dot
30/04/2008, 21:47
بقلــم : ياسوناري كاواباتـا
1
منذ نعومة أظافري وأنا متشرد بلا بيت آوي إليه، والإجازات المدرسية أقضيها مع أقاربي متجولا من منزل إلى آخر، لكن أغلب تلك الإجازات كانت في منزلين لاثنين من أقاربي الحميمين جدا. هذان المنزلان يقعان شمال وجنوب نهر (يودو). أحدهما في مدينة بإقليم (كاواتشي) والآخر في قرية جبلية بإقليم (ستسو). كنت أتنقل بينهما بقارب صغير . لم يحدث أن حللت بهما ضيفا ثقيلا ، بل على العكس فقد كنت أشعر دائما أنني في منزلي وبين أهلي.
أنا الآن في الثانية والعشرين من عمري، في عطلة الصيف حضرت ثلاث جنائز في أقل من شهر، وفي كلّ مرة أرتدي معطف أبي الحريري الذي أورثه لي، وتنوراته الطويلة وجواربه البيضاء واحمل في يدي مسبحة بوذية.
الجنازة الأولى كانت في فرع من إحدى أسر (كاواتشي) حيث توفيت أم شيخ العائلة التي أوهنها كبر السن. يقولون : إن لها أحفاداً في ثلاثينياتهم ،وأنها تقلّبت على فراش المرض لمدة طويلة. لك أن تقول أنها ذهبت إلى حتفها غير مأسوف عليها. عندما حدقت في هيئة الشيخ الكئيبة وعيون الحفيدة الحمراء بدا لي مقدار ما يشعرون به من حزن عميق، ولكن قلبي لم يحزن على هذه المرأة . لم يخالطني شعور بموتها ورغما عن إشعالي للبخور قبل المذبح إلا أني لم أتعرف على وجه المرأة التي ترقد في التابوت. لقد غاب عن ذهني أصلا وجود أحد فيه.
قبل أن يخرجوا بالنعش ذهبت وأديت واجب العزاء في ثيابي التي أعددتها لمناسبة كهذه والمسبحة والمروحة في يدي بالطبع يرافقني ابن عمي القادم من ( ستسو) والذي يكبرني سناً. ظهر ما قمت به مقارنة بتصرف ابن عمي لائقا ومناسبا أكثر لمناسبة جنائزية كالتي نحضرها، كل هذا وأنا الأصغر سنا . شعرت بارتياح وأنا أودي واجبي على أكمل وجه، أما ابن عمي الذي أدهشته تصرفاتي فقد سلك طريقي وقلدني. في البيت الكبير تجمّع خمسة أو ستة من أبناء العمومة غير مكترثين برسم الحزن على ملامحهم.
وبعد أسبوع تقريبا كنت في (كاواتشي) عندما تلقيت مكالمة هاتفية من ابن عمي الأكبر في(ستسو).هناك جنازة في بيت من بيوت العائلة التي تزوجت فيها أخته الكبرى .قال لي: "وأنت أيضا لا بد أن تذهب." وعلى ما يبدو فإن أحد أفراد تلك العائلة قد حضر جنازة لعائلتي في السابق. اصطحبت ابن عمي كرفيق سفر. ركبنا القطار وعندما وصلنا إلى منزلهم معزين لم أتمكن من معرفة أيهم ينتمي إلى العائلة ما عدا النادب الرئيس، ولا حتى عرفت من هو الذي مات؟ منزل ابنة عمي كان مكان راحة للحاضرين، ولكن عائلة زوجها كانوا في غرفة منفصلة. أما الغرفة التي كنت فيها فلم يتحدث أحد عن الميت. كل ما فعلوه هو قلقهم من تزايد شدة الحرارة وسؤالهم عن وقت مواراة الميت. من فترة لأخرى يرتفع سؤال: "من الذي مات وكم عمره؟" وفي هذه الأثناء تجولت في الممرات بانتظار وصول الجنازة.
في وقت متأخر من ذلك الشهر طلب مني ابن عمي أن أذهب بدلاً عنه إلى جنازة لأحد أقرباء زوج أخته الكبرى دون علم بالعائلة التي تتولى مراسيم العزاء ولا اسم القرية ولا مكان المقبرة. ونحن نتجاذب أطراف الحديث قال مازحا :"لم أطلب منك الذهاب إلا لأنك سيد للجنائز."
عقدت الدهشة لساني، ولأنا كنا على الهاتف فإنه لم ير تعابير وجهي. وافقت على الذهاب للجنازة الثالثة . في منزل (كاواتشي) حيث تلقيت المكالمة ابتسمت زوجة ابن عمي بامتعاض: "كأنك حانوتي!!" حدقت في وجهي ثم واصلت خياطتها. قررت أن أبقى في منزل (ستسو) تلك الليلة ثم أغادر من هناك في الصباح التالي ذاهبا إلى حيث الجنازة ،ومن أجل ذلك فقد عبرت نهر (يودو).
ضحك ابن عمي في التلفون وإطلاقه عليّ لقب "سيد الجنائز" حرك فيّ ردة فعل تجاهه، فقد جعلتني تجاربي الماضية حساساً جدا خصوصا لمثل هذه الكلمات. والحقيقة أنني منذ طفولتي وأنا أشارك في تشييع جنائز أكثر مما أستطيع أن أحصيه ، ليس فقط في وفاة أقاربي ولكني أيضا مثلّت عائلتي في القرى الريفية حيث يجتهد الجميع لحضور جنائز بعضهم البعض.
مارست كل العادات الجنائزية في إقليم (ستسو) وأعرف أيضا تقاليد جنائز الأرض الطاهرة وطوائفها الجديدة ،وحتى جنازة (نيتشرين) لم أضيّع فرصة حضورها، كما شهدت اللحظات الأخيرة لخمسة أو ستة من الذين أستطيع تذكرهم الآن . وأتذكر أيضاً ثلاث أو أربع مرات قمت فيها بتطرية شفاه الميت بالماء الأخير. وأشعلت البخور الأول وأيضا ما يسمى ببخور الوداع، وشاركت في مناسبات عديدة يجمع فيها رفات الميت ويوضع في إناء، بالإضافة إلى معرفتي بالطقوس البوذية في اليوم التاسع والأربعين من الوفاة.
لم أقابل الثلاثة الذين شاركت في تشييع جنائزهم ذلك الصيف أبداً ، ولا وجدتُ طريقة أتمكن بها من الانغماس في حزن شخصي ،ولكن الأمر يختلف عندما أكون في المقبرة فأثناء إشعال البخور أطهر نفسي من الهواجس الدنيوية وبصمت أدعو لراحة الميت. لاحظت جيدا ما يفعله معظم الشباب فهم يحنون رؤوسهم تاركين أيديهم تتدلى ، أما أنا فأضمّ كفيّ إلى بعضهما مما جعل الناس يعتقدون أني أتقى وأصدق من الآخرين الذين لهم علاقة محدودة بالمتوفى.وما جعل هذا الانطباع يسود عني هو أن الجنائز تقودني للتأمل في حياة وممات أقربائي، وفي هدأة التأمل يسكن قلبي. كلما بعدت قرابتي عن الميت كلما شعرت برغبة جامحة للذهاب إلى المقبرة ترافقني ذكرياتي الخاصة :لكي أشعل البخور، وأضمّ كفيّ إلى بعضهما في إخلاص حميم لتك الذكريات.ومع أني شاب في مقتبل العمر إلا أن سلوكي المحبذ هذا في جنائز الغرباء ليس شكليا ولا زائفا، بل على العكس فهو لإظهار سعة الحزن الذي يكمن في داخلي.
1
منذ نعومة أظافري وأنا متشرد بلا بيت آوي إليه، والإجازات المدرسية أقضيها مع أقاربي متجولا من منزل إلى آخر، لكن أغلب تلك الإجازات كانت في منزلين لاثنين من أقاربي الحميمين جدا. هذان المنزلان يقعان شمال وجنوب نهر (يودو). أحدهما في مدينة بإقليم (كاواتشي) والآخر في قرية جبلية بإقليم (ستسو). كنت أتنقل بينهما بقارب صغير . لم يحدث أن حللت بهما ضيفا ثقيلا ، بل على العكس فقد كنت أشعر دائما أنني في منزلي وبين أهلي.
أنا الآن في الثانية والعشرين من عمري، في عطلة الصيف حضرت ثلاث جنائز في أقل من شهر، وفي كلّ مرة أرتدي معطف أبي الحريري الذي أورثه لي، وتنوراته الطويلة وجواربه البيضاء واحمل في يدي مسبحة بوذية.
الجنازة الأولى كانت في فرع من إحدى أسر (كاواتشي) حيث توفيت أم شيخ العائلة التي أوهنها كبر السن. يقولون : إن لها أحفاداً في ثلاثينياتهم ،وأنها تقلّبت على فراش المرض لمدة طويلة. لك أن تقول أنها ذهبت إلى حتفها غير مأسوف عليها. عندما حدقت في هيئة الشيخ الكئيبة وعيون الحفيدة الحمراء بدا لي مقدار ما يشعرون به من حزن عميق، ولكن قلبي لم يحزن على هذه المرأة . لم يخالطني شعور بموتها ورغما عن إشعالي للبخور قبل المذبح إلا أني لم أتعرف على وجه المرأة التي ترقد في التابوت. لقد غاب عن ذهني أصلا وجود أحد فيه.
قبل أن يخرجوا بالنعش ذهبت وأديت واجب العزاء في ثيابي التي أعددتها لمناسبة كهذه والمسبحة والمروحة في يدي بالطبع يرافقني ابن عمي القادم من ( ستسو) والذي يكبرني سناً. ظهر ما قمت به مقارنة بتصرف ابن عمي لائقا ومناسبا أكثر لمناسبة جنائزية كالتي نحضرها، كل هذا وأنا الأصغر سنا . شعرت بارتياح وأنا أودي واجبي على أكمل وجه، أما ابن عمي الذي أدهشته تصرفاتي فقد سلك طريقي وقلدني. في البيت الكبير تجمّع خمسة أو ستة من أبناء العمومة غير مكترثين برسم الحزن على ملامحهم.
وبعد أسبوع تقريبا كنت في (كاواتشي) عندما تلقيت مكالمة هاتفية من ابن عمي الأكبر في(ستسو).هناك جنازة في بيت من بيوت العائلة التي تزوجت فيها أخته الكبرى .قال لي: "وأنت أيضا لا بد أن تذهب." وعلى ما يبدو فإن أحد أفراد تلك العائلة قد حضر جنازة لعائلتي في السابق. اصطحبت ابن عمي كرفيق سفر. ركبنا القطار وعندما وصلنا إلى منزلهم معزين لم أتمكن من معرفة أيهم ينتمي إلى العائلة ما عدا النادب الرئيس، ولا حتى عرفت من هو الذي مات؟ منزل ابنة عمي كان مكان راحة للحاضرين، ولكن عائلة زوجها كانوا في غرفة منفصلة. أما الغرفة التي كنت فيها فلم يتحدث أحد عن الميت. كل ما فعلوه هو قلقهم من تزايد شدة الحرارة وسؤالهم عن وقت مواراة الميت. من فترة لأخرى يرتفع سؤال: "من الذي مات وكم عمره؟" وفي هذه الأثناء تجولت في الممرات بانتظار وصول الجنازة.
في وقت متأخر من ذلك الشهر طلب مني ابن عمي أن أذهب بدلاً عنه إلى جنازة لأحد أقرباء زوج أخته الكبرى دون علم بالعائلة التي تتولى مراسيم العزاء ولا اسم القرية ولا مكان المقبرة. ونحن نتجاذب أطراف الحديث قال مازحا :"لم أطلب منك الذهاب إلا لأنك سيد للجنائز."
عقدت الدهشة لساني، ولأنا كنا على الهاتف فإنه لم ير تعابير وجهي. وافقت على الذهاب للجنازة الثالثة . في منزل (كاواتشي) حيث تلقيت المكالمة ابتسمت زوجة ابن عمي بامتعاض: "كأنك حانوتي!!" حدقت في وجهي ثم واصلت خياطتها. قررت أن أبقى في منزل (ستسو) تلك الليلة ثم أغادر من هناك في الصباح التالي ذاهبا إلى حيث الجنازة ،ومن أجل ذلك فقد عبرت نهر (يودو).
ضحك ابن عمي في التلفون وإطلاقه عليّ لقب "سيد الجنائز" حرك فيّ ردة فعل تجاهه، فقد جعلتني تجاربي الماضية حساساً جدا خصوصا لمثل هذه الكلمات. والحقيقة أنني منذ طفولتي وأنا أشارك في تشييع جنائز أكثر مما أستطيع أن أحصيه ، ليس فقط في وفاة أقاربي ولكني أيضا مثلّت عائلتي في القرى الريفية حيث يجتهد الجميع لحضور جنائز بعضهم البعض.
مارست كل العادات الجنائزية في إقليم (ستسو) وأعرف أيضا تقاليد جنائز الأرض الطاهرة وطوائفها الجديدة ،وحتى جنازة (نيتشرين) لم أضيّع فرصة حضورها، كما شهدت اللحظات الأخيرة لخمسة أو ستة من الذين أستطيع تذكرهم الآن . وأتذكر أيضاً ثلاث أو أربع مرات قمت فيها بتطرية شفاه الميت بالماء الأخير. وأشعلت البخور الأول وأيضا ما يسمى ببخور الوداع، وشاركت في مناسبات عديدة يجمع فيها رفات الميت ويوضع في إناء، بالإضافة إلى معرفتي بالطقوس البوذية في اليوم التاسع والأربعين من الوفاة.
لم أقابل الثلاثة الذين شاركت في تشييع جنائزهم ذلك الصيف أبداً ، ولا وجدتُ طريقة أتمكن بها من الانغماس في حزن شخصي ،ولكن الأمر يختلف عندما أكون في المقبرة فأثناء إشعال البخور أطهر نفسي من الهواجس الدنيوية وبصمت أدعو لراحة الميت. لاحظت جيدا ما يفعله معظم الشباب فهم يحنون رؤوسهم تاركين أيديهم تتدلى ، أما أنا فأضمّ كفيّ إلى بعضهما مما جعل الناس يعتقدون أني أتقى وأصدق من الآخرين الذين لهم علاقة محدودة بالمتوفى.وما جعل هذا الانطباع يسود عني هو أن الجنائز تقودني للتأمل في حياة وممات أقربائي، وفي هدأة التأمل يسكن قلبي. كلما بعدت قرابتي عن الميت كلما شعرت برغبة جامحة للذهاب إلى المقبرة ترافقني ذكرياتي الخاصة :لكي أشعل البخور، وأضمّ كفيّ إلى بعضهما في إخلاص حميم لتك الذكريات.ومع أني شاب في مقتبل العمر إلا أن سلوكي المحبذ هذا في جنائز الغرباء ليس شكليا ولا زائفا، بل على العكس فهو لإظهار سعة الحزن الذي يكمن في داخلي.