-
دخول

عرض كامل الموضوع : عبر ترويج قراءة وطنية جديدة للتاريخ والإنسانيات، يعيد الكرملين تشكيل العقل الروسي


ما بعرف
27/08/2007, 03:25
العودة إلى الحقبة السـوفـــــيـيـتـية
كتب:أوين ماثيوز

في روسيا، ترفض أشباح الماضي أن تموت. هذا الشهر، احتشد مئات الأشخاص في ضاحية بوتوفو في موسكو في مقبرة جماعية لـ20000 ضحية سقطوا في حملات التطهير التي قادها جوزيف ستالين. وبينما كان الكهنة يرتلون ترنيمة الموتى، كان المشاركون يرفعون صليبا عملاقا من الصنوبر قُطًع من أشجار جزر سولوفتسكي، التي كانت سجنا سوفييتيا سيئ السمعة. تقول أولغا فاسيلييفا، 81 عاما، التي قُتل والدها المهندس عام 1937 لأنه "عدو الشعب": "يجب ألا تنسى روسيا أبدا ما حصل هنا. لا يمكننا التغاضي عن جرائم ستالين» وإلا سينتهي بنا الأمر بتكرارها".
يبدو أن الكرملين لا يوافقها الرأي. فقد قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام مجموعة من مدرسي التاريخ الشهر الماضي إنه على الرغم من أن ماضي روسيا يحتوي على "صفحات مثيرة للإشكاليات"، فهي قليلة و"ليست مروًّعة بقدر صفحات الآخرين". وتابع، أنه بغض النظر عن هذه الصفحات، فمن واجب المدرس أن يجعل تلاميذه "فخورين بوطنهم". ولهذه الغاية، أطلقت الحكومة حملة لتغيير الطريقة التي يُدرَّس بها التاريخ لتلاميذ المدارس. ففي مطلع هذا العام، طلبت أكاديمية التربية الروسية إجراء مراجعة واسعة النطاق لكتب التاريخ المدرسية الأساسية. لكن المؤرخين يتذمرون من أن التوجيهات الجديدة التي أصدرتها الأكاديمية تهدف إلى محو الفظائع التي ارتكبها ستالين والتقليل من شأن خسارة الاتحاد السوفييتي للحرب الباردة. ويتذمر أحد المحررين، وهو المؤرخ إسحق روزنتال قائلا:"يظن الكرملين أنه من الأسهل بكثير ترسيخ الذاكرة حول ذكريات جميلة من التاريخ بدلا من الوقائع السلبية. لا تقوم مقاربتهـــم على دراســـة التاريــخ بل على توظيفه". ويصف كتاب جديد وافقـت عليه الـدولة A Book for Teachers: The Modren History of Russia 6002ـ5491 (كتاب المدرسين: تاريخ روسيا الحديث، 1945ــ2006)، ستالين بـ" أكثر قادة الاتحاد السوفييتي نجاحا". وفي ما يتعلق بمقتل نحو 25 مليون شخص في حملات التطهير وبرنامج التجميع الزراعي، يلحظ الكتاب ببرودة مثيرة للقشعريرة، أن " القمع السياسي لم يستخدم، لتعبئة المواطنين العاديين فحسب، بل النخبة الحاكمة أيضا". كتاب التاريخ الجديد أشد قسوة بكثير على بوريس يلتسين ــ الذي قاد انتقال روسيا الفوضوي إلى مرحلة ما بعد الشيوعية في التسعينات من القرن الماضي حيث يشجب سياساته "الضعيفة" و"الموالية للغرب".
يأتي هذا المجهود لإعادة كتابة التاريخ الروسي في أعقاب محاولات الكرملين تسويق أفكاره عن روسيا عظيمة صاعدة من جديد في كل مجالات العلوم والإنسانيات. وقد لجأ المشروع العلمي الأبرز الذي قامت به روسيا في السنوات الأخيرة إلى الغواصات الروسية الشهيرة في مجال الأبحاث، وذلك من أجل زرع علم روسي في قاع البحر تحت القطب الشمالي الشهر الماضي كجزء من مجهود لضم المنطقة التي يُرجَّح أن تكون غنية بالموارد إلى روسيا. وقد أدى برنامج الإنسانيات الذي حظي بأفضل تمويل من الكرملين إلى إنشاء معهد روسي جديد لترويج اللغة الروسية المحكية والثقافة الروسية حول العالم، لا سيما في الدول السوفييتية السابقة.
هل يمكن أن تؤدي هذه الموجة الجديدة من الوطنية التي ترعاها الدولة إلى انغلاق العقل الروسي» فيواجه النقاش الفكري مصيرا مشابها لحرية التعبير وسياسة المعارضة؟ يسخر غليب بافلوفسكي، مدير مركز موسكو للسياسات الفعالة وأحد كبار الأيديولوجيين في الكرملين، من الفكرة. فهو يعتبر أن أي جدل تثيره كتب التاريخ المدرسية الجديدة يظهر أن "الحياة الفكرية في روسيا في أفضل حال ويتابع: من المستحيل أن تفرض الدولة أيديولوجيتها في مجتمع معلومات. لكن ما تريده السلطات هو تحديد النقاش» أي التمييز بين ما هو صائب سياسيا وما هو غير صائب".
بالفعل، يبدو وكأن واضعي كتاب الأستاذ الجديد يهدفون بكل وضوح إلى تغيير ما يسميه أحد محرري الكتاب، ألكسندر فيليبوف، "هجوما دعائيا" يُشَن من داخل روسيا وخارجها على السواء. فهو يعتبر أن الكتب القديمة التي تعود إلى حقبة يلتسين كانت تتوقف كثيرا عند مساوئ الحكم السوفييتي وهو ما أوحى أنه "ليس لروسيا مكان في مجموعة ما يُعرَف بالدول المتحضرة" وأنه "بوصفها خليفة نظام استبدادي، حُتّم على روسيا أن تتوب إلى الأبد عن جرائم هذا النظام الحقيقية أو الملفَّقة".
بالنسبة إلى الروس، النقاش التاريخي الحر هو في معظم الأحيان مؤشر عن الحرية ذاتها. عندما شجب نيكيتا خروشوف جرائم ستالين (سرا) أمام مؤتمر الحزب عام 1956، أطلق انفراجا قصير الأمد سمح للروس بالتكلم والسفر والعمل بحرية أكبر. لكن هذا الانفراج انتهى في عهد خلفاء خروشوف، ولم يُسمَح للمؤرخين الروس باستكشاف الفظائع الكاملة للحكام السوفييت السابقين إلا في ظل سياسة المكاشفة (غلاسنوست) التي طبقها ميخائيل جورباتشوف في الثمانينات من القرن الماضي. حاليا، المكتبات الروسية ممتلئة بكتب تفضح كل شيء من الحياة الخاصة لكاترين العظمى إلى مذكرات مترجم ليونيد بريجنيف. يقول إدوارد رادزينسكي، المؤرخ الأكثر شعبية في روسيا: "المجتمع الروسي الحديث متعطش جدا إلى التاريخ". ويتابع أن كبير أيديولوجيي بوتين ونائب رئيس الموظفين في الكرملين، فلاديسلاف سوركوف، يطلب الآن "من المؤرخين خلق أيديولوجيا جديدة لأنفسهم تتناسب مع النظام". وفي حين قاوم بعض الأعضاء الأكبر سنا في الإنتليجنسيا الروسية هذه الدعوات، وجد الحنين السوفييتي طريقه إلى نفوس جيل أصغر سنا حُمًل على التصديق بأن الجهود لترويج الديموقراطية على الطريقة الغربية في روسيا هي محاولات من الداخل لإضعاف البلاد.
باختصار، تنجح حملة الكرملين. فبحسب استطلاع آراء أجراه مركز ليفادا في موسكو الشهر الماضي، يعتبر 54 في المائة من الروس الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و19 عاما أن ستالين كان "قائدا حكيما"، كما اعتبرت نسبة مماثلة أن انهيار الاتحاد السوفييتي كان "مأساة". (قال الثلثان أيضا إن أمريكا "خصم وعدو"، وقال 62 في المائة إنه ينبغي على الحكومة "ترحيل معظم المهاجرين"). يقول فيليب كوزنتسوف، الذي يدرس العلاقات الدولية في جامعة موسكو: "يعتبر عدد كبير من زملائي في الصف أنه كانت هناك حقبة سوفييتية ذهبية قبل أن يأتي الغرب ويدمر كل شيء. ويعتبرون أيضا أنه يحق للدولة أن تفعل لمواطنيها كل ما يحلو لها باسم قضية عظيمة ما".
بوتين نفسه بدأ إعاة تأهيل التاريخ السوفييتي. فقد قال أمام مؤتمر لمدرسي التاريخ في مطلع هذا العام: "ليس لدى روسيا ما تخجل منه"، وإن الوقت حان "للتوقف عن الاعتذار". وأضاف أن أمريكا هي التي ألقت قنبلة ذرية على هيروشيما والقنابل المشتعلة على الأدغال الفيتنامية. تعتبر ليودميلا ألكسييفا من مجموعة هلسينكي في موسكو، أن التعظيم الجديد للماضي السوفييتي يشكل خطرا وفرصة ضائعة على السواء. وتقول: "لدى الكرملين مثال ممتاز تقدمه ألمانيا عن دولة أصبحت قوية عبر التفكير في أخطائها في سبيل تجاوزها. لكن بدلا من ذلك، سوف يحشون عقول الأولاد بالأكاذيب من جديد". إذا كان هذا يعني جعل جيل جديد من الأولاد يتشرب أساطير القوة العظمى عن العالم السوفيتي حيث كان الانشقاق يعني "الخيانة" والقمع السياسي "القوة"، فإن أشباح روسيا لن ترقد بسلام.
بمشاركة آنا نيمتسوفا في موسكو