Moonlights
11/12/2007, 20:54
يوم بكى البحر
صباح الخير أيها البحر. صباح الخير أيتها البراري.
هجس الصياد الواثب في الفضاء وهو يطوق العالم الرحب. وهجس في الآن نفسه : انتهت الحرب وبدأ سلام الروح المتعبية.
فوق صخور الجزيرة البنية اللون والكامدة رأى البحر الأزرق والمزجج باخضرار الفجر.
كما رأى المسافات المائية والهوائية التي اجتازها فيما مضى. وآن لمعت الأشعة على ثبج الماء تذكر المرأة التي غادرها في باريس. امرأة أفريقية تشبه الحلم, أو أنها الحلم الآن في لحظة انخطاف الذاكرة.
-لا ترحل. قالت الكلمة بما يشبه الضراعة وهما يتواجهان في مقهى (لافونتين). وقال لا بد من ذلك. أحدهما كان يحاول الإمساك بقوس قزح في أعقاب يوم مطير سطعت شمسه. لكن الاثنين كانا يترنّحان على حافة الريح.
عندما رمى الصياد شصه في الماء وغاصة الصنارة رحلت الذكرى وأقبل شبق الصيد. الفلّينة الحمراء الطافية على السطح المائي الرجراج هي الآن مركز العالم. الانتباه والأعصاب والعينان كلها ممغنطة بهذه النقطة العائمة التي ستهتز ثم تغوص منذرة بالسمكة التي تبتلع الطعم القاتل.
فجر بحري رطب فوقه سماء بلون الماء. وعلى سطح البحر كان صياض يبحر فوق"سفينته" المطاطية, مجذفاً بذراعيه في أعماق المياه الدافئة: سيكون الصيد وافراً هذا اليوم. قالت ذلك طيور النورس البحرية الخافقة فوقه.
في الزمن الطفولي البعيد كان يعشق البحر ويخاف الإيغال فيه. الآن انكسر الخوف من الصخور والأقراش وكلاب البحر الوهمية. عشرون دقيقة من الشاطئ حتى "جزيرة النمل" الجاثمة كتمساح في عرض البحر. يتعب الذراعان من التجديف بعد الدقاءق العشر الأولى فيرخيهما غائصتين حتى المرفقين.
دخلت السفينة الآن في عمق المياه الزرقاء – النيلية.
هنا يقتلون سمك البوري بالديناميت الآزوتي. الصيادون القتلة يأتون مع شروق الشمس مبحرين من خليج "بصيرة" الصغير فوق اللنش الأخضر. هذه البقعة هدفهم. لقد استعاضوا عن الديناميت بالآزوت المصنّع كيماوياً. القوة التفجيرية للكتلة تعادل ضعف قنبلتين يدويتين. ثلاث أو أربع قنابل تقذف في هذه المياه الداكنة. يدوي البحر ويتمزق ويئن فيختلط الزبّد بدم السمك الطافي والمسجّى تحت السطح وفوق الرمل. آلاف من السمك الصغير تموت وتتحول طعاماً للنوارس وحيّات البحر.
دخلت السفينة المجال الحيوي للجزيرة. هس ذي الصخور البيضاء المسطّحة عبر الامتداد الشرقي للجزيرة الغائص في الماء. في اللحظة التي نزل فيها الصيّاد عن الفرشة المطاطية وغاص حتى السرّة ممسكاً بطرف السفينة الصغيرة. بزغت الشمس من وراء الهضاب الشرقية وزقزق نورس طافر من أعلى قمة في الجزيرة.
-فأل حسن: قال الصياد وهو يحفّ بتجاويف الصخور المسننة والطحالب والأشنيات والقنافذ السوداء اللاصقة بالصخر.
غبطة غامرة تتدفق في العروق. رعشة جنس تكتنف القدمين العاريتين صاعدة من الصخور الندية الواخزة.
هو الآن مغمور بهذا الفرح المنعش. الفرح المشع من أضلاع هذه المرأة التي تتمطى مع الشروق.
من جهة الغرب يضرب الموج حواف الصخر بقوة وحشية ثم ينحسر هادراً فتتراءى التجاويف والمغاور والهوات العميقة جراء الحتّ. في عمق هذه الدوّارات الهادرة يحلو الصيد.
المتعة التي ترجف الأعصاب وحواف القلب, تأتي نت هذا الثقل الذي يشد الشص نحو الأعماق, ومن هذه المعركة الجميلة التي تدور رحاها بين يد الصيّاد القابضة بقوة على القصبة, وبين السمكة التي تنازع صاعدة ثم هابطة, متأرجحة يميناً وشمالاً, رافضة بكل قوة الروح العزيزة, الخروج من الماء – الرحم إلى الفضاء المميت.
-سترحل إذن!
-حبنا بلا أمل.
في غمرات العيون, بين البريق الندي تراءى السمك الطفل يطفو ويموت.
هو كان في ذلك الزمن في حقل الرمي, وهي كانت في حقل الشهوة وضجيج الجسد. كلاهما الآن على حافة السماء يهويان في فراغ من الحزن والمرارة والقنوط المطلق.
وداعاً أيتها المرأة الجميلة, الجارحة, والتي لا تُنسى.
وداعاً أيها الأمل الضائع.
قال الجسدان ذلك في الليلة الأخيرة. ليلة الدم والبكاء والصرخة الوحشية الصامتة, والموت.
لمح الصياد اللنش الأخضر وهو ينعطف صوب الجزيرة, حاملاً مجموعة من الرجال العراة إلا من مايوهات البحر.
ما الذي أتى بهم في هذا الضحى العذب! اعتكرت بحيرة السلام الداخلي. حدث ما يشبه الصدع لوحدة الصياد مع البحر.
قصبة الصيد ارتعشت بين الأصابع وماتت المرأة الأفريقية في الطرف الآخر من العالم.
-لا شيء سوى الاضطراب. لا شيء سوى الموت.
على مسافة خمسين متراً من الجزيرة تةقف محرك الزورق. كانت أصوات الصيادين وجلبتهم تملأ الفضاء.
-البوري. البوري. جهزوا القنابل. هيا. هيا! بسرعة خاطفة قذف أحدهم قنبلة آزوتية تلاها بأخرى. انفجاران مخيفان شكلا دوائر بيضاء مزبدة خرجت من أحشاء البحر.
اثنان بمنظاري بحر ولباس الغطس الأوكسجيني انقذفا عن حافة الزورق.
لم يمض وقت طويل على الغطاسين في الأعماق.
-ماذا هناك؟ سأل ربان اللنش الغطاسين آن انبثقا من الماء وليس في عبيهما سوى سمكات صغيرة من المنّوري والسمنيس.
-الديناميت لم يُصب البوري.
-توارى من الأصوات لحظة القذف.
راحت اللعنات والعبارات البذيئة والشتائم تتطاير كالرذاذ على أم وأخت ورب قاذف القنابل.
-هيا اطلعو. أخت البوري على أخت الصيد.
-ربكم على ربّ اللي علّمكم الصيد. شو بدنا نطعمي المعلمين.
قال الربان المهتاج العبارة الأخيرة بغموض التبس على الصياد.
عندها هدر المحرك وانعطف اللنش. ابتهج الصياد بشماتة.
خمس أو ست سمكات كانت في السلة الصغيرة المدلاة على حافة الصخر. بعضها ما يزال ينتفض انتفاضة النزع الأخير.
-إلى الجحيم سيرحلون بعيداً نحو الأعماق. قال لنفسه وهو يضع الطعم في الصنارة ويرمي الخيط الذي بدأ يغوص.
عبروا أمامه. حيزوم الزورق يشق سطح البحر بغضب ووحشية, متجهين نحو الجنوب. حين اختفوا وغربوا عن وجهه أحس بالراحة. فجأة غارت الفلينة الحمراء عميقاً وبسرعة خاطفة. نتر القصبة برشاقة إلى الأعلى. ثقل غير عادي كان عالقاً في الشص.
تسارع النبضات مع الرعشة الداخلية لغبطو سرية صاعدة وراجفة بين راحة اليد والعينين, امتزج بهاجس خوف. أن تقطع السمكة الخيط أو تنفلت من الشص.
الصراع والتوتر بدءا من هذا الخفقان المزدوج.
خفقة القلب الفرِح والواجف. وخفقان السمكة وهي تضرب وتتأرجح وتزوغ لتتخلص من هذا الشِرك المؤلم والغريب الذي ابتلعته.
في برهة الصراع غير المتكافئ, حين كان الحظ أو المصادفة أو البراعة, تتموج فوق الماء مع الصعود البطيء للخيط, هجس الصياد: لابد أنها كبيرة ومن نوع خاص.
كان الخوفأن تكون من نوع "الزلاق البنّي" الذي يمتلك أسنان كالمنشار تقرض الخيط وتبتلع الصنارة المميتة.
على عمق متر تقريباً, وهو في أوج التوتر والشد والخفقان دون أن يدع للقصبة ثانية من الارتخاء, لمح السمكة تطفو في المياه الزرقاء الصافية, حدث المشهد كالبرق ما لبثت بعدها أن خفقت وكبست بقوة غائرة بالخيط ثانية إلى الأعماق.
ما تزال عالقة لكنها الآن تدور بقوة على شكل موجات لولبية.
يا للعنة! زلاّقة من النوع اللعين القارض! التماعها إذ صعدت وحركتها اللولبية, أعطته اليقين.
أنهكتها المعركة والألم, وارتفع ضغطه جراء التوتر والتوجس. هي ذي تصعد أخيراً بثقل جسدها وبقايا الطاقة الرافضة للموت. تصعد بوهن لكنها تناضل بخفقات واهنة بطيئة.
وهو يراها ممددة على سطح الماء بحجم نصف ذراع, مقتربة أكثر فأكثر نحو حافة الصخر, غمره فرح طفولي وحبور انتصار.
انفجار الديناميت الذي صدم رأسه داوياً من الطرف الجنوبي, تواقَتَ مع لحظة صعود السمكة من الماء. السمكة التي شمت رائحة الموت في الفضاء الخارجي فانتفضت بقوة النزع الأخير قاطعة بمنشار أسنانها الحادة خيط الصنّارة.
-لا شيء سوى الاضطراب. لا شيء سوى الخذلان.
كانوا الآن يطوقون الجزيرة الصغيرة على شكل قوس من الجنوب والشرق, وهم يوالون قذف قنابلهم عن بعد ثلاثين متراً من حواف الجزيرة.
عشر قنابل حولت البحر الذي اضطرب إلى ساحة حرب. من أعلى قمة في الجزيرة, بعد أن لملم الصياد خيوطه وأدوات صيده واضطرابه وخذلانه شاهد زورقاً عسكرياً جاثماً قرب اللنش الأخضر. في مقدمة الزورق كان هناط ثلة من الضباط يصرخون بالغطاسين مشيرين إلى السمك الغارق والطافي في بحيرة الدم.
-حتى إلى هنا وصلوا!!
في طريق العودة ما كانت هناك سماء صافية, ولا نوارس بيضاء.
تحته في الأعماق كان يسمع أصداء أنين يشبه البكاء : هو أم السمك أم الجزيرة أم البحر!!
صباح الخير أيها البحر. صباح الخير أيتها البراري.
هجس الصياد الواثب في الفضاء وهو يطوق العالم الرحب. وهجس في الآن نفسه : انتهت الحرب وبدأ سلام الروح المتعبية.
فوق صخور الجزيرة البنية اللون والكامدة رأى البحر الأزرق والمزجج باخضرار الفجر.
كما رأى المسافات المائية والهوائية التي اجتازها فيما مضى. وآن لمعت الأشعة على ثبج الماء تذكر المرأة التي غادرها في باريس. امرأة أفريقية تشبه الحلم, أو أنها الحلم الآن في لحظة انخطاف الذاكرة.
-لا ترحل. قالت الكلمة بما يشبه الضراعة وهما يتواجهان في مقهى (لافونتين). وقال لا بد من ذلك. أحدهما كان يحاول الإمساك بقوس قزح في أعقاب يوم مطير سطعت شمسه. لكن الاثنين كانا يترنّحان على حافة الريح.
عندما رمى الصياد شصه في الماء وغاصة الصنارة رحلت الذكرى وأقبل شبق الصيد. الفلّينة الحمراء الطافية على السطح المائي الرجراج هي الآن مركز العالم. الانتباه والأعصاب والعينان كلها ممغنطة بهذه النقطة العائمة التي ستهتز ثم تغوص منذرة بالسمكة التي تبتلع الطعم القاتل.
فجر بحري رطب فوقه سماء بلون الماء. وعلى سطح البحر كان صياض يبحر فوق"سفينته" المطاطية, مجذفاً بذراعيه في أعماق المياه الدافئة: سيكون الصيد وافراً هذا اليوم. قالت ذلك طيور النورس البحرية الخافقة فوقه.
في الزمن الطفولي البعيد كان يعشق البحر ويخاف الإيغال فيه. الآن انكسر الخوف من الصخور والأقراش وكلاب البحر الوهمية. عشرون دقيقة من الشاطئ حتى "جزيرة النمل" الجاثمة كتمساح في عرض البحر. يتعب الذراعان من التجديف بعد الدقاءق العشر الأولى فيرخيهما غائصتين حتى المرفقين.
دخلت السفينة الآن في عمق المياه الزرقاء – النيلية.
هنا يقتلون سمك البوري بالديناميت الآزوتي. الصيادون القتلة يأتون مع شروق الشمس مبحرين من خليج "بصيرة" الصغير فوق اللنش الأخضر. هذه البقعة هدفهم. لقد استعاضوا عن الديناميت بالآزوت المصنّع كيماوياً. القوة التفجيرية للكتلة تعادل ضعف قنبلتين يدويتين. ثلاث أو أربع قنابل تقذف في هذه المياه الداكنة. يدوي البحر ويتمزق ويئن فيختلط الزبّد بدم السمك الطافي والمسجّى تحت السطح وفوق الرمل. آلاف من السمك الصغير تموت وتتحول طعاماً للنوارس وحيّات البحر.
دخلت السفينة المجال الحيوي للجزيرة. هس ذي الصخور البيضاء المسطّحة عبر الامتداد الشرقي للجزيرة الغائص في الماء. في اللحظة التي نزل فيها الصيّاد عن الفرشة المطاطية وغاص حتى السرّة ممسكاً بطرف السفينة الصغيرة. بزغت الشمس من وراء الهضاب الشرقية وزقزق نورس طافر من أعلى قمة في الجزيرة.
-فأل حسن: قال الصياد وهو يحفّ بتجاويف الصخور المسننة والطحالب والأشنيات والقنافذ السوداء اللاصقة بالصخر.
غبطة غامرة تتدفق في العروق. رعشة جنس تكتنف القدمين العاريتين صاعدة من الصخور الندية الواخزة.
هو الآن مغمور بهذا الفرح المنعش. الفرح المشع من أضلاع هذه المرأة التي تتمطى مع الشروق.
من جهة الغرب يضرب الموج حواف الصخر بقوة وحشية ثم ينحسر هادراً فتتراءى التجاويف والمغاور والهوات العميقة جراء الحتّ. في عمق هذه الدوّارات الهادرة يحلو الصيد.
المتعة التي ترجف الأعصاب وحواف القلب, تأتي نت هذا الثقل الذي يشد الشص نحو الأعماق, ومن هذه المعركة الجميلة التي تدور رحاها بين يد الصيّاد القابضة بقوة على القصبة, وبين السمكة التي تنازع صاعدة ثم هابطة, متأرجحة يميناً وشمالاً, رافضة بكل قوة الروح العزيزة, الخروج من الماء – الرحم إلى الفضاء المميت.
-سترحل إذن!
-حبنا بلا أمل.
في غمرات العيون, بين البريق الندي تراءى السمك الطفل يطفو ويموت.
هو كان في ذلك الزمن في حقل الرمي, وهي كانت في حقل الشهوة وضجيج الجسد. كلاهما الآن على حافة السماء يهويان في فراغ من الحزن والمرارة والقنوط المطلق.
وداعاً أيتها المرأة الجميلة, الجارحة, والتي لا تُنسى.
وداعاً أيها الأمل الضائع.
قال الجسدان ذلك في الليلة الأخيرة. ليلة الدم والبكاء والصرخة الوحشية الصامتة, والموت.
لمح الصياد اللنش الأخضر وهو ينعطف صوب الجزيرة, حاملاً مجموعة من الرجال العراة إلا من مايوهات البحر.
ما الذي أتى بهم في هذا الضحى العذب! اعتكرت بحيرة السلام الداخلي. حدث ما يشبه الصدع لوحدة الصياد مع البحر.
قصبة الصيد ارتعشت بين الأصابع وماتت المرأة الأفريقية في الطرف الآخر من العالم.
-لا شيء سوى الاضطراب. لا شيء سوى الموت.
على مسافة خمسين متراً من الجزيرة تةقف محرك الزورق. كانت أصوات الصيادين وجلبتهم تملأ الفضاء.
-البوري. البوري. جهزوا القنابل. هيا. هيا! بسرعة خاطفة قذف أحدهم قنبلة آزوتية تلاها بأخرى. انفجاران مخيفان شكلا دوائر بيضاء مزبدة خرجت من أحشاء البحر.
اثنان بمنظاري بحر ولباس الغطس الأوكسجيني انقذفا عن حافة الزورق.
لم يمض وقت طويل على الغطاسين في الأعماق.
-ماذا هناك؟ سأل ربان اللنش الغطاسين آن انبثقا من الماء وليس في عبيهما سوى سمكات صغيرة من المنّوري والسمنيس.
-الديناميت لم يُصب البوري.
-توارى من الأصوات لحظة القذف.
راحت اللعنات والعبارات البذيئة والشتائم تتطاير كالرذاذ على أم وأخت ورب قاذف القنابل.
-هيا اطلعو. أخت البوري على أخت الصيد.
-ربكم على ربّ اللي علّمكم الصيد. شو بدنا نطعمي المعلمين.
قال الربان المهتاج العبارة الأخيرة بغموض التبس على الصياد.
عندها هدر المحرك وانعطف اللنش. ابتهج الصياد بشماتة.
خمس أو ست سمكات كانت في السلة الصغيرة المدلاة على حافة الصخر. بعضها ما يزال ينتفض انتفاضة النزع الأخير.
-إلى الجحيم سيرحلون بعيداً نحو الأعماق. قال لنفسه وهو يضع الطعم في الصنارة ويرمي الخيط الذي بدأ يغوص.
عبروا أمامه. حيزوم الزورق يشق سطح البحر بغضب ووحشية, متجهين نحو الجنوب. حين اختفوا وغربوا عن وجهه أحس بالراحة. فجأة غارت الفلينة الحمراء عميقاً وبسرعة خاطفة. نتر القصبة برشاقة إلى الأعلى. ثقل غير عادي كان عالقاً في الشص.
تسارع النبضات مع الرعشة الداخلية لغبطو سرية صاعدة وراجفة بين راحة اليد والعينين, امتزج بهاجس خوف. أن تقطع السمكة الخيط أو تنفلت من الشص.
الصراع والتوتر بدءا من هذا الخفقان المزدوج.
خفقة القلب الفرِح والواجف. وخفقان السمكة وهي تضرب وتتأرجح وتزوغ لتتخلص من هذا الشِرك المؤلم والغريب الذي ابتلعته.
في برهة الصراع غير المتكافئ, حين كان الحظ أو المصادفة أو البراعة, تتموج فوق الماء مع الصعود البطيء للخيط, هجس الصياد: لابد أنها كبيرة ومن نوع خاص.
كان الخوفأن تكون من نوع "الزلاق البنّي" الذي يمتلك أسنان كالمنشار تقرض الخيط وتبتلع الصنارة المميتة.
على عمق متر تقريباً, وهو في أوج التوتر والشد والخفقان دون أن يدع للقصبة ثانية من الارتخاء, لمح السمكة تطفو في المياه الزرقاء الصافية, حدث المشهد كالبرق ما لبثت بعدها أن خفقت وكبست بقوة غائرة بالخيط ثانية إلى الأعماق.
ما تزال عالقة لكنها الآن تدور بقوة على شكل موجات لولبية.
يا للعنة! زلاّقة من النوع اللعين القارض! التماعها إذ صعدت وحركتها اللولبية, أعطته اليقين.
أنهكتها المعركة والألم, وارتفع ضغطه جراء التوتر والتوجس. هي ذي تصعد أخيراً بثقل جسدها وبقايا الطاقة الرافضة للموت. تصعد بوهن لكنها تناضل بخفقات واهنة بطيئة.
وهو يراها ممددة على سطح الماء بحجم نصف ذراع, مقتربة أكثر فأكثر نحو حافة الصخر, غمره فرح طفولي وحبور انتصار.
انفجار الديناميت الذي صدم رأسه داوياً من الطرف الجنوبي, تواقَتَ مع لحظة صعود السمكة من الماء. السمكة التي شمت رائحة الموت في الفضاء الخارجي فانتفضت بقوة النزع الأخير قاطعة بمنشار أسنانها الحادة خيط الصنّارة.
-لا شيء سوى الاضطراب. لا شيء سوى الخذلان.
كانوا الآن يطوقون الجزيرة الصغيرة على شكل قوس من الجنوب والشرق, وهم يوالون قذف قنابلهم عن بعد ثلاثين متراً من حواف الجزيرة.
عشر قنابل حولت البحر الذي اضطرب إلى ساحة حرب. من أعلى قمة في الجزيرة, بعد أن لملم الصياد خيوطه وأدوات صيده واضطرابه وخذلانه شاهد زورقاً عسكرياً جاثماً قرب اللنش الأخضر. في مقدمة الزورق كان هناط ثلة من الضباط يصرخون بالغطاسين مشيرين إلى السمك الغارق والطافي في بحيرة الدم.
-حتى إلى هنا وصلوا!!
في طريق العودة ما كانت هناك سماء صافية, ولا نوارس بيضاء.
تحته في الأعماق كان يسمع أصداء أنين يشبه البكاء : هو أم السمك أم الجزيرة أم البحر!!