-
دخول

عرض كامل الموضوع : الذات الإيكولوجية فــي مرحلة الطفولة .!


dot
27/04/2008, 00:05
بقلم : انيتا باروز

اتَّجهت نظرياتُنا التطورية إلى التركيز على نموِّ نفس الطفل عبر صلتها بالناس الآخرين وعلى دخول الطفل إلى المجتمع الإنساني: يتعلَّم رموزَه وقواعدَه وقيمَه، فارِزًا ومطوِّرًا استقلاليتَه الذاتيةَ ومعزِّزًا ما يُعرَف بـ«الوظائف التنفيذية للأنا»، بحيث تتخذ هذه مكانها في عالم من الذوات الفردية المستقلة، المنفصل بعضها عن بعض. لكن ثمة ثقافات ما تزال حيَّة في عالم اليوم لا تتصور تطور الطفل فقط في العلاقة مع الأسرة أو من خلال انتسابه إلى المجتمع البشري.
في بعض المجتمعات القبلية، يصاحب كلَّ شخص، طوال حياته، حيوانٌ طوطمي يُسمَّى باسم الطفل أو بأية أسماء أخرى، ووظيفته أن يجسِّد صلة الطفل بعالم الطبيعة؛ وأي تهديد للحيوان الطوطمي يُعتبَر أيضًا تهديدًا للشخص الذي يعتقد أنه يشاركه هويتَه. في الجنوب الغربي للولايات المتحدة، تحتفي قبائل الهوپي Hopi للعلاقة بين الطفل وعالم الطبيعة بتمثيل شعائري لاعتقادهم بأن المواليد الجُدُد ينبثقون من العالم السفلي عبر سُرَّة الأرض. يبقى الطفل إبان الأيام العشرين الأولى في عتمة هذا التحول؛ بعدئذٍ، عند الفجر، يُحمَل إلى الشرق ويقدَّم إلى الشمس البازغة، بينما أمه تقول: «هذا هو ابنك». لذا يقر الهوپي باعتمادهم على دورات الطبيعة وإيقاعات الزمن اليومي، ولا ينضم الطفل إلى المجتمع البشري فحسب، بل وإلى مجتمع الأرض أيضًا.
نشأت النظريات النفسية التي تؤطِّر فهم أواخر القرن العشرين للشرط الإنساني، كما يقول ثيودور روزاك، في بيئات مدينية urban وعلى يد منظِّرين يعيشون في المدن. يقتصر عالم الطفل، في الصياغات الفرويدية وما بعد الفرويدية post-Freudian، على الأشخاص الذين يعيشون ضمن جدران بيته. وبالفعل، فإن الحيوانات، كما في الوصف الفرويدي الشهير لحالة الطفل هانس، تُعرَّى من قوتها وتُدرَك كرموز للديناميَّات النفسية. كان الصغير هانس ذو الخمس سنين ابن رجل يقوم فرويد بتحليل نفسي له؛ واعتمادًا على وصف الأب لخوف ابنه من الأحصنة، أسَّس فرويد للمرَّة الأولى نظريته الشهيرة في «عقدة أوديپ». وفي تأويل فرويد، فإن الأحصنة التي خاف هانس منها أشد الخوف رمزت إلى قدرة والده الجنسية: فقد كان خوف هانس نابعًا من مشاعره الخاصة [وليس لأن الأحصنة مخيفة].
في موضع آخر من تأويلات التحليل النفسي، تصبح الديناصورات الضخمة رمزًا إلى الأم المفترسة؛ وإن صدمة الطفل ذي الخمس سنين بها ليس انعكاسًا لرعبه من هذه الكائنات البدائية الكبيرة، بل للنزاعات الأوديپية المعتملة في داخله. هكذا تُختزَل الخنازيرُ والتماسيحُ والأفاعي التي تظهر في أحلامنا وخيالاتنا إلى رموز تخبرنا عن انشغالنا بالشؤون البشرية، تلك الانشغالات الوحيدة التي تُعتبَر مشروعة أو حتى ممكنة؛ واعتمادًا على النظرية التي يشايعها المرء، تمثل الحيوانات أحداثًا داخلية أو خارجية، إلى جانب مظاهر أخرى من عالم الطبيعة، كالجبال والبحر والقمر والمخلوقات غير البشرية، وجميعها يُعرَّى من قيمته أو شخصيته الحقيقية. لذلك، في علم النفس، على غرار الأوساط المالية والسياسية، تُفهَم الطبيعةُ كخادم مسخَّر وكميدان منفعة للكائنات البشرية؛ وإذا ما أُخذِتْ أية علاقة مؤثرة مع الطبيعة في الحسبان فإن ذلك يتم غالبًا في سياق الفكرة ما بعد الرومانسية post-romantic عن الفرد الوحيد الذي يشق طريقه في الحياة في مواجهة طبيعة قاسية غير مبالية، أي القوة الواعية في مواجهة روح عالم الطبيعة البرية غير العقلانية. وبهذه المثابة، يحمل علم النفس الغربي إرث الحضارة الإمبراطورية في الحقبة الڤكتورية في رؤيتها لما هو «بدائي».
ينبغي أن تنشأ نظرية جديدة في مرحلة نموِّ الطفل، وذلك كجزء من حركة صاعدة تسعى لإزاحة نموذج الذات المعزولة والمحدودة نحو رؤية لذات شفافة غير مرتبطة فقط مع الذوات البشرية الأخرى، بل ومع الكائنات والسيرورات الحية كلِّها. ينبغي على مثل هذه النظرية أن تأخذ في حسبانها أن الطفل لا يولد في سياق اجتماعي فقط، بل وفي سياق إيكولوجي أيضًا؛ كما ينبغي لها أيضًا أن تقر بأن للطفل، منذ لحظات حياته الأولى، انتباهًا ليس للَّمسة البشرية فحسب، بل ولِلَمسة النسيم على جلده ولتغيرات الضوء واللون والحرارة والصوت. لا يخفق في إدراك هذا الأمر أي امرئ قضى وقتًا في مراقبة طفل وليد؛ لكن العلماء الذين تأسَّس فهمُنا الحالي (وعلاجاتنا الطبية النفسية) على أعمالهم يخفقون في تعليل أهميته، بل ينكرون وجوده حتى. فـ«البيئة الحاضنة» هي الأم والاستطالات الأليفة لرعايتها فقط: الأشكال والألوان والإيقاعات الخاصة بجسمها وصوتها ومعاملتها لطفلها. إذا كان الأمر كذلك، ومضينا به إلى أقصاه، ربما أمكن للمرء أن يتخيل تنشئة متوازنة سليمة للطفل في غرفة مجدبة معزولة كليًّا، شريطة أن تكون الأم هناك! إن ما يبدو عليه هذا المثال من سخف لدليل على ضحالة معرفتنا بأن علاقة الطفل–الوالدين لا تنشأ في فراغ. إن تنبيهات الحسِّ والرغبة والمتعة التي تيسِّرها الأم (أو الحاضنة) للطفل تتوقف على العالم الذي ولدتْه فيه وتتقيد به وتتداخل معه. ولقد شرح بعض أنصار النسوية الإيكولوجية ecological feminism طقوسًا يتم وفقًا لها إخراجُ الطفل إلى الهواء الطلق في حديقة أو متنزَّه، في الأيام الأولى على الولادة أحيانًا، ليتماسَّ مع شجيرات الورود والسناجب والعرائش والطيور الطنَّانة. أذكر أني فعلت هذا الأمر عفويًّا عندما ولدتْ كلٌّ من ابنتيَّ؛ وكذلك أخبرني العديد من الأصدقاء أنهم فعلوا ذلك. لكن أدياننا الغربية تعتمد طقوسًا (التعميد Briss مثلاً) تنسِّب الأطفال فقط إلى الجماعة البشرية المحدودة التي يولدون ضمنها؛ ونظرياتنا النفسية تعكس نظرةً إلى العالم متطابقة مع ذلك.
إنني أكتب هذه الدراسة في ظلِّ أيكة من البلوط دائم الخضرة في جبال الصحراء العالية في كاليفورنيا الجنوبية. يمتد غطاء الأرض الذي استلقيت عليه على أغصان البلوط المدببة والعشب المتوهج بصفرة شمس الصحراء. إلى جانبي أسماك تسبح في بركة نبع وعصافير تُحدِثُ حفيفًا في قصبات طويلة. الأنسمة التي هبَّتْ لتوِّها تشير إلى وقت الظهيرة، ولا أحتاج إلى الساعة لتحديد الوقت. عند التجول في الدروب الوعرة واكتشاف الأزهار البرية والينابيع الطبيعية يحس المرء بحرمة هذا المكان إلى الآن، حيث يبدو أحد المتنزَّهات الجديدة على بُعد ميل أو أكثر أسفل الطريق العام. أتيت إلى هذا المكان كي أقضي عشرة أيام في الكتابة؛ وفي الأيام الأربعة الأولى على وصولي، أنجزت عملي كلَّه في العراء، حتى ليلاً على ضوء قنديل. يثيرني أن الطبيعة كانت دومًا «بيئة حاضنة» لي؛ ثمة ما يريحني عندما أتوغل في العتمة المخيفة غالبًا التي أستمد منها أشعاري، وأرتاح للبقاء خارجًا يحيط بي الهواء الدافئ وشدو الطيور والأشجار. وأذكر، من أيام بعيدة، كيف كنت أتمدد في واحدة من تلك الحافلات الضخمة العالية التي شاع استخدامُها في عقد الأربعينيات، أنظر إلى أغصان الزيزفون على جانبَي الشارع العريض حيث كنَّا نسكن في بروكلن. تلك الأغصان المهتزة والظلال التي تلقيها على داخل الحافلة عندما تهبُّ نسماتُ الصيف الدافئة وتتخلَّل كلَّ شيء بقيتْ في ذاكرتي على الدوام؛ إنها ما أسترجعه عندما أحمل دفتر ملاحظاتي وأقلامي وأخرج من البيت.
سمحت لنفسي بهذا الاستطراد لأنني أشعر بأهمية ذلك. فالأفكار التي أقدِّمها في هذا المقال تبرعمت في داخلي منذ بعض الوقت، والآن، في هذا المكان، سارت نحو النضج والاكتمال. كما أنني لاحظت، في أثناء عملي في هذا المكان، مدى الشعور بالأمان عندما أصارع شيطان الكتابة في العراء – أقول هذا لكي أؤكد الإحساس الحقيقي جدًّا الذي تطابق مع لقائي بأغصان الزيزفون والذي أتاح لي دفقًا حرًّا من الطاقة الإبداعية لم يتوفَّر لي في الغالب داخل المبنى.
يصدمني، وقد قلت ما سبق، تعقيدُ المهمة التي تواجه الطفل. فهذه المهمة ملغَّزة كالأحجية: يجب على الطفل أن يبني حول نفسه غشاءً كي يقدر على العمل في ثقافته وأن يسمح لهذا الغشاء بأن يكون شفافًا ومتلقيًا بما يكفي للإحساس والشعور والتواصل. لقد قاد إلحاحُ ثقافتنا على الاستقلالية والسيادة والتنافس إلى شعبية علم النفس الذي يؤكد على الجانب الأول من هذه المهمة فقط: على سبيل المثال، تصوِّر نظريةُ مارغريت ماهلر نموَّ الطفل كسيرورة من الانفصال والتفردن، والهدف هو تشكُّل الذات المستقلة المقيدة (التي يصل الطفل إليها، إذا كان سليمًا معافى، في حدود عمر ثلاث سنوات ونصف).
إنها لَمفارَقة ملازمة للمادة المتعضِّية أن كلاًّ من التماسك والشفافية، الكبح والمرونة، ضروريان للبقاء. في هذا السياق، ينبغي أن يكون ممكنًا وصفُ فهمٍ للنموِّ يقيم وزنًا لكلا وجهَي الوجود، لا يفضِّل أحدَهما على الآخر ويعترف بالأساليب التي يقوِّي كل منهما بها الآخر. أشار جان پياجيه، أحد أساطين علم نفس الطفل الذي بدأ سيرته العلمية كبيولوجي، إلى ما ذكرناه، وذلك في صيغته عن المحاكاة والتمثل، باعتبارهما الأسلوبين اللذين يؤسِّسان للتكيف والتعلم. يتعرض علم النفس التكويني/الإدراكي الذي قدَّمه للنقد في تلك المجالات من الخبرة البشرية التي يخفق في تعليلها، لكنَّه يفسِّر إلى حدٍّ بعيد تمامًا ولع الطفل الناشئ باكتشاف البيئة من حوله. أعتقد أن بحث پياجيه مازال يفيد معادِلاً سليمًا لنظريات النموِّ المرتكزة فقط على ما يحدث ضمن نفس الطفل، وعلى الوضع العائلي من حوله، على الرغم من أن تركيز پياجيه ينحصر تقريبًا في معالجة الطفل للأشياء حوله ولا يتَّسع لتفاعله معها.

dot
27/04/2008, 00:08
قد تفيد نظراتُ پياجيه والآخرين التي تصوغ عملنا الراهن جسرًا نحو فهمٍ لنموِّ الطفل مؤسَّسٍ إيكولوجيًّا على نحو أكبر. في كتابه الأطفال كأفراد يفترض مايكل فوردهام، عالم النفس اليونغي البريطاني، أن الذات تبدأ في حالة غير متمايزة، ثمَّ تبرز تدريجيًّا ما يدعوه بـ«تمايزات» (إنقاص في التماهي) على نحو أشبه بجزر تبدأ ككتلة واحدة تحت البحر ثم تظهر تدريجيًّا فوق سطح المياه. تصبح هذه «التمايزات»، وفق مفهوم فوردهام، «الأنا» التي تشق طريقها في العالم وتظل مرتبطة بأساسها الأصلي، لكنها تمتلك فقط ذكرى مبهمة عنه. هذه الذات المركزية غير عقلانية وغير متعيِّنة وحساسة عمقيًّا للنماذج البدئية archetypes في العالم.
يقترح دانييل شتيرن، في دراساته التجريبية على المواليد الجُدُد، أنه يوجد في كلِّ شخص ما يدعوه «الذات–النواة» core self، الذات التي تتألف من مشاعر وتتصف بقابلية الاستيقاظ بواسطة الإدراكات الحسِّية للصوت والإيقاع والضوء. وبما أن شتيرن لا يرى أن هذه الوضعية تحتاج إلى التخطِّي أو إلى أن تُترَك وراءنا، فهو يقترح أن هذه الأرومة من المشاعر هي بمثابة بطانة مركزية تلتف حولها حلقات النمو اللاحق وأن هذه الذات–النواة تتصف بإمكان الوصول إلى باقي الشخصية إبان حياة المرء. قد يكون عمل شتيرن خطوة هامة نحو تصور لسيرورة النمو على أنها لا تتخذ مجراها في عالم العلاقات الاجتماعية حصرًا.
صاغ د.و. وينيكوت D.W. Winnicott، الباحث البريطاني في العلاقات مع الأشياء، مفهوم «الظواهر الانتقالية» transitional phenomena، ولاسيما توظيف المعنى الذاتي في الظواهر الموضوعية، تلك المساحة المبهمة للخبرة حيث لا توجد هناك «أنا» ولا «لا–أنا»، بل تداخُل دينامي بين الذات وبين شيء آخر في العالم. يقر وينيكوت أن قدرة البشر الإبداعية والثقافية والروحية تتطور عن قدرة الطفل، خصوصًا في سنواته المبكرة، على إضفاء معنى على الأشياء غير الحية. يختبر الطفل أولى هذه الظواهر في سياق علاقة الرعاية المبكرة التي يحاط بها، ثمَّ يوسِّع مدى هذه الخبرة إلى الخارج، إلى العالم. لقد أشار توماس پيري وثيودور روزاك وجوانا ماكاي إلى أن العالم المعروف بـ«الخارج»، «اللا–أنا»، هو ظاهرة للفكر الثنوي الغربي western dualistic thought: إنها تركيبة الفكر الغربي فقط تلك التي تجعلنا نعتقد أن ذواتنا تحيا في «داخل» يسوِّره جلدُنا وأن كلَّ شيء آخر أو شخص آخر هو في «الخارج». يمكن لنا أن نفهم، في سياق هذا النموذج الجديد للذات، أن المكان الذي تحدث فيه الظواهرُ الانتقاليةُ هو الغشاء الشفاف الذي يقترح أو يرسم خطوطًا عامة، لكنه لا يفصلنا عن الوسط الذي نوجد فيه. في ذلك العالم، تبدأ التمايزات بين الذاتي والموضوعي بالبزوغ، فتكون البينذاتية inter-subjectivity ممكنة.
ولكن أي دليل نملكه على وجود هذه «الذات الإيكولوجية» في مرحلة الطفولة؟ من المؤكد أن ابتهاج جسم الطفل وحواسه بالماء الدافئ للحمام وفرو القط والعشب الأخضر الطري يشكِّل نوعًا من الدليل على ذلك. لا ينكر أي امرئ يراقب طفلاً وليدًا يكتشف العالم من حوله وجود هذه المسرَّة في داخله. مع ذلك، إذا ما أخذنا وجهة نظر كثير من الباحثين ذوي التوجه التحليلي فسوف نقول إن هذا الاستكشاف هو من قبيل «التصعيد» sublimation، أي بحث الطفل عن جسم الأم. وفي شكلها الأشد اختزالية، تنسب النظريةُ التحليليةُ خبراتِ التماهي والاندماج والتداخل والخوف كلها إلى الخبرة قبل الكلامية في مرحلة الحضانة الأمومية.
تشهد القصص المخصَّصة للأطفال التي تزخر بالحيوانات على رابطة الصداقة التي نتصورها بين الأطفال والحيوانات. وعلى الرغم من أن التحليليين، مثل برونو بتلهايم، يؤوِّلون قصص الجنيات كرموز لنزاعات غريزية، أعتقد أن ولع الأطفال بقصص الجنيات المقحَمة على الطبيعة والمليئة بالشخصيات الحيوانية قد يُفسَّر أيضًا بالمشاعر الطفولية المستندة غريزيًّا إلى الاتصالية continuity مع العالم الطبيعي. وفي الكثير من كتب الأطفال المعاصرة، يبدو أن خلع الصفات والعواطف البشرية على الحيوانات هو أيضًا تجلٍّ لرؤيتنا النفعية نحو الطبيعة ولإعلائنا من شأن الذهن العقلاني على الجوانب الأخرى في الكائن الحي.
عندما كانت ابنتي ڤيڤا صغيرة، اعتدت على التجول بها على ظهري يوميًّا تقريبًا في التلال الرحبة لمتنزَّه تلدرن على الجانب الشرقي من خليج سان فرانسيسكو. ذهلت يومًا عندما هدأت غمغمتُها الطفلية وتحولت إلى همس في أثناء دخولنا إلى أيكة من أشجار الصنوبر. تحت تأرجح أوراق الصنوبر الإبرية، بعد ظهيرة يوم صيفي معتدل، شعرت أنا أيضًا بالسكينة، لكن بدا لي أن استجابة ابنتي ڤيڤا كانت نوعية تمامًا؛ وقد لاحظت ذلك مرات عديدة فيما بعد، كما لو أن شيئًا ما داخلها تصادى مع الهواء المتبدل والأغصان الظليلة والخفقات الغامضة للظل.
إن لحضور الذات الإيكولوجية مضامينه على الطريقة التي نمارس بها العلاج النفسي. إذا نظرنا إلى أن الطفل مرتبط ارتباطًا لا ينفصم ليس مع أسرته فحسب، بل ومع الكائنات الحية كلِّها ومع الأرض ذاتها، إذ ذاك لا بدَّ أن يتَّسع مفهومُنا عنه كفرد، وكذلك عن المنظومات الاجتماعية والأسرية التي يجد نفسه فيها. كيف تشكِّل رؤيتُنا المحدودة ما نراه وما يستحثنا وما يحبطنا؟ كيف يمكن لرؤية أوسع أن تحوِّل جهودنا للتأثير على بيئة الطفل، كي نبحث، من بعدُ، في علاقاته مع الأشياء لمعرفة مصادر كآبته أو قلقه أو لامبالاته أو علله المزمنة؟ يستحضر المفهوم الإيكولوجي للنمو حاجاتٍ سياسية، حاجاتٍ إلى الفعل الاجتماعي، لأن حماية أطفالنا وتيسير نموِّهم يعني توسيعًا لرؤيتنا إلى سياقات أرحب فأرحب.
عندما نصبح على وعي متزايد بارتباطنا الذي لا ينفصم مع شبكة الحياة، إذ ذاك أعتقد أن السبل التي سوف تتطور الذات الإيكولوجية من خلالها إلى جانب الذات المتعلقة بالموضوعات سوف تكشف عن نفسها. يمكن لنظرية عن النمو تجمع بين المظهرين أن تصف سلسلة من المراحل التي قد تبدو حافلةً بالتناقض الداخلي، لكنها ستشمل الخبرة الكاملة للنموِّ بدلاً من جانب واحد من جوانبه. ما تصورناه دومًا كإسهام في سيرورة الانفصال، مثلاً، ربما يُفهَم أيضًا كإسهام في إحساس الطفل بالترابط مع العالم: الطفل الذي يَدْرُج مدشنًا خطواته الأولى بعيدًا عن أمِّه يقوم، في الوقت ذاته، بغزوات فعالة في العالم. لذا لا تقود القدرةُ على الحركة إلى مزيد من الاستقلالية فحسب، بل وإلى قدرة متزايدة على الاقتراب من البيئة وصياغة ارتباطات معها.
هذه العلاقة البينية (الطفل/العالم) ضمنية في كثير من نظريات النمو، إلا أن ظهورها غالبًا ما يكون في صورة آدم في الجنة أو قاتل التنين الذي سيخلِّص الأرض في المستقبل أو في انتصار العقل Logos على القوى اللاعقلية. بمعنى ما، ولكي أستمر في المثال الذي قدمته، فإن ما أقترحه يشير إلى انزياح بسيط في وجهة النظر كي نستطيع أن نرى أن ما يتحرك الطفلُ الدارجُ نحوه هو على درجة حرجة من الأهمية كالذي يبتعد عنه. قد ينجم عن ذلك فهمُنا أن النمو لا يعني بالضرورة تمزيق الوحدة التي تصبح موضع تفجُّع وشوق دون إمكانية بلوغها، بل قد يعني جعل دائرة أوسع من الوحدة ممكنة. وبمعنى أكثر عمقًا وجذرية، يعني الأمرُ أن نظرية للنمو على أساس إيكولوجي سوف تقر اتجاهين أساسيين للشخصية: الميل نحو الاتحاد والميل نحو الانفصال، الميل نحو الاندماج على نحوٍ مسبق والميل نحو التخلِّي، وذلك كاتجاهين متكافئين وضروريين بالدرجة ذاتها.
في الحقيقة، اقترح الفيلسوف الإيكولوجي آرني نَيس Arne Naess أن سيرورة النضج كإنسان تتضمن توسيعًا متدرجًا لاندماج المرء. نظرية التحليل النفسي، مع ما تحمله من نظرة مَرَضية إلى خبرات الاندماج، تقصِّر تمامًا عندما تتصور الصحة النفسية كتضييق واقتصاد في خبرات تشكيل الذات. إن البناء المحافظ للذات مفيد لنا كي نعمل في العالم، كما هي الحال مع البُنى الأخرى التي نعيش معها ونسلِّم بها. الزمن، على سبيل المثال، عنى عند القدماء والشعوب القبلية شيئًا مختلفًا جدًّا عمَّا يعنيه في نظرنا؛ والشعور أيضًا يعني في نظر الغرب العقل Logos، بينما يشمل عند كثير من الشعوب واقع شعور الحلم وحكمة الجسد. قطعًا لن يقترح أحدٌ أن الطفل يمكن له أن ينمو نموًّا جيدًا دون إحراز نوع من «الهوية»، موضع ينطلق منه، قالب يضفي بنية على خبراته؛ لكن، في الوقت ذاته، من المحدودية أن نفترض أن هذا الأمر هو النمو السليم (التحقق الكامل) في مجمله. حتى مع التحقق التدريجي للاندماج، فإن طورًا أساسيًّا من النمو يتشكل في داخل الطفل يتعلق بالقوى اللازمنية واللاذاتية من حوله التي تنفذ إليه وتعيِّن واقعه بطُرُق تعجز الثقافة عن التعبير عنها أو الإقرار بها. يرى المحلِّل النفسي البريطاني فرانسيس توستن أن «وعي الانفصال الجسدي» هو الخبرة الباطنة البشرية التراجيدية. لكننا ربما نحاجج بأن الانفصال الجسدي وهم؛ إذ إن جلدي غير مفصول عن الهواء من حوله، وعينيَّ غير مفصولتين عمَّا تريانه. لذا سأحوِّر عبارة توستن السابقة لأقول إن وهم الانفصال الجسدي هو في الواقع البليَّة الأصلية التي تفسِّر وحشتنا والتي تعزلنا وتقود كلَّ واحد منَّا إلى استغلال الآخر وتعنيفه، وفي النهاية، إلى تعنيف أنفسنا أيضًا.
لقد أيدت نظرياتُ النمو التقليدية هذا الوهم؛ ولذلك بتنا نعيش كليًّا ضمن هذا الغشاء الرقيق من اللحم الذي يطوِّق أعضاء حساسة ليِّنة، بحيث ننعزل نهائيًّا واحدنا عن الآخر وعن الأشياء، وبحيث إن الكثير من معاناتنا ينبثق من هذا التوق إلى استرجاع نوع من الحالة الأولية للاندماج حيث لا الحاجة ولا التوق موجودان. وكي تعوِّض هذا الفقد، تدعو نظرياتُ النمو التقليدية إلى «استحواذ» عدواني، إلى فعالية حادَّة، كما هي حال موقفنا المفضل والأساسي في مقابل العالم. نحن مُلاَّك وسادة وفاتحون، لكن لا شيء أبدًا يُشبع حقًّا شوقنا القَلِق الهائل. لقد عبَّر الفكر اليهودي–المسيحي عن هذا الوهم المؤسف حول الانفصال باعتباره ابتعادًا عن الله: إنه ما حكمت علينا به ثمرةُ شجرة المعرفة والوعي.
لقد ركزت الخبرة الصوفية، في التراثين الشرقي والغربي، على إنهاء هذا الانفصال المتخيَّل. لكنَّ فقدان الحدود boundaries يثير، في العديد منا، قلقًا لا يطاق. يحظى الترابطُ الداخلي والاتصالية من الاهتمام والقبول في ثقافة استهلاكية تنافسية بأقل مما يحظى به العوزُ والشرهُ في الأنا المحدودة. عندما ينبثق في داخلنا، كإلهام أو بالمصادفة أو حتى قصدًا، ذلك «الشعور الأوقيانوسي» الذي وصفه فرويد، نستجيب لذلك بالرعب غالبًا، كما لو أنه علامة على قرب الجنون. نحن نقاوم مثل هذا الفقد للحدود كما لو أن بقاءنا أمسى مهدَّدًا؛ والخدر الذي نلتمسه بإدماننا على العقاقير والكحول والتسليات يمنعنا من اختبار أعماق ألمنا، بل والإمكانية التي لدينا للتواصل مع عالمنا.
ماذا لو أن مثل هذه الحالات من الاتصال وذوبان الحدود كانت موضع تقدير كما هو شأن الوعي العقلاني؟ ما الذي سيحدث لو أننا، منذ لحظات الحياة الأولى، تصوَّرنا الطبيعة كمعلِّم ومرشد ومرجع تعادل أهميتُه أهميةَ عائلاتنا؟ كم كنَّا سنعيش بشكل مختلف عند ذاك!
*** *** ***

ترجمة: معين رومي