عطر سوريا
21/11/2007, 18:18
كانت السوق مزدحمةً لا ترى فيها إلا من نساء وفتيات منقبات، وبعضهن يمسكن في أيديهن أطفالا صغاراً، إنْ أفلتْ طفلٌ من يد أمه ثم بحث عنها فقد تمتد لحظاتُ الرعب والخوف وقتا طويلا حتى تسمع أمُّه صراخَه.
خرجت إحداهن مسرعة من أحد محلات بيع الذهب والبائع المسكين ينادي بأعلى صوته، لكنها اختفت في الزحام، ولا يعرف البائع إنْ أبلغ الشرطةَ أكثر من وصف دقيق لنبرات صوتها، ثم وصف أدق لكُحل عينيها!
بعد دقائق اصطدمتْ في الزحام بمنقبة أخرى يبدو أنها سيدة، فاعتذرت السيدةُ بأدب جَمّ، ثم دار بينهما الحوار التالي:
المنقبة الأولى ( السيدة ): الزحام شديد هذا اليوم، وحرارة الشمس تخترق ملابسَنا السوداء القاتمة فتلهب الجسد، ويتصبب العرق كأن المطر يهطل في قيظ الصيف الحارق.
المنقبة الثانية(الفتاة):الحمد لله على نعمته في كل الأحوال. هل تقيمين بالقرب من هذا السوق؟
الأولى: لا، ولكن السائق الهندي ينتظرني في الجانب الأيمن من الساحة الكبيرة، وهو كما تعلمين لن يتعرف عليّ وسط هذا الحشد من النساء المنقبات، والبعض ترتدي الخمار فلا يميزها عن الأخريات خبيرٌ في الرائحة ونوعية الأقمشة وطريقة مشيتها.
الثانية: آه، كم هو رائع هذا النقاب والخمار، فغباء الرجال الذكور في مزايدة حراسة العفة قد أتاحت لنا ما لم يتحه سفورُ الوجه ولو في أكثر المجتمعات تحررا! إنني أستطيع أن أسرق، ثم انطلق هاربةً دون
أن تستطيع أي جهة التعرف علي بعدما يتيه جسدي المغطى سوادا مع أجساد الآخريات.
الأولى: أختلف معك، أختي الكريمة، فأنا أرتدي النقاب نزولا على رغبة زوجي، ومن تطع زوجها فقد أطاعت الله!
الثانية: أما أنا فأرتديه لأنه يمنحني الحرية في أن أفعل ما أشاء، بل يظن الرجال أن نقابي هو حزام عفة.
الأولى: أما أنا فعفيفة في أخلاقي، ولا أسرق، ولا أرتكب المحرمات، لكنني أقوم بتأدية دوري في المجتمع كحالة سلبية انسحبت منه، لا يراني أحدٌ، تماما كالتي تنظر من نافذة بيتها على المارة فلا تشارك الآخرين خشية أن ينظر أحدهم إلى وجهي فيفتنه في دينه!
الثانية: أنت طيبة، ومسلمة ساذجة تطيع ذكور قومها كما يطيع الرعاعُ سوّطَ الجلادِ، وأوامرَ الزعيمِ، ورغبات ربّ البيت مهما كانت مخالفتها لكتاب الله العزيز! هل تصافحين ابن عمك إن التقيتما مصادفة في
الطريق، أو اضطرتك ظروف لطلب مساعدة؟
ضحكت الأولى فبدا بريق عينيها يوشي بضحكة بريئة جميلة لم يرها من ذكور القوم من قبلُ إلا أفرادُ أسرتها وزوجها، ثم قالت وكأنها تتهكم على نفسها:إنَّ ابن عمي لم ير وجهي منذ أن كنا طفلين يلعبان في فناء بيتنا القديم. لقد عاد من أمريكا بعدما قضى عدة سنوات، وفي اليوم الثالث لوصوله تعرض لحادث سيارة أليم فتم نقله إلى المستشفى وهو في حالة خطرة، وقمت بزيارته مع والدته، لكن لم ير وجهي!
الثانية:ولكنه ابن عمك، وعلى فراش الموت تقريبا، فكيف يستقيم حوار بينكما وهو لا يعرفك، وحتى صوتك تغير منذ طفولتك؟
الأولى: إن ذكور قومنا الفقهاء والعلماء يقولون بأن كشف الوجه حرام، وأن الله تعالى، مالك المُلك، سيغضب مني لو شاهد ابن عمي وجهي!
الثانية: وهل صحيح أنك تصدقين هذا الهراء وتلك الخرافات والخزعبلات؟ هل الله الذي خلقنا شعوبا وقبائل لنتعرف سيصبّ غضبه على من يلبي نداءه؟
الأولى: إن ذكور قومنا يقولون بأن الوجه عورة وفتنة، وأنا جميلة رغم مرور عدة سنوات على زواجي، ولو رأى ابنُ عمي وجهي فسيثار جنسيا ولو كان كل جسده حطاما عاجزا عن الحركة!
الثانية: الحقيقة أن هذا المرض الذي يظنه ذكور قومنا حراسة للعفة والفضيلة قد جعلني أفعل ما أشاء وقتما أريد. أول أمس ذهبت مع صديق أخي الأكبر إلى بيته، ولم يكن هناك أحد في البيت. ومررنا أمام
سكان الحي من رجال ملتحين يحرسون الفضيلة في يقظتهم ومنامهم. قاموا بالقاء التحية عليه، ولعلهم ظنوا أنني شقيقته الصغرى. قضينا وقتا ممتعا وكان الشيطان ثالثنا ورابعنا وعاشرنا.
الأولى: إنك داهية في صورة فتاة. وفتنة داخل أقمشة سوداء. ولا أريد أن اذكر الوصف الأدق خشية غضبك، فهو لا يليق بك!
الثانية:إنني لم أفعل أكثر من الاستجابة لدعوة الفقهاء والعلماء والسلطة والحمقى والبلهاء والساذجين والمزايدين والصامتين والجاهلين بأن نتدثر، ونختبيء، ونتخفى، بالنفاق، ونغض الطرفَ عن جرائم لا
حصر لها ما دامت تحدُثّ بعيداً عن الأعين. سأُمرر لأذنيك سراً احتفظت به طويلا وهو عن صديقة عزيزة إلىَ قلبي، لكنها لعوبٌ تستطيع أن تفتن الشيطان نفسه لو تجسد في صورة رجل. لقد قضتْ صديقتي ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في أحضان شاب، وفي منزل الأسرة الكريمة الفاضلة. كانت لديها غرفة في الطابق الثاني، وأقنعت والدها بأن صديقتها تحتاج إليها للخروج من مشاكل عائلية خاصة، لكنها
فاضلة ولا تتحدث مع الرجال، وتؤمن أن صوت المرأة عورة. إننا، سيدتي الفاضلة، منافقون حتى
النخاع، وساذجون حتى الحماقة، وبلهاء إلى أعلى درجات العته. إن حُرّاس الفضيلة الذين يؤكدون لنا في كل ساعة من ساعات الليل والنهار أن المرأة من ضلع أعوج، وأنها شيطان في البيت، وأنها
أكثر أهل النار، وأن كل ما فيها عورة هم الذين يحرسون آثامنا وذنوبنا، ويقفون على أبواب الرذيلة ريثما ننتهي من ممارستها.
الأولى: أما أنا فتقوى الله في قلبي، ولا أخون زوجي ولو في خيالي لبضع ثوان، وأحرص على بيتي حرصي على إيماني، لكنني، كما ذكرت لك، اخترت طريق الطاعة العمياء، وانسحبتُ تماما من دوري كالنصف الآخر من المجتمع واختبأت داخل هذه القطعة من القماش السوداء، تتحرك كما يُراد لها خشية
أن يكون ذكور القوم على حق فيتقلب وجهي على جمرات السعير يوم لا ينفع مال ولا بنون.
الثانية: كلنا ضحايا هذا الفهم السقيم والهوس الجنسي الذي أصاب ذكور قومنا.
الأولى: أتفق معك تماما، فطالما تمنيت أن أمارس حقي في الحياة الحُرة الطبيعية، وتَبْينُ مشاعري على وجهي، ويرى الآخرون غضبي، وحلمي، واحمرارةَ الخجل، واصفرارةَ المرض، ومشاعرَ الكراهية، واشاراتِ المحبةِ، وايماءاتِ الموافقة، وتعبيرات الاحتقار. إنه ليس حقي بمفردي أنْ أخفي وجهي أو
أبديه، لكنه حق للآخرين أن يتعرفوا على من يتحدث معهم، وأن يستخلصوا قناعاتهم من الوجه المكمل للحديث، في البيع والشراء والمدرسة والمستشفى والشارع والسوق والأهم علاقات العائلة الكبيرة لتستقيم الحياة بعيدا عن مرض الشك والوسوسة. إنَّ عفتي كانت ستستمر لو كنتُ كاشفةً لوجهي، أما أنتِ فربما كان هناك من سيلجمك عن الخطيئة لو كنتِ سافرةَ الوجه.
الثانية: أحيانا يذهب بي الشك مبلغ اليقين في أن الرجل قد جاهد طويلا في اقناع المرأة باخفاء وجهها ليخفي هو آثامه وموبقاته. منذ فترة قصيرة لمحتُ أحدَهم وهو يسير بجانب فتاتين ترتديان الخمار، وعلى مقربة منه كان هناك رجل يسير خلفهما، وعرفتُ على الفور أنه صديقه. كنت أعلم أن زوجة الرجل سافرت قبل ذلك بأسبوع إلى بلد أهلها لأسباب عائلية . لم أكن بحاجة لإعمال الفكر
أكثر من دقيقتين لمعرفة السيناريو القادم لرجلين وفتاتين. إن تغطية وجه المرأة يتعارض مع روح
الإسلام، ويتناقض مع تعاليمه السمحاء، ويصطدم بالفهم السامي والرائع والحقيقي والصحي والعقلاني لصورة التقوى والإيمان بأن الله تعالى أكبر وأعظم وأسمى من أن يخلق الذكر والأنثى ، ويجعلنا شعوبا
وقبائل لنتعارف ثم يفرض علينا عدم التعارف.
الأولى: غريب أمرك فأنا أرى فيك فتاة متقلبة بين الإيمان الشديد و .. والمعصية الوقحة. إنني لا أختلف معك في أن العلي القدير جمع معجزات الجسد في الوجه، ولو خانتك الكلمةُ فإنَّ الوجهَ قادرٌ على تكملة ما عجز عنه اللسان. أمام المحامي والقاضي ورجل الأمن وزميلك في الدراسة وفي العمل. ومع البائع الغشّاش ومع السائق المحروم جنسيا الذي لا يعرف صرامَتَك وعفََتك إلاّ مِن الوجه. أتفق معك أن إخفاءَ الوجه يكاد يرقى للمعصية بسبب طاعتنا لفكر الهوس الجنسي الذي يأخذ بألباب ذكور قومنا، وتتملكني الرغبة في أحايين كثيرة أن أنزعه عن وجهي ليرى الآخرُ ما عجزتُ عن شرحه. أول أمس كادت نظرات رجل تخترق كل خيوط قماش خماري، وكدت أشاهد خيالَه المريضَ يتحرك كما يتحرك الشيطان. تمنيّتُ أنْ أنزع الخمارَ ليرى نظرات الاحتقار والازدراءِ في وجهي. فأنا امرأةٌ متزوجةٌ وعفيفةٌ
وأخشى اللهَّ في سرّي وجهري.
الثانية: وهل أنا راضية عما أقوم به؟ لقد اصطدمتُ بك منذ لحظات وكنتُ هاربةً من محل بيع ذهب بعدما سرقتُ قطعةً ثمينة، وهرّولت مُسرعةً حيث يتزاحم السوادُ مع السوادِ في مشهد مأتمي كأنَّ المرأةَ ليست ابنةَ حواء، إنما هي الابنة المدللةُ للشيطان الرجيم. إنني أشعر بمتعةٍ لا شبيه لها وأنا أختلس الخطيئةَ من حُراس الفضيلة. لو لم أكن محبةً وعاشقةً لبلدي ووطني وأهلي لما رفضتُ بحزم وصرامة طلباً بنقل حقيبة من مكان إلى لآخر، وكنت أعرف أنها تمهيد لعمل ارهابي. أنا لست بهذه الصورة الإبليسية التي تظنين أنها تختفي تحت هذا الخمار. عندما يرتكب المرءُ جريمةً فإن أول ما
تبحث عنه أجهزةُ الأمن لو كان أفرادها يعرفون ألف باء السياسة الأمنية هو وصفٌ لمرتكِبِ الجريمة، ورفع البصمات التي خلقها الله منذ البدء بحيث لا تتشابه بصمتان لشخصين على وجه الأرض. معجزتان تكفي الواحدة منهما أن نؤمن بأن لهذا الكون البديع خالقا عظيما سيأتيه كل من في السماوات والأرض طوعا أو كرها. الوجه والكفان، إنْ أخفيناهما فقد أهلنا الترابَ على أعظم معجزتين في الخَلْق.
المجتمعُ الأحمق الذي تسانده سُلطة ساذجة ويمهر توقيعَ مرورِ الحماقةِ فيه تبريرٌ أبْلَهٌ مِن رجال يدّعون فهمَ الدين والدنيا هو الذي فتح ذراعيه ليحتضن الإرهابَ والرذيلة. إنني أتمنى مثلك أنْ أخرج للناس، وأتحدث معهم، ويروّن وجهي، وأكشف مشاعري، ويحترمني الرجل لكوني انسانة لا تختلف عنه، لا أنْ يأتي مِنْ كُتب الأقدمين بأدلةٍ مِن عنده يدّعي فيها أن كشفَ وجهي يغضب الله.
الأولى: هذا يعني أن تنتقمين من الرجال، أم هناك أسباب أخرى خلف تصرفاتك الطائشة؟
الثانية: إنني أريد أن أثبت للرجل بأن مَنْ يخشاه هو رجل مثله، وقد يكون شقيقَه أو أباه أو عمَّه أو صديقَه الحميم. إنَّ في نفسي غضباً شديداً من تلك الازدواجيةِ التي يعيشها ذكورُ قومنا، فأكثرهم يفكرون بالنصف الأسفل من الرجل والمرأة على حد سواء. كانت مصادفة بحتة عندما نزعتُ النقاب لأقل
من دقيقتين في ميدان عام، وكنت أشعر بالتهاب في وجهي من جرّاء احتكاك قطعة القماش به مع حرارة الصيف. أخرجتُ المرآةَ نظر فيها، فإذا برجل من حراس الفضيلة ينهرني أمام الناس وكأنني أرتكب الزنا فوق الرصيف. المفاجأة لم تكن هنا، ولكن بعد أقل من نصف ساعة شاهدتُ نفسَ الرجل يتحرش بالنساء في مكان مزدحم! إنَّ فضيلةَ المرأة تبدأ من فضيلةِ الرجل، ورجالُنا عبيدٌ لأسيادهم، والرجل هو الذي يُرهب الآخرين، ويتاجر في السلاح، وهو صاحب المواخير والبارات وبيوت الدعارة، وهو الذي حَمَلَ لنا مرضَ الإيدز في سفرياته المشبوهة. والرجل يتملق السُلطةَ، ويغتصب النساءَ، وينتهك حرمات الرجال في السجون والمعتقلات، ويحفر مقابر جماعية باسم الزعيم لأبناء بلده، ويقوم بتزييف التاريخ وتزوير أوراق الوطن، ويُجبرنا على فهمه السقيم لاسلامنا الرائع والحنيف. والرجل يُهين المرأةَ ويضربها ثم يحلم في صلاته بالحور العين اللائي تعود لكل منهن عذريتها بعد الجماع. والرجل مريض بالمرأة يمارس معها سُلطة فَقَدَها في العمل بين يدي رئيسه، وفي قسم الشرطة تحت سوط ضابط الأمن، وأمام الفقهاء والعلماء وهم يشرحون له كيفية معاملة المرأة في الفراش والمضاجعة والحيض والنشوز، لكنهم لا يعلّمونه آدابَ السلوك، ورفضَ العبودية وقبل ذلك الحفاظَ على كرامتِه كمواطن حُرّ ومستقل.
الأولى: ألمس فيك غضباً عارماً يزلزل كياناً صغيراً وضعيفاً. إنك، أختي الصغيرة، في حاجة ماسةٍ لرجل يحميك، وصدر ترتمي فيه، وأسرة تصنعها نطفة ذكر فتصبحين أمَّ العيال.
الثانية: إنني أبحث عن كياني كمسلمة لا تحدد لها مفاهيمُ الرجل كل حركة وايماءة واشارة، أو يعتبرني عاصية ومنحلة لأنني أطعت اللهَ فكشفتُ وجهي.
خرجت إحداهن مسرعة من أحد محلات بيع الذهب والبائع المسكين ينادي بأعلى صوته، لكنها اختفت في الزحام، ولا يعرف البائع إنْ أبلغ الشرطةَ أكثر من وصف دقيق لنبرات صوتها، ثم وصف أدق لكُحل عينيها!
بعد دقائق اصطدمتْ في الزحام بمنقبة أخرى يبدو أنها سيدة، فاعتذرت السيدةُ بأدب جَمّ، ثم دار بينهما الحوار التالي:
المنقبة الأولى ( السيدة ): الزحام شديد هذا اليوم، وحرارة الشمس تخترق ملابسَنا السوداء القاتمة فتلهب الجسد، ويتصبب العرق كأن المطر يهطل في قيظ الصيف الحارق.
المنقبة الثانية(الفتاة):الحمد لله على نعمته في كل الأحوال. هل تقيمين بالقرب من هذا السوق؟
الأولى: لا، ولكن السائق الهندي ينتظرني في الجانب الأيمن من الساحة الكبيرة، وهو كما تعلمين لن يتعرف عليّ وسط هذا الحشد من النساء المنقبات، والبعض ترتدي الخمار فلا يميزها عن الأخريات خبيرٌ في الرائحة ونوعية الأقمشة وطريقة مشيتها.
الثانية: آه، كم هو رائع هذا النقاب والخمار، فغباء الرجال الذكور في مزايدة حراسة العفة قد أتاحت لنا ما لم يتحه سفورُ الوجه ولو في أكثر المجتمعات تحررا! إنني أستطيع أن أسرق، ثم انطلق هاربةً دون
أن تستطيع أي جهة التعرف علي بعدما يتيه جسدي المغطى سوادا مع أجساد الآخريات.
الأولى: أختلف معك، أختي الكريمة، فأنا أرتدي النقاب نزولا على رغبة زوجي، ومن تطع زوجها فقد أطاعت الله!
الثانية: أما أنا فأرتديه لأنه يمنحني الحرية في أن أفعل ما أشاء، بل يظن الرجال أن نقابي هو حزام عفة.
الأولى: أما أنا فعفيفة في أخلاقي، ولا أسرق، ولا أرتكب المحرمات، لكنني أقوم بتأدية دوري في المجتمع كحالة سلبية انسحبت منه، لا يراني أحدٌ، تماما كالتي تنظر من نافذة بيتها على المارة فلا تشارك الآخرين خشية أن ينظر أحدهم إلى وجهي فيفتنه في دينه!
الثانية: أنت طيبة، ومسلمة ساذجة تطيع ذكور قومها كما يطيع الرعاعُ سوّطَ الجلادِ، وأوامرَ الزعيمِ، ورغبات ربّ البيت مهما كانت مخالفتها لكتاب الله العزيز! هل تصافحين ابن عمك إن التقيتما مصادفة في
الطريق، أو اضطرتك ظروف لطلب مساعدة؟
ضحكت الأولى فبدا بريق عينيها يوشي بضحكة بريئة جميلة لم يرها من ذكور القوم من قبلُ إلا أفرادُ أسرتها وزوجها، ثم قالت وكأنها تتهكم على نفسها:إنَّ ابن عمي لم ير وجهي منذ أن كنا طفلين يلعبان في فناء بيتنا القديم. لقد عاد من أمريكا بعدما قضى عدة سنوات، وفي اليوم الثالث لوصوله تعرض لحادث سيارة أليم فتم نقله إلى المستشفى وهو في حالة خطرة، وقمت بزيارته مع والدته، لكن لم ير وجهي!
الثانية:ولكنه ابن عمك، وعلى فراش الموت تقريبا، فكيف يستقيم حوار بينكما وهو لا يعرفك، وحتى صوتك تغير منذ طفولتك؟
الأولى: إن ذكور قومنا الفقهاء والعلماء يقولون بأن كشف الوجه حرام، وأن الله تعالى، مالك المُلك، سيغضب مني لو شاهد ابن عمي وجهي!
الثانية: وهل صحيح أنك تصدقين هذا الهراء وتلك الخرافات والخزعبلات؟ هل الله الذي خلقنا شعوبا وقبائل لنتعرف سيصبّ غضبه على من يلبي نداءه؟
الأولى: إن ذكور قومنا يقولون بأن الوجه عورة وفتنة، وأنا جميلة رغم مرور عدة سنوات على زواجي، ولو رأى ابنُ عمي وجهي فسيثار جنسيا ولو كان كل جسده حطاما عاجزا عن الحركة!
الثانية: الحقيقة أن هذا المرض الذي يظنه ذكور قومنا حراسة للعفة والفضيلة قد جعلني أفعل ما أشاء وقتما أريد. أول أمس ذهبت مع صديق أخي الأكبر إلى بيته، ولم يكن هناك أحد في البيت. ومررنا أمام
سكان الحي من رجال ملتحين يحرسون الفضيلة في يقظتهم ومنامهم. قاموا بالقاء التحية عليه، ولعلهم ظنوا أنني شقيقته الصغرى. قضينا وقتا ممتعا وكان الشيطان ثالثنا ورابعنا وعاشرنا.
الأولى: إنك داهية في صورة فتاة. وفتنة داخل أقمشة سوداء. ولا أريد أن اذكر الوصف الأدق خشية غضبك، فهو لا يليق بك!
الثانية:إنني لم أفعل أكثر من الاستجابة لدعوة الفقهاء والعلماء والسلطة والحمقى والبلهاء والساذجين والمزايدين والصامتين والجاهلين بأن نتدثر، ونختبيء، ونتخفى، بالنفاق، ونغض الطرفَ عن جرائم لا
حصر لها ما دامت تحدُثّ بعيداً عن الأعين. سأُمرر لأذنيك سراً احتفظت به طويلا وهو عن صديقة عزيزة إلىَ قلبي، لكنها لعوبٌ تستطيع أن تفتن الشيطان نفسه لو تجسد في صورة رجل. لقد قضتْ صديقتي ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في أحضان شاب، وفي منزل الأسرة الكريمة الفاضلة. كانت لديها غرفة في الطابق الثاني، وأقنعت والدها بأن صديقتها تحتاج إليها للخروج من مشاكل عائلية خاصة، لكنها
فاضلة ولا تتحدث مع الرجال، وتؤمن أن صوت المرأة عورة. إننا، سيدتي الفاضلة، منافقون حتى
النخاع، وساذجون حتى الحماقة، وبلهاء إلى أعلى درجات العته. إن حُرّاس الفضيلة الذين يؤكدون لنا في كل ساعة من ساعات الليل والنهار أن المرأة من ضلع أعوج، وأنها شيطان في البيت، وأنها
أكثر أهل النار، وأن كل ما فيها عورة هم الذين يحرسون آثامنا وذنوبنا، ويقفون على أبواب الرذيلة ريثما ننتهي من ممارستها.
الأولى: أما أنا فتقوى الله في قلبي، ولا أخون زوجي ولو في خيالي لبضع ثوان، وأحرص على بيتي حرصي على إيماني، لكنني، كما ذكرت لك، اخترت طريق الطاعة العمياء، وانسحبتُ تماما من دوري كالنصف الآخر من المجتمع واختبأت داخل هذه القطعة من القماش السوداء، تتحرك كما يُراد لها خشية
أن يكون ذكور القوم على حق فيتقلب وجهي على جمرات السعير يوم لا ينفع مال ولا بنون.
الثانية: كلنا ضحايا هذا الفهم السقيم والهوس الجنسي الذي أصاب ذكور قومنا.
الأولى: أتفق معك تماما، فطالما تمنيت أن أمارس حقي في الحياة الحُرة الطبيعية، وتَبْينُ مشاعري على وجهي، ويرى الآخرون غضبي، وحلمي، واحمرارةَ الخجل، واصفرارةَ المرض، ومشاعرَ الكراهية، واشاراتِ المحبةِ، وايماءاتِ الموافقة، وتعبيرات الاحتقار. إنه ليس حقي بمفردي أنْ أخفي وجهي أو
أبديه، لكنه حق للآخرين أن يتعرفوا على من يتحدث معهم، وأن يستخلصوا قناعاتهم من الوجه المكمل للحديث، في البيع والشراء والمدرسة والمستشفى والشارع والسوق والأهم علاقات العائلة الكبيرة لتستقيم الحياة بعيدا عن مرض الشك والوسوسة. إنَّ عفتي كانت ستستمر لو كنتُ كاشفةً لوجهي، أما أنتِ فربما كان هناك من سيلجمك عن الخطيئة لو كنتِ سافرةَ الوجه.
الثانية: أحيانا يذهب بي الشك مبلغ اليقين في أن الرجل قد جاهد طويلا في اقناع المرأة باخفاء وجهها ليخفي هو آثامه وموبقاته. منذ فترة قصيرة لمحتُ أحدَهم وهو يسير بجانب فتاتين ترتديان الخمار، وعلى مقربة منه كان هناك رجل يسير خلفهما، وعرفتُ على الفور أنه صديقه. كنت أعلم أن زوجة الرجل سافرت قبل ذلك بأسبوع إلى بلد أهلها لأسباب عائلية . لم أكن بحاجة لإعمال الفكر
أكثر من دقيقتين لمعرفة السيناريو القادم لرجلين وفتاتين. إن تغطية وجه المرأة يتعارض مع روح
الإسلام، ويتناقض مع تعاليمه السمحاء، ويصطدم بالفهم السامي والرائع والحقيقي والصحي والعقلاني لصورة التقوى والإيمان بأن الله تعالى أكبر وأعظم وأسمى من أن يخلق الذكر والأنثى ، ويجعلنا شعوبا
وقبائل لنتعارف ثم يفرض علينا عدم التعارف.
الأولى: غريب أمرك فأنا أرى فيك فتاة متقلبة بين الإيمان الشديد و .. والمعصية الوقحة. إنني لا أختلف معك في أن العلي القدير جمع معجزات الجسد في الوجه، ولو خانتك الكلمةُ فإنَّ الوجهَ قادرٌ على تكملة ما عجز عنه اللسان. أمام المحامي والقاضي ورجل الأمن وزميلك في الدراسة وفي العمل. ومع البائع الغشّاش ومع السائق المحروم جنسيا الذي لا يعرف صرامَتَك وعفََتك إلاّ مِن الوجه. أتفق معك أن إخفاءَ الوجه يكاد يرقى للمعصية بسبب طاعتنا لفكر الهوس الجنسي الذي يأخذ بألباب ذكور قومنا، وتتملكني الرغبة في أحايين كثيرة أن أنزعه عن وجهي ليرى الآخرُ ما عجزتُ عن شرحه. أول أمس كادت نظرات رجل تخترق كل خيوط قماش خماري، وكدت أشاهد خيالَه المريضَ يتحرك كما يتحرك الشيطان. تمنيّتُ أنْ أنزع الخمارَ ليرى نظرات الاحتقار والازدراءِ في وجهي. فأنا امرأةٌ متزوجةٌ وعفيفةٌ
وأخشى اللهَّ في سرّي وجهري.
الثانية: وهل أنا راضية عما أقوم به؟ لقد اصطدمتُ بك منذ لحظات وكنتُ هاربةً من محل بيع ذهب بعدما سرقتُ قطعةً ثمينة، وهرّولت مُسرعةً حيث يتزاحم السوادُ مع السوادِ في مشهد مأتمي كأنَّ المرأةَ ليست ابنةَ حواء، إنما هي الابنة المدللةُ للشيطان الرجيم. إنني أشعر بمتعةٍ لا شبيه لها وأنا أختلس الخطيئةَ من حُراس الفضيلة. لو لم أكن محبةً وعاشقةً لبلدي ووطني وأهلي لما رفضتُ بحزم وصرامة طلباً بنقل حقيبة من مكان إلى لآخر، وكنت أعرف أنها تمهيد لعمل ارهابي. أنا لست بهذه الصورة الإبليسية التي تظنين أنها تختفي تحت هذا الخمار. عندما يرتكب المرءُ جريمةً فإن أول ما
تبحث عنه أجهزةُ الأمن لو كان أفرادها يعرفون ألف باء السياسة الأمنية هو وصفٌ لمرتكِبِ الجريمة، ورفع البصمات التي خلقها الله منذ البدء بحيث لا تتشابه بصمتان لشخصين على وجه الأرض. معجزتان تكفي الواحدة منهما أن نؤمن بأن لهذا الكون البديع خالقا عظيما سيأتيه كل من في السماوات والأرض طوعا أو كرها. الوجه والكفان، إنْ أخفيناهما فقد أهلنا الترابَ على أعظم معجزتين في الخَلْق.
المجتمعُ الأحمق الذي تسانده سُلطة ساذجة ويمهر توقيعَ مرورِ الحماقةِ فيه تبريرٌ أبْلَهٌ مِن رجال يدّعون فهمَ الدين والدنيا هو الذي فتح ذراعيه ليحتضن الإرهابَ والرذيلة. إنني أتمنى مثلك أنْ أخرج للناس، وأتحدث معهم، ويروّن وجهي، وأكشف مشاعري، ويحترمني الرجل لكوني انسانة لا تختلف عنه، لا أنْ يأتي مِنْ كُتب الأقدمين بأدلةٍ مِن عنده يدّعي فيها أن كشفَ وجهي يغضب الله.
الأولى: هذا يعني أن تنتقمين من الرجال، أم هناك أسباب أخرى خلف تصرفاتك الطائشة؟
الثانية: إنني أريد أن أثبت للرجل بأن مَنْ يخشاه هو رجل مثله، وقد يكون شقيقَه أو أباه أو عمَّه أو صديقَه الحميم. إنَّ في نفسي غضباً شديداً من تلك الازدواجيةِ التي يعيشها ذكورُ قومنا، فأكثرهم يفكرون بالنصف الأسفل من الرجل والمرأة على حد سواء. كانت مصادفة بحتة عندما نزعتُ النقاب لأقل
من دقيقتين في ميدان عام، وكنت أشعر بالتهاب في وجهي من جرّاء احتكاك قطعة القماش به مع حرارة الصيف. أخرجتُ المرآةَ نظر فيها، فإذا برجل من حراس الفضيلة ينهرني أمام الناس وكأنني أرتكب الزنا فوق الرصيف. المفاجأة لم تكن هنا، ولكن بعد أقل من نصف ساعة شاهدتُ نفسَ الرجل يتحرش بالنساء في مكان مزدحم! إنَّ فضيلةَ المرأة تبدأ من فضيلةِ الرجل، ورجالُنا عبيدٌ لأسيادهم، والرجل هو الذي يُرهب الآخرين، ويتاجر في السلاح، وهو صاحب المواخير والبارات وبيوت الدعارة، وهو الذي حَمَلَ لنا مرضَ الإيدز في سفرياته المشبوهة. والرجل يتملق السُلطةَ، ويغتصب النساءَ، وينتهك حرمات الرجال في السجون والمعتقلات، ويحفر مقابر جماعية باسم الزعيم لأبناء بلده، ويقوم بتزييف التاريخ وتزوير أوراق الوطن، ويُجبرنا على فهمه السقيم لاسلامنا الرائع والحنيف. والرجل يُهين المرأةَ ويضربها ثم يحلم في صلاته بالحور العين اللائي تعود لكل منهن عذريتها بعد الجماع. والرجل مريض بالمرأة يمارس معها سُلطة فَقَدَها في العمل بين يدي رئيسه، وفي قسم الشرطة تحت سوط ضابط الأمن، وأمام الفقهاء والعلماء وهم يشرحون له كيفية معاملة المرأة في الفراش والمضاجعة والحيض والنشوز، لكنهم لا يعلّمونه آدابَ السلوك، ورفضَ العبودية وقبل ذلك الحفاظَ على كرامتِه كمواطن حُرّ ومستقل.
الأولى: ألمس فيك غضباً عارماً يزلزل كياناً صغيراً وضعيفاً. إنك، أختي الصغيرة، في حاجة ماسةٍ لرجل يحميك، وصدر ترتمي فيه، وأسرة تصنعها نطفة ذكر فتصبحين أمَّ العيال.
الثانية: إنني أبحث عن كياني كمسلمة لا تحدد لها مفاهيمُ الرجل كل حركة وايماءة واشارة، أو يعتبرني عاصية ومنحلة لأنني أطعت اللهَ فكشفتُ وجهي.