-
دخول

عرض كامل الموضوع : ساحرة بورتوبيللو- باولو كويللو


Mandela
10/12/2007, 00:37
ساحرة بورتوبيللو
الفصل الأول
قبل أن تهجر كلّ هذه الإفادات طاولة مكتبي وتسير في خطى القَدَر الذي اخترته لها، خَطَرَ لي أن أستخدمها مادّة أساسية لوضع سيرة تقليدية مدروسة بشمولية، تروي قصة حقيقية. شرعتُ أقرأ سلسلة من السِيَر المختلفة، لعلّها تساعدني في الكتابة، فأدركت أنّ وجهة نظر كاتب السيرة في بطل روايته تؤثّر لا محالة في حصيلة بحثه. وبما أنني لم أكن أنوي فرض وجهات نظري على القارئ، بل طرح قصة «ساحرة بورتوبيللو» من منظار شخصياتها الرئيسية فحسب، فسرعان ما عَدَلتُ عن فكرة كتابة سيرة مباشرة. واستقرّ بي الرأي على المقاربة الفضلى؛ وهي، ببساطة، نقل ما أخبرني به الناس.

هيرون راين، 44 سنة، صحافي لا أحد يُشعل نوراً ليستره: الهدف من النور هو خلق مزيد من النور، لفتح عيون الناس، لكشف الجمالات من حولنا. لا أحد يُضحّي بالحبّ… أغلى ما يملك. لا أحد يضع أحلامه في يديّ مَن قد يبدِّدها. لا أحد، باستثناء أثينا. بعد مرور زمن طويل على موت أثينا، طلبت معلّمتها السابقة إليّ أن أرافقها إلى بلدة برستونبانز في اسكوتلاندا. هناك، باستغلال النفوذ الإقطاعي القديم الذي كان سيبطل الشهر التالي، منحت البلدة مذكرات عفو رسمية ل 81 شخصاً – وهررهم - ممن أُعدموا في القرنَين السادس عشر والسابع عشر لممارستهم السحر. تقول الناطقة الرسمية باسم المحاكم البارونية في برستونغرانج ودولفينستون: «أغلبية الذين أُدينوا… حُكم عليهم على أساس دليل غير حسّي، أي أفاد الشهودَ في الادّعاء أنهم أحسّوا بوجود أرواح شريرة، أو أنهم سمعوا أصوات أرواح». لا جدوى الآن من الكلام عن كلّ الفظائع التي ارتكبتها محكمة التفتيش، من غرف تعذيب ومحارق أوقدتها بفتيل الحقد والانتقام؛ مع ذلك، فإن «إدّا»، ونحن في طريقنا إلى برستونبانز، قالت مراراً إن أمراً ما يشوب تلك المبادرة التي وجدتها غير مقبولة: البلدة والبارون الرابع عشر من برستونغرانج ودولفينستون، كانا «يمنحان مذكرات عفو» لأشخاص كانوا قد أُعدموا بوحشية. «نحن الآن في القرن الحادي والعشرين، ومع ذلك، فإن المتحدّرين من نسل المجرمين الفعليين، أولئك الذين قتلوا الضحايا الأبرياء، لا يزالون يشعرون أنهم يملكون الحق في منح إعفاءات. أتفهم قصدي يا هيرون؟ فهمتُ قصدها. حملة مطاردة ساحرات جديدة تستحكم. هذه المرة، ليس السلاح حد النصال الحامية، بل حدّة السخرية والقمع. كلّ من يكتشف أنه يحظى بهِبة ويتجرّأ على البوح بقدراته، يُنظر إليه في العادة بعين الريبة. بشكل عام، وبدل أن يشعر الزوج أو الزوجة أو الوالد أو الولد أو أيًّا يكُن، بالزهو والفخار، يعمدوا إلى منع الموهوب من ذِكر المسألة، خوفاً من تعريض العائلة للسخرية. قبل تعرُّفي إلى أثينا، خِلتُ أنّ هِبات مماثلة هي طريقة مضلّلة لاستغلال أسى الناس. كان سفري إلى ترانسلفانيا لإعداد وثائقيّ عن مصّاصي الدماء، طريقة أخرى أيضاً لإثبات كم من السهل خداع الناس. بعض التطيُّرات، مهما بدت منافية للعقل، تقبع في خيال المرء وغالباً ما يستغلّها أشخاص عديمو الضمير. عندما زرت قصر دراكولا، الذي أُعيد بناؤه لمجرد إشعار السُيّاح بأنهم في مكان مميّز، اقترب مني مسؤول حكومي، وألمح إلى أنني سأتلقّى هدية «هامّة» (كما قال) عندما سيعرض الفيلم على قناة BBC . حَسِبَ ذاك المسؤول أنني كنت أساعد في ترويج الخرافة، وبالتالي، أستحق مكافأة سخية. قال أحد المرشدين السياحين إنّ عدد الزوّار يزداد كل سنة، وإن أي تنويه بالمكان سيكون إيجابياً، حتى وإن ذكر برنامج أن القصر مزيفاً، وأن فلاد دراكولا هو شخصية تاريخية لا صلة لها بالخرافة، وإنها مجرد تصوّر نسجته مخيّلة إيرلندي خصبة (ملاحظة الناشر: برام ستوكر)، الذي لم يطأ المنطقة يوماً. عرفت حينها أنني، مهما اتّسمت وقائعي بالدّقة، متواطئ في الكذبة عن غير عمد؛ حتى وإن كانت الفكرة في نصّي هي تجريد المكان من طابعه الخرافي فسوف يصدِّق الناس ما يريدون تصديقه؛ كان المرشد على حقّ، سأكون ببساطة أساعد في المزيد من الترويج. عَدَلتُ عن المشروع من فوري، مع أنني كنت قد أنفقت الكثير من المال على الرحلة والأبحاث. غير أنّ سفري إلى ترانسلفانيا كان له وقعٌ مدوٍّ على حياتي، ذلك أنني التقيتُ أثينا هناك عندما كانت تحاول تقفّي أثر والدتها. القدر، قدر غامض، جامح، وضعنا وجهاً لوجه في ردهة تافهة لفندق أتفه. كنت شاهدها على محادثتها الأولى مع ديدر، أو «إدّا»، كما تحبّ ان تُسمّى. شاهدتُ، كما لو كنت مشاهداً ينظر إلى حياته، فيما راح قلبي يتخبّط بل سدى لئلا يسمح لنفسه بأن يقع تحت إغواء امرأة لم تنتمِ إلى عالمي. أطريتُ على نفسي عندما خرج العقل من المعركة خاسراً، وكل ما أمكنني فعله هو أن أستسلم وأتقبّل أنني في حب. أفضى بي هذا الحب إلى رؤية أمور لم أتصور يوماً أنها موجودة: طقوس، تجسّدات، انخطافات. واعتقاداً مني أن الحب أعماني، شككت في كل شيء، لكنّ الشك، أبعد من أن يُشلّني، دفعني في وجهة المحيطات التي لم أستطع الإقرار بوجودها المحض. كانت تلك الطاقة ذاتها التي، في الأوقات العسيرة، ساعدتني على مواجهة خُبث زملائي في الصحافة وعلى الكتابة عن أثينا وعملها. وبما أن الحب يبقى حياً، تبقى الطاقة، على الرغم من موت أثينا، على الرغم من أنّ كل مرادي الآن هو نسيان ما رأيت وتعلّمت. أمكنني أن أجوب ذاك العالم وأثينا إلى جانبي فقط. هذه كانت حدائقها، أنهارها، جبالها. الآن، مع رحيلها، أحتاج إلى أن يعود كل شيء إلى ما كان عليه. سوف أركّز أكثر على مشكلات الزحمة، وسياسة بريطانيا الخارجية، وكيفية إدارتنا للضرائب. أريد استرجاع التفكير في أن عالم السحر هو مجرد حيلة ذكية، أن الناس متطيّرون، أن كل ما يعجز العلم عن تفسيره لا يحقّ له بالوجود. عندما أخذتْ اللقاءات في بورتوبيللو تخرج عن السيطرة، تجادلنا باستمرار حول تصرّفها، مع أنني مسرور الآن أنها لم تُصغِ إليّ. وإن كان من عزاء محتمل في مأساة فَقْد أحدٍ نحبّه كل الحبّ، فهو الأمل الضروري في أن ما جرى كان على الأرجح لصالحنا. أصحو وأنام على هذا اليقين؛ كان من الأفضل أن أثينا رحلت عندما قرّرتْ ذلك، بدلاً من السقوط في جحيمات هذا العالم. ما كانت لتستعيد راحة البال بعد الأحداث التي ألبستها لقب «ساحرة بورتوبيللو». ولكانت بقية حياتها صداماً مريراً بين أحلامها هي، والواقع الجَماعي. ولكانت، بحسب معرفتي لها، خاضت المعركة حتى النهاية، وهدرت طاقتها وفرحها لمحاولة إثبات شيء لم يكن أحد، لا أحد على الإطلاق، مستعداً لتصديقه. الله أعلم، لعلها طلبت الموت كمثل ضحية نجت من حطام سفينة وتسعى إلى برّ أمان. لا بُدّ أنها وقفت ليلاً عند محطّات قطار أنفاق كثيرة في انتظار لصوص لم يأتوا. لا بُدّ أنها مشت في أحياء باريس الأخطر، بحثاً عن قاتل لم يظهر أمامها، أو لعلّها حاولت استفزاز غضب مَنْ هم أقوى منها جسدياً، فرفضوا أن يغضبوا، من مكتئبين ومكابرين وعاجزين وأصحاب نفوذ. إلى حين في النهاية، تدبّرت أمر قتلها بوحشية. لكن، حينها، كم واحداً منّا يكون قد وفّر على نفسه الألم في رؤية أهمّ الأمور في حياتنا تختفي بين لحظة وأخرى؟ ولا أعني الناس فقط، بل أفكارنا وأحلامنا أيضاً: قد نبقى أحياءً ليوم، لأسبوع، لبضع سنوات، لكن كلّنا محكوم بالفَقْد. يظل الجسد حياً، لكن، عاجلاً أم آجلاً، ستتلقّى الروح ضربة الموت. إنها الجريمة الكاملة، لأننا نجهل من قتل فرحنا، ما كانت دوافعهم أو أين يمكن إيجاد القتلة. هل هم مدركون ما فعلوا، أولئك المذنبون المجهولون؟ أشكُّ في ذلك، لأنهم، المكتئبون، المكابرون، العاجزون وأصحاب النفوذ، هم أيضاً ضحايا الواقع الذي أوجدوه. هم لا يفهمون عالم أثينا وسوف يعجزون عن فهمه. نعم، هذا السبيل الأفضل للتفكير في الأمر، إنه عالم أثينا. أخيراً، بدأت أتقبّل أنني كنت ساكناً مؤقّتاً، كحسنة، كشخص يجد نفسه في منزل جميل، يتناول طعاماً فاخراً، مُدركاً أنها مجرّد حفلة، أن المنزل يملكه آخر، أن الطعام ابتاعه آخر، أن الوقت سيحين عندما ستنطفى الأضواء، ويخلد المالكون إلى النوم، ويعود الخدم إلى مخادعهم، ويُوصد الباب، فيجد نفسه في الشارع من جديد، ينتظر سيارة أجرة أو باص ليعيده إلى وضاعة حياته اليومية. أنا أعود، أو بالأحرى، جزءٌ مني يعود إلى ذلك العالم حيث ما يمكن أن نراه ونلمسه ونفسّره فقط يعتبر منطقياً. أريد أن أعود إلى ذاك العالم حيث مخالفات تجاوز السرعة، الناس يجادلون أُمناء الصندوق في المصرف، التذمّر الدائم من الطقس، إلى أفلام الرعب وسباق سيارات السرعة. هذا هو الكون الذي عليّ التعايش معه لباقي أيام حياتي. سأتزوّج، أُرزق بأولاد، وسيصبح الماضي ذكرى بعيدة، تجعلني في نهاية المطاف أتساءل: كيف أمكنني أن أكون بهذا العمى؟ كيف أمكنني أن أكون بهذه السذاجة؟ أعلم أيضاً، عند الليل، أنّ جزءاً مني سيظل يهيم في الفضاء، في اتصال مع الأشياء الواقعية بواقعية علبة التبغ وكأس المشروب الماثلَين أمامي الآن. ستُراقص روحي روح أثينا؛ سأكون معها في نومي؛ سأنهض أتصبّب عرقاً وأدخل المطبخ لأجلب كأس ماء. سأفهم أنّ على المرء، بغية صَدّ الأشباح، استخدام أسلحة لا تشكل جزءاً من الحقيقة. ثم، عملاً بنصيحة جدّتي، سأضع مقصاً مفتوحاً على الطاولة المجانبة للسرير لأقص شريط الحلم. في اليوم التالي، سأرمق المقصّ بنظرة ندم، لكن عليّ التكيّف مع العيش في العالم مجدَّداً أو المخاطرة في الجنون.

Mandela
10/12/2007, 00:49
الفصل الثاني

أندريا ماك كاين، 32 سنة، ممثّلة مسرحية «لا يمكن لأحد التلاعب بغيره. في أي علاقة، يكون الطرفان على علم بما يقومان به، حتى وإن تذمّر أحدهما لاحقاً لأنه استُغلّ». هذا ما دَرَجَتْ أثينا على قوله، لكنها تصرّفت بشكل مُغاير، لأنها استغلّتني وتلاعبت بي من دون أن تقيم وزناً لمشاعري. وبما أننا في صدد الكلام عن السحر، فإن ذلك يجعل من الاتّهام أكثر خطورة؛ في النهاية، كانت أثينا معلّمتي، مسؤولة عن تمرير الألغاز المقدّسة، بإيقاظ القوة المجهولة التي نمتلكها جميعاً. عندما نركب عباب هذا البحر المجهول، نثق ثقة عمياء بمن يرشدنا، معتقدين أنّ مدى معرفتهم يفوق معرفتنا. أضمن أن الأمر ليس كذلك. أقصد أثينا وإدّا، وكل الأشخاص الذين تعرّفتهم من خلالهما. أخبرتني أنها كانت تتعلّم وهي تعلِّم، ومع أنني رفضت تصديق ذلك أولاً، فقد تمكّنت لاحقاً من التفكير في أن ذلك كان على الأرجح صحيحاً. أدركتُ أن ذلك كان إحدى طُرقها الكثيرة لجعلنا نُلقي بدروعنا ونستسلم لسحرها. إن الغائصين في بحث روحاني لا يفكّرون، إنهم ببساطة يريدون النتائج. يريدون الشعور بأنهم أقوياء وبفوقية على الجماعات المجهولة الإسم. هم يريدون التميُّز. تلاعبت أثينا بمشاعر الآخرين بطريقة مروّعة جداً. أعي أنها كانت يوماً شديدة الإعجاب بالقديسة «تريزا الطفل يسوع». لست مهتمّة المذهب الكاثوليكي. وقد سمعت أن تريزا، خَبِرت نوعاً من الاتحاد الصوفي والجسدي مع الله. ذكرت أثينا ذات مرة أنها ترغب في أن تعيش هذه الحالة. كان حرّيٌ بها إذاً أن تدخل ديراً وتكرّس حياتها للصلاة أو لخدمة الفقراء. ولو حدث ذلك، لحظي العالم بنفع أكبر وبخطورة أقلّ بكثير من استغلال الموسيقى والطقوس لاستمالة الناس إلى نوع من إيقاعهم في حالة من الانتشاء وضعتهم على احتكاك مع الأفضل والأسوأ في ذواتهم. قصدتها عندما كنت أبحث عن معنى لحياتي، مع أنني لم أقل الكثير في لقائنا الأول. كان عليّ أن أدرك منذ البداية أنّ أثينا لم تكن مهتمّة كثيراً بذلك؛ أرادت أن تحيا، أن ترقص، أن تمارس الحب، أن تسافر، أن تجمع الناس من حولها لتُظهر لهم كم حكيمة هي، للتباهي بما وُهبت لاستفزاز الجيران، لاستغلال كل دَنَسٍ فينا إلى أقصى الحدود. مع أنها حاولت مراراً إضفاء بعض البريق الروحاني على ذلك المسعى. كلما التقينا، لتأدية مراسم سحر أو لتناول كأس معاً، كنت مدركة لقوّتها. كانت شديدة لدرجة أنني كدت ألمسها. في البدء، افتُتنتُ وأردت أن أكون مثلها. لكن، ذات يوم، كنا في حانة، وأخذت تتكلّم عن «المذهب الثالث» المتعلّق بالجنس. فعلت بذلك أمام حبيبي. تذرّعت بأنها كانت تعلّمني أمراً. كان هدفها الحقيقي، في رأيي، إغواء الرجل الذي أهوى. وبالطبع، نجحتْ. ليس مستحسناً الكلام بالسوء عمَّن فارقوا الحياة إلى عالم الأطياف. مع ذلك، لا يتوجّب على أثينا أن تَلصق ذلك بي. لكن بجميع تلك القوى التي وجّهتها إلى ناحية منفعتها الخاصة، بدل أن تكرِّسها لخير الإنسانية ولتنوُّرها الروحاني الذاتي. وفوق كل ذلك، أنها لو لم تقم بذلك بدافع لفت الأنظار، لكان كل ما بدأناه معاً قد نجح تماماً. ولو أنها تصرّفت بتكتّم أكبر، لكنا الآن ننجز المهمة التي أُنيطت بنا. لكنها عجزت عن كبح جماحها؛ ظنّت أنها ربّة الحقيقة، قادرة على تخطّي كل الحواجز بمجرد استخدام قوى إغوائها. والنتيجة؟ تُركتُ وحيدة. ولا يسعني ترك العمل غير مُنجزٍ. عليّ الاستمرار حتى النهاية، مع أنني أشعر أحياناً بأنني شديدة الضعف ومثبطة الهِمّة. لم أفاجأ بالطريقة التي انتهت فيها حياتها: كانت تتودّد إلى الخطر دوماً. يُقال إن المنفتحين أتعس من الانطوائيين، وعليهم التعويض عن ذلك بالإثبات لأنفسهم على الدوام كم هم سعداء، في رضا، ومتصالحون مع الحياة. في حالتها، على الأقلّ، يصحّ ذلك بحقّ. كانت أثينا مدركة لقوّة حضورها، وجعلت كلّ من أحبّها يُعاني. أنا ضمناً.

Mandela
10/12/2007, 01:16
الفصل الثالث (////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////)
ديدر أونيل، 37 سنة، طبيبة، تُعرف بــــ’«إدّا».
إذا اتصل بنا رجل غريب اليوم وتكلّم قليلاً، لا يُقدّم اقتراحات، لا يقول شيئاً مميّزاً، مع ذلك يولينا ذاك الاهتمام الذي نادراً ما نتلقّاه، نكون قادرات إلى حدّ على مطارحته الفراش في الليلة ذاتها، شاعرات نسبياً أننا مغرمات. هذه حالنا نحن النساء، ولا ضير في ذلك، فمن طبيعة الأنثى أن تُشرّع نفسها للحب بسهولة.
كان هو الحب عينه الذي شرّعت نفسي له في لقائي الأول مع «الأم» عندما كنت في التاسعة عشرة من العمر. كانت أثينا في مثل هذه السنّ يوم دخلتْ للمرة الأولى في حالة انخطاف وهي ترقص. لكن، كان ذلك الشيء المشترك الوحيد بيننا، أي عمر ابتدائنا.
وكنا في باقي الوجوه مختلفتين تماماً وعميقاً، خصوصاً في تعاطينا مع الآخرين. وبصفة معلّمة لها، لطالما بذلت ما في وسعي لمساعدتها في بحثها الداخلي. أما كصديقة، مع أنني لست على ثقة بأنّ مشاعر الصداقة كانت متبادلة، فإنني حاولت إنذارها من أنّ العالم غير مُهيّأ لنوع التحوّلات التي أرادت إحداثها. أذكر أنني قضيتُ بعض الليالي قبل أن أسمح لها بأن تتصرّف بحرية، وتنصاع لأوامر قلبها.
كانت مشكلتها العظمى أنها امرأة من القرن الثاني والعشرين تحيا في القرن الحادي والعشرين، من دون أن تتستَّر على هذا الواقع. هل دفعت ثمناً؟ بالتأكيد دفعت. لكنها كانت لتدفع ثمناً أغلى لو أنها قمعت نفسها الأَثيرة الحقيقية، كانت لتشعر بالمرارة والإحباط، بالقلق على الدوام «لما قد يظن الآخرون»، والقول «سوف أحلّ هذا وذاك أولاً، ثم سأكرّس نفسي لحلمي»، والتذمّر أن «الظروف لا تكون ملائمة أبداً».
الكلّ يبحث عن المعلّم الأفضل، ومع أنّ تعاليم المعلّمين قد تكون إلهية المضمون فإنهم جميعاً بشر. وهذا أمر يصعب على الناس تقبّله. لا تخلط بين المعلّم والدرس، بين الطقس الديني والانتشاء، بين ناقل الرمز والرمز بذاته. إن «التقليد» يرتبط مع تلاقينا بقوى الحياة وليس الناس الذين يُحدثوها. لكننا ضعفاء: نسأل «الأم» أن ترسل إلينا مرشدين، بيد أن كل ما تبعث به هو الإشارات إلى الدرب التي علينا أن نسيرها.
مثيرون للشفقة أولئك الذين يبحثون عن الرعاة، بدل التوق إلى الحرية! إن التلاقي مع الطاقة العُليا مفتوح لأي يكن، لكنه يظل بعيداً عن أولئك الذين يلقون المسؤولية على عاتق الغير. إن وقتنا على هذه الأرض مقدّس، وعلينا الاحتفاء بكل لحظة.
لقد نُسيت أهمية ذلك بالكامل: حتى العُطل الدينية حوّلت إلى فرص للذهاب إلى الشاطىء أو المتنزّه أو التزلّج على الثلج. انتفت الطقوس. لم يعد بالإمكان تحويل الأفعال العادية إلى تجلّيات المقدّس. نطهو الطعام، وبدل أن نفرغ حبّنا في إعداده، نتذمّر من أنه مضيعة للوقت. نعمل ونحمل أنفسنا على التصديق أنه لعنة إلهية، في حين أن علينا استخدام مهاراتنا لخلق المتعة ونشر طاقة «الأم».
جعلت أثينا العالم المكتنز الذي نحمله جميعاً في نفوسنا يطفو على السطح، من دون أن ندرك أنّ الناس ليسوا مهيّئين بعدُ لتقبّل قدراتهم.
نحن النساء، عندما نكون في بحث عن معنى لحياتنا أو عن درب المعرفة، نتماهى دوماً بنماذج أنثوية أربعة:
العذراء، )ولست هنا في صدد الكلام عن فتاة عذراء من الناحية الجنسية( ينبع بحثها من استقلاليتها التامّة، وكلّ ما تتعلّمه هو ثمرة قدرتها على مواجهة التحدّيات وحدها.
الشهيدة، تجد طريقها إلى المعرفة الذاتية من خلال الألم والخنوع والعذاب.
القدّيسة، تجد السبب الحقيقي لحياتها في الحب غير المشروط، وفي قدرتها على العطاء من دون طلب شيء في المقابل.
أخيراً، الساحرة، تبرّر وجودها في البحث عن اللذّة التامة اللامحدودة.
بطبيعة الحال، على المرأة أن تختار أحد هذه النماذج الأنثوية، لكنّ أثينا كانت النماذج كلها دفعة واحدة.
بديهياً، يمكننا تبرير سلوكها، زاعمين أنّ كل من يدخلون حالة من الانخطاف أو الانتشاء يفقدون الاتصال مع الواقع هذا خطأ: العالم المادي والعالم الروحاني هما وجهان لعملة واحدة. يمكننا أن نرى الألوهية في كلّ ذرّة غُبار. لكن ذلك لا يمنعنا من مسحها باسفنجة مبلّلة. الألوهية لا تختفي، بل تتحوّل إلى السطح النظيف.
كان على أثينا أن تكون أكثر حذراً. عندما أتأمّل في حياة تلميذتي وموتها، يبدو لي أنه كان حرياً بي أن أغيّر سلوكي أنا أيضاً.

Mandela
10/12/2007, 01:21
الفصل الرابع
ليلى زينب، 64 سنة، عالمة في التنجيم أثينا؟ يا له من اسم مشوّق! لنرَ… رقمها الأقصى هو 9. متفائلة، أنيسة، الأرجح أن تتميّز بين حشد. قد يقصدها الناس سعياً إلى التفهّم والعاطفة والسخاء. ولهذا السبب تحديداً عليها أن تكون حذرة، لأنّ هذا الميل إلى الشعبية قد يصيبها بالغرور، وسيفضي بها الأمر إلى الخسارة أكثر من الكَسْب. عليها أيضاً أن تصون لسانها، لأنها ميّالة إلى الكلام أكثر مما يقتضيه المنطق. أما رقمها الأدنى، فهو 11. أُحسّ أنها تتطلّع إلى مركز زعامة. لها اهتمام بالموضوعات الصوفية. ومن خلالها تحاول أن توجد الانسجام لمَن حولها. لكن هذا يتضارب مباشرة مع الرقم تسعة، الذي يشكّل مجموع أرقام ميلادها من يوم وشهر وسنة، وهي أرقام مختزلة في رقم وحيد: ستكون على الدوام عرضة للحسد والحزن والانطواء والقرارات المتهوّرة. عليها الحذر لئلا تدع نفسها تتأثّر بذبذبات سلبية: الطموح المفرط، التعصّب، إساءة استخدام السلطة، الإسراف. بسبب هذا التضارب، أقترح أن تختار مهنة لا تنطوي على الاتصال العاطفي مع الناس، مثل هندسة الحاسوب أو الهندسة المدنية. توفّيت؟ أنا آسفة. إذاً، ما الذي كانت تفعله؟ ما الذي كانت أثينا تفعله؟ فعلت القليل من كل شيء، لكن، إن كنت لأُلخّص حياتها، لقلتُ: كانت كاهنة، فهمتْ قوى الطبيعة. أو، بالأحرى، كانت امرأة، بالنظر إلى الواقع البسيط في امتلاك القليل لخسارته أو تأمّله في الحياة، جازفت أكثر من سواها، وآل بها المطاف إلى التحوّل إلى القوى التي ظنّت أنها كانت متمكّنة منها. كانت أمينة صندوق في أحد المتاجر الكبرى، موظّفة مصرف، سمسارة عقارات، وفي كلٍّ من هذه المراكز، كانت تكشف دوماً عن الكاهنة في داخلها. عشتُ معها ثماني سنوات وأدين لها بـ: إحياء ذِكْراها وهويّتها. أصعب ما في جمع هذه الإفادات كان إقناع الأشخاص بأن يُجيزوا لي استخدام أسمائهم الحقيقية. قال البعض إنهم لا يريدون التورّط في مثل هذا النوع من القصص. حاول البعض الآخر تورية آرائه ومشاعره. أوضحت أنّ نيّتي الحقيقية هي مساعدة جميع من يُعنى بفهمها على وجه أفضل، وأنّ ما من قارىء يصدّق إفادات لا تحمل اسماً. وافقوا في النهاية، ظناً منهم أنهم عرفوا الوجه الفريد والقاطع لأي حدث، مهما يكن بلا دلالة. خلال التسجيلات، رأيت أن الأشياء لا تكون مطلقة أبداً، هي وقف على مدارك كل فرد. والطريقة الفضلى لمعرفة من نحن، تكون في الغالب باكتشاف نظرة الآخرين إلينا. لا يعني هذا أن نفعل ما يتوقّع الغير منّا فعله، لكنه يساعدنا على فهم أنفسنا أفضل. أنا مَدين لأثينا في إحياء قصّتها، في كتابة خرافتها. سميرة ر. خليل، 57 سنة، ربّة منزل، والدة أثينا أرجوك، لا تدعُها أثينا. اسمها الحقيقي شيرين، شيرين خليل، ابنتنا الغالية، التي أردناها يائسين، التي تمنّيتُ ووالدها لو كنّا مَن رُزقا بها. لكن، كان للحياة مخطّطات أخرى. عندما تكون قِسمتنا شديدة السخاء، يكون هناك على الدوام بئر تهوي فيها كلّ أحلامنا. عشنا في بيروت، يوم توافق الجميع على اعتبارها أجمل مدن الشرق الأوسط. كان زوجي صناعياً ناجحاً، وقد تزوّجنا عن حب. دَرَجنا على السفر إلى أوروبا كل سنة. كان لنا أصدقاء عدة، وكنا نُدعى إلى كل المناسبات الاجتماعية المرموقة. وذات مرة، زار منزلي رئيس الولايات المتحدة بلحمه ودمه، أتتصوّر! ثلاثة أيام لا تُنسى. قضى عملاء الاستخبارات الأميركية السرّية قرابة اليومين يمشّطون المنزل زاوية زاوية (كانوا قد أمّوا المنطقة منذ أكثر من شهرين، متّخذين مواقع استراتيجية، يستأجرون شققاً، يتنكّرون بزيّ متسوّلين أو عشّاق يافعين). واحتفلنا، ليوم، أو بالأحرى لساعتين. لن أنسى يوماً نظرة الحسد التي اتّشحت بها عيون أصدقائنا، ولن أنسى الشعور بالحماسة ونحن نتصوّر إلى جانب الرجل الأكثر نفوذاً على وجه الأرض. امتلكنا كل شيء، ما عدا أهم ما أردنا امتلاكه وهو الابن. وبالتالي، لم نمتلك شيئاً. حاولنا كل شيء: قطعنا العهود والوعود، قصدنا أماكن كانت المعجزات فيها أكيدة. استشرنا أطباء، مشعوذين، تناولنا أدوية وشربنا أنواعاً من الإكسير والجرعات السحرية. خضعتُ للإخصاب الاصطناعي مرّتين، وفقدت الطفل في المرّتين. وفي المرة الثانية، فقدت المبيض الأيسر؛ على أثر ذلك، لم يكن أي طبيب على استعداد لمثل هذه المخاطرة مجدداً. إذّاك، اقترح أحد أصدقائنا العديدين الذين كانوا على علم بحالنا العصيبة الحلّ المحتمل الوحيد: التبنّي. قال إنّ لديه معارف في رومانيا، وإنّ العملية لن تستغرق الكثير من الوقت. بعد شهر، ركبنا طائرة. كان لصديقنا علاقات عمل مهمة مع الديكتاتور الذي حكم البلاد حينذاك، والذي نسيتُ اسمه (ملاحظة الناشر: نيكولاي تشاوتشيسكو). وهكذا تفادينا الروتين الحكومي البيروقراطي، وتوجّهنا تواً إلى مركزٍ للتبني في سيبيو، في ترانسلفانيا. كنّا هناك، محطّ ترحيب، قدِّمت إلينا القهوة، الدخان، المياه المعدنية، وإذا بالأوراق تُوقّع وتُختم. كلّ ما كان علينا فعله هو اختيار ولد. تمّ اصطحابنا إلى حضانة شديدة البرودة. ولم أستطع أن أتصوّر كيف أمكنهم ترك أولئك الأولاد المساكين في مكان مماثل. كان تبنّيهم جميعاً أول ما راودني غريزيّاً. أن أحملهم معي إلى لبنان، حيث الشمس والحرية. لكن من الواضح أنها كانت فكرة مجنونة. جلنا مرّات عدة بين الأسِرّة، نصغي إلى بكاء الأولاد، وكنا مذعورين لعظمة القرار الذي كنّا على وشك اتّخاذه. لأكثر من ساعة، لم أنطق بكلمة. وزوجي كذلك. خرجنا، تناولنا القهوة، دخّنا السجائر، ثم دخلنا مجدداً، حدث ذلك غير مرّة. لاحظتُ أن صبر المرأة المسؤولة عن التبنّي كاد ينفد. أرادت قراراً فورياً. في تلك اللحظة، استسلمتُ لحسّ فطري أجرؤ على تسميته أمومة، كما لو أنني وجدت ولداً كان يجب أن يكون ولدي في تجسّده، لكنه أتى إلى هذا العالم من رحم امرأة أخرى. وإذا بي أشير إلى طفلة محدّدة. نصحتنا السيدة أن نفكّر مجدَّداً. هي التي كانت تنتظر بفارغ الصبر أن نتّخذ قراراً! لكنني كنت أكيدة. مع ذلك، وفي محاولةٍ منها تجنّب جرح مشاعري )كانت تعتقد أن لنا روابط مع الطبقات العليا في الحكومة الرومانية(، همستْ في أذني، بحيث لا يسمعها زوجي، قائلةً: «أعلمُ أن الأمر لن ينجح. فهذه الطفلة من نسل غجري». أجبتها أن الثقافة لا تنتقل عبر الجينات. وأن ابنة الأشهر الثلاثة هذه سوف تكون ابنتنا، وسوف تتلقى تربيتنا، بالاستناد إلى عاداتنا. ترتاد كنيستنا، تزور شطآننا، تقرأ كتباً بالفرنسية، تدرس في المدرسة الأميركية في بيروت. كنت أجهل كل أمر عن ثقافة الغجر، ولا أزال. كلّ ما أعرفه أنهم يكثرون السفر، قليلاً ما يغتسلون، ليسوا أهلاً للثقة، يضعون أقراطاً. تقول الأسطورة أنهم يختطفون الأولاد ويصحبونهم في قوافلهم. لكن هنا كان ما يحصل هو العكس تماماً. فقد خلّفوا وراءهم طفلة لأعتني بها. حاولتْ السيدة إقناعي بالعدول عن الأمر. لكنني كنت في صدد التوقيع على الأوراق، والطلب إلى زوجي القيام بالمِثل. في رحلة العودة إلى بيروت، بدا العالم مختلفاً: لقد وهبني الله سبباً للعيش والعمل والكفاح في مستنقع الدموع هذا. غدا عندنا طفل يبرّر كل جهودنا. كبرت شيرين حكمة وجمالاً؛ صحيح أن الأهل كافة يفاخرون بأولادهم، لكنني أعتقد أنّ شيرين كانت طفلة استثنائية بالفعل. بعد ظهر أحد الأيام، وإذ كانت شيرين في الخامسة، قال أحد أشقّائي إنها، إذا أرادت أن تعمل في الخارج مستقبلاً، فإنّ اسمَها سيفضح أصلها على الدوام. واقترح أن يُستبدل به اسمٌ لا يوحي بشيء، مثل أثينا. الآن، بالطبع، أعلم أن «أثينا» يمثّل عاصمة اليونان، وهو أيضاً اسم إلهة الحكمة والذكاء والحرب عند الإغريق. لعلّ أخي عرف ذلك، تماماً كإدراكه لما قد يسبِّبه اسم عربي من مشكلات في المستقبل، ذلك أنه كان غارقاً في شؤون السياسة، كسائر أفراد العائلة، وأراد أن يحمي ابنة أخته من السُحُب السوداء التي استطاع هو وحده أن يراها في الأفق. وأكثر ما يثير العجب أنّ شيرين أحبّت وقع هذا الاسم. عصر ذاك اليوم أخذت تشير إلى نفسها على أنها أثينا، ولم يكن في مقدور أحدٍ أن يقنعها بغير ذلك. ولإرضائها، اعتمدنا أيضاً ذلك اللقب، معتقدين أنها ستكون نزوة عابرة. أيُعقل أن يؤثّر اسمٌ في حياة إنسان؟ مرّ الوقت، وترسّخ الاسم. في الثانية عشرة من العمر، اكتشفنا أنّ ثمة دعوة دينية تجتذبها. كانت تقضي كلّ وقتها في الكنيسة. وقد حفظت الإنجيل عن ظهر قلب؛ كان ذلك بركة ولعنة في آن. خِفتُ على سلامة ابنتي وسط عالم كان آخذاً في الانشقاقات الدينية. آنذاك بدأت شيرين تخبرنا، كما لو أن الأمر أكثر الأمور طبيعية في العالم، أن لها أصدقاء خفيين، وهم ملائكة وقديسون تعوّدت رؤية صورهم في الكنيسة التي كنّا نرتادها. جميع الأولاد، أينما كان، لهم رؤى. لكن سرعان ما تتساقط من ذاكرتهم بعد تجاوز سنّ معيّنة. كما أنهم يعاملون الأجسام الجامدة، كالدمى والنمور الاسفنجية، كما لو كانت من لحم ودم. غير أنني شعرت فعلاً أنها كانت تبالغ عندما اصطحبتها من المدرسة ذات يوم، وقالت لي إنها قد رأت «امرأة في حلّة بيضاء، تشبه مريم العذراء». أنا أؤمن بالملائكة بطبيعة الحال. حتى أنني أؤمن بأنّ الملائكة يتحدّثون إلى الأطفال. لكن عندما يبدأ الطفل بتلقّي رؤى يراها الراشدون، فهذه مسألة أخرى. سبق لي أن قرأت عن رُعاة وقرويين شتّى زعموا رؤية امرأة في حلّة بيضاء، وكيف دُمِّرت حياتهم على الأثر. ذلك أن الناس أخذوا يقصدونهم متوقّعين منهم المعجزات؛ ثم تولّى الكهنة الأمر وباتت القرية محجًّا. وأنهى الأولاد المساكين حياتهم راهبات أو رهباناً. استحوذت القصة عليّ. كانت شيرين في عمر يقضي بأن تهتم أكثر بالتبرّج وطلاء الأظافر ومشاهدة المسلسلات التلفزيونية العاطفية وبرامج الأطفال. كان ثمة خطب في ابنتي، فاستشرت أخصائياً. «استرخي»، قال لي. أفادني طبيب الأطفال المختصّ في علم نفس الأطفال ذاك، فضلاً عن أطبّاء آخرين في هذا المجال، بأن الأصدقاء غير المرئيين هم إسقاط لأحلام الطفل، ووسيلة آمنة تساعده على اكتشاف رغباته والتعبير عن مشاعره. «نعم، لكن ماذا عن رؤيا امرأة في حلّة بيضاء؟». أجاب مرجّحاً أنّ شيرين لم تفهم كيف ننظر إلى العالم ولا تفسيرنا له. اقترح أنّ نخبرها تدريجاً وبعد التمهيد، أنها متبنّاة. والاحتمال الأسوأ، بحسب تعبير الطبيب، هو أنها قد تسعى إلى اكتشاف ذلك بنفسها. عندئذ، سوف تبدأ بالشك في الكل. وقد يصعب التكهُّن بسلوكها. مُذاك، غيّرنا أسلوب تحدّثنا إليها. لا أدري مدى تذكُّر الأولاد لما يحصل لهم. لكننا حاولنا إظهار مدى حبّنا لها، وقلنا أن لا داعي لها في اللجوء إلى عالم خيالي. كان ينبغي أن تدرك أنّ كَوْنَها المرئي كان جميلاً بقدر ما يمكنه أن يكون جميلاً؛ أنّ والديها سيحميانها من أي خطر؛ أنّ بيروت مدينة جميلة وشطآنها تفيض شمساً وناساً. ومن دون ذكر «المرأة في حلّة بيضاء» ولو مرة، رُحتُ أقضي المزيد من الوقت مع ابنتي؛ دعوتُ زميلاتها في المدرسة إلى منزلنا؛ استغنمتُ كلّ فرصة لأغدق عليها العطف. نجحتْ خطتي. كان زوجي كثير السفر، وكانت شيرين تشتاق إليه دوماً. وباسم الحب، قرّر أن يغيّر نمط حياته قليلاً؛ فحلّت التسلية المشتركة بين أب وأم وابنتهما محلّ أحاديثها الفردية. كان كل شيء يسير على ما يرام. لكن، ذات ليلة، دخلت غرفتنا والدمع ينهمر على وجنتيها، قائلة إنها ترتعد خوفاً وإنّ الجحيم على مرمى حجر. كنت وحدي في المنزل. كان زوجي مسافراً. ورجّحت أن يكون سفره السبب في بأسها. لكن أن تذكر أن تذكر الجحيم! ما الذي كانت تتلقّنه من تعاليم في المدرسة أو الكنيسة؟ قرّرت أن أذهب لمخاطبة معلّمتها في اليوم التالي. في تلك الأثناء، لم تكفّ شيرين عن البكاء. توجّهتُ بها إلى النافذة، وأريتها البحر المتوسط في الخارج، يُضيئه سناء البدر. أخبرتها أنْ لا وجود للشياطين، لا وجود سوى للنجوم، وللناس الذين يتمشّون على الأرصفة خارج شقّتنا. أخبرتها ألّا تقلق، أن لا داعي لخوفها. لكنها ظلّت تنتحب وترتجف. بعد نصف ساعة من محاولات تهدئتها، أخذ القلق يسري في عروقي. توسّلت إليها أن تكفّ عن ذلك، ففي النهاية، هي لم تعد طفلة. خلتُ أنها ربما بدأت تحيض للمرة الأولى، وسألتها بخجل إن كان ثمة دم. «نعم، الكثير». أحضرتُ بعض القطن، وطلبتُ إليها أن تستلقي لكي أعتني بـ«الجرح». لم يكن الأمر مهماً. كنت سأوضح لها ذلك في اليوم التالي. لكنّ دورتها الشهرية لم تكن قد بدأت. بكتْ أكثر، لا بُدّ أنها كانت تعبة لأنها غفت لاحقاً. في اليوم التالي، أُريق الدم. اغتيل أربعة رجال. كان ذلك في نظري معركة أخرى من المعارك القَبَلية المحتومة التي تعوّدها شعبي. أما شيرين، فلم يحمل لها ذلك أي معنى، حتى أنها لم تذكر الكابوس الذي راودها. ومنذ ذلك التاريخ فصاعداً، دنا الجحيم أكثر فأكثر، ولم يعد يغادر. في ذلك اليوم بالذات، قُتل 26 فلسطينياً في قافلة، ثأراً لعمليات القتل. بعد أربع وعشرين ساعة، كان من المستحيل النزول إلى الشارع بسبب الطلقات التي كانت تأتي من كل صوب. أقفلتْ المدارس، هرع أحد أساتذة شيرين بها إلى المنزل. وتفاقم الوضع. قطع زوجي رحلة العمل وعاد إلى بيروت، حيث قضى أياماً بطولها يهاتف أصدقاء له في الحكومة. لكن لم يقل أيّ أمر منطقي. كانت شيرين تسمع دوي الرصاص في الخارج وصراخ زوجي الغاضب في الداخل. لكن، لعجبي، لم تتفوّه بكلمة. حاولتُ إخبارها بأن الأمر لن يدوم، أننا سنتمكّن قريباً من نزول الشاطىء مجدداً. لكنها كانت تشيح بنظرها عنّي ببساطة، أو تطلب كتاباً تقرؤه أو تسجيلاً موسيقيّاً تسمعه. وفيما أخذ الجحيم يشتد، كانت شيرين تقرأ وتصغي إلى الموسيقى. لكن اسمح لي، فليس بودّي إطالة الحديث في ذلك. لا أريد التفكير في التهديدات التي تلقّيناها، بمن كان على صواب، من كان على خطأ، ومن كان بريئاً. بعد أشهر قليلة، كان عليك لو أردت أن تعبر الشارع، أن تركب قارباً إلى جزيرة قبرص المقابلة، ثم تمتطي قارباً آخر وتهبط في الجهة المقابلة من الشارع. بقينا سنةً تقريباً محتجزين في بيوتنا. نأمل دوماً أن يتحسّن الوضع، نفكّر دائماً أن ما يجري أمر مؤقّت، وأن الحكومة ستمسك بزمام الأمور. ذات صباح، فيما كانت شيرين تصغي إلى تسجيل موسيقي على جهاز الأسطوانات المحمول الخاص بها، راحت ترقص وتقول أشياء من مثل: «سوف يدوم ذلك لوقت طويل طويل». حاولتُ منعها من ذلك، غير أنّ زوجي أمسك بذراعي. أدركتُ أنه كان يصغي إلى أقوالها ويأخذها على محمل الجدّ. لم أفهم لماذا، ولم نأتِ على هذا الموضوع مُذاك. غدا نوعاً من المحرّمات بيننا. في اليوم التالي، شرع يتّخذ خطوات لم تكن في الحسبان. وإذا بنا، بعد أسبوعين على متن قارب وجهته لندن. لاحقاً، علمنا أن حوالي 44000 شخص وقعوا ضحايا الحرب الأهلية في تينك السنتين (1974 و1975)، وجُرح 180000، وتشرّد الآلاف؛ مع أن هذه الإحصاءات لا يُعوّل عليها كثيراً. استمر القتال لأسباب أخرى، احتلّت جيوش أجنبية البلاد، ولا تزال أبواب الجحيم مفتوحة حتى اليوم. «سيدوم ذلك لوقت طويل طويل»، قالت شيرين. للأسف، كانت على حق.