Moonlights
15/02/2008, 23:03
مدارات - حجاب الحاضر، حجابٌ على المستقبل
أدونيس الحياة - 07/02/08//
- 1 –
أمضيتُ في تورينو بإيطاليا ثلاثة أيام (17-20 كانون الثاني/ يناير 2008 لمناسبة مَنْحي الجائزة الإيطالية: «غرينزاني كافور». في الأسبوع ذاته، صادف أن رفض الطلاب والأساتذة في جامعة روما، استقبال البابا لإلقاء محاضرة فيها. وقد أحدث هذا الرفض ضجة كبيرة، ثقافية وسياسية، شاءت بعض وسائل الإعلام الإيطالي، المرئية والمكتوبة، أن تعرف وجهة نظري فيها. ترددتُ، لأنني لم أشأ أن أتحدّث من خارج عن مسألة داخلية. غير أنني تراجعتُ عن هذا التردد، تلبية لرغبة قوية وملحة عند من سألوني. وكان جوابي قائماً على مبدأين:
الأول، ضرورة الحوار في المجتمع بين الفئات والأطراف مهما كانـــت آراؤها متــباعدة ومتـــناقضة. فالحـــوار خصـــوصية إنسانية عالية، نتعلَّمُ فيه الإصغاء الى الآخر، والانفتاح عليه، كشفاً عن الحقيقة.
الثاني، ضرورة الاعتراف المتبادل بين هذه الأطراف والفئات. وإلا، انقلب المجتمع الى قبائل كلٌ منها تنغلقُ على نفسها، وتنبذُ الأخرى، وتحاربها. هكذا ينتفي الحوار. ويسودُ التبشير، وهو قبرٌ بائسٌ للمعرفة وللحقيقة معاً. ذلك أن التبشير يتضمن الاستتباع أو الإخضاع.
وقلتُ، لكي أوضح ما أذهب إليه، لا بد من أن كون البابا مستعداً لكي يستقبل في الفاتيكان وجامعاته عقلانيين ومُلحدين ولا دينيين لكي يحاضروا فيها، ولكي يناقشوا مشكلات الوحي والإيمان والإلحاد بحرية كاملة. وذلك مقابل استعداد الجامعات العلمانية لاستقبال البابا ورجال الدين بعامة لكي يقولوا آراءهم في هذه المشكلات، بحرية كاملة.
- 2 –
ذكّرتني هذه المسألة بما حدث معي مرة في الكويت، في أثناء المؤتمر الشهير حول أزمة الحضارة العربية. فقد احتج بعض المتدينين على مداخلتي في المؤتمر، وطلبوا إخراجي من الكويت. وطلب بعضهم من أعضاء جمعية دينية تُصدر مجلة تنطق باسمها أن يتحاوروا معي حول ما قلته في هذا المؤتمر، بخاصة، وحول ما تنشره مجلة «مواقف» آنذاك، في شكل عام. لبّيت هذا الطلب بفرح، ودعوتهم الى اللقاء في الفندق الذي أقيم فيه. جاؤوا في الوقت الذي اتفقنا عليه، وكانوا حوالى عشرة أشخاص. ناقشنا أموراً كثيرة.
وطال نقاشنا دون جدوى، فقلت لرئيس تحرير مجلتهم:
لديّ اقتراحٌ عمليّ، من أجل التأسيس لحوار بين الأضداد تحتاج إليه الثقافة العربية على نحو ضروري وملحّ. فأنا رئيسٌ لتحرير مجلة «مواقف»، وأدعوك الى كتابة مقالة تُناقش فيها بحرية كاملة، الآراء والأفكار التي تنــــشرها، والتي ترفضها أو لا تُقرّها، وسأنــشرها في الصفحات الأولى من هذه المجلة، في عددها المقبل. لكن، مقابل ذلك، أطلب منك أن تنشر لي، أو لغيري من الأصدقاء الذين يشرفون معي على المجلة، في الصفحات الأولى من مجلتك، مقالة في نقد آرائكم وأفكاركم، وبخاصة الدينية. لكنه سرعان ما صرخ قائلاً:
- أعوذ بالله. معاذ الله.
قلت له: هل جئتم للحوار حقاً؟ وما يكون، إذاً، معنى هذا اللقاء؟ أنتم لا تريدون أن تُصغوا الى الآخر، المختلف. فهو، سلفاً، ضالٌّ، بالنسبة إليكم. أنتم تريدون «هدايته». تريدون أن يتبنى أفكاركم. أنتم لا تحاورون، بل تبشّرون. وهذا نوعُ من الإكراه والقَسْر. نوعٌ من الاستعباد.
وهكذا انتهى اللقاء.
- 3 –
استطراداً:
المجتمع العربي في وعي المتدينين الأصوليين هو، أساسياً، «مؤمنون»، و «كافرون»، والثقافة فيه هي، أساسياً، ثقافة إيمانٍ، وثقافة كُفر. وفي مثل هذا الوعي لا معنى للحرية، إطلاقاً. لكن، هل للإنسان نفسه معنى في مجتمع يسوده مثل هذا الوعي؟
- 4 –
لنسأل، في هذا الإطار، ذلك السؤال المكرر: ما دورُ المفكّر أو الكاتب في مثل هذا المجتمع؟ ونعرف اليوم أكثر من أي وقت مضى، أنه سؤالٌ لم يعد من الممكن فصله عن سؤال الاستـــطاعة: ماذا يستطيع المفكّر أو الكاتب أن يفعل، اليوم، في مثل هذا المجتمع؟ خصوصاً أن «الكُفر» و «الإيمان» فيه، صفتان لم تعودا تُطلقان على الفرد بفضل «الدين»، وحده، وإنما تطلقان عليه كذلك بفضل ذلك»الدّين» الآخر: الحكم.
ماذا يستطيع الشاعر، تحديداً؟
- 5 –
الشاعر، بفعل إبداعه ذاته، تلميذٌ للزمان والمكان: يتتـــلمذُ على العـــالم وأشيائه. وهو، إذاً، بفعل إبداعه ذاته، لا يعلّم، بل يتعلّم.
لا يُرشد، لا يَهدي، لا يُبرهن، لا يُقْنع. وهو لذلك لا يُداهِن، لا يتملّق، لا يزخرف، لا يُجمّل، لا يُدغدغ، لا يبشّر.
إنه المتتلمذُ – رائياً، وشاهِداً. يشهد، أولاً، على نفسه وعذاباتها وصبواتها ونشواتها. ويشهد ثانياً على العـــالم. وهو في ذلك رفيقٌ لقارئه، وليس قائداً. وبوصفه رفيقاً يقول له ما يقوله لنفسه: يقولُ ما لا يُقال – المكبوت، الممنوع، المحترم، المرفوض.
ولا «جمهور» له. ذلك أنه يكتب في معزل كامل عن الانحيازات الأيديولوجية – السياسية، لكي يقدر أن يخترق السائد المهيمن، بوصفه حجاباً على الواقع – أي على الحاضر.
كل حجابٍ على الحاضر إنما هو حجابٌ على المستقبل.
- 6 –
أعود الى تورينو، الى جائزة «غرينزاني كافور».
قلتُ في الكلمة التي شكرتُ بها أعضاء لجنتها: «عليَّ أن أذكِّر هنا برؤية العرب، منذ ما قبل الإسلام، الى الشعر، بوصفه بيت الحقيقة. وصحيحٌ أنه كان للاهوت دائماً بعدٌ سياسيٌّ في حياة المجتمع. لكن، كان يواجهه دائماً نقدٌ يقوم به شعراء ومفكرون، كلٌّ بطريقته الخاصة. واليوم، يصل هذا البُعد الى حدود لم يعد كافياً نقدها، على الصعيد السياسي وحده. فالاتساع المتزايد لهذه الحدود في الغرب وعند العرب والمسلمين يدعونا في قراءة عالمنا اليوم، الى الذهاب أبعد من السياسة، لكي نُحسن فهم المشكلات التي نجابهها: قراءة تعمل على وضع أسسٍ جديدة لا تتحدّد فيها هوية الإنسان بانتمائه الى عِرقٍ أو دينٍ، وإنما بانتمائه الى الكينونة الإنسانية، وبوصفه كائناً إنسانياً لا إمام له إلا العقل، كما يعبّر الشاعر العربي الكبير أبو العلاء المعري...».
أدونيس الحياة - 07/02/08//
- 1 –
أمضيتُ في تورينو بإيطاليا ثلاثة أيام (17-20 كانون الثاني/ يناير 2008 لمناسبة مَنْحي الجائزة الإيطالية: «غرينزاني كافور». في الأسبوع ذاته، صادف أن رفض الطلاب والأساتذة في جامعة روما، استقبال البابا لإلقاء محاضرة فيها. وقد أحدث هذا الرفض ضجة كبيرة، ثقافية وسياسية، شاءت بعض وسائل الإعلام الإيطالي، المرئية والمكتوبة، أن تعرف وجهة نظري فيها. ترددتُ، لأنني لم أشأ أن أتحدّث من خارج عن مسألة داخلية. غير أنني تراجعتُ عن هذا التردد، تلبية لرغبة قوية وملحة عند من سألوني. وكان جوابي قائماً على مبدأين:
الأول، ضرورة الحوار في المجتمع بين الفئات والأطراف مهما كانـــت آراؤها متــباعدة ومتـــناقضة. فالحـــوار خصـــوصية إنسانية عالية، نتعلَّمُ فيه الإصغاء الى الآخر، والانفتاح عليه، كشفاً عن الحقيقة.
الثاني، ضرورة الاعتراف المتبادل بين هذه الأطراف والفئات. وإلا، انقلب المجتمع الى قبائل كلٌ منها تنغلقُ على نفسها، وتنبذُ الأخرى، وتحاربها. هكذا ينتفي الحوار. ويسودُ التبشير، وهو قبرٌ بائسٌ للمعرفة وللحقيقة معاً. ذلك أن التبشير يتضمن الاستتباع أو الإخضاع.
وقلتُ، لكي أوضح ما أذهب إليه، لا بد من أن كون البابا مستعداً لكي يستقبل في الفاتيكان وجامعاته عقلانيين ومُلحدين ولا دينيين لكي يحاضروا فيها، ولكي يناقشوا مشكلات الوحي والإيمان والإلحاد بحرية كاملة. وذلك مقابل استعداد الجامعات العلمانية لاستقبال البابا ورجال الدين بعامة لكي يقولوا آراءهم في هذه المشكلات، بحرية كاملة.
- 2 –
ذكّرتني هذه المسألة بما حدث معي مرة في الكويت، في أثناء المؤتمر الشهير حول أزمة الحضارة العربية. فقد احتج بعض المتدينين على مداخلتي في المؤتمر، وطلبوا إخراجي من الكويت. وطلب بعضهم من أعضاء جمعية دينية تُصدر مجلة تنطق باسمها أن يتحاوروا معي حول ما قلته في هذا المؤتمر، بخاصة، وحول ما تنشره مجلة «مواقف» آنذاك، في شكل عام. لبّيت هذا الطلب بفرح، ودعوتهم الى اللقاء في الفندق الذي أقيم فيه. جاؤوا في الوقت الذي اتفقنا عليه، وكانوا حوالى عشرة أشخاص. ناقشنا أموراً كثيرة.
وطال نقاشنا دون جدوى، فقلت لرئيس تحرير مجلتهم:
لديّ اقتراحٌ عمليّ، من أجل التأسيس لحوار بين الأضداد تحتاج إليه الثقافة العربية على نحو ضروري وملحّ. فأنا رئيسٌ لتحرير مجلة «مواقف»، وأدعوك الى كتابة مقالة تُناقش فيها بحرية كاملة، الآراء والأفكار التي تنــــشرها، والتي ترفضها أو لا تُقرّها، وسأنــشرها في الصفحات الأولى من هذه المجلة، في عددها المقبل. لكن، مقابل ذلك، أطلب منك أن تنشر لي، أو لغيري من الأصدقاء الذين يشرفون معي على المجلة، في الصفحات الأولى من مجلتك، مقالة في نقد آرائكم وأفكاركم، وبخاصة الدينية. لكنه سرعان ما صرخ قائلاً:
- أعوذ بالله. معاذ الله.
قلت له: هل جئتم للحوار حقاً؟ وما يكون، إذاً، معنى هذا اللقاء؟ أنتم لا تريدون أن تُصغوا الى الآخر، المختلف. فهو، سلفاً، ضالٌّ، بالنسبة إليكم. أنتم تريدون «هدايته». تريدون أن يتبنى أفكاركم. أنتم لا تحاورون، بل تبشّرون. وهذا نوعُ من الإكراه والقَسْر. نوعٌ من الاستعباد.
وهكذا انتهى اللقاء.
- 3 –
استطراداً:
المجتمع العربي في وعي المتدينين الأصوليين هو، أساسياً، «مؤمنون»، و «كافرون»، والثقافة فيه هي، أساسياً، ثقافة إيمانٍ، وثقافة كُفر. وفي مثل هذا الوعي لا معنى للحرية، إطلاقاً. لكن، هل للإنسان نفسه معنى في مجتمع يسوده مثل هذا الوعي؟
- 4 –
لنسأل، في هذا الإطار، ذلك السؤال المكرر: ما دورُ المفكّر أو الكاتب في مثل هذا المجتمع؟ ونعرف اليوم أكثر من أي وقت مضى، أنه سؤالٌ لم يعد من الممكن فصله عن سؤال الاستـــطاعة: ماذا يستطيع المفكّر أو الكاتب أن يفعل، اليوم، في مثل هذا المجتمع؟ خصوصاً أن «الكُفر» و «الإيمان» فيه، صفتان لم تعودا تُطلقان على الفرد بفضل «الدين»، وحده، وإنما تطلقان عليه كذلك بفضل ذلك»الدّين» الآخر: الحكم.
ماذا يستطيع الشاعر، تحديداً؟
- 5 –
الشاعر، بفعل إبداعه ذاته، تلميذٌ للزمان والمكان: يتتـــلمذُ على العـــالم وأشيائه. وهو، إذاً، بفعل إبداعه ذاته، لا يعلّم، بل يتعلّم.
لا يُرشد، لا يَهدي، لا يُبرهن، لا يُقْنع. وهو لذلك لا يُداهِن، لا يتملّق، لا يزخرف، لا يُجمّل، لا يُدغدغ، لا يبشّر.
إنه المتتلمذُ – رائياً، وشاهِداً. يشهد، أولاً، على نفسه وعذاباتها وصبواتها ونشواتها. ويشهد ثانياً على العـــالم. وهو في ذلك رفيقٌ لقارئه، وليس قائداً. وبوصفه رفيقاً يقول له ما يقوله لنفسه: يقولُ ما لا يُقال – المكبوت، الممنوع، المحترم، المرفوض.
ولا «جمهور» له. ذلك أنه يكتب في معزل كامل عن الانحيازات الأيديولوجية – السياسية، لكي يقدر أن يخترق السائد المهيمن، بوصفه حجاباً على الواقع – أي على الحاضر.
كل حجابٍ على الحاضر إنما هو حجابٌ على المستقبل.
- 6 –
أعود الى تورينو، الى جائزة «غرينزاني كافور».
قلتُ في الكلمة التي شكرتُ بها أعضاء لجنتها: «عليَّ أن أذكِّر هنا برؤية العرب، منذ ما قبل الإسلام، الى الشعر، بوصفه بيت الحقيقة. وصحيحٌ أنه كان للاهوت دائماً بعدٌ سياسيٌّ في حياة المجتمع. لكن، كان يواجهه دائماً نقدٌ يقوم به شعراء ومفكرون، كلٌّ بطريقته الخاصة. واليوم، يصل هذا البُعد الى حدود لم يعد كافياً نقدها، على الصعيد السياسي وحده. فالاتساع المتزايد لهذه الحدود في الغرب وعند العرب والمسلمين يدعونا في قراءة عالمنا اليوم، الى الذهاب أبعد من السياسة، لكي نُحسن فهم المشكلات التي نجابهها: قراءة تعمل على وضع أسسٍ جديدة لا تتحدّد فيها هوية الإنسان بانتمائه الى عِرقٍ أو دينٍ، وإنما بانتمائه الى الكينونة الإنسانية، وبوصفه كائناً إنسانياً لا إمام له إلا العقل، كما يعبّر الشاعر العربي الكبير أبو العلاء المعري...».