-
دخول

عرض كامل الموضوع : وعاد هلال


هشام الساير
09/03/2008, 15:37
… كان يوما قائظا حارا , إنه يوم من أيام شهر آب , جلست العائلة أمام الدار فقد فرشت مريم الأرض ورشتها بالماء .. صاح أبو هلال : أين الشاي يامريم ؟
-حاضر يا والدي دقائق فقط وأحضر لك الشاي .

.....كانت الشمس تسقط وراء الأفق والجو أخذ يميل إلى البرودة , نظر أبو هلال إلى الشمس وقال: عمري أصبح مثل تلك الشمس هذه نهاية العمر .. زفر زفرة حارة ، أراد أن يقول كلاما ولكنه آثر السكوت .. لخص عمره بحمد الله والاستغفار من الرب الكريم .
عندما غربت الشمس وبدأ الظلام يخيم على القرية، أشعلت فاطمة الضوء الكهربائي ولكنه كان ضعيفا ذابلا تشتت نوره في الفضاء ..
-الشاي يا أبي ..قدمت فاطمة الشاي وصبت لأبيها وإخوتها الذين تحلقوا حول أبيهم .
-نادي أمك يا فاطمة لتشرب الشاي معنا..
-نظرت أم هلال إلى الهلال في السماء الذي يبدو كخيط رفيع ليعلن بداية الأول من شهر شعبان رفعت يديها إلى السماء ودعت وسبحت الخالق .وقالت اللهم بلغنا رمضان ولا تحرمنا ثوابه.
- أقبل رمضان يا أم هلال ، بعد شهر بعون الله نصوم رمضان ، أتذكرين يا أم هلال ؟
- أذكر .. ولا زلت أذكر حتى يوم موتي .. سمينا ولدنا الأول هلالا يوم ولد مع إطلالة شهر شعبان ... وفي رمضان غادر هلال .. وبكت وبكى الجميع .. الله يوفقك يا هلال إن كنت على قيد الحياة .. وقلبي يقول لي هلال على قيد الحياة ،لقد أصبح هلال تاريخا

... ولد فلان سنة رحيل هلال , ومات فلان سنة رحيل فلان ...قالت الأم كأني أرى هلالا أمامي، لا ادري ، ما الذي أحياه في قلبي بعد عشرات السنين ؟!

.....ثمة خيال من بعيد يقترب من البيت نظر إليه الجميع كأنه غريب .. يمشي بوجس وخطوات مرتبكة، اقترب الخيال من العائلة ، يبدو في العقد الرابع من عمره .
(حسب تقدير أبي هلال) ألقى الرجل السلام على العائلة بارتباك ، لقد تحشرج صوته ،فرحب به الجميع وسلموا عليه ودعوه للجلوس .جلس الضيف وقد رمى نفسه على الأرض وهو يحملق في الوجوه.
لا حظ أبو هلال ارتباك الضيف وتلجلج صوته، كأنه أصيب بالدوار . رحب به وقال:


-أهلا بالضيف، أهلا بك على الرحب والسعة , أنا أبو هلال , وهؤلاء أولادي تغيرت معالم الضيف ولم تبدو واضحة أمام ضعف الضوء. ولكن بدت عليه , علامات الارتباك , تنحنح الضيف وصاح أبو هلال الماء يا فاطمة .
تمعن أبو هلال بالضيف طويلا رجل في العقد الرابع من عمره أو يزيد أكل الدهر منه وشرب. لحيته يشوبها البياض ، شعر أبو هلال بنفسه تتقرب للرجل ، تمنى لو أن الضيف يعانقه ، كما يحتضن الأقارب بعضهم . آه لو يشتم رائحته، شعر بصدمة تضرب دماغه، وقال في نفسه: والله المعالم معالم هلال ! ولكن أين هلال ؟ لعنة الله على وساوس الشيطان . لكنه لم يبعد نظره عنه كان يتفرس وجهه كلما سنحت له الفرصة ويدقق في الملامح، ليملأ قلبه منه .. بدأ الضيف يتحدث عن الحر في النهار ومصاعب الحياة وكان صوته مرتفعا ..

..... سمعت أم هلال الصوت أنصتت إليه واقتربت من المجلس ثم تمعنت في وجه الرجل تمعنا غريبا . وضعت يدها على قلبها وأمسكت يكاد قلبها يهم بالسقوط ، نزلت الدموع من عينيها بغزارة واتجهت نحو الضيف وأمسكت به وقالت : نشدتك الله , نشدتك الله, اصدقني القول :
ألست هلالا بن عمر الفاضل ؟
ارتبك الرجل وتغير لون وجهه واصفر ثم قال : أناضيف يا ابنة الحلال من هو هلال ؟لا أعرفه يا جماعة .. قال أبو هلال : هون عليك يا رجل توكلي على الله يا أم هلال .. لقد توهمت به ..
ثم أردف أبو هلال قائلا فيك شبه من ابنها هلال الذي غادرنا ولم يعد منذ خمسة وعشرين عاما ..

....بكى الأب ونزلت دمعات مكابرة على نفسها , ومسح دمعاته القليلة بطرف ردائه …
لكن إحساس الأب والأم لا يخطىء , في الصباح رباح وسأعرف ضيفنا عن كثب إن شاء الله لأن فراستي لم تخطىء يوما ولكن ما عساي أن أقول لضيفي ؟! قدم الطعام للضيف وتداول معه الحديث في أمور شتى من واقع الحياة .
كان الضيف يجلس ويطيل النظر في جميع أفراد العائلة، خاصة في وجه الأم والأب ،والأخوة الكبار. قام الأب إلى فراشه فقد اعتاد النوم مبكرا والاستيقاظ مبكرا , ولم تطل السهرة فقد آوى الجميع إلى النوم بما فيهم الضيف .
راح الأب يستذكر السنين الماضية , يوم نهض الأب مبكرا ولم يجد هلالا الذي اعتاد الاستيقاظ قبل أبيه ، فتش عن هلال في كل القرى المجاورة ولم يجد له أثرا ، فتش عنه في المدينة ولكن لم يعثر عليه .. صبر على نفسه ولكن الحزن هد جسمه ولم يعد يستطع أن يقاوم مصاعب الزمن وهلال كان الزمن كله ، آه يا هلال ، لقد حفرت في قلبي جرحا لن يندمل حتى بعد الموت ..
-عندما استيقظ الأب من النوم قبل صلاة الفجر نظر إلى فراش الضيف ولم يجد الضيف ،صاح بأعلى صوته , أين الضيف ؟ نهض الجميع يركضون في كل الاتجاهات ..
صرخت الأم بصوت مكتوم : ألم أقل لكم : الضيف ... هلال ؟! لم تصدقوني , أه يا ليتني لم أطعكم لو تمسكت به لما سافر هلال مرة ثانية … يالتعاستك أيتها الأم الحزينة !!
ركض الجميع علهم يجدون أثرا للضيف .. ولكن دون جدوى عاد الحزن يخيم على العائلة المسكينة ، الصغار لا يعرفون هلالا , الكبار يذكرونه كبقية حلم كانوا أكثر حزنا من بقية الأخوة الصغار.
قال الأب هذا قدرنا وهذا حظنا وما قدّر المولى به نحن راضون ولا حول ولا قوة إلا بالله .

… في مقهى على شارع الحجاز في دمشق جلس هلال على طاولة مقابلة للشارع , كان يبكي بصمت ، ويخشى أن يراه أحد ، كان الموقف صعبا عليه أراد الاطمئنان على أهله , فقد اشتاق لرؤيتهم .. كان يظن أن أهله قد نسوه ، وأنه قد مات في ذهنهم ، هل من المعقول كل هذه السنين وهلال حي في ذاكرتهم ؟! يارب سامحني .. كان هلال يناجي نفسه والدموع تسقط بغزارة على خديه يجلس في زاوية بعيدة عن الناس ويكتم دخان سيجارته في صدره ويخرجه كنار محرقة.

حمل هلال نفسه المتهالكة وراج يجر قدميه جرا نحو محطة الباصات في البرامكة شعر بطول المسافة .. مع أن المحطة لاتبعد أكثر من مئة متر..
_ أي ذنب ارتكبت ؟!! وأي فعلة شنيعة قمت بها؟!!! يالتعاسة حظك يا هلال !!
وصل بيته في مدينة الزرقاء في الأردن , استقبله أولاده ولكنه كان بحالة سيئة لم يستطع إكمال المسير نحو الغرفة استند على كتف ولده حتى وصل إلى مسنده .

… اشتد المرض بهلال .. أحس أن المرض سيفترسه وأن نهاية حياته قادمة لقد ضعف جسمه . وخارت قواه .. آه يا تعيس ستموت غريبا .. أكلت الغربة شبابك وسلبت الفرحة من صدرك ..
أيها الأولاد سأقص عليكم قصة أبيكم ، من الواجب عليّ أن أعرفكم على أهلكم وموطن أبيكم . لابد أن تعودوا إلى وطنكم يوما ما..
-لما رحلت من أهلك يا أبي؟ سأله ابنه الأكبر.
-كنت الابن الأكبر في الأسرة ، ما عرفت من حياتي وطفولتي غير العمل ، الأطفال يلعبون وأنا أخرج مع الماشية أرعاها وأسقيها ، أعمل من الصباح الباكر حتى غروب الشمس ..
لم يرحمني والدي من العمل ، لم يترك لي نهارا واحدا أجد فيه نفسي ، لم يقل أحد هذا الغلام يحتاج إلى راحة يوم يلعب مع أترابه يتسلى .. الجميع كان يشعر أني لا أصلح إلا للعمل والعمل فقط , كنت أحس بالضيق من والدي وهو ينهرني ويزجرني .. لأقل تقصير
كنت أرى أخوتي وهم يلعبون ويلبسون ويمرحون في بعض الأحيان .. وأنا أحمل مسؤولية العمل. تملكني شعور غريب أن والدي لا يحبني .. لا بل أهلي كلهم لا يحبوني
كنت أشعر بالمرارة والحزن ولكن لم أشتك يوما .. لم أتذمر يوما ..
في ليلة باردة من أيام الشتاء كان الثلج يتساقط أحيانا ويقف أحيانا أخرى شعرت بالتعب والإرهاق كان نومي متقطعا ، أشعر بألم في رأسي وانحلال في جسدي ..
لم أستيقظ مبكرا كعادتي أردت النوم ،ولكن صوت أبي سمعته مجلجلا في أذني.
- هلال, هلال، لازلت نائما ، ما لك اليوم ؟ هيا انهض .. – -لا أريد الخروج هذا اليوم أريد أن أنام .
- تريد أن تنام أيها الأبله ، والأغنام وعملك هيا انهض ومد بغنمك وماشيتك أيها الكسول
نهضت من فراشي , وكتمت ألمي وحملت حقد الدنيا على أبي .
بعد هذا الموقف راودتني فكرة الخلاص من هذا العمل المتعب ولكن كيف ؟!
لا بد من الهروب .. والهروب إلى مكان بعيد لا يصلني إليه أحد . أخذت الفكرة تثبت في عقلي وتزداد رسوخا . وكأنه قدري لأستوطن هذه البلاد وأتزوج أمكم .
بعد أن عدت إلى المنزل بعد غيا ب الشمس أعددت نفسي للرحيل والهروب ..
أخذت خروفين وبعد منتصف الليل لبست فروتي وخرجت متجها إلى المدينة نمت هناك وفي الصباح الباكر بعت الخروفين وأخذت ثمنهما واتجهت في سفري إلى حلب .
في حلب عملت في سوق الأغنام وبعد شهور من عملي سافرت مع تاجر إلى الأردن في شراء أغنام ، ليبيعها في حلب .
- وجدت أن الحياة أفضل لي من حلب فأقمت في مدينة الزرقاء وهناك تزوجت والحمد لله الذي رزقني بكم .
عندما أحسست بالشوق لأهلي ، وهو شوق قديم كتمته لسنين طويلة في عمري ، أردت رؤية أهلي.
كنت أظن أني مت في نفوسهم ، وسأزورهم ولا أريد أن أعرفهم بنفسي فقط أردت أن أبل شوقي ولا أحزنهم ، ولكن وجدت ما وجدت ، كيف أعرفهم بنفسي ؟ وجدت الأمر صعبا، ووجدت الجواب مرا كطعم العلقم ، أحملكم أمانة غالية ، أ ن تذهبوا إلى أهلي , تذهبوا جميعا لعل ذلك يخفف من حزنهم .
اطلبوا من أبي وأمي أن يسامحاني كل ما أرجوه وكل ما أريده لأقابل ربي …
نظر إلى أولاده نظرة ملية وجال ببصره على زوجته وبناته وابتسم ثم رفع السبابة اليمنى واتجه إلى القبلة ونطق بالشهادة، وأسلم هلال الروح لربه لينهي حياة لم تكتمل ولم يجد السعادة التي بحث عنها..

....ثلاثة شبان هيئتهم غريبة, ملامحهم تدل على أنهم من منطقة غريبة ، اشرأبت أعناق أهل القرية وهم يتابعون الشبان الذين يسألون عن بيت عمر الفاضل أبو هلال ..
تقدم الولد الكبير من جده قائلا نحن أولاد هلال عمر الفاضل , كان منظرا مؤثرا اجتمع أغلب أهل القرية للسلام على أولاد هلال الذي عاد كانت الأم تزغرد والدموع تنهمر كالمطر وهي تقول هلال عاد هلال عاد هلال عاد ...القرية كلها تردد مع أم هلال
عاد هلال ،عاد هلال .

أ/ بركات لافي الساير العنزي