Moonlights
15/12/2007, 12:44
بصراحة لم أعلم أين أضع هذه التوطئة لكتابي أدونيس الجديدين فاخترت المكتبة .
«اهدأ هاملت...» و «ورّاق يبيع كتب النجوم» كتابان جديدان ... أدونيس ينحت صورة المعنى «المتألم» في اللغة <
>محمد علي شمس الدين الحياة - 15/12/07//
--> يستند أدونيس في كتابيه الجديدين «اهدأ هاملت، تنشّقْ جنون أوفيليا» و «ورّاق يبيع كتب النجوم» (دار الساقي، بيروت 2007)، الى ألم العقل في المعنى، وإلى موسيقى الصورة وموسيقى اللغة في التقنية والشكل، فاستعاض بذلك عن أحد ركني الشعر في حدّه النقدي العربي القديم (الوزن)، تاركاً المخيلة تعمل عملها في كتلة السرد (النثر)... هذا الى اتجاه سردي وصفي غالب على جزء كبير من نصّ «كونشرتو الرحلة الى حلب» الذي يستغرق حوالى ثلث كتاب «ورّاق...»، فيغلب التأريخ والتحقيق التاريخي والوصفي على هذا القسم وما يشبهه أو يماثله من متكآت الأمكنة والأزمنة والأشخاص.
لا ينسى أدونيس أن يترك لهيب التأمل يتصاعد من حطب التواريخ والأمكنة، وذلك من خلال اختراق كتلة النص التاريخي والوصفي بنصوص خاصة يدخلها في أهاب النص العام، وكأنه يُدخل عود الثقاب المشتعل في كومة الحطب. لهذه الناحية، يتابع أدونيس تقنيته التي استعملها في ثلاثة أجزاء «الكتاب» مستعملاً التواريخ المقمّشة، حتى ولو كثرت ومالت كفتها أحياناً بحيث تتعب التقنية الشعرية، كمادة للتأمل الشعري، هذا التأمل المستند الى صورة المعنى مسكوباً في رخام اللغة.
وفي يقيني أن الشاعر، يصل في هذين الكتابين، الى ما هو أصعب من الشقاء الباطني وصراخ اليأس، إنه يصل الى ألم آخر هو «ألم العقل». لذا تراه واحداً وحيداً مستوحداً مستوحشاً ونافراً وآبقاً ومشاكساً ويُلغِزُ ويومئ ويتبطَّن بكل غامضٍ وملتبسٍ واثنينيٍّ ومتهاتِرٍ، ويدثر جسده في عريه في وسط الكون (بل في وسط الكينونة) بقمصان كثيرة من رجال ونساء ومن عناصر، من رياح وغيوم، شمس ورماد ونار وقمر، ومع ذلك يبقى مرتجفاً عارياً مكشوفاً مسحوباً من أعصابه، وكأنه تمثال نَحَتَهُ جياكوميتي... أو كأنه «أبو العلاء» لا يزال يئنّ حتى هذه اللحظة من الزمان، أنينه الخاص المنقطع النظير، أنين العقل المتألم، وهو يتدثر بلزوم ما لا يلزم، وبتلك الأبيات والقصائد المستندة الى خصائص الحروف، كرموز، والى الأعداد كرموز، والى القوافي كرموز، وهي بمجملها رموز فلسفية باطنية، تمتّ لإخوان الصفا بصلة، وقد فكّ شيفرتها الشيخ عبدالله العلايلي في كتابه «المعرّي ذلك المجهول».
لا ينبثق الشعر لدى أدونيس من مكان ما بين القلب والحنجرة، بل من مكان ما بين «العقل» واللغة... حتى كأنه يريد أن يحيا ويموت ويولد ويفكّر ويتناسل ويتوالد، يعشق ويسعد ويتألم بالكلمات. إن سيرة الزمن (الأدونيسي) هي عينها سيرة الكلمات، وصورة الزمن صورتها، وقد ابتكر لذلك «معجماً»، وأطلق عليه تسمية «معجم»، فهو في الجزء الأخير من كتاب «ورّاق يبيع كتب النجوم» يعرّف مفردات من كتاب الكون، من مثل «الوردة»، «الرياح»، «الغيوم»، «الشمس»، «القمر»، «حرب»، «كذب»، «وجه»، «أين»، «امرأة»، «قرون الماعز»، «النهر»... الخ، وهو بذلك يعيد اكتشاف الكائنات (كمعانٍ) من خلال الكلمات (كلغة)، والصور (كتشابيه وُممثلات...)... وبذلك، يكون أدونيس قد قدّم غيبَ المعنى، بمادة الكلمة والصورة. (لنتأمّل عنوان إحدى مجموعاته السابقة: «موسيقى الحوت الأزرق»). يقول في نص بعنوان «وردة المادة»: «غيبٌ، لكي أحسن رؤيته، ألامسُ وجهه بوردة المادة» (من مجموعة «ورّاق...»).
لا يفتأ العقل يئنّ، على امتداد نصوص أدونيس... لو فتحت أية صفحة من كتابيه الأخيرين، لأصغيت الى أنين غامض ممضّ يتولّد من احتكاك الشاعر بأعضائه وجوارحه، واحتكاكه بالتواريخ والعناصر والأشخاص. ليس فقط التواريخ بين دفتيه تئنّ، بل العناصر: الشمس، الريح، المطر، الغبار والطيور والأنهار. وكصيّاد للألم، يمكن القارئ أن يلتقط من جعبته الكثير من الطيور الذبيحة الساقطة على الطريق: «كأنما لا شيء يثق أنه حيّ إلا الموت»، «كأنّ الحياة خطأ يصححه القتل»، «التاريخ أقدام والأيام أحذية» «إنها الشمس تتشحّط في الشوارع»، «التعب بيته الأجمل» «ثمة بردٌ يكاد أن يرتجف منه حتى جسد الشمس» «تحت بشرة التاريخ، يسيل دم الحسين. في الفراغ يتدلّى القاتل كمثل قشٍّ مجنون»، «القمر هذه الليلة، يشعل شموسه بين قبور الأطفال» «بؤس يرنّ في سمع الأرض كأنه جرس بحجم الكون»... -->
يقول أدونيس في نص من «اهدأ هاملت» بعنوان «أيّام... قُبّعات من القش»: «دائماً أدعوا اليقين الى مائدتي/ فلا يجد عليها غير الظن»، وكأنه يستعيد، نصياً، بيت أبي العلاء: «أما اليقين فلا يقين وإنما/ أقصى مرادي أن أظنَّ وأحدُسا». وهو مصدر الألم العقلي في هذا الشعر... وهو «أي هذا الألم...» يتجلّى في مجموعة «اهدأ هاملت، تنشّق جنون أوفيليا» أكثر مما يتجلّى في «ورّاق...» فنصوص «اهدأ...» أكثر تجريداً وتصفية وأكثر رخامية لغوية.
يكاد يصعد من نصوص «اهدأ...»بكاء عالمي... ليس لجهة أن الأماكن التي كتبت فيها النصوص منشورة على جسد واسع في الكرة الأرضية (دمشق، بيروت، نيويورك، باريس، لندن، طنجة، فارو (البرتغال)، برلين، بالرمو (صقلية)، فينيسيا (إيطاليا)، كمبردج... وأماكن أخرى)، بل لأن الشاعر ينتحب بالأبجدية في كل مكان... حتى كأن أبجديته هي للمراثي... «لوّن/ لوّن أيها الدم/ هذه اللوحة التي نسميها الأرض»... والجُمَل الكونيّة الصافعة لديه كثيرة «الأفق يتجرّع السُمّ شاهداً على الخوف»، «رأس الزمن ينكسر ويكاد أن يتفتت على مائدة الأبدية»، «غالباً تسيل الأجوبة دماً يبدو كأنه يتدفّق من عنق الشـــمس» «قــــضبان حديد على أبواب الأفق، والوجوه وراءها كُرات مثقوبة»... الخ.
والحال هو أن العالم والبلاد متسعة، رحبة، مفتوحة الآفاق، «لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها» (ليس ذلك صحيحاً) ولكنها أحلام الشاعر الموطوءة (وهنا أهميتها) «... ولكن أحلام الرجال تضيق» (وهو صحيح)، فميزان الفضاء ليس كائناً في الفضاء، بل هو كائن ومركوز في النفس. من هنا عمومية الألم الخاص، أي قدرة الشاعر على أن يشيع ألمه الخاص في الجسد العام، من خلال الصورة والكلمة.
أدونيس، على ما سبقت الإشارة، يهندس المعنى (وبكلمة أكثر دقة: المُعطى، لأن المعنى قد يشير لغاية بعينها، في حين أن الغموض وتشعّب الدلالة، وامحاءها (أحياناً) تسود نصوص أدونيس)... أدونيس يهندس المُعطى الشعري لنصه، وهو معطى مؤلم وشـــكّاك، من خلال الصورة والتركيب اللغوي، أو الحِيَل اللغوية. فـــهو (شــــكلانياً) شاعر تجريد، مهندس للـــصورة واللـــغة، وكأنه ينحو في أســـاس الشـــعر، المنحى الرياضي الذي حدده الفيلســـوف اليوناني القديم بقوله: «العـــالم عدد وموســـيقى». لا تنبثق القصيدة من داخله انبثاقاً فطرياً وبركانياً هاذياً (كما هي حال قصيدة السيّاب أو الماغوط أو أنتونان آرتو، الفرنسي، مثلاً)، بل هو مهنــدس مـــالارمي للـــكلمات وظـــلالها، والصور... وبالـــتالي نسأل: هل له حقاً يقين باللغة؟
والإجابة عن هذا السؤال، تمضي في اتجاهين متعابثين. إن نصوص أدونيس تطفح بما يشي أن سداها ولحمتها اللغة... وأن دوره هو أن يحوّل الحياة الى كلمات. يقول في نص بعنوان يقين: «لم أجد حتى الآن مكاناً أطمئن إليه أجمل وآنس وأكثر اتساعاً من غابة اللغة»... «هكذا لا أقدر أن أعارض مسيرة الزمن إلا بمسيرة الكلمات»... هذا الكلام ينسبه الشاعر الى «خواصر أيامه»، وينضم الى محاولته تحويل مواد الحياة الى مواد الكلمات من خلال «معجم»... وأن المسألة عنده «كيف يخلق لمعناه صورة لكي يحل في اللغة حلول الملح في الخبز...» (ص 57. مجموعة: اهدأ... قصيدة: لوّن أيها الدم هذه اللوحة التي نسمّيها الأرض)... يقول أيضاً: «سيري يا أيامه على عكازات من قصب اللغة» (ص 176 من «اهدأ...». يكتب «ماذا يفعل إن كانت المرأة العاشقة محيطاً؟ وكانت اللغة بيت المحيط؟ ماذا يفعل إذا كانت كل كلمة في معجم أيامه امرأة؟» (ص 87: اهدأ...). يكتب: «اهدر اهدر بين أ نقاضه يا صخب اللغة/ عنده ورق/ لكن ليس عنده إلا ما لا يكتب» (ص 98: اهدأ...). ويكتب «لا غطاء في برد هذا العالم إلا اللغة/ واللغة لحاف مليءٌ بالثقوب» (ص 133: «اهدأ...») «دم القافية يسيل على باب الشعر/ انهضي وهيئي خيولك أيتها اللغة» (ص 136: «اهدأ...»)...
والإشكالية تطرح نفسها بنفسها من خلال ما سبق. وهي تعذّب الشاعر حقاً. ومفادها: لا خلاص إلا بالكلمات التي لا خلاص بها. إنه تماماً عذاب المعري في لزوم ما لا يلزم.
أدونيس يحوز جائزة الأكاديمية النروجية
مُنح الشاعر أدونيس جائزة الأكاديمية النروجية للأدب وحرية التعبير عن هذه السنة 2007. وأقيمت في مدينة مولده، مقرّ الأكاديمية، حفلة خاصة تسلّم فيها الشاعر الجائزة، في 29 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وأقيمت لهذه المناسبة ندوة شعرية شارك فيها عدد من الشعراء: من النروج والسويد وإيرلندا وسلوفاكيا، ناقشوا فيها بعضاً من القضايا التي تثيرها التجربة الشعرية في عالم اليوم.
وقد وصف الشاعر السويدي ستيفان سودير بلوم، الشاعر أدونيس بأنه «واحدٌ من أهم الشعراء في عصرنا، اليوم»، ووصف كتابه «الكتاب»، بأنه «فريدٌ، ولا مثيل له».
وكان رئيس الأكاديمية الشاعر كنوت أوديغارد قد افتتح الحفل بكلمة قال فيها عن شعر أدونيس بأنه يتمتع بمزايا فريدة، وبأنه «الشعر الأكثر إثارة» في عالمنا المعاصر». وهذا وحده «كافٍ لكي يمنح جائزة الأكاديمية النروجية»، عن هذه السنة 2007.
«اهدأ هاملت...» و «ورّاق يبيع كتب النجوم» كتابان جديدان ... أدونيس ينحت صورة المعنى «المتألم» في اللغة <
>محمد علي شمس الدين الحياة - 15/12/07//
--> يستند أدونيس في كتابيه الجديدين «اهدأ هاملت، تنشّقْ جنون أوفيليا» و «ورّاق يبيع كتب النجوم» (دار الساقي، بيروت 2007)، الى ألم العقل في المعنى، وإلى موسيقى الصورة وموسيقى اللغة في التقنية والشكل، فاستعاض بذلك عن أحد ركني الشعر في حدّه النقدي العربي القديم (الوزن)، تاركاً المخيلة تعمل عملها في كتلة السرد (النثر)... هذا الى اتجاه سردي وصفي غالب على جزء كبير من نصّ «كونشرتو الرحلة الى حلب» الذي يستغرق حوالى ثلث كتاب «ورّاق...»، فيغلب التأريخ والتحقيق التاريخي والوصفي على هذا القسم وما يشبهه أو يماثله من متكآت الأمكنة والأزمنة والأشخاص.
لا ينسى أدونيس أن يترك لهيب التأمل يتصاعد من حطب التواريخ والأمكنة، وذلك من خلال اختراق كتلة النص التاريخي والوصفي بنصوص خاصة يدخلها في أهاب النص العام، وكأنه يُدخل عود الثقاب المشتعل في كومة الحطب. لهذه الناحية، يتابع أدونيس تقنيته التي استعملها في ثلاثة أجزاء «الكتاب» مستعملاً التواريخ المقمّشة، حتى ولو كثرت ومالت كفتها أحياناً بحيث تتعب التقنية الشعرية، كمادة للتأمل الشعري، هذا التأمل المستند الى صورة المعنى مسكوباً في رخام اللغة.
وفي يقيني أن الشاعر، يصل في هذين الكتابين، الى ما هو أصعب من الشقاء الباطني وصراخ اليأس، إنه يصل الى ألم آخر هو «ألم العقل». لذا تراه واحداً وحيداً مستوحداً مستوحشاً ونافراً وآبقاً ومشاكساً ويُلغِزُ ويومئ ويتبطَّن بكل غامضٍ وملتبسٍ واثنينيٍّ ومتهاتِرٍ، ويدثر جسده في عريه في وسط الكون (بل في وسط الكينونة) بقمصان كثيرة من رجال ونساء ومن عناصر، من رياح وغيوم، شمس ورماد ونار وقمر، ومع ذلك يبقى مرتجفاً عارياً مكشوفاً مسحوباً من أعصابه، وكأنه تمثال نَحَتَهُ جياكوميتي... أو كأنه «أبو العلاء» لا يزال يئنّ حتى هذه اللحظة من الزمان، أنينه الخاص المنقطع النظير، أنين العقل المتألم، وهو يتدثر بلزوم ما لا يلزم، وبتلك الأبيات والقصائد المستندة الى خصائص الحروف، كرموز، والى الأعداد كرموز، والى القوافي كرموز، وهي بمجملها رموز فلسفية باطنية، تمتّ لإخوان الصفا بصلة، وقد فكّ شيفرتها الشيخ عبدالله العلايلي في كتابه «المعرّي ذلك المجهول».
لا ينبثق الشعر لدى أدونيس من مكان ما بين القلب والحنجرة، بل من مكان ما بين «العقل» واللغة... حتى كأنه يريد أن يحيا ويموت ويولد ويفكّر ويتناسل ويتوالد، يعشق ويسعد ويتألم بالكلمات. إن سيرة الزمن (الأدونيسي) هي عينها سيرة الكلمات، وصورة الزمن صورتها، وقد ابتكر لذلك «معجماً»، وأطلق عليه تسمية «معجم»، فهو في الجزء الأخير من كتاب «ورّاق يبيع كتب النجوم» يعرّف مفردات من كتاب الكون، من مثل «الوردة»، «الرياح»، «الغيوم»، «الشمس»، «القمر»، «حرب»، «كذب»، «وجه»، «أين»، «امرأة»، «قرون الماعز»، «النهر»... الخ، وهو بذلك يعيد اكتشاف الكائنات (كمعانٍ) من خلال الكلمات (كلغة)، والصور (كتشابيه وُممثلات...)... وبذلك، يكون أدونيس قد قدّم غيبَ المعنى، بمادة الكلمة والصورة. (لنتأمّل عنوان إحدى مجموعاته السابقة: «موسيقى الحوت الأزرق»). يقول في نص بعنوان «وردة المادة»: «غيبٌ، لكي أحسن رؤيته، ألامسُ وجهه بوردة المادة» (من مجموعة «ورّاق...»).
لا يفتأ العقل يئنّ، على امتداد نصوص أدونيس... لو فتحت أية صفحة من كتابيه الأخيرين، لأصغيت الى أنين غامض ممضّ يتولّد من احتكاك الشاعر بأعضائه وجوارحه، واحتكاكه بالتواريخ والعناصر والأشخاص. ليس فقط التواريخ بين دفتيه تئنّ، بل العناصر: الشمس، الريح، المطر، الغبار والطيور والأنهار. وكصيّاد للألم، يمكن القارئ أن يلتقط من جعبته الكثير من الطيور الذبيحة الساقطة على الطريق: «كأنما لا شيء يثق أنه حيّ إلا الموت»، «كأنّ الحياة خطأ يصححه القتل»، «التاريخ أقدام والأيام أحذية» «إنها الشمس تتشحّط في الشوارع»، «التعب بيته الأجمل» «ثمة بردٌ يكاد أن يرتجف منه حتى جسد الشمس» «تحت بشرة التاريخ، يسيل دم الحسين. في الفراغ يتدلّى القاتل كمثل قشٍّ مجنون»، «القمر هذه الليلة، يشعل شموسه بين قبور الأطفال» «بؤس يرنّ في سمع الأرض كأنه جرس بحجم الكون»... -->
يقول أدونيس في نص من «اهدأ هاملت» بعنوان «أيّام... قُبّعات من القش»: «دائماً أدعوا اليقين الى مائدتي/ فلا يجد عليها غير الظن»، وكأنه يستعيد، نصياً، بيت أبي العلاء: «أما اليقين فلا يقين وإنما/ أقصى مرادي أن أظنَّ وأحدُسا». وهو مصدر الألم العقلي في هذا الشعر... وهو «أي هذا الألم...» يتجلّى في مجموعة «اهدأ هاملت، تنشّق جنون أوفيليا» أكثر مما يتجلّى في «ورّاق...» فنصوص «اهدأ...» أكثر تجريداً وتصفية وأكثر رخامية لغوية.
يكاد يصعد من نصوص «اهدأ...»بكاء عالمي... ليس لجهة أن الأماكن التي كتبت فيها النصوص منشورة على جسد واسع في الكرة الأرضية (دمشق، بيروت، نيويورك، باريس، لندن، طنجة، فارو (البرتغال)، برلين، بالرمو (صقلية)، فينيسيا (إيطاليا)، كمبردج... وأماكن أخرى)، بل لأن الشاعر ينتحب بالأبجدية في كل مكان... حتى كأن أبجديته هي للمراثي... «لوّن/ لوّن أيها الدم/ هذه اللوحة التي نسميها الأرض»... والجُمَل الكونيّة الصافعة لديه كثيرة «الأفق يتجرّع السُمّ شاهداً على الخوف»، «رأس الزمن ينكسر ويكاد أن يتفتت على مائدة الأبدية»، «غالباً تسيل الأجوبة دماً يبدو كأنه يتدفّق من عنق الشـــمس» «قــــضبان حديد على أبواب الأفق، والوجوه وراءها كُرات مثقوبة»... الخ.
والحال هو أن العالم والبلاد متسعة، رحبة، مفتوحة الآفاق، «لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها» (ليس ذلك صحيحاً) ولكنها أحلام الشاعر الموطوءة (وهنا أهميتها) «... ولكن أحلام الرجال تضيق» (وهو صحيح)، فميزان الفضاء ليس كائناً في الفضاء، بل هو كائن ومركوز في النفس. من هنا عمومية الألم الخاص، أي قدرة الشاعر على أن يشيع ألمه الخاص في الجسد العام، من خلال الصورة والكلمة.
أدونيس، على ما سبقت الإشارة، يهندس المعنى (وبكلمة أكثر دقة: المُعطى، لأن المعنى قد يشير لغاية بعينها، في حين أن الغموض وتشعّب الدلالة، وامحاءها (أحياناً) تسود نصوص أدونيس)... أدونيس يهندس المُعطى الشعري لنصه، وهو معطى مؤلم وشـــكّاك، من خلال الصورة والتركيب اللغوي، أو الحِيَل اللغوية. فـــهو (شــــكلانياً) شاعر تجريد، مهندس للـــصورة واللـــغة، وكأنه ينحو في أســـاس الشـــعر، المنحى الرياضي الذي حدده الفيلســـوف اليوناني القديم بقوله: «العـــالم عدد وموســـيقى». لا تنبثق القصيدة من داخله انبثاقاً فطرياً وبركانياً هاذياً (كما هي حال قصيدة السيّاب أو الماغوط أو أنتونان آرتو، الفرنسي، مثلاً)، بل هو مهنــدس مـــالارمي للـــكلمات وظـــلالها، والصور... وبالـــتالي نسأل: هل له حقاً يقين باللغة؟
والإجابة عن هذا السؤال، تمضي في اتجاهين متعابثين. إن نصوص أدونيس تطفح بما يشي أن سداها ولحمتها اللغة... وأن دوره هو أن يحوّل الحياة الى كلمات. يقول في نص بعنوان يقين: «لم أجد حتى الآن مكاناً أطمئن إليه أجمل وآنس وأكثر اتساعاً من غابة اللغة»... «هكذا لا أقدر أن أعارض مسيرة الزمن إلا بمسيرة الكلمات»... هذا الكلام ينسبه الشاعر الى «خواصر أيامه»، وينضم الى محاولته تحويل مواد الحياة الى مواد الكلمات من خلال «معجم»... وأن المسألة عنده «كيف يخلق لمعناه صورة لكي يحل في اللغة حلول الملح في الخبز...» (ص 57. مجموعة: اهدأ... قصيدة: لوّن أيها الدم هذه اللوحة التي نسمّيها الأرض)... يقول أيضاً: «سيري يا أيامه على عكازات من قصب اللغة» (ص 176 من «اهدأ...». يكتب «ماذا يفعل إن كانت المرأة العاشقة محيطاً؟ وكانت اللغة بيت المحيط؟ ماذا يفعل إذا كانت كل كلمة في معجم أيامه امرأة؟» (ص 87: اهدأ...). يكتب: «اهدر اهدر بين أ نقاضه يا صخب اللغة/ عنده ورق/ لكن ليس عنده إلا ما لا يكتب» (ص 98: اهدأ...). ويكتب «لا غطاء في برد هذا العالم إلا اللغة/ واللغة لحاف مليءٌ بالثقوب» (ص 133: «اهدأ...») «دم القافية يسيل على باب الشعر/ انهضي وهيئي خيولك أيتها اللغة» (ص 136: «اهدأ...»)...
والإشكالية تطرح نفسها بنفسها من خلال ما سبق. وهي تعذّب الشاعر حقاً. ومفادها: لا خلاص إلا بالكلمات التي لا خلاص بها. إنه تماماً عذاب المعري في لزوم ما لا يلزم.
أدونيس يحوز جائزة الأكاديمية النروجية
مُنح الشاعر أدونيس جائزة الأكاديمية النروجية للأدب وحرية التعبير عن هذه السنة 2007. وأقيمت في مدينة مولده، مقرّ الأكاديمية، حفلة خاصة تسلّم فيها الشاعر الجائزة، في 29 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وأقيمت لهذه المناسبة ندوة شعرية شارك فيها عدد من الشعراء: من النروج والسويد وإيرلندا وسلوفاكيا، ناقشوا فيها بعضاً من القضايا التي تثيرها التجربة الشعرية في عالم اليوم.
وقد وصف الشاعر السويدي ستيفان سودير بلوم، الشاعر أدونيس بأنه «واحدٌ من أهم الشعراء في عصرنا، اليوم»، ووصف كتابه «الكتاب»، بأنه «فريدٌ، ولا مثيل له».
وكان رئيس الأكاديمية الشاعر كنوت أوديغارد قد افتتح الحفل بكلمة قال فيها عن شعر أدونيس بأنه يتمتع بمزايا فريدة، وبأنه «الشعر الأكثر إثارة» في عالمنا المعاصر». وهذا وحده «كافٍ لكي يمنح جائزة الأكاديمية النروجية»، عن هذه السنة 2007.