*Marwa*
17/01/2008, 14:27
حنين - بقلم: دنيا كمال مجدوب
في ضجيج أوروبي, كان يجلس وصحيفة انكليزية بين يديه..
داوى بها لحظات الصباح القصيرة,
كما تعود كل صباح على ارتشاف قهوته في المقهى المقاطع لطريق عمله في إحدى الشركات التجارية الضخمة..
غادر موطنه في الثلاثين من عمره, وقد مرّ على غربته عشرون عاما..
انغلب على أمره فالتصقت به العادات الغربية..
اغترب عن كل شيء حتى عن نفسه.. أصبح مرهونا للعمل الكادّ وللحفلات المتنوعة: ترفيها وواجبا..
كانت انطلاقته مبنية على قضية انجذاب, تحقيق وتغيير.
انجذاب الى الرفاهية الخادعة, تحقيق لحرية لا تنتمي لمعنى الحرية المنشودة الحقيقية وتغيير لروتين شبابه حين كان شابا وللتقاليد الاجتماعية حين غدا بالغا .. وهذا ما لم يحققه الساعون من قبله وما لن يحققه الساعون من بعده..
نجح هذا " العربي-الأجنبي" في سلخ مظاهره العربية ليتماشى مع موطنه "الحديث",
كان همه الوحيد الإفلات من عروبته.. الاختباء تحت مظلة أوروبية
ليتحدث بلكنة غريبة جديدة أحدثت فجوة بينه وبين روحه الأصلية, أصبح كجهاز آلي.. يقتني طاقته من الأدوية أكثر منها من النوم..
يداوي مرضا ليس هو بداء.. يُخرس ضميره بحبوب الاكتئاب والتنويم.. يضطهد عقله المكتئب الحانّ الى ثراه.. ليس جلده هذا من ثرى الأرض هذه.. ثراه ناعم أسمر.. وليس هذا العقل بأسمر ٍ..
بالخطيئة يتحدى طهارة طفولته.. يسهر والسُكرُ يسامره.. يجهد في إسكات ضميره.. لكن الضمير مستقل عن الجسد وأبى إلا أن يصرخ ويبقى صاحيًا.. فسلام عليه إن نام الضمير!!
الضمير بوسعه إن أراد أن يزعق من الأرض ولا يتوقف الأمر على القلب أو الجسد..
ربما.. واجه صديقنا أزمة منذ صغره.. ربما كان من أحفاد الثماني والأربعين أو أولادهم.
ربما كان وطنيا في زمانه, ساعيا لإعادة الحرية والنهضة, حالما بالراحة, بالرغدِ الذي لم يحيه..
لكنه أخطأ.. نحن نراه هاربًا.. وهو يرى نفسه العائد "الواعد"..
الواعد بالمستقبل والتطور.. الواعد بالحريـــــــــة... وكم أسأنا فهم هذه "الحرية"..
انه يرى بنفسه معمّر الحضارة الصحيحة لوطنه.. لكنه اخطأ أكثر هذه المرة!..
لم يكن سوى وديعا.. عقلا شابَهُ الجهل والانخداع.. كلهم يهاجرون ويرجعون منكسي الرؤوس.. ليس من ذل أو هوان.. بل تقديرا وأسفا لوطنهم الشريف..
نأى وتغرّب.. كسب تقدما ماديا وربما معنويا.. لكن هيهات له إن تذوق السعادة وراحة البال..
كان هذا كله انبهارا أوليّا مؤقتا.. ما لبث أن كشف السكر الذائب عن قنبلة موقوتة
كانت تجثو تحت طموحه المحقق.. كسب الذروة وحقق كل أحلامه..
لم يقتنع أن المال والنجاح كفيل بتغطية مساحة السعادة المثالية العظمى.. لم يبتع له الحرية.. فكيف يبيعها لأبناء وطنه "المنتظرين"؟..
لم يفلح اليوم كما عهد قبل عشرين عاما.. أن يخرس صوته العربي..
والجفاء عمارة بناها في بيداء روحه فتركها تنازع الغرق والكبت.. ترك خلفيته قبورا مشردة تتمنى زيارة تؤنس وحشتها..
تسلم صديقنا اليوم منصبا جديدا في المباحث..
تكلف بالبحث عن.. السَكينة!!
لكن أشباح الوطن تلاحقه.. فيهرب.. تلاحقه فيهرب.. إلى أن..
سدّ الإنهاك نفق الهرب..
فلازم سريره..يتخبط بمرض فيتعرّق, فتذوب ملوحته عند شفتيه.. يغفو..
فيعود إلى أمه في حلم لطيف..
الى شاطئ وطنه.. حيث ترامت الرمال وأجهشت الأمواج ترحيبا بغائبٍ..
الى أطفال وحجارةٍ..
فلا تنسوا أن في بلادنا الأحجار تنمو معنا.. الأحجار تنشد وتبكي معنا..
في بلادنا يسيل الدم من الصخور.. وفي أزهارنا تضيق الصدور..
يتضرع بدرنا الى الله طوال الليل كي يبقيه مائلا على تلالنا.. كي تضمد جروح النهار..
لكن شمسنا كل يوم تشرق.. وكل يوم نجرح.. وكل يوم نضمد!
فكيف ننسى..
فكيف تغفو يا أخي..
صحت مقلتا قلب صديقنا من جديد.. وعى..
فرأى.. انه ضائع.. مفقود, لا عزيز يؤنس ولا حبيب يمزق قضبان صدره الخانقة..
فكيف ترك "الحبيبة" دون أنيس؟
خلف قضبان الشقاء تعول؟
اندفع كالمجنون الى شرفته العالية.. حيث تطل على المدينة بأنوارها وبيوتها.. والبدر مكتمل, ونسمة تعتدل
لكنه يختنق, جذب شهيقا..لكن رئتيه شبعت هذا الهواء المسروق..
ويلاه ما أشدّ سواد هذه السماء..
وما أبشع قمر هذه السماء..
وما أخبث هذه النجوم.. لا تبتسم لعيني.. أعين غريبة بلا عاطفة تحيطني!!.. أنا العربي!
وما أقسى هذه النسمات وأجفها..
أيتها الطيور.. ما أحوال الزعتر والزيتون؟؟.. وكيف كان شتاء بلادي.. نعم بلادي..
كيف كان صيفها..
كيف استقبلت أمي عيدها والربيع؟!
وأبي.. أما زالت راحته ملطخة بالثرى الرطبِ؟؟ ألا يزال عاشقا للقهوة؟..
وبيتنا.. بيتنا الصغير.. وحديقته الصغيرة..
الله كم احن إليكم..
بكى صديقنا.. بكى بكاءً اهتزت الجبال لشدته.. بكى حتى جثا أرضا..
ومع ضجيج البكاء اختلطت أصداءٌ من عالم قديم مهجورة.. الحان زادت الشعر بيتا على رثاء حاله..
أبيات محمود درويش.. أمه ووطنه العجوزان..
كل منهما يحتاج شبابا.. يعول هذه" الأم" المسكينة أن تنهض.. أن تقف قدماها فيهتز الشعب وينهض!!
فتقف أبيات متقطعة عند منحدر لتسقط حنينا يقطّر دما في قلبه..
" ضعيني.. إذا ما رجعت وقودا بتنور دارك.. يا أمي وحبل غسيل على سطح دارك
لأني.. فقدت الوقوف!!.... بدون صلاتك.. صلاة نهارك!!.."
أجهش باكيا.. بكى روحه, بكى قلبه وعمره!!
تناثرت أعصابه فردد وقلبه يُنطق مع كل حرفٍ...
"هرمتُ... فردي نجوم الطفولة
حتى أشارك صـــغار العصافير
درب الرجوع... لعشّ انتظارك"
هجمت على ذهنه قوافل الذكريات, والحنين قد احتل كل خلية بجسده.. انتهكت كل برود وكل نسيان.. احتلت تناسيه اللئيم.. عاد طفلا صغيرا.. فطن أنه تائه, وحيد في غابة كبيرة..
عاد طفلا يركض في السهـــول.. يرجو مذاق زيتونة واحدة.. يقطفها بيده..
حفنة من تراب يلمع من شمس بلاده..
تراب يكون ذهبا وماسا..
اختلطت دموعه بعرقه.. تنبّه.. انه يبكي.. يبكي ظلما ألحقه بنفسه.. غيابا أردى أمه .. ظلما لفظته الأرض منذ رحيله..
هو الآن عائد.. نعم..إنه ينتظر هبوط طائرته بالثواني.. ترتجف أوصاله بشدّة ولم يخف عبراته.. جعلها تتناثر بحرية...
دقائق قليلة تفصله عن مسقط رأسه.. فلسطين تنتظر ابنها.. تسامحه قبل مجيئه.. لكن آثار الحروق لا تختفي..
" يابلادي أرشفيني قَطرَةً كلُّ ماء غير ما فيك كـدَر
ليت من ذاك الثّرى لي حَفنة أتملى من شذى التّرب العـَطِر "
آثار قلبه التالف المشوّه.. بانت على صدره المستعر المتلهف.. لكن حفنة صغيرة من ثرى الوطن..
ضمه بخشوع الى صدره.. أثلجته.. خلقت له قلبا جديدا!...
وأعادته بيتا قديما جدرانه السكينة.. عتبته ضمير يتنهد بعبير الأرض.. يغفو كطفل حديث الولادة في حضن أمه..
في ضجيج أوروبي, كان يجلس وصحيفة انكليزية بين يديه..
داوى بها لحظات الصباح القصيرة,
كما تعود كل صباح على ارتشاف قهوته في المقهى المقاطع لطريق عمله في إحدى الشركات التجارية الضخمة..
غادر موطنه في الثلاثين من عمره, وقد مرّ على غربته عشرون عاما..
انغلب على أمره فالتصقت به العادات الغربية..
اغترب عن كل شيء حتى عن نفسه.. أصبح مرهونا للعمل الكادّ وللحفلات المتنوعة: ترفيها وواجبا..
كانت انطلاقته مبنية على قضية انجذاب, تحقيق وتغيير.
انجذاب الى الرفاهية الخادعة, تحقيق لحرية لا تنتمي لمعنى الحرية المنشودة الحقيقية وتغيير لروتين شبابه حين كان شابا وللتقاليد الاجتماعية حين غدا بالغا .. وهذا ما لم يحققه الساعون من قبله وما لن يحققه الساعون من بعده..
نجح هذا " العربي-الأجنبي" في سلخ مظاهره العربية ليتماشى مع موطنه "الحديث",
كان همه الوحيد الإفلات من عروبته.. الاختباء تحت مظلة أوروبية
ليتحدث بلكنة غريبة جديدة أحدثت فجوة بينه وبين روحه الأصلية, أصبح كجهاز آلي.. يقتني طاقته من الأدوية أكثر منها من النوم..
يداوي مرضا ليس هو بداء.. يُخرس ضميره بحبوب الاكتئاب والتنويم.. يضطهد عقله المكتئب الحانّ الى ثراه.. ليس جلده هذا من ثرى الأرض هذه.. ثراه ناعم أسمر.. وليس هذا العقل بأسمر ٍ..
بالخطيئة يتحدى طهارة طفولته.. يسهر والسُكرُ يسامره.. يجهد في إسكات ضميره.. لكن الضمير مستقل عن الجسد وأبى إلا أن يصرخ ويبقى صاحيًا.. فسلام عليه إن نام الضمير!!
الضمير بوسعه إن أراد أن يزعق من الأرض ولا يتوقف الأمر على القلب أو الجسد..
ربما.. واجه صديقنا أزمة منذ صغره.. ربما كان من أحفاد الثماني والأربعين أو أولادهم.
ربما كان وطنيا في زمانه, ساعيا لإعادة الحرية والنهضة, حالما بالراحة, بالرغدِ الذي لم يحيه..
لكنه أخطأ.. نحن نراه هاربًا.. وهو يرى نفسه العائد "الواعد"..
الواعد بالمستقبل والتطور.. الواعد بالحريـــــــــة... وكم أسأنا فهم هذه "الحرية"..
انه يرى بنفسه معمّر الحضارة الصحيحة لوطنه.. لكنه اخطأ أكثر هذه المرة!..
لم يكن سوى وديعا.. عقلا شابَهُ الجهل والانخداع.. كلهم يهاجرون ويرجعون منكسي الرؤوس.. ليس من ذل أو هوان.. بل تقديرا وأسفا لوطنهم الشريف..
نأى وتغرّب.. كسب تقدما ماديا وربما معنويا.. لكن هيهات له إن تذوق السعادة وراحة البال..
كان هذا كله انبهارا أوليّا مؤقتا.. ما لبث أن كشف السكر الذائب عن قنبلة موقوتة
كانت تجثو تحت طموحه المحقق.. كسب الذروة وحقق كل أحلامه..
لم يقتنع أن المال والنجاح كفيل بتغطية مساحة السعادة المثالية العظمى.. لم يبتع له الحرية.. فكيف يبيعها لأبناء وطنه "المنتظرين"؟..
لم يفلح اليوم كما عهد قبل عشرين عاما.. أن يخرس صوته العربي..
والجفاء عمارة بناها في بيداء روحه فتركها تنازع الغرق والكبت.. ترك خلفيته قبورا مشردة تتمنى زيارة تؤنس وحشتها..
تسلم صديقنا اليوم منصبا جديدا في المباحث..
تكلف بالبحث عن.. السَكينة!!
لكن أشباح الوطن تلاحقه.. فيهرب.. تلاحقه فيهرب.. إلى أن..
سدّ الإنهاك نفق الهرب..
فلازم سريره..يتخبط بمرض فيتعرّق, فتذوب ملوحته عند شفتيه.. يغفو..
فيعود إلى أمه في حلم لطيف..
الى شاطئ وطنه.. حيث ترامت الرمال وأجهشت الأمواج ترحيبا بغائبٍ..
الى أطفال وحجارةٍ..
فلا تنسوا أن في بلادنا الأحجار تنمو معنا.. الأحجار تنشد وتبكي معنا..
في بلادنا يسيل الدم من الصخور.. وفي أزهارنا تضيق الصدور..
يتضرع بدرنا الى الله طوال الليل كي يبقيه مائلا على تلالنا.. كي تضمد جروح النهار..
لكن شمسنا كل يوم تشرق.. وكل يوم نجرح.. وكل يوم نضمد!
فكيف ننسى..
فكيف تغفو يا أخي..
صحت مقلتا قلب صديقنا من جديد.. وعى..
فرأى.. انه ضائع.. مفقود, لا عزيز يؤنس ولا حبيب يمزق قضبان صدره الخانقة..
فكيف ترك "الحبيبة" دون أنيس؟
خلف قضبان الشقاء تعول؟
اندفع كالمجنون الى شرفته العالية.. حيث تطل على المدينة بأنوارها وبيوتها.. والبدر مكتمل, ونسمة تعتدل
لكنه يختنق, جذب شهيقا..لكن رئتيه شبعت هذا الهواء المسروق..
ويلاه ما أشدّ سواد هذه السماء..
وما أبشع قمر هذه السماء..
وما أخبث هذه النجوم.. لا تبتسم لعيني.. أعين غريبة بلا عاطفة تحيطني!!.. أنا العربي!
وما أقسى هذه النسمات وأجفها..
أيتها الطيور.. ما أحوال الزعتر والزيتون؟؟.. وكيف كان شتاء بلادي.. نعم بلادي..
كيف كان صيفها..
كيف استقبلت أمي عيدها والربيع؟!
وأبي.. أما زالت راحته ملطخة بالثرى الرطبِ؟؟ ألا يزال عاشقا للقهوة؟..
وبيتنا.. بيتنا الصغير.. وحديقته الصغيرة..
الله كم احن إليكم..
بكى صديقنا.. بكى بكاءً اهتزت الجبال لشدته.. بكى حتى جثا أرضا..
ومع ضجيج البكاء اختلطت أصداءٌ من عالم قديم مهجورة.. الحان زادت الشعر بيتا على رثاء حاله..
أبيات محمود درويش.. أمه ووطنه العجوزان..
كل منهما يحتاج شبابا.. يعول هذه" الأم" المسكينة أن تنهض.. أن تقف قدماها فيهتز الشعب وينهض!!
فتقف أبيات متقطعة عند منحدر لتسقط حنينا يقطّر دما في قلبه..
" ضعيني.. إذا ما رجعت وقودا بتنور دارك.. يا أمي وحبل غسيل على سطح دارك
لأني.. فقدت الوقوف!!.... بدون صلاتك.. صلاة نهارك!!.."
أجهش باكيا.. بكى روحه, بكى قلبه وعمره!!
تناثرت أعصابه فردد وقلبه يُنطق مع كل حرفٍ...
"هرمتُ... فردي نجوم الطفولة
حتى أشارك صـــغار العصافير
درب الرجوع... لعشّ انتظارك"
هجمت على ذهنه قوافل الذكريات, والحنين قد احتل كل خلية بجسده.. انتهكت كل برود وكل نسيان.. احتلت تناسيه اللئيم.. عاد طفلا صغيرا.. فطن أنه تائه, وحيد في غابة كبيرة..
عاد طفلا يركض في السهـــول.. يرجو مذاق زيتونة واحدة.. يقطفها بيده..
حفنة من تراب يلمع من شمس بلاده..
تراب يكون ذهبا وماسا..
اختلطت دموعه بعرقه.. تنبّه.. انه يبكي.. يبكي ظلما ألحقه بنفسه.. غيابا أردى أمه .. ظلما لفظته الأرض منذ رحيله..
هو الآن عائد.. نعم..إنه ينتظر هبوط طائرته بالثواني.. ترتجف أوصاله بشدّة ولم يخف عبراته.. جعلها تتناثر بحرية...
دقائق قليلة تفصله عن مسقط رأسه.. فلسطين تنتظر ابنها.. تسامحه قبل مجيئه.. لكن آثار الحروق لا تختفي..
" يابلادي أرشفيني قَطرَةً كلُّ ماء غير ما فيك كـدَر
ليت من ذاك الثّرى لي حَفنة أتملى من شذى التّرب العـَطِر "
آثار قلبه التالف المشوّه.. بانت على صدره المستعر المتلهف.. لكن حفنة صغيرة من ثرى الوطن..
ضمه بخشوع الى صدره.. أثلجته.. خلقت له قلبا جديدا!...
وأعادته بيتا قديما جدرانه السكينة.. عتبته ضمير يتنهد بعبير الأرض.. يغفو كطفل حديث الولادة في حضن أمه..