-
دخول

عرض كامل الموضوع : رحيل في زورق مقدّس/ حليم بركات- رواية إنانة والنهر


سراب حيفا
20/08/2007, 20:25
رحيل في زورق مقدّس/ حليم بركات- رواية إنانة والنهر


حيث يلتقي النهر بالنهر.
نسجت إنانة سريرًا من القشّ كما تنسج قصيدة،
جمعته من بقايا حصاد القمح في بدايات الصيف،
في النهايات الأولى من أيام الحصاد،
وكانت الشمس تنطلق في أسر الليل.
في الأيام الأولى، في بدايات الأيام الأولى،
انطلقت الشمس برتقالة من أسر الليل
وفرشت على الأرض البكر شعاعها.
في فجر الأيام الأولى، في بدايات الأيام الأولى،
خرجت إنانة إلى الحقول الذهبية،
ناشرة شعاع جسدها على الماء والتراب.
في بدايات الأيام الأولى،
جمعت القشّ ونسجت سريرًا،
كما تنسج قصيدة،
لتموز الراعي الذي حبلت به أمّه في ليلة مقدّسة.
وُلد من رحم الخصب كما تشرق الشمس.
بعد عاصفة مطريّة، وطوفان غمر الأرض.
حاكت سريرًا من القشّ لتنام في ساعات الليل الأخيرة
لتنام مع تموز الراعي الذي يعبق جسده بأريج النرجس
في لحظة تفتّحه الأولى.
هو الذي دخل قلبها دون عناء ولا علم منها،
الذي يتفتّح الزهر للمس يديه،
وينبت العشب على قدميه،
ويتدلّى شعره أغصانا على كتفيه.
الرغبة خميرة حياتها،
وها هو يقبل طافحا بالرغبة الأولى
فتفتح له أبواب جسدها المشعّ بألوان البرتقالة.
يقول بصوت يشبه رقرقة المياه لحظة تدفّقها من ينابيع الصخر،
وتحت شجرات الدّلب المتداخلة،
افتحي أبواب جسدك يا إنانة يا ملكة الأرض والسماء،
عرّيه للشمس في بدايات الصباح،
حمّميه بعطر النرجس،
أضيئيه بوهج الرغبة الأولى
تمّوز، تقول إنانة لنفسها، يتوق إليك،
ينتظر أن تفتحي له أبواب جسدك،
يحلم بك مأخوذا بلهفة الخصب بعد شتاء طويل،
افتحي الباب يا سيّدتي، افتحي الباب،
فتموز ينتظرك مدفوعًا بلهفة العشق الأوّل
جسده يطفح بالشّبق،
وعيناه تتوقعان للبريق المشعّ في عينيك
تمّوز ينتظرك عند الباب أسيرًا في شَرَك الشهوة
في بدايات تفتّحها، في اللحظة الأولى من ولادتها
كما تولد الريح في الأودية العميقة
حيث يكاد يلتقي جبل الشيخ صالح بجبل البتول،
والبرعم بالغصن.
يُقْبِل إليها صوت تمّوز من مغاور الخضر مرتجفًا ورقراقًا:
"كفى تمنّعًا. من التمنّع تولد رغبة العشق.
افتحي باب جسدكِ، يا سيّدتي، افتحي الباب
كي يدخل الضوء حياتي وحياتك،
سأكون رفيقك إلى الأبد في رحلة العمر الطّويلة.
لا أطلب إشباع غربة عابرة؛
أبحث عن صداقة دائمة تتجدّد مثل الفصول".
بتردّد فتحتْ له إنانة الباب فدخل،
دخل كما تشرق الشمس وراء الجبال،
فاستضاءت بالشعاع الطَافح من جسده،
واستضاء بنور القمر في جسدها
تأمّل عريها، وتأمّلت عريه.
أسند عنقه إلى عنقها، وأسندت عنقها إلى عنقه
قبّل شفتيها؛ قبّلت شفتيه
حاكت من كلماته أغنية إليه،
وحاك من كلماته أغنية إليها.
شرب من رحيق فهمها، وشربت من رحيق فمه
وفوق السرير الذي حاكته من القشّ،
كما تحوك قصيدة في أيام الصمت،
ألقت رأسها المتعب على ذراعه،
وأسند رأسه المضطرب إلى صدرها.
من قاع النّشوة، بعد عناق طويل، صرخت إليه
أن يحرث حقلها،
مانحة إياه زورقها السماوي،
زورقها السماوي الذي حمله وراء تخوم اللذة
وذهب به فوق تموّج الجسد وداخله أبعد من حدود النرجس.
تصرخ له من داخل النشوة،
وقد عبرت بها أفقا بعد أفق.
تصرخ من قاع البحر وفوق غصن ولد حديثّا ،
"يا تمّوز احرث حقولي،
من زمن بعيد تنتظر حقولي حرثك
ما أطيب حرثك،
ما أنعمه، ما أجمله".
في ظلّ غيمة تصرخ إليه ضارعة،
"احرث حقولي البعليّة.
منذ زمن نذرتها للبعل، أنت بعلي
إلى الأبد، أنت بعلي
وفي معبدك يبدع جسدي رقصته الأولى".
ويقول لها تموز مستجيبا كما يولد العشب في الربيع،
"إنانة يا مليكة الأرض والسماء،
امنحيني زورقك السماوي.
ما أعذب زورقك السماوي!
إنه تفتّح ثمرة التين بعد صيف حارّ.
منذ التفتّح الأول، في بدايات التفتّح الأول،
نذرتُ نفسي لزورقك يا مليكة الأرض والسماء.
في زورقكِ الطرّي مثل كوز التين
أسافر إلى جزر المرجان،
ومنها إلى جزر النشوة وراء البحار السبعة،
حيث لم يصل يولسس ولا حتى السندباد.
يصعد بي زورقك الطريّ إلى قمم أحلامي الشاهقة،
ويهبط بي إلى العالم السفليّ من متاهات روحي.
موسيقاه تميل بي مثل سنابل القمح.
شمالاً يمينًا، يمينًا شمالاً
وترفعني إلى قمم الجبال،
ثم تهبط بي إلى أعماق الأودية.
امنحيني زورقك الجميل
آه، كم أتوق لزورقك يا ملكتي.
به أكتشف ما وراء الحار السبعة.
زورقك سرّ البحر،
والعشبة التي تجدّد الحياة.
يا سيّدتي العظيمة، يا حبيبة روحي
يا إنانة،
بكلّ أشواقي القديمة والجديدة سأحرثُ حقلك".
يا سيّدي العظيم، يا حبيب قلبي
يا تمّوز،
احرث حقلي في ظلّ الغيوم المسافرة في جميع الاتجاهات،
في ظل الغيوم التي تشتّتها الريح.
يا تمّوز، يا حبيب روحي،
احرث حقلي فتينع حدائقه
وتزهر أشجاره
فتثمر فاكهة لا اسم لها،
نمنحها أسماء كما نحوك سريرًا من القشّ
وقصيدة، وننشد أغنية
يداكَ عسل، حرثك عسل، قدماك عسل
دع كفّك تستكشف جسدي،
لتمرّ مثل غيمة على ثدييّ، وسرّتي،
وبين فخذيّ حيثي ولد الكلام الأول
كفّك العشب الذي ينبت على ضفّتي نهري.
ومن داخل غيمة فوق جبل البتول يغّني بها تموز:
"صدرك، يا حبيبتي يا إنانة، حقلٌ
تنبت فيه أشجاري وسنابل قمحي
ومطري يهطل من شعرك
وحياتي ظلّ غيمتك في يوم مشمش
وعيونك سمائي المضاءة، في ليلة لا قمر فيها،
بنجومك.
أنتِ خبزي الجوهريّ وتطلّعي وراء تخومي
ونبض الحياة في عروقي،
يا غيمتي في يوم مشمش
ويا نبعي الذي يتدفّق من الصخور نهرًا".
وتجيبه كما لو كانت غيمة أو نبعًا:
"يا تمّوز، يا حارث حقولي، يا بعلي
معًا سنبني بيتنا المستقبليّ.
سيكون لنا حقل، وأغنام وماعز،
وأطفال،
أسكن جسدك، وتسكن جسدي
وسنجعل من حديقتنا ملجأً للطيور
سنتمشّى معًا في الحديقة،
ومن الحقول نحصد الحبوب
ونجمع الفاكهة والزهور
ثم تعود تحرث حقلي، وأمنحك زورقي.
أسكن خيمة جسدك، وتكسن خيمة جسدي".
يا حبيبتي يا إنانة، سأتمشّى معك في حديقتنا
ونذهب معًا للحقول البرّية يدًا بيد
وأسند عنقي إلى عنقك
على قلبك أضع كفّي، وتضعين كفّك على قلبي.
ما أعذب أن تنام يدي على صدرك،
والقلب إلى القلب
وأن نغوص في النهر،
إلى قاع النهر الذي لا قاع له.
في الأيام الأولى، عند بدايات الأيام الأولى من كلّ فصل
وإلى نهايات النهاية
ستحرث حقلي،
وأمنحك زورقي تغوص فيه إلى مناجم اللؤلؤ
لأصنع منه عقدًا لعنقي
المسند إلى عنقك، يا تمّوزي،
ما أعذب عينيك وكفّك،
احرث حقلي.
يا إنانة، يا مليكتي، ما أعذب الرحيل في زورقك المقدّس،
وما أبعد الوصول.