أبو النسيم
03/08/2005, 20:00
كنت طفلا عندما أندلعت الحرب الأهلية في لبنان ولم أفهم حينها لماذا اندلعت، وكبرت وأنا أتابع مسلسل القتل والدمار ولازلت لاأفهم لماذا كان المزاح ثقيلا جدا (يذكرني بمزحات أبو لزقه في مسلسل أبوسليم الشهير آنذاك ) لدرجة أن ربع لبنان الباقي يبكي على ثلاثة أرباعه الميت والمصاب والمهجر.
أذكر أشياء كثيرة عن تلك الفترة، واذا كان البعض يذكر حوادث الاغتيالات والقتل على الهوية وذبح الأبرياء و تشريد الأطفال والنساء،فان ما أتذكره أنا يختلف تماما عن هذا.
أيقظنا والدي في ساعة متأخرة من الليل وقال عندنا ضيوف وعليكم أن تناموا في غرفة واحدة. نفذنا الأوامر دون تردد وحشرنا أنفسنا أنا وأخوتي في تلك الغرفة،اذ نام البعض في سريرين كبيرين وافترش البعض الآخر ارض الغرفة للنوم. وأذكر أني سألت والدي لماذا لانأخذ الضيوف لبيت جدي الملاصق لبيتنا و الفارغ فردّ : بيت جدك كمان مليان ضيوف. لم نتذمر بل أذكر أن أ حد أخوتي الكبار قال ضاحكا: صرنا متل أوتيل، وكان رد أبي : البيت الضيق بيوساع ألف صديق.
أفقنا (هذا اذا اعتبرنا أننا نمنا أصلا) باكرا مع عودة أبي من الكرم وبيده سلة من العنب والتين،واذ ظننت أننا على وشك التلذذ بوجبة الصباح لكن أحلامي سرعان ما تبخرت وأنا أرى والدي يتجه بالسلة للأفواه الجائعة والمتعبة من الضيوف.
تعارفنا وأصبحنا كعائلة واحدة،يلعب أولادهم معنا ويذهبون الى نفس المدرسة اذ قبلوا دون شروط فتقاسموا معنا الماء والصندويش وعرايس الجبنة والزعتر كما الكتب والدفاتر وصفوف المدرسة.
تعلموا منا وتعلمنا منهم فاختلطت المو السورية بالمش اللبنانية لدرجة أنه يصعب على الغريب معرفة من هو ابن مرمريتا السوري ومن هو ابن مرمريتا اللبناني.
كان في صفنا عددا ليس قليلا من أبنا ء مرمريتا اللبنانيين وكذلك كان هنالك العديد منهم في حارتنا. درسنا معا خارطة بلاد الشام وغنينا معا بلاد العرب أوطاني وأذكر أننا أيضا تعلمنا النشيد الوطني اللبناني كلنا للوطن كما تعلموا هم نشيد سوريا الوطني حماة الديار. لعبنا في المدرسة معا وفي الحارة أيضا، وصعدنا الجبل برفقتهم وهبطوا الوادي برفقتنا مرات ومرات .
ولطالما أقمنا حفلات شي العرانيس معا أو الجريدة( شي الحمص ) وكذلك اللعب بالدحل (غلل)و بالمستخباي وبكرة القدم.وأيضا طالما صعدنا معا أشجار المشمش في دارنا و أشجار الصنوبر في بستاننا المجاور لبيتنا فنتقاسم مانقطف ونوفر بعضه لأهلنا. كان معظم سائقي سيارات التكاسي من لبنان،وكيف لي أن أنسى كيف كانوا يأتوننا بالخبز اللبناني الرقيق والطيب كلما سمحت لهم الظروف بزيارة لبنان وأقول زيارة لأنهم أحسوا أن مرمريتا هي بلدتهم وسوريا هي وطنهم.
وفي الصف كانوا ينافسوننا لابل يتفوقون علينا أحيانا لاسيما باللغات الأجنبية، بينما كنا الأفضل دائما في اللغة العربية.
لم أكن أدرك أن ذلك كان فقط لفترة قصيرة،اذ بقي بعضهم لأسابيع وبعضهم لشهور وقلة منهم لسنين،حتى أنني رأيت بعضهم في الجامعة أيضا.
عندما ترك قسم منهم مرمريتا عائدين لطرابلس والكورة والجبل وزحلةوبعلبك و بيروت ومن مختلف المناطق و الطوائف، أدركت أن الزمن يسرق منا ذكريات جميلة قد لا يسمح المستقبل حتى بتطويرها أو باستمرارها. كانوا يودعوننا بالبكاء وبالسعادة معا. وأذكر أنني عدت الى البيت في أحد الأيام قلقا اذ لم أر جوزيف و علي اللبنانيين في المدرسة، ولما أخبرت والدتي قالت لي أنهما وعائلتهما توقفا للوداع ولم أكن بالمنزل وأعطتني كرة قدم تركها لي علي كذكرى وبعض الغلل تركهم جوزيف لي أيضا لأنه كان قد ربحهم مني من قبل.
بكيت كثيرا على وداعهم وشفقة منه علي، أخبرني والدي بأن من واجبي أن أفرح لأن الظروف قد تحسنت وبأنهم عادوا لبيوتهم سالمين ووعدني بأن يصحبني لزيارتهم حالما تتوقف الحرب.
عندما ذهبت الى الباحة التي طالما لعبنا فيها معا،أنا وجوزيف وعلي وجدت هذه العبارة على الجدار وضمن قلب مرسوم بالأحمر: سوريا - لبنان- محبة. ولقد كانت تلك الكلمات لاتزال على ذلك الجدار حتى آخر يوم لي في بلدتي.
لم يغب أصدقاء الأمس من بالي حتى في غربتي وكلما التقيت بلبناني مغترب أسأله ان كان يعرفهم أو يعرف على الأقل ان كانوا أحياء. انتظرت طويلا حتى صادفت من يعرف أصدقاء الطفولة، وفرحت جدا جدا. الله سأقوم هذا الصيف بزيارة بلدي وسأفاجئ أحبة الزمان الغابر بزيارة ستكون أجمل ما حلمت به لسنين. عندما كلمت صديقتي اللبنانية التي تعرفهما أنني ذاهب لهذه الغاية وأني عقدت العزم على السفر سألتني بقلق : هل حقا تريد الذهاب للبنان ? أجبت ولما لا?
فقالت : طول بالك،ألا تقرأ الصحف والجرائد? قلت ولكن ذلك ثرثرة فارغة، ثم أنا لي أصدقاء وأريد رؤيتهم،وتعرفين أن لا علاقة لي بالسياسة. فردت: كانت هذه نصيحتي، عليك أن تفكر أكثر وبجدية.
عدت لنفسي وفكرت، ترى هل سيرجمونني كما فعلوا ببعض ركاب السيارات والباصات السورية في الأسابيع الماضية? محتمل وماذا يمنعهم ?قلت في نفسي، وهل من هوجموا ورجموا كان مختلفين عني ?بالطبع لا.
ياالهي اذن لا أستطيع الذهاب !! أنا فعلا خائف ولكني بريء قال صوت في داخلي ،وسرعان ماأتى الجواب وهل الذين قتلوا في الأسابيع الماضية مجرمون ( متلك متلهم). ولكن ولكن..أين أولئك الذين أيقظونا في منتصف الليل وأخذوا أسرتنا و ناموا في غرف نومنا وأكلوا من بستاننا و شاركونا الحارة والمدرسة والطريق ? أين هم الآن ? أنا كفرد من هذا الشعب تألمت معهم يوم عانوا وقاسمتهم الرغيف يوم جاعوا، أنا من هذا الشعب الذي احتضنهم ففتح مساجده وكنائسه لهم من جميع طوائفهم ومناطقهم. أنا لا أعداء لي هناك لأنه لا أعداء لهم هنا .
ياالله..ماذا حل بنا..?هل حقا يكرهوننا لهذه الدرجة ..?شعبهم يقتل شعبنا?
لن أذهب..أنا فعلا خائف..لكن ذلك لن يمنعني من رؤية أصدقاء الأمس..سأهاتفهم من سوريا وسأذكرهم بنفسي وسأعزمهم على المجيء لزيارتي في بلدتي وسأقول صراحة أنا خائف من المجيء اليكم،ولكن لا خطر عليكم ان أتيتم أنتم فالشعب الذي أحبكم بالأمس وأنتم تتراشقون القذائف هو نفسه الشعب الذي يحبكم الآن وأنتم تتراشقون الاتهامات والشتائم والقبل.
وسأعلنها بقلب كبير كقلب كل السوريين،لاتتقاتلوا مرة أخرى رجاء،فان دماءكم عزيزة علينا. ولكن ان حدث وتقاتلتم بلغة السلاح -لا قدر الله- مرة أخرى فلاتنسوا أن غرف النوم جاهزة لكم لتناموا، وكرومنا بانتظاركم لتأكلوا ومدارسنا ستستقبل أطفالكم مجانا وقلوبنا فداكم. هكذا الانسان السوري، عراب الحضارة،و رسول المحبة،يعض جراحه وينظر أبدا للمصلحة العليا كأب حكيم وكأم حنون .وستأتي الأيام عندما سيتمنى كل عربي أن يكون سوريا لأن السوري الذي أطلق شراع الحرف الأول من حضارة أوغاريت سيكتب أيضا الحرف الأول في كرامة هذا الشرق الذي لا يركع الا لله.
والى كل الذين حملوا الحجر الأول لرجمنا، نسامحكم لأنكم لاتدرون ماذا تفعلون.
ملطوش طبعا
أذكر أشياء كثيرة عن تلك الفترة، واذا كان البعض يذكر حوادث الاغتيالات والقتل على الهوية وذبح الأبرياء و تشريد الأطفال والنساء،فان ما أتذكره أنا يختلف تماما عن هذا.
أيقظنا والدي في ساعة متأخرة من الليل وقال عندنا ضيوف وعليكم أن تناموا في غرفة واحدة. نفذنا الأوامر دون تردد وحشرنا أنفسنا أنا وأخوتي في تلك الغرفة،اذ نام البعض في سريرين كبيرين وافترش البعض الآخر ارض الغرفة للنوم. وأذكر أني سألت والدي لماذا لانأخذ الضيوف لبيت جدي الملاصق لبيتنا و الفارغ فردّ : بيت جدك كمان مليان ضيوف. لم نتذمر بل أذكر أن أ حد أخوتي الكبار قال ضاحكا: صرنا متل أوتيل، وكان رد أبي : البيت الضيق بيوساع ألف صديق.
أفقنا (هذا اذا اعتبرنا أننا نمنا أصلا) باكرا مع عودة أبي من الكرم وبيده سلة من العنب والتين،واذ ظننت أننا على وشك التلذذ بوجبة الصباح لكن أحلامي سرعان ما تبخرت وأنا أرى والدي يتجه بالسلة للأفواه الجائعة والمتعبة من الضيوف.
تعارفنا وأصبحنا كعائلة واحدة،يلعب أولادهم معنا ويذهبون الى نفس المدرسة اذ قبلوا دون شروط فتقاسموا معنا الماء والصندويش وعرايس الجبنة والزعتر كما الكتب والدفاتر وصفوف المدرسة.
تعلموا منا وتعلمنا منهم فاختلطت المو السورية بالمش اللبنانية لدرجة أنه يصعب على الغريب معرفة من هو ابن مرمريتا السوري ومن هو ابن مرمريتا اللبناني.
كان في صفنا عددا ليس قليلا من أبنا ء مرمريتا اللبنانيين وكذلك كان هنالك العديد منهم في حارتنا. درسنا معا خارطة بلاد الشام وغنينا معا بلاد العرب أوطاني وأذكر أننا أيضا تعلمنا النشيد الوطني اللبناني كلنا للوطن كما تعلموا هم نشيد سوريا الوطني حماة الديار. لعبنا في المدرسة معا وفي الحارة أيضا، وصعدنا الجبل برفقتهم وهبطوا الوادي برفقتنا مرات ومرات .
ولطالما أقمنا حفلات شي العرانيس معا أو الجريدة( شي الحمص ) وكذلك اللعب بالدحل (غلل)و بالمستخباي وبكرة القدم.وأيضا طالما صعدنا معا أشجار المشمش في دارنا و أشجار الصنوبر في بستاننا المجاور لبيتنا فنتقاسم مانقطف ونوفر بعضه لأهلنا. كان معظم سائقي سيارات التكاسي من لبنان،وكيف لي أن أنسى كيف كانوا يأتوننا بالخبز اللبناني الرقيق والطيب كلما سمحت لهم الظروف بزيارة لبنان وأقول زيارة لأنهم أحسوا أن مرمريتا هي بلدتهم وسوريا هي وطنهم.
وفي الصف كانوا ينافسوننا لابل يتفوقون علينا أحيانا لاسيما باللغات الأجنبية، بينما كنا الأفضل دائما في اللغة العربية.
لم أكن أدرك أن ذلك كان فقط لفترة قصيرة،اذ بقي بعضهم لأسابيع وبعضهم لشهور وقلة منهم لسنين،حتى أنني رأيت بعضهم في الجامعة أيضا.
عندما ترك قسم منهم مرمريتا عائدين لطرابلس والكورة والجبل وزحلةوبعلبك و بيروت ومن مختلف المناطق و الطوائف، أدركت أن الزمن يسرق منا ذكريات جميلة قد لا يسمح المستقبل حتى بتطويرها أو باستمرارها. كانوا يودعوننا بالبكاء وبالسعادة معا. وأذكر أنني عدت الى البيت في أحد الأيام قلقا اذ لم أر جوزيف و علي اللبنانيين في المدرسة، ولما أخبرت والدتي قالت لي أنهما وعائلتهما توقفا للوداع ولم أكن بالمنزل وأعطتني كرة قدم تركها لي علي كذكرى وبعض الغلل تركهم جوزيف لي أيضا لأنه كان قد ربحهم مني من قبل.
بكيت كثيرا على وداعهم وشفقة منه علي، أخبرني والدي بأن من واجبي أن أفرح لأن الظروف قد تحسنت وبأنهم عادوا لبيوتهم سالمين ووعدني بأن يصحبني لزيارتهم حالما تتوقف الحرب.
عندما ذهبت الى الباحة التي طالما لعبنا فيها معا،أنا وجوزيف وعلي وجدت هذه العبارة على الجدار وضمن قلب مرسوم بالأحمر: سوريا - لبنان- محبة. ولقد كانت تلك الكلمات لاتزال على ذلك الجدار حتى آخر يوم لي في بلدتي.
لم يغب أصدقاء الأمس من بالي حتى في غربتي وكلما التقيت بلبناني مغترب أسأله ان كان يعرفهم أو يعرف على الأقل ان كانوا أحياء. انتظرت طويلا حتى صادفت من يعرف أصدقاء الطفولة، وفرحت جدا جدا. الله سأقوم هذا الصيف بزيارة بلدي وسأفاجئ أحبة الزمان الغابر بزيارة ستكون أجمل ما حلمت به لسنين. عندما كلمت صديقتي اللبنانية التي تعرفهما أنني ذاهب لهذه الغاية وأني عقدت العزم على السفر سألتني بقلق : هل حقا تريد الذهاب للبنان ? أجبت ولما لا?
فقالت : طول بالك،ألا تقرأ الصحف والجرائد? قلت ولكن ذلك ثرثرة فارغة، ثم أنا لي أصدقاء وأريد رؤيتهم،وتعرفين أن لا علاقة لي بالسياسة. فردت: كانت هذه نصيحتي، عليك أن تفكر أكثر وبجدية.
عدت لنفسي وفكرت، ترى هل سيرجمونني كما فعلوا ببعض ركاب السيارات والباصات السورية في الأسابيع الماضية? محتمل وماذا يمنعهم ?قلت في نفسي، وهل من هوجموا ورجموا كان مختلفين عني ?بالطبع لا.
ياالهي اذن لا أستطيع الذهاب !! أنا فعلا خائف ولكني بريء قال صوت في داخلي ،وسرعان ماأتى الجواب وهل الذين قتلوا في الأسابيع الماضية مجرمون ( متلك متلهم). ولكن ولكن..أين أولئك الذين أيقظونا في منتصف الليل وأخذوا أسرتنا و ناموا في غرف نومنا وأكلوا من بستاننا و شاركونا الحارة والمدرسة والطريق ? أين هم الآن ? أنا كفرد من هذا الشعب تألمت معهم يوم عانوا وقاسمتهم الرغيف يوم جاعوا، أنا من هذا الشعب الذي احتضنهم ففتح مساجده وكنائسه لهم من جميع طوائفهم ومناطقهم. أنا لا أعداء لي هناك لأنه لا أعداء لهم هنا .
ياالله..ماذا حل بنا..?هل حقا يكرهوننا لهذه الدرجة ..?شعبهم يقتل شعبنا?
لن أذهب..أنا فعلا خائف..لكن ذلك لن يمنعني من رؤية أصدقاء الأمس..سأهاتفهم من سوريا وسأذكرهم بنفسي وسأعزمهم على المجيء لزيارتي في بلدتي وسأقول صراحة أنا خائف من المجيء اليكم،ولكن لا خطر عليكم ان أتيتم أنتم فالشعب الذي أحبكم بالأمس وأنتم تتراشقون القذائف هو نفسه الشعب الذي يحبكم الآن وأنتم تتراشقون الاتهامات والشتائم والقبل.
وسأعلنها بقلب كبير كقلب كل السوريين،لاتتقاتلوا مرة أخرى رجاء،فان دماءكم عزيزة علينا. ولكن ان حدث وتقاتلتم بلغة السلاح -لا قدر الله- مرة أخرى فلاتنسوا أن غرف النوم جاهزة لكم لتناموا، وكرومنا بانتظاركم لتأكلوا ومدارسنا ستستقبل أطفالكم مجانا وقلوبنا فداكم. هكذا الانسان السوري، عراب الحضارة،و رسول المحبة،يعض جراحه وينظر أبدا للمصلحة العليا كأب حكيم وكأم حنون .وستأتي الأيام عندما سيتمنى كل عربي أن يكون سوريا لأن السوري الذي أطلق شراع الحرف الأول من حضارة أوغاريت سيكتب أيضا الحرف الأول في كرامة هذا الشرق الذي لا يركع الا لله.
والى كل الذين حملوا الحجر الأول لرجمنا، نسامحكم لأنكم لاتدرون ماذا تفعلون.
ملطوش طبعا