Fares
09/07/2004, 11:29
فقد الطعام سحره وجاذبيته.. ليست بالحال التي يصبر عليها يوماً أو يومين.. وعليه يجب أن يستشير طبيبه.. طالما عدّ نفسه من السعداء لاقتضائه ستين عاماً من الزمن وهو على أتم ما يكون من الصحة والعافية. ورغم نشاطه المتواصل كرجل من رجال الأعمال فلم يهمل جانب الأناقة والرياضة. في حياته الثرية يتبدى دائماً في أجمل صورة، ويحسن السباحة والتنس ولا تفوته الرعاية الدقيقة لصحته. زار طبيبه بميدان الأزهار، فحصه الرجل بعناية ثم قال:
- الكبد...
ندت عن يده حركة كالاحتجاج وخاطبه كصديق قائلاً:
- كنت تعلم بأني معتدل جداً في الشرب..
- لا بد من الأشعة.
هذه الإجراءات هي ما تضايقه في الطب الحديث لكن لا سبيل إلى التراجع. وصعد إلى الدور السابع بنفس العمارة مسبوقاً بتوصية تليفونية. فالتقطت له صورة ذهب بها إلى طبيبه في مساء اليوم التالي، فقرأها ثم قال بإيجاز:
- لا بد من تحليل الدم...
وساوره قلق جدي لأول مرة باعتباره ذا تجارب مأساوية سابقة في أسرته، فقال:
- في الأمر اشتباه؟؟
- سيسفر عن نتائج حميدة بإذن الله..
ومضى إلى مخبر التحليل مهموماً قلقاً. وانغرزت الإبرة في كبده مصحوبة بآلام لم يتوقعها. وفي مساء اليوم التالي ذهب بالنتيجة إلى الطبيب، وقال للطبيب وهو يتفحصها:
- صارحني بالحقيقة كاملة. إني مستعد لذلك...
فقال الرجل بجدية:
- هيهات أن يسهل خداعك..
- إذاً هو ما كنا نخشاه؟
أجاب بإيماءة من رأسه للمريض.
- وإذاًَ فلا شفاء ولا دواء، ولكن مجرد مسكنات؟
- بل يرجى إيقاف الورم. وهذا ليس بإنجاز قليل.
- أتنصحني بالسفر إلى الخارج؟
- ما كنت لأتأخر عن اقتراحه عليك لو أفاد.
ويفكر قليلاً ثم يسأله:
- هل يمكن أن تحدد لي المدة الباقية من حياتي؟
- كلا. الأعمار بيد الله وحده..
- ولو على وجه التقريب؟
- كلا.. كلنا أمام الموت سواء. وقد يسبقك إليه جميع الأصحاء من أصحابك..
فقال برجاء:
- جنبني الألم ما استطعت..
- هذا متيسر..
بين يوم وليلة، بل في غمضة عين.. مذهل.. حقاً مذهل.. خاطب نفسه بقوة: حذار من الانهيار. وقال لها أيضاً: سلمي بهذا الواقع كأي واقع آخر.ز ومن أول لحظة قال عقله كلاماً مليحاً ولكنه لم يستطع أن يخلصه من قبضة الهزيمة والخوف والأسى. وقال له صديق:
- ليتك تستطيع أن تتناسى الموضوع.
- هذا ما أحاوله. وإلا فلن أنجز شيئاً أجل.. أمامه واجبات معقدة كثيرة. وكما قال لنفسه "لولا الأسرة لقمت بسباحة حول الأرض غير مبال بشيء". وفكر أول ما فكر في عمله، فتراءى له لأول وهلة أن يتخلى عنه لنائب له. ولكنه سرعان ما استبعد الفكرة ما دام أن العمل يشغل وقته ويفقده زمناً لا يستهان به من الوحدة والأفكار السيئة. وانهمك في توزيع ثروته ومشاورة محاميه بما يحقق الاستقرار لأهله، وتوفير الضرائب التي يمكن توفيرها. ولم يبح بسر مرضه إلا لزوجته، أما الأبناء فقد رسم خطة لإعدادهم للنهاية دون انزعاج لا ضرورة له قبل الأوان.. واصل ترشيده لهم في الأمور التي تهمه كالجنس والمخدرات وشؤون العمل والمال. والحق أن انهماكه في ذلك كله خفف من قسوة محنته وخاصة في إبان حدتها وشدتها. واستعاد شهيته للطعام ولم يشعر بأي ألم مما أحست به نفسه. ومارس رياضته المحبوبة باعتدال ووجد إقناعاً كبيراً للعلم وما أبدعه من مسكنات، ولم ينقطع عن ناديه وأصحابه ولا عن شجون الحديث في الاقتصاد والسياسة. وكلما ألمت خاطرة سوداء على باله ردد في باطنه قول طبيبه وصديقه: "كلنا أمام الموت سواء". بل إنه مع مرور الزمن أخذ يؤمن بأن مرضه أتاح له فرصاً لم تكن مهيأة من قبل..
ألم يستعد لأمور كثيرة كان يمكن أن تترك معلقة وأن يشقى بها أهله؟ واعترف بأنه خفف من عبء الدنيا الذي حمله على كاهله طويلاً وفي معاناة مستمرة. حقاً إنه ما زال يواصل عمله ولكن هان توتره العصبي الذي لم يرحمه جل حياته، وإنه يعمل من أجل الدنيا ولم يعد أسيراً في قبضتها. وانجلت عن وجدانه مخاوف كثيرة طالما ناوشته مع كل طلوع للشمس.. موت أول ابن له في عز شبابه، ماذا يعني الآن؟ حسده لأقران لعبوا دوراً أكبر منه في التاريخ.. تدوير الدولارات اللازمة لشراء مستلزمات الإنتاج.. الركود الاقتصادي والخوف من العجز عن تسديد بعض الأقساط للبنوك.. مستقبل البلد السياسي وما ينذر من تقلبات مجهولة..
أجل، يصح له اليوم أن يسأل عما ينتظره بعد الموت. إنه لم يدخل في حياته جامعاً إلا في مناسبة دعي فيها مع من دعوا ليكونوا في شرف استقبال رئيس الجمهورية. لم يؤدّ فريضة دينية قط ولا يعرف عن دينه شيئاً يذكر. ولكنه يعتبر نفسه مؤمناً بالله ورسوله. ويؤمن بأن الله أرحم الراحمين لمخلوقاته. فضلاً عن أنه لم يرتكب في حياته إثماً كبيراً، كما كان كريماً مع الفقراء من أقربائه وأصدقائه..
ولم يفكر في أن يعرف من شؤون دينه ما فاته خشية أنتفتح له المعرفة أبواباً تفسد عليه صفوه وطمأنينته إلى رحمة الله. وأقنع نفسه أنه اليوم أسعد مما كان عليه بالأمس. وعجب لذلك عجباً شديداً. أكان يضمر الكراهية لحياته الماضية رغم الصحة والنجاح؟ أكان يجاهد وهو لا يدري ليتحرر من قبضتها العاتية؟ هل ضاق بأن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً، وود لو يتعامل معها كأنه يموت غداً؟.
قال لصديقه يوماً وهما يتناجيان:
" المرض لقنني درساً وهو أن الموت صديق في ثياب عدو"....
- الكبد...
ندت عن يده حركة كالاحتجاج وخاطبه كصديق قائلاً:
- كنت تعلم بأني معتدل جداً في الشرب..
- لا بد من الأشعة.
هذه الإجراءات هي ما تضايقه في الطب الحديث لكن لا سبيل إلى التراجع. وصعد إلى الدور السابع بنفس العمارة مسبوقاً بتوصية تليفونية. فالتقطت له صورة ذهب بها إلى طبيبه في مساء اليوم التالي، فقرأها ثم قال بإيجاز:
- لا بد من تحليل الدم...
وساوره قلق جدي لأول مرة باعتباره ذا تجارب مأساوية سابقة في أسرته، فقال:
- في الأمر اشتباه؟؟
- سيسفر عن نتائج حميدة بإذن الله..
ومضى إلى مخبر التحليل مهموماً قلقاً. وانغرزت الإبرة في كبده مصحوبة بآلام لم يتوقعها. وفي مساء اليوم التالي ذهب بالنتيجة إلى الطبيب، وقال للطبيب وهو يتفحصها:
- صارحني بالحقيقة كاملة. إني مستعد لذلك...
فقال الرجل بجدية:
- هيهات أن يسهل خداعك..
- إذاً هو ما كنا نخشاه؟
أجاب بإيماءة من رأسه للمريض.
- وإذاًَ فلا شفاء ولا دواء، ولكن مجرد مسكنات؟
- بل يرجى إيقاف الورم. وهذا ليس بإنجاز قليل.
- أتنصحني بالسفر إلى الخارج؟
- ما كنت لأتأخر عن اقتراحه عليك لو أفاد.
ويفكر قليلاً ثم يسأله:
- هل يمكن أن تحدد لي المدة الباقية من حياتي؟
- كلا. الأعمار بيد الله وحده..
- ولو على وجه التقريب؟
- كلا.. كلنا أمام الموت سواء. وقد يسبقك إليه جميع الأصحاء من أصحابك..
فقال برجاء:
- جنبني الألم ما استطعت..
- هذا متيسر..
بين يوم وليلة، بل في غمضة عين.. مذهل.. حقاً مذهل.. خاطب نفسه بقوة: حذار من الانهيار. وقال لها أيضاً: سلمي بهذا الواقع كأي واقع آخر.ز ومن أول لحظة قال عقله كلاماً مليحاً ولكنه لم يستطع أن يخلصه من قبضة الهزيمة والخوف والأسى. وقال له صديق:
- ليتك تستطيع أن تتناسى الموضوع.
- هذا ما أحاوله. وإلا فلن أنجز شيئاً أجل.. أمامه واجبات معقدة كثيرة. وكما قال لنفسه "لولا الأسرة لقمت بسباحة حول الأرض غير مبال بشيء". وفكر أول ما فكر في عمله، فتراءى له لأول وهلة أن يتخلى عنه لنائب له. ولكنه سرعان ما استبعد الفكرة ما دام أن العمل يشغل وقته ويفقده زمناً لا يستهان به من الوحدة والأفكار السيئة. وانهمك في توزيع ثروته ومشاورة محاميه بما يحقق الاستقرار لأهله، وتوفير الضرائب التي يمكن توفيرها. ولم يبح بسر مرضه إلا لزوجته، أما الأبناء فقد رسم خطة لإعدادهم للنهاية دون انزعاج لا ضرورة له قبل الأوان.. واصل ترشيده لهم في الأمور التي تهمه كالجنس والمخدرات وشؤون العمل والمال. والحق أن انهماكه في ذلك كله خفف من قسوة محنته وخاصة في إبان حدتها وشدتها. واستعاد شهيته للطعام ولم يشعر بأي ألم مما أحست به نفسه. ومارس رياضته المحبوبة باعتدال ووجد إقناعاً كبيراً للعلم وما أبدعه من مسكنات، ولم ينقطع عن ناديه وأصحابه ولا عن شجون الحديث في الاقتصاد والسياسة. وكلما ألمت خاطرة سوداء على باله ردد في باطنه قول طبيبه وصديقه: "كلنا أمام الموت سواء". بل إنه مع مرور الزمن أخذ يؤمن بأن مرضه أتاح له فرصاً لم تكن مهيأة من قبل..
ألم يستعد لأمور كثيرة كان يمكن أن تترك معلقة وأن يشقى بها أهله؟ واعترف بأنه خفف من عبء الدنيا الذي حمله على كاهله طويلاً وفي معاناة مستمرة. حقاً إنه ما زال يواصل عمله ولكن هان توتره العصبي الذي لم يرحمه جل حياته، وإنه يعمل من أجل الدنيا ولم يعد أسيراً في قبضتها. وانجلت عن وجدانه مخاوف كثيرة طالما ناوشته مع كل طلوع للشمس.. موت أول ابن له في عز شبابه، ماذا يعني الآن؟ حسده لأقران لعبوا دوراً أكبر منه في التاريخ.. تدوير الدولارات اللازمة لشراء مستلزمات الإنتاج.. الركود الاقتصادي والخوف من العجز عن تسديد بعض الأقساط للبنوك.. مستقبل البلد السياسي وما ينذر من تقلبات مجهولة..
أجل، يصح له اليوم أن يسأل عما ينتظره بعد الموت. إنه لم يدخل في حياته جامعاً إلا في مناسبة دعي فيها مع من دعوا ليكونوا في شرف استقبال رئيس الجمهورية. لم يؤدّ فريضة دينية قط ولا يعرف عن دينه شيئاً يذكر. ولكنه يعتبر نفسه مؤمناً بالله ورسوله. ويؤمن بأن الله أرحم الراحمين لمخلوقاته. فضلاً عن أنه لم يرتكب في حياته إثماً كبيراً، كما كان كريماً مع الفقراء من أقربائه وأصدقائه..
ولم يفكر في أن يعرف من شؤون دينه ما فاته خشية أنتفتح له المعرفة أبواباً تفسد عليه صفوه وطمأنينته إلى رحمة الله. وأقنع نفسه أنه اليوم أسعد مما كان عليه بالأمس. وعجب لذلك عجباً شديداً. أكان يضمر الكراهية لحياته الماضية رغم الصحة والنجاح؟ أكان يجاهد وهو لا يدري ليتحرر من قبضتها العاتية؟ هل ضاق بأن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً، وود لو يتعامل معها كأنه يموت غداً؟.
قال لصديقه يوماً وهما يتناجيان:
" المرض لقنني درساً وهو أن الموت صديق في ثياب عدو"....