صياد الطيور
18/04/2008, 14:49
ينبغي أن لا يكون طبيعياً، ولا قابلاً للتطبيع أو التجاهل أو الفوات بحكم مرور الزمن، فضلاً عن كونه غير لائق سياسياً وأمنياً وأخلاقياً، أن تواصل السلطات السورية امتناعها عن إعلان ما يمكن أن تكون قد توصّلت إليه من نتائج في تحقيقاتها باغتيال عماد مغنية، المقاوِم اللبناني الإسلامي الأشهر ربما، والقيادي العسكري الأبرز في حزب الله ، والذي قد يكون احتلّ ـ قبيل أسابيع قليلة من اغتياله في دمشق بتاريخ 12 شباط (فبراير) الماضي ـ موقع الشخصية الثانية في الحزب بعد أمينه العام السيد حسن نصر الله. ومن حقّ المرء، في هذا الصدد، أن يستذكر التصريح الشهير الذي أطلقه وزير الخارجية السوري وليد المعلم، بعد ساعات أعقبت اغتيال مغنية، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي: سنثبت بالدليل القاطع الجهة التي تورطت بالجريمة ومن يقف خلفها .
وللمرء أن يضرب صفحاً عن التقارير المتضاربة التي تناولت واقعة الإغتيال، سواء تلك التي نُسبت إلي أرملة مغنية من اتهام صريح لأجهزة الأمن السورية بالتورّط في العملية (قولها، إذا صحّ أنها القائلة: لقد سهّل السوريون قتل زوجي ، و رفض سورية مشاركة محققين إيرانيين هو الدليل الدامغ علي تورط نظام دمشق في قتل عماد ، فضلاً عن تلميحها إلي الخيانة و الغدر )؛ أو تلك التي صدرت عن وكالة أنباء فارس الإيرانية، ثمّ صحيفة كيهان ، حول دور سعودي في تنفيذ عملية الإغتيال، يورّط رئيس مجلس الأمن القومي السعودي، الأمير بندر بن سلطان، نفسه؛ أو، أخيراً، ما أشيع عن إرجاء السلطات السورية إعلان نتائج التحقيقات إلي ما بعد مؤتمر القمّة، وتحديداً في في السادس من نيسان (إبريل) الجاري، وما تلاه من نفي سوري رسمي لهذه التقارير.
وأن يضرب المرء صفحاً عن هذه المعطيات أمر لا يعني البتة تجريدها من كلّ صحّة أو مصداقية أو قيمة، إنْ لم يكن بسبب معيار الإختبار القديم الذي يقول إنّ الدخان لا يتصاعد من غير نار، فعلي أقلّ تقدير لأنّ جهات ملموسة، رسمية أو شبه رسمية، ذات عناوين بيّنة وصلات وثيقة، هي ـ وليس أيّ تكهن، أو تلفيق، أو ضرب بالرمل ـ مصادر تلك الأخبار. غير أنّ التشديد اليوم علي صمت السلطات السورية إزاء جريمة الإغتيال، واستمرار السكوت حتي عن تبيان سيناريو العملية، إذا عزّ العثور علي هوية القتلة أو كان توجيه إصبع الإتهام إليهم دونه خرط القتاد، يرتدي أهمية خاصة في اعتبارَين أساسيين، بين اعتبارات أخري قد تكون أقلّ مغزي.
الأوّل هو أنّ اقتفاء الخيط المفضي إلي جهة التنفيذ المرجحة أكثر من سواها (الإستخبارات الإسرائيلية) لا يحتاج إلي عبقرية إستثنائية من جانب سلطات التحقيق السورية، خصوصاً وأنّ السيد حسن نصر الله، الأمين العام لـ حزب الله ، لم يترك لبساً حول تلك الجهة وسمّاها بالاسم الصريح. من جانبه، ورغم تفاديه الإشارة بوضوح إلي الخيط الإسرائيلي، قال وزير الخارجية السوري إنّ اغتيال مغنية هو اغتيال أي جهد للسلام ، بما يوحي ـ وإنْ علي نحو سوريالي ـ إلي وجود جهة أخري تسعي إلي نسف السلام بين إسرائيل والنظام السوري، وأنّ هذه ليست سوي... إسرائيل ذاتها!
الاعتبار الثاني هو أنّ استمرار صمت السلطات السورية قد يشير، في المنطق الإستقرائي البسيط، إلي حرج كبير حتي في اتهام أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية، لأسباب لا تخصّ الحياء من دولة إسرائيل بالطبع، بل تخصّ هوية كبش الفداء المحلي الذي لا مناص من تقديمه للرأي العام، السوري والعربي والعالمي، إذا شاء نظام بشار الأسد أن يزعم أيّ حدّ أدني من السيطرة الأمنية علي مقدّرات البلاد (إذ لا يكفي، بالطبع، أن تكون الأجهزة شاطرة تماماً في اعتقال نشطاء المعارضة السورية!). والحال أنّ المعضلة قد لا تنحصر في تدبّر كبش فداء كيفما اتفق، فهذا خيار مقدور عليه وليست مَسْرَحته بالإجراء الصعب أو غير المسبوق، بل في أنّ أيّ كبش فداء لا يمكن له إلا أن يدلّ علي اختراق (إسرائيلي؟) بالغ الخطورة، من جهة؛ وأنّ أيّ كبش منضوٍ مسبقاً في قطيع أعرض، يقوده واحد من الرؤوس الكبيرة، وهنا الطامة: ليس الإجهاز علي أحد أكباش ذلك الرأس، إلا إطاحة بالرأس نفسه في نهاية المطاف!
وفي هذا السياق تجوز قراءة التقارير التي راجت في الآونة الاخيرة وتحدّثت عن وضع اللواء آصف شوكت، رئيس جهاز الإستخبارات العسكرية وصهر الرئاسة وضابط الأمن الأقوي اليوم في سورية، تحت الإقامة الجبرية. وقبل التفصيل أكثر في هذه الحكاية، لعلّ من المفيد للمرء أن ينتهج فيها مقاربة جدلية: إذا جاز القول إنّ تضخيم الخلافات بين شوكت وبشار الأسد يندرج في باب التمنّي، أو التفكير الرغبوي المحض، لدي هذه الفئة أو تلك من خصوم النظام السوري؛ فإنّ الجزم، في المقابل، بأنّ تلك الخلافات منعدمة اليوم أو حتي مستحيلة في أيّ يوم، إنما يندرج في باب الإختزال الأقصي والقراءة الأشدّ رداءة لتاريخ الحركة التصحيحية عموماً، وطرائق اتفاق وافتراق عائلة السلطة بصفة خاصة.
والحال أنّ اتفاق شوكت والأسد حول الضرورات العليا لأمن النظام، وهو اتفاق ينقلب إلي توافق جماعي حين تندرج فيه أدوار ماهر الأسد (الأقوي في صفوف الجيش الكلاسيكي والوحدات العسكرية ذات المهامّ الأمنية الخاصة) ومحمد مخلوف (بارون اقتصاد العائلة، وبالتالي اقتصاد الإستبداد) وحفنة محدودة للغاية من العسكريين والمدنيين ـ الأقلّ رتبة ومرتبة فقط، ولكن ليسوا أبداً أقلّ ضرورة في تشغيل آلة السلطة ـ لا يعني انطباقاً تاماً، أو تطابقاً شاملاً، حول وسائل الحفاظ علي ذلك الأمن. ثمة مؤشرات عديدة علي اختلاف اللواء مع الرئيس في مسائل سياسية حاسمة، مثل تدهور علاقات النظام مع السعودية ومصر، وما إذا كان الحفاظ علي المقدار الراهن من النفوذ السوري في لبنان يستحق كلّ ذلك التدهور من جهة، أو أنّ في وسع النظام الصمود طويلاً في المواجهة الحالية، بل المواجهات القادمة، العربية أو الإقليمية أو الدولية. هنا، بالطبع، تدخل الأشغال والأعمال علي خطّ الخلاف السياسي، إذْ هل من مصلحة القيّمين علي النهب والفساد والإستثمار أن تُغلق الأبواب السعودية، وبعدها بعض أبواب الخليج، في وجه رساميلهم وشراكاتهم وشركاتهم؟
ملفّ آخر في الخلاف، والاختلاف، هو حدود العلاقات مع إيران، أمنياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وهل من الحكمة أن تنتهي تلك الحدود إلي تحالف... بلا حدود؟ وقد يسلّم المرء (بما يسهل التسليم به، في الواقع) من أنّ اللواء لديه أجندة طبيعية شخصية، في إدامة النفوذ والسلطة والحلفاء وشبكات الولاء، مثله في ذلك مثل تسعة أعشار كبار رجالات الحركة التصحيحية ، من العماد حكمت الشهابي إلي اللواء ذو الهمّة شاليش، مروراً بالألوية رفعت الأسد وعلي دوبا وعلي حيدر وشفيق فياض... التالي، من حيث المبدأ، هو أنّ هذه الأجندة تصطدم موضوعياً بالمشروع الإيراني في سورية، علي مبدأ الأواني المستطرقة عملياً: كلما تزايد الرهان الإيراني علي بشار الأسد، بما ينطوي عليه ذلك من إحاطته أكثر فأكثر بأنصار إيران (ثمة تقارير ذهبت إلي حدّ ترجيح نجاح طهران في تشكيل نواة عسكرية ـ أمنية سورية من هذا الطراز، كفيلة بأن تنفّذ انقلاباً عسكرياً في التوقيت الملائم)، تناقصت فرص آصف شوكت في تشكيل مركز قوّة/طواريء نظير، وليس بديلاً، يملأ الفراغ إذا وقع، أو يملأ الشاغر إذا غاب شاغله.
صحيح أنه ليس في الوسع رصد هذه الخلافات علانية، بالنظر إلي أنّ شوكت لم يسبق له أن خاض في غمار السياسة علناً، إلا أنّ تطوّرات كهذه لا يمكن أن تظلّ حبيسة جدران بيوت السلطة، وثمة دائماً معلومات بالغة الدقة تأخذ نادراً صفة التسرّب، ولكنها غالباً تسير مسري التسريب عن سابق قصد وتصميم (صداقات اللواء مع نخبة من الدبلوماسيين وضباط الأمن في بعض الدول الغربية، فرنسا وإسبانيا خصوصاً، كفيلة بتأمين معين لا ينضب من المعلومات). ولعلّ جريمة اغتيال عماد مغنية تندرج في هذا النسق الخاصّ من التسريب والتسرّب. ذلك لأنّ توجيه إصبع الإتهام إلي الإستخبارات الإسرائيلية، مدعومة ربما بعون لوجستي من أجهزة أخري أمريكية أو غربية صديقة للدولة العبرية، أو حتي عربية يبهجها اغتيال مغنية، لا يلغي نهائياً احتمال تورّط جهة، أو جيب أمني خفيّ بارع التمويه، داخل الأجهزة السورية ذاتها.
وقبيل اغتياله بأسابيع معدودة، تردّد أنّ مغنية ذهب بعيداً في ممارسة مهامّه الجديدة بصدد التنسيق بين الحرس الثوري الإيراني وكلّ من حزب الله والحركات الجهادية الفلسطينية. ولعلّه ذهب أبعد ممّا هو مسموح به، وتحديداً في خرق اتفاق الشرف المبرم مع السلطات السورية، والذي تضمّن إطلاع جهاز الإستخبارات العسكرية السورية، ورئيسه اللواء آصف شوكت شخصياً، علي كلّ صغيرة وكبيرة في ذلك التنسيق.
يُضاف إلي هذا أنّه إذا اتضحت ذات يوم مسؤولية الأجهزة الأمنية السورية عن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وانكشفت طبيعة العون اللوجستي الذي قد تكون قدّمته أطراف لبنانية، بينها أجهزة حزب الله الأمنية، فإنّ مغنية كان سينقلب إلي واحد من أبرز الشهود الذين ستحرص المحكمة الدولية علي الإصغاء إليهم.
وإذا صحّت التقديرات التي اشارت إلي أنّ أمن مغنية الشخصي كان ثلاثي الحلقات، تشرف عليه حمايات تابعة لإيران مباشرة ثمّ حزب الله والجهاز السوري أخيراً، فإنّ احتمال تصفيته علي يد جهاز إيراني، يأخذ صيغة اختراق للأجهزة السورية، أمر غير مستبعد، حتي إذا بدا ضئيلاً.
إنّ انحياز الحرس الثوري إلي صفّ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، وهو تطوّر تجلّي مؤخراً علي نحو دراماتيكي غير مألوف في تراث الثورة الإسلامية الإيرانية، أسفر موضوعياً عن خلط جذري للأوراق وموازين القوي في الهرم الأعلي من السلطة الإيرانية. وغنيّ عن القول إنه سيفضي إلي إعادة ترتيب البيت الأمني أوّلاً، وإلي إدخال تبديلات هنا وتعديلات هناك، بوسائل متعددة ليست كلّها سلمية، لا يمكن أن يغيب عن بعضها خيار التصفية الجسدية.
ورغم النفي السوري الرسمي، إذْ كان لا بدّ للسلطات السورية أن تنفي حفاظاً علي ماء الوجه قبل التمسّح بمبدأ السيادة الوطنية، فإنّ الخبر الذي أعلنه نائب وزير الخارجية الإيراني علي رضا شيخ عطار، عن أن طهران ودمشق شكّلتا لجنة مشتركة للتحقيق في اغتيال مهنية، كان مطلباً إيرانياً حاسماً، وكان أيضاً رغبة من حزب الله . ومن نافل القول إنّ أيّ تحقيق مشترك كان سيشكّل ضربة شخصية موجعة للواء شوكت، ولجهاز الإستخبارات العسكرية الذي يترأسه، من أعلي الهرم إلي أصغر مفرزة. وكان شوكت قد حرص علي إبداء الترفّع عن تنفيذ حملات اعتقال داخلية ضدّ المعارضين السوريين، وترك إلي جهاز المخابرات العامة (ورئيسه اللواء علي مملوك، شخصياً) القيام بأمثال هذه المهامّ القذرة ، وتفرّغ في المقابل لأمور عليا تخصّ أمن النظام الخارجي ومصالحه السياسية الإقليمية.
والحال أنّ عرقلة تشكيل هيئة تحقيق سورية ـ إيرانية مشتركة وقفت خلفه الأسباب ذاتها التي تمنع السلطات السورية من كشف ما توصّلت إليه تحقيقاتها حتي الآن، رغم مرور كلّ هذه الأسابيع، ورغم السخط الشديد الذي يتعاظم في أوساط مناصري حزب الله ، وما يستولده الصمت من إشاعات وإشاعات مضادّة تمسّ هيبة النظام. ولا يخفي أنّ ما يتصدّر تلك الأسباب هو ذلك المحظور، البسيط القاتل: إنّ البدء من أيّ كبش فداء، صغير أو متوسط أو كبير، لا بدّ أن ينتهي إلي انكشاف ما هو أدهي بكثير من أيّ كبش
صبحي حديدي
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
وللمرء أن يضرب صفحاً عن التقارير المتضاربة التي تناولت واقعة الإغتيال، سواء تلك التي نُسبت إلي أرملة مغنية من اتهام صريح لأجهزة الأمن السورية بالتورّط في العملية (قولها، إذا صحّ أنها القائلة: لقد سهّل السوريون قتل زوجي ، و رفض سورية مشاركة محققين إيرانيين هو الدليل الدامغ علي تورط نظام دمشق في قتل عماد ، فضلاً عن تلميحها إلي الخيانة و الغدر )؛ أو تلك التي صدرت عن وكالة أنباء فارس الإيرانية، ثمّ صحيفة كيهان ، حول دور سعودي في تنفيذ عملية الإغتيال، يورّط رئيس مجلس الأمن القومي السعودي، الأمير بندر بن سلطان، نفسه؛ أو، أخيراً، ما أشيع عن إرجاء السلطات السورية إعلان نتائج التحقيقات إلي ما بعد مؤتمر القمّة، وتحديداً في في السادس من نيسان (إبريل) الجاري، وما تلاه من نفي سوري رسمي لهذه التقارير.
وأن يضرب المرء صفحاً عن هذه المعطيات أمر لا يعني البتة تجريدها من كلّ صحّة أو مصداقية أو قيمة، إنْ لم يكن بسبب معيار الإختبار القديم الذي يقول إنّ الدخان لا يتصاعد من غير نار، فعلي أقلّ تقدير لأنّ جهات ملموسة، رسمية أو شبه رسمية، ذات عناوين بيّنة وصلات وثيقة، هي ـ وليس أيّ تكهن، أو تلفيق، أو ضرب بالرمل ـ مصادر تلك الأخبار. غير أنّ التشديد اليوم علي صمت السلطات السورية إزاء جريمة الإغتيال، واستمرار السكوت حتي عن تبيان سيناريو العملية، إذا عزّ العثور علي هوية القتلة أو كان توجيه إصبع الإتهام إليهم دونه خرط القتاد، يرتدي أهمية خاصة في اعتبارَين أساسيين، بين اعتبارات أخري قد تكون أقلّ مغزي.
الأوّل هو أنّ اقتفاء الخيط المفضي إلي جهة التنفيذ المرجحة أكثر من سواها (الإستخبارات الإسرائيلية) لا يحتاج إلي عبقرية إستثنائية من جانب سلطات التحقيق السورية، خصوصاً وأنّ السيد حسن نصر الله، الأمين العام لـ حزب الله ، لم يترك لبساً حول تلك الجهة وسمّاها بالاسم الصريح. من جانبه، ورغم تفاديه الإشارة بوضوح إلي الخيط الإسرائيلي، قال وزير الخارجية السوري إنّ اغتيال مغنية هو اغتيال أي جهد للسلام ، بما يوحي ـ وإنْ علي نحو سوريالي ـ إلي وجود جهة أخري تسعي إلي نسف السلام بين إسرائيل والنظام السوري، وأنّ هذه ليست سوي... إسرائيل ذاتها!
الاعتبار الثاني هو أنّ استمرار صمت السلطات السورية قد يشير، في المنطق الإستقرائي البسيط، إلي حرج كبير حتي في اتهام أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية، لأسباب لا تخصّ الحياء من دولة إسرائيل بالطبع، بل تخصّ هوية كبش الفداء المحلي الذي لا مناص من تقديمه للرأي العام، السوري والعربي والعالمي، إذا شاء نظام بشار الأسد أن يزعم أيّ حدّ أدني من السيطرة الأمنية علي مقدّرات البلاد (إذ لا يكفي، بالطبع، أن تكون الأجهزة شاطرة تماماً في اعتقال نشطاء المعارضة السورية!). والحال أنّ المعضلة قد لا تنحصر في تدبّر كبش فداء كيفما اتفق، فهذا خيار مقدور عليه وليست مَسْرَحته بالإجراء الصعب أو غير المسبوق، بل في أنّ أيّ كبش فداء لا يمكن له إلا أن يدلّ علي اختراق (إسرائيلي؟) بالغ الخطورة، من جهة؛ وأنّ أيّ كبش منضوٍ مسبقاً في قطيع أعرض، يقوده واحد من الرؤوس الكبيرة، وهنا الطامة: ليس الإجهاز علي أحد أكباش ذلك الرأس، إلا إطاحة بالرأس نفسه في نهاية المطاف!
وفي هذا السياق تجوز قراءة التقارير التي راجت في الآونة الاخيرة وتحدّثت عن وضع اللواء آصف شوكت، رئيس جهاز الإستخبارات العسكرية وصهر الرئاسة وضابط الأمن الأقوي اليوم في سورية، تحت الإقامة الجبرية. وقبل التفصيل أكثر في هذه الحكاية، لعلّ من المفيد للمرء أن ينتهج فيها مقاربة جدلية: إذا جاز القول إنّ تضخيم الخلافات بين شوكت وبشار الأسد يندرج في باب التمنّي، أو التفكير الرغبوي المحض، لدي هذه الفئة أو تلك من خصوم النظام السوري؛ فإنّ الجزم، في المقابل، بأنّ تلك الخلافات منعدمة اليوم أو حتي مستحيلة في أيّ يوم، إنما يندرج في باب الإختزال الأقصي والقراءة الأشدّ رداءة لتاريخ الحركة التصحيحية عموماً، وطرائق اتفاق وافتراق عائلة السلطة بصفة خاصة.
والحال أنّ اتفاق شوكت والأسد حول الضرورات العليا لأمن النظام، وهو اتفاق ينقلب إلي توافق جماعي حين تندرج فيه أدوار ماهر الأسد (الأقوي في صفوف الجيش الكلاسيكي والوحدات العسكرية ذات المهامّ الأمنية الخاصة) ومحمد مخلوف (بارون اقتصاد العائلة، وبالتالي اقتصاد الإستبداد) وحفنة محدودة للغاية من العسكريين والمدنيين ـ الأقلّ رتبة ومرتبة فقط، ولكن ليسوا أبداً أقلّ ضرورة في تشغيل آلة السلطة ـ لا يعني انطباقاً تاماً، أو تطابقاً شاملاً، حول وسائل الحفاظ علي ذلك الأمن. ثمة مؤشرات عديدة علي اختلاف اللواء مع الرئيس في مسائل سياسية حاسمة، مثل تدهور علاقات النظام مع السعودية ومصر، وما إذا كان الحفاظ علي المقدار الراهن من النفوذ السوري في لبنان يستحق كلّ ذلك التدهور من جهة، أو أنّ في وسع النظام الصمود طويلاً في المواجهة الحالية، بل المواجهات القادمة، العربية أو الإقليمية أو الدولية. هنا، بالطبع، تدخل الأشغال والأعمال علي خطّ الخلاف السياسي، إذْ هل من مصلحة القيّمين علي النهب والفساد والإستثمار أن تُغلق الأبواب السعودية، وبعدها بعض أبواب الخليج، في وجه رساميلهم وشراكاتهم وشركاتهم؟
ملفّ آخر في الخلاف، والاختلاف، هو حدود العلاقات مع إيران، أمنياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وهل من الحكمة أن تنتهي تلك الحدود إلي تحالف... بلا حدود؟ وقد يسلّم المرء (بما يسهل التسليم به، في الواقع) من أنّ اللواء لديه أجندة طبيعية شخصية، في إدامة النفوذ والسلطة والحلفاء وشبكات الولاء، مثله في ذلك مثل تسعة أعشار كبار رجالات الحركة التصحيحية ، من العماد حكمت الشهابي إلي اللواء ذو الهمّة شاليش، مروراً بالألوية رفعت الأسد وعلي دوبا وعلي حيدر وشفيق فياض... التالي، من حيث المبدأ، هو أنّ هذه الأجندة تصطدم موضوعياً بالمشروع الإيراني في سورية، علي مبدأ الأواني المستطرقة عملياً: كلما تزايد الرهان الإيراني علي بشار الأسد، بما ينطوي عليه ذلك من إحاطته أكثر فأكثر بأنصار إيران (ثمة تقارير ذهبت إلي حدّ ترجيح نجاح طهران في تشكيل نواة عسكرية ـ أمنية سورية من هذا الطراز، كفيلة بأن تنفّذ انقلاباً عسكرياً في التوقيت الملائم)، تناقصت فرص آصف شوكت في تشكيل مركز قوّة/طواريء نظير، وليس بديلاً، يملأ الفراغ إذا وقع، أو يملأ الشاغر إذا غاب شاغله.
صحيح أنه ليس في الوسع رصد هذه الخلافات علانية، بالنظر إلي أنّ شوكت لم يسبق له أن خاض في غمار السياسة علناً، إلا أنّ تطوّرات كهذه لا يمكن أن تظلّ حبيسة جدران بيوت السلطة، وثمة دائماً معلومات بالغة الدقة تأخذ نادراً صفة التسرّب، ولكنها غالباً تسير مسري التسريب عن سابق قصد وتصميم (صداقات اللواء مع نخبة من الدبلوماسيين وضباط الأمن في بعض الدول الغربية، فرنسا وإسبانيا خصوصاً، كفيلة بتأمين معين لا ينضب من المعلومات). ولعلّ جريمة اغتيال عماد مغنية تندرج في هذا النسق الخاصّ من التسريب والتسرّب. ذلك لأنّ توجيه إصبع الإتهام إلي الإستخبارات الإسرائيلية، مدعومة ربما بعون لوجستي من أجهزة أخري أمريكية أو غربية صديقة للدولة العبرية، أو حتي عربية يبهجها اغتيال مغنية، لا يلغي نهائياً احتمال تورّط جهة، أو جيب أمني خفيّ بارع التمويه، داخل الأجهزة السورية ذاتها.
وقبيل اغتياله بأسابيع معدودة، تردّد أنّ مغنية ذهب بعيداً في ممارسة مهامّه الجديدة بصدد التنسيق بين الحرس الثوري الإيراني وكلّ من حزب الله والحركات الجهادية الفلسطينية. ولعلّه ذهب أبعد ممّا هو مسموح به، وتحديداً في خرق اتفاق الشرف المبرم مع السلطات السورية، والذي تضمّن إطلاع جهاز الإستخبارات العسكرية السورية، ورئيسه اللواء آصف شوكت شخصياً، علي كلّ صغيرة وكبيرة في ذلك التنسيق.
يُضاف إلي هذا أنّه إذا اتضحت ذات يوم مسؤولية الأجهزة الأمنية السورية عن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وانكشفت طبيعة العون اللوجستي الذي قد تكون قدّمته أطراف لبنانية، بينها أجهزة حزب الله الأمنية، فإنّ مغنية كان سينقلب إلي واحد من أبرز الشهود الذين ستحرص المحكمة الدولية علي الإصغاء إليهم.
وإذا صحّت التقديرات التي اشارت إلي أنّ أمن مغنية الشخصي كان ثلاثي الحلقات، تشرف عليه حمايات تابعة لإيران مباشرة ثمّ حزب الله والجهاز السوري أخيراً، فإنّ احتمال تصفيته علي يد جهاز إيراني، يأخذ صيغة اختراق للأجهزة السورية، أمر غير مستبعد، حتي إذا بدا ضئيلاً.
إنّ انحياز الحرس الثوري إلي صفّ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، وهو تطوّر تجلّي مؤخراً علي نحو دراماتيكي غير مألوف في تراث الثورة الإسلامية الإيرانية، أسفر موضوعياً عن خلط جذري للأوراق وموازين القوي في الهرم الأعلي من السلطة الإيرانية. وغنيّ عن القول إنه سيفضي إلي إعادة ترتيب البيت الأمني أوّلاً، وإلي إدخال تبديلات هنا وتعديلات هناك، بوسائل متعددة ليست كلّها سلمية، لا يمكن أن يغيب عن بعضها خيار التصفية الجسدية.
ورغم النفي السوري الرسمي، إذْ كان لا بدّ للسلطات السورية أن تنفي حفاظاً علي ماء الوجه قبل التمسّح بمبدأ السيادة الوطنية، فإنّ الخبر الذي أعلنه نائب وزير الخارجية الإيراني علي رضا شيخ عطار، عن أن طهران ودمشق شكّلتا لجنة مشتركة للتحقيق في اغتيال مهنية، كان مطلباً إيرانياً حاسماً، وكان أيضاً رغبة من حزب الله . ومن نافل القول إنّ أيّ تحقيق مشترك كان سيشكّل ضربة شخصية موجعة للواء شوكت، ولجهاز الإستخبارات العسكرية الذي يترأسه، من أعلي الهرم إلي أصغر مفرزة. وكان شوكت قد حرص علي إبداء الترفّع عن تنفيذ حملات اعتقال داخلية ضدّ المعارضين السوريين، وترك إلي جهاز المخابرات العامة (ورئيسه اللواء علي مملوك، شخصياً) القيام بأمثال هذه المهامّ القذرة ، وتفرّغ في المقابل لأمور عليا تخصّ أمن النظام الخارجي ومصالحه السياسية الإقليمية.
والحال أنّ عرقلة تشكيل هيئة تحقيق سورية ـ إيرانية مشتركة وقفت خلفه الأسباب ذاتها التي تمنع السلطات السورية من كشف ما توصّلت إليه تحقيقاتها حتي الآن، رغم مرور كلّ هذه الأسابيع، ورغم السخط الشديد الذي يتعاظم في أوساط مناصري حزب الله ، وما يستولده الصمت من إشاعات وإشاعات مضادّة تمسّ هيبة النظام. ولا يخفي أنّ ما يتصدّر تلك الأسباب هو ذلك المحظور، البسيط القاتل: إنّ البدء من أيّ كبش فداء، صغير أو متوسط أو كبير، لا بدّ أن ينتهي إلي انكشاف ما هو أدهي بكثير من أيّ كبش
صبحي حديدي
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس