-
عرض كامل الموضوع : الذكرى الخمسين لغياب بول كلوديل
verocchio
30/12/2007, 20:24
فرنسا تحتفي بالذكرى الخمسين لغياب بول كلوديل
الغريب السرّي المنطوي والغارق في كاثوليكيته زمن الإلحاد
نزيه خاطر - (النهار)
verocchio
30/12/2007, 20:24
بين إطلالات بول كلوديل الذي يحتفي به الرأي العام الفرنسي ومن ثم الفرانكوفوني في مرور خمسين عاماً على وفاته، هي اليوم، والعالم يعبر العواصف التغييرية التي تتركه بين قديم وجديد، أيها الأكثر أسراً لقارئ معقود على أدوات مطالعة لم تزد ملذاته كما هو مفترض؟ وحتى في حال اعتبار ان الزمن راهناً ليس للشعر، وكلوديل يشع أولا شاعراً مجدولاً على لبس تبلله التناقضات، وإيمانه الكاثوليكي جهنّمه. وأنه زمن لم يجد بعد مسرحه بعدما أسقط تدريجاً الأشكال الشائعة في القرن العشرين من دون إطلاق سواها ثقافة ورواجاً، وكلوديل بنى عمارة مسرحية اخترقت في الصميم التيارات الأيديولوجية المادية عامة والمُلحدة خاصة حتى باتت نصوصه الدرامية تؤلف مثل حواجز فكرية كخطوط دفاع أخيرة للفكر المسيحي في مجتمعات اختارت "العلمنة" شعاراً، والحذر من عودة التيارات الدينية، وفرنسا ابنة الكنيسة البكر، كموقف عملي وفعل ثقافي. وأنه زمن لم يبق معنياً، علناً في الأقل، من خلال كبار مبدعيه، وكلوديل أحد هؤلاء، بالتفاعل المدوّن كتابة مع النصوص التوراتية، وذاك ما أمضى باقي حياته بعد 1928 في مزاولته وعلى نحو تأملي يحمل الخلاصات الوجدانية التي دفعت ببصماتها الفكر الديني لأديب انقسمت حوله ولا تزال القوى المبدعة من معاصريه والآخرين.
وجليّ أن شخصية المؤلف المسرحي هي الطاغية حالياً على سواها، في عملية الاستذكار الخمسينية للأديب الكاثوليكي أولاً بول كلوديل (1868 1955). ووسط كل هذه التحيات الموجهة من كل الزوايا الأكاديمية والخلايا الفكرية الى كبار تواروا قبل المئة أو الخمسين او ربع القرن، يلفت اهتمام متزايد بالغائبين المميزين، كأن فراغاً يشكو منه المجتمع الثقافي الراهن يدفع في اتجاه استذكار من هم من طينة جان بول سارتر (اليسار المتطرف)، أو ريمون آرون (الفكر اليميني العلماني)، او بول كلوديل (الفكر الكاثوليكي الصدامي) الآن. وضمن هذا الإطار، ونظراً الى الطبيعة شبه الأصولية تقريباً اذا جاز وصف كهذا لفكر واضع نصوص "البشارة الى مريم" (1912) و"الرهينة" (1914) و"الخبز اليابس" (1915) و"حذاء الساتان" (1943)، وفي موازاة الفورة القائمة في الربع الأخير من القرن العشرين، بل الى اليوم، في اشتعال الإيديولوجيات الدينية (في اليهودية والإسلام والمسيحية) يأخذ إحياء الإرث الابداعي الشعري والمسرحي والتأملي الديني لبول كلوديل وتحت عناوين تقنية عديدة، لقاءات، معارض تشكيلية، فوتوغرافيا، أشرطة دي ي دي.، إصدارات، عروض مسرحية، قراءات شعرية، طابع الحدث المعقود وإن في براءة نسبية، على أجواء تبدو كأنها تقمصت هنا وهناك عصبيات من أزمنة غابرة.
verocchio
30/12/2007, 20:25
أما كلوديل الشاعر فيعتبره البعض من أكبر شعراء زمنه لنجاحه في تدجين الأصول الفعلية لتجارب بودلير ورامبو ومالارميه، ومن ثم توظيف قوله الشعري في خدمة نشيد كوني على صلات عميقة بالفكر المسيحي الكاثوليكي الذي يلون كلياً أعماله وتصرفاته، فيعترف له الخصوم قبل المريدين بالارتفاع في نصّه الى درجات مضيئة في ابتكار الإيقاعات الإنشادية وصقل لغة مؤاتية قادرة على الذوبان النغمي معجماً وصوتاً بالمعاني الروحية التي يتوحد الانسان العصري عبرها، في نظره، بالقوى الكبرى التي تقرّبه من الله. وليس الشعر وحده أداة لدى بول كلوديل للانعقاد الشغوف على "ايمان" حاضر في عنف شرس إن جاز القول في يوميات الأديب والمفكر، ودوماً ضمن أطر حوارية تترك فيه وجعاً اكثر مما توصله الى النشوة. وقد يبدو صعباً جداً الفصل بين الأديب والرجل المياوم والإنسان المؤمن، ويرى البعض الى كتاباته أنها الأصداء الوجدانية لمجريات حياة فرنسي حلم طول حياته بالانتماء الى الكاثوليكية فيما أمضى تلك الحياة كديبلوماسي في خدمة دولة علمانية كأحد أبرز رجالاتها. لكنه خرج من الوظيفة في 1935 ليضاعف تكريس وقته للعمل الأدبي، وينبغي أن ندل هنا على أن اهم روائعه كان أنجزها في أعوام خدمته الديبلوماسية، وأقوى مثل على ذلك كتابته مسرحية "حذاء الساتان" خلال وجوده في العاصمة اليابانية (من 1921 الى 1927)، وتعتبر من اكثر مسرحياته إشراقاً رغم أنها لم تعرف التتويج الباريسي إلا بعدما أخرجها جان لوي بارو للكوميدي فرانسيز عام 1943، ويوحي البعض ان هذا النجاح غير العادي لـ"حذاء الساتان" هو الذي تسبب بقبول بول كلوديل في الأكاديمية الفرنسية (في 1946) بعدما كان رفض ترشيحه في دورة 1935 يوم فاز كلود فارير بالمقعد الشاغر.
والى اليوم لا يزال رجال المسرح الفرنسي منقسمين بين مع وضد وغير مبالين حيال اختيار روائع بول كلوديل للعرض أو اعتبارهم انها موغلة في العواطف الدينية الكاثوليكية ولذا هي خارج الزمن العولمي، أو يفضلون عليها روائع آخرين اقرب اليهم شكلاً ومحتوى؟ وجليّ أن أول ملامح المسرح "الكلوديلي" تكمن في صعوبة تناوله حتى يبدو كأنه يفترض في مَن يتناول عروضه قدراً من الشغف لا يقل حرارة عما وضعه كلوديل في نصوصه. ومسرح كلوديل ينمو خارج القواعد السائدة في النصف الأول من القرن العشرين، الى حضوره كحدث غريب عن الإيديولوجيات الفاعلة في النصف الثاني من القرن العشرين، رغم أن مسرحيّي المرحلة المفصلية الراهنة المعقودة على إعادة نظر كاملة بالقرن العشرين ينظرون في حذر وفضول ورغبة في معرفة ما لدى هذا الأديب الغريب الأطوار، السري والمنطوي والغارق في الإيمان في زمن انتصار الإيديولوجيات الملحدة أو العلمانية، أي أنه مسرحي تحت المناقشة الخصبة لدى أكثرية مسرحية يسيطر عليها هاجس التجديد الكلّي لفنون منصة أضاعت طقسية حمقها طويلاً من الخلخلة. وليس عجباً بعد ذلك ان يختار المحتفون بخمسينية بول كلوديل عنواناً يستوحي من ذاك الوضع مادته وأطر مجرياته، أي عنوان "كلوديل وتحدي المنصة" الذي يطلب الى المساهمين فيه إيجاد الركائز الخاصة بمسرح لم يحترم كثيراً القواعد التي صنعت لقرون عديدة المنصة الفرنسية.
verocchio
30/12/2007, 20:25
وبدءاً، أي مع ورشة انطلاق الحوار العلمي والتقني حول البنية الدرامية غير التقليدية لمسرح بول كلوديل (بعد ظهر يوم 23 شباط الفائت)، استقبلت المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس بعض كبار الاختصاصيين بكلوديل الذين توافقوا تقريباً على اتساع الاهتمام الميداني بعروض بدت طويلاً في غربة كاملة عن كبار المخرجين. والعنوان عينه "كلوديل وتحدي المنصة" يشي بشبه اعتراف أولي بالدور المجدد للخشبة الذي حققه مؤلف "البشارة الى مريم"، وهو النص الذي اختاره المخرج كريستيان سكياريتي لعرضه خلال "لقاءات بلدة برانغ"، موطن كلوديل، كنموذج يجسّد الملامح الدرامية والمفردات الحوارية التي تدل على الرؤية الكاملة للأديب الكاثوليكي المنحاز دوماً الى ايمانه. وهذا المخرج الخمسوني الذي جاء الى كلوديل متأثراً أولاً باهتمام المخرج الأساسي في باريس انطوان يتيز، يرى الى مؤلف "حذاء الساتان" ونصوص أخرى أنه مفكر مسرحي معني بالمنصة والعالم، إلى كونه مبتكراً عبقرياً للغة معجماً وإيقاعاً. وهذا الرأي لا يقاسمه اياه رمز آخر كبير من المخرجين الرواد، أي جان بيار نسان الذي يختصر موقف رعيل "أيار 68" بوجود تباعد بين ثوار أيار واللون الكاثوليكي لنص كلوديل، لذا يقول المخرج نسان "نحن رفضناه طويلاً" مضيفاً أن الزمن والعشرة النقدية لفرنسا من خلال العروض التي اقاموها "جعلت هؤلاء يكتشفون بفضل العمر والتجربة أن هناك طرقاً عديدة لاستعمال هذه النصوص، حتى أنه وسط تحولاته هذه، أتعلن أن النص الذي أخرجه لكلوديل أي "التبادل" (عام 2001) يحكي كامل عصرنا، تماماً كما لدى برتولد بريشت في مسرحيته "في ادغال المدن"، لذا هي تعتبر "من روائع القرن العشرين".
كأن ثمة تحوّلاً في الرأي لمصلحة الاعتراف بموهبة مضيئة لم تكن في حاجة الى مبايعة لاحقة كانت حصلت على أعرض منها أيام زمان، وبول كلوديل مثل فرنسوا مورياك وبول اليري، الى جان بول سارتر وألبر كامو وأندريه جيد وآخرين، كأنهم منفيون الى أدراج في انتظار قيامة قد لا تكون موسمية فقط لمئوية هنا وخمسينية هناك
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة