dot
02/08/2007, 17:57
في الثالث عشر من فبراير عام 1883 وحين كان نيتشه يبلغ الثامنة والثلاثين من عمره , حرر رسالة
إلى الناشر شمايتسنر بكستنز جاء فيها :
( حضرة السيد / الناشر المحترم ..
إن لدي اليوم خبراً جميلًا أزفّه لكم , لقد قمت بخطوةٍ حاسمةٍ , وأعني بذلك , وعلى سبيل الإشارة ,
إنها خطوةُ من المفترض أن تكونَ مفيدة بالنسبةِ لكم أيضاً .
يتعلق الأمر بمؤلَّفٍ صغيرٍ مايقل عن 100 صفحةٍ مرقونةٍ بعنوان هكذا تكلم زرادشت , كتابٌ للجميع
وليس لأحد . مقطوعةٌ شعريةٌ أو إنجيل خامس أو أي شيءٍ آخرٍ لايوجد له إسم بعد : إنه أكثر مؤلفاتي
جدية وجرأة , وهو في متناول الجميعِ , لذلك سيكونَ له تأثيرٌ مباشر ) .
وفي 20 إبريل من نفس العام يكتب نيتشه إلى مالفيدا فون فايزنبورج في بروماس :
( إنها قصة رائعة , لقد تحديت الأديان أن تأتي بمثله , إنه كتابي المقدس الجديد , وبكل جدية أقول إنه
على غايةٍ من الجد كما لم يسبق لكتاب آخر أن يكون ) .
هذا ما قاله نيتشه عن نفسه , الفيلسوف اللاغز , الجينايولوجي العنيد , وأحد النتوءات التي امتصت
قطرات الحكمة المتساقطةِ من مثعب التاريخ !
يبدأ كتاب هكذا تكلم زرادشت بسرد تحولات ( الإنسان الأسمى ) كما يحب أن يطلق عليه نيتشه ,
ويموضع هذه التحولات إلى ثلاثِ أطوار .. ( كيف يصير الروح جملًا , وكيف يصير الجمل أسداً ,
وكيف يصير الأسد طفلًا ) فالجمل هو الحيوانُ الذي يحمل : يحمل عبء القيم السائدةِ , وأثقال التربيةِ
والأخلاقِ والذوق الشعبوي العَام , يحمل هذه الأشياء إلى الصحراءِ , ليستحيل هناك إلى أسدٍ بفعل
الضراوة الحيوانية وقوة الإرداة التي يجب أن تتأصل بعمْق الإنسانِ كغريزة للبقاءِ , فيقوم هذا الأسد
بافتراسِ القيمِ , وتحطيمِ الأصنامِ الفارغة , ليدوس الأثقال . وأخيراً .. يستحيل الأسدُ طفلًا , كنايةً عن
العَودِ , كلعبةُ بريئة , وبداية نهاية ونهاية بداية , خالقاً لعالم آخر هو إلهه , ومنشأً لقيمٍ تقويمية جديدة .
وقد قصد نيتشه بذلك استرجاع الروح السبعية , التي رآها محركة لدينامية الفكر , ضد الروح
السقراطية النظرية والموضوعية , حيث أن المنهج النسّابي نفسه يدين العقل , ويبقى العقل - بنظر
نيتشه - وسيلة تم تأليهها , أو كشيء أعطي أكبر من حجمه الحقيقي , ووظف تاريخياً لحماية الأخلاق
المسيحية , خصوصاً في عصر الأنوار ( وليس عصر النهضة ) فنيتشه يؤمن بأن التنوير خدعة
مسيحية , وأن الديمقراطية هي الأخرى مراوغة مسيحية لتأخير موتها .
الوجودُ قناع لدى نيتشه , صحته العليلة قناعٌ أول لعبقريته , وآلامه قناع ثانٍ ( لعبقريته وصحته ) في
ذات الوقت , إذ لايؤمن نيتشه بوحدة الأنا ولا يتحسسها , فتصوُّر نيتشه لسيكولوجية الإنسان قائم على
علاقات دقيقة للاقتدار , ثم علاقات تقويمية بين أناتٍ مختلفةٍ ومختبئة . وهي تعبر أيضاً عن قوى من
صنوفٍ ذات صلوحية عالية , صلوحية العظمة والحياة والقوة والفكر . وقناع نيتشه الأخير – أو
صلوحيته الأخيرة – كانت الجنون , كناية العدم التي قال عنها : ( أحياناً يكون الجنون بحد ذاته القناع
الذي يُخفي معرفةً محتومة وأكيدة جداً ) .
كذلك فدياليكتيك نيتشه لم تغلب عليه نزعة مثالية هيجلية إذ ناصبه نيتشه العداء , بل إن دياليكتيك
نيتشه هو ( فن ) وبراعة بهلوانية تدعونا لاستعادة ميّزاتٍ مستلبةٍ من قِبل التاريخ , فكل شيء يرجع
إلى حيوة الفلسفة كمحرك للدياليكتيك وناتج ضروري له , أو إلى وعي الذات كما قال كريكجارد , إلى
الإنسان ككائن نوعي وفريد .
ولعل مشاركة نيتشه في الحرب الألمانية شكلت له هاجساً عن فحوى العبودية التي اتهمه الكثيرون
بالتبشير لها , فتمريضه للجرحى مثلًا .. ورؤيته لجثث وأوصال الجنود الألمان تتراكم في المشافي
لابد أن تترك أثراً فيه , لم لا .. فنيتشه هو اللماح ذو النظر الرائي لما وراء الظواهر ؟
كان نيتشه هو أول من أعلن بجلاءٍ ووضوحٍ عن أن الله كان مسؤولاً عن انحطاط أوروبا وقسوتها ,
وأنه لا مخرج لهذا المأزق الحضاري إلا بعقد مؤامرة شريفة لاغتياله , بغية تحويل القيم إلى ماهو
إنساني و ( أصيل ) بعيداً عن تشويش السماء , وإن قاتِل الله .. يجب أن يكون بشعاً جداً للقيامِ بهذه
المهمة ( المهمة ) ! فالإنسان إذا عمد إلى زجر نفسه عما كان محظوراً عليها ستتبدى بشاعته وتصل
ذروتها إلى الزوال وحدوث العارض الحديث والجيد وهو عارض القوة واللامبالاة , عارض الجسارة
السبعية والوحشية !
ويهاجم نيتشه الأديان رابطاً العصاب الديني بالتوحد , والصوم , والعفة المخادعة , وقد يكون قوله
مبرراً إذا ما عرفنا أنه ملحد عتيد .. رافضاً بطبيعته هذه الوصاية الربانية على عقول السامين من
البشر , أولئك الأقوياء الجسورين كما رآهم نيتشه , وكما رأى الله كائناً ( منقوضاً ) قتله العقل , فلم
يعد الله يؤدي وظيفته كأب وكقاض وكمُثيب سخي ..
إلى الناشر شمايتسنر بكستنز جاء فيها :
( حضرة السيد / الناشر المحترم ..
إن لدي اليوم خبراً جميلًا أزفّه لكم , لقد قمت بخطوةٍ حاسمةٍ , وأعني بذلك , وعلى سبيل الإشارة ,
إنها خطوةُ من المفترض أن تكونَ مفيدة بالنسبةِ لكم أيضاً .
يتعلق الأمر بمؤلَّفٍ صغيرٍ مايقل عن 100 صفحةٍ مرقونةٍ بعنوان هكذا تكلم زرادشت , كتابٌ للجميع
وليس لأحد . مقطوعةٌ شعريةٌ أو إنجيل خامس أو أي شيءٍ آخرٍ لايوجد له إسم بعد : إنه أكثر مؤلفاتي
جدية وجرأة , وهو في متناول الجميعِ , لذلك سيكونَ له تأثيرٌ مباشر ) .
وفي 20 إبريل من نفس العام يكتب نيتشه إلى مالفيدا فون فايزنبورج في بروماس :
( إنها قصة رائعة , لقد تحديت الأديان أن تأتي بمثله , إنه كتابي المقدس الجديد , وبكل جدية أقول إنه
على غايةٍ من الجد كما لم يسبق لكتاب آخر أن يكون ) .
هذا ما قاله نيتشه عن نفسه , الفيلسوف اللاغز , الجينايولوجي العنيد , وأحد النتوءات التي امتصت
قطرات الحكمة المتساقطةِ من مثعب التاريخ !
يبدأ كتاب هكذا تكلم زرادشت بسرد تحولات ( الإنسان الأسمى ) كما يحب أن يطلق عليه نيتشه ,
ويموضع هذه التحولات إلى ثلاثِ أطوار .. ( كيف يصير الروح جملًا , وكيف يصير الجمل أسداً ,
وكيف يصير الأسد طفلًا ) فالجمل هو الحيوانُ الذي يحمل : يحمل عبء القيم السائدةِ , وأثقال التربيةِ
والأخلاقِ والذوق الشعبوي العَام , يحمل هذه الأشياء إلى الصحراءِ , ليستحيل هناك إلى أسدٍ بفعل
الضراوة الحيوانية وقوة الإرداة التي يجب أن تتأصل بعمْق الإنسانِ كغريزة للبقاءِ , فيقوم هذا الأسد
بافتراسِ القيمِ , وتحطيمِ الأصنامِ الفارغة , ليدوس الأثقال . وأخيراً .. يستحيل الأسدُ طفلًا , كنايةً عن
العَودِ , كلعبةُ بريئة , وبداية نهاية ونهاية بداية , خالقاً لعالم آخر هو إلهه , ومنشأً لقيمٍ تقويمية جديدة .
وقد قصد نيتشه بذلك استرجاع الروح السبعية , التي رآها محركة لدينامية الفكر , ضد الروح
السقراطية النظرية والموضوعية , حيث أن المنهج النسّابي نفسه يدين العقل , ويبقى العقل - بنظر
نيتشه - وسيلة تم تأليهها , أو كشيء أعطي أكبر من حجمه الحقيقي , ووظف تاريخياً لحماية الأخلاق
المسيحية , خصوصاً في عصر الأنوار ( وليس عصر النهضة ) فنيتشه يؤمن بأن التنوير خدعة
مسيحية , وأن الديمقراطية هي الأخرى مراوغة مسيحية لتأخير موتها .
الوجودُ قناع لدى نيتشه , صحته العليلة قناعٌ أول لعبقريته , وآلامه قناع ثانٍ ( لعبقريته وصحته ) في
ذات الوقت , إذ لايؤمن نيتشه بوحدة الأنا ولا يتحسسها , فتصوُّر نيتشه لسيكولوجية الإنسان قائم على
علاقات دقيقة للاقتدار , ثم علاقات تقويمية بين أناتٍ مختلفةٍ ومختبئة . وهي تعبر أيضاً عن قوى من
صنوفٍ ذات صلوحية عالية , صلوحية العظمة والحياة والقوة والفكر . وقناع نيتشه الأخير – أو
صلوحيته الأخيرة – كانت الجنون , كناية العدم التي قال عنها : ( أحياناً يكون الجنون بحد ذاته القناع
الذي يُخفي معرفةً محتومة وأكيدة جداً ) .
كذلك فدياليكتيك نيتشه لم تغلب عليه نزعة مثالية هيجلية إذ ناصبه نيتشه العداء , بل إن دياليكتيك
نيتشه هو ( فن ) وبراعة بهلوانية تدعونا لاستعادة ميّزاتٍ مستلبةٍ من قِبل التاريخ , فكل شيء يرجع
إلى حيوة الفلسفة كمحرك للدياليكتيك وناتج ضروري له , أو إلى وعي الذات كما قال كريكجارد , إلى
الإنسان ككائن نوعي وفريد .
ولعل مشاركة نيتشه في الحرب الألمانية شكلت له هاجساً عن فحوى العبودية التي اتهمه الكثيرون
بالتبشير لها , فتمريضه للجرحى مثلًا .. ورؤيته لجثث وأوصال الجنود الألمان تتراكم في المشافي
لابد أن تترك أثراً فيه , لم لا .. فنيتشه هو اللماح ذو النظر الرائي لما وراء الظواهر ؟
كان نيتشه هو أول من أعلن بجلاءٍ ووضوحٍ عن أن الله كان مسؤولاً عن انحطاط أوروبا وقسوتها ,
وأنه لا مخرج لهذا المأزق الحضاري إلا بعقد مؤامرة شريفة لاغتياله , بغية تحويل القيم إلى ماهو
إنساني و ( أصيل ) بعيداً عن تشويش السماء , وإن قاتِل الله .. يجب أن يكون بشعاً جداً للقيامِ بهذه
المهمة ( المهمة ) ! فالإنسان إذا عمد إلى زجر نفسه عما كان محظوراً عليها ستتبدى بشاعته وتصل
ذروتها إلى الزوال وحدوث العارض الحديث والجيد وهو عارض القوة واللامبالاة , عارض الجسارة
السبعية والوحشية !
ويهاجم نيتشه الأديان رابطاً العصاب الديني بالتوحد , والصوم , والعفة المخادعة , وقد يكون قوله
مبرراً إذا ما عرفنا أنه ملحد عتيد .. رافضاً بطبيعته هذه الوصاية الربانية على عقول السامين من
البشر , أولئك الأقوياء الجسورين كما رآهم نيتشه , وكما رأى الله كائناً ( منقوضاً ) قتله العقل , فلم
يعد الله يؤدي وظيفته كأب وكقاض وكمُثيب سخي ..