Mandela
10/12/2007, 00:37
ساحرة بورتوبيللو
الفصل الأول
قبل أن تهجر كلّ هذه الإفادات طاولة مكتبي وتسير في خطى القَدَر الذي اخترته لها، خَطَرَ لي أن أستخدمها مادّة أساسية لوضع سيرة تقليدية مدروسة بشمولية، تروي قصة حقيقية. شرعتُ أقرأ سلسلة من السِيَر المختلفة، لعلّها تساعدني في الكتابة، فأدركت أنّ وجهة نظر كاتب السيرة في بطل روايته تؤثّر لا محالة في حصيلة بحثه. وبما أنني لم أكن أنوي فرض وجهات نظري على القارئ، بل طرح قصة «ساحرة بورتوبيللو» من منظار شخصياتها الرئيسية فحسب، فسرعان ما عَدَلتُ عن فكرة كتابة سيرة مباشرة. واستقرّ بي الرأي على المقاربة الفضلى؛ وهي، ببساطة، نقل ما أخبرني به الناس.
هيرون راين، 44 سنة، صحافي لا أحد يُشعل نوراً ليستره: الهدف من النور هو خلق مزيد من النور، لفتح عيون الناس، لكشف الجمالات من حولنا. لا أحد يُضحّي بالحبّ… أغلى ما يملك. لا أحد يضع أحلامه في يديّ مَن قد يبدِّدها. لا أحد، باستثناء أثينا. بعد مرور زمن طويل على موت أثينا، طلبت معلّمتها السابقة إليّ أن أرافقها إلى بلدة برستونبانز في اسكوتلاندا. هناك، باستغلال النفوذ الإقطاعي القديم الذي كان سيبطل الشهر التالي، منحت البلدة مذكرات عفو رسمية ل 81 شخصاً – وهررهم - ممن أُعدموا في القرنَين السادس عشر والسابع عشر لممارستهم السحر. تقول الناطقة الرسمية باسم المحاكم البارونية في برستونغرانج ودولفينستون: «أغلبية الذين أُدينوا… حُكم عليهم على أساس دليل غير حسّي، أي أفاد الشهودَ في الادّعاء أنهم أحسّوا بوجود أرواح شريرة، أو أنهم سمعوا أصوات أرواح». لا جدوى الآن من الكلام عن كلّ الفظائع التي ارتكبتها محكمة التفتيش، من غرف تعذيب ومحارق أوقدتها بفتيل الحقد والانتقام؛ مع ذلك، فإن «إدّا»، ونحن في طريقنا إلى برستونبانز، قالت مراراً إن أمراً ما يشوب تلك المبادرة التي وجدتها غير مقبولة: البلدة والبارون الرابع عشر من برستونغرانج ودولفينستون، كانا «يمنحان مذكرات عفو» لأشخاص كانوا قد أُعدموا بوحشية. «نحن الآن في القرن الحادي والعشرين، ومع ذلك، فإن المتحدّرين من نسل المجرمين الفعليين، أولئك الذين قتلوا الضحايا الأبرياء، لا يزالون يشعرون أنهم يملكون الحق في منح إعفاءات. أتفهم قصدي يا هيرون؟ فهمتُ قصدها. حملة مطاردة ساحرات جديدة تستحكم. هذه المرة، ليس السلاح حد النصال الحامية، بل حدّة السخرية والقمع. كلّ من يكتشف أنه يحظى بهِبة ويتجرّأ على البوح بقدراته، يُنظر إليه في العادة بعين الريبة. بشكل عام، وبدل أن يشعر الزوج أو الزوجة أو الوالد أو الولد أو أيًّا يكُن، بالزهو والفخار، يعمدوا إلى منع الموهوب من ذِكر المسألة، خوفاً من تعريض العائلة للسخرية. قبل تعرُّفي إلى أثينا، خِلتُ أنّ هِبات مماثلة هي طريقة مضلّلة لاستغلال أسى الناس. كان سفري إلى ترانسلفانيا لإعداد وثائقيّ عن مصّاصي الدماء، طريقة أخرى أيضاً لإثبات كم من السهل خداع الناس. بعض التطيُّرات، مهما بدت منافية للعقل، تقبع في خيال المرء وغالباً ما يستغلّها أشخاص عديمو الضمير. عندما زرت قصر دراكولا، الذي أُعيد بناؤه لمجرد إشعار السُيّاح بأنهم في مكان مميّز، اقترب مني مسؤول حكومي، وألمح إلى أنني سأتلقّى هدية «هامّة» (كما قال) عندما سيعرض الفيلم على قناة BBC . حَسِبَ ذاك المسؤول أنني كنت أساعد في ترويج الخرافة، وبالتالي، أستحق مكافأة سخية. قال أحد المرشدين السياحين إنّ عدد الزوّار يزداد كل سنة، وإن أي تنويه بالمكان سيكون إيجابياً، حتى وإن ذكر برنامج أن القصر مزيفاً، وأن فلاد دراكولا هو شخصية تاريخية لا صلة لها بالخرافة، وإنها مجرد تصوّر نسجته مخيّلة إيرلندي خصبة (ملاحظة الناشر: برام ستوكر)، الذي لم يطأ المنطقة يوماً. عرفت حينها أنني، مهما اتّسمت وقائعي بالدّقة، متواطئ في الكذبة عن غير عمد؛ حتى وإن كانت الفكرة في نصّي هي تجريد المكان من طابعه الخرافي فسوف يصدِّق الناس ما يريدون تصديقه؛ كان المرشد على حقّ، سأكون ببساطة أساعد في المزيد من الترويج. عَدَلتُ عن المشروع من فوري، مع أنني كنت قد أنفقت الكثير من المال على الرحلة والأبحاث. غير أنّ سفري إلى ترانسلفانيا كان له وقعٌ مدوٍّ على حياتي، ذلك أنني التقيتُ أثينا هناك عندما كانت تحاول تقفّي أثر والدتها. القدر، قدر غامض، جامح، وضعنا وجهاً لوجه في ردهة تافهة لفندق أتفه. كنت شاهدها على محادثتها الأولى مع ديدر، أو «إدّا»، كما تحبّ ان تُسمّى. شاهدتُ، كما لو كنت مشاهداً ينظر إلى حياته، فيما راح قلبي يتخبّط بل سدى لئلا يسمح لنفسه بأن يقع تحت إغواء امرأة لم تنتمِ إلى عالمي. أطريتُ على نفسي عندما خرج العقل من المعركة خاسراً، وكل ما أمكنني فعله هو أن أستسلم وأتقبّل أنني في حب. أفضى بي هذا الحب إلى رؤية أمور لم أتصور يوماً أنها موجودة: طقوس، تجسّدات، انخطافات. واعتقاداً مني أن الحب أعماني، شككت في كل شيء، لكنّ الشك، أبعد من أن يُشلّني، دفعني في وجهة المحيطات التي لم أستطع الإقرار بوجودها المحض. كانت تلك الطاقة ذاتها التي، في الأوقات العسيرة، ساعدتني على مواجهة خُبث زملائي في الصحافة وعلى الكتابة عن أثينا وعملها. وبما أن الحب يبقى حياً، تبقى الطاقة، على الرغم من موت أثينا، على الرغم من أنّ كل مرادي الآن هو نسيان ما رأيت وتعلّمت. أمكنني أن أجوب ذاك العالم وأثينا إلى جانبي فقط. هذه كانت حدائقها، أنهارها، جبالها. الآن، مع رحيلها، أحتاج إلى أن يعود كل شيء إلى ما كان عليه. سوف أركّز أكثر على مشكلات الزحمة، وسياسة بريطانيا الخارجية، وكيفية إدارتنا للضرائب. أريد استرجاع التفكير في أن عالم السحر هو مجرد حيلة ذكية، أن الناس متطيّرون، أن كل ما يعجز العلم عن تفسيره لا يحقّ له بالوجود. عندما أخذتْ اللقاءات في بورتوبيللو تخرج عن السيطرة، تجادلنا باستمرار حول تصرّفها، مع أنني مسرور الآن أنها لم تُصغِ إليّ. وإن كان من عزاء محتمل في مأساة فَقْد أحدٍ نحبّه كل الحبّ، فهو الأمل الضروري في أن ما جرى كان على الأرجح لصالحنا. أصحو وأنام على هذا اليقين؛ كان من الأفضل أن أثينا رحلت عندما قرّرتْ ذلك، بدلاً من السقوط في جحيمات هذا العالم. ما كانت لتستعيد راحة البال بعد الأحداث التي ألبستها لقب «ساحرة بورتوبيللو». ولكانت بقية حياتها صداماً مريراً بين أحلامها هي، والواقع الجَماعي. ولكانت، بحسب معرفتي لها، خاضت المعركة حتى النهاية، وهدرت طاقتها وفرحها لمحاولة إثبات شيء لم يكن أحد، لا أحد على الإطلاق، مستعداً لتصديقه. الله أعلم، لعلها طلبت الموت كمثل ضحية نجت من حطام سفينة وتسعى إلى برّ أمان. لا بُدّ أنها وقفت ليلاً عند محطّات قطار أنفاق كثيرة في انتظار لصوص لم يأتوا. لا بُدّ أنها مشت في أحياء باريس الأخطر، بحثاً عن قاتل لم يظهر أمامها، أو لعلّها حاولت استفزاز غضب مَنْ هم أقوى منها جسدياً، فرفضوا أن يغضبوا، من مكتئبين ومكابرين وعاجزين وأصحاب نفوذ. إلى حين في النهاية، تدبّرت أمر قتلها بوحشية. لكن، حينها، كم واحداً منّا يكون قد وفّر على نفسه الألم في رؤية أهمّ الأمور في حياتنا تختفي بين لحظة وأخرى؟ ولا أعني الناس فقط، بل أفكارنا وأحلامنا أيضاً: قد نبقى أحياءً ليوم، لأسبوع، لبضع سنوات، لكن كلّنا محكوم بالفَقْد. يظل الجسد حياً، لكن، عاجلاً أم آجلاً، ستتلقّى الروح ضربة الموت. إنها الجريمة الكاملة، لأننا نجهل من قتل فرحنا، ما كانت دوافعهم أو أين يمكن إيجاد القتلة. هل هم مدركون ما فعلوا، أولئك المذنبون المجهولون؟ أشكُّ في ذلك، لأنهم، المكتئبون، المكابرون، العاجزون وأصحاب النفوذ، هم أيضاً ضحايا الواقع الذي أوجدوه. هم لا يفهمون عالم أثينا وسوف يعجزون عن فهمه. نعم، هذا السبيل الأفضل للتفكير في الأمر، إنه عالم أثينا. أخيراً، بدأت أتقبّل أنني كنت ساكناً مؤقّتاً، كحسنة، كشخص يجد نفسه في منزل جميل، يتناول طعاماً فاخراً، مُدركاً أنها مجرّد حفلة، أن المنزل يملكه آخر، أن الطعام ابتاعه آخر، أن الوقت سيحين عندما ستنطفى الأضواء، ويخلد المالكون إلى النوم، ويعود الخدم إلى مخادعهم، ويُوصد الباب، فيجد نفسه في الشارع من جديد، ينتظر سيارة أجرة أو باص ليعيده إلى وضاعة حياته اليومية. أنا أعود، أو بالأحرى، جزءٌ مني يعود إلى ذلك العالم حيث ما يمكن أن نراه ونلمسه ونفسّره فقط يعتبر منطقياً. أريد أن أعود إلى ذاك العالم حيث مخالفات تجاوز السرعة، الناس يجادلون أُمناء الصندوق في المصرف، التذمّر الدائم من الطقس، إلى أفلام الرعب وسباق سيارات السرعة. هذا هو الكون الذي عليّ التعايش معه لباقي أيام حياتي. سأتزوّج، أُرزق بأولاد، وسيصبح الماضي ذكرى بعيدة، تجعلني في نهاية المطاف أتساءل: كيف أمكنني أن أكون بهذا العمى؟ كيف أمكنني أن أكون بهذه السذاجة؟ أعلم أيضاً، عند الليل، أنّ جزءاً مني سيظل يهيم في الفضاء، في اتصال مع الأشياء الواقعية بواقعية علبة التبغ وكأس المشروب الماثلَين أمامي الآن. ستُراقص روحي روح أثينا؛ سأكون معها في نومي؛ سأنهض أتصبّب عرقاً وأدخل المطبخ لأجلب كأس ماء. سأفهم أنّ على المرء، بغية صَدّ الأشباح، استخدام أسلحة لا تشكل جزءاً من الحقيقة. ثم، عملاً بنصيحة جدّتي، سأضع مقصاً مفتوحاً على الطاولة المجانبة للسرير لأقص شريط الحلم. في اليوم التالي، سأرمق المقصّ بنظرة ندم، لكن عليّ التكيّف مع العيش في العالم مجدَّداً أو المخاطرة في الجنون.
الفصل الأول
قبل أن تهجر كلّ هذه الإفادات طاولة مكتبي وتسير في خطى القَدَر الذي اخترته لها، خَطَرَ لي أن أستخدمها مادّة أساسية لوضع سيرة تقليدية مدروسة بشمولية، تروي قصة حقيقية. شرعتُ أقرأ سلسلة من السِيَر المختلفة، لعلّها تساعدني في الكتابة، فأدركت أنّ وجهة نظر كاتب السيرة في بطل روايته تؤثّر لا محالة في حصيلة بحثه. وبما أنني لم أكن أنوي فرض وجهات نظري على القارئ، بل طرح قصة «ساحرة بورتوبيللو» من منظار شخصياتها الرئيسية فحسب، فسرعان ما عَدَلتُ عن فكرة كتابة سيرة مباشرة. واستقرّ بي الرأي على المقاربة الفضلى؛ وهي، ببساطة، نقل ما أخبرني به الناس.
هيرون راين، 44 سنة، صحافي لا أحد يُشعل نوراً ليستره: الهدف من النور هو خلق مزيد من النور، لفتح عيون الناس، لكشف الجمالات من حولنا. لا أحد يُضحّي بالحبّ… أغلى ما يملك. لا أحد يضع أحلامه في يديّ مَن قد يبدِّدها. لا أحد، باستثناء أثينا. بعد مرور زمن طويل على موت أثينا، طلبت معلّمتها السابقة إليّ أن أرافقها إلى بلدة برستونبانز في اسكوتلاندا. هناك، باستغلال النفوذ الإقطاعي القديم الذي كان سيبطل الشهر التالي، منحت البلدة مذكرات عفو رسمية ل 81 شخصاً – وهررهم - ممن أُعدموا في القرنَين السادس عشر والسابع عشر لممارستهم السحر. تقول الناطقة الرسمية باسم المحاكم البارونية في برستونغرانج ودولفينستون: «أغلبية الذين أُدينوا… حُكم عليهم على أساس دليل غير حسّي، أي أفاد الشهودَ في الادّعاء أنهم أحسّوا بوجود أرواح شريرة، أو أنهم سمعوا أصوات أرواح». لا جدوى الآن من الكلام عن كلّ الفظائع التي ارتكبتها محكمة التفتيش، من غرف تعذيب ومحارق أوقدتها بفتيل الحقد والانتقام؛ مع ذلك، فإن «إدّا»، ونحن في طريقنا إلى برستونبانز، قالت مراراً إن أمراً ما يشوب تلك المبادرة التي وجدتها غير مقبولة: البلدة والبارون الرابع عشر من برستونغرانج ودولفينستون، كانا «يمنحان مذكرات عفو» لأشخاص كانوا قد أُعدموا بوحشية. «نحن الآن في القرن الحادي والعشرين، ومع ذلك، فإن المتحدّرين من نسل المجرمين الفعليين، أولئك الذين قتلوا الضحايا الأبرياء، لا يزالون يشعرون أنهم يملكون الحق في منح إعفاءات. أتفهم قصدي يا هيرون؟ فهمتُ قصدها. حملة مطاردة ساحرات جديدة تستحكم. هذه المرة، ليس السلاح حد النصال الحامية، بل حدّة السخرية والقمع. كلّ من يكتشف أنه يحظى بهِبة ويتجرّأ على البوح بقدراته، يُنظر إليه في العادة بعين الريبة. بشكل عام، وبدل أن يشعر الزوج أو الزوجة أو الوالد أو الولد أو أيًّا يكُن، بالزهو والفخار، يعمدوا إلى منع الموهوب من ذِكر المسألة، خوفاً من تعريض العائلة للسخرية. قبل تعرُّفي إلى أثينا، خِلتُ أنّ هِبات مماثلة هي طريقة مضلّلة لاستغلال أسى الناس. كان سفري إلى ترانسلفانيا لإعداد وثائقيّ عن مصّاصي الدماء، طريقة أخرى أيضاً لإثبات كم من السهل خداع الناس. بعض التطيُّرات، مهما بدت منافية للعقل، تقبع في خيال المرء وغالباً ما يستغلّها أشخاص عديمو الضمير. عندما زرت قصر دراكولا، الذي أُعيد بناؤه لمجرد إشعار السُيّاح بأنهم في مكان مميّز، اقترب مني مسؤول حكومي، وألمح إلى أنني سأتلقّى هدية «هامّة» (كما قال) عندما سيعرض الفيلم على قناة BBC . حَسِبَ ذاك المسؤول أنني كنت أساعد في ترويج الخرافة، وبالتالي، أستحق مكافأة سخية. قال أحد المرشدين السياحين إنّ عدد الزوّار يزداد كل سنة، وإن أي تنويه بالمكان سيكون إيجابياً، حتى وإن ذكر برنامج أن القصر مزيفاً، وأن فلاد دراكولا هو شخصية تاريخية لا صلة لها بالخرافة، وإنها مجرد تصوّر نسجته مخيّلة إيرلندي خصبة (ملاحظة الناشر: برام ستوكر)، الذي لم يطأ المنطقة يوماً. عرفت حينها أنني، مهما اتّسمت وقائعي بالدّقة، متواطئ في الكذبة عن غير عمد؛ حتى وإن كانت الفكرة في نصّي هي تجريد المكان من طابعه الخرافي فسوف يصدِّق الناس ما يريدون تصديقه؛ كان المرشد على حقّ، سأكون ببساطة أساعد في المزيد من الترويج. عَدَلتُ عن المشروع من فوري، مع أنني كنت قد أنفقت الكثير من المال على الرحلة والأبحاث. غير أنّ سفري إلى ترانسلفانيا كان له وقعٌ مدوٍّ على حياتي، ذلك أنني التقيتُ أثينا هناك عندما كانت تحاول تقفّي أثر والدتها. القدر، قدر غامض، جامح، وضعنا وجهاً لوجه في ردهة تافهة لفندق أتفه. كنت شاهدها على محادثتها الأولى مع ديدر، أو «إدّا»، كما تحبّ ان تُسمّى. شاهدتُ، كما لو كنت مشاهداً ينظر إلى حياته، فيما راح قلبي يتخبّط بل سدى لئلا يسمح لنفسه بأن يقع تحت إغواء امرأة لم تنتمِ إلى عالمي. أطريتُ على نفسي عندما خرج العقل من المعركة خاسراً، وكل ما أمكنني فعله هو أن أستسلم وأتقبّل أنني في حب. أفضى بي هذا الحب إلى رؤية أمور لم أتصور يوماً أنها موجودة: طقوس، تجسّدات، انخطافات. واعتقاداً مني أن الحب أعماني، شككت في كل شيء، لكنّ الشك، أبعد من أن يُشلّني، دفعني في وجهة المحيطات التي لم أستطع الإقرار بوجودها المحض. كانت تلك الطاقة ذاتها التي، في الأوقات العسيرة، ساعدتني على مواجهة خُبث زملائي في الصحافة وعلى الكتابة عن أثينا وعملها. وبما أن الحب يبقى حياً، تبقى الطاقة، على الرغم من موت أثينا، على الرغم من أنّ كل مرادي الآن هو نسيان ما رأيت وتعلّمت. أمكنني أن أجوب ذاك العالم وأثينا إلى جانبي فقط. هذه كانت حدائقها، أنهارها، جبالها. الآن، مع رحيلها، أحتاج إلى أن يعود كل شيء إلى ما كان عليه. سوف أركّز أكثر على مشكلات الزحمة، وسياسة بريطانيا الخارجية، وكيفية إدارتنا للضرائب. أريد استرجاع التفكير في أن عالم السحر هو مجرد حيلة ذكية، أن الناس متطيّرون، أن كل ما يعجز العلم عن تفسيره لا يحقّ له بالوجود. عندما أخذتْ اللقاءات في بورتوبيللو تخرج عن السيطرة، تجادلنا باستمرار حول تصرّفها، مع أنني مسرور الآن أنها لم تُصغِ إليّ. وإن كان من عزاء محتمل في مأساة فَقْد أحدٍ نحبّه كل الحبّ، فهو الأمل الضروري في أن ما جرى كان على الأرجح لصالحنا. أصحو وأنام على هذا اليقين؛ كان من الأفضل أن أثينا رحلت عندما قرّرتْ ذلك، بدلاً من السقوط في جحيمات هذا العالم. ما كانت لتستعيد راحة البال بعد الأحداث التي ألبستها لقب «ساحرة بورتوبيللو». ولكانت بقية حياتها صداماً مريراً بين أحلامها هي، والواقع الجَماعي. ولكانت، بحسب معرفتي لها، خاضت المعركة حتى النهاية، وهدرت طاقتها وفرحها لمحاولة إثبات شيء لم يكن أحد، لا أحد على الإطلاق، مستعداً لتصديقه. الله أعلم، لعلها طلبت الموت كمثل ضحية نجت من حطام سفينة وتسعى إلى برّ أمان. لا بُدّ أنها وقفت ليلاً عند محطّات قطار أنفاق كثيرة في انتظار لصوص لم يأتوا. لا بُدّ أنها مشت في أحياء باريس الأخطر، بحثاً عن قاتل لم يظهر أمامها، أو لعلّها حاولت استفزاز غضب مَنْ هم أقوى منها جسدياً، فرفضوا أن يغضبوا، من مكتئبين ومكابرين وعاجزين وأصحاب نفوذ. إلى حين في النهاية، تدبّرت أمر قتلها بوحشية. لكن، حينها، كم واحداً منّا يكون قد وفّر على نفسه الألم في رؤية أهمّ الأمور في حياتنا تختفي بين لحظة وأخرى؟ ولا أعني الناس فقط، بل أفكارنا وأحلامنا أيضاً: قد نبقى أحياءً ليوم، لأسبوع، لبضع سنوات، لكن كلّنا محكوم بالفَقْد. يظل الجسد حياً، لكن، عاجلاً أم آجلاً، ستتلقّى الروح ضربة الموت. إنها الجريمة الكاملة، لأننا نجهل من قتل فرحنا، ما كانت دوافعهم أو أين يمكن إيجاد القتلة. هل هم مدركون ما فعلوا، أولئك المذنبون المجهولون؟ أشكُّ في ذلك، لأنهم، المكتئبون، المكابرون، العاجزون وأصحاب النفوذ، هم أيضاً ضحايا الواقع الذي أوجدوه. هم لا يفهمون عالم أثينا وسوف يعجزون عن فهمه. نعم، هذا السبيل الأفضل للتفكير في الأمر، إنه عالم أثينا. أخيراً، بدأت أتقبّل أنني كنت ساكناً مؤقّتاً، كحسنة، كشخص يجد نفسه في منزل جميل، يتناول طعاماً فاخراً، مُدركاً أنها مجرّد حفلة، أن المنزل يملكه آخر، أن الطعام ابتاعه آخر، أن الوقت سيحين عندما ستنطفى الأضواء، ويخلد المالكون إلى النوم، ويعود الخدم إلى مخادعهم، ويُوصد الباب، فيجد نفسه في الشارع من جديد، ينتظر سيارة أجرة أو باص ليعيده إلى وضاعة حياته اليومية. أنا أعود، أو بالأحرى، جزءٌ مني يعود إلى ذلك العالم حيث ما يمكن أن نراه ونلمسه ونفسّره فقط يعتبر منطقياً. أريد أن أعود إلى ذاك العالم حيث مخالفات تجاوز السرعة، الناس يجادلون أُمناء الصندوق في المصرف، التذمّر الدائم من الطقس، إلى أفلام الرعب وسباق سيارات السرعة. هذا هو الكون الذي عليّ التعايش معه لباقي أيام حياتي. سأتزوّج، أُرزق بأولاد، وسيصبح الماضي ذكرى بعيدة، تجعلني في نهاية المطاف أتساءل: كيف أمكنني أن أكون بهذا العمى؟ كيف أمكنني أن أكون بهذه السذاجة؟ أعلم أيضاً، عند الليل، أنّ جزءاً مني سيظل يهيم في الفضاء، في اتصال مع الأشياء الواقعية بواقعية علبة التبغ وكأس المشروب الماثلَين أمامي الآن. ستُراقص روحي روح أثينا؛ سأكون معها في نومي؛ سأنهض أتصبّب عرقاً وأدخل المطبخ لأجلب كأس ماء. سأفهم أنّ على المرء، بغية صَدّ الأشباح، استخدام أسلحة لا تشكل جزءاً من الحقيقة. ثم، عملاً بنصيحة جدّتي، سأضع مقصاً مفتوحاً على الطاولة المجانبة للسرير لأقص شريط الحلم. في اليوم التالي، سأرمق المقصّ بنظرة ندم، لكن عليّ التكيّف مع العيش في العالم مجدَّداً أو المخاطرة في الجنون.