-
عرض كامل الموضوع : حوارات أدونيس
verocchio
05/11/2007, 00:36
باس بيضون في حوار سجالي مع أدونيس
الملحق الثقافي - جريدة السفير
صيف 1998
هذا الحديث لا يحـتاج إلى مقدمة مع أنه يخرق سائر الأحاديث، فهو لا يستفسر بقدر ما يجـادل. وحاجتنا اليوم أكبر إلى سجال مع أدونيس، الذي تكثر الخصومة حوله وعليه، بدون أن تتحول إلى حوار خصب. وهناك من يبرأ منه، أو يعـاديـه دون شـرط. وإذا كـان مـهمـا تحـويل الخصومة إلى حوار فإن مواجهة أدونيس بما يثيره شعره وفكره من التباسات واعتراضات من شتى المطارح خطوة أولى وضرورية، أولى وضرورية لا لفهم أدونيس فحسب، بل لتعميق سجـالنا الشعري والفكري. هذا الحـديث لا يحتاج إلى مقدمة. إنه سجال ينطلق مع مجلدي أدونيس الأخـيرين "الكتاب 1" و"الكتاب 2" ليحيط بجـملة من مسائل تتعلق بتنظيره وإبداعه.
عباس : يطرح مرة أخـرى المشروع المؤلف من ثلاثة مجلدات. المجلد الثاني يزيد السؤال- إذا شئت- عمقا وإشكالا، إذا بدا المجلد الأول وكـأنه تناول شامل ثقافي فلسفي تاريخي بحـيث أن الشعر يبدو واجهة له وليس كل شيء فـيه، يطرح المجلد الثاني السؤال عن المشروع، هل المجلد الثاني امتداد لمشروع موجود وتوسيع وتصعيد تاريخي لمشروع موجود أصلا، أم أن له وضعا مستقلا؟
أدونيس : يضعني سؤالك الأول في موضع من يفرض عليه أن يشرح أو يفسر عمله الشعري، وهو ما كرهت طول حياتي الشعرية، أن أقوم به.
عباس : تدفـعني إلى طرح السؤال الخـشية من أن يكون الكتـاب الثاني امتدادا لا يضـيف شيئا إلى الأول، أو ليس فيه محطة جديدة- إذا قارناه، مثلا بالكوميديا الإلهية لدانتي، فإننا نجد في هذه ثلاث محطات الجحيم، المطهر، الجنة. فأين هو الموقف المختلف في الكتاب الثاني- المختلف وليس بالضرورة المتـضـاد ؟ أين المسـرح الآخـر؟ أين الإشكالية الأخرى التي نراها فيه، ولا نراها في الأول؟
أدونيس : ليس هناك مكان للمـقـارنة. "الكوميديا الإلهية " سفر في العالم الآخـر، في محطاته الثلاث، وفقا للرؤية الدينية. أما "الكتاب1" فهو سفر في التاريخ العربي، عبر المتنبي- حياة وذاكرة. ظاهر هذا التاريخ سياسي، هو بمعنى ما، تاريخ الحكم في علاقته السياسية بالمحكومين. الكتاب محاولة لكي أمسرح سر التاريخ العربي- سيـاسة وثقافة، ونظرة إلى الإنسان. وهو إذن صدمة للذاكرة العربية السائدة التي لا تتذكر أو لا تحب أن تتذكر إلا ما تحسبه جميلا وكاملا، أي ما يحجب الواقع والحقيقة- في كليتهما. وحجب الماضي يضم إرادة حجب الحاضر. الذاكرة العربية، كما تعاش، هي نوع من الحجاب.
وفي شكل "الكتاب" أو في تكوينه، ما يتيح لنا أن نرى من جديد هذا التاريخ بطريقة جديدة، في ما وراء هذه الذاكرة وضدها.
على أن التجديد الحق في الشعر ليس في تجديد الشكل الشعري، في حد ذاته، و انما هو بالأحرى في خلق فضاء آخر للتصور والفهم والمتعة الجمالية والعمل. هو في الكشف عن الطاقة ألانتهاكية عند الإنسان، وفي توليد حـركية للأنتقال من الحلم الخاص بالفرد، إلى اليقظة الكاملة في المجتمع. والبـعد السيـاسي في الشعر لا يجيء، في هذا المنظور، من الانخراط في موقف إيديولوجي والتعبير عن الالتزام به، وإنما يأتي من الرؤية الاختراقية أو ألانتهاكية التي يكتنزها هذا الشعر.
هكذا نشهد ثلاث محطات في هذا التاريخ، استنادا إلى المتنبي- بوصفه محكوما وشاعرا، وبوصفه مرتبطا بعصره ومشكلاته، وبوصفه أخيرا بؤرة للتناقضات السياسية والشعرية، نقرأ فيها عصره وقيمه وعلاقاته.
يتجلى المسرح الآخـر، وفقا لعبارتك في الكتاب الثـاني، في أربع قضايا:الأولى، الحـرب مع الروم وطبيعة العلاقة بين الذات والآخر، كما فهمها العربي آنذاك. الثـانيـة، إشكاليـة الخطاب السيـاسي في علاقته مع الخطاب الشعري. والثالثة، عذاب الذات وتناقضاتها وخاصة ما يتعلق بالموقف من الآخر الأجنبي- العدو، وفي الحب. وأخيرا إشكالية المدينة العربية: هل المدن العربية واحدة على كثرتها، أم أن كل مدينة تختلف عن الأخرى؟ وهي إشكالية تطرح عبر صديق للمتنبي ليس إلا صوتا ثانيا له- هو أبجد. فإذا كان لا بد من الكلام على المراحل، فهي مراحل حياة المتنبي، جحيما وجنة، متشابكة مع مراحل التاريخ العربي. والمرحلة التي سيمثلها الجزء الثالث والأخـير من "الكتـاب" هي الأفـول: موت المتنبي، متداخلا مع أفول الحضارة العربية.
عباس : مع ذلك، أشـعر بأن المشـروع الأسـاسي لا يزال هو نفسه كتابة نص يقترح نفسه نقطة تقاطع بين الفلسفة والتاريخ والشعر. وقد يكون هو نـفسـه أيضا بالمقارنة بين التاريخ والشعر، خاصة أن التاريخ في "الكتاب1" هو الذاكرة الميتة إذا جاز التعبير، والشـعر هو الذاكـرة الحيـة. لذلك فديالكتيك النص وإشكاليته هي نفسها بحيث أن التنويع الذي تتكلم عنه يبدو انه تنويع بالمسرح أو بالفضاء.
أدونيس : وما المانع؟ إذا كـان هناك في الكتـاب الثـاني تنويع في المسرح أو في الفضاء، فهذا يعني أنه ليس مجرد امتداد للأول. ولا أوافقك على وصفك له بأنه، (نص يقترح نفسه نقطة تقاطع... الخ)، وإنما هو نص يمسرح التاريخ العربي- وشخوص هذا المسرح هم العرب كلهم، في حيـاتهم اليوميـة والسياسية والثقافية. وهو لا يمسرحه بوصفه "نصا ميتا" كما تعتبر، بل بوصفه على العكس، الوجه الآخر النموذجي لهذا الذي نسميه المعاصرة أو الحداثة. وكما ينبغي علينا أن نرى في هذا المسرح العقل الذي يبدع، فإن علينا كـذلك أن نرى "اليد التي تقتل" كما يعبر نيتشه. التاريخ في "الكتاب" ليس "ماضيا". ذلك أن "حاضرنا" تكرار متقن لظاهره السياسي، ولباطنه الفكري. وفي مسرحته توثيق نتمرأى فيه من جهة، وانتهاك له وخـاصة في تمفصلاته السياسية- الدينية من جهة ثانية. أقول انتهاك- لأن أصوات الممثلين على المسرح (المتنبي، والخلاقون العرب في مختلف الميادين، سواء من قتل أومن نجا) لا تقول السماء وسياستها إلا بنبرة الإنسان والأرض: نبرة الحقيقة والحرية. إنها مسرحة أرضية- إنسانية، سماوية أو إلهية كما نرى في "الكوميديا" الإلهية". وفي هذا ما يفسر أن "الكتاب" ليس مجرد مشروع شعري- ذاتي، وانما هو مشروع لا تنفصل فيه الذات عن التاريخ. ليس، بتعبير آخر، مشروع أقرأ فيه ذاتي الشعرية، و إنما هو مشروع أقرأ فيه التاريخ. وفي هذا ما قد يفسر أيضا كون الفكر بعدا عضويا في شعرية الكتاب، وذلك لغاية أساسية: تعميق الانتهاك وتوسيع حدوده، عبر التأمل في أحداث التاريخ و سيرورته وبخـاصة نواته السياسية: السلطة. الإنسان كل لا يتجزأ، والشعر بوصفه التعبير الأعلى عن هوية الكائن الإنساني، لا يمكن أن ينفصل عن الفكر.
verocchio
05/11/2007, 02:17
عباس : لكن "أغاني مهيار" فيه بطولة، فيه تشخيص، فيه قيمة الشـعر، وقيمة التحول. وسؤالي هنا هو إلى أي مدى وأنت تكتب نثرا- إذا جاز التعبير- يتحـول موقفك نثريا بمعنى مـا، فإذا كـان موقف النثر في الشعر يختلف عن موقف الوزن، النثر دائما فيه يأس ولسوداوية، وربما فيه شكوك أكتر من الوزن الذي يظل فيه حماسة؟ أدونيس : استعير هنا تعبيرك الجميل وأقول الأمل، يا عزيزي، مريض الشعر- سواء في وزنه وشره. وقد تكون "الحـماسة" غطاء أو تمويها لحـزن لا يدرك قراره.
عباس : دائما هناك كلام عن الشعر، هناك سـعي لتعريف الشعر مـا الشـعر إن لم ير الجـذر/ إن لم يضئنا. والذي تكرره دائمـا في كلامك على الشعر هو الرؤيا، هذه الرؤيا التي أسلم بها، من حـيث المبدأ. لكن السؤال إذا كانت الرؤيا باستمرار أمرا غير ممكن التحديد، ألا تتحول إلى نوع من ميتافيزيقيا الشـعر، فنقول في الأخير أين هي الرؤيا؟ هل هناك حدود للرؤيا؟ هل نستطيع القول أن هذا الشعر فيـه رؤيا وذاك الشعر ليس فيه رؤيا؟ أي دليل نملكه؟ أي حدود نستطيع أن نرسمها؟
أدونيس : كل شعر هو بمعنى ما رؤيا، لكن هناك رؤيا متكاملة حول العلاقة بالوجود، وحول المصير. وهناك رؤيا خاصة ومحدودة في ما يتعلق بالحياة اليوميـة.. الخ. الفرق هنا فرق في الدرجة لا في النوع. الشعر كله نوع من الرؤيا. الكتابة كلها نوع من الرؤيا. لذلك من الصعب الجواب عن ذلك إلا حين يأخـذ المرء حـالة معينة ويدرسها ويرى إلى أي درجـة هي متكاملة، إلى أي درجـة تقدم شيئـا مختلفا، الخ.
لكني لا أستطيع أن أتصور شعرا يعطيك شيئا ويغنيك وله قيمة إلا إذا كان يقدم عن علاقتنا بالعالم والأشياء، نوعا من الرؤيا، أو رؤيا ما. أنا لا أقدر شعرا ليس له بعد ميتافيزيقي، لأن الحياة لا تقوم بالفعل إلا تراجيديا، وإذا لم يكن هناك من بعد ميتافيزيقي، فليس هناك تراجيديا. لذلك أحس بأن الشعر بدون بعد ميتافيزيقي ثانوي وزخرفي، لأنه لا يثير أية مشكلة كياني
verocchio
05/11/2007, 02:18
الوزن وسيلة سحرية عباس : هناك بعض التساؤلات حول "الكتاب" خـصوصـا الجزء الثاني. فهو مثلا، ينظم أخـبارا مـوثقة، وأحداثا. وليس لهذا النظم مكان محدد، فنحن نجـده تارة في المتن وتارة في الهـامش. وكـان في الجـزء الأول في الهـامش غالبا. لماذا يفعل ذلك شـاعر مثلك وضع دائما فارقا حادا بين النظم والشعر، وهذا جزء من عمله النقدي. وهو الآن ينظم أشياء تبدو للوهلة الأولى أنها ليست في حاجة إلى نظم- مجرد أخبار. فما أسباب ذلك؟
أدونيس : كل حدث رواه الرواة، أو كل عمل واقعي أرخ له - في ما يتصل بطقس القتل، خصوصا أردت قصديا أن أعيد صياغته وزنا. وقد أشرت إلى هذه القصيدة في مستهل الهامش في الكتاب الأول.
لأقل، بتعبير آخر، أنني قصدت عامدا أن أخرج هذا الحدث أو العمل من نثريته التي روي بها، وأن أعيد روايتـه مدخلا إياه في نسق يرتبط بالذاكرة الشعرية. وبهذا يكتسب شرعيته، بوصفه رمزا للممارسة السياسية، من جهة، ولغة طقسية لاحتفال مأتمي من جهة ثانية، خصوصا أن الحدث هنا أو الفعل متصل غالبا، بقتل الإنسان. إنه ملهاة - مأساة: إذ يبدو ظاهريا، كأنه نوع من اللعب أو الاحتـفـال المأتمي، يكرر بشـغف وغبطة، كـأن الأضاحي البشرية فيه شرط ل "مجد" السلطة. وقد رأيت أن إعادة صياغته وزنا تحدث تأثيرا خـاصا في القارئ، بفعل الطقسية الشـعرية الكامنة في الحدث ولغتـه، وتجـعل هذا الحـدث الغابر كأنه "حي" مستعاد. فالشعر بوصفه طقسا، إنما هو تحيين للتاريخ. هكذا يبدو الوزن هنا مجرد وسيلة "سحرية"- إذا شئت ولا يصح أن ينظر إلى الهامش إذن إلا من هذه الزاوية- بوصفه تحيينا طقسيا بالوزن للنثر الإخباري أضيف أن في هذا النظم استعادة لأسلوب قديم في السرد الموزون (لا ننس السردية النثرية التي تهيمن اليوم على الشعر في كثير من لغات العالم، وبينها اللغة العربية، بحيث أن القصيدة تصبح أقصوصة)- واستعادة لمناخ خاص في العلاقة بين النظم والحـدث، وذلك تعميقا لعمل الذاكرة، وتحـقيقـا لنوع من التطابق المثلي بين الماضي والحاضر، بين الذاكرة والواقع. فحين نسرد الأعمال أو الأحـداث وزنيـا، بلغـة وإيقاعات بسيطة في مستواها الشفوي، نعطي لما نرويه كتابيا، نكهة الحضور المتواصل، بحيث يبدو ذلك شبيها بعقد نافرة في الخيوط الشعرية التي تربط بين مراحل التاريخ، وفي هذا أستعيد أيضا بعض العناصر المغيبة، لكي تكتمل صورة العلاقة التاريخية العربية، بين لغة الشعر والأحداث الواقعية. إنه نوع من التوثيق أردته قصديا، كما أشرت. عدا أن الذات هنا غائبة. لا حضور إلا للحدث نفسه. والشاعر مجرد راو، لا بلغته هو، بل بلغة الرواية التاريخية، العامة، "الموضوعية". وفي ذ لك ما يعطي الوجه الآخر الذي هو نقيض للذاتية الطاغية في الشعر العربي- والتي "تمحو" الحدث لا ترى ، "الشيء".
عباس : كان لدي إحساس بأن هناك أمورا أو أحداثا قصد أن تكون نظما. حتى في المتن، هناك أحيانا أخبار منظومة. مثلا كلامك على أبي نواس وما قيل فيه.
أدونيس : قلت وأكرر أنني تعمدت أن أعيد صياغة بعض الأحداث والأقوال، بشكل موزون. أشعر في هذا الإطار، بأن تقديم أبي نواس بما قيل عنه في وقته، وفي شكل موزون، يعطي لموقعه في تاريخنا الشعري بعدا رمزيا، أكثر دلالة من تكرار ما قيل عنه بصيغته ا لنثرية. الاستشهاد أو التمثل بعبارة قديمة نوع من العودة إلى أصل اللغة- الكلام، عودة لا تتضمن الارتداد أو المحافظة، و انما هي اسـتـعـادة للغـة القديمة، مفرغة من نمطيتها. وهي في سياقها المختلف، توكيد آخر على أن الماضي لا يزال حيا- وهذه من الأفكار الأساسية التي توجه الكتاب كله- وبخاصة في كل ما يتصل بالعلاقة بين السلطة والفكر، والفنون بعامة، أو بين السياسي والشاعر. وفي الاستشهاد، على مستوى آخر، ما يشير إلى أن أبا نواس فهم ماضيا- في عصره، بشكل أعمق مما يفهمه عصرنا. وفيه أيضا توكيد على أننا لا نملك قانونا مطلقا للتقدم الثقافي نستطيع أن نقول على أساسه، بشكل قاطع ومطلق، إن عصرنا الراهن أكثر تقدما في العمق، من العصور السابقة. وبهذا المعنى مرة ثانية، لا تنفصل الرؤية الجمالية عن الرؤية الفكرية أو الفلسفية للتاريخ. اسمح لي بأن أعود هنا إلى المسألة السردية في الشعر، سواء كان السرد منثورا أو موزونا. تعرف أن هذه المسـألة هي التي تطغى الآن على الكتـابة الشعرية في العالم. وهي في تقديري عودة للحياة اليومية، أو لنثرها الغامر، عبر عودة أعمق إلى الشعر القديم بدءا من جلكامش، مرورا بهوميروس وفيرجيل ودانتي. وتعرف خيرا مني أن كافافيس وريتسوس يقودان هذا الاتجاه في عصرنا الراهن إضافة إلى فرنسيس بونج- مع فارق هو أن كتابة هذا الأخير تتمحور حول الأشياء في حين تتمحور كتابة الشاعرين الأولين حول الأشخاص. تعرف كذلك مدى التأثير الذي يمارسه هذان الشاعران على اللغة الشعرية العربية اليوم. في نصوص هؤلاء الشعراء أو جلها، إرادة لتغييب الذات، أو لأقل: ليست الذات حاضرة فيها إلا بوصفها راوية.
عباس : : ولكنك فعلت شيئا أكثر إرادية، كفافيس مثلا ينظر في التـاريخ الإغريقي والهلليني- يعمل على قصة ويعيد بناءها. أنت في أمـاكن كـثيرة قمت بنظم الأثر أو الخبر لا أكثر. والسؤال لماذا لم تقل ذلك نثرا؟ لماذا- وهذا الغريب- يبدو الشعر أحيانا في نثرك أكثر مما يبدو في وزنك؟
أدونيس : لا أجـادلك في الفقرة الأخـيرة من سؤالك. فالشعر ليس محصورا في شكل دون آخر، وقد يكون موجـودا في النثر أكثر منه في الوزن. والعكس صحيح. غير أنني أخـالفك في الفقرة الأولى. فليس صحيحـا أن كـفافيس يعيد دائما بناء القصة القديمة أو الحدث. خذ، لا على التعيين، ما شئت من قصائده، أو خـذ تحديدا قصائده: على مشارف أنطاكية، وصفة لسحرة يونانيين قدامى من سوريا، ألكسندروس وألكسندرا، في الطريـق إلى سينوبوس، أمير من ليبيا الغربية، لم يحدث أن فهمت... وماذا أيضا، نستطيع أن نضيف قصائد أخرى كثيرة. أقول هذه القصائد لا تقوم على إعادة بناء للأصل، وانما هي سـرد استـعـادي. بل أن قصيدة مثل "ايمينوس" ليست إلا فقرات لإيمينوس نفسه، يبثها كما هي، ثم يختمها معلقا: "هذه فقـرات من خطاب للشاب إيمينوس وهو سليل أسرة رومـانيـة نبـيلة، اشتـهر بالانحلال في سيراقوسة في العهد المنحل لميخائيل الثالث".
واسمح لي بأن آخـذ مثلا من الكتاب، الجـزء الثاني، يتعلق بهامش عن آدم حفيد الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي ضربه الخليفة المهدي ثلاثمئة سوط بتهمة الزندقة. وكان يؤكد للخليفة قائلا: ،( والله، ما أشركت بالله طرفة عين. ومتى رأيت قرشيا تزندق؟ ولكنه طرب غلبني، وشعر طفح على قلبي، وأنا فتى من فتيان قريش، أشرب النبيذ وأقول على سبيل المجون). هذا الخبر- الحدث روى في الهامش (الكتاب، الجزء الثاني، ص 36) أو"نظم" كما تعبر، بالشكل الموزون التالي:
"لم يكن آدم يتزندق. ما قاله
جاء فيضا على القلب، من طرب وانتشاء
كان هذا مجونا.
ويؤكد أصحابه :
لم يكن آدم مشركا"،.
فهل هذا الهامش هو حقا، مجرد "نظم" لذلك ا لخبر- الحدث؟ والأمثلة من هذا النوع هي الغالبة في الهامش. أظن أنني ميال، هذه اللحظة، إلى أن أدعوك لإعادة قراءة الكتاب.
عباس : مرة أخرى. ما الكتاب؟ هل هو- ببساطة- مجموعة شعرية أو كتاب شعري، وهو بالتأكيد ليس كذلك برأيي، هناك نص، جزء كبير منه إرادي ومصنوع ومقصود، كـما أنه على الصـعيد الشـعري البحت، يبدو كأنه خـلاصة شـعـرك، بمعنى أنه في كل فنك، من غـيـر أن يكون بالضرورة تجديدا لهذا الفن. فمقارنة "بأغاني مهيار" أو "مفرد بصـيغة الجمع "، يبـدو كأنه يتابع هذه الكتب ويعمل عليها. لكن القصد لا يبدو أنه الفن الشعري ذاته، فما هو "الكتاب"، بهذا المعنى؟
أدونيس : تصر على وضعي في موقع الشارح المفسر لعمله. ليكن، لا شك في أن بين "الكتاب" وشعري السابق صلة عميقة. فهو بمعنى ما، أفق آخر في سياق ما كتبته حتى الآن. غير أنه في الوقت نفسه، مخـتلف عنه- بناء وطموحا- وأوسع منه آفاقا ودلالات. فهو ينهض، بنائيا، على تعددية تشكيلية تتمازج فيها وتتواكب صور تعبيرية متنوعة: وزنية، نثرية، سردية، شذرات واستشهادات، أشياء الذات وأشياء العالم، أشياء السياسة وأشياء التاريخ، وقائع كأنها خرافات، وخرافات تعاش يوميا كأنها هي وحـدها الواقع- في صراعـات وتأرجحـات واحـتمالات ومفاجآت تعكس الأزمة الكيـانية العربية، أزمة الهوية والصيرورة، بحـيث يبدو "الكتاب" نفسه هو أيضا أزمة فنية- تعبيرية. واضح إذن أن "الكتـاب"، هو كما تقول، ليس مجرد مجموعة شعرية، وائما هو مشروع. وهو بوصفه مشروعا متعدد اللغات: تتمازج فيه لغة الرؤية الشـعرية، ولغـة الرؤية الفكرية، ولغـة الرؤية التاريخية- في عقدة نواتها العميقة تلك العلاقة الغامضة المعقدة بين العربي والعربي، وبين العربي والآخـر، وبين الإنسان والكون. وفي تراثنا الكتابي- الفني نماذج أولى لهذا المشروع نجدها خـاصة عند المعري وعند ابن عربي. "الكتاب"، في هذا الأفق هو "اللزوميات" و" رسالة الغفران" معا، منصهرين في كتاب واحد. وهو "ترجمان الأشواق" و"الفتوحات" ذائبين في تموج واحد.
"الكوميديا الإلهية" لدانتي ليست نموذجـا للكتـاب. ذلك أنها من جهة، تستقي كثيرا من العناصر التخييلية العربية، ومن جهة ثانية سفر تصاعدي في الأفق: جحـيم، مطهر، جنة. بينما "الكتاب" سفر في جحيم متواصل، يتنوع إلى ما لا نهاية. وهو إذن، سفر في عمق الكينونة العربية. وليس الوقوف عند تجلياتها في الممارسة، إلا لمزيد من الغوص في أغوار هذه الكينونة. "الكوميديا الإلهية" سلم صاعد. "الكتاب1" دوائر هبـوط في الكينونة، واسـتقصاء لأبعـادها ومظاهرها. وهو في هذه الزاوية أكـثـر قربا إلى مشروع نيتشه في رؤيتـه للحضارة الغربية المسيحية، منه إلى مشروع دانتي- هذا إذا وافقت معي على أن مشروع نيتشه هو أساسيا فني- فكري: فن بلغة الفكر، وفكر بلغة الفن. ومن هنا لا يقرأ "الكتاب" إلا بوصفه كلا- بوصفه قصيدة واحدة، بتنويعات. وهو بوصفه كذلك خروج من نظام القصيدة- الأغنية الذاتية، التي هي قوام " ديوان العرب". واستطرادا، أود أن أشير إلى أن شعر الحداثة العربية استمرار لهذا التقليد: القصيدة- الأغنية. وبهذا المعنى تواصل الحداثة الشعرية العربية كتابة شعرها وفقا للبنية الفنية العميقة التي أسست لها اللغة الشعرية القديمة. فالحداثة على مستوى البنائية الفنية، استمرار للقدامة. غيرت الثوب، لكنها لا تزال، على الرغم من ادعاءاتها المناقضة، تدور في البنية القديمة ذاتها، في الحدس الأساسي للقصيدة العربية القديمة. لا يمكن استطرادا، تأسيس قطيعة مع الماضي إلا في سياق علائقي: علاقتنا بتاريخنا، علاقتنا بالمجتمع وعلاقاتنا بالطبيعة وأشيائها، علاقتنا بالآخر. بدون هذا السياق العلائقي، لا تكون القطيعة إلا لفظية، هكذا، ربما أردت أن أجعل من "الكتاب" صورة للإنسان العربي في تناقضاته- بين ماضيه وحـاضره أولا، وفي تناقضاته الأخلاقية والفكرية والتعبيرية- على نحو خ
verocchio
05/11/2007, 02:18
مدن مختلفة
عباس : إذا، نحن لسنا أمـام كـتاب شـعر بالمعنى البسيط للكلمة؟
أدونيس : لا، طبعا. هو كمثل اسمه "كتاب"، كتاب جامع.
عباس : أسـأل نفسي سؤالا لدى قـراءتي الكتاب (المجلد الأول والثاني) ولا سيـمـا الثـاني، هذا الكتـاب أولا بتـسلسله التاريخي، وثانيـا بتركـيزه على خيط مـضيء ومـتـسلسل ويعـبـر عنه بالشخـصيات، وهي شخصيات تكاد لا يجمعها شيء محدد، فهي بين ناسك وفاجر، زنديق ومؤمن الخ.. يجمعها إلى حـد كـبير- مشاركـتها بنهضة ما، بحضـارة، بموقف غير تقليدي. هل هذا في موازاة الشعري، هل الكتاب في موازاة الثـابت والمتحول، بحـيث يبـدو أن خطة الثابت والمتحول موجودة هنا فكريا إلى حد كبير؟
أدونيس : بشكل ما، إذا أردنا التبسيط.
عباس : إذا رجعنا للكتاب نفسه، هذا الحجم (600 صفحـة تقريبا) الذي يشكل تبعا لخطة تتكرر تقريبا، هناك شعر للمتنبي، بيت للمتنبي، هناك- إلى حد كبير- وقائع وشخصيات، وهناك ما يمكن أن نسميه الرواية، وهناك المدن التي جـعلتها أبجـد، في هذا الكتاب، هل انبنى نص متصـاعد، كل خطوة فيه مفترقة عن الأخرى، أم أن طابع السيولة الشعرية جعل الأشياء إلى حد أكثر اختلاطا، أو تمايزا؟
أدونيس : بناء، "الكتاب" كما خططت له أساسا، ليس تصاعديا، بالمعنى الذي تشير إليه. بناؤه دائري، شبكي. التصاعد إن كان لا بد من الكلام عليه، هو في وتيرة الانفجار، في التوتر والتأزم، في حياة المتنبي وتقلبات العلاقات. فقارئ "الكتاب" لا يصعد سلما، بل يهبط في الأنفاق والمخابئ. لا يسير من " قدم" الحكاية إلى "رأسها" أو العكس، إنما يجيء ويذهب في جسد التاريخ العربي، في شرايينه وأغواره، وفي جميع ا لاتجاهات.
عباس : أريد أن أسأل عن أبجد المدن. هل هذه المدن مدينة واحدة؟ أهي مـدن مـتمايزة؟ ألها ما يقابلها في المدن العربية؟
أدونيس : هي نماذج أو رموز للمدينة العربية، أو للمدن العربية.
عباس : أهي مدن محددة؟ ما لم أفهمه هو الجانب المكاني في هذه المدن. تحس أنها مدن أفكار. مدن تعبر عن المفهومات أكثر مما تعبر عن الأمكنة.
أدونيس : وهذا ما قصدته، الارتفاع بواقع المدن العربية إلى مستوى الرمز، لكي تجيء الإضاءة أكثر شمولا. والمدينة، إبداعيا أو حضاريا، زمن أكـثر مما هي مكان. ليس مكان المدينة هو ما يعطيها هويتها- وانما يعطيها هويتها زمن هذا المكان: كيف يتحرك، بماذا "يمتلئ" وكيف؟ فالكتاب لا يقدم توثيقا جغرافيا أو تاريخيا. لا يقدم دراسة طوبوغرافية لهذه المدن. ولهذا فهي، بالضرورة، رموز، ومفهومات وعلاقات، وصور، و مجازات.
عباس : لكن هل تكرارية المجتمع العربي تقتضي أن تقابلها تكرارية شعرية؟
أدونيس : ماذا تعني بالتكرارية الشعرية؟ هل هي مثلا في أن يكتب الشاعـر عن الموت وحـده، ولا شيء غيره؟ أو عن الحب ولا شيء غيره؟ التكرار لا يكون في المادة أو الموضوع، وإلا لكانت المادة الشـعـرية مكررة منذ بدايات القول الشعري، ولكانت نفدت وانتهت، ولكان الشعر انتهى. التكرار يكون في طريقة القول وزاوية الرؤية، وطرق القول لا تنتهي. أهناك تكرار في "الكتـاب" على مستوى طريقة القول، لا أظن. لكن هناك إلحاح (ولا أقول تكرار) على التعبير عن مادة العنف والقتل؟ وهو تعبير- تنويع متعدد للإحاطة بجميع الدقائق والتفاصيل الخاصة بهذه المادة
verocchio
05/11/2007, 02:18
تكرار أم تحول
عباس : أنا أفهم ذلك، ولكن السؤال إذا كان التاريخ العربي كله متكررا، وعنفا متكررا، وإذا كانت المدن العربية تملك تكرارا مماثلا، فهل هذا يبرر كتابة نص يخـترق التاريخ من أوله إلى آخـره؟ المدن من أولها إلى آخرها؟ ألم يكن ممكنا تقديم أمثلة؟
أدونيس : الأمثلة لا تبين رسوخ هذا الطقس، ولا التفنن في القتل. افترض أن القارئ عندما يقرأ هذه الأشياء يعرف الأمثلة، ضع بغداد خلال عشرين سنة في التاريخ، لماذا ينسى العربي الذي يتكلم في الحرية والشعر والإبداع، ماذا فعلت بغداد أو ماذا حدث فيها، خلال تلك السنوات العشرين؟ ولماذا نتحدث عما فعله العقل والقلم، ولا نتحدث عما فعلته اليد والقنبلة؟ كم عدد القتلى وكم عدد الموتى والمساجين.. أليس لهذا معنى، لماذا ننسى ما يحدث في الجزائر مثلا؟ صرت ميالا إلى القول أن في بنيتنا العميقة ميلا للدفاع عن عبوديتنا، لأن تلك الرؤية التي تقول إن تاريخنا عظيم ومضيء، هذه الرؤية هي في الواقع دفاع عن السلطة، و تماه مع السلطة، وكما نرى الكتاب اليوم يتماهون مع السلطة لسبب أو لآخـر و بشكل أو بآخر، فهم لا يستطيعون رؤية تاريخهم الذي هو تاريخ السلطة. يخافون من أن يواجهوا أنفسهم. يهربون دائما في نوع بائس من امتداح الذات، والقاء الأخطاء على "الآخـر". إن تاريخ السلطة العربية تاريخ أسود وأعمى ويجب فضحه وكشفه، كله قمع وعنف، أما التـاريخ العربي الآخر، تاريخ الكتـاب والمفكرين والشعراء، فله المكان الأكبر في الكتاب. والسؤال هو: لماذا لا يرى القارئ، قارئ "الكتـاب"، إلا ذلك المكان "الأصغر"- مكان العنف والقتل؟ والجواب هو أن السبب عائد إلى أن في ثقافة العربي ارتبـاطا بنيويا بالسلطة، واستعدادا ليكون خـاضعـا وتابعا، إلى درجة التماهي. وهو عائد كذلك إلى أن العربي يخاف من مواجـهة الذات، من مواجهة أخطائه، من مواجهة نفسه.
عباس : هذا الكتاب، الذي هو على مـفرق التاريخ والفكر والشعر، هل تراه فكرا أم تاريخا، أم تراه في الدرجة الأولى شعرا؟
أدونيس : أراه كلا لا يتجزأ، الكتـاب فكر وتاريخ وشـعر معا.
عباس : هو بالدرجة الأولى شعر إذا، أي ليس تاريخا بمعنى كتب التاريخ، وليس فكرا بمعنى الفلسفة.
أدونيس : هو شعر، لكنه شعر يصدرعن مفهوم يرى القصيدة عالما يتداخل فيه التـاريخ، والفكر، والفلسفة، والسياسة، أي هو مزيج من كل شيء، ولذلك يطرح الشعر في الكتاب سؤالا حول مفهوم الشـعر عند العـرب أمس واليوم. تقـرأ متـلا هوميروس وفيرجيل، فترى أن شعرهما سرد كـامل- تقرأ أراغـون، فتـرى فيه سردا ومقاطع تاريخية وقصصا. تقرأ عزرا باوند، الشيء نفسه، مقاطع كاملة من التاريخ... الشعر تعبير كلي وشامل.
عباس : ولكن عندما يكون في النص تاريخ حرفي من الأول للأخر بهذا الشكل، يطرح السؤال عن الفرق بين الشعر والتـاريخ. أين حد الشـعر وأين حـد التاريخ كما يقول العرب،
أدونيس : ليس هناك تاريخ حرفي، وانما هناك وقائع تاريخية بحرفيتها- أحيانا، القصد منها تجاوز التجريد. القصد منها الالحاح على لازمة سياسية، لازمة العنف والقمع والقـتل في تاريخ السلطة العربية. هذه الوقائع تصير شعريا داخل النسيج العام. أختلف معك في هذه النظرة، مجرد ذكرها والإلحاح عليها وتكرارها، شيء مهم وجديد في الكتابة الشعرية العربية.
verocchio
05/11/2007, 02:19
قوة الشعر وشكوكه عباس : هذا الكتاب الكلي، يبدو طموحـا لأن يكون جـامـعا للثقافة العربية وتقديمها بشكل أو بآخر، أعود لأشير إلى علاقة الشـعـر بالنثر فـيه، بمعنى القصيـدة النثرية والقصيدة الموزونة، لاحظت أولا أن في الكتاب شعرا نثريا أكـثر من الوزن، إلى أي مـدى هذا مقصود، وثانيـا أن القصيدة النثرية تبدو وكأنها تقول شيئا، مختلفا- في أحـيان- عمـا يقوله الوزن، ففي الوزن هناك شيء من الكلام ذي الصوت العالي الذي فيه اكتمال ذاتي، وفيه ثقة ويقين (شـمسـه مثلا، أمواجه) نوع من تكامل الأنا والفرد، فيما تبدو القصيدة النثرية قصيدة شكوك، فلو أخذت( ربما بفعل هذه الغيمة لم يزل عمود سمعان/ لم يكن في حـاجـة إلى أن يحول حـياته إلى عمود آخـر، بمعنى هل الكتـابة هي وحـدها الشتاء، هي ذي يراها كمثل ثمار تتساقط ولا يأبه لها حتى البستاني/ الذي أمضى حـيـاته ساهرا عليها...) في النثر، هناك تشكيك بقوة الشعر التي يبدو أن الوزن تأكيد لها.
أدونيس : انطبـاعك هنا، كما يخيل إلي، سريع جدا. النصوص الوزنية في "الكتاب"، مليئة بالتساؤلات والشكوك، حـول كل شيء، بدءا من الذات. لا تكاد تخلو صفحة منها. بل أنها أكثر إيغالا فيها من النثر. كل شيء في هذه النصوص يبدو كأنه على الحـافة، فوق الهاوية، يكاد أن يسقط. كل شيء قلق وضياع. مرة ثانية، أعد القراءة. وآلا فأنت آخذ بدفعي إلى القول أن الوزن في القصيدة، مجرد الوزن، يحجب عنك شعريتها. وهذه ظاهرة قرائية نراها عند كثير من الكتاب الشبان، اليوم. وأنت بنعمة الشعر، لم تعد شابا فأنا لا أقصدك. كأن لسان حـال كل من هؤلاء هو: عندما أرى شعرا موزونا، لا أقدر إلا أن أصوب مسدسي! الوجه المقابل تماما لمن يقول: لا شعر خارج الوزن. ما أسباب ظاهرة كهذه؟ ليست، في كل حال، ثقافية أو فنية، و إنما هي، بالأحرى، ثبوتية في الموقف، ذلك أنني لا أتصـور شاعرا فرنسـيا أو إنكليزيا، يتهم شعر بودلير أو مالارميه أو شكسبير باللا شعرية، لمجرد أنه شعر موزون! كذلك لا أتصور شاعرا عربيا حقيقيا يتهم شعر امرئ القيس أو أبي نواس أو المعري باللا شعرية، لمجرد انه شعر موزون! و انما يمكن ألا نعجب بشعر هؤلاء، لكن لأسباب أخرى، لا تتصل بالوزن. ربما، حين أتكلم بلسان المتنبي، يحس القارئ أحيانا بما تشير إليه- بالتكامل، و بالتماهي مع الذات والطموحـات. لكن في معظم النصوص، لا نحس إلا بالقلق والتساؤل والشك والعـبث، والتبعثر والتفكك، اقرأ الهوامش الخاصة بالشعراء والمفكرين. اقرأ نصوص الحرب بين العرب والروم. اقرأ مذكرات سيف الدولة. اقرأ أوراق خولة. اقرأ دفاتر المتنبي نفسه. لن تجد غير التأرجح فوق الهاوية: هاوية القلق، والشك والتساؤل. أجدني هنا مضطرا إلى أن أشير إلى البنيـة التشكيلية الفنية في "الكتاب"، وهو ما لم تطرح حوله، حتى الآن، أي سؤال، وهو مما أستفسر به- خصوصا أنها بنية لا يعرفها الشعر العربي. ففي تكوين الكتاب تشكيليا تتلاقى الأزمنة والأمكنة في الصفحة الواحدة: لحظة الذات ولحظة الآخر، لحظة الشيء والوقائع، لحظة الماضي ولحظة الحاضر، ويزدحم فيها العبث والفوضى واللايقين. وهذا يعكس التنور والتناقض، في الشخص، وفي المكان والزمان، وفي التاريخ والمجتمع.
عباس : مـع اعتـرافي بأن هذه اللحظات- بتـواجـهـهـا واجتماعها- تعطي دينامية وجدلا للنص، ولكني أبقى أحس وكأن مـوقف الوزن- إذا جـاز التـعبير- موقف أساسي في شـعرك، باعتبار أن الشاعر هو- إلى حد كبير - إنسان أعلى، والشعر- إلى حد كبير هو خلاص.هو نوع من ذاكرة حية، يبدو موقف الوزن وكـأنه موقف الشعر، بينما في موقف النثر شكوك عميقة في الشعر وفاعليته وبقيمته وحتى بإمكانه.
أدونيس : لكن في التحليل الأخير، يقوم شعري كله، سواء في وزنه ونثره، على الشك العميق، لا مع العالم وحده، بل في ما يفترض انه الملاذ والملجأ- أي الشعر. وهذا مما يأخذه علي، أساسيا، بعضهم - أولئك الموقنون المؤمنون. وذلك بدءا من "أغـاني مهيار"، حتى أن من الممكن قراءة كتاباتي كلها في ضوء هذا السؤال: ماذا يقدر الشعر أن يفعل في ظلام العالم
verocchio
05/11/2007, 02:19
الرؤيا
عباس : لكن "أغاني مهيار" فيه بطولة، فيه تشخيص، فيه قيمة الشـعر، وقيمة التحول. وسؤالي هنا هو إلى أي مدى وأنت تكتب نثرا- إذا جاز التعبير- يتحـول موقفك نثريا بمعنى مـا، فإذا كـان موقف النثر في الشعر يختلف عن موقف الوزن، النثر دائما فيه يأس ولسوداوية، وربما فيه شكوك أكتر من الوزن الذي يظل فيه حماسة؟
أدونيس : استعير هنا تعبيرك الجميل وأقول الأمل، يا عزيزي، مريض الشعر- سواء في وزنه وشره. وقد تكون "الحـماسة" غطاء أو تمويها لحـزن لا يدرك قراره.
عباس : دائما هناك كلام عن الشعر، هناك سـعي لتعريف الشعر مـا الشـعر إن لم ير الجـذر/ إن لم يضئنا. والذي تكرره دائمـا في كلامك على الشعر هو الرؤيا، هذه الرؤيا التي أسلم بها، من حـيث المبدأ. لكن السؤال إذا كانت الرؤيا باستمرار أمرا غير ممكن التحديد، ألا تتحول إلى نوع من ميتافيزيقيا الشـعر، فنقول في الأخير أين هي الرؤيا؟ هل هناك حدود للرؤيا؟ هل نستطيع القول أن هذا الشعر فيـه رؤيا وذاك الشعر ليس فيه رؤيا؟ أي دليل نملكه؟ أي حدود نستطيع أن نرسمها؟
أدونيس : كل شعر هو بمعنى ما رؤيا، لكن هناك رؤيا متكاملة حول العلاقة بالوجود، وحول المصير. وهناك رؤيا خاصة ومحدودة في ما يتعلق بالحياة اليوميـة.. الخ. الفرق هنا فرق في الدرجة لا في النوع. الشعر كله نوع من الرؤيا. الكتابة كلها نوع من الرؤيا. لذلك من الصعب الجواب عن ذلك إلا حين يأخـذ المرء حـالة معينة ويدرسها ويرى إلى أي درجـة هي متكاملة، إلى أي درجـة تقدم شيئـا مختلفا، الخ.
لكني لا أستطيع أن أتصور شعرا يعطيك شيئا ويغنيك وله قيمة إلا إذا كان يقدم عن علاقتنا بالعالم والأشياء، نوعا من الرؤيا، أو رؤيا ما. أنا لا أقدر شعرا ليس له بعد ميتافيزيقي، لأن الحياة لا تقوم بالفعل إلا تراجيديا، وإذا لم يكن هناك من بعد ميتافيزيقي، فليس هناك تراجيديا. لذلك أحس بأن الشعر بدون بعد ميتافيزيقي ثانوي وزخرفي، لأنه لا يثير أية مشكلة كيانية.
verocchio
05/11/2007, 02:20
العمود
عباس : أسـألك عن عودتك إلى الشـعر العـمودي في هذا النص، بينمـا بدا وكـأنه فـتـحـت مـعركـة مع الشـعر العمودي؟
أدونيس : هناك بعض القصائد لا أسميها عمودية بل أسميها تفصيلية، العمود مصطلح نقدي خاص، نستخدمه أحيانا بدون تدقيق، فأركان العمود متعددة، أما الأوزان أو التفاعيل فشيء مختلف. خذ البحـر الطويل مثلا عند امرئ القيس وخـذه عند المتنبي. فهو مع أنه بحر واحد تحس انه عند المتنبي شيء وعند امرئ القيس شيء آخر. فليس البحر هو ما يحدد هوية الشعر، بل حركة الشاعر داخل هذا البحر أو معه، لو كان البحر هو ما يحدد لكان جـميع الشـعراء الذين يكتبون على بحر واحـد متساوين. ولذلك ليس المهم الوزن في ذاته، إنما الأساس هو حركة الشاعر الروحية أو الإيقاعية داخل الوزن، والمهم نظام الرؤية ومنطق العلاقات. نجد ما يشبه هذه المشكلة لدى كتاب قصيدة النثر. فالحق أننا نجد عند بعضهم جملة واحدة وصيغة واحدة وتكوينا واحدا تتكرر جـميعها على مدى كتاباتهم كلها. إما جملة اسمية أو جملة فعلية نادرا، وعلاقة الفاعل بالمفعول والضمير بغيره والكلمة بغيرها، هي تماما بنية واحدة تتكرر على مدى القصيدة. وهذه تظهر في النثر أسوأ من الوزن، فالوزن تنقذه الموسيقى قليلا. الوزن يغطي ويحجب، ويموه.. أما في النثر فتبدو هذه الأمور بشكل جلي فاضح. وأكرر أن المسألة ليست مسألة الوزن بل هي مسألة الحركية فيه والأبعاد الموسيقية وتكوين العلاقات بين الكلمات والأشياء.
عباس : هل ما بني نقديا في فترة بدايات القصيدة الجديدة، هل مـا بني على نقد العـمود الشـعري ومـا نسب لهذا العمود الشعري، هل هو خطأ برأيك؟
أدونيس : لا، إطلاقا، لكن يجب أن نميز بين المتنبي ومن قلد المتنبي، في كتابتي لم أكن مرة ضد الأوزان بحد ذاتها، الخليل عبقري، اكتشف ستة عشر إيقاعا ليس لها مثيل، هذه عبقرية كبرى مقارنة باللغات الأخرى وموسيقى اللغات الأخرى. لكن أين الخطأ، الخطأ أن تنسج على منوال الآخرين. نحن في نقد العمودية كنا ضد تقليد العمودية، ولم نكن ضد الأوزان أو البحور في حد ذاتها، إطلاقا. اسمح لي هنا بأن أستغرب تركيزك على بضعة مقاطع كتبت بالوزن، وتبعا لنظام الشطرين، وعدم الانتباه إلى أن أشكالا متعددة من الكتابة الشعرية وأنواعا كثيرة من الإيقاعات تتجاوز وتتلاقى في "الكتاب". النثر فيه حـاضر إلى جـانب القصيدة التفعيلية. فهل ترى في هذا الحضور رفضا لقصيدة النثر؟ أم المسألة على عكس ذلك؟
عباس : هناك، اليوم، من يكتب بالبحور نفسها…
أدونيس: طبعا. لكن مع غلبة النمطية. وهذا ما نقدته في مقالتي عن الجواهري. فقد بقي إجمالا داخل النمطيـة الوزنية- شكلا و إيقاعا. عندما تقارنه مثلا، مع المتنبي أو مع أبي نواس، أو مع أبي تمام، فإنك تجد أن حركية هؤلاء الفنية- التقنية، داخل الوزن وقياسا إلى معظم الشعر الجاهلي، أغنى وأعمق وأكثر حيوية من حركية الجواهري- قياسا إليهم.
عباس : هل لأن الجواهري تقليدي، أم لأن القصيدة العربية استنفدت؟
أدونيس : بل لأن الجواهرى متمسك بوزنية كلاسيكية صارمة، ومنمطة. الشعر لا يستنفد. وكذلك الوزن. التنميط هو الذي يستنفد. القصيدة العربية، نمطيا، فخ حقيقي. كمثل قصيدة النثر اليوم. فما إن يبدأ الشاعر العبارة الموزونة نمطيـا، حتى يسقط في البنى التقليدية كلها. لقد صارت نمطا من التفكير والتذوق يصعب الفكاك منه إلا بسيطرة كـاملة على الوزن واللغـة وإيقاعاتها جميعا، وإلا بالقدرة الثقافية- الإبداعية على الفصل بينه وبين البنى الفكرية التي اقترنت به. وآنذاك تمكن الكتابة بالوزن دون الوقوع في النمطية أو التقليد. غير أن التخلص من هذه القيود مع استغلال أو استثمار الغنى الإيقاعي في اللغة معادلة صعبة لا تنجح دائما، لكنها إذا نجحت فتحت أبوابا جديدة لموسيقية الكتابة الشعرية. وهذا نوع من التحدي والاختبار. وفي ما يتعلق بالنصوص القليلة جدا، والموزونة خليليا، في "الكتاب" أو في غيره من كتبي، فلا يمكن لمن يعرف الوزن معرفة حـقيقية أن يصفها بالنمطية، أو التقليدية أو العمودية. ولقد لجأت في "الكتاب" عامدا إلى كتابة الموزون، خليليا، لكي أقيم أحيانا، حوارا مع المتنبي في حركية الوزن عنده، أو لكي أقيم أحـيانا، تجاورا بين أشكال من الكتابة متباعدة ومتناقضة. وفي ما يتعلق بالجواهري، فإن ما كتبته عنه لم يكن نقدا له بقدر ما كان توكيدا على أن التذوق التقليدي والمعايير التقليدية لا تزال راسخة، وعلى أن جانبا كبيرا في مكانة الجواهري كانت نتيجة لسيادة الجمالية التقليدية أكثر مما هي نتيجـة لشعريته بحد ذاتها.
عباس : أدونيس، تقول في أحد مقاطعك "خذ الشعر، أنت أيها المأخوذ بالمرئي. ارفـعه بيتا، وأقم فيه. سيكون حتما عليك آنذاك أن تسكن في الجانب الآخر غير المرئي".
هل هذا استكمال للسجال بينك وبين شعراء من جيل آخر، جـاءوا بعدك، وأعطوا اعتبارا كبيرا للعالم المباشر، العالم المرئي والواقـعي والحدثي. يبدو كـأن هناك سجـالا بينك وبين هؤلاء الشعراء الذين يعتبرونك أقل اكتراثا بالجانب المرئي والمبـاشـر والحي والوقـائعي، هل هذا جـزء من سجالك مع هؤلاء؟
أدونيس : أولا أحترم نتاج كثير منهم احتراما كبيرا. وهذا الاحترام هو نفسه الذي يجعلني أحب أن يكون بيني وبين بعضهم سجال، من جهة ثانية لا أعتقد أن هناك قطيعة كما يحاول بعضهم أن يرى بين ما نراه وما لا نراه من الأشياء. وأعتقد أيضا أننا لكي نفهم الجـانب المرئي من الأشياء لابد من أن نفهم الجـانب غير المرئي، لأن الجـانب المرئي عابر ولا يفصح عن الشيء، والشعر ليس من جانب العابر، الشعر يلتقط العابر لكي يمسك بغير العابر. لذلك أعتقد أن هذا النوع من السجال بيني وبينهم هو سجال غني ويغني الحركة الشعرية.
عباس : لكن هناك فلسفتين للشـعر، فهؤلاء الشـعراء قد يعتبرون أحـيانا- بشكل أو بآخـر- أن مـا تراه عابرا هو أساسي في عالم محكوم.
أدونيس : أحترم وجـهة النظر هذه، ولكني لا أفسر الاتجاهات الشعرية العربية بقسمة الشعراء إلى بعض يهتم بالعابر وبعض أخر يهتم بغير العابر، لأنه حتى الذي يهتم بغير العابر ملزم بأن يهتم بالعابر لكن بدرجة أو بطريقة أخرى مخـتلفة. أقسم الشـعراء العرب، بالأحرى، إلى قسمين كبيرين: شعراء يكتبون داخل المعطى، أيا كان هذا المعطى، المعطى المباشر أو المعطى غير المباشر، المعطى التاريخي أو الاجتماعي... الخ ويحاولون أن ينقدوه أو يتأملوا فيه أو يتفجعوا بشكل أو بآخر، ويصلحـوه بشكل أو بآخـر، أو يعطوا عنه صـورا بشكل أو بآخر، لكن يكتبون داخل المعطى القائم. إذا هناك شعراء يقبلون المعطى، لكنهم يعملون على إصلاحه. وهناك شعراء آخـرون يعيدون النظر جـذريا في المعطى ولا يكتـبون داخله، وكـأنهم يحاولون أن يخلقوا عالما جديدا مختلفا كليا عما هو سائد، وأنا من جهتي في هذا الاتجـاه. أنا أرى إلى الشعر العربي من هذه الزاوية.
عباس : وجود وجهة أو تيار معني أكثر بالعالم الذي سميته مرئيا (وقد نختلف على هذه التسمية) ألم يجعلك تنتبه أكـثر إلى هذا المكان، في الـعالم، في الحـيـاة، في شـعرك نفسه؟
أدونيس : شعريا، المهم أولا كيف ترى. وليس مجرد أن ترى. ولا أظن أنني تخليت كثيرا عن المرئي، لأني حين أقرأ شعري حتى من "أغاني مهيار الدمشقي" و"قصائد أولى" و"أوراق في الريح"، أجد أن كل هذا الشعر قائم على المرئيـات، لكن نظرتي إلى هذه المرئيات مختلفة، بمعنى أنها ليست وصفية. وأنا ميال إلى الشـعر الذي يخترق المرئي عموديا ويخلخله ويقدم شيئا مختلفا.
عباس : هذا يجعلنا ننتقل إلى علاقتك بالأجيال التالية- ولن أسميها جديدة لأنها لم تعد كذلك- هل تلاحظ مثلي أن الشـعر الموزون متـدهور إلى حـد بعـيـد في الأجـيـال التالية؟
أدونيس :جدا .
عباس : هل لهذا دلالة عندك؟
أدونيس : طبعا له دلالة. أولا، لا أحد يمتلك حقا، وبشكل كياني معرفة الوزن العربي وموسيقاه، فكيف يمكن أن لا يكون الشعر الموزون الراهن متدهورا؟ كيف يمكن أن نخلق إيقاعات جـديدة بلغـة لا نعرف موسيقيتها، وعناصرها، وتاريخها الفني الجمالي؟ كميا، على سبيل المثال، قلصت الإيقاعات الشعرية العربية في أربعة أو خمسة أوزان، وأهملت أكثر من عشرة. ألم يكن حريا بالحداثة الشعرية مثلا، أن تغني الموسيقى الشعرية العربيـة، بدلا من أن تفقرها؟ هذه مسألة للبحث. ولماذا ننسى أن هناك أشخاصا يجايلونني ويجايلونك ويجايلون الأصغر منا سنا يكتبون شعرا بالتفعيلة الخليلية لا يقلون أهـمية عن الشعراء الذيـن يكتبون قصيدة النثر؟
verocchio
05/11/2007, 02:21
الأجيال التالية
عباس : أدونيس، بدا لي دائما انه ليس عندك تقدير كبير للشاعر الذي جاء بعدك من الأجيال التالية…
أدونيس :اسمح لي بأن أقول أن انطباعك هذا خـاطئ تماما. فإذا كان هناك شاعر، بعد يوسف الخال، امتدح الشـعراء الذين أتوا بعده، واحـتضنهم ونشرهم، فهو أنا. ولقد أنشأت مجلة "مواقف"، للتبشير بالشعراء الشبان. ومعظم الذين رسخوا في كتاباتهم حتى الآن، مروا فيها، وبعضهم بدأ بها وفيها.
عباس : لا شك برعايتك للشعراء الشبان، لكن الآن يبدو لي كـأنك لا تشعر بأن هذا الشعر مهم، فـهل هذا صحيح؟ وهذا ليس اتهاما أبدا؟
أدونيس : على العكس. الشعر في كل العالم اليوم لا أشعر بأنه مـهم. وليس لأني أحس بأن الشـعـر العربي غير مهم. فإذا كنت لا أتكلم باستمرار عن الشعر العربي الذي أشرت إليه، فلأني أعتبر أني تكلمت عليـه وعملت من أجله بما فيـه الكفاية، وأوضحت أن هذا الشـعر هو شـعرنا وشـعر مستقبلنا. لكن إذا وضعناه في إطار الشعر الذي يكتب اليوم، فأنا أعتقد أن الشعر اليوم في نكسة في كل العالم. وأنا لست ضده إطلاقا، بل أحبه. يكفي أن أحبك أنت وبعضا آخرين. الحب ليس للكم بل للنوع، فهناك نوع من التعبير بالشعر وبالنثر، اليوم أعتقد انه هو شعرنا، وهو شعر مهم، وهذا ما قلته وأكرره مرات. لكن بشكل عام، الشعر اليـوم غائب في العالم كله وليس عند العـرب وحدهم. ليس هناك من شعر اليوم يمكن أن تقرأه ويعطيك شيئا لا تعرفه، أو يطرح عليك أسئلة ويفاجئك، أو يفتح لك أفقا جماليا ومعرفيا جديدا.
لبنان الجنسية، لبنان الشعر
عباس : أستطرد لأسـألك عن تقديرك الشعر اللبناني الراهن - وأنا أعتبرك شاعرا لبنانيا، شئت أم لم تشأ.
أدونيس : بعضهم في الأوساط الشـعرية والأدبيـة، لا يعدني لبنانيا. المهم هو ماذا أعد نفسي. ليس الخـارج هو ما يحدد انتماء ك. ولا يكون الانتماء بصكوك يوزعها أصحاب امتياز لمن يشاءون. هذه مسألة مدعاة للسخرية لأن لبنان هو أكثـر من جغرافية. لبنان، كما أفهمه وأحبه، مشروع إنساني وحضاري، وثقافة تفيض عن حدوده. أو لأقل: هويتـه الإبداعية تتجـاوز حـدوده السياسية- الجغرافية. ماذا يمكن أن نستنتج لو تساءلنا: لماذا لم يشكك هؤلاء أنفسهم بلبنانية يوسف الخال، مثلا، وهو في رأيي أكثر لبنانية من أي لبناني، بالمعنى الثقافي الذي أشرت إليه- مع أنه كما يعرف الجميع، من أصل سوري؟ ويمكن أن أسمي أسماء أخرى كثيرة، وفي مختلف الميادين- الآن، وأمس، وقديما. لكن مرة ثانية، هذه مسألة بائسة، وأعدها ضد لبنان في المقام الأول.
عباس : رأيك في الشعـراء اللبنانيين ليس رأيا آخر. وبهذا المعنى أشعر بأنك لا تملك تقديرا عميقا للشعر اللبناني.
أدونيس : ليست المسألة على هذا النحو. وربما لا تقصد بسؤالك إلا الشعر اللبناني الراهن. ثم أنني لا أعتقد بوجود كتلة موحدة واحدة اسمها الشعر اللبناني أو المصري أو العراقي، أو ما أشبه. هناك شعر عربي بلغة عربية واحدة، وشعراء ينتمون إلى هذا البلد العربي أو ذاك. في كل حال، أقول إن معظم الشعراء اللبنانيين، وأنت في مقدمتهم، تربطني بهم علاقات شعرية وصداقية إنسانية، وأكن لعدد منهم تقديرا كبيرا. غير انني على صعيد التقويم، أتحفظ كثيرا. ذلك أن العالم الذي يسير فيه الشعر في لبنان، وفي البلدان العربية بعامة، ليس عالمي. وطبيعي أن لكل حـريتـه في اخـتيـار الطريق التي يشـاء، وشواغلي الفنية والفكرية آخذة بالاختلاف، جذريا وكليا، عن شواغل معظم الشعراء في لبنان. ومن هنا يجيء تحـفظي. فأنا أخشى في الكلام عليهم بسبب اختلافاتنا هذه على جميع المستويات، ألا أكون عادلا أو ألا أكون موضوعيا.
عباس : بالعودة إلى الكتاب، هل ترى أن الكتـاب من زاوية شعرية هو أيضا نوع من خلاصة شـعرية لك. فـأنا أحس بأن كل شـعـرك مـوجود بدرجـة أو بأخـرى في مـراحل مختلفة في هذا الكتاب، حتى أني أرى أن كثيرا من شعرك الوزني وشعرك النثري موجود في هذا الكتاب، هل هناك شيء من هذا؟
أدونيس : لا أعتقد أن كتابا شعريا يلخص كتبا سابقة. وعلى الرغم من حضور شواغل مستمرة في أعمالي، كما هو الشأن بالنسبة إلى أي شاعر فإن كل كتاب يبقى لحظة متميزة. وفي ظني أن "الكتاب" هو بين كتبي، الأكثر شمولا، والأكثر نضجا.
عباس : في هذا الكتاب الضخم الذي أصبح حتى الآن مكتوبا فيه حوالي ألف ومئتي صـفحة، تطرح مشكلة البناء، كيف يمكن أن ترى بناء هذا النص. الشكل، كـيف يمكن لهذا الكتاب أن يملك شكلا؟ كيف تتصور معمار هذا النص؟
أدونيس : هو كما يبدو لي، أمواج متلاحقة في محيط واحد. ربما تبدو في القراءة السريعة رتيبة. لكن بقدر ما تبدو ظاهريا كذلك، تخبئ تنوعا كبيرا بحيث انه ليس من الممكن أن نجد موجة تشبه الأخرى- فيما إذا قرئ بدقة وعمق، خصوصا أن هناك تعددية شكلية: نص موزون، نص منثور، شـذرة مـوزونة أو منثورة، نص سـردي.. الخ بتكوينات متداخلة أو متوازية، في مزيج ضخم من أشياء العالم وأشياء الذات، أشياء التاريخ وأشياء السياسة... الخ. ولا أتحدث عن التقنية الشعرية مع هذا كله.
عباس : ما هو المجلد الثالث؟
أدونيس : الجزء الثالث هو الذي سيكشف هوية الكتاب الحقيقيـة، لا هويته على صعيد الرؤيا والفكر والعلاقة بالتاريخ، إنما هويتـه على الصعيد التشكيلي وعلى الصعيد الفني. وقد يكون هذا الجزء أهم جزء.
عباس : هل اشتغلت على شيء منه؟
أدونيس : نعم، أشتغل فيه وأرجو أن أنتهي منه بسرعة ليكتمل الكتاب.
عباس : هل هذا- كما أعرف- آخر ما تكتب شعرا؟
أدونيس : ربما. إذا كـان النثر لا يعد شعرا، أظن أن الشعر لا يهجر، لا يمكن التخلي عنه، لكن لدي مشروعات تترية عديدة، بدأت بعضها ولم أستطع أن أكمله. لذلك سأخصص معظم وقتي لإنهاء هذه المشروعات. أما الشعر فيقتحم بابك، ولو أغلقته وتحصنت وراءه- كلما شاء وحينما يشاء.
عباس : كيف تكتب كتابا ضخما من هذا النوع، بأي تواتر؟ كم ساعة في اليوم…؟
أدونيس : : أشتغل، وأكتب كما أقرأ وكما أحلم، وكما أفكر وأتنفس.
عباس : هل خططت قبلا، أي أتيت بالاستشهادات والوقائع والأشياء التي أردت التكلم عنها، هل تم تخطيطها من قبل؟ أم تفعل ذلك أثناء الكتابة؟
أدونيس : قسم منه تم تخطيطه مسبقا وخصوصا الوقائع، لكن ليس في الأمور الأخـرى التي تكون بدون تخطيط.
عباس : هل تنكسر خطة ما عادة؟
أدونيس : نعم، تنكسر و تتغير و تقلب…
عباس : هل تكتب لسـاعات متواصلة أم في أوقـات محـددة عن أجل إنهاء الكتاب؟
أدونيس : ليس هناك من ساعات محددة، لكن أحيانا تمر أيام عديدة لا يتسنى لي فيها كتابة حرف، وأحيانا أكتب عشر ساعات في اليوم الواحد.
عباس : وتستطيع ذلك؟ ألا يرهقك ذلك؟
أدونيس : أبدا. وليس عندي نظام في الكتابة، وأكثر ما أكتبه هو في المقاهي وليس وراء طاولة، أو أكتب وأنا مستلق (مثلك الآن). ولم أكتب قصيدة في عمري وأنا وراء الطاولة. ينبغي أن أكون خارج النظام لأكتب شعرا
verocchio
05/11/2007, 02:21
فاتح المدرس / أدونيس
اعترافان في منحنى الإبداع -- المصدر : مجلة (ألف) عدد 17-18 / 1992
verocchio
05/11/2007, 02:22
أدونيس: بعد خبرتك الطويلة، حين تسأل، وأنا أسألك الآن: أين تجد هويتك بالمعنى العميق للكلمة، في إنتاجك الفني، أم في انتمائك لبلد أو شعب ما ؟
فاتح: كلمة إيجاد الهوية أو الحصول عليها كلمة ليست دقيقة بالنسبة لي. أنا أفضل أن يصاغ السؤال : كيف صنعت هويتك؟ لأن الهوية كالحرية تصنع صنعاً وإذا لم نصنعها نظل عبيداً لمعارفنا وثقافتنا السابقة و القديمة. صنع الهوية الفكرية بالنسبة لي يحتاج أولا إلى التخلي كلية عن اللاخلاقيات لفسح المجال للنباتات الذاتية كي تنمو، وللأفكار، إن كانت تشكيلية أو أدبية، أن تتشكل بحرية، فهذه الأفكار مثل الأعشاب تنمو والحفاظ على ثبات نموها يحتاج إلى أمور عدة، هي أن نفلسف الواقع أو نخضع له أو نموت لأجله. و الواقع كما هو، أو القبول به كما هو، يسبب للإنسان مرضاً عضالاً هو القهر. القهر الداخلي. وقد ثبت لي من تجربتي الشخصية أن القهر يولد لدى الإنسان، أو يدفع الإنسان إلى الحرد، يعني أن يحرد الإنسان من العالم المحيط به، خاصة في السياسة، فإذا حردت سياسياً فقد قتلت أدبياً. إذن القهر و الحرد إضافة إلى التكوينة الاجتماعية والسياسية المليئة بالمفارقات، كل ذلك يقف عائقاً أمام صونه الهوية الذاتية. أضف إلى ذلك ما يمكن أن أسميه بالغربة القومية والذي يمكن أن أفسره في أن تجد نفسك دون شعب ما متطور ومتقدم. فأن يكون الشعب هو دون الشعب المتقدم عليه، هذا شيء ارفضه نهائياً)
(تكشف لي ومنذ كنت شاباً، أثناء دراستي في روما، و من خلال الأشخاص الذين قابلتهم من فنانين و أدباء، سواء كانوا طليانا أو ألمانا أو من جنسيات أخرى بمن فيهم العرب، ومن خلال متابعاتي لأعمال هؤلاء الفنية و الأدبية، طرحت على نفسي السؤال التالي : هل تلك الأعمال الفنية و الأدبية هي أعمال تراكمية أهي نتيجة تراكم المعرفة أم هي أعمال ذاتية؟ وقد ظل هذا السؤال يؤرقني زمناً طويلاً. وقد توصلت إلى جواب ملخصه أن التراكمات المعرفية هي من أخطر العوامل التي تخلص الإنسان من هويته وذاتيته. أي أنها تحرمه هويته دون أن يشعر. إن وصولي إلى هذه الحقيقة، وأنا أعتبرها حقيقة، دفعني للتساؤل، هل المعرفة و استخدامها بعد النضج نوعاً ما يعتبر خطرا على الإنسان؟ وكيف يمكن له التخلص من هذه المعرفة؟ أي مكنسة سحرية تكنس له دهاليز الذاكرة من تراكم غبار المعرفة الذي بدأ يتراكم منذ القرن السادس قبل الميلاد؟)
(هناك مكيانيكية ذاتية في العمل الفني أعاني منها و أعتقد أن غيري من الفنانين و الأدباء يعانون منها، وهي أنه قبل بدء العملية الإبداعية عند الفنان، وهي رحلة صعبة قليلاً، واقصد بالرحلة ذلك الدخول إلى الذات و الوقوف في خوف أو شجاعة لا أدري، ربما كانت بخوف، ربما بشجاعة.
ذلك الدخول للذات وتناول المادة التي سبق وأن هيأها للبحث فيها، وتناول ما يلزم من المواد الأولية للعمل الفني كما لو أن الفنان يدخل كهف الذاكرة أثناء إقدامه على عمل فني أو إبداعي جديد. أقول لك هذا لأنني كثيراً ما فكرت في هذا الموضوع بيني وبين نفسي، هل أدخل أثناء العمل الإبداعي إلى كهف أنيق أم مشوش. لا اعرف. السؤال موجه لك الآن. كيف تدخل كهف الذاكرة أو المعمل الداخلي، وكيف تخرج منه؟ ما هي الظروف النفسية التي تحيط بك، وما هي الطاقة الانتقائية لك أنت بالذات؟)
أدونيس: (ضاحكاً) يا نباش أنت يا نباش، هذا برائي سؤال الأسئلة، وأود أن اسمع إجابتك عنه بعد أن أنتهي من محاولتي الإجابة عليه. أقول أحاول لأنه سؤال الأسئلة على المستوى الإبداعي. و الارتجال هنا صعب. لذلك أرجو ممن سيقرءون الإجابة أن يكونوا رؤوفين بنا. أولا من أنا بوصفي أمارس العملية الإبداعية؟ أنا موجود ضمن ثقافة معينة، تربيت من خلال ثقافة لا تقول نظرياً ما يجب أن يقال أو ما يتوجب عليها أن تقول. لا تطرح الأسئلة التي يجب أن تطرح. إذن أنا مقموع ثقافياً داخل هذه الثقافة.
فاتح : هذا قبل دخولك الكهف.
أدونيس : طبعاً، أنا اصف نفسي أولاً خارج الكهف، ثم هناك عالم لا نهائي مقموع ومهمش في ثقافتي هو عالم الجسد وما يتصل به من مثل اللاشعور و العواطف و الأحلام و التطلعات و الشهوات .. الخ. وهو المادة الحقيقية للذاكرة الإبداعية. هكذا أدخل العملية الإبداعية، أو الكهف الإبداعي بوصفي كياناً نصف مبتور. أدخله معي جيش هائل من الشرطة ترافقني و تأمرني، قل هذا ولا تقل ذلك، هذا لا يجوز، هذا ضد الدين، هذا ضد السياسة. يعني أدخل فعلاً وكأنني مطوق ليس من الخارج بل من الداخل بجيش هائل من الرقباء، ثم ابدأ العملية الكتابية. وحين ابدأ ، تقنياً أنا لا أكتب القصيدة مباشرة، حين تأتيني فكرة القصيدة أتركها تختمر في جسدي، في ذهني، وفيما هي تختمر تمتد جذورها في جميع الاتجاهات. بحيث أن القصيدة يمكن أن تقول أشياء كثيرة قيلت في الماضي بتنويعات أخرى. و أثناء ذلك الاختمار الطويل، يشارك الجسد، ويشارك العقل، وتشارك الثقافة، و المؤثرات الخارجية أيضاً. واثناء الاختمار تخلق القصيدة إيقاعها أيضا. وعليّ أن أنتظر الشرارة لأنني لا أستطيع أن أكتب شيئا إلا إذا جاءت الإشارة، والإشارة هي شرارة ما لا أظن أن أحداّ يقدر على تفسيرها. يمكن أن تأتي بلحظة لا تنتظرها، يمكن أن تأتي و أنت داخل في النوم، يمكن أن تأتي و أنت تحلم، فتستيقظ وتبدأ. وفيما ابدأ أكتب مباشرة ودون انقطاع. يعني أن القصيدة يمكن أن تكون عشرين صفحة أكتبها دفعة واحدة لأنها تكون موجودة في عقلي. بعد أن أنتهي من كتابة القصيدة أطويها و أضعها بعيداً عني، و أنفصل عنها أتركها فترة، أسبوعاً ، عشرة أيام، حسب الحالة ثم أعود إلى قراءتها وكأنني اقرأها للمرة الأولى. أحياناً تمر معي أشياء لا أتذكرها، ولا أتذكر كيف كتبتها. ثم أمارس رقابتي الفنية عليها، وأرتبها بشكلها النهائي، يمكن أن يصبح أولها آخرها، ويمكن لأن أبدل بعض الكلمات كلون تمحوه، وتأتي ببديل مكانه. هذه العملية الفنية دقيقة لا تحدث في المطلق، ولا تحدث إلا في القصيدة ذاتها.
قال ريلكه مرة يجب أن تكون لديك معارف عن الفيزياء و الأشجار و الأنهار و الكون لتستطيع الكتابة عن زهرة أو عن شيء بسيط في هذا الكون. وعمل الفنان الكبير يتضمن الكون كله، من زاوية هذا العمل طبعاً. لذلك تكون هناك استعادات، عناصر يستعيدها الفنان. ولكن لا يمكن أن يكون هناك أي استعادة تشبه الأخرى. دائما هناك تنويع لكن القراء السطحيين، و العاديين مجرد قراءتهم كلمة حب واحدة في قصيدة، أو رؤيتهم ، مجرد ما يرون لوناً مكرراً يقولون أن أدونيس أو فاتح يكرران نفسهما. ولكن الفنان لا يكرر نفيه. أم كلثوم تقول الجملة الغنائية أحياناً عشر مرات، وفي كل مرة تقولها بشكل مختلف، ولكن لا يكشف هذا الاختلاف إلا الفنانون، وهذا ما يصح قوله عن جميع الفنانين الكبار. الفنان الكبير يقول الشيء مرة واحدة ولكنه يقوله بتنويع كبير إلى ما لانهاية. وليس هناك فنان قال بشكل جمعي شيء + شيء+ شيء. الفنان كالشجرة ينزل عمودياً، يشع في جميع الاتجاهات.
وأنتقل إلى النقطة الثالثة، ما فعلته، هل أنا صادق به أم كاذب. أنا أقول أن لدي كذباً مزدوجاً فيما كتبت. الكذبة الأولى أنني لم استطع أن أقول مما أردت قوله إلا الشيء الذي سمح به ذلك الجيش من الرقباء ، مع أنني نسبياً (بين أجرأ) من يكتب باللغة العربية. أنا لدي رقابة أخرى هي رقابة جسدي، أنا لا أستطيع أن أكون صادقاً مع نفسي مائة في المائة، لأن هذا النوع من الصدق هو الموت نفسه. إذن هناك كذب مفروض عليك وهناك كذب اضطراري ذاتي. وهناك نوع آخر من الكذب، كذب لغوي، فمن المستحيل على الكلمة مهما كانت محيطة وعميقة، أن تفصح إفصاحا كاملاً عن الشيء. كما هو اللون. وإذن هناك ما اسميه كذب المسافة، تظل هناك مسافة بينك وبين الشيء الذي تريد قوله ولم تستطع أن تلتقطه. بهذا المعنى الفن صادق فقط على مستوى الإخلاص للمحاولة. صادق بوصفك أخلصت و أعطيت نفسك لهذه المحاولة.
verocchio
05/11/2007, 14:19
7 ديسمبر 2005 العدد 9871
حوار مع جريدة الشرق الاوسط
القاهرة: سوسن بشير
verocchio
05/11/2007, 14:20
جاء أدونيس إلى القاهرة مفكراً محاضراً لا شاعراً، مدعواً من قبل الجامعة الأميركية في إطار الموسم الثقافي العربي، فقدم بحثاً بعنوان «معوقات الحداثة في الثقافة العربية بعامة والشعر العربي بخاصة»، طرح من خلاله قضيتين أساسيتين؛ الأولى هي الرؤية الوحدانية للإنسان والعالم، تلك التي تفصح عن نفسها بثقافة العنف والإقصاء والتكفير، بتبني حقيقة واحدة مطلقة وربطها باللغة في النص الديني، الذي يتم تأويله تأويلاً سياسياً سلطوياً. والثانية هي انعدام الذاتية التي تحصر حقيقة الإنسان والعالم في ذات التأويل السائد للنص الديني، حيث تتحدد المعرفة ويكون ختامها، وبالتالي لا يكون للفرد إلا الاتباعية في مقابل الذاتية التي يجب أن تتحدد بعالم الفرد الداخلي لا بكل ما هو خارجه؛ بالنص والشريعة والأمة. وقد أكد أدونيس أكثر من مرة، أنه لا يتحدث عن النص الديني المقدس، بل عن تأويله السائد الذي ألغى «الأنا» في سبيل «النحن»، وبالتالي انعكس ذلك على الثقافة العربية وعلى أصواتها الشعرية التي أصبحت بين مطرقة السياسة وسندان اللاهوت. ومحاضرة أدونيس، تأتي مباشرة قبل يومين من زيارته الأولى لإيران، مما يفسر ان يرى البعض في مضمونها ما ينطبق على ايران أكثر من غيرها من الدول الاسلامية. وبعد المحاضرة كان لنا هذا الحوار الخاص مع أدونيس، الذي طرح فيه بعض القضايا للمرة الأولى.
verocchio
05/11/2007, 14:21
> تأتي محاضرتك في الجامعة الأميركية في القاهرة عن الرؤية الوحدانية للإنسان والعالم وانعدام الذاتية، قبل يومين فقط من زيارتك الأولى لإيران. ما الذي يأمله أدونيس تحديداً من تلبية الدعوة التي جاءته من الملحقية الثقافية الفرنسية هناك؟ ـ إيران بلاد عظيمة ولها تاريخ عريق، خصوصاً على الصعيد الشعري والفني. وأنا أحب أن أرى الأرض التي سار عليها عمر الخيام وحافظ وسعدي، وأرى أيضاً الأماكن التي أبدعت فيها الأيدي الإيرانية السجاد، وهذه نقطة مهمة. فأنا أتمنى ذات يوم أن أقرأ تاريخاً لعبقرية اليد العربية التي قد تكون أكثر أهمية من رؤوس عربية كثيرة. وللأسف كنت أتمنى أن تكون الدعوة من إيران نفسها، ولا أعرف إن كنت أستطيع أن أتصل بالأوساط الفنية والثقافية والسياسية التي أود لقاءها. وأتمنى ألا تكون هناك عواقب دبلوماسية تحول دون الاتصالات التي أنجزها، خاصة بما يتعلق بالمرأة الإيرانية الشاعرة والرسامة والسينمائية، والمبدعة بشكل عام، وكذلك الشباب في الوسط الطلابي. > كنت أحد المؤيدين للثورة الإيرانية، ما الذي تسعى إليه اليوم من الاتصال ببعض السياسيين الإيرانيين؟ ـ نعم، أيدت الثورة الإيرانية في بدايتها، وكذلك فعل معظم المثقفين الفرنسيين والأوروبيين، فكذلك فعل ميشيل فوكو، لكننا حصرنا التأييد في الخلاص من إمبراطورية الشاه. وعلينا أن نتذكر أن الثورة الإيرانية نموذج لا سابق له في التاريخ، لأنها ثورة كاملة قام بها شعب بكل طبقاته، ولم تقم بها لا فئة عمالية ولا تجارية ولا انقلاب عسكري، لكن قامت بطريقة فريدة من نوعها، وهذا ما جذبني وأيدته. لكن منذ أن بدأت هذه الثورة تؤسس السياسة على الدين انفصلت عنها وانتقدتها نقداً شديداً، وكتبت مقالة عن ذلك أسميتها «الفقيه العسكري»، تحدثت فيها عن الخطر المقبل حينذاك على إيران، لماذا لا يتذكر لي أحد ذلك، وفقط يقولون إنني أيدت الثورة وأيدت الخميني. أما اليوم فأنا أتمنى أن أقوم باتصالات ببعض السياسيين لأعرف كيف يفهمون العلاقة بين السياسة والدين، فهذه مسألة تهمني كثيراً، كما يهمني رأي مفكري إيران في هذه المسألة، لا رأي رجال السياسة فقط. > أدونيس المسكون والمهموم دوماً برابطة السياسي ـ الديني ـ الثقافي، ما الجديد الذي أتى به في محاضرة القاهرة على مستوى المضمون، أليست هذه أفكار أدونيس في الثابت والمتحول؟ ـ لا أعتقد انني كتبت من قبل عن الرؤية الوحدانية للإنسان والعالم في أي من كتبي، وإن كانت هناك إشارات في بعض الكتب. كذلك لم أكتب عن انعدام الذاتية في الثقافة العربية، كما تحدثت بنوع من الإسهاب في هذه المحاضرة. لكن المفكرين مثل الشعراء، منغرسون في تربة الفكر كمثل شجرة لها جذور وأغصان تمتد في جميع الاتجاهات. ما أريد قوله إنه ليس لأي مفكر في العالم أفكار كثيرة، كل مفكر له فكرة واحدة يدور حولها، ويشعبها حسب علاقتها بالعلوم الأخرى. ولو تتبعت الفلاسفة منذ القدم حتى اليوم، ستجدين الفيلسوف يدور حول فكرة مركزية واحدة لكنها تتشعب. وأنا ليس لدي مائة فكرة، بل فكرة واحدة متمحورة حول الثبات والتحول في الثقافة العربية، ولهذه الفكرة امتدادات وتشعبات في الشعر والدين والحياة الإنسانية الاجتماعية ومختلف الميادين، ومن هذا المنطلق يجب أن تنظري لمحاضرتي، التي هي تنويع موسع، على قضايا تكلمت عليها في الماضي.
verocchio
05/11/2007, 14:23
> حديثك عن الفلسفة يحيلني لإجاباتك على أسئلة الحضور، حيث عرجت على أبي العلاء المعري وحداثيته. وبالرجوع لمقدمتك للمجلد الثاني لديوان الشعر العربي، نجدك تؤكد على أن أبا العلاء هو أول شاعر ميتافيزيقي في تراثنا الشعري، وليس شاعراً فيلسوفاً، ما هو مقياسك للشاعر الفيلسوف، وهل يرى أدونيس نفسه شاعراً فيلسوفاً؟
ـ حينما تصفين شاعراً أو مفكراً بأنه فيلسوف تعنين بالضرورة المصطلح العلمي والفلسفي، الذي يتحقق عبر إبداء الشاعر والمفكر رأيه في الوجود والأخلاق والمصير؛ أي أصل الإنسان، والأخلاق التي يجب أن يعيشها، والمصير الذي يؤول إليه، ومن هذا المنطلق ستجدين عدد الفلاسفة قلة في العالم، فهناك أمثلة كأرسطو وأفلاطون قديماً، وهيجل حديثاً. أما البقية ممن يسمون بالفلاسفة من باب التوسع والتيمن فهم أشخاص عالجوا قضايا فلسفية، ولم يجيبوا على الأسئلة الكبرى التي ذكرتها. ومن هنا أقول إن دريدا لا يصح أن يسمى فيلسوفاً بهذا المعنى، بل ولا حتى سارتر نفسه، وإنما هم مفكرون بحثوا في قضايا فلسفية. وكذلك الشاعر الميتافيزيقي غير ملزم بالإجابة على المشكلات الثلاث، وإنما يستشف ماوراء الفيزيقا، أي ما وراء الطبيعة، فيتكلم في الفناء والخلود وعبث العالم، وبهذا المعنى أردت أن أنقذ أبا العلاء من التحديد المغلق لكلمة فيلسوف الذي لا ينطبق عليه، فأسميته ميتافيزيقاً. وكل شاعر عظيم هو شاعر ميتافيزيقي، لا يكتفي برؤية العين والتعبير عنها، وإنما يتخطى ذلك برؤية العين الداخلية، أي رؤية القلب. ومن هنا فأنا أتمنى فقط أن أكون شاعراً ميتافيزيقياً كأبي العلاء، لأنه من الصعب في الحقيقة أن يكون هناك شاعر فيلسوف، فأنا لا أجده في تاريخ الشعر.
> وصفت في إجاباتك أيضاً كلاً من أبي نواس وأبي العلاء والنفري بالشعراء الحداثيين، في حين صمتّ تماماً عن المتنبي، أليس هذا غريباً على أدونيس صاحب «الكتاب»؟
ـ كل شاعر حديث في لغة ما يجب أن يعيد النظر في القيم السائدة، وأن يكون سلسلة من التساؤلات حول انتسابه اللغوي، وكذلك حول تحدره من أصول لغوية وقيمية واجتماعية معينة. وأول من تساءل حول القيم السائدة وأفصح عنها بطريقة جديدة هو أبو نواس؛ تساءل عن القيم الدينية وقيم البداوة، وانتقدها، وأقام قيم الحياة المدنية وأكد على الحرية الفردية. أما المعري فأعاد النظر كلياً في القيم السائدة لعصره على جميع المستويات، وشكك في تلك القيم، وأراد أن يؤسس لعالم جديد، والنفري كتب بطريقة مختلفة كلياً. ما أود أن أقوله إنهم بهذا المعني حديثين نسبياً داخل تراثهم وأوضاعهم التاريخية، أما المتنبي فكان طاغية شعرية احتضن التراث بأكمله والتهمه وسار به كأنه عاصفة تغير وتدمر كل شيء، لكن ضمن المعايير والمقاييس والمفاهيم القائمة لعصره، ومن هنا فالمتنبي ليس بشاعر حداثي.
> تطرقت في مجمل محاضرتك أيضاً إلى قضية الناسخ والمنسوخ عموماً، لا في النص الديني فحسب، وهذا يذكرنا بحادثة تمت منذ عشر سنوات تقريباً، حين خرجت بديوانك في ثلاثة مجلدات، تخليت فيها عن التتابع الزمني للقصائد وفاء لما أسميته «تتابع البنية والإيقاع» مؤكداً أن هذه الطبعة تقطع كلياً مع الطبعات السابقة لهذه الأعمال إضافة إلى أنها تنسخها»، فهل نتوقع أن ينسخ أدونيس أعماله مجدداً؟
ـ سؤالك فرصة جيدة لتوضيح الفارق بين النسخ والتغيير، رداً على ما تم تداوله قبلاً، ممن لم يقرأوا كتبي وأطلقوا شائعات تؤكد أنني أغير في قصائدي، وهذا ما لم يحدث. فأنا أحذف فقط ولاأبدل أو ألعب بالجمل الشعرية. فهناك قصائد طويلة، أو تعبيرها ضعيف، ولم تعد تعبر عني، فأقوم بحذفها بعد إعادة النظر بها، وهذا من حقي، فهذه القصائد ملكي، وهذا ما حدث في قصيدة «قالت الأرض» على سبيل المثال. وجميع الشعراء العالميين يفعلون ذلك، بل منهم من يفعل ما لم أفعله أنا وهو إعادة كتابة قصائدهم، وتسمية ذلك بالتنويع على النص، فما يكتبونه ليس منزلاً، والإنسان أهم مما يكتبه، وسيظل النص ملك شاعره حتى بعد موته. أما ما تطرحينه من مسألة النسخ فهذا ما حدث بالفعل، لا التغيير، وقد اقتضته ضرورة تجارية أضمن بها حقوقي، حيث دأبت إحدى دور النشر على طبع ديواني عدة مرات من دون وجه حق، والزعم أن كل طبعاتهم هي طبعة واحدة، فأعدت ترتيب كتبي بشكل آخر لألغي إمكانية تجديد هذه الطبعة، فالنسخ هو الإلغاء، أي لأمنع قرصنة ديواني. أما اليوم فأفكر بإعادة طبع دواويني كما كانت في الماضي بشكل تاريخي تسلسلي.
verocchio
05/11/2007, 17:56
د. فاروق مواسي::. 21 يوليو 2005
* ظاهرة التنكر السهل للمبادئ الشعرية والأدبية الأولى - ظاهرة مألوفة في أدبنا بدءًا من أبي نواس ، ومرورًا بالعقاد، فنازك الملائكة، وانتهاء بأدونيس.
يسأل سليمان الحكيم الشاعر أدونيس ضمن حوار معه :
” – ما رأيك في ” قصيدة النثر “؟
- ليس هناك شيء اسمه ” قصيدة نثر “، فالقصيدة شيء ، والنثر شيء آخر..
- ولكنك كنت واحدًا من روادها والداعين إليها .
هذا خطأ شائع . فأنا لم أكتب ما يسمى بقصيدة النثر ، بل كتبت نثرًا شعريًا ، والتراث مليء بالنثر الشعري “.
(مجلة ” سطور ” ، العدد الأول ، ديسمبر 1996 ، ص 7 )
وقبل أن أدلي بدلوي تعالوا بنا إلى كتاب ” سياسة الشعر” لأدونيس ( دار الآداب ، 1958 ، ص 73 ) ولنقرأ :
” هكذا عملت على ان أدخل إلى الشعرية العربية مفهومات جديدة ، أصبحت اليوم تشكل أجزاء عضوية منها …أهمها والأول هو قصيدة النثر ، وحين أطلقت هذه التسمية سنة 1960 … هوجمت هجومًا حادًا اتخذ طابعًا سياسيًا قوميًا … لكن على الرغم من ذلك تكاد اليوم” قصيدة النثر” أن تكون الطريقة التعبيرية الغالبة خصوصًا لدى الشعراء الشبان ، بل تكاد أن تتحول عند بعضهم إلى نوع من الحماسة الفنية العصبية …”.
ويذهب أدونيس في أكثر من موقف إلى أن الشعر شعر ، ولا يجب أن يقرر الشكل في صحة ذلك أو عدمه .
ثم لنقرأ ما كان أدونيس قد قاله قبل ذلك في “مقدمة الشعر العربي ” ( بيروت-1971، ص 116) :
” في قصيدة النثر ، إذن ، موسيقى . لكنها ليست موسيقى الخضوع للإيقاعات القديمة ، بل هي موسيقى الاستجابة لإيقاع تجاربنا وحياتنا الجديدة ، وهو إيقاع يتجدد كل لحظة، تتضمن القصيدة الجديدة نثرًا أو وزنًا مبدأ مزدوجًا- الهدم لأنها وليدة التمرد، والبناء لأن كل تمرد مجبر ببداهة إذا أراد أن يبدع أثرًا يبقى أن يعوض عن تلك القوانين بقوانين أخرى”.
واعترف أدونيس أن ” قصيدة النثر ” تكون فيها طرق التعبير وطرق استخدام اللغة – جوهريًـا شعرية- وإن كانت غير موزونة ، وهو يرى أن الصوفية العربية ،وبشكل خاص كتابات النفّري فيها هذه الشعرية.
verocchio
05/11/2007, 17:57
وقد تابعت ” المخاطبات والمواقف ” للنفّري فما وجدت- شخصيًا- شعرًا، بل وجدت إلماعات / إيماضات قد تكون فلسفية منطقية ، أو هي ذات جمالية أدبية متشحة بالرمزية ، وإنني لأعجب حقًا من هؤلاء الذي يجعلون كلاً من النفري ومن جبران- فيما بعد وبكتاباته النثرية المحضة - شاعرًا ، فهل هو شعر قول النفري مثلاً:
” وقال لي احتجب عن العلم بالجهل ، وإلا لم ترني ولم تر مجلسي ، واحتجب عن البلاد بالعلم ، وإلا لم تر نوري وبيتي” ( كتاب المواقف ، ص 106 ) ؟ او هل شعر قول جبران :
” يا ليل العشاق والشعراء والمنشدين
يا ليل الشوق والصبابة والتذكار
أيها الجبار الواقف بين أقزام غيوم المغرب وعرائس الفجر…”.
( المجموعة الكاملة ج 1، ص373).
ألا نرى في النص الأول مبنًى نثريًا ارتباطيًا، ونرى في النص الثاني ترادفًا وتتابعًا نثريًا محضًا ؟ ومع أني أتحفظ من بعض ما ينشر تحت اسم ” قصيدة النثر ” إلا أنني أندهش من روعة بعض قصائدها لمبدعين حقًا فيها ، بل ألفيت نفسي مضطرًا لكتابة بعض قصائد منها لحالات اضطرارية كان الوزن التقليدي انشغالاً عنها ، أو ثقلاً عليها ( وهذا له حديث أو موقع آخر ) .
وأراني مسوقًا للدفاع عن بعض مقولات أدونيس التي أوردها في كتابه ” زمن الشعر ” ( دار العودة – 1978، ص16 ) حيث يمايز الكاتب بين النثر والشعر ، وكأني به هنا يردّ على أدونيس في حلته الجديدة .
إن الصورة من أهم العناصر في القصيدة، وطريقتها في التعبير والدلالة هي التي تحدد نوعيتها … إنها خالية من الوصف التقريري والتتابع والسببية المباشرة والوضوح المجرد ، فمن أهم الخصائص في القصيدة – ولا يهم نوعها – الإثارة والمفاجأة والدهشة . وبالطبع فهذا لا يبيح ولا يتيح للعاجزين عن الحلم والتخيل أن يصلوا إلى ” المحطة ” سواء كانوا كتابًا حقيقيين ، أو متلقين.
وفي الختام أظن أن السؤال الجوهري الذي يظل مطروحًا ويجب أن يُستـثار هو :
كيف ترقى قصيدتنا اليوم ؟
أ و كيف نؤسس شعرية متطورة بحق وألفة؟!!
::. د. فاروق مواسي
verocchio
05/11/2007, 17:59
لا توجد مرحلة في تاريخ الشعر العربي اكثر جهلاً بالشعر من هذه المرحلة التي نعيشها الآن.
الأحد,تموز 29, 2007
في حوار أجرته داليا صالح
verocchio
05/11/2007, 18:00
إلى أي مدى ترى ثنائية «الثابت والمتحول» التي روجت لها صالحة لإعادة النظر... ألا ترى أن المتغيرات المعرفية والتراكمات التي حدثت في العالم الآن قد تجاوزتها؟
ـ هناك مناهج عديدة صالحة للباحث في قضايا التراث العربي وغيرها. انما لا أزال أكثر ميلا إلى استخدام هذين المصطإلى أي مدى ترى ثنائية «الثابت والمتحول» التي روجت لها صالحة لإعادة النظر... ألا ترى أن المتغيرات المعرفية والتراكمات التي حدثت في العالم الآن قد تجاوزتها؟
ـ هناك مناهج عديدة صالحة للباحث في قضايا التراث العربي وغيرها. انما لا أزال أكثر ميلا إلى استخدام هذين المصطلحين، لأنهما يتيحان للباحث أن يفلت من قبضة المنهج. فالمنهج قد يكون قيدا أو حجابا، لأنه يوجه صاحبه في اتجاهات محددة، ويحيد به عن قضايا كثيرة، أو يفرض وجهه نظر واحدة، تتطابق مع مقومات هذا المنهج أو مقتضياته. بينما مصطلح «الثابت والمتحول» يتيح مزيدا من الحرية والتحرر، لرؤية القضايا من مختلف الاتجاهات، كما يتيح إمكانات الإحاطة والتعمق بشكل أكبر بالقضايا المدروسة. ولهذا أكرر أنني لا أزال ميالا لاستخدام هذين المصطلحين.
verocchio
05/11/2007, 18:00
هل هذا لأن المتن أصبح هامشا والهامش أصبح متناً؟ ـ ربما تكون هذه العبارة سببت نوعا من الالتباس. أنا قلت إن ديوان الشعر العربي أعطى الإمكانية لما كان يعد هامشيا في الماضي أن يتحول الي متن. بمعنى ان الرؤية الجديدة، لم تعد تهتم بالمناسبة التي قيلت فيها القصيدة سواء كانت مدحا أو هجاء أو رثاء، وإنما صارت أكثر ميلا للاهتمام بالنص، بجمالية النص وبنيته اللغوية الفنية والآفاق التي يفتحها أمام القارئ، بصرف النظر عن المناسبة. وأتى ديوان الشعر العربي لكي يضع أمام القارئ نصوصا أفلتت من المناسبة، لا تعتمد على المدح ولا جميع الأغراض القديمة التي كان يتناولها الشاعر. بهذا المعني قلت
إن الهامش الشعري الذي كان يعد هامشيا في الماضي، تحول الى متن وصار هو الأساس.
> يرى بعض النقاد والشعراء أن حداثة أدونيس، حداثة ترتبط باللغة أكثر من ارتباطها بالواقع. فمثلا قصيدتك الأخيرة عن العدوان الاسرائيلي على لبنان، أحس القارئ بأنها لا تتحدث عن هذه الحرب وإنما عن حرب كونية، مجردة من الصلة الحية مع الواقع. فهل اللغة عندك مجرد أيقونة؟
ـ لا شك أنني أعطي أهمية كبيرة جدا للغة، وهو أمر معروف وألح عليه. ولا أعرف كيف يتم الفصل بين اللغة والواقع! فما معنى أن هناك انفصالا بين اللغة التي أكتب بها والواقع الذي أتحدث عنه! هذا لا أفهمه، لأنني لا أراه. ربما قوة اللغة وعلوها وغناها، يخيل للقارئ ان في هذا كله ما يحجب الواقع، لكن هذا نابع من قسوة الواقع وتعقيداته، ومن الرعب القائم فيه.
فالواقع ليس بسيطا لكي تجيء اللغة بسيطة، انه مركب ومعقد وله طبقات عديدة، لذلك فاللغة التي تفصح عنه يجب ـ في تقديري ـ ان تكون هي أيضا، مركبة غنية وقوية، ولها طبقات عديدة. فلو عبرنا، مثلا، عما يحدث في فلسطين بلغة بسيطة، نكون في تقديري، تحت الواقع ودون مستواه. الشاعر، على الأقل، يجب ان يدمج الواقع كله في لغتة لكي يمكن أن يقال أنه يفصح عن هذا الواقع، ويعيد تشكيله في الوقت نفسه. وعموما مثل هذه الأسئلة تصدر عن اشخاص لهم وجهة نظر خاصة في علاقة اللغة بالواقع، وانا احترمها، لكنني أعتقد انها في حاجة لمزيد من التأمل.
هل تحرص على الغموض في قصائدك؟
ـ لا احرص علي الغموض. الواقع هو نفسه غامض، وإذا أراد الشاعر تبسيطه وتسطيحه فكأنه يخونه. في رأيي، لا يجب على القارئ أن يكتفي بصورة مبسطة يقدمها له الشاعر، ولا يجب أن تكون القصيدة مناسبة للقارئ، فهو يحتاج أيضا أن يغوص في تعقيدات الواقع ومشكلاته. ويجب على الشاعر ألا يكون بمثابة من يهش للقارئ، وإنما من يحرضه على الذهاب بعيدا في فهم ما يحدث.
نحن نعاني من ان ذائقة شعرية ترتبط عضويا بالجواب لا بالسؤال. إنها حرب ضد الاسئلة. وهذه الحرب تؤكد الذائقة على مجرد المشاهدة في ما يتعلق بالصورة والسماع، في ما يتعلق بالشعر وجعله مجرد أغنية لا صلة لها بالتأمل. والمفارقة أنه لا توجد مرحلة في تاريخ الشعر العربي اكثر جهلا بالشعر من هذه المرحلة التي نعيشها الآن.
verocchio
05/11/2007, 18:01
> كيف يرىأدونيس واقع الشعرية العربية الآن، خاصة في مواجهة الأدب الذي يعتمد على الصورة، وهل نعيش بالفعل ـ كما يقال ـ زمن الرواية؟
ـ باختصار أنا أعتقد أن هناك مواهب شعرية كثيرة عند العرب، لكن التجارب الشعرية الكبيرة قليلة. ولو سلمنا بذلك سيفتقر الشعر العربي إلى سؤال الكينونة، وسيظل مجازفا بأن يكون زيا بين الأزياء البالية سرعان ما تلتهمه الحداثة، وسيظل سجينا في معزل عن التربة الأساسية للغة والشعر وعن فكرة الإنسان والحقيقة.
هل يصلح الأفق النظري الذي رأيت من خلاله الشعر العربي وشعرائه أن يشكل مهدا لنظرية عربية؟
ـ أنا ضد الواحدية، أي أن يكون هناك رأي واحد يعم ويسود. أنا مع التعددية والكثرة والتنوع لأنها تتيح للقارئ والكاتب أن يرى الواقع بمختلف انحائه ومستوياته. شخصيا، أتمنى أن تكون هناك وجهات نظر كثيرة أفيد منها، وتشكل نوعا من التحدي الذي يدفعني إلى أن أقوى وجهات نظري وأحسن مساري النظري. ولا أدعي أن تكون وجهة نظري الوحيدة هي السائدة، فهذا لا يصح. أنا ادعو إلى نشوء نظريات عديدة لدراسة الشعر العربي والواقع العربي.
هناك اجتهادات ومشاريع نقدية على الساحة، تتعالى أحيانا على النص نفسه.
ـ بالفعل هناك وجهات نظر عديدة، ولكن بالنسبة إلي لا ترقى إلى مستوى الفهم الحقيقي الذي اتطلع اليه، وعلى هذا الأساس اختلف معها. لكن في جميع الحالات، يجب ان يكون هناك تعدد، وهذا أفضل بكثير من الرأي الواحد. ويطيب لي هنا، أن أشير إلى احد الفروق الجوهرية بين الشعر العربي والغربي. فالأخير قائم على الانفصال عن الواقع والطبيعة. فهو ليس وسيلة لأي شيء. ولقد أردت أن ينظر الى الشعر العربي بمعزل عن الأحداث، لأنه لا يتكلم عن الحقيقة بل الحقيقة هي التي تتكلم حقا بالشعر وعنه. فهو بين جميع اشكال التعبير الإنساني الأكثر قدرة علي الغوص في ليل المعنى مثل الموسيقى، ويتحرك بحرية في محيط السؤال والبحث .
في حياةأدونيس «متوازيات ومتفارقات»، كيف تراها؟
ـ أعتقد أن الشعر يتوازى مع جميع الأشياء. أي أنه يسير في خط مواز لكل الأشياء، وأحيانا يعكس هذه الموازاة ويخترقها كلها عموديا. فالشعر مثل الحب والهواء وضوء الشمس، بوصفه خارجاً عن كل تحديد، وبوصفه يقظة عفوية في جسد الإنسان وعقله، وأيضا يقظة عفوية بالطبيعة والعالم، لذلك فهو قادر على أن يتوازى مع جميع الأشياء، وفي الوقت نفسه، قادر على أن ينزل عموديا ويخترقها، إلا الأنظمة والمؤسسات لأنها تعيش في زمن نفعي «براغماتي»، والحقيقة عندها لا ضرورة لها في معظم الأحيان، بالعكس الضرورة لها هي الكذب والخداع. الشعر والأنظمة والمؤسسات، من المتفارقات بالنسبة لي.
verocchio
05/11/2007, 18:01
قلت إن الإسلام قضية عظيمة، فما هو دفاعك عنه؟ ـ أنا سآخذ الجانب الثقافي في الإسلام وأدافع عنه ثقافيا، سأقول إن النموذج الأول لوحدة الثقافات نراها في الإسلام، بدءا من القرآن الكريم، لأنه نص جامع للثقافات الدينية، اليهودية والمسيحية، وللثقافات غير الدينية السابقة، مثل اليونانية وغيرها. فهو جامع لروح الإنسانية. وفي تقديري، انه من أخطاء المسلمين اليوم، أنهم لا يلحون على القراءة الثقافية لهذا المعني الذي يقوله النص القرآني.
أما النقطة الثانية التي سأدافع بها عن الإسلام، فهي العلاقة بالآخر. وأرى أن الآخر، خاصة بالنسبة للمسلم، كان عنصرا تكوينيا من عناصر ذاته، خاصة في الفلسفة، التي أقامت نظرتها ورؤيتها إلى العالم على التوحيد بين ما أسمته النقل ممثلا في الدين الإسلامي، وما أسمته العقل ممثلا في الثقافة اليونانية.
أما العنصر الثالث في الثقافة الإسلامية فهو التصوف. مع أن الرؤية المغلقة للإسلام لا تعتبره جزءا منه، لكن اعتقد أن التصوف نشأ في مناخ الثقافة الإسلامية، وهو تجربة عبقرية وفريدة وكونية إنسانية. هذه هي العناصر الاساسية في دفاعي عن الإسلام، لكن لا أستطيع أن أدافع عنه إلا إذا انتقدت التأويل السائد له. وهو تأويل يعطي عن الإسلام صورة ليست في مستوى الرسالة الإسلامية ويجب نقد هذا التأويل .
برأيك متى يصل الشاعر الي مرحلة نقد الذات، وما هي المعايير التي يلتزم بها؟
ـ كل شاعر حقيقي يمارس نقدا ذاتيا في كل قصيدة يكتبها. الشعر هو مواصلة في التغيير. إذ لا يمكن للشاعر أن يكرر رؤيته السابقة. فهو بمجرد أن يكتب يخطو خطوة تالية متقدمة لموضوع آخر، لكن لا يستطيع ان يخطو هذه الخطوة إلا اذا كانت هذه الخطوة نقدية، فكتابة الشعر بهذا المعني هي في العمق كتابة نقدية، لا للعالم وحده وإنما للذات أولاً. وعلى هذا المستوى قلت وأكرر، إن القصيدة ليست سؤالا مطروحا على العالم وحده، وإنما هي سؤال مطروح على الشاعر وعلى الشعر. وأعظم ناقد للشاعر هو نفسه. الشاعر هو أهم من ينقد نفسه، لأنه هو الذي يعرفها أكثر من غيره، وأعتقد أننا يجب أن نعمم هذا على الآخرين. فالإنسان الذي لا يستطيع ان ينتقد نفسه عنده مشكلة. وحقيقة نحن لا نعرف النقد حق المعرفة. وقد يبدو هذا الحكم قاسيا غير ان ما يلغي هذه القسوة، انه حكم حقيقي.
تحدثت عن علاقة الشعر بمفهوم الهوية، لكن هل الهوية إرث بمحمولاته المتعددة، أم انها ابتكار دائم؟
ـ الهوية ممكن ابتكارها، والهوية الاسمية هي هوية سطحية لأن المهم هو مضمون هذا الاسم وماهيته. هل هو مضمون الطفولة أم ما بعدها أو هو مضمون الحب؟ إذاً، أنت في داخل هذا الاسم، في عالم لانهاية له لا يتوقف حتى بالموت. لأن الذي يكتب نصوص الموت لا يفنيه، فكم من الشعراء ماتوا نعرفهم من نصوصهم أكثر مما عرفناهم بحياتهم. إذاً فالهوية بهذا المعنى متحركة، ليست هذا فقط وانما متغيرة. فمثلاً، اذا سألتك الآن: أي مرحلة من حياتك تشعرين أنها تعبر عنك؟ هذه المرحلة التي تعبر عنك هي التي تحوي النقطة التي تحمل معنى هويتك. وهي قابلة للتغيير، فاذا جاءت مرحلة اعمق تعطي لحياتك معنى جديدا، فهويتك ستنتقل اليها. الهوية مفتوحة وليست موروثة. بهذا المعني الإنسان لا يولد مسلما... يصير مسلما، لأنه إذا ولد مسلماً سيصبح الناس كلهم سواء. إذاً الهوية صيرورة، وأعظم مكان تتجلى فيه هذه الصيرورة هو الشعر .
>لماذا ينتابك الخوف من قراءة قصيدة «قبر من اجل نيويورك» التي صدرت عام 1971 بالرغم من انها استشراف لأحداث11 سبتمبر والتي أصبحت واقعا؟
ـ بالضبط... لهذا السبب أحيانا بقاسي الإنسان من تحقق أحلامه، وهو شيء مخيف، لأنه يصبح يخاف من نفسه. فكيف اذا كان يقول شيئا عفويا، ويرى أن هذا الذي قاله عفويا تحقق في الواقع، لذلك أخاف، من قراءتها، لأنني لا أريد أن يتحقق ما أحدس به، لأنه اذا تحقق، أشعر بأنني توقفت، بأنني انتهيت أو كأنني صرت كائنا آخر. أريد ان أظل أواجه الواقع، ويظل الغد نقطة تساؤل ومكان استشراف، لا مكان تحقق لأحلامي. لأنها اذا تحققت سأحزن .
أحيانا نجد بجوار قصائدك المنشورة في الصحف لوحات تشكيلية، فماذا يمثل لك «الكولاج»؟
ـ هذه الأعمال الفنية قمت بها بالمصادفة. وقد اخترعت للكولاج اسما هو«رقيمة». ورقم في اللغة العربية مثل «رقن»، تفيد اللون والكتابة في آن واحد. واكتشفت بمرور الوقت، أن ما لا أستطيع أن أقوله شعرا ونثرا، يتاح لي ان اقوله بطريقة أخرى في فن الرقائم. واكتشفت أيضا أن ما أفعله في الرقائم نال اعجاب الناس وحبهم لأنه مختلف. وربما ذات يوم أتوقف عن كتابة الشعر وأتفرغ لهذا الفن.
achelious
11/10/2008, 20:01
من الشعر:D
يا أخي
موضوع لا تكفيه كلمة شكر
كفيت و وفيت
نقلت الموضوع على الجهاز و سأقرأه تدريجيا باذن الله
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة