ارسلان
04/10/2007, 06:19
ساره روزنسكي
رواية قصيرة
نزارب. الزين*
بيتوئيل ، حاخام يهودي شاب ،إلا أنه رغم صغر سنه النسبي أصبح قياديا بارزا في إحدى المنظمات الاستيطانية ، و أصبح تأثيره واضحا ، خاصة على طلاب المرحلة الثانوية ، و أصبحت مواعظه و مواضيع خطبه المثيرة حديث العائلات في مستوطنة ( كريات أربع ) و ما جاورها .
صوته الأجش و طلاقة لسانه و نظراته النافذة و معلوماته التاريخية – التوراتية ، و إتقانه للعبرية ) رغم أنه لم يكن يعرف عنها حرفا قبل حضوره إلى فلسطين مهاجرا مع أهله من الاتحاد السوفييتي ( ، إضافة إلى إتقانه إلى لغته الأم و اللغة الإنكليزية و إلمامه بالفارسية و بعض العربية أيضا ؛ كل ذلك جعله رجلا مدهشا ، و خاصة عندما كان يتحدث عن الميثولوجيا الدينية التي تبهر اليافعين عادة ، و تثير انفعالات العجائز و الروحانيين .
ساره ، و يناديها والداها ( ساروشكا ) صبية في السادسة عشرة ، تحمل الكثير من ملامح بنات ( أكرانيا ) ،و لكنها تحمل أفكارا لو افتضحت لاعتبرها سكان مستوطنة (كريات أربع) مرتدة ، بل ربما اتهموها بالخيانة ، فهي مشبعة منذ صغرها بآراء اليهود المتنورين ( ها هاسكالاه ) ، أما والدها مدرس الموسيقا فهو غير مقتنع كثيرا بما جاء في كتب اليهود الدينية - و خاصة ما أضيف منها إلى التوراة ، فكان زملاؤه يلقبونه بالشيوعي تارة أو اليساري أو الملحد تارة أخرى ، و لكنهم كانوا يغضون البصر عنه ، بسبب مهارته في مجاله و خلقه الطيب و عشرته الراقية ، و لأنه كان نادرا ما يتبجح بأفكاره ، و لأنه أخيرا كان ينظر إلى اليهودية من زاوية قومية ، لا تتعارض مع أهداف الحركة الصهيونية ، كما أنه لم يقصر بواجباته العسكرية رغم تقدم سنه ، فقد اشترك في حربي الستة أيام و حرب كيبور ( يوم الغفران- أي حرب تشرين 1973 ) .
أما والدتها التي كانت قبل قدومها إلى هنا معلمة في مدرسة ابتدائية ، فقد اتخذت موقفا محايدا من مسألة الدين ، و هكذا فإن العاطفة الدينية لم تكن دافعها إلى الهجرة ، إنما كان دافعها الحقيقي هو التغيير نحو الأفضل ، بتأثير دعاية صهيونية مخطط لها بإحكام .
ساروشكا ، إلى جانب جمالها الذي يعلو قليلا عن المستوى المتوسط ، تحمل ذكاء يرتفع كثيرا عن ذلك المستوى ، و هي رغم ميولها العلمية و تفوقها في الرياضيات و العلوم الفيزيائية ، فإنها تهوى أيضا مطالعة التاريخ العام و التاريخ المقارن على وجه الخصوص ، فاجتمعت هذه المواهب كلها لتجعل منها فتاة قوية الشخصية ، حرة التفكير ، إنسانية النزعة ، مما أدى بها إلى الاصطدام بالحاخام الشاب ( بيتوئيل ) مرارا ، كلما التقت به ، وعمدت إلى نقاشه .
و الغريب أن ( بيتوئيل) ، دأب على منحها الفرصة تلو الفرصة لمناقشته رغم علمه بقوة حججها ، لعله أدرك بحاسته القيادية أن ذلك سوف يعزز مكانته كقيادي ديمقراطي ، فينمي بذلك الهالة البراقة المتعاظمة يوما بعد يوم حول شخصه ، و هو يعلم أيضا أن أسلوبه النفاذ يمحو كل حجة مهما بلغت حصافتها .
و هناك أمر آخر لاحظه بعض الخبثاء ، فإنه ما أن يصعد أية منصة أو يتوسط أي جمع ، حتى تبدأ عيناه بالبحث – بشغف ممزوج بالقلق – عن شخص ما ، و إذ يزفر بارتياح ، و تشع الطمأنينة من عينيه ، فذلك معناه أنه عثر على ضالته ، و قد أدرك هؤلاء أنها " ساره روزنسكي " .
أما حقيقة مشاعرها ، فهي بالتأكيد عكس ما ظنوا ، فقد ظنوها بداية أنها تناكف الحاخام الشاب لتلفت نظره أو أنها تستلطفه ضمنا فتعبر عن ميلها باستفزازه ! و لكنها في حقيقة الأمر ، كانت تزداد نفورا منه يوما بعد يوم بعد يوم ، و يعتريها تقزز و اشمئزاز ، لا سيما عندما يتفث إيحاءاته العدوانية تجاه العرب ، الذين يلقبهم " أولاد الجارية " ، أو عندما يلقبهم بالعدوانيين الدمويين .
و إمعانا في تفكيرها المستقل ، كانت تزور المدن و البلدات العربية القريبة من مستوطنتها ، تلك التي خضعت للاحتلال الإسرائيلي منذ حرب الأيام الستة ، محاولة أن تتعلم ما أمكنها من عبارات المخاطبة و المجاملة العربية اليومية ، حتى أنها نجحت بأن تخفف تحفظ الكثيرين تجاهها .
و لم يمنعها أحد من الإسرائيليين جنودا أو مستوطنين ، فدورياتهم تجوب كل مكان ، و يمكنهم نجدتها عند أول إشارة .
كانت تحمل في جوانحها فضولا قويا للتعرف على أبناء الجارية ، كما أسماهم بيتوئيل و آخرون ، و هل هم حقا عدوانيون بطبعهم كما يزعم ؟ هل هم من طينة شيطانية و أعداء للبشرية ؟ هل يمكن لشعب بحاله أن يوصف بالعدوانية ؟ أليس ذلك من قبيل التعميم الظالم ؟ ثم تعود لتؤكد لنفسها أن العرب بشر لا يختلفون عن قومها سوى بالملبس و طريقة العبادة ، أنهم مغلوبون على أمرهم لسبب لا تزال تجهله ، لعله بسبب ثالوث التخلف ( الفقر و الجهل و المرض ) ؟! الذي عززته الحروب و الهزائم .
كانت ( ساره ) تعيش أزمة ضمير ؛ فجأة اقتلعت من بيتها في ( كييف ) ، دخل والدها ذات يوم جذلا و هو يردد : " لقد سمحوا لنا بالهجرة إلى إسرائيل " . ثم وجدت نفسها تنتقل مع والديها من قطار إلى قطار ، حتى بلغوا مدينة فيينا ، و من معسكر أقيم للمهاجرين اليهود هناك ، مكثوا فيه بضعة أسابيع ، سافروا عبر جسر جوي أقامه طيران ( العال ) إلى مطار اللد ، و من معسكر أقيم قريبا من المطار ، مكثوا فيه بضعة أسابيع أخرى ، نقلوهم إلى مستوطنة ( كريات أربع ) ، ثم أسكنوهم في شقة أُنجز بناؤها لتوها .
إلا أن الحلم الموعود لم يكن مفروشا بالورود ، فقد تحول إلى واقع من الغربة الموحشة ، الغربة الضاربة جذورها في أعماق الأعماق ، رغم كل هذه السنين الثماني التي انقضت على أول خطوة لها و لوالديها في هذه الأرض التي يسمونها " أرض الميعاد " .
بدأت متاعبها و وحشتها مع بداية تعلمها للعبرية التي كانت بالنسبة لها آنئذ مجرد أحاج ، ثم من خلال احتكاكها بزملاء متعصبين ، يفرقون بين إشكنازي و سفارادي - أي بين يهودي شرقي و يهودي غربي ، و بين مهاجر محدث و مواطن قديم ، و عمق وحشتها عشرات المآتم و الجنازات التي عايشتها لمدة أسبوعين إبان حرب كيبور ( حرب تشرين 1973 ) ، كما عمقتها أكثر و أكثر تلك الكراهية التي كانت تشع من عيون العرب أينما قابلتهم أو صادفتهم ، حتى هؤلاء الباعة الذين أفلحت بإزالة تحفظهم تجاهها ، تشعر بأنهم يعاملونها الآن على أنها " عدوة لطيفة " ، أو " عدوة معتدلة أو فضولية " ، و تظل لفظة " عدوة " هي القاسم المشترك ، رغم أنها لا تضمر عداء لأي كان ، و لكن من له القدرة أن يتكهن بخبايا نفسها ؟
و يمعن بمضاعفة شعورها بالاغتراب ، ذلك النباح المخيف الذي يطلقه الحاخام الشاب ( بيتوئيل ) ، لا سيما عندما يطالب بتوسيع مستوطنته (كريات أربع) على حساب أراضي مدينة الخليل المجاورة التي يسمونها ( حبرون ) ، حيث بشر الرب أبراهام و سارة بإنجاب يتسحاق رغم شيخوخته عند بلوطات ( ممرا ) ، و حيث مثوى أبراهام و ساره في مغارة ( ها مكفيلا ) ؛ و كأنما ضاقت الدنيا إلا عن هذه المدينة العربية ، فتتساءل محتارة :
" ما الداعي إلى نبش التاريخ و استرجاع الزمن السحيق ؟ و ما الداعي لحلول شعب مهاجر محل سكان عاشوا في مدينتهم هذه مئات السنين ؟"
و تظل تساؤلاتها مكتومة ، لأن والديها حذراها مرارا من الجهر بمثل هذه الأفكار ، و إن أيداها ببعضها .
كانت ( ساروشكا ) إذا ما أثقلت عليها أفكارها و شعرت بالعجز الكامل عن التنفيس عنها ، تخرج إلى الشارع الرئيسي في مستوطنتها ، ثم تتجه منه مبتعدة نحو ربوة سهلة التسلق ، حتى إذا بلغت قمتها ، أطلت من طرف على المدينة العربية و من طرف آخر على مستوطنتها ، فتمكث هناك فترة تطول أحيانا أو تقصر أحيانا أخرى ، مفكرة متأملة لتصل دوما إلى النتيجة التالية : " لقد اضطهدَتنا أمم الأرض منذ البابليين و حتى العهد النازي ؛ و ها نحن نكرر نفس الخطيئة المميتة ، فنتسلط على غيرنا و نضطهدهم ، فهل هذه رسالة رب إسرائيل ؟ إن كانت كذلك فإنني .....!"
و إذ تبلغ هذا المنعطف الخطر ، تكبح نفسها عن الاسترسال ، فمن هي حتى تجرؤ على إعادة تكوين فكر سائد ؟
****
يتبع
رواية قصيرة
نزارب. الزين*
بيتوئيل ، حاخام يهودي شاب ،إلا أنه رغم صغر سنه النسبي أصبح قياديا بارزا في إحدى المنظمات الاستيطانية ، و أصبح تأثيره واضحا ، خاصة على طلاب المرحلة الثانوية ، و أصبحت مواعظه و مواضيع خطبه المثيرة حديث العائلات في مستوطنة ( كريات أربع ) و ما جاورها .
صوته الأجش و طلاقة لسانه و نظراته النافذة و معلوماته التاريخية – التوراتية ، و إتقانه للعبرية ) رغم أنه لم يكن يعرف عنها حرفا قبل حضوره إلى فلسطين مهاجرا مع أهله من الاتحاد السوفييتي ( ، إضافة إلى إتقانه إلى لغته الأم و اللغة الإنكليزية و إلمامه بالفارسية و بعض العربية أيضا ؛ كل ذلك جعله رجلا مدهشا ، و خاصة عندما كان يتحدث عن الميثولوجيا الدينية التي تبهر اليافعين عادة ، و تثير انفعالات العجائز و الروحانيين .
ساره ، و يناديها والداها ( ساروشكا ) صبية في السادسة عشرة ، تحمل الكثير من ملامح بنات ( أكرانيا ) ،و لكنها تحمل أفكارا لو افتضحت لاعتبرها سكان مستوطنة (كريات أربع) مرتدة ، بل ربما اتهموها بالخيانة ، فهي مشبعة منذ صغرها بآراء اليهود المتنورين ( ها هاسكالاه ) ، أما والدها مدرس الموسيقا فهو غير مقتنع كثيرا بما جاء في كتب اليهود الدينية - و خاصة ما أضيف منها إلى التوراة ، فكان زملاؤه يلقبونه بالشيوعي تارة أو اليساري أو الملحد تارة أخرى ، و لكنهم كانوا يغضون البصر عنه ، بسبب مهارته في مجاله و خلقه الطيب و عشرته الراقية ، و لأنه كان نادرا ما يتبجح بأفكاره ، و لأنه أخيرا كان ينظر إلى اليهودية من زاوية قومية ، لا تتعارض مع أهداف الحركة الصهيونية ، كما أنه لم يقصر بواجباته العسكرية رغم تقدم سنه ، فقد اشترك في حربي الستة أيام و حرب كيبور ( يوم الغفران- أي حرب تشرين 1973 ) .
أما والدتها التي كانت قبل قدومها إلى هنا معلمة في مدرسة ابتدائية ، فقد اتخذت موقفا محايدا من مسألة الدين ، و هكذا فإن العاطفة الدينية لم تكن دافعها إلى الهجرة ، إنما كان دافعها الحقيقي هو التغيير نحو الأفضل ، بتأثير دعاية صهيونية مخطط لها بإحكام .
ساروشكا ، إلى جانب جمالها الذي يعلو قليلا عن المستوى المتوسط ، تحمل ذكاء يرتفع كثيرا عن ذلك المستوى ، و هي رغم ميولها العلمية و تفوقها في الرياضيات و العلوم الفيزيائية ، فإنها تهوى أيضا مطالعة التاريخ العام و التاريخ المقارن على وجه الخصوص ، فاجتمعت هذه المواهب كلها لتجعل منها فتاة قوية الشخصية ، حرة التفكير ، إنسانية النزعة ، مما أدى بها إلى الاصطدام بالحاخام الشاب ( بيتوئيل ) مرارا ، كلما التقت به ، وعمدت إلى نقاشه .
و الغريب أن ( بيتوئيل) ، دأب على منحها الفرصة تلو الفرصة لمناقشته رغم علمه بقوة حججها ، لعله أدرك بحاسته القيادية أن ذلك سوف يعزز مكانته كقيادي ديمقراطي ، فينمي بذلك الهالة البراقة المتعاظمة يوما بعد يوم حول شخصه ، و هو يعلم أيضا أن أسلوبه النفاذ يمحو كل حجة مهما بلغت حصافتها .
و هناك أمر آخر لاحظه بعض الخبثاء ، فإنه ما أن يصعد أية منصة أو يتوسط أي جمع ، حتى تبدأ عيناه بالبحث – بشغف ممزوج بالقلق – عن شخص ما ، و إذ يزفر بارتياح ، و تشع الطمأنينة من عينيه ، فذلك معناه أنه عثر على ضالته ، و قد أدرك هؤلاء أنها " ساره روزنسكي " .
أما حقيقة مشاعرها ، فهي بالتأكيد عكس ما ظنوا ، فقد ظنوها بداية أنها تناكف الحاخام الشاب لتلفت نظره أو أنها تستلطفه ضمنا فتعبر عن ميلها باستفزازه ! و لكنها في حقيقة الأمر ، كانت تزداد نفورا منه يوما بعد يوم بعد يوم ، و يعتريها تقزز و اشمئزاز ، لا سيما عندما يتفث إيحاءاته العدوانية تجاه العرب ، الذين يلقبهم " أولاد الجارية " ، أو عندما يلقبهم بالعدوانيين الدمويين .
و إمعانا في تفكيرها المستقل ، كانت تزور المدن و البلدات العربية القريبة من مستوطنتها ، تلك التي خضعت للاحتلال الإسرائيلي منذ حرب الأيام الستة ، محاولة أن تتعلم ما أمكنها من عبارات المخاطبة و المجاملة العربية اليومية ، حتى أنها نجحت بأن تخفف تحفظ الكثيرين تجاهها .
و لم يمنعها أحد من الإسرائيليين جنودا أو مستوطنين ، فدورياتهم تجوب كل مكان ، و يمكنهم نجدتها عند أول إشارة .
كانت تحمل في جوانحها فضولا قويا للتعرف على أبناء الجارية ، كما أسماهم بيتوئيل و آخرون ، و هل هم حقا عدوانيون بطبعهم كما يزعم ؟ هل هم من طينة شيطانية و أعداء للبشرية ؟ هل يمكن لشعب بحاله أن يوصف بالعدوانية ؟ أليس ذلك من قبيل التعميم الظالم ؟ ثم تعود لتؤكد لنفسها أن العرب بشر لا يختلفون عن قومها سوى بالملبس و طريقة العبادة ، أنهم مغلوبون على أمرهم لسبب لا تزال تجهله ، لعله بسبب ثالوث التخلف ( الفقر و الجهل و المرض ) ؟! الذي عززته الحروب و الهزائم .
كانت ( ساره ) تعيش أزمة ضمير ؛ فجأة اقتلعت من بيتها في ( كييف ) ، دخل والدها ذات يوم جذلا و هو يردد : " لقد سمحوا لنا بالهجرة إلى إسرائيل " . ثم وجدت نفسها تنتقل مع والديها من قطار إلى قطار ، حتى بلغوا مدينة فيينا ، و من معسكر أقيم للمهاجرين اليهود هناك ، مكثوا فيه بضعة أسابيع ، سافروا عبر جسر جوي أقامه طيران ( العال ) إلى مطار اللد ، و من معسكر أقيم قريبا من المطار ، مكثوا فيه بضعة أسابيع أخرى ، نقلوهم إلى مستوطنة ( كريات أربع ) ، ثم أسكنوهم في شقة أُنجز بناؤها لتوها .
إلا أن الحلم الموعود لم يكن مفروشا بالورود ، فقد تحول إلى واقع من الغربة الموحشة ، الغربة الضاربة جذورها في أعماق الأعماق ، رغم كل هذه السنين الثماني التي انقضت على أول خطوة لها و لوالديها في هذه الأرض التي يسمونها " أرض الميعاد " .
بدأت متاعبها و وحشتها مع بداية تعلمها للعبرية التي كانت بالنسبة لها آنئذ مجرد أحاج ، ثم من خلال احتكاكها بزملاء متعصبين ، يفرقون بين إشكنازي و سفارادي - أي بين يهودي شرقي و يهودي غربي ، و بين مهاجر محدث و مواطن قديم ، و عمق وحشتها عشرات المآتم و الجنازات التي عايشتها لمدة أسبوعين إبان حرب كيبور ( حرب تشرين 1973 ) ، كما عمقتها أكثر و أكثر تلك الكراهية التي كانت تشع من عيون العرب أينما قابلتهم أو صادفتهم ، حتى هؤلاء الباعة الذين أفلحت بإزالة تحفظهم تجاهها ، تشعر بأنهم يعاملونها الآن على أنها " عدوة لطيفة " ، أو " عدوة معتدلة أو فضولية " ، و تظل لفظة " عدوة " هي القاسم المشترك ، رغم أنها لا تضمر عداء لأي كان ، و لكن من له القدرة أن يتكهن بخبايا نفسها ؟
و يمعن بمضاعفة شعورها بالاغتراب ، ذلك النباح المخيف الذي يطلقه الحاخام الشاب ( بيتوئيل ) ، لا سيما عندما يطالب بتوسيع مستوطنته (كريات أربع) على حساب أراضي مدينة الخليل المجاورة التي يسمونها ( حبرون ) ، حيث بشر الرب أبراهام و سارة بإنجاب يتسحاق رغم شيخوخته عند بلوطات ( ممرا ) ، و حيث مثوى أبراهام و ساره في مغارة ( ها مكفيلا ) ؛ و كأنما ضاقت الدنيا إلا عن هذه المدينة العربية ، فتتساءل محتارة :
" ما الداعي إلى نبش التاريخ و استرجاع الزمن السحيق ؟ و ما الداعي لحلول شعب مهاجر محل سكان عاشوا في مدينتهم هذه مئات السنين ؟"
و تظل تساؤلاتها مكتومة ، لأن والديها حذراها مرارا من الجهر بمثل هذه الأفكار ، و إن أيداها ببعضها .
كانت ( ساروشكا ) إذا ما أثقلت عليها أفكارها و شعرت بالعجز الكامل عن التنفيس عنها ، تخرج إلى الشارع الرئيسي في مستوطنتها ، ثم تتجه منه مبتعدة نحو ربوة سهلة التسلق ، حتى إذا بلغت قمتها ، أطلت من طرف على المدينة العربية و من طرف آخر على مستوطنتها ، فتمكث هناك فترة تطول أحيانا أو تقصر أحيانا أخرى ، مفكرة متأملة لتصل دوما إلى النتيجة التالية : " لقد اضطهدَتنا أمم الأرض منذ البابليين و حتى العهد النازي ؛ و ها نحن نكرر نفس الخطيئة المميتة ، فنتسلط على غيرنا و نضطهدهم ، فهل هذه رسالة رب إسرائيل ؟ إن كانت كذلك فإنني .....!"
و إذ تبلغ هذا المنعطف الخطر ، تكبح نفسها عن الاسترسال ، فمن هي حتى تجرؤ على إعادة تكوين فكر سائد ؟
****
يتبع