-
دخول

عرض كامل الموضوع : الله يلبس ثوبا


Abu ToNi
26/09/2007, 00:59
خرج الصبيّ مرتبكّاً. لقد تكلّم الحكيم على صفات الله مقارنةً بم للبشر أمثالنا, فلم يفهم جيداً ما قيل. كلّ ما استنتجه هو أن الله لا يأكل ولا يشرب, لا يغزل ولا ينسج. وحين سأل كيف يحصل الربّ على الثياب انتهره الحكيم وقال إنّ الله روح ولا يحتاج إلى الثياب. لذلك خرج يحدّث نفسه ويقول:
-يا للخجل. الله عار ونحن نتمتع بشراء الملابس.
وعقد العزم على أن يحيك لله ثوباً حريرياً. فمدينته مشهورة بصناعة الحرير. وفي الطريق, مرّ بالسوق وانخرط في الزحام. كانالباعة يصيحون بأعلى أصواتهم ليروّجوا بضاعتهم, والناس يتدافعونبالأكتاف, كلّ واحد يحاول أن يشقّ لنفسه طريقاً. ورأى الصبيّ أماًّ تحمل بيديها أكياس فيها خضرة وفاكهة, وصغيرها يسير أمامها بصعوبة لسبب الزحام. كانت مرتبكة جداً وقد احمرّ وجهها من الغضب والاضطراب. تقدّم الصبيّ منها وحياها وقال:
-هل تريدين أن أساعدك يا خالة؟
حدّقت فيه فلمست البراءة في نظراته وصدق النّية. فأعطته بعضالأكياس وحررّت يدها لتحمل صغيرها على ذراعها وتتابع طريقها. وحين وصلت إلى بيتها شكرته وناولته قطعة نقديّة فرفض وقال:
-أنوي حياكة ثوب. فإذا كان لديكِ كبّة حريرٍ لا تستعملينها آخذها.
فأعطته كبّة حريرٍ زهريّة شكراً له على سخائه في الخدمة, فأخذها وانصرف.
وفي الطريق, ناداه الإسكافيّ الشاب. كان الصبّي يعرفه منذ زمن,ويعلم أنه عاشق متّيم بفتاة تقطن الحيّ المجاور. دعاه الإسكافيّ إلى الاقتراب منه وهمس في أذنه رسالة, وسأله أن ينقلها إلى حبيبته شفوياً. لبىّ الصبيّ الطلب وبلّغ الفتاة عبارات الحبّ الولهان, فسُرَّتواحمّر وجهها خجلاً, وأرادت أن تُعطيه حلوى فرفضها وقال:
-أنوي حياكة ثوب. فإذا كان لديك كبّة حريرٍ لا تستعملينها آخذها.
فأعطته كبّة حريرٍ حمراء كالدمّ علامة على حبّها المتيّم وفرحها بالحياة, فأخذها وانصرف.
مرّ بالقرب من بيت صديقه الذي مات في حادث مؤلمٍ منذ ستة أشهر. كان الباب مفتوحاً والأمّ في الداخل متربعة على الأرض وأمامها طشت مملوء بالماء الساخن والثياب الوسخة. دخل البيت بصمت و نظر إلى الأمِّ فرأى الدموع تسيل من مقلتيها . جلس
بجانبها و أسند رأسه على كتفها و لم يقل شيئاً. فتوقفت عن دعك الغسيل و تنهّدت. ونظرت إليه فرأت صورة ابنها. تأثرت كثيراً من حضوره الصامت وضمتّه إلى صدرها وقبّلته. وبعد أن هدأت مشاعرها, نهضت لتحضّر له شراباً. فاعتذر عن الشرب وقال:
-أنوي حياكة ثوب. فإذا كان لديكِ كبّة حريرٍ لا تستعملينها آخذها.
فأعطته كبّة حريرٍ رمادية علامة على خزنها العميق وشجنها,فأخذها وانصرف.
وفي الشارع, صادف متسوّلاً فاستوقفه وحياّه. وتعجّب المتسوّل.فمن عادة الناس أن يشيحوا بوجوههم عنه لكي لا يسألهم صدقة. وها إنّ صبيّاً يسعى إلى الحوار معه. أتراه فعل ذلك لأنه لا يخشىأن يسأله متسوّل صدقة؟ تحادث الاثنان برهة ثم قال الصّبي:
-أنوي حياكة ثوب. فإذا كان لديك كبّة حريرٍ لا تستعملها آخذها.
صمت المتسوّل ووجم.إنها أوّل مرّة يسأله واحدٌ صدقة, وليس من عادته أن يقوم بدور المحسنين. وبعد تردّد, بحث في كيسه وأعطى الصبّي كبّة حريرٍ بنيّة بلون التراب علام على فقره ووضاعة شأنه. فأخذها وانصرف.
اقترب من البيت, فرأى إحدى الجارات تطلّ من نافذتها. لقد طلّقها زوجها وتركها فريسة للفقر والعوز. وأهل الحيّ لايصادقونها, ويقولون إنّها تكسب مالاً من مهنة شائنة. حيّاها الصبّي فدهشت لتحيّته وابتسمت وردّت عليه بحرارة. فقال لها:
-أنوي حياكة ثوب. فإذا كان لديكِ كبّة حريرٍ لا تستعملينها آخذها. فأعطته كبّة حريرٍ بيضاء كالثلج علامة على حبّها للطهارة, فأخذها وانصرف.
وقبل أن يدخل الدار, شاهد ابن جيرانه, وهو ضابط في الجيش,يسير شامخ الرأس فخوراً ببنيته الصلبة. حيّاه الصبّي وقال له:
- أنوي حياكة ثوب. فإذا كان لديك كبّة حريرٍ لا تستعملها آخذها.
ابتسم الضابط وطلب منه أن ينتظر قليلاً. غاب ثّم عاد وأعطاه كبّة حريرٍ صفراء كالليمون علامة على حب العظمة والرغبة في الخلود. فأخذها وانصرف.
وفي اليوم التالي, زار الصبّي ابن جيرانه الذي رسب في امتحان الشهادة. كان كئيباً حزيناً, وقد اعتكف في غرفته وانطوى على ذاته. دخل الصبّي إلى غرفته وجلس على السرير, فرمقه الطالب بنظرة انزعاج وسأله عماّ يريده فقال:
-أنوي حياكة ثوب. فإذا كان لديك كبّة حريرٍ لا تستعملها آخذها.
سحب الطالب الجارور وأعطاه منه كبّة حريرٍ سوداء كالكحل علامة على فشله وشعور العزلة الّذي يسيطر عليه, فأخذها وانصرف.
بعد مضيّ أسبوع, جمع الصبيّ كميّة كبيرة من الحرير بألوان مختلفة.فمن جاره المريض, الذي اعتنى به حين غاب ابنه في عمل له بمدينة أخرى, حصل على كبّة حريرٍ خضراء علامة الرجاء. ومن الشيخ حصل على كبّة حريرٍ برتقالية اللون علامة على التقوى ومخافة الله. ومن المعلمّ حصل على كبّة حريرٍ بنفسجية علامة على
الحكمة والاتزان. وعندما أخبر النسّاج عن رغبته في صنع رداء لله ضحك وأضاف إلى الحرير خيوطاً ذهبية علامة على الجلالة والوقار, ونسج له من الحرير الذي جمعه قطعةً قماشيّةً جميلة.
أخذ الصبّي القماش وذهب إلى مزارٍ ووضعه عليه. ركع وصلّى وسأل الوليّ أن يحمل النسيج إلى سيّد الكون هدية متواضعة من صبّي مشاكس. ثم عاد إلى بيته قرير
العين. وفي اليوم التالي, مرّ بالمقام ولم يجد القماش. فسُرّ سروراً عظيماً وسار في الشوارع وصاح.
يا أيها الناس لقد اكتسى الله.
حمل آلامنا واحتمل أوجاعنا وآثامنا.
أعمال قلوبنا سربلته برداء بهّي.
ليترك الشرير طريقه والأثيم أفكاره.
فإن الله عطوف رؤوف طويل الأناة وكثير الرحمة.

وأنت يا عزيزي, ما لون كبّة الحرير التي تودّ أن تقدّمها وإلامَ ترمز؟

من كتاب و أنت ياعزيزي للأب سامي حلاق