-
دخول

عرض كامل الموضوع : مُذكرات رجل محكوم عليه بالأعدام 1


فاوست
23/07/2007, 20:38
" إذ من منا لم يحلم ، أو يفكر ، فيما بينه وبين نفسه ، في آخر يوم في حياة شخص محكوم عليه بالإعدام ؟ "
فيكتور هوجو
حقاً من منا لم يحلم ، أو يفكر ، فيما بينه وبين نفسه ، في آخر يوم في حياة شخص محكوم عليه بالإعدام ؟
صحيح ان البشر جميعاً محكوم عليهم - ضمنياً - بالإعدام ..
لكن المُختلف هنا هو لحظة تنفيذ الحكم ..
كم من أناس قد ماتوا بينما كانوا يعدون أنفسهم لحياه طويلة ..
وكم من شباب حُر فى أوج الصحة والعافية قد اختطفوا ..
وكم من هولاء وأولئك يمشون ويستنشقون نسيم الحرية لكنهم يتسابقون دون ان يدروا لعالم الموتى
لكن الأمر دائماً وابداً مُختلف مع من حكم عليه بالأعدام ..
ويبقى السؤال
منا لم يحلم ، أو يفكر ، فيما بينه وبين نفسه ، في آخر يوم في حياة شخص محكوم عليه بالإعدام ؟
من منا لم يتصور نفسه - ولو للحظة - وقد حُكم عليه بالموت
( فيكتور هوجو ) فعل ..
ذلك الرجل رقيق الأحاسيس , هش المشاعر , والذي قد اشتهر بموقفه الرحيم حيال البؤساء وحملاته على النظم الاجتماعية التى كانت قائمة فى عصره , والذي قد اشتهر كذلك بحملاته العنيفة وثوارته القاسية على الأوضاع القانونية
ولعل اشد ثوراته عنفاً وهيجاناً هي تلك التى شنها على الحكم بالأعدام , وقد دفعه إلى هذه الحملة الشعواء نزعة إنسانية نبيلة كان من أثرها ان اخرج كتابه الرائع ( أخر ايام رجل محكوم عليه بالأعدام )
( La dernier jour d un condamne )
ذلك الكتاب الذى أحدث ضجة رهيبة بين الناس عامة ورجال القضاء خاصة , وقد سُجل على لسان احد المحكوم عليهم بالإعدام والذي شاءت له أقداره أن يسطر على القرطاس أحاسيسه ومشاعره وما لاقاه من ضروب التعسف والقسوة

وإذ نحاول ان نتضامن ونعمل سوياً من اجل إلغاء عقوبة الإعدام من دساتير وقوانين بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا نجد بداً من القراءة المتأنية لأحدى اهم - هذا إن لم تكن أهمها على الإطلاق - المحاولات الثورية الشعواء لإلغاء عقوبة الإعدام وهى ثورة ( فيكتور هوجو ) المُعنونة بـ
( أخر ايام رجل محكوم عليه بالأعدام )

أن لكل فرد - ( وكما اقر البروتوكول الخاص بالاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان لإلغاء عقوبة الإعدام - منظمة الدول الأمريكية – سلسلة المعاهدات رقم 73/ 1990) حق لا يتبدل في احترام حياته
( حق لا يمكن أن يتعطل لأي سبب ) .. وتطبيق عقوبة الإعدام له نتائج يتعذر تغييرها، ويعوق تصحيح الخطأ القضائي، ويحول دون أي إمكانية للتغير أو رد اعتبار هؤلاء المدانين، وبالتالي فإن إلغاء عقوبة الإعدام يساعد على ضمان مزيد من الحماية الفعالة للحق في الحياة،
وهو ما يتفق - ضمنياً - مع ما جاء به ( فيكتور هوجو ) فى كتابه قبل ذلك بعشرات السنين عن تلك العقوبة ..
" فهذا القانون العنيف يخول للمجتمع الحق في أن يسلب من الإنسان شيئاً لم يمنحه إياه، وهذه العقوبة إنما هي أكثر العقوبات التي لا يمكن إصلاح نتائجها وأشدها استعصاء على الإصلاح ... ! "
دعوني أترككم إذن لفيكتور هوجو واترك فيكتور هوجو لكم على ان أتدخل - ان سمحتم لي - قليلاً ولو على سبيل إثبات حقي فى الكتابة وفى الحياة

" ان كتاب " آخر أيام محكوم عليه بالإعدام " ليس إلا دفاعاً مباشراً – أو غير مباشراً ان شئت – عن إلغاء عقوبة الإعدام .
ان ما كان يقصد اليه الكاتب بمؤلفه هذا ، وما كان يريد أن تتبينه الأجيال المقبله ، اذا هي عنيت بأمره ، ليس الدفاع الخاص عن مجرم بعينه أو عن متهم يتخيره الكاتب فمثل هذا الدفاع الخاص أمره ميسور دائماً وهو يتغير تبعاً للظروف ، بل هو في حقيقة أمره مرافعة عامة وأبدية عن المتهمين جميعاً ، في الحاضر وفي المستقبل . انه حجر الزاوية في الحق الانساني الذي يبسطه الكاتب ويدافع عنه بأعلى صوته أمام المجتمع

أنها مشكلة كئيبة مظلمة تنبض في غير وضوح خلف جميع القضايا الكبرى ، وتختفي وراء ستار كثيف من الكلام الرنان ، ومن البلاغة الدامية التي يحيطها بها " رجال القضاء"
نعم ، إنني أقول أنها مسألة "الحياة والموت" عارية ومجردة من كل رسميات النيابة العمومية وشكليات الإتهام الرنانة ، ومعروضة بشكل بارز في وضح النهار، في المكان الذي يجب أن نراها فيه ، مكانها الواقعي على الطبيعة ، وفي بيئتها الشنيعة المروعة، لا عند القاضي في المحكمة ، ولكن على المقصلة .. عند الجلاد !

ان هذا الكتاب موجه إلى كل من يصدر حكماً..
وسوف يكون من دواعي سعادة المؤلف لو أنه استطاع – دون أن يستعين بشئ آخر غير تفكيره – أن يتعمق في موضوعه كل التعمق كي يجعل قلباً تنزف منه الدماء تحت بصر رجال القضاء ، ولو أنه تمكن من أن يبعث الرحمة في قلوب أولئك الذين يحسبون أنهم عدول ، وسوف يكون من دواعي سروره لو أنه استطاع بتعمقه في نفسية القاضي أن ينجح أحياناً في أن يجد فيه انساناً!
إن ( فيكتور هوجو ) لم يأخذ فكرته من كتاب ما ، فهو لم يألف أن يذهب باحثاً عن أفكاره بعيداً كل هذا البعد ، وانما أخذها من حيث تستطيعون جميعكم أن تأخذوها أو من حيث يحتمل أن تكونوا قد لمستموها بالفعل " اذ من منا لم يحلم ، أو يفكر ، فيما بينه وبين نفسه ، في آخر يوم في حياة شخص محكوم عليه بالإعدام ؟ " ... من الشارع ، بكل بساطة ، أو من الميدان العام ، أو من ساحة الإعدام . انه التقط هذه الفكرة الكئيبة وهو يمر من هناك ذات يوم .. التقطها وهي ملقاة على الأرض في بركة من الدماء ، تحت سلاح المقصلة الأحمر الرهيب!
وكلما كان يذاع حكم بالإعدام في باريس ، تبعاً لقضاة محكمة النقض في أيام الخميس الكئيبة ، كانت هذه الفكرة الأليمة تعود إليه وتستولي على نفسه ، في كل مرة كان يسمع فيها تلك الصيحات المبحوحة التي تجمع المتفرجين وتؤلبهم حول ساحة الإعدام ، وهي تمر من تحت نوافذ بيته . نعم ، كانت هذه الفكرة تلح عليه فتملأ رأسه بما فيها من جنود البوليس والجلادين والجماهير. وتنقل الى مشاعره الآلام الأخيرة التي يقاسيها البائس المحتضر ساعة بساعة ، فتقول له : انهم في هذه اللحظة يجعلونه يعترف أمام القسيس .. وفي هذه اللحظة ، يقصون له شعره..وفي هذه اللحظة، يوثقون يديه!
وكانت هذه الأفكار ترغم المؤلف المسكين – وهو شاعر مرهف الحس رقيق الشعور – على أن يقول كل ذلك للمجتمع الذي تشغله شئونه المعتادة ، في الوقت الذي تتم فيه هذه العملية البشعة ، وكان هذا الخاطر يطارده ويهز عواطفه ، وينتزع وحي الشعر من أعماق نفسه أن كان يعالج كتابته ويقتل أبياته على لسانه وهي بعد لم تر النور ! نعم ، كانت هذه الفكرة تحاصره وتلح عليه ، وتملأ رأسه ونفسه فتعطل كل أعماله ، وتعترض سبيله في كل شئ . وكان الأمر بالنسبة اليه عذاباً أليماً يبدأ مع مطلع النهار ، ثم يستمر بعد ذلك مع عذاب الذنب البائس الذي كان يمتد حتى الساعة الرابعة صباحاً . وعندئذ فقط ، وبعد أن يتنفس الفجر ، كان في وسع المؤلف أن يتنفس وأن يجد في نفسه شيئاً من الحرية.
وأخيراً ، شرع المؤلف ذات يوم في كتابة هذا الكتاب ، وكان ذلك – على ما يعتقد – في اليوم التالي لإعدام " دولباخ " ، فخف عنه كربه منذ ذلك الحين ، وأصبح ضميره يوحي اليه أنه ليس متضامناً مع العدالة في كل مرة ترتكب فيها احدى هذه الجرائم العامة التي يسمونها تنفيذ حكم الإعدام، ولم يعد يحس على جبينه بقطرة الدماء التي تسقط من ساحة الإعدام على رأس كل فرد من أفراد المجتمع .
ومع ذلك فإن هذا كله ليس كافياً ، فالتبرؤ من الجريمة شئ حسن ، ولكن الأفضل منه منع أراقة الدماء . ولهذا ، فلن يعرف المؤلف هدفاً أسمى ولا أسلم ولا أنبل من هذا الهدف ، الا وهو الإسهام في الغاء عقوبة الإعدام ، ومن ثم فإنه يضم تمنياته وجهوده بكل قواه ، الى جهود الرجال الكرماء في كل الأمم ، الذين يعملون جاهدين منذ عدة أعوام من أجل اسقاط المقصلة ، وهي الشئ الوحيد الذي لا تجتثه الثورات . وسوف يسر المؤلف أن يأتي بدوره ، وهو الرجل الضعيف ، ليضرب ضربته معاوناً في هدم آلة الإعدام التي تسلط منذ قرون عديدة على رءوس الناس ..

وعبر فصول عديدة يأخذنا فيكتور هوجو لنعيش مع المحكوم عليه بالأعدام فى زنزانة كئيبة نفكر فى اللحظات التى ستتعانق فيها رؤوسنا مع سكين المقصلة
فصول بدأت بتفكير الرجل الميت - ضمنياً فى الكتابة عن تجربته المريرة علها تكون أداة ضاغطة على رجال القضاء - قبل تفكيرهم ولو للحظة فى الأقدام على حكم مثل هذا

" لماذا لا اكتب مادامت لدى أدوات الكتابة ؟ "
ان الموضوع غنى ما فى ذلك من شك , ومهما بدا لي ان ما تبقى من عمري قصيراً فسوف يكون فى الهواجس والرعب والعذاب الأليم , الذى يملؤه منذ هذه الساعة إلى ان تحين ساعتي الأخيرة , ما يكفى لأستهلاك هذا القلم ونفاذ هذا المداد كله . ومن جهة أخرى , فأن الوسيلة الوحيدة التى أستطيع بها ان اخفف بعض الشيء من آلام هذه الهواجس هي ان ألاحظها ثم أصفها , فهذا خليق بأن يسرى عنى بعض التسرية
وفوق هذا , فأن ما سأكتبه هكذا قد لا يكون عديم النفع . فهذه المذكرات التى تسجل آلامي ساعة فساعة ودقيقة بدقيقة , وعذاباً أثر عذاب - لو أنى وجدت فى نفسى القدرة على تدوينها حتى اللحظة التى سوف يستحيل على جثمانياً ان اتابع كتابتها - إذ ان قصة مشاعري التى ستبقى حتماً ناقصة بلا نهاية وان كانت كاملة من حيث طاقتي - هذه المذكرات التى تحمل ما بين طياتها عظة كبيرة وعميقة ؟ ألن يكون فى هذا السجل المدون عن الفكر وهو يحتضر , وعن الآلام التى تتزايد باستمرار
هذا النوع من التشريح العقلي لإنسان محكوم عليه بالموت
ألن يكون فيه أكثر من درس لأولئك الذين يصدرون مثل هذا الحكم
نعم .. فقد تجعلهم قراءة هذه المذاكرات اقل تسرعاً وتحملهم على شيء من التروي فى المستقبل عندما يكون الأمر متعلقاً بإسقاط رأس يفكر , رأس انسان , فيما يسمونه ميزان العدالة
قد لا يكون هولاء التعساء فكروا قط فى هذا التتابع البطيء لألوان العذاب التى تنطوي عليه هذه الصيغة الموجزة التى ينطق بها فى استخفاف ( الحكم بالأعدام )
ترى هل وقفوا قط مرة واحدة فحسب , عند هذه الفكرة الأليمة ليروا ان فى هذا الإنسان الذى يقطعون رقبته ذكاء كان قد اعتمد على الحياة , وان فيه روحاً لم تكن قد تهيأت بعد للموت ؟
ان هذه المذاكرات سوف تظهر لهم أنهم مخطئون , وقد يتاح لها ان تنشر فى يوم من الأيام فتفتح أعينهم لحظة على ألام النفس التى لا يشك احد منهم . أنهم يفخرون بقدرتهم على القتل دون ان يتألم الجسم تقريباً بسبب سرعة المقصلة فى أنجاز مهمتها الدامية , غير ان هذا ليس كل ما فى الأمر , إذ ما قيمة الألم البدنى إذا قيس بالأم النفس
أننا لنشمئز من هذه القوانين الموضوعة على هذه الصورة التى تتحرك أنفسنا شفقة عليها , وسوف يأتي يوم تكون فيه هذه المذاكرات , هي الأسرار الأخيرة لإنسان بائس , وقد أسهمت فى هذا المضمار .. اللهم ألا إذا عبثت الريح بعد موتى بهذه الأوراق الملطخة بالوحل فى فناء السجن او لصقها سجان على شكل نجوم فى نافذة مكسورة الزجاج فى حجرته فنتعفن هناك تحت المطر
وسواء اكان ما اكتبه هنا يمكن ان يكون يوما ما نافعاً لغيري , أم انه أوقف القاضي وهو يهم بالنطق بالحكم , أم انقذ البائسين من أبرياء ومُذنبين , أنقذهم من الاحتضار الذى حكم به على .. فلماذا كل ذلك ؟ وما فائدته ؟.. وما أهميته ؟ ..
ماذا يهمني ان تقطع رؤوس أخرى بعد ان يكون رأسي قد قطع ؟
هل استطعت حقاً ان أفكر فى هذه الفكرة الجنونية , فى ان اقذف بالمقصلة على الأرض واهدمها بعد ان أكون قد صعدت عليها ؟
وهل لي ان أسألكم قليلاً : ماذا سيعود على من تحطيم المقصلة بعد ان أكون ضحية لها ؟
أه .. ان الشمس , والربيع , والحقول المملوءة بالأزهار , والطيور التى تستيقظ فى الصباح , والغيوم والأشجار , والطبيعة , والحرية , والحياة .. كل ذلك لم يعد لي منه شيء
رباه ... انه أنا الذى يجب إنقاذه .. !
هل صحيح ان هذا غير ممكن ؟
هل صحيح ان الأمر هكذا ؟
يا الهي ... ان هذه الفكرة الرهيبة لتدفعني إلى التفكير فى تحطيم رأسي على جدار زنزانتي "

فاوست
23/07/2007, 20:40
ويجب أن نذكر هنا مثلين أو ثلاثة أمثال لما حدث في بعض وقائع الإعدام، مما ينضح بشاعة وقذارة . يجب علينا أن نرهق أعصاب زوجات وكلاء النيابة، فالمرأة لها أثرها أحياناً في ايقاظ الضمير.
لحظة .. من يتحدث هنا هو ( فيكتور هوجو ) وليس ( جورج شكرى )
الرجل يريد ان يرهق اعصاب زوجات وكلاء النيابه ( لما للمرأه من اثر فى ايقاظ الضمير ولا ادرى ما الذى ذكرنى هنا بزوجة بيلاطس البنطى وتحذيرها لزوجها من المساس بالسيد المسيح )
صدقاً لا اريد ان ارهق اعصاب احد .. لكن ما حدث فى هذه الوقائع التى التقطها ( فيكتور هوجو ) من ساحة الإعدام وهو يمر من هناك ذات يوم بينما كانت ملقاة على الأرض في بركة من الدماء ، تحت سلاح المقصلة الأحمر الرهيب ! شديد البشاعة والشناعة إلى الحد الذى ستُرهق معه اعصاب كل من يقرأ هذه الوقائع المأساوية التى لم يتأتى لأعاظم قصصى ومُخرجى افلام الرعب ان يأتوا بواحده مثلها
وحقاً لم يجد ذلك الأديب الفرنسى الداهية اقسى من تلك الواقعة ليقدم الدليل تلو الدليل فى مرافعته التاريخيه ودافعه المُستميت عن الغاء عقوبة الأعدام

دعونا نُرهق معاً ...
في نهاية شهر سبتمبر الماضي على وجه التقريب ، وفي أواسط فرنسا– ولا يحضرنا تماماً المكان ، واليوم ، واسم المحكوم عليه ، ولكننا سوف نعثر على هذا كله اذا حدث أن شك أحد أو عارض في صحة هذه الواقعة – ونعتقد ان ذلك حدث في " بامية " . فقد دخلوا على رجل في سجنه حيث كان يلعب الورق في هدوء ، فأعلنوه بأنه سوف يموت بعد ساعتين ، فأرسل هذا القول رجفة قاسية في كل أوصاله . ذلك أنهم كانوا قد نسوا أمره لستة أشهر فلم يعد يفكر في الموت .. وحلقوا للرجل لحيته ، وقصوا له شعره ، وأوثقوه بالحبال ، وجعلوه يعترف أمام القسيس. ثم أركبوه عربة " كارو " بين أربعة من الجنود ، ومروا به خلال الجماهير حتى وصلوا الى مكان التنفيذ.
وإلى هنا ، فالأمر يهون ، اذ أنه يتم على هذا النحو . ولما بلغ الرجل مكان الآلة الرهيبة تلقاه الجلاد من القسيس ، وحمله وربطه على المقصلة ، ثم جعله يطاطئ رأسه وهوت السكين . لقد تحرك المثلث الحديدي الثقيل في صعوبة ثم هوى وهو يحك في مجراه ! وهنا بدأت البشاعة ، فقد أخذت السكين تحز في رقبة الرجل دون أن تذبحه ، فصاح صيحة بشعة . وحار الجلاد في الأمر فرفع السكين ثم تركها تهوي من جديد . فعضت رقبة المسكين مرة أخرى ولكنها لم تقطعها . فصرخ المحكوم عليه ، وصاح الجمهور كذلك ، فرفع الجلاد السكين مرة ثالثة وهو يأمل خيراً في الضربة الثالثة ولكن .. بلا جدوى !
ان الضربة الثالثة قد فجرت نهراً ثالثاً من الدماء أخذ يجري على رقبة المحكوم عليه ولكنها لم تطح برقبته !
والآن فلنوجز : ان السكين قد رفعت ثم هوت خمس مرات وخمس مرات جرحت المحكوم عليه ، وخمس مرات صرخ الرجل من أثر الضربة ، وهز رأسه الحي وهو يطلب الرحمة ! فثار الشعب وأمسك بأحجار ليرجم بها الجلاد التعس ، فهرب الجلاد تحت المقصلة واحتمى خلف خيول الجنود .. ولكن هذه ليست نهاية المأساة ..
ان المحكوم عليه حينما وجد نفسه وحيداً على المقصلة ، اعتدل على اللوحة الخشبية وظل واقفاً هناك بمنظره المفزع ، وهو يقطر دماً ويسند رأسه نصف المقطوع ، الذي كان يتدلى على كتفه ، وراح يطلب في صياح مبحوح أن يفكوا وثاقه !
فغمرت الشفقة قلب الجمهور ، وهم بأن يقتحم نطاق الجنود وأن يخف لنجدة هذا البائس الذي نفذ فيه حكم الإعدام خمس مرات . وفي تلك اللحظة بالذات ، صعد على المقصلة صبي الجلاد ، وهو شاب في نحو العشرين من عمره ، وأمر المحكوم عليه بأن يستدير كي يفك وثاقه ، ثم استغل وضع هذا الرجل المشرف على الموت ، الذي كان يسلم نفسه اليه بسلامة نية ، فوثب على ظهره وشرع يقطع له في صعوبة ما كان قد تبقى من رقبته بسكين جزار !
ان هذا قد حدث ورآه الناس رأى العين .. نعم ، رأوه رأى العين !
وكان هناك بحسب نص القانون ، قاض يشهد تنفيذ هذا الحكم . وكان يستطيع بإشارة منه أن يوقف كل شئ فماذا كان يفعل هذا الرجل اذن وهو في عربته بينما كانوا يغتالون انساناً؟ ماذا كان يفعل معاقب القتلة هذا في الوقت الذي كانت عملية اغتيال تجرى في وضح النهار، أمام عينيه، وتحت خيول عربته ، وتحت زجاج نافذتها؟
لم يقدم القاضي للمحاكمة ! ولم يقدم الجلاد للمحاكمة ، ولم تحقق أية محكمة في هذا الافناء الوحشي لجميع القوانين في شخص مخلوق مقدس من مخلوقات الله !
في عصر همجية القانون الجنائي في القرن السابع عشر ، ابان حكم " ريشيليو " وحكم " كريستوف فوكيه " ، حينما أعدم السيد " دي شاليه " أمام الناس في ميدان بمدينة " نانت " على يدي جندي غير ماهر ضربه أربعاً وثلاثين ضربة بآلة حادة يستعملها صانع البراميل في تجميع الخشب ، وذلك بدلاً من أن يضربه ضربة واحدة بسيف ، بدا هذا على الأقل أمراً غير مشروع في نظر برلمان باريس ، فأجرى تحقيقاً وأقيمت قضية . ولئن كان ريشيليو لم يعاقب ، ولئن كان كريستوف فوكيه لم يعاقب فإن ذلك الجندي قد لقي جزاءه . كان هذا ظلماً دون شك ، ولكنه ظلم يكمن العدل وراءه !
أما هنا ، فلم يحدث شئ على الإطلاق . لقد وقع هذا الحادث بعد شهر يوليو في وقت سادت فيه الطباع الرقيقة والتقدم ، وبعد عام واحد من" محزنة " البرلمان المشهورة على عقوبة الإعدام ( سوف نذكر لكم تفاصيل هذه المحزنة )
ان هذا الحادث لم يذكره أحد على الإطلاق ، ونشرته صحف باريس كأنه حكاية عادية ، ولم يحاكم أحد بسببه ولم يوجه الإتهام إلى أحد ! كان كل ما عرفوه أن المقصلة قد أتلفت عمداً ، أتلفها شخص كان " يريد أن يضر بمنفذ أحكام القضاء " ، كان هذا الشخص هو أحد خدم الجلاد ، وقد دبر هذه المكيدة لينتقم من سيده لأنه كان قد طرده من خدمته .
لم تكن هذه إلا مكيدة خادم ،

فلنتابع سرد أمثلتنا اذن :
وفي مدينة " ديجون " ، سيقت امرأة منذ ثلاثة أشهر إلى ساحة الإعدام ، " تصوروا .. امرأة !" ، وفي هذه المرة أيضاً لم تؤد سكين الدكتور ( جيوتان ) - وهو مخترع المقصلة ) عملها كما يجب ، فلم تقطع الرأس تماماً بحيث ينفصل عن الجسم . وعندئذ ، تعلق مساعدو الجلاد بقدمي المرأة ، وفصلوا رأس البائسة عن جسدها وهي تطلق صرخات مدوية ، بأن انتزعوها انتزاعاً بقوة الشد والجذب .

وفي باريس ، نعود إلى الوقت الذي كان يجري فيه تنفيذ عقوبة الإعدام في السر. فنظراً إلى أنهم كانوا فى بعض الأحايين لا يجرءون على تنفيذ احكام الإعدام في ساحة الإعدام، وإلى أنهم كانوا خائفين، وبما أنهم كانوا جبناء ، فإن هذا هو ما حدث
لقد أخذوا أخيراً من سجن " بيستر " رجلاً محكوماً عليه بالإعدام، يدعى
" ديزاندريو "على ما أعتقد ، ووضعوه في شئ يجر على عجلتين، مغلقاً من كل نواحيه كسلة، ومقفلاً قفلاً محكماً بالأقفال والمزاليج ، ثم ساروا به دون جلبة وبلا جمهور يرافقه، بين جنديين أحدهما أمامه والآخر من خلفه ، ثم ألقوا بالسلة والرجل الذي فيها في وسط الحقول خارج باريس ، فيما وراء حي " سان جاك " .. وكانت الساعة الثامنة صباحاً في مطلع النهار عندما وصلوا إلى هناك ، وكانت هناك مقصلة " طازجة " لم تستعمل بعد أعدت خصيصاً لهذا الرجل ، وكان الذين شهدوا هذا المنظر بضعة غلمان صغار اجتمعوا على كومة أحجار قريبة حول تلك الآلة التي نصبت على غير انتظار.. ثم أخرج الرجل من السلة في سرعة ، ودون أن تتاح له أية فرصة ليلتقط أنفاسه، ثم قطع رأسه خلسة في صورة تنطوي على الخيانة والعار! .. وهذا هو ما يسمونه " عملاً رسمياً وعاماً من أعماله العدالة الكبرى " ، فيالها من سخرية دنيئة!
فكيف اذن يفهم رجال الملك كلمة المدنية ؟ وفي أي عصر نعيش ؟ ان العدالة قد انحطت حتى أضحت حيلاً وخططاً فيا للشناعة !
ان الشخص المحكوم عليه بالإعدام اذن شئ مخيف للغاية يخشى المجتمع بأسه ، ويأخذ حذره منه الى هذا الحد وعلى هذا النحو !
ومع ذلك ، فلنكن منصفين ! ذلك أن تنفيذ عقوبة الإعدام لم يكن بطريقة سرية تماماً. ففي الصباح، نادى المنادون كالمعتاد ، وبيع حكم الأعدام في شوارع باريس وميادينها .. ويبدو أن هناك أناساً يعيشون من بيع هذه الأشياء ، فهل تسمعون ؟ أنهم يتخذون من جريمة انسان سيئ الحظ ومن عقابه وعذابه واحتضاره سلعة تباع الورقة منها بدرهم! فهل في وسعكم أن تتخيلوا شيئاً أكثر قبحاً من هذا الدرهم الملطخ بالدم؟ فمن ذا الذي يلتقطه اذن من بينكم ؟
تلك وقائع كافية، كافية أكثر مما ينبغي .. أليس هذا كله شيئاً مروعاً ؟ فماذا لديكم تستطيعون به أن تؤيدوا عقوبة الإعدام ؟


لا انا بل نعمة الله التى معى

فاوست
23/07/2007, 20:43
هذه هي كل الأسباب التي تنتحلونها لعقوبة الإعدام قد تحطمت إذن ، وهذا هو منطق ممثلي الإتهام بأسره قد أصبح عدماً ، وهذه كل مرافعات النيابة قد فندت فصارت رماداً. أن أقل لمسة من المنطق لابد أن تذيب كل تفكير معوج.
فيكتور هوجو
إيماءاً إلى التعليقات التى وردت إلينا فى المقال السابق - والتى كانت فى حقيقة الأمر مُتوقعة ومُلأئمة لمسار طرح موضوعنا هذا إذ ان منطقها الأقناعى فى بقاء عقوبة الإعدام هو ذات المنطق الأقناعى الذى يضع العراقيل أمام إلغاء هذا القانون الجائر وبقاءه كضرورة مُلازمة لبقاء الإنسانية .. !!
وهى لا تختلف كثيراً فى إطارها عن النظريات المُتداولة فى شأن هذه العقوبة والتى سنعرضها لكم فى عجالة غير وافية ( قبل ان نتحفكم جميعاً بختام مُرافعة فيكتورهوجو المُذهلة وهى بمثابة لمسة المنطق التى ستزيل كل تفكير معوج )

النظرية الأولى : العقوبة كأستحقاق Retributive Theory
مبررات العقوبة في هذه النظرية هي الانتقام المطلق Lex taiois المُستخلص من مبدأ " العين بالعين والسن بالسن " .. و العقوبة هنا "استحقاق" تبررها مبادئ العدالة، مما يستوجب ان تكون مماثلة للفعل المرتكب , وتشبه العقوبة هنا بحالة الدفاع الشرعي. فكلاهما فعل قتل للفاعل، وبما ان الدفاع الشرعي هو فعل مباح فان عقوبة الأعدام بنفس المنزلة
وقد تبنى هذه النظرية الفيلسوف الألماني " كانت " Immanuel. Kant وقد نظر إلى الجريمة المُرتكبة باعتبارها عملاً لا أخلاقياً يستحق الشجب Emplatic Denuciation، فمن يلحق الألم بالآخرين، يستحق الألم، وان العقوبة "كاستحقاق" ضرورية وكافية ولا عبرة بنتائجها. ويرى "كانت"ان عقوبة الأعدام يجب ان تنفذ بحق القاتل حتى لو بقي لوحده على قيد الحياة في جزيرة قد تناثر أهلها بسبب غرقها أو تعرضها لأي كارثة أخرى .

النظرية الثانية : العقوبة كمنفعة Utilitarian Theory
وترى النظرية النفعية بان عقوبة الإعدام تؤدى إلى نتائج إيجابية فحواها :
أولا- الردع: وهو الحد من ارتكاب الجريمة من قبل المُدان ويدعى "بالردع الخاص" من جهة، وجعل المدان كمثال Example للأخرين لمنعهم من ارتكاب الجريمة ويدعى "بالردع العام ".
ثانيا- الإصلاح: بإعادة تأهيل المُدان إلى وضعه الطبيعي ومنسجما مع المجتمع من خلال البرامج والتعاليم الدينية والأخلاقية وتعليم الحرف المفيدة داخل السجن.
القاعدة الرئيسية التي ترتكز عليها هذه النظرية، هي حق المجتمع بحماية نفسه ومنع الجريمة عن طريق فرض العقوبة المناسبة بحق المُدان، لأن وجوده خارج السجن يشكل خطرا على المجتمع. وبنفس الوقت يقتضي ان لا تكون العقوبة قاسيه بحيث تؤثر على مشاعر المجتمع وعملية إصلاح المحكوم

النظرية الثالثة : نظرية الحل الوسط Compromise Theory
ومن أهم رواد هذه النظرية هو الفيلسوف البريطاني "هارت" H. Hart ولقد طرح الرجل ثلاثة اسئلة لغرض توضيح فكرته هي:
1- ما هي مبررات العقوبة؟
2- من يستحق العقوبة؟
3- كيف تحدد مقدار العقوبة؟
وأجاب "هارت" على أسئلته كما يلي:
1- مبررات العقوبة هي تحقيق المنفعة باحتواء الجريمة عن طريق الردع العام والخاص وإصلاح المحكوم.
2- استحقاق العقوبة أمر لابد منه لتحقيق العدالة . فالمسؤولية الجنائية للفاعل يقتضي ان تكون عن جريمة وقعت بمحض إرادته وتحقق القصد الجنائي. وهنا يتمتع البعض بمانع من موانع المسؤولية الجنائية، كالعاهة العقلية، الإكراه، حالة الضرورة، تنفيذ أوامر الرؤساء الواجب طاعتهم.
3- وبخصوص مقدار العقوبة، يقتضي الموازنة بين الاستحقاق والمنفعة في تحديد العقوبة المناسبة. أي ان الألم الذي يلحق بالمُدان يقتضي ان لا يكون قاسيا عليه بحيث يؤثر على عملية إصلاحه وردعه وردع الآخرين ومشاعر المجتمع. وفي جميع الأحوال يلزم ان لا يتم التضحية بحياة وحريات الأفراد بشكل مطلق لغرض تحقيق المنفعة.

فاوست
23/07/2007, 20:46
عموماً لخص لنا ( فيكتور هوجو ) اراء السادة المعلقين ( والتى لم تختلف كثيراً عن أراء أهل زمانه فى شأن الأبقاء على عقوبة الأعدام ) إلى
1- من الضروري أن نبتر من المجتمع عضوا قد أساء اليه من قبل وقد يسئ اليه بعد ذلك
2- ان المجتمع يجب أن يثأر لنفسه وأن يعاقب
3- يجب أن يضرب المثل الرادع! .. يجب الإرهاب بمنظر المصير الذي ينتظر المجرمين ، نلقي به الخوف في قلوب الذين يميلون إلى محاكاتهم!
دعونا نستمع ونستمتع الأن إلى مرافعة ( فيكتور هوجو ) الختامية والتى فند فيها اراء اهل زمانه واراء اهل زماننا مما يريدون الأبقاء على هذه العقوبة الشنعاء

" اننا لا نتوجه بالحديث إلى هؤلاء الناس ، وإنما إلى رجال القانون بمعنى الكلمة ، وإلى المفكرين وذوي المنطق السليم ، إلى أولئك الذين يحبون عقوبة الإعدام لأنها عقوبة الإعدام ، يحبونها لجمالها وطيبتها وحسنها !
هيا اذن .. فليدلوا بدلوهم ، وليقدموا لنا حججهم .
يقول الذين يحاكمون غيرهم ويصدرون عليهم الأحكام أن عقوبة الإعدام أمر ضروري ،
أولاً: " لأن من الضروري أن نبتر من المجتمع عضوا قد أساء اليه من قبل وقد يسئ اليه بعد ذلك .. فإذا كان الأمر مقصوراً على ذلك فالسجن المؤبد يكفي.
فلماذا الموت اذن؟
أتفترضون أنه يمكن الفرار من السجن؟
حسناً .. فلتشددوا الحراسة. فإن كنتم لا تثقون من متانة القضبان الحديدية، فكيف تتجرءون على أن تحبسوا وراءها الوحوش الضارية؟
ليس ثمة ما يدعو إلى وجود الجلاد مادام السجان يكفي
ولكنهم يستطردون فيقولون: " ان المجتمع يجب أن يثأر لنفسه وأن يعاقب".
"كلا ، لا هذا ولا ذاك ، فالثأر شئ فردي، أما العقاب فبيد الله".
والمجتمع بين اثنين : العقاب فوق المجتمع ، والإنتقام أقل منه. الأول كبير للغاية، والثاني صغير للغاية، وكلاهما لا يلائمة. ومن واجب المجتمع ألا " يعاقب لينتقم " ، بل أن" يصلح ليصل إلى ما هو أحسن"..فغيروا اذن صيغة علماء الاجرام على هذا النحو ، فنحن نفهمها ونقلبها على هذا التعديل .
يبقى السبب الثالث والأخير، وهو نظرية ضرب المثل:
"يجب أن يضرب المثل الرادع! .. يجب الإرهاب بمنظر المصير الذي ينتظر المجرمين ، نلقي به الخوف في قلوب الذين يميلون إلى محاكاتهم! " ..
ان هذه العبارة تكاد تكون بالحرف الواحد تلك الجملة الخالدة التي يرددها ممثلو الإتهام في " النيابات " الخمسمائة الموجودة في أنحاء فرنسا مع تغيير طفيف رنــــان!
حسناً .. أننا ننكر أولاً أن هناك مثلاً وعبرة ، ننكر أن منظر التعذيب يأتي بالنتيجة المرجوة منه، فهو بدلاً من أ يهذب الشعب ،يضعف من روحه المعنوية ويقتل لديه كل شعور، وبالتالي كل فضيلة . والأدلة على هذا كثيرة ، يزدحم بها استدلالنا لو أردنا أن نذكرها . ومع ذلك فسوف نسوق واقعة من بين ألف واقعة،
فقد حدث في مدينة " سان بول " ، عقب اعدام رجل يدعى " لويس كامي " مباشرة، وكان قد ارتكب جريمة حريق، حدث أن جاء نفر من الملثمين ليرقصوا حول المشنقة وهي لا تزال ساخنة،
فأضربوا المثل اذن التماساً للعبرة!
نعم ، نعم .. انكم تستمسكون بنظريتكم الروتينية في المثل رغم التجربة . فلنعد اذن إلى القرن السادس عشر، وعليكم أن تكونوا مرعبين حقاً! أعيدوا مختلف أنواع التعذيب ..
أعيدوا الينا " فاريناشي " والأشخاص الذين كانوا يكلفون رسمياً بالتعذيب ..
أعيدوا لنا الصلب والحرق وتمزيق الأوصال واقتلاع الأظافر وقطع الأذن ودفن المرء حياً وغلي أعضاء الجسم والمرء حي يعيش!!
أعيدوا لنا عند كل ناصية في شوارع باريس، منظر الجلاد البشع كأنه حانوت جديد مفتوح كبقية الحوانيت، ومزود بصفة مستمرة باللحم الآدمي الطازج!
أعيدوا الينا ساحة الإعدام التي كانت مهيأه في " مونفوكون " بقواعدها احجرية الست عشرة، وجلاديها الجالسين و" بدروماتها " المملوءة بالعظام، وألواح التعذيب الخشبية، و" كلابانها " وسلاسلها ، وخوازيقها ، وغربانها التي تنهش جثثها العفنة !!
نعم، أعيدوا ساحة الإعدام هذه مع المشانق الملحقة بها ورائحة الجثث النتنة التي كانت رياح الشمال الغربي تنقلها وتحملها معها على طول حي " التامبل " في ضواحي باريس!!
أعيدوا الينا صبي جلاد باريس العظيم في قوته وسطوته واستمراره وجبروته! .. حسناً! .. هذا هو مثلكم بصورة مكبرة !! هذه هي عقوبة الإعدام مفهومة فهماً جيداً . انها طريقة للتعذيب على نطاق واسع وهذا هو الشئ الشنيع المروع!
أوه! فعلوا ما يفعلونه في انجلترا ففي انجلترا – وهي بلاد التجاة – يأخذون مهرباً إلى ساحل" دوفر " حيث يشنقونه ضرباً للمثل، ولضرب المثل أيضاً يتركونه معلقاً في حبل المشنقة! ولكن، نظراً الى أن تقلبات الجو قد تتلف الجثة، فإنهم يغلفونها في عناية بقماش مدهون بالقطران ، وذلك حتى لا يضطرهم الأمر إلى تجديد هذا الغلاف إلا أقل عدد ممكن من المرات .. فياله من بلد يتوخى الإقتصاد ! بلد يطلون فيه المشنوقين بالقطران!
ومع هذا ، فإن ذلك فيه شئ من المنطق ، فهو أكثر الطرق انسانية لفهم نظرية المثل.
ولكن أنتم .. أصحيح أنكم جادون حقاً، اذ تعتقدون أنكم تضربون مثلاً حين تقطعون رقبة انسان بائس، بطريقة تعسة في ركن قصي مهجور من مشارف العاصمة؟ قد يكون هذا مقبولاً لو انه تم في ساحة الإعدام، وفي وضح النهار! ولكن ، أن يحدث ذلك في حقول ضاحية من ضواحي باريس .. في "سان جاك" ؟ .. وفي الثامنة صباحاً والنهار لم يكد يطلع بعد؟ من ذا الذي يمر من هناك؟ ومن ذا الذي يرى ذلك؟ ومن ذا الذي يعرف أنكم تقتلون رجلاً في ذلك المكان؟ ومن ذا الذي يشك في أنكم تضربون مثلاً هنالك؟ مثلاً لمن؟ لأشجار الطريق طبعا! ( على القياس نستطيع ان نقول ذات الأمر على تنفيذ احكام الإعدام فى الغرف المغلقة مثل ما هو حادث حالياً ..)
أفلا ترون إذن أن تنفيذكم لحكم الإعدام علناً يتم خلسة؟ أفلا ترون اذن أنكم تختبئون؟ وأنكم تخافون وتخجلون من فعلتكم؟ وأنكم تتمتمون على نحو يدعو إلى السخرية قائلين أن هذه هي العدالة؟ أنكم في الواقع خجلون وجلون أيها السادة ، ومزعزعون قلقون، وغير واثقين من أنكم على حق ، وأن الشك الذي لدي الجميع قد تسرب إلى نفوسكم، وأنكم تقطعون الرءوس على سبيل " الروتين " دون أن تعرفوا تماماً ما تفعلون ! أفلا تشعرون في قرارة أنفسكم أنكم قد فقدتم على الأقل الشعور الأخلاقي والإجتماعي برسالة الدم التي كان أسلافكم القضاة العتاة يؤدونها بضمير مطمئن للغاية؟ وفي الليل؟ أفلا تنقلبون على وسائدكم أكثر مما كانوا ينقلبون؟ ان آخرين من قبلكم قد أمروا بتنفيذ العقوبة القصوى، عقوبة الإعدام، غير أنهم كانوا يعتقدون أنهم على حق، وأنهم عدول وأنهم يحسنون صنعاً. ان "جوفينيل ديزرسان" كان يعتقد أنه قاض، و" أيلي دي توريت " كان يعتقد أنه قاض، و" لوباردومون " و "لارينيي" و "لافوماس" كانوا يعتقودن أنهم قضاة .. أما أنتم .. أما أنتم فلستم موقنين تماماً في قرارة أنفسكم أنكم لستم قتلة!
انكم تتركون ساحة الإعدام الى ضاحية "سان جاك" ، وتفرون من الجمهور الى العزلة، ومن النهار الى الغسق ولا تقومون بما تقومون به في ثقة وثبات. ولست أتردد في أن أقول لكم: أنكم تختبئون!
هذه هي كل الأسباب التي تنتحلونها لعقوبة الإعدام قد تحطمت اذن ، وهذا هو منطق ممثلي الإتهام بأسره قد أصبح عدماً ، وهذه كل مرافعات النيابة قد فندت فصارت رماداً. أن أقل لمسة من المنطق لابد أن تذيب كل تفكير معوج.
انه لا ينبغي اذن أن يأتينا رجال الملك بعد الآن يطالبوننا – نحن المحلفين – برءوس جديدة، نحن الرجال، وهم يرجوننا في صوت يداعبنا بإسم المجتمع الذي تجب حمايته وبإسم الثأر للشعب، أن نضمن لهم ضرب المثل الرادع، ان هذا كله ليس الا بلاغة وكلاماً أجوف، ليس إلا مجرد بالون منفوخ تكفي وخزة بسيطة من دبوس، كي تحيله إلى لا شئ، اذ ليس وراء هذه الثرثرة الحلوة غير قسوة القلب والشراسة والهجمية ، والرغبة في إظهار التحمس للعمل وضرورة كسب العيش. اصمتوا أيها السادة ، فإننا نحس بمخالب الجلاد تحت أنامل القاضي الحريرية !
انه ليشق علينا أن نفكر في برود في أمر مدع عام جرئ. انه رجل يكسب عيشه بإرسال الآخرين الى المشنقة، فهو المورد الرسمي لساحات الإعدام! ومن ناحية أخرى ، فهو رجل يزعم لنفسه الاسلوب الأدبي الجميل ، وهو ذلق اللسان، أو يحسب أنه كذلك، ويردد عند الحاجة بيتاً أو بيتين من الشعر اللاتيني قبل أن يسوق انساناً الى الموت، ويحاول جاهداً أن يحدث في مستمعيه التأثير الذي يريده، وهو شديد العناية بأمر كرامته – يا للشقاء! هذا في الوقت الذي تكون فيه حياة الآخرين في الميزان! ان لهذا المعي العام نماذج، نماذج خاصة يتعذر على المرء أن يبلغ مستواها ، مثل "بلار" ، و "مارشانجي" تماماً كما يكون للشعراء نماذج تحتذي مثل "راسين" أو "بوالو". وفي المناقشات التي تدور في المحكمة، تره يجنح دائماً الى ناحية المقصلة، ولا غرو فهي دوره، وهي شغله الشاغل. والإتهام الذي يوجهه انما هو عمله الأدبي الذي يزينه بالإستعارات، ويعطره بالنصوص، يستشهد بها كي يظفر بإستحسان الحاضرين في الجلسة، وينتزع اعجاب السيدات، ولديه ذخيرة من الأفكار الشائعة التي لا تزال جديدة تماماً على البيئات الريفية، وله بلاغته في التعبير، وأسلوبه الرقيق المصطنع الذي يشبه في رقته أساليب الكتاب.انه يكره الكلمة الخالية من الاستعارة، مقتا يداني المقت الذي يضمره لها شعراؤنا المنتمون الى مدرسة "دوليل" فلا تخشوا اذن أن يسمى الأشياء بأسمائها فذلك لن يحدث، اذ أن لديه قناعاً كاملاً من النعوت والصفات لكل فكرة يمكن أن تثيركم وهي مجردة عارية. ان في وسعه أن يجعل الأمر المفزع مقبولاً، ويخفف من حدة سكين المقصلة، ويوازن الميزان ، ويغلف السلة الحمراء في غلالة رقيقة من الاستعارات. انه رقيق ومتحفظ، فهل تتصورونه بالليل في مكتبه، وهو يتأنق في اعداد هذه الخطبة التي ستنصب بسببها المشنقة بعد ستة أسابيع؟ هل ترونه وهو يعرق دماً وماء كي يحاصر رأس متهم في أسوأ بند من بنود القانون؟ وهل تبصرونه وهو "ينشر" رقبة انسان بائس بمنشار قانون أسئ صنعه؟ ألم تلاحظوا كيف ينقع ثلاثة نصوص أو أربعة سامة في فيض من العبارات البليغة،كي يعبر بها، ويستخرج منها بجهد جهيد موت انسان؟ أفلا يحتمل أن يكون الجلاد قاعداً القرفصاء عند قدميه في الظلام، تحت مكتبه وهو جالس يكتب، وأنه قد يكف عن الكتابة بين آن وآخر، ليقول له كما يقول السيد لكلبه: "اهدأ اهدأ، فسوف تنال عظمتك! ".
ومن ناحية أخرى، فقد يكون رجل الإدعاء هذا في حياته الخاصة رجلاً شريفاً، وأباً عطوفاً، وإبناً صالحاً، ووجاً مخلصاً ، وصديقاً وفياً .. الى غير ذلك مما تذكره العبارات الطيبة المنقوشة على لوحات القبور في مدافن "لاشيز" ..

فاوست
23/07/2007, 20:46
فلنأمل اذن أن يأتي اليوم الذي يلغي فيه القانون هذه الوظائف المحزنة، وجو حضارتنا وحده هو المسئول عن القضاء على عقوبة الإعدام في فترة معينة من الزمن.
ويغلب على ظننا في بعض الأحيان أن الذين يدافعون عن عقوبة الإعدام لم يفكروا فيها فيحسنوا التفكير. ولكن، ضعوا اذن بعض الجرائم في الميزان، فهذا القانون العنيف يخول للمجتمع الحق في أن يسلب من الإنسان شيئاً لم يمنحه إياه، وهذه العقوبة انما هي أكثر العقوبات التي لا يمكن اصلاح نتائجها وأشدها استعصاء على الإصلاح!
ذلك أن أمامكم أمرين لا ثالث لهما :
فإما أن يكون الرجل الذي تقضون على حياته لا أسرة له ولا أهل ولا روابط في هذا العالم ، وفي هذه حالة لا يكون قد تلقى تربية أو تعليماً أو عناية ما، بنفسه أو بقلبه.. فبأي حق اذن تقتلون هذا اليتيم البائس؟ أتعاقبونه لأنه كان يزحف في طفولته على أرض لا سند له فيها ولا مرشد ولا معين؟ انكم تعاقبونه اذن على العزلة التي تركتموه يهيم فيها على وجهه، وتجعلون من مصيبته هذه جريمة، وهو الذي لم يعلمه أحد ماذا كان عليه أن يفعل! أنه رجل جاهل، والخطأ ليس خطأه ولكنه خطأ القدر .. انكم تعاقبون بريئاً!
وإما أن هذا الرجل ذو أسرة . فهل تحسبون عندئذ أن الضربة التي تقطعون بها رقبته لا تصيب الا إياه؟ وأن أباه، وأمه، وأولاده لن يقطروا دماً كذلك؟ كلا ، فأنتم بقتله انما تقطعون رقبات أسرة بأسرها. فأنتم هنا كذلك تعاقبون الأبرياء!
ان عقوبة الإعدام عقوبة شاذة عمياء، على أي وجه نقلبها نجدها تصيب البرئ!
اسجنوا هذا الرجل ، هذا المذنب الذي له أسرة، فسوف يستطيع وهو في سجنه أن يتابع العمل من أجل ذويه، اذ كيف يكون في وسعه أن يعولهم وأن يجعلهم يعيشون وهو راقد في قاع قبره؟ ترى هل تفكرون دون أتن تأخذكم الرجفة فيما سيئول اليه أمر هؤلاء الأولاد الصغار ، والبنات الصغيرات الذين تنتزعون منهم والدهم، أعني لقمة العيش! أم هل تعولون على هذه الأسرة لتزودوا بها الليمان بعد خمسة عشر عاماً؟ ..... آه ! يا للأبرياء المساكين!
عندما يصدر حكم بالإعدام على عبد رقيق في المستعمرات ، فإنهم يدفعون لصاحبه ومالكه تعويضاً مقداره ألف فرنك ! ماذا أيها السادة؟ انكم تعوضون خسارة السيد ولا تعوضون الأسرة شيئاً! وهنا أيضاً بالله عليكم ، ألا تنتزعون رجلاً من بين ذويه أصحاب الحق فيه؟ أو ليس هو ملكاً لوالده ولزوجته ولأبنائه الى حد يبلغ في القداسة أكبر كثيراً من درجة ملكية السيد لعبده؟
لقد سبق لنا أيها السادة أن اتهمنا قانونكم هذا بأنه اغتيال، وها نحن أولاء نتهمه الآن بأنه سرقة.
وثمة شئ آخر : فهل فكرتم في روح هذا الرجل؟ وهل تجرءون على ازهاقها بمثل هذه السرعة ، وبمثل هذا الإستخفاف؟ فيما مضى ، على الاقل ، كان هناك شئ من الإيمان في قلوب الناس، وفي اللحظة الحاسمة كانت نفحة الدين المنبثة في الهواء تلين أكثر القلوب قسوة وصلابة ، فكان المحكوم عليه في نفس الوقت تائباً يكفر عن ذنب قد ارتكبه ، وكان الدين يفتح أمامه عالماً ، في نفس اللحظة التي كان المجتمع فيها يغلق في وجهه عالماً آخر . كانت النفوس جميعاً تثق بالله ، ولم تكن المشنقة الا حداً من حدود السماء ، أما الآن ، فما هو الأمل الذي تضعونه في مشنقة لا تؤمن بها الغالبية العظمى من الجماهير؟
ليست هذه من غير شك إلا "أسباباً عاطفية" كما يقول بعض الذين يزدرون العاطفة ولا يستمدون منطقهم إلا من رءوسهم ، غير أنها في نظرنا هي أفضل الأسباب ، ونحن غالباً ما نفضل الأسباب العاطفية على العقلية . ويجب علينا ألا ننسى من جهة أخرى أن النوعين يتساندان على الدوام ، فكتاب "قانون الجرائم" مأخوذ من كتاب " روح القوانين " و " مونتسكيو " هو الذي أنجب " بيكاريا " .
ان المنطق معنا، والعاطفة معنا، والتجربة تؤكد وجهة نظرنا كذلك. ففي الدول النموذجية حيث ألغيت عقوبة الإعدام ، أخذ مجموع الجرائم الكبرى يقل باطراد عاماً بعد عام، فأدخلوا هذا في حسابكم .
ومع ذلك ، فإننا لا نطالب في الوقت الحاضر بإلغاء عقوبة الإعدام الغاء تاماً وبطريقة فجائية على النحو الطائش الذي اتبعه مجلس النواب، بل نريد ، على العكس ، أن نجرب كل المحاولات ، وأن نتخذ كافة الاحتياطات ، وأن نلزم في هذا الحذر كل الحذر. ومن جهة أخرى ، فإننا لا نريد الغاء عقوبة الاعدام فحسب، وإنما نريد كذلك تعديلاً شاملاً لكل أنواع العقوبات من أولها الى آخرهاً ، من الحبس البسيط الى المقصلة، مع ملاحظة أن الزمن يعتبر أحد العوامل التي تجب مراعاتها في عمل كهذا ، حتى يتم على الوجه الأكمل . وفي نيتنا أن نكتب المزيد في هذا الموضوع شارحين الطرق والأفكار التي تبدو في نظرنا عملية ممكنة التطبيق . ولكن، اذا استثنينا الغاء حكم الاعدام جزئياً في حالات تزييف النقد ، والحريق ، والسرقة المصحوبة بظروف مشددة، الى غير ذلك ، فإننا نطالب منذ الآن ، وفي جميع القضايا الكبيرة ، بأن يلتزم رئيس المحكمة بأن يسأل المحلفين هذا السؤال: هل ارتكب المذنب جريمته بدافع من العاطفة أو بدافع المنفعة؟ فإذا جاء رد المحلفين بأن" المتهم قد ارتكب ما ارتكب بدافع العاطفة" فيجب ألا يصدر عليه حكم الإعدام .. فهذا كفيل على الأقل بأن يبعد عنا بعض أحكام الإعدام التي تثير نفوسنا ، وكان ذلك خليقاً بأن ينقذ حياة كل من " أولباخ " و " ديباكير " وهو خليق كذلك بأن ينقذ رقبة من يقف موقف " عطيل " في المستقبل.
ومن جهة أخرى ، فإننا يجب ألا نُخدَع ، فمسألة عقوبة الإعدام هذه تنضج يوماً بعد يوم ، وسوف يحلها المجتمع بأسره ، كما نفعل ، قبل انقضاء وقت طويل . فليحذر علماء الجريمة المعاندون ، فقد أخذت أحكام الإعدام تتناقص منذ قرن من الزمان ، وأخذت تجنح تقريباً نحو شئ من اللين والحنان ، وهذا نذير شيخوخة وإضمحلال. انه علامة من علامات الضعف ، علامة موت قريب . لقد انتهى زمن تعذيب المتهمين وربطهم على العجلة ، وولى عصر صلب المحكوم عليهم .. بل ان المقصلة ذاتها عبارة عن تقدم! .. ان هذا لشئ عجيب! لقد كان " السيد جيوتان " انساناً خيراً حقاً!
نعم .. ان هذه الآلة ذات الأسنان والتروس الرهيبة التي التهمت عدداً ضخماً من الرءوس – آلة "فارمناتشي" و "فوجلانس" و "دولانكر" و "ايزاك لوازيل" و "أوبيد" و "ماشوه" – هذه الآلة قد بدأت تضمحل .. بدأت تهزل .. بدأت تموت !!
ها هي ذي ساحة الإعدام لا تريدها ، لأن هذه الساحة تريد ان ترد لنفسها اعتبارها .. ان شاربة الدماء العجوز قد سلكت في شهر يوليو سلوكاً حسناً ، فهي تريد منذ الآن أن تحيا حياة أفضل ، وأن تظل جديرة بصنيعها الأخير .. ان الحياء يعود اليها ، وهي التي كانت قد حلت محل المشانق من ثلاثة قرون ، فهي تخجل من مهنتها السابقة، وتود أن تفقد اسمها البشع. انها تطلق الجلاد.. وتغسل الدم من فوق "بلاطها ".
وفي هذه الساعة ، تنفذ عقوبة الاعدام خارج باريس! فلنقلها هنا اذن بصراحة ، فخروجها من باريس يعني خروجها من المدنية.
ان جميع الأعراض في صالحنا ، ويبدو كذلك ان هذه الآلة البشعة ، أو بالأحرى هذا الوحش المصنوع من الخشب والحديد ، والذي هو تحفة الدكتور " جيوتان " يبدو أن هذه الآلة تغدر وتقاوم . اننا اذا نظرنا من زاوية معينة الى هذا العدد من أحكام الإعدام الرهيبة التي نفذت وسردنا تفاصيلها آنفاً ، لوجدنا أنها تعتبر دلالات ممتازة، فالمقصلة تتردد وتحجم وتقصر في تأدية وظيفتها ، وها هو ذا بناء عقوبة الإعدام العتيد العتيق بأسره قد أخذ يتفكك ويتداعى .
وسوف ترحل هذه الآلة البغيضة من فرنسا ، فنحن نقدر ذلك تقديراً ونعول عليه ، وهي سوف ترحل عرجاء، بإذن الله ، لأننا سنحاول جاهدين أن نوجه اليها ضربات قاصمة .
فلتذهب اذن عند قوم آخرين ، لتذهب عند شعب همجي يقبل أن يستضيفها.
لقد كان البناء الإجتماعي يرتكز فيما مضى على ثلاث قواعد هي : القسيس ، والملك ، والجلاد. ومنذ زمن بعيد ، ارتفع صوت يقول : " لقد ذهب سلطان الأساقفة ! " ..
وفي السنوات الأخيرة صاح صوت آخر يقول : " ان الملوك ذهبواً " .. والآن ، حان الوقت ليرتفع صوت ثالث ويقول : "ان الجلاد راحل ً "
وهكذا ، يكون المجتمع القديم قد انهار حجراً بعد حجر ، وتكون العناية الآلهية قد قوضت أركان الماضي بأسره.
ان الذين ندموا على تقلص نفوذ الدين،استطعنا أن نقول لهم:ان الدين باقٍ،والذين يندمون على ذهاب الملوك نستطيع أن نقول لهم:ان الوطن باقٍ.أما الذين سيندمون على ذهاب الجلاد فليس لدينا ما نقوله لهم.
ولا يحسبن أحد أن النظام سوف يختفي بإختفاء الجلاد فسوف لا تتداعى عمد المجتمع الجديد لأن هذا المفتاح البشع المشئوم ينقصها، وليست المدنية الا سلسلة من التغييرات المتتابعة، فماذا أنتم واجدون عندئذ؟
انكم ستشهدون تغيير العقوبات ، وسوف يدخل قانون المسيح الرحيم أخيراً في اللوائح المعمول بها في المحاكم ويشع من نوره عليها. اننا سننظر الى الجريمة على أنها مرض ، وسوف يكون لهذا المرض أطباؤه الذين سيحتلون أماكن قضاتكم ، ومستشفياته التي ستحتل أماكن ليماناتكم .. ان الحرية والصحة ستجتمعان معاً.
نعم ، اننا سنصب البلسم والزيت حيث كان يطبق الحديد والنار . وسوف نعالج هذا المرض بالرحمة والإحسان بعد ان كان يعالج بالغضب والإنتقام.
وسوف يكون ذلك بسيطاً ورائعاً حقاً.
فالإحسان يحل مكان الإنتقام.
والرحمة تحل محل القتل .
وهذا كل ما نهدف اليه.
جورج شكري