dot
27/04/2008, 00:05
بقلم : انيتا باروز
اتَّجهت نظرياتُنا التطورية إلى التركيز على نموِّ نفس الطفل عبر صلتها بالناس الآخرين وعلى دخول الطفل إلى المجتمع الإنساني: يتعلَّم رموزَه وقواعدَه وقيمَه، فارِزًا ومطوِّرًا استقلاليتَه الذاتيةَ ومعزِّزًا ما يُعرَف بـ«الوظائف التنفيذية للأنا»، بحيث تتخذ هذه مكانها في عالم من الذوات الفردية المستقلة، المنفصل بعضها عن بعض. لكن ثمة ثقافات ما تزال حيَّة في عالم اليوم لا تتصور تطور الطفل فقط في العلاقة مع الأسرة أو من خلال انتسابه إلى المجتمع البشري.
في بعض المجتمعات القبلية، يصاحب كلَّ شخص، طوال حياته، حيوانٌ طوطمي يُسمَّى باسم الطفل أو بأية أسماء أخرى، ووظيفته أن يجسِّد صلة الطفل بعالم الطبيعة؛ وأي تهديد للحيوان الطوطمي يُعتبَر أيضًا تهديدًا للشخص الذي يعتقد أنه يشاركه هويتَه. في الجنوب الغربي للولايات المتحدة، تحتفي قبائل الهوپي Hopi للعلاقة بين الطفل وعالم الطبيعة بتمثيل شعائري لاعتقادهم بأن المواليد الجُدُد ينبثقون من العالم السفلي عبر سُرَّة الأرض. يبقى الطفل إبان الأيام العشرين الأولى في عتمة هذا التحول؛ بعدئذٍ، عند الفجر، يُحمَل إلى الشرق ويقدَّم إلى الشمس البازغة، بينما أمه تقول: «هذا هو ابنك». لذا يقر الهوپي باعتمادهم على دورات الطبيعة وإيقاعات الزمن اليومي، ولا ينضم الطفل إلى المجتمع البشري فحسب، بل وإلى مجتمع الأرض أيضًا.
نشأت النظريات النفسية التي تؤطِّر فهم أواخر القرن العشرين للشرط الإنساني، كما يقول ثيودور روزاك، في بيئات مدينية urban وعلى يد منظِّرين يعيشون في المدن. يقتصر عالم الطفل، في الصياغات الفرويدية وما بعد الفرويدية post-Freudian، على الأشخاص الذين يعيشون ضمن جدران بيته. وبالفعل، فإن الحيوانات، كما في الوصف الفرويدي الشهير لحالة الطفل هانس، تُعرَّى من قوتها وتُدرَك كرموز للديناميَّات النفسية. كان الصغير هانس ذو الخمس سنين ابن رجل يقوم فرويد بتحليل نفسي له؛ واعتمادًا على وصف الأب لخوف ابنه من الأحصنة، أسَّس فرويد للمرَّة الأولى نظريته الشهيرة في «عقدة أوديپ». وفي تأويل فرويد، فإن الأحصنة التي خاف هانس منها أشد الخوف رمزت إلى قدرة والده الجنسية: فقد كان خوف هانس نابعًا من مشاعره الخاصة [وليس لأن الأحصنة مخيفة].
في موضع آخر من تأويلات التحليل النفسي، تصبح الديناصورات الضخمة رمزًا إلى الأم المفترسة؛ وإن صدمة الطفل ذي الخمس سنين بها ليس انعكاسًا لرعبه من هذه الكائنات البدائية الكبيرة، بل للنزاعات الأوديپية المعتملة في داخله. هكذا تُختزَل الخنازيرُ والتماسيحُ والأفاعي التي تظهر في أحلامنا وخيالاتنا إلى رموز تخبرنا عن انشغالنا بالشؤون البشرية، تلك الانشغالات الوحيدة التي تُعتبَر مشروعة أو حتى ممكنة؛ واعتمادًا على النظرية التي يشايعها المرء، تمثل الحيوانات أحداثًا داخلية أو خارجية، إلى جانب مظاهر أخرى من عالم الطبيعة، كالجبال والبحر والقمر والمخلوقات غير البشرية، وجميعها يُعرَّى من قيمته أو شخصيته الحقيقية. لذلك، في علم النفس، على غرار الأوساط المالية والسياسية، تُفهَم الطبيعةُ كخادم مسخَّر وكميدان منفعة للكائنات البشرية؛ وإذا ما أُخذِتْ أية علاقة مؤثرة مع الطبيعة في الحسبان فإن ذلك يتم غالبًا في سياق الفكرة ما بعد الرومانسية post-romantic عن الفرد الوحيد الذي يشق طريقه في الحياة في مواجهة طبيعة قاسية غير مبالية، أي القوة الواعية في مواجهة روح عالم الطبيعة البرية غير العقلانية. وبهذه المثابة، يحمل علم النفس الغربي إرث الحضارة الإمبراطورية في الحقبة الڤكتورية في رؤيتها لما هو «بدائي».
ينبغي أن تنشأ نظرية جديدة في مرحلة نموِّ الطفل، وذلك كجزء من حركة صاعدة تسعى لإزاحة نموذج الذات المعزولة والمحدودة نحو رؤية لذات شفافة غير مرتبطة فقط مع الذوات البشرية الأخرى، بل ومع الكائنات والسيرورات الحية كلِّها. ينبغي على مثل هذه النظرية أن تأخذ في حسبانها أن الطفل لا يولد في سياق اجتماعي فقط، بل وفي سياق إيكولوجي أيضًا؛ كما ينبغي لها أيضًا أن تقر بأن للطفل، منذ لحظات حياته الأولى، انتباهًا ليس للَّمسة البشرية فحسب، بل ولِلَمسة النسيم على جلده ولتغيرات الضوء واللون والحرارة والصوت. لا يخفق في إدراك هذا الأمر أي امرئ قضى وقتًا في مراقبة طفل وليد؛ لكن العلماء الذين تأسَّس فهمُنا الحالي (وعلاجاتنا الطبية النفسية) على أعمالهم يخفقون في تعليل أهميته، بل ينكرون وجوده حتى. فـ«البيئة الحاضنة» هي الأم والاستطالات الأليفة لرعايتها فقط: الأشكال والألوان والإيقاعات الخاصة بجسمها وصوتها ومعاملتها لطفلها. إذا كان الأمر كذلك، ومضينا به إلى أقصاه، ربما أمكن للمرء أن يتخيل تنشئة متوازنة سليمة للطفل في غرفة مجدبة معزولة كليًّا، شريطة أن تكون الأم هناك! إن ما يبدو عليه هذا المثال من سخف لدليل على ضحالة معرفتنا بأن علاقة الطفل–الوالدين لا تنشأ في فراغ. إن تنبيهات الحسِّ والرغبة والمتعة التي تيسِّرها الأم (أو الحاضنة) للطفل تتوقف على العالم الذي ولدتْه فيه وتتقيد به وتتداخل معه. ولقد شرح بعض أنصار النسوية الإيكولوجية ecological feminism طقوسًا يتم وفقًا لها إخراجُ الطفل إلى الهواء الطلق في حديقة أو متنزَّه، في الأيام الأولى على الولادة أحيانًا، ليتماسَّ مع شجيرات الورود والسناجب والعرائش والطيور الطنَّانة. أذكر أني فعلت هذا الأمر عفويًّا عندما ولدتْ كلٌّ من ابنتيَّ؛ وكذلك أخبرني العديد من الأصدقاء أنهم فعلوا ذلك. لكن أدياننا الغربية تعتمد طقوسًا (التعميد Briss مثلاً) تنسِّب الأطفال فقط إلى الجماعة البشرية المحدودة التي يولدون ضمنها؛ ونظرياتنا النفسية تعكس نظرةً إلى العالم متطابقة مع ذلك.
إنني أكتب هذه الدراسة في ظلِّ أيكة من البلوط دائم الخضرة في جبال الصحراء العالية في كاليفورنيا الجنوبية. يمتد غطاء الأرض الذي استلقيت عليه على أغصان البلوط المدببة والعشب المتوهج بصفرة شمس الصحراء. إلى جانبي أسماك تسبح في بركة نبع وعصافير تُحدِثُ حفيفًا في قصبات طويلة. الأنسمة التي هبَّتْ لتوِّها تشير إلى وقت الظهيرة، ولا أحتاج إلى الساعة لتحديد الوقت. عند التجول في الدروب الوعرة واكتشاف الأزهار البرية والينابيع الطبيعية يحس المرء بحرمة هذا المكان إلى الآن، حيث يبدو أحد المتنزَّهات الجديدة على بُعد ميل أو أكثر أسفل الطريق العام. أتيت إلى هذا المكان كي أقضي عشرة أيام في الكتابة؛ وفي الأيام الأربعة الأولى على وصولي، أنجزت عملي كلَّه في العراء، حتى ليلاً على ضوء قنديل. يثيرني أن الطبيعة كانت دومًا «بيئة حاضنة» لي؛ ثمة ما يريحني عندما أتوغل في العتمة المخيفة غالبًا التي أستمد منها أشعاري، وأرتاح للبقاء خارجًا يحيط بي الهواء الدافئ وشدو الطيور والأشجار. وأذكر، من أيام بعيدة، كيف كنت أتمدد في واحدة من تلك الحافلات الضخمة العالية التي شاع استخدامُها في عقد الأربعينيات، أنظر إلى أغصان الزيزفون على جانبَي الشارع العريض حيث كنَّا نسكن في بروكلن. تلك الأغصان المهتزة والظلال التي تلقيها على داخل الحافلة عندما تهبُّ نسماتُ الصيف الدافئة وتتخلَّل كلَّ شيء بقيتْ في ذاكرتي على الدوام؛ إنها ما أسترجعه عندما أحمل دفتر ملاحظاتي وأقلامي وأخرج من البيت.
سمحت لنفسي بهذا الاستطراد لأنني أشعر بأهمية ذلك. فالأفكار التي أقدِّمها في هذا المقال تبرعمت في داخلي منذ بعض الوقت، والآن، في هذا المكان، سارت نحو النضج والاكتمال. كما أنني لاحظت، في أثناء عملي في هذا المكان، مدى الشعور بالأمان عندما أصارع شيطان الكتابة في العراء – أقول هذا لكي أؤكد الإحساس الحقيقي جدًّا الذي تطابق مع لقائي بأغصان الزيزفون والذي أتاح لي دفقًا حرًّا من الطاقة الإبداعية لم يتوفَّر لي في الغالب داخل المبنى.
يصدمني، وقد قلت ما سبق، تعقيدُ المهمة التي تواجه الطفل. فهذه المهمة ملغَّزة كالأحجية: يجب على الطفل أن يبني حول نفسه غشاءً كي يقدر على العمل في ثقافته وأن يسمح لهذا الغشاء بأن يكون شفافًا ومتلقيًا بما يكفي للإحساس والشعور والتواصل. لقد قاد إلحاحُ ثقافتنا على الاستقلالية والسيادة والتنافس إلى شعبية علم النفس الذي يؤكد على الجانب الأول من هذه المهمة فقط: على سبيل المثال، تصوِّر نظريةُ مارغريت ماهلر نموَّ الطفل كسيرورة من الانفصال والتفردن، والهدف هو تشكُّل الذات المستقلة المقيدة (التي يصل الطفل إليها، إذا كان سليمًا معافى، في حدود عمر ثلاث سنوات ونصف).
إنها لَمفارَقة ملازمة للمادة المتعضِّية أن كلاًّ من التماسك والشفافية، الكبح والمرونة، ضروريان للبقاء. في هذا السياق، ينبغي أن يكون ممكنًا وصفُ فهمٍ للنموِّ يقيم وزنًا لكلا وجهَي الوجود، لا يفضِّل أحدَهما على الآخر ويعترف بالأساليب التي يقوِّي كل منهما بها الآخر. أشار جان پياجيه، أحد أساطين علم نفس الطفل الذي بدأ سيرته العلمية كبيولوجي، إلى ما ذكرناه، وذلك في صيغته عن المحاكاة والتمثل، باعتبارهما الأسلوبين اللذين يؤسِّسان للتكيف والتعلم. يتعرض علم النفس التكويني/الإدراكي الذي قدَّمه للنقد في تلك المجالات من الخبرة البشرية التي يخفق في تعليلها، لكنَّه يفسِّر إلى حدٍّ بعيد تمامًا ولع الطفل الناشئ باكتشاف البيئة من حوله. أعتقد أن بحث پياجيه مازال يفيد معادِلاً سليمًا لنظريات النموِّ المرتكزة فقط على ما يحدث ضمن نفس الطفل، وعلى الوضع العائلي من حوله، على الرغم من أن تركيز پياجيه ينحصر تقريبًا في معالجة الطفل للأشياء حوله ولا يتَّسع لتفاعله معها.
اتَّجهت نظرياتُنا التطورية إلى التركيز على نموِّ نفس الطفل عبر صلتها بالناس الآخرين وعلى دخول الطفل إلى المجتمع الإنساني: يتعلَّم رموزَه وقواعدَه وقيمَه، فارِزًا ومطوِّرًا استقلاليتَه الذاتيةَ ومعزِّزًا ما يُعرَف بـ«الوظائف التنفيذية للأنا»، بحيث تتخذ هذه مكانها في عالم من الذوات الفردية المستقلة، المنفصل بعضها عن بعض. لكن ثمة ثقافات ما تزال حيَّة في عالم اليوم لا تتصور تطور الطفل فقط في العلاقة مع الأسرة أو من خلال انتسابه إلى المجتمع البشري.
في بعض المجتمعات القبلية، يصاحب كلَّ شخص، طوال حياته، حيوانٌ طوطمي يُسمَّى باسم الطفل أو بأية أسماء أخرى، ووظيفته أن يجسِّد صلة الطفل بعالم الطبيعة؛ وأي تهديد للحيوان الطوطمي يُعتبَر أيضًا تهديدًا للشخص الذي يعتقد أنه يشاركه هويتَه. في الجنوب الغربي للولايات المتحدة، تحتفي قبائل الهوپي Hopi للعلاقة بين الطفل وعالم الطبيعة بتمثيل شعائري لاعتقادهم بأن المواليد الجُدُد ينبثقون من العالم السفلي عبر سُرَّة الأرض. يبقى الطفل إبان الأيام العشرين الأولى في عتمة هذا التحول؛ بعدئذٍ، عند الفجر، يُحمَل إلى الشرق ويقدَّم إلى الشمس البازغة، بينما أمه تقول: «هذا هو ابنك». لذا يقر الهوپي باعتمادهم على دورات الطبيعة وإيقاعات الزمن اليومي، ولا ينضم الطفل إلى المجتمع البشري فحسب، بل وإلى مجتمع الأرض أيضًا.
نشأت النظريات النفسية التي تؤطِّر فهم أواخر القرن العشرين للشرط الإنساني، كما يقول ثيودور روزاك، في بيئات مدينية urban وعلى يد منظِّرين يعيشون في المدن. يقتصر عالم الطفل، في الصياغات الفرويدية وما بعد الفرويدية post-Freudian، على الأشخاص الذين يعيشون ضمن جدران بيته. وبالفعل، فإن الحيوانات، كما في الوصف الفرويدي الشهير لحالة الطفل هانس، تُعرَّى من قوتها وتُدرَك كرموز للديناميَّات النفسية. كان الصغير هانس ذو الخمس سنين ابن رجل يقوم فرويد بتحليل نفسي له؛ واعتمادًا على وصف الأب لخوف ابنه من الأحصنة، أسَّس فرويد للمرَّة الأولى نظريته الشهيرة في «عقدة أوديپ». وفي تأويل فرويد، فإن الأحصنة التي خاف هانس منها أشد الخوف رمزت إلى قدرة والده الجنسية: فقد كان خوف هانس نابعًا من مشاعره الخاصة [وليس لأن الأحصنة مخيفة].
في موضع آخر من تأويلات التحليل النفسي، تصبح الديناصورات الضخمة رمزًا إلى الأم المفترسة؛ وإن صدمة الطفل ذي الخمس سنين بها ليس انعكاسًا لرعبه من هذه الكائنات البدائية الكبيرة، بل للنزاعات الأوديپية المعتملة في داخله. هكذا تُختزَل الخنازيرُ والتماسيحُ والأفاعي التي تظهر في أحلامنا وخيالاتنا إلى رموز تخبرنا عن انشغالنا بالشؤون البشرية، تلك الانشغالات الوحيدة التي تُعتبَر مشروعة أو حتى ممكنة؛ واعتمادًا على النظرية التي يشايعها المرء، تمثل الحيوانات أحداثًا داخلية أو خارجية، إلى جانب مظاهر أخرى من عالم الطبيعة، كالجبال والبحر والقمر والمخلوقات غير البشرية، وجميعها يُعرَّى من قيمته أو شخصيته الحقيقية. لذلك، في علم النفس، على غرار الأوساط المالية والسياسية، تُفهَم الطبيعةُ كخادم مسخَّر وكميدان منفعة للكائنات البشرية؛ وإذا ما أُخذِتْ أية علاقة مؤثرة مع الطبيعة في الحسبان فإن ذلك يتم غالبًا في سياق الفكرة ما بعد الرومانسية post-romantic عن الفرد الوحيد الذي يشق طريقه في الحياة في مواجهة طبيعة قاسية غير مبالية، أي القوة الواعية في مواجهة روح عالم الطبيعة البرية غير العقلانية. وبهذه المثابة، يحمل علم النفس الغربي إرث الحضارة الإمبراطورية في الحقبة الڤكتورية في رؤيتها لما هو «بدائي».
ينبغي أن تنشأ نظرية جديدة في مرحلة نموِّ الطفل، وذلك كجزء من حركة صاعدة تسعى لإزاحة نموذج الذات المعزولة والمحدودة نحو رؤية لذات شفافة غير مرتبطة فقط مع الذوات البشرية الأخرى، بل ومع الكائنات والسيرورات الحية كلِّها. ينبغي على مثل هذه النظرية أن تأخذ في حسبانها أن الطفل لا يولد في سياق اجتماعي فقط، بل وفي سياق إيكولوجي أيضًا؛ كما ينبغي لها أيضًا أن تقر بأن للطفل، منذ لحظات حياته الأولى، انتباهًا ليس للَّمسة البشرية فحسب، بل ولِلَمسة النسيم على جلده ولتغيرات الضوء واللون والحرارة والصوت. لا يخفق في إدراك هذا الأمر أي امرئ قضى وقتًا في مراقبة طفل وليد؛ لكن العلماء الذين تأسَّس فهمُنا الحالي (وعلاجاتنا الطبية النفسية) على أعمالهم يخفقون في تعليل أهميته، بل ينكرون وجوده حتى. فـ«البيئة الحاضنة» هي الأم والاستطالات الأليفة لرعايتها فقط: الأشكال والألوان والإيقاعات الخاصة بجسمها وصوتها ومعاملتها لطفلها. إذا كان الأمر كذلك، ومضينا به إلى أقصاه، ربما أمكن للمرء أن يتخيل تنشئة متوازنة سليمة للطفل في غرفة مجدبة معزولة كليًّا، شريطة أن تكون الأم هناك! إن ما يبدو عليه هذا المثال من سخف لدليل على ضحالة معرفتنا بأن علاقة الطفل–الوالدين لا تنشأ في فراغ. إن تنبيهات الحسِّ والرغبة والمتعة التي تيسِّرها الأم (أو الحاضنة) للطفل تتوقف على العالم الذي ولدتْه فيه وتتقيد به وتتداخل معه. ولقد شرح بعض أنصار النسوية الإيكولوجية ecological feminism طقوسًا يتم وفقًا لها إخراجُ الطفل إلى الهواء الطلق في حديقة أو متنزَّه، في الأيام الأولى على الولادة أحيانًا، ليتماسَّ مع شجيرات الورود والسناجب والعرائش والطيور الطنَّانة. أذكر أني فعلت هذا الأمر عفويًّا عندما ولدتْ كلٌّ من ابنتيَّ؛ وكذلك أخبرني العديد من الأصدقاء أنهم فعلوا ذلك. لكن أدياننا الغربية تعتمد طقوسًا (التعميد Briss مثلاً) تنسِّب الأطفال فقط إلى الجماعة البشرية المحدودة التي يولدون ضمنها؛ ونظرياتنا النفسية تعكس نظرةً إلى العالم متطابقة مع ذلك.
إنني أكتب هذه الدراسة في ظلِّ أيكة من البلوط دائم الخضرة في جبال الصحراء العالية في كاليفورنيا الجنوبية. يمتد غطاء الأرض الذي استلقيت عليه على أغصان البلوط المدببة والعشب المتوهج بصفرة شمس الصحراء. إلى جانبي أسماك تسبح في بركة نبع وعصافير تُحدِثُ حفيفًا في قصبات طويلة. الأنسمة التي هبَّتْ لتوِّها تشير إلى وقت الظهيرة، ولا أحتاج إلى الساعة لتحديد الوقت. عند التجول في الدروب الوعرة واكتشاف الأزهار البرية والينابيع الطبيعية يحس المرء بحرمة هذا المكان إلى الآن، حيث يبدو أحد المتنزَّهات الجديدة على بُعد ميل أو أكثر أسفل الطريق العام. أتيت إلى هذا المكان كي أقضي عشرة أيام في الكتابة؛ وفي الأيام الأربعة الأولى على وصولي، أنجزت عملي كلَّه في العراء، حتى ليلاً على ضوء قنديل. يثيرني أن الطبيعة كانت دومًا «بيئة حاضنة» لي؛ ثمة ما يريحني عندما أتوغل في العتمة المخيفة غالبًا التي أستمد منها أشعاري، وأرتاح للبقاء خارجًا يحيط بي الهواء الدافئ وشدو الطيور والأشجار. وأذكر، من أيام بعيدة، كيف كنت أتمدد في واحدة من تلك الحافلات الضخمة العالية التي شاع استخدامُها في عقد الأربعينيات، أنظر إلى أغصان الزيزفون على جانبَي الشارع العريض حيث كنَّا نسكن في بروكلن. تلك الأغصان المهتزة والظلال التي تلقيها على داخل الحافلة عندما تهبُّ نسماتُ الصيف الدافئة وتتخلَّل كلَّ شيء بقيتْ في ذاكرتي على الدوام؛ إنها ما أسترجعه عندما أحمل دفتر ملاحظاتي وأقلامي وأخرج من البيت.
سمحت لنفسي بهذا الاستطراد لأنني أشعر بأهمية ذلك. فالأفكار التي أقدِّمها في هذا المقال تبرعمت في داخلي منذ بعض الوقت، والآن، في هذا المكان، سارت نحو النضج والاكتمال. كما أنني لاحظت، في أثناء عملي في هذا المكان، مدى الشعور بالأمان عندما أصارع شيطان الكتابة في العراء – أقول هذا لكي أؤكد الإحساس الحقيقي جدًّا الذي تطابق مع لقائي بأغصان الزيزفون والذي أتاح لي دفقًا حرًّا من الطاقة الإبداعية لم يتوفَّر لي في الغالب داخل المبنى.
يصدمني، وقد قلت ما سبق، تعقيدُ المهمة التي تواجه الطفل. فهذه المهمة ملغَّزة كالأحجية: يجب على الطفل أن يبني حول نفسه غشاءً كي يقدر على العمل في ثقافته وأن يسمح لهذا الغشاء بأن يكون شفافًا ومتلقيًا بما يكفي للإحساس والشعور والتواصل. لقد قاد إلحاحُ ثقافتنا على الاستقلالية والسيادة والتنافس إلى شعبية علم النفس الذي يؤكد على الجانب الأول من هذه المهمة فقط: على سبيل المثال، تصوِّر نظريةُ مارغريت ماهلر نموَّ الطفل كسيرورة من الانفصال والتفردن، والهدف هو تشكُّل الذات المستقلة المقيدة (التي يصل الطفل إليها، إذا كان سليمًا معافى، في حدود عمر ثلاث سنوات ونصف).
إنها لَمفارَقة ملازمة للمادة المتعضِّية أن كلاًّ من التماسك والشفافية، الكبح والمرونة، ضروريان للبقاء. في هذا السياق، ينبغي أن يكون ممكنًا وصفُ فهمٍ للنموِّ يقيم وزنًا لكلا وجهَي الوجود، لا يفضِّل أحدَهما على الآخر ويعترف بالأساليب التي يقوِّي كل منهما بها الآخر. أشار جان پياجيه، أحد أساطين علم نفس الطفل الذي بدأ سيرته العلمية كبيولوجي، إلى ما ذكرناه، وذلك في صيغته عن المحاكاة والتمثل، باعتبارهما الأسلوبين اللذين يؤسِّسان للتكيف والتعلم. يتعرض علم النفس التكويني/الإدراكي الذي قدَّمه للنقد في تلك المجالات من الخبرة البشرية التي يخفق في تعليلها، لكنَّه يفسِّر إلى حدٍّ بعيد تمامًا ولع الطفل الناشئ باكتشاف البيئة من حوله. أعتقد أن بحث پياجيه مازال يفيد معادِلاً سليمًا لنظريات النموِّ المرتكزة فقط على ما يحدث ضمن نفس الطفل، وعلى الوضع العائلي من حوله، على الرغم من أن تركيز پياجيه ينحصر تقريبًا في معالجة الطفل للأشياء حوله ولا يتَّسع لتفاعله معها.