الإصلاحي
05/01/2008, 10:03
سجن فداء حوراني خط وطني أحمر
د. عبد الرزاق عيد-
الشفاف
31-12-2007م
يقوم تحديد مفهوم الوطنية اليوم في سوريا –كما في العالم العربي- على حماية البنية المجتمعية الداخلية من التصدع فالتآكل فالتفكك فالحرب الأهلية. وكل كلام عن وطنية تقوم على حدّ ومفهوم التعارض مع الأخر (الامبريالي – الصهيوني)، دون أن تتأسس هذه الوطنية على بنية مجتمعية مدنية تعاقدية (مواطنوية) هو نوع من هذر المقال الذي أصبح متقادما تقادم الاستبداد الذي صنع هذه الوطنية الخارجية على مقاسات بقائه القائم على الشوكة والغلبة، من خلال جعل هذه الوطنية دريئة ايديولوجية رسمية للنظام الديكتاتوري، تنطلق من تصور للمجتمع يقوم على مبدأ وحدة الهوية المنسجمة والمتناغمة والتي لا يعكر صفو تناغمها وانسجامها سوى الخارج الاستعماري الامبريالي الصهيوني.... ولكي تقترب خطوة أكبر باتجاه المتعيّن والملموس الذي يتشخص به المجرد، نأخذ المثال الفسطيني، هذا المثال الذي يشكل المرجعية الميثاقية العقدية لكل مفاهيمنا الوطنية والقومية، حيث لولا القضية الفلسطينية لربما كان تغير مسار الفكر العربي بمجمله في شكل فهمه وقراءته للمسألة الوطنية والقومية، حيث أن النواة الابستمية (الابستيم) كما يقول الابستمولجيون، أو (الصويتم) كما يقول الأسلوبيون عند تحليل بنية نظام الخطاب، نقول: ان النواة الابستمية-الصوتيمية لنظام الخطاب المعرفي لعربي تمحورت حول الخارج الاسرائيلي- الغربي الانكليزي- ثم الامريكي، بوصفه المحدد لمعنى الوطنية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم.
ولذا فإن كل تجاربنا الفكرية –ما بعد المرحلة الليبرالية الموؤدة عربيا- (القومية والاشتراكية) ظلت محكومة في فهمها للمسألة الوطنية بوظيفتها الاجرائية المتمثلة بكيفية مواجهة المشروع الصهيوني-الأمريكي سياسيا دون بذل الجهود الفكرية الضرورية لفهمها بوصفها تجليا لمفهوم (المواطنة) بكل ما يترتب على هذا المفهوم من منظومات حقوقية وثقافية ومؤسساتية ديموقراطية وتمثيلية قادرة على الانتقال بالأمة من مجرد سديم بشري هائم وغائم وعائم إلى مستوى كتلة تاريخية منسجمة مندمجة وموحدة الرؤية في وعيها لذاتها ودورها الحضاري. وبسبب انعدام هذا المنظور المدني الديموقراطي للمسألة الوطنية الذي أطاحت به موجة الشعبويات الفلاحية الانقلابية العسكرية القوموية واليساروية، فقد اختزلت إلى مقولات سياسوية-سطحية بزركشة بيانية وفيهقة بلاغية وترنم غنائي وفحولة شعرية تنتشي بالثناء، وتترنم بالفخر، وتثأر بالهجاء، وتهيج بالمديح فتخرج عن طورها طربا لمديحها: (الستم خير من ركب المطايا). ومنذ أن خرج الخليفة الأموي الممدوح عن طوره ممتشقا سيفه قائلا: أي والله نحن لها... وسيوف الحكام العرب عبرالتاريخ تمتشق سيوفها طربا لهذا المديح، متمثلة موقف الخليفة الأموي، لكن دون سيفه الأمبراطوري، بل سيوف ذبح شعوبهم لتفتديهم بالروح والدم...!
وسيظل هذا العقل الغريزي يتحكم بمواقفنا وسلوكنا واستجاباتنا، وينزلق على السطح الخارجي لمفهوم الهوية الوطينة، دون التغلغل في مكونات هذا مفهوم الذي هو في جوهره ثقافي تاريخي وتعاقدي سوسيولوجيا وسياسيا.
المثال الفلسطيني كثيف الدلالة في سياق موضوعنا، إذ أن انهماكه عبر أكثر من نصف قرن في خوض الصراع مع الآخر بوصفه عدوا مضادا كيانيا (انتولوجيا) وليس تاريخيا، حرم الفعل الفلسطيني من فرصة اغناء ذاته بما لدى ذات الآخر من عوامل التفوق التي أتاحت له الانتصار، في مواجهة عناصر الخصوصية الذاتية العروبية المؤمثلة والمنوهة بذاتها ومآثرها لدرجة التوثين التي لم تتح لهذه الذات القومية المتورمة بامجاد الماضي سوى الهزيمة، بل وسلسلة الهزائم الوطنية التي قادت إلى التصدع الذاتي فالتآكل التكويني فالتفكك الكياني فالحرب الاهلية، وليس مثال غزة-الضفة آخر الامثلة عن هذه الايديولجيا الوطنية الغثة والركيكة خلال نصف قرن.
إن التجربة الفلسطينية تكثف في سيرورتها كل الارهاصات والمخاضات الفكرية والايديولوجية (قوموية-يسارية)، واخيرا اسلاموية، وهي الترسيمة ذاتها التي آلت اليها الايديولوجيات الوطنية العربية استطرادا،تحيث تعرّف وطنيتها بالضد من (الآخر) العدو الخارجي، دون أن تنتبه إلى أن العدو الرئيسي قابع في الداخل وهو الاستبداد والجهل والفساد، وفي داخل الداخل بدءا من طريقة الفهم المنحطة لـ (أنانا) القومية والتاريخية والثقافية والحضارية والتراثية والدينية... الخ.
إن سيناريو الترسيمة الفلسطينية عن المسألة الوطنية حاضر في كل حاضرات العالم العربي وبواديها ومفازاتها وصحاريها وسهولها وجبالها ووديانها، وإن كانت بشكل أبطأ بسبب لجم الحراك الاجتماعي والسياسي قمعيا في المحيط العربي، لكنها عندما ستنفجر في المحيط العربي ستكون بشكل أفجع وأشرس مما هي عليه في التجربة الفلسطينية، التي ستبدو هي الأقل -على كل حال- وراثة لحمولات ثقافة الكراهية والحرب الأهلية التي تحكم الملل والنحل والمذاهب والاثنيات باعتبار تعدد الملل هي الاقل في فلسطين منها في المحيط العربي.
إن تأكل المشروع الوطني المدني البرلماني في سوريا منذ الخمسينات، كان ينتج تآكلا موازيا ومناظرا على مستوى البنية الاجتماعية: حيث بروز الحضور الكثيف للفلاحين والعسكر، فالفلاحون هم قاعدة الشعبوية التي ريفّت المدن والتهمت كل مظاهر نويات الحداثات المدينية، والعسكرهم قاعدة الارادوية الاستبدادية، حيث اكراه المجتمع على التكيف مع الايديولوجيا الأوامرية العسكرية التي راحت تتضخم لتغدو حالة انكشارية، ومن ثم التدمير التدريجي للحراك المجتمعي المتوازن وتهميشه وتذريره مقابل تمركزأمني على الذات يختصر الآخرالوطني بمدى انصياعه للتمركز الذاتي الأمني، حيث الأمن- والامر كذلك- يغدو (ذات الوطن) وكل أشكال تعيّن الوطن في صيغة مؤسسات وادارات وانظمة مدنية وتعليمية وقضائية ليست إلا صفات لهذه الذات الأمنية، ومن ثم فإن تعدد صفات الوطنية ستغدو –والأمر كذلك- ليست سوى تشخيصا وتجسيدا لتعدد الذات الامنية في عشرات الفروع.
ما علاقة هذه المقدمة باعتقال د. فداء الحوراني؟ ونحن هنا اذ نتحدث عن د. فداء انما نعني كل ضحايا الهجمة الأخيرة التي شنتها إحدى الجهات الأمنية التي يراد لها أن تحتكر الصيت الأسوأ للممارسات المخابراتية في سوريا، من خلال احتكارها –في الآونة الاخيرة- لملفات منع السفر، ومن ثم الاستدعاءات الأمنية، بل والخطف من الشوارع وارسال رسائل التهديد بالتصفية الجسدية.ونحن نتمنى أن يكون هذا الفريق هو الوحيد –من بين الأجهزة الأمنية- الذي يتميز باللاعقلانية واللامسؤولية الوطنية والأدمغة الحامية في إعلانه الحرب على مجتمعه وأهله، وأن لا يكون ذلك في الأمر ثمة توزيع للأدوار... أي أننا نقصد بمقدمتنا هذه أيضا السبعة الأفاضل: الأستاذ جبر الشوفي، الأستاذ علي العبد الله، د. وليد البني، د. أكرم البني، د. احمد طعمة، د. ياسر العيتي،، وعلى رأس هذه القائمة تتأتى الدلالة الرمزية لاعتقال الدكتورة فداء الحوراني، ولهذا سنتوقف عند هذه الدلالة بمستوييها: ليس خصوص السبب فحسب، بل وعموم المعنى الذي يومئ إلى الجميع بما فيهم رموز المعتقلين السابقين: د. عارف دليلة، انور البني، فائق المير، ميشيل كيلو، ورياض درار والشاب عمرعبد الله وزملائه.
ففي المعنى العام: إن اعتقال السياسة في المجتمع، هو بمثابة اعتقال لمجتمعيته، أي للاجتماع الانساني الذي يتميز عن المجتمعات القطيعية الطبيعية، بكونه يحتكم إلى السياسة في إدارة شؤونه، ولهذا فقد عرف أرسطو الكائن الانساني بانه حيوان سياسي، أي أن نزع السياسة من حياة الجماعة الانسانية تعني تحويلها واختزالها إلى قطعان قطيعية، أي اختزال الانسان إلى حيوان.
يترتب على هذا المفهوم ويتناسل من منظومته الوراثية، مبدأ أن الغاء الحياة السياسية من المجتمع (العلاقات الأفقية السوسيولوجية)، تعني اعادته إلى الحياة الأهلية العضوية (العلاقات العمودية العصبوية القرابية الدموية)، وهذا يعني الافتقار إلى مفهوم (الوطنية) بوصفها مجلى الوحدة الارادية للعيش المشترك على أرض مشتركة وفق عقد اجتماعي مشترك، حيث تلغي تشظيات المجتمع الأهلي (القبيلة- العشيرة- الطائفة- العائلة)، وتخابطها الاجتماعي الأغبر التفتيتي لتتحول إلى سديم كتل بشرية تفتقر حدّا ومنطقا لمفهوم الهوية السوسيولوجية، وتحمل دائما في داخلها قابلية فنائها (التاناتوس) من خلال تصدعاتها وانهداماتها وتكسراتها، أي الانتهاء إلى مآلات التآكل فالتفكك فالحرب الأهلية وثقافة الغزو، وهذا الاستقراء ليس تجريدا نظريا، بل ها هو المثال العراقي بأبهى صور بشاعة عبادة الموت التي تعززالنزوع الغريزي للتدمير الذاتي والانتحار الجماعي.
ونحن نؤكد في هذا السياق على النموذج العراقي المماثل بنيويا في المستوى الايديولوجي والسياسي للنظام السوري، بالاضافة إلى المماثلة في بنية المجتمعين من حيث التعدد الاثني والطائفي، أي أن الايديولوجيا الوطنية والقومية، ايديولوجيا البعث العراقي ونظامه الشمولي القائم على الانثناء نحو الخارج (العدو الخارجي)، كان على حساب التكور على الداخلي: اي على حساب الصراع الاجتماعي والسياسي على حد الصياغة النقدي لتجربة البعث من خلال صياغات واضع منطلقاته (ياسين الحافظ)، مما حال موضوعيا دون عقلنة وتحديث ودمقرطة الوطنية العربية والايديولوجيا العربية.
د. عبد الرزاق عيد-
الشفاف
31-12-2007م
يقوم تحديد مفهوم الوطنية اليوم في سوريا –كما في العالم العربي- على حماية البنية المجتمعية الداخلية من التصدع فالتآكل فالتفكك فالحرب الأهلية. وكل كلام عن وطنية تقوم على حدّ ومفهوم التعارض مع الأخر (الامبريالي – الصهيوني)، دون أن تتأسس هذه الوطنية على بنية مجتمعية مدنية تعاقدية (مواطنوية) هو نوع من هذر المقال الذي أصبح متقادما تقادم الاستبداد الذي صنع هذه الوطنية الخارجية على مقاسات بقائه القائم على الشوكة والغلبة، من خلال جعل هذه الوطنية دريئة ايديولوجية رسمية للنظام الديكتاتوري، تنطلق من تصور للمجتمع يقوم على مبدأ وحدة الهوية المنسجمة والمتناغمة والتي لا يعكر صفو تناغمها وانسجامها سوى الخارج الاستعماري الامبريالي الصهيوني.... ولكي تقترب خطوة أكبر باتجاه المتعيّن والملموس الذي يتشخص به المجرد، نأخذ المثال الفسطيني، هذا المثال الذي يشكل المرجعية الميثاقية العقدية لكل مفاهيمنا الوطنية والقومية، حيث لولا القضية الفلسطينية لربما كان تغير مسار الفكر العربي بمجمله في شكل فهمه وقراءته للمسألة الوطنية والقومية، حيث أن النواة الابستمية (الابستيم) كما يقول الابستمولجيون، أو (الصويتم) كما يقول الأسلوبيون عند تحليل بنية نظام الخطاب، نقول: ان النواة الابستمية-الصوتيمية لنظام الخطاب المعرفي لعربي تمحورت حول الخارج الاسرائيلي- الغربي الانكليزي- ثم الامريكي، بوصفه المحدد لمعنى الوطنية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم.
ولذا فإن كل تجاربنا الفكرية –ما بعد المرحلة الليبرالية الموؤدة عربيا- (القومية والاشتراكية) ظلت محكومة في فهمها للمسألة الوطنية بوظيفتها الاجرائية المتمثلة بكيفية مواجهة المشروع الصهيوني-الأمريكي سياسيا دون بذل الجهود الفكرية الضرورية لفهمها بوصفها تجليا لمفهوم (المواطنة) بكل ما يترتب على هذا المفهوم من منظومات حقوقية وثقافية ومؤسساتية ديموقراطية وتمثيلية قادرة على الانتقال بالأمة من مجرد سديم بشري هائم وغائم وعائم إلى مستوى كتلة تاريخية منسجمة مندمجة وموحدة الرؤية في وعيها لذاتها ودورها الحضاري. وبسبب انعدام هذا المنظور المدني الديموقراطي للمسألة الوطنية الذي أطاحت به موجة الشعبويات الفلاحية الانقلابية العسكرية القوموية واليساروية، فقد اختزلت إلى مقولات سياسوية-سطحية بزركشة بيانية وفيهقة بلاغية وترنم غنائي وفحولة شعرية تنتشي بالثناء، وتترنم بالفخر، وتثأر بالهجاء، وتهيج بالمديح فتخرج عن طورها طربا لمديحها: (الستم خير من ركب المطايا). ومنذ أن خرج الخليفة الأموي الممدوح عن طوره ممتشقا سيفه قائلا: أي والله نحن لها... وسيوف الحكام العرب عبرالتاريخ تمتشق سيوفها طربا لهذا المديح، متمثلة موقف الخليفة الأموي، لكن دون سيفه الأمبراطوري، بل سيوف ذبح شعوبهم لتفتديهم بالروح والدم...!
وسيظل هذا العقل الغريزي يتحكم بمواقفنا وسلوكنا واستجاباتنا، وينزلق على السطح الخارجي لمفهوم الهوية الوطينة، دون التغلغل في مكونات هذا مفهوم الذي هو في جوهره ثقافي تاريخي وتعاقدي سوسيولوجيا وسياسيا.
المثال الفلسطيني كثيف الدلالة في سياق موضوعنا، إذ أن انهماكه عبر أكثر من نصف قرن في خوض الصراع مع الآخر بوصفه عدوا مضادا كيانيا (انتولوجيا) وليس تاريخيا، حرم الفعل الفلسطيني من فرصة اغناء ذاته بما لدى ذات الآخر من عوامل التفوق التي أتاحت له الانتصار، في مواجهة عناصر الخصوصية الذاتية العروبية المؤمثلة والمنوهة بذاتها ومآثرها لدرجة التوثين التي لم تتح لهذه الذات القومية المتورمة بامجاد الماضي سوى الهزيمة، بل وسلسلة الهزائم الوطنية التي قادت إلى التصدع الذاتي فالتآكل التكويني فالتفكك الكياني فالحرب الاهلية، وليس مثال غزة-الضفة آخر الامثلة عن هذه الايديولجيا الوطنية الغثة والركيكة خلال نصف قرن.
إن التجربة الفلسطينية تكثف في سيرورتها كل الارهاصات والمخاضات الفكرية والايديولوجية (قوموية-يسارية)، واخيرا اسلاموية، وهي الترسيمة ذاتها التي آلت اليها الايديولوجيات الوطنية العربية استطرادا،تحيث تعرّف وطنيتها بالضد من (الآخر) العدو الخارجي، دون أن تنتبه إلى أن العدو الرئيسي قابع في الداخل وهو الاستبداد والجهل والفساد، وفي داخل الداخل بدءا من طريقة الفهم المنحطة لـ (أنانا) القومية والتاريخية والثقافية والحضارية والتراثية والدينية... الخ.
إن سيناريو الترسيمة الفلسطينية عن المسألة الوطنية حاضر في كل حاضرات العالم العربي وبواديها ومفازاتها وصحاريها وسهولها وجبالها ووديانها، وإن كانت بشكل أبطأ بسبب لجم الحراك الاجتماعي والسياسي قمعيا في المحيط العربي، لكنها عندما ستنفجر في المحيط العربي ستكون بشكل أفجع وأشرس مما هي عليه في التجربة الفلسطينية، التي ستبدو هي الأقل -على كل حال- وراثة لحمولات ثقافة الكراهية والحرب الأهلية التي تحكم الملل والنحل والمذاهب والاثنيات باعتبار تعدد الملل هي الاقل في فلسطين منها في المحيط العربي.
إن تأكل المشروع الوطني المدني البرلماني في سوريا منذ الخمسينات، كان ينتج تآكلا موازيا ومناظرا على مستوى البنية الاجتماعية: حيث بروز الحضور الكثيف للفلاحين والعسكر، فالفلاحون هم قاعدة الشعبوية التي ريفّت المدن والتهمت كل مظاهر نويات الحداثات المدينية، والعسكرهم قاعدة الارادوية الاستبدادية، حيث اكراه المجتمع على التكيف مع الايديولوجيا الأوامرية العسكرية التي راحت تتضخم لتغدو حالة انكشارية، ومن ثم التدمير التدريجي للحراك المجتمعي المتوازن وتهميشه وتذريره مقابل تمركزأمني على الذات يختصر الآخرالوطني بمدى انصياعه للتمركز الذاتي الأمني، حيث الأمن- والامر كذلك- يغدو (ذات الوطن) وكل أشكال تعيّن الوطن في صيغة مؤسسات وادارات وانظمة مدنية وتعليمية وقضائية ليست إلا صفات لهذه الذات الأمنية، ومن ثم فإن تعدد صفات الوطنية ستغدو –والأمر كذلك- ليست سوى تشخيصا وتجسيدا لتعدد الذات الامنية في عشرات الفروع.
ما علاقة هذه المقدمة باعتقال د. فداء الحوراني؟ ونحن هنا اذ نتحدث عن د. فداء انما نعني كل ضحايا الهجمة الأخيرة التي شنتها إحدى الجهات الأمنية التي يراد لها أن تحتكر الصيت الأسوأ للممارسات المخابراتية في سوريا، من خلال احتكارها –في الآونة الاخيرة- لملفات منع السفر، ومن ثم الاستدعاءات الأمنية، بل والخطف من الشوارع وارسال رسائل التهديد بالتصفية الجسدية.ونحن نتمنى أن يكون هذا الفريق هو الوحيد –من بين الأجهزة الأمنية- الذي يتميز باللاعقلانية واللامسؤولية الوطنية والأدمغة الحامية في إعلانه الحرب على مجتمعه وأهله، وأن لا يكون ذلك في الأمر ثمة توزيع للأدوار... أي أننا نقصد بمقدمتنا هذه أيضا السبعة الأفاضل: الأستاذ جبر الشوفي، الأستاذ علي العبد الله، د. وليد البني، د. أكرم البني، د. احمد طعمة، د. ياسر العيتي،، وعلى رأس هذه القائمة تتأتى الدلالة الرمزية لاعتقال الدكتورة فداء الحوراني، ولهذا سنتوقف عند هذه الدلالة بمستوييها: ليس خصوص السبب فحسب، بل وعموم المعنى الذي يومئ إلى الجميع بما فيهم رموز المعتقلين السابقين: د. عارف دليلة، انور البني، فائق المير، ميشيل كيلو، ورياض درار والشاب عمرعبد الله وزملائه.
ففي المعنى العام: إن اعتقال السياسة في المجتمع، هو بمثابة اعتقال لمجتمعيته، أي للاجتماع الانساني الذي يتميز عن المجتمعات القطيعية الطبيعية، بكونه يحتكم إلى السياسة في إدارة شؤونه، ولهذا فقد عرف أرسطو الكائن الانساني بانه حيوان سياسي، أي أن نزع السياسة من حياة الجماعة الانسانية تعني تحويلها واختزالها إلى قطعان قطيعية، أي اختزال الانسان إلى حيوان.
يترتب على هذا المفهوم ويتناسل من منظومته الوراثية، مبدأ أن الغاء الحياة السياسية من المجتمع (العلاقات الأفقية السوسيولوجية)، تعني اعادته إلى الحياة الأهلية العضوية (العلاقات العمودية العصبوية القرابية الدموية)، وهذا يعني الافتقار إلى مفهوم (الوطنية) بوصفها مجلى الوحدة الارادية للعيش المشترك على أرض مشتركة وفق عقد اجتماعي مشترك، حيث تلغي تشظيات المجتمع الأهلي (القبيلة- العشيرة- الطائفة- العائلة)، وتخابطها الاجتماعي الأغبر التفتيتي لتتحول إلى سديم كتل بشرية تفتقر حدّا ومنطقا لمفهوم الهوية السوسيولوجية، وتحمل دائما في داخلها قابلية فنائها (التاناتوس) من خلال تصدعاتها وانهداماتها وتكسراتها، أي الانتهاء إلى مآلات التآكل فالتفكك فالحرب الأهلية وثقافة الغزو، وهذا الاستقراء ليس تجريدا نظريا، بل ها هو المثال العراقي بأبهى صور بشاعة عبادة الموت التي تعززالنزوع الغريزي للتدمير الذاتي والانتحار الجماعي.
ونحن نؤكد في هذا السياق على النموذج العراقي المماثل بنيويا في المستوى الايديولوجي والسياسي للنظام السوري، بالاضافة إلى المماثلة في بنية المجتمعين من حيث التعدد الاثني والطائفي، أي أن الايديولوجيا الوطنية والقومية، ايديولوجيا البعث العراقي ونظامه الشمولي القائم على الانثناء نحو الخارج (العدو الخارجي)، كان على حساب التكور على الداخلي: اي على حساب الصراع الاجتماعي والسياسي على حد الصياغة النقدي لتجربة البعث من خلال صياغات واضع منطلقاته (ياسين الحافظ)، مما حال موضوعيا دون عقلنة وتحديث ودمقرطة الوطنية العربية والايديولوجيا العربية.