوكوبتر تابعة للجيش اللبناني كانت تقله من طرابلس الى بيروت بتاريخ 1 / حزيران / يونيه / 1987 .
؛ فلم تقم امريكا باي فعل فوري وجاد تجاه اغتيال زعامات لبنانية بارزة لها مراكزها هي الاخرى؛ اذ لم تطلب تدخل مجلس الامن لاصدار قرار باجراء التحقيق ولااوعزت الى منظمة اقليمية او حتى لجنة صغيرة للمشاركة في التحقيقات في حين ان من بين المغتالين ايضا ( رئيس جمهورية ؛ ورئيس وزراء ) .... !!
ومعذرة مرة اخرى فسأتطرق الى شخصية غير لبنانية ذات علاقة وطيدة بالمقياس الاميركي ذي المعايير المزدوجة
التي اصبحت مألوفة وعادية في مفهومه الاخلاقي؛ انها شخصية ضخمة تحدت كثيرا من الدول والشعوب العربية ونالت كثيرا من القدح والذم بسبب مواقفها القريبة جدا من الموقف الامريكي ؛ الا وهي شخصية الرئيس انور السادات الذي اغتيل يوم 6 اكتوبر عام 1981 بوابل من الرصاص وهو على منصة العرض العسكري ...
والسؤال المطروح : اذا كانت امريكا شديدة الوفاء لاصدقائها و قادرة على عمل المعجزات ..ألم يكن حريا بها ان تطلب من مجلس الامن اصدار قرار دولي لتكوين لجنة للتحقيق كلجنة ميليس ؛ تقديرا لصديقها الحميم وتأكيدا لاواصر الصداقة والاحترام أو..... ردا للجميل على اقل تقدير !!!
وتأسيسا على ذلك ...فقد اصبح من حق المواطن العربي ان يتسآءل ( وهو متشكك بالدوافع والاسباب الخفية ) عن سرهذا التشدد والاصرار على ضرورة الاسراع في التحقيق الدولي مهما كانت المواقف والدفوع وكذلك التأكيدعلى ضرورة مراجعة كل حرف في تقرير مييلس والايعاز بتنفيذه حرفيا ؟! وكأن الشهيد الرئيس الحريري هو الشخصية الوحيدة التي اغتيلت على ارض لبنان ومن اجل لبنان ؟!! ؛.ان تقيرنا العميق لمدى اهتمام مجلس الامن بحادث الاغتيال المروع لذلك الانسان الفذ يجب ألا يعمي ابصارنا عن البحث الدائم عن الاسرار المعقدة والمتشابكة من وراء هذاالموقف الاميركي غير المسبوق .
ان الكشف عن جناية اغتيال الرئيس الحريري وبالامس النائب جبري تويني ؛ تستأهل اكثر من لجنة تحقيق بل ومحكمة جنائية دولية خاصة ايضا ؛وذلك لاهمية كشف الحقيقة بكل ابعادها . والاهم ان تصبح سابقة قضائية يعتد بها على صعيدي التحقيق والقضاء الدوليين .
ومجدا للشاعر الكبير عمر ابو ريشة حيث قال :
اخلعوها أجلاد رقش الافاعي قد عرفنا ماذا ورا الأجلاد
أيها الكلاب الى حينا أنتم وكل كلاب الأرض مدعوون ...
فتفضلوا ومعكم سكاكينكم وشوككم وأدواتكم
منكم الجبن والفعل ومنا الدم واللحم