-
دخول

عرض كامل الموضوع : قصيدة النثر نموذجا" وتنظيرا"


قصي مجدي سليم
19/04/2005, 23:03
هذا المقال مهدى الى العاشق وهو ايضا الى الجميع ... وهو مقال قد تم نشره بالعديد من صفحات الاانترنت.


(قصيدة النثر بينن الرفض والقبول)

(محاولة للإسهام في حل المشكل)
ظهر العقاد في التلفزيون القومي لجمهورية مصر العربية وقال بصوت واضح وعال لحد أن يسمع الصم ، وينبه الغافل : ( الشعر الحر ده مش شعر ،الشعر الحر ده كلام فارغ ) .

و في موقف موازي لموقف العقاد هذا ، تبناه أستاذنا ، أستاذ الأجيال ، بروفيسور عبد الله الطيب

في الرد على أصحاب مدرسة الشعر الحر وعلى رأسهم الأستاذ الشاعر المرحوم محمد عبد الحي

وكما قامت الدنيا ولم تقعد في مصر فعلت الدنيا نفس الفعلة في السودان .

وكان رأي العقاد و (ود السادة المجاذيب ) واضحا جليا ، فالِشعر هو ما يوزن ويقفى وفق أوزان الخليل

(مفاعل مفاعل، تفاعيل تفاعيل الخ الخ ) ..

والشعر ما كانت قافيته منتظمة في الصدر والعجز وهو الشيء الذي أسماه من يخالفوهم تهكما

(الشعر أبو ضلفتين ) إشارة إلى أبواب الدولاب .

و كان رد الآخرين بان الشعر العربي مر بعدة أطوار ففي البدء(أي عصر الشعر الجاهلي ) كان الشعر يبدأ بوصف الحبيبة أو البكاء على الأطلال حتى عهد أبو نواس الذي قام بتغيير هذا الأمر .

و لكن هذه الحجة كانت واهية جدا ورد عليها الآخرين ببساطة : هذا في جانب الأغراض الشعرية ، ونحن لم نحدد الأغراض ، ولم ندعو لذلك.

وبدأت المشكلة تضح ، هي مشكلة شكل ليس إلا وهذا واضح .

كان في جانب التمسك بالقديم أساتذة كبار وعلى رأسهم الأستاذ عبد الله الطيب وكان في الجانب الآخر من لا يقل عنهم علما وحكما .. محمد عبد الحي ، علي عبد القيوم ومصطفى سند الخ

ويبدو أن الشعر الحر بحكم الزمن قد انتصر ، وهو ألان ما يقرأ اكثر من غيره

بل ويدرس في المدارس الحكومية أيضا .

وهدأت الزوبعة بل يبدو أنها توقفت تماما .

ثم ...

كان لقاء قدمته قناة أبو ظبي مع الأستاذ مصطفى سند ، وكنت مارا في طريقي بالصدفة فوجدته قد بدأ .. فوقفت .. ثم جلست .. ثم دهشت ..

كان الأستاذ سند يقول (وبالنص)

(( أنا ضد القصيدة النثرية ولا اعتبرها قصيدة من أساسه ، على العموم من يريد أن يتماهى فليتماهى ولكني ضد هذا الشكل ))

ضحكت ... أي والله ضحكت .. هكذا تماما هاهاهاههاهاهاهاهاهاهاهاها هاهاهاهاها

ووقفت لمدة وأنا غير مصدق لنفسي .. هل هذا سند حقا ..

وعلمت أن الزوبعة لم تمت لان الإشكال قد حل ، بل ماتت لان من كانوا يتمسكون بالرأي الآخر ويدافعون عنه بعلم ومنطق قد ماتوا .

ونحن هنا ـ على التحقيق ـ أمام أربعة قضايا

1/ الشعر

2/ الشعر الحر

3/ القصيدة النثرية

4/ المدارس الفنية

وفي وجهة نظري فان الإشكال كله لا أساس له ولقد اسهم الجانبين بنفس القدر على تضخيمه وتصويره وكأنه كارثة .. من جهة الطرف الأول كارثة تمس شكل أدبي محدد له تاريخه الطويل و أسسه ونظمه ، ومن جهة الطرف الثاني كارثة تحاول أن تطيح بالتجديد وتحاول أن تبقي على الجمود والتحجر .

الشعر
الشعر هو حقا ما يوزن ويصرف وله قافية وله صدر وعجز . وهو لون أدبي جميل يمكنك فيه أن تصور ابلغ العبارات والكلمات بأقل التركيبات اللفظية ، ويمكنك أيضا أن تستعين بالبلاغة اللغوية من علوم البيان والبديع والمعاني . دون التقيد بغرض محدد أو قضية محددة ويمكنك أن تكتب ما تشاء والحكم يبقى على من يتذوق .

والشعر فن . والفنون سبعة وهي

الموسيقى والدراما والغناء والرقص والنحت والمعمار والسينما .

ولكل من هذه السبعة فنون مجموعة من الفنون تنضم إليها

فالموسيقى مثلا تضم التأليف والعزف والتوزيع الخ

ومن هذه الفنون انبثقت أفرع كادت أن تصبح عنصرا منفصلا بذاته كما فعلت السينما مثلا

ومن الدراما خرجت الآداب ، فالدراما في الأصل هي عبارة عن مسرحيات مكتوبة

ولقد كانت المسرحيات تكتب ( وحتى ظهور فيكتور هيجو رائد المدرسة الواقعية)

بلغة شعرية بحتة .

ومن المسرحية الشعرية خرجت المسرحية الحوارية ثم الرواية ثم القصة ثم القصة القصيرة ولم يدعي أحد انه قد قفل الباب من وراء كل ذلك ...

قد يعترض أحد بأن هذا السرد إنما يؤرخ لتاريخ الفنون الأوروبي ولا دخل للشعر العربي في هذا ، وهذا رأي يبدو وجيها دون الإمعان فيه ، ولكن حقائق الأشياء تقول إن الفن لغة عالمية ، ونحن نشهد الآن كيف أن كل العالم اصبح يتذوق الفنون والثقافات المختلفة ويدرسها ، ولكننا لن نستطيع أن ننكر أيضا أن أوروبا قد قطعت شوطا (تعدى درجة القياس ) في مجال الفنون وان المناهج الأوروبية في الفنون أضحت لا تعد ولا تحصى . والشعر العربي قد مر ـ باعتراف الكل ـ بما يسمى

عصر اضمحلال الشعر وهو العصر العثماني وعصر المماليك حتى مجيء البارودي وشوقي والتجاني وحافظ ... أصحاب النهضة الشعرية العربية

وهذا الازدهار قد أثرت فيه الثقافة الأوروبية أيما تأثير فشوقي مما لا شك فيه تأثر بشكسبير بل حاول مجاراته في كثير من مسرحياته (مصرع كليوباترا) مثلا..

بل إن كل أصحاب النهضة العربية في كل المجالات تأثروا بالنهضة الأوروبية وهذا هو المطلوب بالضرورة .

إذن ..

الشعر هو فرع من الأدب له قواعده و أسسه وهذا ما لا شك فيه عندي .

ولكنه لا يولد إشكال البتة وهذا ما سنتوصل إليه بعد قليل .

الشعر الحر

أُختلف حول مَنْ كتب أول قصيدة حرة! ما بين(نازك الملائكة ، وبدر شاكر السياب)

ولكن وعلى العموم فان كاتبها كان قد تأثر بذيوع وانتشار هذا الشكل في أوروبا،

ثم انه أحس برغبة شديدة أن يكتب بهذا الشكل، ثم انه تملكته حالة إبداعية كبرى جعلته لا يستطيع أن ينفك من الكتابة ، ثم انه كتب . أي انه مر بكل ما يمر به الفنان

من معرفة ورغبة وتوتر ودافع ثم انه قدم شكله الجديد . وعند ظهور هذا الشكل وتسميته بأنه ( شعر حر) كانت المعارضة جاهزة له من قبل الأستاذ الجليل العقاد فقال بأنه ليس بـ(شعر ) وهنا تبرز المغالطة الكبرى بوضوح لكل من يرى فمن قال للأستاذ الفاضل من أساسه أن هذا الشكل هو (شعر ) لم يقم أحد ممن كتبوا هذا الشكل بتبويبه ضمن الشعر بل قال وبوضوح انه ( شعر حر) واعتقد أن الفرق واضح تماما بين اختلاف الحالتين كما هو أوضح بين المسميين .

وبدلا من أن يقوم أصحاب هذه المدرسة بدحض تلك بهذه ، ذهبوا هم أنفسهم لمغالطات لا معنى لها ، بل عندوا وقالوا ـ والكلام على لسان فاروق جويده معقبا على رأي العقاد الذي قاله في تلفازهم القومي ـ ( العقاد نفسه كان صاحب ثورة تجديدية في الشعر ، والشعر الحر.. شعر. وشعر جميل ) وبدلا من أن يرفض الرد على كلام العقاد ـ لأنه نفى منفي أساسا ، ونحن جميعا نعلم ما هو حكم نفي النفي ـ دخل هو أيضا في مغالطة لا داعي ولا لزوم لها .

الشعر الحر أو شعر التفعيلة هو أيضا له وزن وإيقاع (كل الفنون لها إيقاع حتى النحت والمعمار والرسم) وينتهي بقافية في بعض الأحيان ولكن ليس بالضرورة ذلك وللقصيدة عدة أوزان أو وزن واحد هو باختصار حرية بين التعدد والتفرد . أي حرية مقيدة .

وهو شكل أدبي جميل يمكنك فيه أن تعرض قضايا متعددة في قصيدة واحدة كما يمكنك أن تدخل مفردات محرمة على الشعر ولكنها غير محرمة على الشعر الحر كما يمكنك أن تستعمل فيه مدارس (اللا عقل) (تعبيرية سريالية عبثية الخ)

الشيء الذي لا تستطيعه (إلى حد ما) مع الشعر وهذا لضيق المساحة الممنوحة ما بين البيت والبيت ( أي الصدر والعجز الأول والصدر والعجز الثاني ) هو على العموم اكثر تحركا من صاحبه الشعر (وان كنت اعتقد بأن الإبداع في الشعر يظهر أكثر منه في الشعر الحر وهذا لضيق المساحة الممنوحة ، وفي رأيي أن المبدع أساسا هو من يقدر على إدهاشك ) .

القصيدة النثرية

وهذه هي ما نريد في الأساس (أنظر إلى العنوان الرئيسي) ولكن كان لا بد لنا من التطرق لكل ما ذكرنا وهذا للتماس الواضح بين هذه الأشكال الفنية .

القصيدة النثرية هي(روح شعرية في صيغة نثرية) فهي قطعة نثرية تُؤلفْ فيها أساليب متعددة وحالات متغيرة وإيقاع ثابت في نهاية الأمر . ربما يكون الكلام المكتوب غير مفهوم لكثير من الناس ولكن هذا ليس بمدعاة لأنه باطل (كما قال سند)

فيحكى أن أبو تمام كان يلقي قصيدة لجمع فقال أحدهم

ـ لم تقل ما لا يفهم؟!

فرد عليه قائلا

ـ ولم لا تفهم ما يقال !

أنا اتفق مع سند أن هنالك بعض القصائد لا تفهم البتة بل اشك أن من كتبها يفهمها

ولكن هذا لا يجعلني أن احكم على فرع أدبي كامل بأنه كلام فارغ والغريب أن أكون قد وجهت لي هذه التهمة ظلما من قبل وذقت فيها ما ذقت ثم أتي بعد هذا والصقها بغيري فهل هذا من عبث الأقدار أم انه الزمن يعيد نفسه بصورة مريرة؟؟؟؟؟؟

هل لأن هنالك كاتب قصة تافه يعني هذا أن ماركيز تافه وان القصة ليست أدبا ولا فنا؟؟ { مالكم كيف تحكمون} ؟! .

هل لان هنالك من يتماهى ويقول ما لا تفهمه يعني أن من قال:

{لو كنت فارسا لعبأت نشابي بالفرح وصوبت نحو البشرية جمعاء .. لا أخطئ أحدا

لو كنت ملاك موت لصعدت عاليا وهويت على الأرض أدق عنقي }

هذا الكلام ـ هل يمكن أن يكون فارغا ـ . هل يمكن أن يكون من كتبه يلهو بالعقول ويكتب ما لا يفهم أم عندها نقول لك (لم لا تفهم ما يكتب)!!.

والقصيدة النثرية ليست هي الشعر ولا هي الشعر الحر ويجب على الجميع (من يكتبها ومن يرفضها ) أن يعلموا أنها شكل أدبي قائم بذاته و الآن اصبح لدينا المسرحية ، الرواية ، القصة ، القصة القصيرة ، الشعر ، الشعر الحر ، القصيدة النثرية ، القصة القصيرة جدا... هذا بالإضافة للمقال والخطاب والخطبة . ولا زلنا ننتظر أن يخر ج لون جديد فلم يظهر خاتم النبوة الكتابية بعد . ولم تكتب أي صفحة أخيرة في أي علم بعد . ولم يدعي أحد المعرفة المطلقة بعد . وكفانا أن نجعل هوانا حكما على الأذواق العامة وتحجيما للعلم والمعرفة والذوق .

سؤال



(( هل كل ما يكتبه سند ... يفهم؟؟!!)).







المدارس الفنية

يبدو أننا لا زلنا في بداية الدرج ، ومن الواضح جدا أننا نعيش في كل حياتنا على القشور ، وما يهمني الآن هو أننا نعيش على قشور المفاهيم الفنية فنحن نعد السريلة مثلا عبارة عن كلام غير مفهوم أو لوحة نكثر فيها التلطيخ أو مسرحية تجعل الجمهور يحكون بخروجهم منها قول الشاعر (دخلوا الدنيا فقراء، وكما دخلوا ، منها خرجوا) الخ..

ونعد العبث انه (عبث) . وهكذا ... دواليك ...

وهذا فهم ليس خاطئ فحسب بل وخطير جدا ولكن وللأسف انه الفهم السائد من (الكوة في السودان إلى وادي حميثرا بمصر )

والفن على التحقيق ما هو إلا رسالة فكرية جمالية .

والمدارس الفنية متعددة ولكل منها قصة تحكي سر وجودها ، وأول مدرسة وجدت على الأرض هي الكلاسيكية البدائية ـ عند البعض ـ أو الكلاسيكية الأولى .

ثم(الكلاسيكية العائدة ، الرومانسية ، الطبيعية ، الواقعية ،الواقعية الجديدة ،الملحمية الرمزية ، السريالية ، العبثية ، التجريبية ، ولن نقفل القوس عن قصد

هذه المدارس ليست حصرا ولا ترتيبا ولكني أردت أن اسرد اكبر عدد تسعفني الذاكرة بتذكره .

ولكل مدرسة رائد أو عدة رواد فرائد الرومانسية هو شكسبيرـ نحن نتكلم عن الأدب طبعا ـ ورائد الواقعية فكتور هيجو ومن رواد العبثية البير كامو وهكذا

ولم يقم أحد هؤلاء بتسمية مدرسته التي ينتمي إليها من قبل أن يكتب بها بل أن شكسبير لم يكن يدرك حتى مماته انه ينتمي لمدرسة تسمى الرومانسية، فالرومانسيين الذين أتوا من بعده هم من قاموا بِعَدِهِ منهم . إن المدارس الفنية تعتمد في أساسها التكويني على التجريب والزمن هو الحكم على استمرارها أو توقفها ولم نشهد مدرسة نشأت دون معارضة ولم نشهد مدرسة توقفت عن العمل حتى ألان .

كل المدارس لاقت ما لاقت من نقد وهجوم ولكنها كلها تعمل حتى الآن في كل أفرع الأدب فلا زال هنالك كتاب كلاسيكيون كما أن هنالك واقعيون كما هنالك عبثيون الخ

ولا يستطيع أحد الآن أن يقول بان السريالية (كلام فارغ ) أو أن الرمزية مدرسة لا معنى لها . ولكنه يمكن أن ينتقد عملا سرياليا لعلة أخرى أما أن ينتقده لصفته فقط فهذا إما جهل بالمدرسة نفسها أو جهل بعملية التجديد .

والمدرسة هي أسلوب لطرح الفكرة التي تنشدها .

أي أنها المنهج المتبع .. ولكل منهج شروط وقواعد

وهذا حديث آخر

أواصل

قصي مجدي سليم

القاهرة /22مايو2003

عاشق من فلسطين
20/04/2005, 12:13
مشكور كتير يا غالي .. على هذه المشاركة الغنية والجميلة .. والمفيدة .. :D :D

قصي مجدي سليم
02/05/2005, 13:27
تمرين خاص لكتابة نص خاص
معالجة نثرية [ 1 ]
أتمارين بعد كل هذا العشق في أمري ؟

--- كان ما سبق مدخل للحديث ---

ما قبل النص :


هذي الدنيا بركان أهوج

وأنا

في قمته استلقي

في وصف النص:

أو

خــارطة النص :


ألوم عشقي ، حيث انني اشرب قهوة موتي

افترض انكِ السكر ---

ولا ملعقة تقرب وجهة نظري




( النــــــــــص )


حواء استلقت على ظل شجرة تين عتيقة وأخذت تمشط ذهنها المعوج ، وانا اراقب فيها ضلوعي ، على ظل
شجرة تين عتيقة تمشط ذهنها المعوج . هناك رقيب علي يراقب فيّ ضلوعي ، على ظل شجرة تين

عتيقة اخذت تمشط ذهنها المعوج . ينادي : هناك رقيب عليك ، يراقب فيك ضلوعي . على ظل

شجرة تين عتيقة اخذت تمشط ذهنها المعوج . حجاب وصوت كثيف ينادي المنادي :

هناك رقيب عليك وانت تنادي : هناك رقيب عليك يراقب فيك ضلوعي ؟

على ظل شجرة تين عتيقة اخذت تمشط ذهنها المعوج .

وصوت مهيب يشق الحجاب ويرنو ينادي

منادي المنادي : هناك رقيب عليك

وانت تنادي؟؟ : هناك رقيب

عليك. اخذت تمشط

ذهنها المعوج .

إلخ إلخ..........

........................
مـــــــا بعد النص :-


أطير على محيط العالم ( ألا كري ) ، انتصف المكان

من المحيط الى المحيط ، امركز القدمين في خصر الزمان

من ذلـــــــــك البركان اقفل فوهة ........

..... وانام .

في القاهرة / 21 يناير / 2001 م

عاشق من فلسطين
02/05/2005, 13:30
مشكور كتير يا غالي ..
موضوع مفيد .. وجدير بالقراءة .. والتطبيق
:D :D

قصي مجدي سليم
02/05/2005, 20:51
مشكور كتير يا غالي ..
موضوع مفيد .. وجدير بالقراءة .. والتطبيق
:D :D
:) :) :) :) :) :) :) :) :) :) :) :) :) :)
شكرا كتييييير
وينك يا شاب .. ووييين بلك .. شو منقطع كل هالقد... معليش أنا مشغول شوية اليومين دول ما قدرت أنزل موضوعي لسه في القصائد البعتهالي
شكرا مرة أخرى على الارسال

عاشق من فلسطين
09/06/2005, 17:21
هذا الموضوع لك من يكتب الشعر النثري المجرد من القافية والوزن ..
مع احتفاظه بجماليته وموسيقيته الخفية بين السطور ..


أرجو ان ينال اعجابكم وأن يستفيد منه كل من يرى في نفسه الموهبة ليكتب لكن تتوه عنه البحور والأوزان والقوافي
فيرسى على شاطئ القصيدة النثرية التي تبدو بدائة أنها أسهل انواع شعر علما" بأنه أصعبه لشروط قاسية يجب توافرها فيها ...

عاشق من فلسطين
09/06/2005, 17:24
كلُّ قصيدةٍ هي جنس أدبي مستقل بذاته"
فريدريش شليغل


1

ما إن أطلق فنيلون روايته "تليماك" التي اعتبرها بوالو "قصيدة نثر"، حتى طفق النثر يسري في جسد اللغة الفرنسية وشرايينها الشعرية بحثاً عن توأمه: "النثر الأعلى". وها هو هودار دي لا موت يصرخ: "النظم مضايقة، فلنكتب بالنثر... فلنقدم للناس قصيداً غير موزون." لكنّ رغبة الهروب من البيت، من سقف القافية وجدران الوزن، أخذت تزداد حباً بفضاء النثر المفتوح حيث البلاغة حرة تتوزع الكلمات فيها جُملاً أشبه بقرى مستقلة ومتضامة في الوقت ذاته. وها هم الناثرون الفرنسيون يصبحون "هم شعراء فرنسا الحقيقيون، وما عليهم سوى أن يتجرأوا وسيكون للغة الفرنسية نبرة جديدة"، على حد عبارة سيباستيان مرسييه في كتابه "توليدات لغوية" (1801). حتى غوستاف فلوبير كان يحلم "بإعطاء النثر إيقاع الشعر شرطَ أن يبقى نثراً، جد نثر". حقّاً أن ناثرين كبار (روسو، نيرفال، شاتوبريان ) ثوروا النثر الفرنسي شعرياً عبر كتب خالدة يتمازج فيها التأمل بالأساطير، الخرافة بالموعظة الحرة، السير الذاتية بلغة الآخر الدخيل المترجمة بشكل يفضح محدودية النظم في اللغة المستهدفة وضيقها في نقل شعر هذا الآخر. لكن الترجمة، كالعادة في كل بلد وفي كل لغة، سيقع على عاتقها دور كسر الأبواب الموصدة في لغة التراث ونحوه المنغلق. وبالفعل أن النثر أطلقَ في سماوات جديدة من التركيب والتعبير والصورة، بفضل الترجمات التي عرفتها اللغة الفرنسية في القرن السادس، السابع والثامن عشر. لكن الرومانتيكية؛ ثورة الخيال هذه، كانت تحمل في رحم رؤيتها الجديدة إلى الأشياء، جنين نصوص نثرية تلبي رغبة قراء يتوافدون بفضل التمدين التحديثي لباريس، ملّوا من نصوص طويلة كانت تتلاءم وظروف النص البائدة. لقد لعبت الرومانتيكية دوراً كبيراً في "تليين الشعر وتقريبه من النثر"، أو بعبارة فكتور هيغو "ألقيتُ بالنظم النبيل إلى كلاب النثر السوداء". مع أن صعود النثر هذا توافق وصعود العقل وفلسفة التنوير، والذي سيجعل من سيّد الوزن، شاعر "أزهار الشر" بودلير يتحوّل إلى شعر النثر، تجب الملاحظة هنا إلى أن "النثر في منتصف القرن التاسع عشر"، يقول جوناثان مور، "بات النوع الذي تفضله البرجوازية بوضوح. وبتحوّله إلى قصيدة النثر، كان بودلير يشاطر البرجوازية انتصارها ويوسّع حقل هيمنتها ليشمل ميدان الغنائية المقدس سابقاً.

النثر الآن يحتل أرض الشعر، وفتوحاته هذه يمكن أن تُرى كرشق جمالي لانتصار البرجوازية على الارستقراطية. وهكذا تكون قصيدة النثر، في أيام بودلير، قد أسدت خدمة ايديولوجية كدليل على الانتصار النثري للطبقة المالكة لامتياز النثر، مثلما هي دليل الصورة الذاتية الشعرية للبرجوازية مقابل خيلاء الارستقراطية وادعاءاتها. ومن جانب آخر، يكشف المنظور الطوباوي أن قيام قصيدة النثر بإدراج الخطاب النثري المهمّش يمكن أن يُرى كتوجه صوب إعادة إدراج الذات الغنائية "السيّدة" في السياق الاجتماعي – السياسي وعلى نحو احتفائي، وكاستعداد لرؤية تلك الذات منخرطة في ميادين الصراع الجمالية والتاريخية-الاجتماعية على النقيض من الشعر الغنائي الأكثر تقليدية." (1)
إن الناثرين الذين يمكن فعلا اعتبارهم ممهدين لقصيدة النثر هم إيفاريست بارني في "أناشيد مادغشقرية"، حيث بناءات شعرية جديدة لم تُعرف من قبل؛ فيليسيتيه دي لا ميني في كتابه "كلمات مؤمن"، والفونس راب في كتابه الشهير إلى اليوم "ألبوم متشائم" الذي ينطوي فعلا على قصائد ستعتبر فيما بعد بقصائد نثر قبل الظهور. غير أن شاعراً سيكتب نصوصاً؛ محاكاة سخرية من كل الرومانتيكية، وفي تقطيع جديد للنثر، أتفق معظم النقاد على إعطاء كتابه الموسوم "غاسبار الليل" وثيقة ميلاد قصيدة النثر: ألويزيوس برتران. والفضل قبل كل شيء يعود إلى اعتراف بودلير بأن فكرة كتابة قصيدة النثر جاءته من قراءة لكتاب برتران "غاسبار الليل". وقد وضح هذا في رسالة إلى مدير تحرير مجلة "الصحافة" أرسين هوسييه ( رسالة بودلير وقصائد نثرية)



2
تراءت قصيدة النثر في "غاسبار الليل" كبعد تخيّلي وأساطيري بل جنّيا وسط مشاهد ليلية غوطية، فأظهرها بودلير بمثابة التعبير الأسمى عن كآبة باريس، والنموذج الأحدث لالتقاط الشعري في ما هو عابر وزائل في المدن الكبرى، وتناولها مالارميه كنادرة مهمتها التعبير عن عالم آخر ليس عالم الملائكة والأرواح، وإنما عالم الصمت المشيد داخل اللغة، حيث المجد شمس الألفاظ، وأستشفها رامبو وسيلةً مثلى للتعبير عن فوضى الأنا الداخلية ومشاريعها في خلخلة الحواس حيث حاسة السمع تؤدّي وظيفة حاسة النظر، وحاسة النظر حاسة الشم، وحاسة السمع حاسة اللمس... وفي غرفة داخل فندق، كان لوتريامون، مصدوعَ الرأس يكتب رسالة إلى أبيه ليزوده بالمال الكافي، ليجعل من قصيدة النثر سيلاً شعرياً في الكشف عن شيء آخر لا علاقة له بكل ما كُتب في التاريخ عن الشر... في الحقيقة، كانت هناك قصائد نثر تتدفق، طوال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من دون أي رقيب، أعمالاً لا يحددها أي تعريف. لو لم يكن بودلير هو الذي أطلق التسمية، وإنما شاعر آخر، لربما واجهت قصيدة النثر معارضة ولأصبحت مجرد موضة تجديدية.
إن أول مقالة عن قصيدة النثر كانت (بعد أكثر من ربع قرن على ظهورها) مقطعاً في رواية ويزمانز "بالمقلوب" (1884) يفكر بطلها بإعداد أنطولوجيا لقصيدة النثر التي تحتوي، في نظره، "ضمن حجمها الصغير، جوهر الرواية حاذفة منها التطويلات التحليلية والحشو الوصفي". في الحقيقة، إن قصيدة النثر كادت تكون شبه منسية منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى أن ظهرا، في عز الحرب العالمية الأولى شاعرا الحركة التكعيبية ماكس جاكوب وبيير ريفيردي اللذان منحاها تنظيراً واضحاً عبر نماذج ستطلقها إشكاليةً لكل القول الشعري حتى اليوم. إلا أن ماكس جاكوب يعتبر، بلا شك، هو أول من أعطى تعريفاً لقصيدة النثر محدداً استقلاليتها كجنس أدبي له قوانين واضحة وصارمة، وذلك في "مقدّمة 1916".
فالمقاييس والشروط التي حددها ماكس جاكوب وعليها أن تتوفّر في قصيدة النثر هي: أن تكون قصيدة النثر كتلة ذات قابليّة لتوليد انفعال خاص يختلف كلّياً عن الانفعال الحسّي أو العاطفي. وذلك باختيارها الأسلوب، أي الموادّ المركّبة للعمل المتكامل. وعليها إذن أن تكون قصيرة ومكثّفة خالية من الاستطرادات والتطويل والسرد المفصّل وتقديم البراهينَ والمواعظ. وهذا لا يعني أن كل نص قصير قصيدة نثر. فالإيجاز سياق متوتر تشتجر فيه الجمل المركبة خلال تلاحق جزافي وكأنها سهامٌ تقصد معنى معيناً يَنْسلُ معانٍ حال أن يغيب كمعنى ذي وظيفة محدودة. على قصيدة النثر أن تكون قائمة بذاتها، مستقلة في شكلها ومبناها، لا تستمدّ وجودها إلاّ من ذاتها هي، مُبعَدة ومنفصلة تماماً عن المؤلّف الذي كتبها. أي أنْ تتواجد تواجداً حرّاً داخل هامشٍ ما. ذلك أنّ اختيار الأسلوب وتحديد الموقع يفرضان ما يمكن تسميته "التأثير" و"الانغلاق". فقصيدة النثر ذات شكل متكامل، محصور بخطوط صارمة، وبنسيج مُحكم. إنها عمل مغلق على ذاته، مثله مثل الفاكهة أو البيضة.



3
لا يعترف النقاد والمتخصصون بأن كل كتلة نثر هي قصيدة نثر. وهم محقون في ذلك. وإلا، عندنا مثلاً، سيُسطّل رؤوسنا هؤلاء الذين لا يرون التراث إلا كعلامة اكتفاء ذاتي ضد الآخر، بآلاف المقامات، مواقف الوعظ الصوفي واشارات الدندنة الإلهية، كقصائد نثر: "أوقفني وقال لي: من أنت ومن أنا، فرأيت الشمس والقمر والنجوم وجميع الأنوار. وقال لي ما بقي نور في مجرى بحري إلاّ وقد رأيته، وجاءني كل شيء حتّى لم يبق شيء فقبّل بين عيني وسلّم عليّ ووقف في الظل. وقال لي تعرفني ولا أعرفك، فرأيته كله يتعلق بثوبي ولا يتعلّق بي، الخ..." كلا. قصيدة النثر لا علاقة لها بهذا الرعاف الساكن. إنها سرد متحرك حيث الإفصاح عن الفكرة متوتر الإيقاع، ذات مبنى محكم وإطار محدود، فهي لا تتحمل الاستفاضة في استعمال الأدوات الجمالية، أو المبالغة بالصور والتزويق. يجب أن تتحاشى كل تظاهر متعمد، مقوماتها تختلف عن النثر الشعري بمختلف أشكاله وتشعباته، الذي يعتمد على كل ما يعتمد عليه الشعر الموزون من إيقاعات ومحاسن لفظية واستعارات بلاغية. إنها النثر كنثر حيث الصورة لا تدل إلاّ على نفسها هي؛ نثر يشبّ من أعماقه شعرٌ خال من كل ما يجعل الشعر الموزون شعراً. وهي بهذا المعنى جنس أدبي لكنه يسعى إلى نسف مفهوم الجنس الأدبي كلّه. فهي "تبدو، من جهة أولى، وكأنها ترفض الامتياز وحالة الاستثناء التي تستمد بقية الأنواع منها. وهي، من جهة ثانية، تبدي مقاومة إزاء قَدَر التحوّل إلى مجرّد نوع بين الأنواع، لكنها مع ذلك تطالب بالاعتراف بها كنوع مشروع ومتميز بذاته. إن مفارقة وصية الموت الطوباوية الخاصة بقصيدة النثر، تكمن في الطموح الذي جسدته منذ بداياتها الأولى لإيجاد حلّ نهائي لنزاعات الجنس Gender والطبقة والنوع، تلك التي استولدتها وتواصل الاعتماد عليها في تحقيق وجودها ذاته، إذا شاءت أن تكون أكثر من مجرد شكل فارغ" (2)



4
يرفض معظم النقاد لكل ما ضمه، مثلاً، كتاب بودلير "سوداوية باريس" كقصائد نثر. إذ في نظرهم، وهم على حق، ثمة قصائد في هذا الكتاب أشبه بالقصص الفلسفية ونصوص تكاد تكون مستلة من يومياته تطغى عليها الانطباعات الشخصية والحكم الأخلاقية، وهذا ليس من شأن قصيدة النثر المحددة بموضوع مجاني غير شخصي. كما أن كتاب رامبو "الاشراقات" لا ينطوي في نظرهم (وإن هو ديوان نثري) إلا على بضع قصائد نثر حقاً، أما البقية فهي تنفلت من القفلة الضرورية، تسهب في كتابة آلية مثقلة كثيراً بالصور، أشبه بشظايا ذاتية، في إيقاع مفخّم يتقطع فقرات مما يكسر الإطار الضروري الذي يجعلها قصيدة نثر. الشاعر فكتور سيغالين، مثلاً، الذي أصدر مجموعة قصائد نثر تحت عنوان "أنصاب" الذي ترجمنا منها خمس قصائد. فقصيدة "مديح الغياب وسلطته " و"عاصفة متينة" يعتبرهما النقاد قصيدتي نثر، بينما "مكتوب بالدّم"، "الحرفيون الأردياء" و"ترتيلة للتنين المضطجع" فلا. لماذا؟ اقرأ هذه الأنطولوجيا من حيثما تشاء.
انطلقت في اختيار القصائد اعتبارا من وجهة نظر هؤلاء النقاد والمتخصصين (لوك ديكون، ميشيل ساندراس وإيف فاديه). لكنني سمحت لنفسي بأن أترجم أيضاً قصائد أخرى حتى يتعرف القارئ العربي إلى القصيدة النثرية التي يريد أن يفرضها الشاعر هو، كرامبو في كتابه "اشراقات"، سيغالين في كتابه "أنصاب"، أو بروتون في نصوصه الآلية "أسماك ذَوَبانيّة".



5
والآن كيف يمكننا التعرف على قصيدة نثر، كيف يحق لنا أن نطلق التسمية على هذه القصيدة وليس على تلك؟ فنحن نستطيع بسهولة، يتساءل اراغون، أن نقول عن قصيدة موزونة بأنها قصيدة رديئة، لكن لا نستطيع أن نقول عن قصيدة نثر إنها قصيدة نثر رديئة، بل نقول إنها ليست قصيدة نثر. أسئلة صعبة لا أعرف كيف أوضّحها مع العلم إني أستطيع أن أتعرف بكل سهولة إذا كانت هذه الكتلة التي أقرأها هي قصيدة نثر أم لا.
مما لا شك فيه هو أن قصيدة النثر يمكنها أن تتواجد كنادرة، كمثال، كتخطيط وصفي لحادثة-حلم ما، لكن لا علاقة لها بكل هذا، فهي تعمل بإصرار على تشويش التطور المنطقي للنادرة التي تتوسلها تحايلا على القارئ، ولكل تخطيط وصفي تلعب عليه من أجل استقلاليتها، وكأنها قصاصة نثر سقطت من عمل روائي طويل. صحيح كذلك إن قصيدة النثر تعتمد على عناصر سردية قريبة من عناصر الحكاية: "كان ذلك في... وبعد أن... فطوّفتُ في ذلك الليل الأخير حتى مطلع الفجر... ثم راح ... بقعة صفراء أشبه بقمر توقف عن الحركة"، ومع هذا فليست لها أبداً الغائية التي يهدف إليها السرد في الحكاية. كما أن قصيدة النثر ليست نتيجة مزج بين جنسين أدبيين مختلفين، الشعر والنثر فتتوسل المحاسن البديعية وكأن النثر يعاني عقدة نقص أمام النظم يجب تمويهها. كلا، إنها النثر المستمد شاعريته من توتره وكثافة تراكيبه ومن حضوره هو كنثر متمرد، في وجه ما يُسمّى الجنس الأدبي، على سياقاته الغابرة وعلى كل ما يجعل الشعر جنساً أدبياً منفصلاً عنه. وبما إن الوحدة العضوية، المُغَيّبة شكلاً مجازياً، في قصيدة النثر ليست الأبيات وإنما تكمن في الجمل المنحصرة في ذاتها كالأفعال اللازمة غير المتعدّية؛ فإنه من الضروري أن تتلاحق هذه الجمل حيث الإيقاع الطافر، الهابط، المستقيم، المتكسر، وبطريقة متدرجة ومكثفة مما تثير القارئ وتشغل باله، جاعلة منه كتلة من التوقعات بأن حادثاً ما سيقع، لكنه، - وها هنا يكمن الوتر الحساس في قصيدة النثر- يُباغَت بنهاية مفاجئة لا تنطوي على موعظة أو هدف أو حقيقة ما؛ مجرد قفلة مجانية صادمة تجعله وجهاً لوجه مع قصيدة نثر بامتياز. التحديدات هذه ليست كما في النظم عَروضاً لا مفر منها في خلق قصيدة موزونة ناجحة، بل هي "قوانين استُخْلِصَتْ من تجارب الذين أبدعوا قصائد نثر، ورُئِيَ، بعد كلّ شيء، أنّها عناصر ملازمة لكل قصيدة نثر نجحت، وليست عناصر مُخترعَة لقصيدة النثر كي تنجح"، على حد عبارة أنسي الحاج في مقدمة كتابه "لن".



هوامش

1 - انظر مقالة جوناثان مور: "قصيدة النثر: النوع والوظيفة التاريخية"، ترجمة صبحي حديدي، في "فراديس" العدد 6/7 (1993)
2 – نفس المصدر.



لكتابة هذا التقديم البسيط احتدنا الى قراءة المصادر التالية:



Maurice Chapelan: Anthologie du poème en prose، Paris، Julliard، 1946
Luc Decaunes: Le Poème en prose، Anthologie، Paris، Seghers 1984
Michel Sandras: Lire le poème en prose، Paris، Dunod، 1995
Yves Vadé : Le poème en prose، Paris، Belin 1996
Suzane Bernard: Le poème en prose، Paris، Librairie Nizet، 1959
Mary Anne Caws: and Hermine Riffatterre: The Prose Poem in France، Culombia University Press 1983
Jonathan Monroe: A Poverty of Objects، Cornell University Press،1987
Margueritte S. Murphy: A tradition of Subversion، U.M.P.، 1992
Barbara Johnson: Défiguration du langage poétique: la seconde révolution baudelairienne، Paris، Flammarion، 1979

عاشق من فلسطين
09/06/2005, 17:25
ألويزيوس برتران ( 1807- 1841) Aloysius Bertrand

3 قصائد نثر

لم ير كتابهُ الأول والأخير Le Gaspard de la nuit (غاسبار الليل) النورَ إلاّ بعد عام ونصف على وفاته. أشرف على إنجازه فكتور بافي ودافيد دانغر؛ صديقان وفيان لم يدركا أنّهما بتحقيق وصيته، يفتحان أفقاً لم يحلم به الشعر من قبل، وذلك رغم أن الكتاب فشل فشلاً ذريعاً على صعيد البيع وأُهمله النقّاد كلياً، إذ صرح فكتور بافي قائلاً: "يمثل هذا الكتاب أكبر كارثة في تاريخ المكتبات!" أمّا سيرته في قاموس المغمورين فلم تتجاوز السطرين. هكذا ظل اسم برتران منسياً حتى مجيء بودلير ومالارميه ليحظى بشرف المؤسس الأول لقصيدة النثر.
ينقسم "غاسبار الليل" إلى ستة أجزاء، يتضمن كلُّ جزء مجموعَ قطع نثرية. كلُّ قطعة مقسمة إلى أربع، أو إلى خمس أو سبع فقرات أو وحدات. وقد ترك برتراند تعليمات للمصمم بأن يترك بياضاً واسعاً بين الفقرة أو والحدة والأخرى وكأنَّ كل فقرة مقطع شعري، بل وكأنَّ النص النثري هذا شعر. وهنا تكمن أهمية هذا الشاعر في إعطاء النثر شكلاً شعرياً يدشن قطيعة مع النثر الشعري الذي كان سائداً آنذاك. ففي نثره، يؤلّف البياض وقفة صمت ناطقة كأن نشعر وكأننا وسط أشباح المقاصد، الاحتمالات والأفكار غير المُعبَّر عنها. ففي طِباق النص يتكون في ذهننا نص تحتاني غير مكتوب. وما أن نوحد المكتوب بحبر أسود والمفترض بحبر أبيض يبرز المعنى العام حقيقياً ومكملاً للنص. ولا ننسَ أن البياض (الفراغ بين المقاطع - الوحدات الشعرية) الذي كان برتران مهووساً به حتّى أنه ترك تعليمات إلى المطبعة، سيطوره مالارميه تطويراً راديكالياً في قصيدته الأخيرة: "رمية نرد" كأن يتوجب على القارئ أن يستقرئ كلّ جملة بنفسه مستضيئاً بالبياض ليُبصر الكل.
تجديدات ربما عفويّة وجمالية صرف لم يفطن صاحبها إلى انطوائها على بذرة تجديد ستغيّر مفهوم الشعر كلّه، خاصة عندما نلاحظ تصنّعه في عدد لا بأس به من النصوص وهوسه في خلق أجواء غرائبية. لكن عمله هذا يكشف عن أصالته في تقديم نص نثري ملموم ومؤطر في شكل لم يُعرف من قبل مادته موضوع مجاني عابر يتميز بتوتر خاص به وكثافة: لبنات أولى لقصيدة النثر في القرن العشرين.



الذهاب إلى سَمَر السَّحَرة



"أفاقت ليلاً، أشعلت شمعةً، فتحت علبة وتدهّنَت،
وما إن همهمت بضع كلمات
حتى نُقلت إلى اجتماع السحرة الليلي!"
جان بودان: هوس السحرة الشيطاني


كان هناك اثنا عشر يتناولون حساء ممزوجاً بالبيرة، ولدى كل واحد منهم عظمة ذراع ميت يستخدمها كملعقة.

كانت المدخنة تتقد جمراً، الشموع وسط الدخان أشبه بالفطر، ومن الصحون كانت تنبعث رائحة قبر في الربيع.

وعندما يضحك "ماريبا" أو يبكي، كان يُسمعُ له صوت يشبه أنين قوس كمانٍ مقطوعة أوتاره الثلاثة.

على أنّ جندياً منحطاً راح يبسط بطريقة شيطانيّة على الطاولة، تحت بصيص مصباح الوَدَك، كتابَ طلاسم سقطت فوقه ذبابةٌ مشوية.

كانت الذبابة هذه لا تزال تطنّ عندما خرج من بطنها الضخم والأزغب عنكبوتٌ تسلّقَ حوافيَ المجلد السحري.

إلاّ أن السحرة والساحرات كانوا قد طاروا سلفاً من خلال المدخنة، بعضهم امتطى المكنسة، والبعض الآخر الملاقطَ، أما "ماريبا" فامتطى مقبض المقلاة.





الغرفة الغوطية

"في الليل، غرفتي تكتظ بالشياطين"
آباء الكنيسة



- "آه! – همستُ لليل – الأرضُ كأس عطرةٌ مدقّتها قمرٌ وأسديتها نجوم."

أغلقت،ُ والنعاس أثقل جفنيَّ، النافذة المُطعّمة بصليب الجلجلة، أَسودَ في الهالة الصفراء للوح الزجاج الملوّن.

كما، لو لم يكن سوى العفريت - في منتصف الليل، الوقت المُزيّن كشعارٍ بالتنين والشياطين ! – يَسكرُ بزيت مصباحي!

لو لم يكن سوى الحاضنة التي تهدهد بغناء رتيب، في ترس أبي، طفلا صغيراً وُلدَ ميتا.

لو لم يكن سوى الهيكل العظمي للجندي الألماني المرتزق المحبوس في خشب الحائط، يضرب بصدغه ومفرقه وركبته.

لو لم يكن سوى جَدّي ينزل بكل شخصه من إطار صورته الذي نخرته الديدان، ويبلل قُفّاز يده الواقي في جرن الماء المقدس.

لكن، كلا، إنه "سكاربو" الذي عضّني من عنقي، وحتى يكوي جرحي الدامي، غرس فيه إصبعه الحديد المحمّر في الأتون.




Ondine *

"كنت أعتقد أني أسمع
لحنا خفيا يخلب نومي
وبجانبي ينتشر همسٌ يشبه
أناشيد يتخللها صوت حزين ورقيق"
شارل برونيو

"اسمعْ! – اسمعْ – هذا أنا، أُوندين التي تلامس بقطرات مائية الألواح الرنانة لنافذتك التي تضيئها أشعة القمر الكامدة والكئيبة؛ وهاهي بثوبها المتموّج سيدة القصر التي تتأمّل من شرفتها الليل الصافي المرصَّع بالنجوم والبحيرة الهاجعة الجميلة.

كلُّ موج هو حوريٌّ يسبح مع التيّار، كلُّ تيّار طريقٌ تتلوّى نحو قصري، وكلُّ قصر بناءٌ مائي، في عمق البحيرة، في مثلّث النار والأرض والهواء.

اسْمَعْ! اسْمَعْ! يضرب أبي الماءَ النقّاقَ بغصنٍ من الراسن الأخضر، وأخواتي يداعبن بأذرعهن المجبولة من الزبَد جزرَ أعشابٍ ونَيْنَوفَرٍ وسوسنٍ، أو يسخرن من الصفصاف البالي والملتحي الذي له صنّارةٌ يصطاد بها."

بعد أن انتهتْ من همهمة غنائها، توسّلتني أن أضعَ خاتمها في إصبعي فأكون زوجَ حوريةٍ، وأن أزور معها قصرها لأكون ملك البحيرات.

وعندما قلت لها إني أفضِّل الزواج من امرأة فانية، ذرفتْ، بامتعاض واستياء، بضعَ دموع ثم أتبعتها بضحكة، وهي تتوارى وبلةَ مطرٍ بيضاء تسيل على طول زجاج نافذتي الزرقاء.

* حوريّة البحر، والمذكر Ondin حوري البحر





جول لوفيفر دومييه (1797-1857) Jules Lefevre-Deumier

3 قصائد نثر

شاعر رومانتيكي فرنسي. نشر عام 1854 "كتاب المستطرق" وهو مجموعة متكونة من 366 نص موزعة على أيام السنة. والغريب أنّ معظم النقاد وجدوا تشابها قوياً بين بعض نصوصه وقصائد بودلير النثرية (حتى في العناوين: "ساعة الحائط"، "المرآة"، "المرفأ")، مما حدا بالبعض إلى التصريح بأن بودلير فضل ألاّ يذكر دومييه أبداً وكأنه غير موجود، مكتفياً بذكر برتران الذي لا تأثير له في ابتكار قصيدة النثر.



أصوات الليل المنخفضة

يحاول الإنسان عبثاً التمرد على أحلامه، فهي أقوى منه بكثير. انطباع، ليست في قدرة الإنسان السيطرة عليه ولا على فهمه، يناقض مراراً وعلى حين غرّة أعظم تأملات فكره، بل يكذّب هذا الانطباع كلّ قدرات النفي الشجاع لدى الإنسان. تُرى هل من فيلسوف جريء لم يسمع أحياناً في دامس الليل، وبشيء من القلق، هذه الأصوات المبهمة، وكأنّها تتواعد في الظلام. يقال إنّ شيئاً ما يعيش في المادة خِفيةً بلا صوت، ويتّخذ، ما إن يصمتَ كلُّ شيء، صوتاً حتّى يكلّمنا: لغةٌ لا تُحدِّد، وقورة كالصمت، ظلماء ظلمة الدياجير. رسالة المستقبل أو الماضي المُلغزة، لغة تقلق العقلَ أيضاً. إنّ ما لم يعد يروّعنا لهو بقدر ما لم يكن: إنّه المجهول على الدوام.




الماضي

نتساءل ما الذي يحصل للأيّام التي لم تعد وهل يقوم قلب الإنسان مقام القبر لها. كلا، صدّقوني؛ إنّ كلّ شيء ليبدو ميتاً، لكن في الحقيقة ما من شيء يموت. فالأمس لا يزال موجوداً، بالرغم من أنّكم لم تعودوا ترونه. أيّامكم المُغمى عليها غائبات لن تعود، لكنّها ليست ضائعة. فهي تُعلِّقُ صورَها في نفوسكم، كما في محراب، وكثيراً ما تعود إليه لتتعاطى كؤوس الحديث كما في السابق، حالما تنامون، وحالما تحلمون، وتغيّر ترتيب الغبار الذي يغطّي صورتها. الماضي يعيش تحت ثلج الأعوام. إنّه الماء الجاري الذي يتدفّق تحت ترس الجليد، الماء الجاري حيث يتعرّج فيه، كالأسهم الأرجوانية والذهبيّة، مثل لفيف الأحجار الكريمة الجوّالة وكالأزهار التي تهرب ولا تذبل، ألفُ سابح صامت هم الذكريات.



السفينة المتجمّدة

يروي بعض الرّحالة أنّهم صادفوا، وسط أصقاع الجليد الشماليّة، سفينةً قديمة جمّدتها شتاءات. لقد ولجوا، بذعر ممزوج بالتهيّب، هذا المركبَ الفارغ والبارد، حيث بدا أنّ الزمن بدّل كلَّ شيء: الأشرعة، العتاد والحبال. إنّهم يرسمون بأسلوب رصين وقوي، المشهد الذي كنّا لمحناه من الظَهر، عبر الفتحات الثلجيّة التي تبدو وكأنّها درابزين السفينة. كانت السفينة ثابتةً بلا حراك، وكنّا نرى إلى مدى بعيد الجبال الطوّافة، التي ينقضّ أحدها على الآخر محدثةً ضجّة هائلة. غالباً ما أتذكّر هذه الصورة، وأنا أدخل مساءً في كنيسة، في هذه البوارج الجسام المصنوعة من الحجر، مرساتها ملقاة وسط عواصف العالم وترنّحه، التي تتحدّى صواعق صواريها المنسوجة من الصوّان وأشرعتها المرمية؛ نشعر وكأنّ ذعراً غريباً يستولي علينا، ما إن يخطر في بالنا أنّ هذا المركب المتحجّر مع أنّه لا يتحرّك من السيول، يفضي بنا إلى مرفأ الأمان.

عاشق من فلسطين
09/06/2005, 17:28
عبدالقادر الجنابي



تبرهن الدراسات البودليرية منذ مطلع ستينات القرن العشرين على أن قصائده النثرية تحظى بدراسات أكثر مما ناله كتابه "أزهار الشر." وهذا لم يحصل فقط مع بودلير، بل مع مالارميه الذي أصبحت أعماله النثرية اليوم محط دراسات جدية أكثر من أشعاره التي تبدو وكأنها قد نسيت، وكذلك مع رامبو الذي لولا "الاشراقات" لكان في عداد المنسيين مهما كانت قصائده الموزونة كـ"القارب السكران" جميلة، ومع بول كلوديل الذي راحت أوزانه وقوافيه تتلاشى أمام هذا المد النثري الهائل في كتابيه "معرفة الشرق" و"الطير الأسود في الشمس الطالعة". أما ماكس جاكوب فلولا "كوب الزّار" لما عرف أحد ما الذي سيبقى منه! كما أن أحد المهتمين بالروحانيات قال إنّ "قصيدة النثر تعرّض مؤلفها إلى شر القوى العليا"، مؤكدا كلامه عن سوء حظ برتران الذي اختفى قبل أن يتمكن من طبع كتابه، وبالشلل الذي منع بودلير من استكمال مجموعة قصائده النثرية، نهاية رامبو الفظيعة الذي لعله لم يعلم أن "الاشراقات" قد طبعت. يقيناً إن نكد الطالع لم يراع شعور هؤلاء الشعراء، لكن عملهم لم يعرف، وهذه هي المعاناة، أين يختلف شكله من هذا الذي أرادوا إعطاءه. لكن نحن هنا في صدد هذا الذي وصفه رامبو بـ"الرائي الأول، ملك الشعراء، إله حقيقي" : شارل بودلير.
أولاً، يجب توضيح معنى كلمة Spleen. إنها لفظة انكليزية تعني "الطحال." على أن الرومانتيكيين حمّلوها معنى جديدا في كتاباتهم الشعرية، وهو المعنى الذي دخل اللغة الفرنسية: "المنخوليا" أو "السُويداء". وفي المناسبة إن كلمة "السَوداء" تعني بالعربية في آن الطحال ومرض المنخوليا. وفي العامية العراقية، عندما نريد أن نصف شخصاً سوداوياً وكئيباً نقول: "مطوحل". لعل أقرب ترجمة إذاً لعنوان قصائد بودلير النثرية Le Spleen de Paris هي "سوداوية باريس". ثانياً إن بودلير كان متردداً بين عناوين عدة لقصائده النثرية الصغيرة" هذه: "قصائد ليلية"، وهو عنوان أشبه برد الجميل إلى الزيويس برتراند. ثم العنوانان التاليان: "المتنزه المنفردُ بنفسه" و"الجوّال الباريسي" اللذان يختصران انهمامات حقيقية بباريس يتناولها بعض قصائد الكتاب. غير إنّ بودلير، اعتباراً من العام 1863، بدأ يفكر في عنوان جديد يتردد كثيراً في رسائله: "سوداوية باريس". لكن عددا من النقاد يرفض وضع هذا العنوان على مؤلَّف مات بودلير قبل الانتهاء منه. كما أن الكثير من القصائد التي جمعت في هذا الكتاب وهي قصائد بودلير، فكر، حقاً، في ضمها، لا تتناول باريس، بل لا علاقة لها البتة بهذه المدينة، وإنما ببقاع ومدن أخرى. لذا أتفق الجميع على وضع عنوان: "قصائد نثر صغيرة" (والمعنى هنا قصيرة) مع عنوان فرعي: "سوداوية باريس". وأفضل توضيح لمشروع بودلير النثري الملاحظة التي كتبها الناقد الفرنسي غوستاف بوردان (ويقال أن بودلير أسرّها إليه) في "الفيغارو" في 7 فبراير/شباط 1864:
"سوداوية باريس" هو عنوان تبنّاه السيد شارل بودلير لكتاب يحضّره، ويريده أن يكون خليقاً بـ"أزهار الشر". وبالطبع، إن كل ما قد أقصيَ من الصنيع الشعري المقفى والموزون، وما صعب عليه التعبير عنه، كل التفاصيل المادية، بل كل لحظات الحياة النثرية، تجد مكانها في العمل النثري حيث المثالي والمبتذل ينصهران في ملغمة متلاحمة. من جهة أخرى، إن الروح الكئيبة والمريضة التي افترضها المؤلف ليكتب "أزهار الشر"، هي تقريباً نفسها التي تؤلّف "سوداوية باريس". وفي العمل النثري هذا، كما في الديوان المنظوم، كل ما يوحيه الشارع، الظرف والسماء الباريسيان، كل انتفاضات الوعي، لواعج التخيّلات، الفلسفة، الحلم، وحتّى النادرة، يمكن كل هذا أن يأخذ دوره بالتناوب. فالأمر يتعلق فقط بالعثور على نثر يتكيف والحالات المختلفة لروح المستطرق الكئيبة. قراؤنا سيحكمون إن كان السيد شارل بودلير قد نجح في هذا.
يظنّ بعض الناس أن لندن لها الحظ الأريستوقراطي في أن يكون لها سوداوية، وإن باريس، باريس البهيجة، لم تعرف قط هذا المرض الأسود. لعل هنا، كما يزعم المؤلف، نوعاً من سوداوية باريسية؛ ويؤكد أن هؤلاء الذين عرفوها، وسيتعرفون عليها عددهم كبير."
توفي بودلير في 31 آب 1867 وفي اليوم الذي حُمل فيه إلى المقبرة برفقة شلة صغيرة من الأصدقاء والمعجبين، كان المطر شديداً والجو كئيباً، وعلى بعد خمسين متر، كانت هناك جنازة أخرى فخمة مصحوبة بالجوقات والطبول والهيئات الرسمية لأحد صغار موظفي الشرطة. ألا نرى هنا قصيدة نثر مُرة امتزج فيها المِثال، بودلير، بالعادي والمبتذل، رجل الشرطة الصغير؟
"مع بودلير"، يقول والتر بنيامين، "باريس أصبحت للمرة الأولى موضوع الشعر الغنائي. والشعر هذا ليس فولكلورا محليا؛ فنظرة الشارح الرمزي التي تقع على المدينة هي بالأحرى نظرة إنسان مغترب. إنها نظرة المستطرق الذي أضفت طريقة حياته على فاقة البشر المتنامية في المدينة الكبيرة بصيصاً إسترضائياً."
في الحقيقة إن ثورة بودلير الثانية هذه، حيث يتماهى الحدث العادي واللقطة السامية في نثر حياتي جديد، جاءت في عز تعبيد شوارع باريس وتحديثها. وشعر بودلير إن قصيدة النثر هي القادرة على التعبير عما ترسل المدن الكبرى من شعاع شعري وأبدي إلى معالم الحياة اليومية. وبما أن لكل حقبة شاعرها العرّاف الذي يُسرّ إلى أهلها بحقائق ظاهر ما تجدد وباطنه، فإن بودلير هو، عن حق، شاعر الحقبة البورجوازية. إذ هو أول من التفت إلى الدفق الشعري الكامن في هذه المعالم، وإن كانت هي عابرة وزائلة تاريخياً، فقد راحت تتلمح زخماً حسياً غرضه تحديث الإنسان ودفعه إلى الأمام. ولذلك عبر بودلير عن هذا الجديد بكلمة صارت عنوان الخلق والتقدم: الحداثة، مشيراً إلى كل ما يتأتى عن حسيّة جمالية لم تدركها الأزمنة السابقة، مُميزة بقدرتها على إدراك ما هو أبدي وشعري في هذا العابر والزائل. روبرت كُب الذي حقق كتاب بودلير كتب في مقدمته لـ "سوداوية باريس": "إن ديوان "أزهار الشر" يفتح الطريق إلى الشعر الحديث، بينما كتاب "قصائد نثر صغيرة" يستهل شعر الحداثة." والكلام هذا صحيح ، لأن البطل المضمر في كل قصائد بودلير النثرية هو هذا المُستطرق Le flâneur الذي يختلف عن المتسكع المتحول أثناء تطوافه إلى جزء من هذه المعالم المترامية مشهداً خلاباً، وهكذا يُحبس عن أية قدرة نقدية كامنة، ويصير جزءاً من هذا المشهد فيضيع فيه ضياعاً تاماً. بينما المستطرق متسيّب بإرادته في الطرقات والمعابر، تاركاً حاسته التشكيلية السوداء والعيناء تتفرج على هذه الأزياء، الزحام، واجهات المحلات، بائعات اللذة الخ...، راصدة في هذه المعالم العابرة والزائلة كل ما هو أبدي منفلت، وشعري عارض.



بيان قصيدة النثر الأول: رسالة شارل بودلير

هذه رسالة بعث بها شارل بودلير إلى مدير تحرير مجلة "الصحافة" أرسين هوسييه، تعتبر البيان الأول لجنس أدبي جديد سيكون التعبير الشعري الأسمى للغة، سمّاه بودلير: قصيدة نثر.

صديقي العزيز،
أبعث إليك بعمل صغير يمكننا أن نقول، من دون أي إجحافٍ، لا رأس له ولا ذيل، بما أن كلَّ ما يحتوي عليه يُكوّن في الوقت ذاته، بالمناوبة وبالتبادل، رأساً وذيلاً. أتوسَّلُ إليك أن تقدّر كم هي مريحةٌ وعلى نحو مدهش هذه التركيبة؛ لك ولي وللقارئ. يمكننا أن نقطع أينما شئنا! أنا في هواجسي، أنت في المخطوطة والقارئ في قراءته؛ لم أكبح جموح القارئ إزاء سياق لا منته لحَبكة غير ضرورية. اِنزعْ فَقارةً، وسَرَعان ما سينضم وبكل سهولة جزءا هذه الفانتازيا المتلوّية. قطّعها أوصالاً عدة، ترَ أنّ لكلَّ وِصلةٍ وجوداً مستقلاً. وعلى أمل أن تنبض بعض هذه الأوصال حياةً بما يكفي لتسلّيك وتُسرّكَ، فإنّي أسمح لنفسي بإهدائك الأفعى بأكملها.
أريد أن أهمسَ لك بهذا الاعترافِ الصغيرِ. بعد تصفُّح كتابِ ألويزيوس برتران Gaspard de la nuit للمرّة العشرين على الأقل (كتاب تعرفه أنت وأنا وشلّة من الأصدقاء يستأهل بكل تأكيد أن يُعتبرَ مشهوراً) جاءتني فكرةُ محاولةِ شيءٍ مماثلٍ، وتطبيق الطريقةِ التي استخدمَها في رسم الحياة القديمة العجيبِ الطرافةِ، على وصف الحياة الحديثة، أو بالأحرى حياةٍ حديثةٍ محدَّدة وأكثرَ تجريداً.
مَن مِنّا لم يحلمْ، في أيّام الطموح، بمعجزةِ نثرٍ شعري، موسيقى من دونَ إيقاع أو قافيةٍ، فيه ما يكفي من المرونة والتقطّعِ حتّى يتكيّفَ مع حركاتِ النفس الغنائيّة، وتموّجات أحلام اليقظةِ، وانتفاضات الوعي.
وُلدَ هذا المثالُ المستبدُّ بالذهنِ، خصوصاً من الاختلاف إلى المدن الضّخمةِ ومن تقاطعِ علاقاتها التي لا تُحصى. وأنت، يا صديقي العزيزَ، ألم تحاولْ ترجمة صرخةِ الزجّاج الحادّة إلى أغنيةٍ، والتعبيرَ عن كلِّ الإيحاءات المحزنةِ التي تُرسلُها هذه الصرخةُ إلى السطوحِ عبرَ ضباباتِ الشارع العليا.
لكنني أخشى أنّ غيرتي لم تجلب لي الحظّ، فسرعان ما بدأتُ بالعمل حتّى أدركت أني لست فقط في غاية البعد عن نموذجي الغامض والماهر الذي اقتديتُ به، بل كذلك طفقت أُولّف شيئاً (إن كان في إمكاننا تسمية هذا "شيئاً") في غاية الاختلاف، حادثٌ لأفتخر به غيري بلا شك، لكنّه يذلُّ ناصيةَ أي فكرٍ يعتبر ما ينسجُه شاعرٌ ما، كما ينبغي وكما خُطط لذلك، مفخرة كبرى.
مع مودّتي وإخلاصي
شارل بودلير
26 آب 1862



13 قصيدة نثر



النّوافذ

هذا الذي ينظر إلى الخارج خلال نافذة مفتوحة، لن يرى من الأشياء مقدار ما يرى مَن ينظر إلى نافذة مغلقة. إذ ليس هناك شيءٌ أعمقَ، أغمضَ، أخصبَ، أكثفَ وأبهرَ من نافذةٍ تُضيئها شمعةٌ. إنّ ما نستطيع رؤيته في وضح الشمس لهو، دوماً، أقل أهميّة مما يجري وراء النافذة. ففي هذا الجُحر الأسود أو النُّورانيّ، تعيش الحياة، تتألّم الحياة.
ألمحُ، في الناحية الأخرى من أمواج السطوح، امرأة ناضجةً، وجهها متغضّنٌ؛ فقيرة الحال؛ مُنحنيةٌ دوماً على شيءٍ ما؛ لا تُغادر منزلها أبداً. من وجهها، لِبْسِها، تلميحاتها، تقريباً من لا شيء، استعدتُ قصة هذه المرأة، بل سيرتَها، وأحياناً أرويها لنفسي باكياً.
ولو كانت شيخاً مسكيناً، لاستطعت أيضاً والسهولة نفسها استعادة قصّته. ثم أخلد إلى النوم فخوراً بأنّي عشتُ وعانيت في حيواتٍ أخرى غير حياتي.
وربَّ سائلٍ يقول لي: "أمتأكّدٌ أنّ هذه السيرة هي الأصحُّ؟" وماذا تهمّ معرفة الواقع القائم خارج نفسي، بما أنّه يساعدني على أنْ أعيش، أنْ أشعر أنّي موجود، وأنّي أنا نفسي؟



فقدان الهالة


"ما هذا! واعَجَباً! أنتَ هنا! أنتْ، يا صديقي، في مكان سيئ كهذا! أنت الذي يشرب من الجوهر، ويأكل من طعام الآلهة! هذا أمرٌ يدهشني فعلاً.
- تعرف، يا صديقي، كم أرتعب من الخيل والعربات. قبل قليل، وأنا أعبر البولفار على جَناح السُّرعة، خائضاً في الوحل خلال هذه الفوضى غير المُستتبة، حيث الموت يراودك من كل جانب، انزلقت من رأسي هالتي، إثر حركة مفاجئة، في وحل الشوارع المعبّدة. لم تكن لي شجاعة التقاطها. وجدتُ أن فقدان علامة مَجدي أقل هوناً من أن تتكسر عظامي. ثم، قلت بيني وبين نفسي: ربّ شرٍّ نجمَ عنهُ خيرٌ. الآن أستطيع أن أتجول خفيةً؛ وأرتكب أعمالاً خسيسة؛ أن أنغمس كسائر الفانين البسطاء، في الخلاعة والفسق. وهاأنا الآن، كما ترى، مثلك بالضبط.
- ولكن انشرْ على الأقل إعلاناً عن هذه الهالة؟ أو بلّغ البوليس ليدبّر تعويضاً؟
- لعَمري، كلا! أشعر بالارتياح هنا. أنت الوحيد الذي تَعرّفَ عليّ. ثمَّ إنّ الوجاهة أخذت تزعجني. ناهيك بأنّي أشعر بفرح شديد أن شاعراً رديئاً سيلتقطها ويضعها بكل صفاقة على رأسه. يا لها متعة، أن تجعل شخصاً آخر سعيداً، وسيجعلني بالأخص أضحك. فكّر معي في "هاء" أو في "خاء"! ألا ترى كم سيكون الحال مضحكا؟"



نِعَم القمر

القمر، النزوة عينُها، نظر من النافذة وأنت نائمة في مهدك، فقال لنفسه: "الطفلة هذه تعجبني."
نزل باسترخاء سلّمه المصنوع من السحاب، ودلف عبر الزجاج بلا ضجيج. ثم أستلقى عليك بحنان أمومي دمث، وحط ألوانه على وجهك. فاحتفظت حدقتاك بلونهما الأخضر، وخداك بقيتا شاحبتين كل الشحوب. وعيناك لم تتسعا بهذا الشكل الغريب إلا عندما تأملت زائرك هذا، وضمك برقة حتّى ظللت محتفظة برغبة في البكاء.
في هذه الأثناء، وفي انتشار فرحه، أخذ القمرُ يملأ الغرفة جواً فُوسفورياً، سماً لامعاً، وكان كل هذا النور الحي يفكر ويقول: "ستكابدين إلى الأبد تأثير قبلتي. ستكونين جميلة على طريقتي. ستحبّين ما أحب أنا: الماء، السحاب، الصمت والليل، البحر الأخضر الذي لا حدّ له، الماء العديم الشكل والمتعدد الأشكال، المكان حيث لن تكوني، العاشق الذي لن تتعرفي عليه، الأزهار الوحشية، العطور التي تسبب الهذيان، القطط التي يُغشى عليها فوق آلات البيانو، والتي تنوء كالنساء بصوت أجشّ وعذب!
"كما سيهيم بك عشاقي، تغازلك حاشيتي، ستكونين ملكة الرجال ذوي العيون الخضر، الذين هم أيضا ضممتهم من خناقهم إبان مغازلاتي الليلية، هؤلاء الذين يعشقون البحرَ، البحر الذي لا حدَّ له، الهائج والأخضر، الماءَ العديم الشكل والمتعدد الأشكال، المكانَ حيث لا يتواجدون، المرأة التي لا يعرفونها، الأزهار المشؤومة التي تشبه مباخر دينٍ غير معروف، العطور التي تشوُش الإرادة، الحيوانات الوحشية والشهوانيّة رموز جنونهم."
لهذا، أيتها الطفلة العزيزة اللعينة المدللة، إني أضطجع الآن عند قدميك باحثاً في كل كيانك عن انعكاس الألوهيّة المريعة والعرابةِ المنبئة عن الغيب والمُرضعةِ التي تسمم كل الذين بهم مسٌّ قمري.



ساعة الحائط

يرى الصّينيون الساعة في عين القطط.
ذات يوم وهو يتنزّه في ضاحية نانكين، لحظ مبشّرٌ بأنّه نسي ساعته، فسأل ولداً صغيراً "كم الساعة الآن؟"
تَردد صبيُّ الإمبراطورية السماويّة في بدء الأمر، ثمّ غيّر رأيه فأجاب "سأقول لك". وسرعان ما عاد حاملاً قطّاً ضخماً بين ذراعيه، وبعد أن حدّق، كما يقال، في بياض العين، أكّد من دون أيّ تردد: "إنّها ليست الظهيرة بالضبط"، وهذه هي الحقيقة بالفعل.
أمّا بالنسبة إلي أنا، فإذا انحنيت صوب سنَّوريتي الجميلة، اسم طبق المرام، التي هي في آن كرامة جنسها، كبرياء قلبي وعطر روحي، فإنّي أرى، سواء في الليل أو في النهار، في نور النهار أو في الظل الكثيف، الساعةَ بكل وضوح في أعماق عينيها الرائعتين، ساعة، هي ذاتها على الدوام، شاسعة، مهيبة، جسيمة كالفضاء، غير مقسّمة إلى دقائق أو ثوان – ساعة ثابتة لا تتحرّك، لم تشر إليها أيّة ساعة حائط، ومع هذا فإنّها خفيفة كنهْدة، وسريعة كلمح البصر.
وإذا جاء ثقيل لإزعاجي فيما نظري مستقر على هذه الميناءِ اللذيذة، أو جاء جنّيُّ فظّ ومتشدد، أو شيطانُ طارئٍ ليقول لي: "إلى ماذا تنظر بهذا الاهتمام الشديد؟ عمّ تبحث في عين هذه الكائنة؟ أترى، أيّها الفاني المُسرف الكسول، الساعةَ فيها؟" لأجبت بلا تردد: "نعم إنّي أرى الساعة: لهي الأبدية".
ألا تعتقدين، يا سيدتي، أن غزلية هاهنا تستحق التقدير، وهي مفخّمة مثلك؟ كم تمتعتُ بتدبيج المغازلة المتكلّفة حتّى أني لن أطالبك بأي شيءٍ مُقابل ذلك.





الرّغبة في الرّسم

لعلّ الإنسان سيئ الحظّ لكن الفنان الذي تمزّقه الرغبة محظوظٌ.
أتحرّقُ رغبةً في رسم هذه التي قلّما تراءت لي والتي هربت سريعاً كأي شيء جميل تركه متأسفاً مسافرٌ ذهب به الليل. لقد مضى أصلا زمن طويل على اختفائها.
جميلة، بل أكثر من جميلة، إنّها مدهشة. فهي تزخر بالسواد: وكلّ ما توحي به لهو ليلٌ وعميق. عيناها كهفان حيث يتلألأ الغيبُ بخفاء، ونظرتها تنير كالبرق وكأنّها انفجار في الظُلُمات.
كنت لأقارنها بالشمس السوداء لو كان من الممكن تصور نجمٍ أسودَ يسكب النور والسعادة. لكنّها تذكّرني أكثر بالقمر الذي وسمها بلا ريب بتأثيره المخيف، لا بالقمر الشاحب قمر الغزليات الرعويّة الذي يشبه عروساً باردة، وإنّما بالقمر المريع المثير للحواس، المعلّق في أعماق ليلة عاصفة يتدافع فيها الغيم الراكض، لا بالقمر الهادئ والمحتشم الذي يزور منام الناس الأبرياء، وإنّما بالقمر المُنتزَع من السماء، منهزماً وناقماً، كأن تجبره بالقوّة ساحرات "ثيسالي" على الرقص فوق العشب المرتعد.
فوق جبينها الصغير تقطن الإرادة العنيدة وحب الافتراس. في حين أنَّ، أسفل هذا الوجه الذي ينمّ عن قلق، حيث مناخير رَجراجة تستنشق المجهول والمستحيل، تنفجر، بأناقة لا تُفسَّر، ضحكةُ فمٍ عريض، أحمر وأبيض ولذيذ، يجعلني أحلم بأعجوبة زهرة مدهشة تتفتّح في الأرض البركانيّة.
ثمّة نساء يشوّقن المرء إلى قهرهن والتمتّع بهن، إلا أنّ هذه تحفّز على الموت ببطءٍ أسفل نظرتها.




الزحام
لم يتيسر لكل إنسان أن يستحم في حشد من الناس: إن التمتع بالزحام فنٌ؛ ولا يستطيع القيام بعربدة حيوية، على نفقة الجنس البشري، سوى هذا الذي نفخت جنية فيه، وهو في مهده، طعمَ التنكّر والقناع، كراهية البيت وحب السفر.
حَشدٌ، وَحْدةٌ: مفردتان متعادلتان وقابلتان للتحوّل بالنسبة إلى الشعراء النشطين والغزيرين. هذا الذي لا يعرف كيف يجعل وَحْدته مكتظة، لا يعرف أيضاً أن يكون وحيداً وسط زحامٍ منهمكٍ في أشغاله.
الشاعر يتمتع بهذا الامتياز الذي لا نظير له، في أن يكون كما يشاء هو نفسه والآخر. مثل هذه النفوس التائهة التي تبحث عن جسد، يدخل، متى يشاء، شخصية أي كائن آخر. بالنسبة إليه وحده، كلُّ شيءٍ فارغٌ؛ وإذا بدت أماكن مغلقة أمامه، فلأنها لا تستحق في نظره أن تزار.
يستمد المتنزّهُ المتأمل والمنفرد بنفسه ثمالةً فريدة من هذا الاتحاد الكوني. ذاك الذي ينسجم بسهولة مع الزحام يتمتع بملذات محمومة، يُحرم منها الأناني، المنغلق على نفسه كخزانة، والكسول المحجوز كمحارة. الشاعر يتبنى، وكأنها خاصته، كل المهن، كل المتع وكل أشكال البؤس التي يتعرض لها بسبب الظروف.
إن ما يسميه الناس بـالحب هو فعلاً شيءٌ صغيرٌ، محدود وضئيل، مقارنةً بهذا الفجور الفائق الوصف، بعهر الروح المقدس هذا الذي يستسلم بأكمله، شعراً وإحساناً، للطارئ الذي يتجلى، للمجهول الذي يمر.
من المستحسن أحياناً إعلام سعداء العالم، فقط لتحقير كبريائهم التافه للحظة واحدة، بأن ثمة سعادة أكبر وأفسح وأرفع من سعادتهم. مؤسسو المستعمرات، رعاة الشعوب، المبشرون المنفيون في أقصى العالم، يعرفون بلا شك بعض هذه الثمالة الغامضة؛ ومن المحتمل إنهم، في حضن العائلة الكبرى التي خلقتها عبقريتهم، يضحكون أحياناً من هؤلاء الذين يشفقون عليهم بسبب حظهم المضطرب وحياتهم العفيفة.



الغريب

- "قل، أيّها الإنسانُ اللغز، مَن تُحبّ أكثر؟ أباك، أمّك، أختك أو أخاك؟
- لا أب لي ولا أمّ، لا أخت ولا أخ.
- أصدقاءكَ؟
- هاأنت تستخدم قولاً بقي معناه مجهولاً لدي حتّى اليوم.
- وطنكَ؟
- إنّي أجهل في أي أرض يقعُ.
- الجمالَ؟
- لأحببته تلقائيّاً، لو كان ربّاً وخالداً.
- الذهب؟
- أكرههُ كما تكرهون اللّه.
- آه مَن تُحب إذنْ، يا أعجب الغرباء؟
- أحبُّ الغيومَ... الغيومَ التي تعبر... هناك... هنالك... تلك الغيوم الساحرة!"



العزلة

قال لي صحافي محب للبشر بأن العزلة مضرة للإنسان، وليدعم أطروحته، أخذ يستشهد، كما يفعل جميع السذّج، بأقوال آباء الكنيسة.
أعلمُ أن الشيطان يتردد بكل سرور على الأماكن الموحشة وأن روح الغدر والإثم تلتهب بإبداع في العزلة. لكن من المحتمل أن هذه العزلة لن تكون خطرة إلا للنفس الباطلة والتائهة التي تغمرها أهواؤها وأوهامُها.
من المؤكد أن ثرثاراً لذته العليا هي أن يخطب من منصه عالية أو منبر، يعرض نفسه للجنون في جزيرة روبنسون. لا أطالب هذا الصحافي بأن تكون له شجاعة كروزو، لكنني أطلب منه أن لا يصدر حكماً على عشاق العزلة والغموض.
يوجد في أجناسنا المجعجعة أفراد يقبلون المقصلة بقليل من النفور لو سمح لهم أن يخطبوا في الجماهير من أعلى صقالة الإعدام غير خائفين أن خطبتهم ستقطعها في وقت غير مناسب طبول الجلاد.
لا آسفُ عليهم لأني أدرك أن خطاباتهم تأتيهم بلذاتٍ تساوي ما يجتنيه الآخرون من الصمت والخشوع؛ لكنني أحتقرهم.
أودُّ بالأخص أن يتركني هذا الصحافي اللعين ألهو على طريقتي. "ألا تحس مرة"، قال لي مدندناً بنبرة رسولية، "بالحاجة إلى مشاطرة الآخرين ملذاتك؟" انظروا إلى هذا الحسود الخفي. إنه يعلم إني أمقت ملذاته وها هو يتدخل في ملذّاتي! ياله من منكود ذميم.
قال لابرويير في مكان ما: " شقاء كبير هذه اللاقدرة على الوحدة"، وكأنه يندد بكل أولئك الذين يتسرعون لينسوا أنفسهم في الحشد خائفين، بلا شك، من عجزهم عن تحمل أنفسهم.
ويقول حكيم آخر: " معظم شقائنا يتأتى من عدم قدرتنا على البقاء في غرفتنا". أظن أنه باسكال متذكراً في صومعة الخشوع والتأمل، كل أولئك الجزعين الذي يبحثون عن السعادة في الضوضاء والحركة، في دعارة أستطيع أن أسمّيها "أخوية"، إذا أردتُ أن أتحدث بلغة قرننا الجميلة.




المرآة

رجلٌ مخيفٌ دخل وأخذ ينظر في المرآة.
- "لِمَ تنظر إلى نفسكَ في المرآة، وأنت لا تقدر أن ترى صورتك إلاّ متقزّزاً؟"
أجابني الرجل المخيف: " إنّ الناس، يا سيدي، بناءً على مبادئ 1789 الخالدة، متساوون في الحقوق. إذن، لي حقّ التمرّي، بلذة أو بتقزز، فهذا أمرٌ ينظر فيه ضميري وحده".
باسم التفكير السليم، كنتُ على حقٍّ، لكن من وجهة نظر القانون، لم يكن هو على خطأ.



الكلب والقنينة

- "يا كلبي الجميل، يا كلبي الجميل، تعال يا عزيزي توتو! اقترب، تعال استنشق هذا العطر الممتاز الذي ابتعته من أجود بائعي العطور في المدينة."
اقتربَ الكلب، وهو يحرّك ذيله، وهذه علامة على ما أظن، عند هذه المخلوقات المسكينة، تدل على الضحك والابتسام، ووضعَ بفضولٍ أنفه المبلل على القنينة المفتوحة، ثم أخذ، وهو يتراجع فجأة فزعاً، ينبح نحوي بأسلوب عتابي.
- "آه، أيها الكلب التعيس، لو كنتُ قد أهديتكَ علبة غائط، لشممتها بلذة ولربما لالتهمتها. وها أنت، يا من ليس جديرا بأن يكون رفيق حياتي، تشبه الجمهور الذي لا ينبغي أبداً أن تُقدَّم له العطور الرقيقة التي تغيظه، بل قاذورات اُنتقيَت بعناية."



المرفأ

كلُّ مرفأ هو مثوى خلاب للنفس التي أنهكتها معاركُ العيش. رحابة السماء، تشكّلات الغيم المتقلّبة، تلاوين البحر الحرباويّة، إشعاع الفنارات، إنّه مَوْشورٌ ثر بما يكفي لتستأنس العينُ به من دون أن تضجر أبداً. فالأشكالُ الوثّابة لمراكب معقّدة التركيب يسمها التموّجُ بنَوَسان متناغم، تعين النفس على تكريس ذائقة الإيقاع والجمال. وفضلاً عن ذلك، ثمّة بالأخص، متعة غريبة لهذا الذي لم يعد له طموح ولا فضول، في أن يتأمّل وهو جالس في مطلّ أو متكئ على رصيف بحري، مجملَ حركات المغادرين والعائدين، الذين لا تزال لديهم قوّة الإرادة، والرغبة في السفر والإثراء.


كونوا ثملين

عليكم بالثمالة إلى الأبد. هذا كلُّ ما هناك: إنّها المسألة الوحيدة. وحتّى لا تشعروا بأوزار الزمن الفظيعة التي ترهق كواهلكم وتحني ظهورَكم، عليكم أن تسكروا بلا هوادة.
لكن بمَ؟ بالخمر، بالشِّعر أو بالفضيلة على هواكم. لكن اسكروا.
وإذا حدث أن استيقظتم، مرّةً، على دَرَجات قصرٍ، أو على عشب مجرى ما، أو في وحشة غرفتكم الكئيبة، وقد خفّت النشوة أو آلت إلى الزوال، اسألوا الريحَ، الموجَ، النجمَ، الطيرَ، ساعةَ الحائط، كلَّ ما يجري، يعول، يدور، ينطق، اسألوها كم الساعة وستجيبكم الريحُ، الموجُ، النجمُ، الطيرُ، ساعةُ الحائط: "إنّها ساعة السّكر ‍وحتّى لا تكونوا عبيدَ الزّمن المعذّبين، اسكروا، بالخمرة، بالشِّعر أو بالفضيلة، كما تشاؤون.




الحساء والغيوم

وصغيرتي الهوجاء تقدّم لي العشاء، طفقت أتأمّل من خلال نافذة صالة العشاء المفتوحة، التكوينات الهندسيّة المتقلِّبة التي يصنعها اللّه من الأبخرة، أبنية اللامحسوس العجيبة. قلت لنفسي، عبر تأمّلي:"إنّ كلَّ هذه الأطياف لهي جميلة تقريباً جمال عيون حبيبتي الجميلة، هذه الصُغَيْرة الهوجاء المريعة ذات العيون الخضراء".
وإذا بي أتلقّى لكمة على ظهري، وسمعت صوتاً أجش وفاتناً، صوتاً هستيريّاً وكأنّه مبحوحٌ من كثرة الكحول، إنّه صوت حبيبتي الصغيرة العزيزة، يقول: "أتتناول حساءك يا... أيّها ال ... تاجر الغيوم؟"

zen
09/06/2005, 17:28
انا من جهتي بحب النثر كتير
وبحسوا معبر اكتر بكتير من الشعر المزون بالقوافي
وانشاله يطلع معي واكت كم قصيد ة ثنر
ومشكرو حسام
:D :D :D :D :D :D :D :D

عاشق من فلسطين
09/06/2005, 17:29
عبدالقادر الجنابي




ستيفان مالارميه
(1842-1898) Stéphane Mallarmé



إن كانت قصائده النثرية الأولى تكشف عن تأثيرات بودلير وبرتران، إلا أن مالارميه يُعتبر صاحب ثورة شعرية خاصة به لا تقل عن ثورة بودلير الثانية المتمثلة في قصائده النثرية. وثورته هذه تتلخص في سعيه داخل اللغة إلى نسف ثنائية نظم/نثر. ففي نظر مالارميه "ليس هناك نثر وإنما هناك الأبجدية ثم أبيات متراصة إلى حد ما: مسهبة إلى حد ما، فأنّى يوجد جهد في الأسلوب، يوجد نظم." وفي الحقيقة أن كل ما كتبه مالارميه، حتى رسائله تكاد تكون أشبه بقصائد نثر: فأسلوبه يخضع لصرامة نحوية وتركيبية تنقيه من الكلام العادي. يقال أن مالارميه أنِفَ، وهو في العشرين، من أن يرى الشعر يُدرَّس في الثانويات ويباع بطبعات رخيصة. إذ في نظره "إن الشيء المقدس والذي يريد أن يظل مقدساً يتجلل بالسر."
كتب مالارميه ما يقارب أربع عشرة قصيدة نثر وفي فترات متقطعة. لكنها تشكل العمود الفقري في محاولته تشذيب قصيدة النثر من رومانتيكية "أنا" الشاعر الذي من الآن فصاعداً سيتلاشى خلف الكلمات. والكلمات، في مشروع مالارميه، هي القضية الأولى. ذلك إذا كان مقصود نيتشه، في طرح سؤاله على الفلسفة، "من هو المتكلم"، ليس في التوصل إلى معرفة الخير والشر في الجوهر، وإنما اكتشاف المعنى، أو بالاحرى المتكلم، يجيب مالارميه بأن المتكلم هو الكلمة، في وحدتها، في تذبذبها الهش، وحتى في عدمها ذاته – لا معنى الكلمة، بل كيانها اللغزي العابر" (انظر "الكلمات والأشياء" لميشيل فوكو). ومن بين سطور هذه الإشكالية الكيانية العميقة يولد تنافرُ إغواء بين القارئ والنص، بين غرضية الشعر الاجتماعية مثلا وعدم قدرة الشعر على تلبية أي مطلب يبحث عنه القارئ؛ بين الكلمة كذات تعمل من أجل نفسها كإيقاع، كفكرة قائمة بذاتها وبين القارئ الساعي وراء مجرد لذة نغمية أو إلى جعل الكلمة مجرد وسيلة لمُـثـلٍ يتصورها. والأروع أنه حتّى المُـثُـل التي تتناولها بعض قصائده النثرية تكشف عن استحالة التعبير. ولا مفر، إذن، من هذا الانشطار في اللغة بين نظم ونثر، الواقع ومدوناته. لكنْ، لعلّ مخرجاً واحداً، تجلّى له في آخر حياته: "رمية نرد"، قصيدة البياض هذه التي "ربما يخرج منها شكل، معاصر، يسمح، لما كان لوقت طويل، قصيدة نثر... وأن يفضي، ربطنا الكلمات بشكل أفضل، إلى ما يمكن اعتباره قصيدة نقدية". فالشعر، مادام منهله صوامت اللغة، حنينُ المتعدد، حنين خال من كل الأشواق المائعة، إلى وحدته: اللغة.
في الحقيقة، إنّ حياة مالارميه المسكونة بالأشياء الذاوية هي حياة الجملة الشعرية المسكونة بالعدم، ببياض الصفحة، ونضال هذه الجملة في التحرر من ظلال النظم ومن أحاسيس النثر العادية: الجملة الباحثة، في قبو التركيب وسلالمه المعقدة، عن نص تتحاشى فيه السرد. وقصائد مالارميه النثرية التي اعتبرَها ذات مرة "لاشيء"، تبقى الفترة الأكثر صموداً من فترات هذه الجملة المعاشة في محاولة امحاء الشاعر في لغته الخاصة، إلى درجة أنه يرفض الحضور فيها الا بصفته منفذا في مراسم الكتاب البحتة، حيث ينبثق الخطاب من ذاته" (فوكو). في لغة كل شاعر أصيل، ظل من مالارميه!



الظاهرة مستقبلاً

سماءٌ شاحبةٌ، فوق عالم من الهَرَم يتوارى، قد تمضي مع الغيوم: خِرقٌ من أرجوان المَغيبات البالي تنحلُّ في نهر راكد عند أفق تكتسحه الأشعّة والمياه. الأشجار تضجرُ، وتحت أوراقها المبْيَضّة (لا بغبار الطرق بل بغبار الزمن)، ترتفعُ خيمةُ عارض الأشياء الفائتة: فوانيس عدة تنتظر حلولَ الغسق فتنعش وجوهَ حشدٍ من رجال تُعساء، غلبتهم الأمراض الأبدية وخطايا القرون، بالقرب من ضالعات معهم سقيمات حَبَالى بثمار بائسة ستفنى معها الأرض. في الصمت الجَزوع، صمت كلّ العيون المتضرّعة هناك إلى الشمس التي تغور، تحت الماء، يائسةَ الصرخة، كلامٌ يملك القلوبَ، ها هو نصّه: "ليس من لافتة تُتحفكم بالعرض الداخلي، لأنّه لا يوجد الآنَ رسّامٌ قادرٌ على منحه ظلاّ كئيباً. أتيتُ بها حيّة (صانها العلم الأسمى عبر السنين) امرأة من سالف الزمان. جنونٌ ما، في حالته الأولى، نقيّ السريرة، انتشاء ذهبيّ، شيءٌ لا أعرفُ ما هو سَمّته شَعرَها، ينثني مع رشاقة النسيج مدارَ وجهٍ ينوّره عُري شفتيها المضرّج بالدم. لها جسدٌ مكانَ الثياب العديمة الجدوى. والعينان الشبيهتان بحجر نادر، لا تضاهيان هذه النّظرة الناتئ بها لحمها الهنيء: من نهديها البازغين وكأنّهما مفعمان باللَّبن الأبدي، والحَلَمتان نحو السماء، إلى فخذيها الناعمين المحتفظين بملح أوّل البحار". متذكّرين زوجاتهم المسكينات، الصُّلْعاوات، المعتلاّت والمرَوّعات، أقبل الأزواج متزاحمين: هنّ أيضاً، بدافع الفضول، كئيبات، يردن أن يَرَين.
عندما يكون الجميع قد تأمّل المخلوقَ الماجِدَ، بقيّة باقيّة من عصرٍ ما لعين أصلاً، فإنّ بعضَهم غيرُ مُكترثٍ، لأنّهم لن يقدروا على الفهم، أمّا الآخرون، وهم ساهمو الوجوه، أجفانهم مخضّلة بالدموع الذاعنة، فسينظر بعضهم إلى البعض الآخر؛ في حين أنّ شعراء هذه الأيّام، شاعرين أنّ عيونَهم المنطفئة تُضاء ثانيةً، سيتوجّهون إلى مصباحهم، مُخدّري العقل هُنَيْهةً بمجدٍ مبهم، مسكونين بالإيقاع ناسين أنّهم في عصر يدوم أطول من الجمال.





شكوى خريفيّة

مذ أن فارقتني ماريّا ذاهبةً إلى كوكبٍ آخر – أيّهما، يد الجوزاء، الطائر، أم أنت يا فينوس الخضراء؟ - دمتُ أهوى العزلة. كم من أيّام طوال قضيتها وحيداً مع قطّتي. وبـ"وحيد" أعني بمعزل عن أيّ كائن مادي، فقطّتي رفيق سرّيٌّ، روحٌ، لذلك بوسعي القول إنّني قضيت أيّاماً طويلة وحيداً مع قطّتي، ووحيداً مع أحد كتّاب "الانحلال اللاتيني" الأواخر؛ إذ أحببتُ، منذ أن لم تعد المخلوقةُ البيضاءُ موجودةً، بصورة غريبة ومُستَغرَبة، كلّ ما تختصره هذه الكلمة: سقوط. وهكذا فأنّ موسمي السنوي المفضّل، هو آخر أيّام الصيف المتراخية، التي تسبق الخريف مباشرة، أمّا في النهار، فإنّ الساعة التي أتنزّه فيها، هي عندما تهجع الشمس قبل أن تغيب، مصحوبة بأشعّة من نحاسٍ أصفر على الحيطان الرماديّة، ومن نحاسٍ أحمرَ على زجاج النّوافذ. كذلك، فإنّ الأدب الذي تنشد روحي منه لذّةً، سيكون الشِعرَ المُحْتضرَ لآخر لحظات روما، ما دام أنّه لا ينمُّ بأيّة حال عن دُنُوِّ البرابرة المجدّد الشباب، ولا يتعتع قطّ اللاتينيّة الصبيانيّة للنثر المسيحي الأوّل.
كنت أقرأ إذنْ واحدةً من هذه القصائد الأثيرة (التي تجذبني أطلاؤها التجميليّة أكثر من تورّد الصبا) ويدي تغور في فراء الحيوان الطاهر، عندما راح أحدُ الأراغن الجوّالة يشدو أسفل نافذتي بكل تراخ والتياع. كان العزفُ يجري في الشارع العريض المشجّر بالحَوْر التي تبدو لي أوراقُها، حتّى إبّان الربيع، كئيبةً منذ أنْ مرّت ماريّا من هناك، للمرّة الأخيرة، مع شموع طويلة. إنّها لفعلاً آلةُ أشجان: فالبيانو يتوهّج، والكمان ينير النياطَ الممزّقة، لكنّ الأرغن الجوّال، عند غسق الذاكرة، يجعلني أحلم مُتَيَئِّساً. الآنَ وقد هَبَّ يدندن بكل بهجة نغمةً شائعةً تبعث الحبورَ في قلب الضواحي، نغمة مألوفة، لا تجاري العصر: تُرى، من أين تأتّى للازمتها أن تؤثّر في نفسي، فتجعلني أبكي مثل أرجوزة رومانسيّة؟ لقد استأنيت في تذوّقها، فلم أُلق من نافذتي بدرهمٍ خشية أن أكلّف نفسي فأدركَ أنّ الآلة لم تغن وحدها.



قشعريرة الشتاء

ساعةُ "ساكس" الدقّاقةُ هذه، التي تؤخّر وتدقّ وسط أزهارها وآلهتها الثالثةَ عشرة، لِمَنْ يا ترى كانت تعود؟ فلتُراعي، إنّها جاءت من "ساكس" مع ربات الماضي البطيئة.

(ظلالٌ فريدةٌ تتدلّى من الزجاج البالي)

ومرآتكِ البُنْدقيّةُ النموذج، عميقة مثل سبيل ماء بارد مأطور بضفّة أفاعٍ زال تذهيبُها، تُرى مَن تمرّى فيها؟ أواه، إنّي لموقنٌ أنّ أكثرَ من امرأةٍ حَمّمتْ في هذا الماء خطيئةَ جمالها؛ إذ لو أطلتُ التحديق فيها لكنتُ رأيتُ طيفاً عارياً.

- يا لك من سافل، غالباً ما تردّد أقوالاً بذيئة.

(أرى أنسجةَ عناكب في أعلى الشاهقة.)

خِزانتُنا أيضاً عتيقة جداً: تأمّلي خشبَها الكئيبَ كيف تضفي هذه النارُ عليه حمرةً؛ الستائرُ الباهتةُ نالتها رثاثةٌ كذلك، وقماش الأرائك المتحلّلة الدهان، والصور القديمة على الحائط وسائر أشيائنا القديمة؟ ألا يبدو لكِ أنّ، حتّى طيور البنغال والطائر الأزرق، قد بهتت ألوانها على مرّ الأيّام؟

(لا تفكّري في أنسجةِ العناكبَ التي ترتعد في أعلى النوافذ الشاهقة).

إنّكِ تحبّين كلَّ هذا، وذاك هو السببُ الذي مكّنني من العيش قربكِ. ألم ترغبي، أيّتها الأخت التي لها نظرة الأمس البعيد، بأنّه كان يجب أن تظهرَ، في إحدى قصائدي، هذه الكلمات "رونق الأشياء الذاويّة"؟ الحوائجُ الجديدةُ تُنفّرُكِ؛ فهي تخيفكِ، أنت أيضاً، بوقاحتها الصارخة، مما ستشعرين بالحاجة إلى استهلاكها، وهذا صعب جداً على الذين لا يستطيعون الاضطلاعَ.
تعالي، اغلقي تقويمكِ الألماني القديم، الذي تقرأينه باهتمام، رغم أنّ مائة سنة مرّت على صدوره ولقد مات جميعُ ما يبشّر به من ملوك، و، ممدّداً على السّجّاد الأثري، مستنداً إلى ركبتيك الكريمتين في ثوبك الحائل اللون، يا أيّتها الطفلة الساكنة، سأحدّثك طوال ساعاتٍ؛ فلم تعد ثمة حقولٌ والشوارع خوالٍ، سأحدّثك عن أثاثنا... أنت شاردة الفكر؟



(في أعلى النوافذ الشاهقة تُقَفقفُ أنسجةُ العناكب هذه).





وَسواس المُماثلَة *



أمِنْ كلماتٍ غير معلومة غنّت على شفتيك، أوصالٌ منبوذة لجملة عبثيّة؟ خرجتُ من شقّتي بإحساس حقيقي وكأنني جَناحٌ مسترسلٌ وخفيفٌ، منسرحاً فوق أوتار آلة، يحلُّ محلّه صوتٌ ناطقٌ لكلمات بنبرة هبوطيّة: الماقَبْلُ الأخيرة على نحوٍ

الماقَبْلُ الأخيرة

ينهي البيت و

ماتت

ينفصل عن

التوقّف المحتوم أكثر عبثاً في فراغ المعنى. خطوتُ بضع خطوات في الشارع فميّزت في رنّة "ما" وترَ الآلة الموسيقيّة المشتدّ الذي كان منسيّاً والذي كانت الذاكرة الجليلة قد مسّته فعلاً بجَناحها أو بسعفه و، إصبعي على حيلة اللُّغز، ابتسمتُ ومتمنّياً أماني فكريّة طفقتُ أتلمّس تأمّلاً مختلفاً. عادت الجملة، تقديريّاً ومتخلّصةً من سقوطٍ سابقٍ لريشةٍ أو غُصْنٍ، مسموعةً من الآنَ فصاعداً عَبرَ الصوت، إلى أن باتت في نهاية المطاف بمفصلها وحدها، لتحيا من شخصيتها هي. أخذتُ (غيرَ مقتنعٍ بإحساسٍ) أقرأها في نهاية بيت شعريّ و، مرّةً، كمحاولةٍ، أوفّق بينها وكلامي، لا ألبثُ أنطقها بعد ماقَبْل الأخيرة بصمتٍ أجدُ فيه لذّةً مضنيّةً: الماقَبْلُ الأخيرة ووترُ الآلة، من كثرة امتداده في النسيان على رنّة ما، قد انكسر بلا شك، فأضفتُ بأسلوب ابتهاليّ: ماتت. لم أكف عن العودة إلى أفكارٍ مفضّلة، متعللاً، حتّى أهدئ نفسي، بأنّ ما قبلَ الأخيرة لهي، يقيناً، مصطلح معجميّ يدلّ على المقطع قبل الأخير للألفاظ، ويمكن تفسير ظهورها كبقيّة جهدٍ لغويّ لم تُنكَر كلّياً، جُهدٍ تنتحب خلَلَه يوميّاً حاستي الشعريّة النبيلة لتوقّفها: الرنينُ عينه ومظهر البهتان الذي تتحمّله سرعة الإثبات السَّهْل، كانا سببَ همّ شديد. ضائقاً بالأمر ذَرْعاً، صمّمتُ مُتمْتِماً بنبرة قادرة على العزاء: ماتت الماقبل الأخيرة، إنّها ماتت، فعلاً ماتت الماقبل الأخيرة اليائسة، ظاناً بذلك إرضاء القَلَق، وليس دون الأمل السرّي بدفنها في تضخّم الترتيل، عندما شعرت، يا لَلرعب – جرّاء سحر متوتر وسهل الاستنباط – أنّ لديّ، ويداي يعكسهما بابُ المحل المزجّجُ تؤدّيان حركات مُداعَبة تهبطان فوق شيء ما، الصوتَ ذاتَه (الأوّل، الذي كان الوحيدَ قطعاً).
لكنّ اللحظة التي يحلُّ فيها تدخّلُ ما فوق الطبيعة الذي لا يُعترَض عليه، وبدايةُ انقباضِ نفْسٍ يحتضرُ تحته فكري الذي كان سيّداً منذ حين، هي عندما، رافعاً عيني، رأيتُ، في شارع تجّار التحف والعاديّات الذي سلكته بحكم الغريزة، أنّني كنت أمامَ محل عوّادٍ يبيع آلات موسيقية عتيقة معلّقة على الحائط، و، على الأرض، سَعَفٌ أصفرُ وأجنحة منزوية في الظل، لطيور غابرة. لذتُ بالفرار، كمثل شخصٍ غريبٍ ربّما حُكم عليه أن يلبس ثوبَ الحِداد من أجل ما قبل الأخيرة التي لا يمكن تعليلها.



* فضلت أن أترجم Le démon بوَسواس عوضاً عن "شيطان." لأن المعنى المراد هنا هو الهوس الذي يسيطر على الذهن حدّ الشعور كأن شيطاناً يحرك الأمر. وأعتقد أن "وسواس" يؤدي معنى الشيطان وفي الوقت ذاته الهواجس الذهنية.



تنبيه: جل قصائد النثر الفرنسية المنشورة هنا وفي ملف قصيدة النثر، مأخوذة من كتابي "الأفعى بلا رأس ولاذيل" (دار النهار 2001)

عاشق من فلسطين
09/06/2005, 17:31
جان أرتور رامبو



--------------------------------------------------------------------------------


جان أرتور رامبو (1854-1891) Jean-Arthur Rimbaud
سبع قصائد نثر

ترجمة سركون بولص وعبدالقادر الجنابي


في العدد المزدوج (6/7) من "فراديس" والمخصص، لأول مرة في تاريخ اللغة العربية، لقصيدة النثر الأوروبية، نموذجا وتنظيرا، كتبتُ في مقدمة الصفحات المخصصة لرامبو مايلي: "ترك رامبو، قبل اختفائه – انتهائه من فعل الكتابة، مخطوطة قصائد نثر لدى فيرلين تحمل العنوان الانكليزي التالي: Painted plates ويقول فيرلين أن المعنى الذي أراده رامبو هو Coloured plates اشارة إلى الكتب السنيّة أي المنورة الجوانب التي كانت تصنع في بريطانيا. ويضيف فيرلين ان الكلمة البريطانية لهذا النوع من الفن هو Illumination وقد نطقها نطقا انجليزيا: Illuminascheun. وقد نفى عدد من الأنجليز، آنذاك، على أن يكون لهذه الكلمة معنى كهذا الذي يقصده فيرلين – رامبو بالانحليزية. مهما كان الأمر، إن غلطة فيرلين هذه، منحت شعر رامبو معان أخرى، ومع هذا فإن الأوروبي لا يستخلص من كلمة Illuminations ، كما هو الأمر في كلمة "اشراقات"، دلالة صوفية اسلامية... إذن، ليس حبا باختراع كلمات جديدة ، ومعارضة سوء الفهم المعمم لمجرد المعارضة، وإنما تبديدا لسوء الفهم هذا، وجدنا كلمة: "استنارات" أقرب إلى المعنى الرامبوي الحقيقي، ناهيك عن أن فعل illuminé الفرنسي يعني إنارة، وكلمة illuminisme تعني مذهب النورانية. والقارئ الفرنسي على وعي كامل بهذه الفروق. وحتى يصدر كتابنا "استنارات رامبو" الذي سيحتوي على دراسة لفكر رامبو البعيد كل البعد عن الشرق العربي، والقريب كل القرب من الفكر اليوناني. هنا ست قصائد قام بترجمتها سركون بولص عن الانجليزية، ودققتُ كلمةً كلمةً على الأصل الفرنسي".
والتدقيق تضمن تحديد المعنى المراد في النص الفرنسي، تفحص ضربة رامبو الأسلوبية التي ضاعت في الصياغة الأنجليزية، والعثور على مفردات دقيقة مدروسة بحيث تُلغى نهائيا فكرة الكلمات المترادفة. أوه لو ثمة ناقد يقوم بمقارنة هذه الترجمة مع كل ما موجود من تراجم انجليزية لها، لأكد صدق ما أقول! كان، فعلا، في نيتنا، سركون وأنا، أن نقوم بترجمة قصائد نثر أخرى لرامبو وإصدارها بكتاب، عبر هذه اللعبة الشعرية: هو يضع مسودة أولى من الأنجليزية ثم أقارنها على النص الأصلي الفرنسي، وعندها يبدأ الشغل الحاسم: الترجمة الحقيقية.... لكن يا لها من مشقة تلك التي عانيناها، أحيانا ساعات لفك شفرة جملة واحدة، بل جلسات نقاش معمقة مع فرنسيين، من أجل بعث هذه الجمل في مقابل عربي محمل بكل ما تحتويه من معان وحرارة الشاعر وبنائه المشدود بمرجعيته الثقافية... بحيث عانى سركون، مرات عديدة، ضرورة إعادة صياغة العبارات واستبدال التساطر الإيقاعي للجمل في النسخة العربية. ناهيك أن كل قصيدة تطلبت شروحا جعلتني أبحث في الكتب والمراجع والمعاجم المتعلقة بشعر رامبو لكي أعدّ هوامش إيضاحية لكل قصيدة. هنا مقدمة عن دور رامبو في اثراء قصيدة النثر مع ترجمة لسبع قصائد، ست منها نشرت في فراديس من ترجمة سركون بولص بالاشتراك معي، والسابعة "ملكية" من ترجمتي أنا سبق أن نشرت في "القدس العربي" عام 1994



مساهمة رامبو هدية أبدية إلى شعراء المستقبل

"كان العقل الكوني يلقي على الدوام أفكارَه بشكل طبيعي. كان الناس يجمعون بعض ثمار الدماغ هذه، فانطلاقاً منها يعملون ومنها يكتبون كتباً: وهكذا استمرت الأمور، الإنسان لا يشتغل على نفسه، ذلك أنه لم يكن قد أستيقظ بعد، ولم يكن قد أوغل تماماً في الحلم الكبير. موظفون، كتّاب: أما المؤلف، المبدع الشاعر، فهذا الإنسان لم يوجد قط! أول ما يدرسه الإنسان الذي يريد أن يكون شاعراً هو أن يعرف نفسه معرفةً كلّية؛ أن يبحث عن نفسه، يتفقدّها، يغويها، يتعلمها. وحالما يعرفها عليه أن يرعاها... أقول أن على المرء أن يكون رائياً. عليه أن يجعل من نفسه رائياً. فالشاعر يجعل من نفسه رائياً عبر اختلال مدروس طويل هائل لكل الحواس (1). لكل أشكال الحب، الألم، الجنون. يبحث بنفسه، يستنفد كلّ السموم في نفسه ولا يحتفظ منها إلا بالجوهر. عذابٌ لا يوصف يحتاج فيه إلى كلّ الإيمان، إلى كل القوّة الخارقة، حيث يُصبح بين الجميع، المريض الأكبر، المجرم الأكبر، الملعون الأكبر، والعليم الأسمى، لأنه يدرك المجهول، إذ أنه قد يثقّف نفسه، الغنية من قبل، أكثر من أيّ كان، لأنه يصل إلى المجهول، وعندما، وقد جُنّ، ينتهي إلى ما يعمي بصيرته عن رؤاهُ، يكون قد رآها. فليمت في وثبته بالأشياء الخارقة التي لا اسم لها!... الإنسانية كلّها في عهدته، حتّى الحيوان. عليه أن يجعل اكتشافاته، تُشم وتُحس وتُسمع. فإذا كان الشيء الذي أتى به من هناك له شكل، أعطى شكلاً، وإذا كان بلا شكل، أعطى اللاشكل. المسألة هي أيجاد لغة، وبما أن كل كلام فكرةٌ، فإن زمن اللغة الكونية آتٍ..." هكذا شخص رامبو المشروع الشعري الحقيقي، وذلك في "نثر حول مستقبل الشعر" الذي كتبه على شكل رسالة (انظر ترجمتها الكاملة، قام بها محمد شعيرات، في "فراديس" عدد 6/7، نوفمبر 1993) وهو في السابعة عشر من عمره. لقد كتب رامبو، في فترة لا تتجاوز الخمس سنوات، أكثر الأعمال الشعرية التي تغذت منها أجيال وأجيال، ثم تخلى عن كل شيء. وقد كتب رينيه شار تحية إلى رامبو جاء فيها: "... حسناً فعلت بذهابك، يا رامبو! سنواتك الثماني عشرة الخارجة على الصداقة، على سوء النيّة، على بلاهة شعراء باريس مثلما على دندنة النحلة العقيمة لعائلتك الشبه مخبولة، حسنا فعلت بتشتيتهم في رياح عرض البحر، برميهم تحت شفرة مقصلتهم المبكرة. كنت على حق في هجران شوارع الكسالى، مقاهي القرائح السيّالة، مفضلا جحيم البهائم، مخالطة المخادعين وتحيات البسطاء... حسنا فعلت يا رامبو! فنحن قلة تؤمن من دون أي حاجة إلى برهان بالسعادة الممكنة معك."

يمكن القول أن رامبو هو الممهد الأول لقصيدة النثر السوريالية. فهو أول من أنتبه إلى أن الحداثة الشعرية التي تجلت في قصائد نثر بودلير، تحتاج إلى لغة جديدة متحررة كلياً ليس من "المتطلبات المنطقية ومن القيود النحوية والعروضية" فحسب بل كذلك من "التراكيب والصياغات التي تهبنا إياها جاهزةً عاداتُنا النحوية". قصائد رامبو النثرية خصوصاً في "إشراقات" ("استنارات" كما أفضل أو "تناوير" كما اقترح سركون) تعلّمنا بأن قوة قصيدة النثر لا تتراءى من خلال كلمة أو صورة ولا من خلال معنى عام، وإنما هي تكمن في "عدم الترابط التناغمي" هذا (على حد عبارة بول فاليري)، في نظام مستتر يربط بين جمل خاطفة. وها هنا يكمن اللغز الخلاق لقصيدة النثر. "إشراقات" رامبو تقدم لنا، كما كتبت سوزان برنار، "توليف المبدأين الرئيسيين (الهدام والبنّاء أو – إذا شئتم - الفوضوي والفني) لقصيدة النثر: لقد وجد رامبو نقطة التوازن بين نثر جد مائع وجد "نثري" عند بودلير، وتناظرات جد شكلية ومصطنعة عند برتران، واعطى قصيدة النثر - المكثفة والسريعة – علامة نبلها الشعري."
مع رامبو، قصيدة النثر أخذت وجهةً لم يُسبق إليها، فقد شحنها بصور لم تطف بوهم شاعر سابق، جاعلاً منها شظايا متطايرة من حُمم المجهول فوق الصفحات، مجازاً مرسلا من سماء لغة جديدة لن تعود فيها القصيدة إيقاعَ حدث، وإنما ستستبقه.

1- غريب أن يترجم أدونيس ، دون أي احساس بخطورة الكلمات، في كتابه "الصوفية والسوريالية" عبارة رامبو: dérèglement de tous les sens ب"تعطيل فعل الحواس"، ويفهم من هذا موت الحواس وتوقفها عن كل وظيفة، بينما المعنى الواضح والبسيط لكل من يعرف اللغة الفرنسية هو "اختلال مدروس للحواس او انحراف متعمد لمهماتها. بحيث يمكّن الشاعر كل حاسة من الابتعاد عن مهمتمها المعتادة لتقوم بمهمة منحرفة: مثلا حاسة الشم، تعمل وكأنها حاسة السمع، والسمع وكأنها حاسة الللمس ... والخ وهكذا تصبح حواس الشاعر منحرفة السلوك، وليست "معطّلة" كما يتمنى أدونيس.



7 قصائد نثر خارقة

بعد الطوفان
حالما همدتْ فكرةُ الطوفان،
وقف أرنبٌ وسط البرسيم والأزهار ذات التويجات الجرسية المتأرجحة، وصلّى لقوس القُزَح من خلال شبكة العنكبوت.
يا لَلأحجار الكريمة التي كانت تتخفّى، - والأزهار التي رنتْ لتوّها.
في الشارع الرئيسي القذر، أقيمت الأكشاك وأُجريت القوارب إلى البحر ذي التدرجات العالية كما في الرواشم القديمة.
عند "اللحية الزرقاء" جرى الدّم – عبرَ المسالخ، في السيركات، حيث امتقعتِ النوافذ بخَتْم الله (1) جرى الدم والحليب.
القنادسُ بَنَتْ. دخانُ "المازغرانيين" تصاعدَ في المقاهي (2)
في البيت الزجاجي الكبير الذي ما زال يرشحُ، نظر، إلى الصور الساحرة، أطفالٌ في حَداد.
اصطفق بابٌ ما؛ وفي ساحة الدسكرة، طوّح الصبيّ الصغير بذراعيه؛ دوّارات الريح والديوك على الأبراج في كل مكان، تحت وابل ساطعٍ من بَرَد المطر، فَهَمتْهُ.
مدام X نصبت بيانو في جبال الألب. على مذابح الكاتدرائية المائة ألف، احتُفِلَ بالقدّاس وتناولات القربان الأولى.
القوافلُ أقلعتْ. وشُيّد "أوتيل سبلنديد" في فوضى الجليد وليل القطب.
طويلاً بعد ذلك سمع القمرُ بنات آوى تتشاكى عبر صحارى الصعتر، وأناشيد الرعي (3) في قباقيبها تُهَمْدِرُ في البستان. ثمَّ، في الدوحة البنفسجية، المتبرعمة، أخبرتني يوخاريس (4) بحلول الربيع.
انبجسي، أيتها البِرْكة – أزبدي، انحدري على الجسر وانسكبي فوق الغابات؛ أيتها الملاءات السود والأراغن، البروق والرعد، شُبّي وتدحرجي؛ ارتفعي أيتها المياه والأحزان وأطلقي الطوفانات من جديد.
فمنذُ انحسارها – يا للأحجار الكريمة التي دُفنت والأزهار المتفتّحة! – أيُّ مَلالٍ – والملكة، الساحرةُ التي تُشعلُ جمرَها في آنيّة الفخّار، لن تقبل أبداً أن تحكي لنا ما تعرفهُ، ذاك الذي ندريه.

هوامش "بعد الطوفان":
1 – "ختم الله" هو القوس قزح الذي هو رمز العهد بيننا وبين الله باعادة الحياة من جديد بعد الطوفان. رامبو الذي قرأ جيدا العهد القديم حد أنه كتب في بداياته نثرا انجيليا، يلمح هنا إلى نص من سفر التكوين: "وقال ألله: هذه علامةُ العهد الذي أنا جاعله بيني وبينكم وبين كل ذي نفْس حيّة معكم مدى الأجيال للأبد: "تلك قوسي جعلتها في الغمام فتكون علامة عهدي بيني وبين الأرض.
2 – "مازغران" تعني القهوة الخفيفة التي تقدم في قدح كبير وليس في فنجان كما هو معروف، وهذا هو عين الاختلاف، إذ يضاف ماء كثير. يعود أصل الكلمة إلى قرية مازغران في الجزائر. ومقطع رامبو: "دخان المازاغرانيين تصاعدَ في المقاهي" رمز عودة الحياة من جديد.
3 – Eclogue شعر رعوي، جنس أدبي يتقرى أحداث الحياة الريفية، كتلك التي كتبها فيرجيل. هنا تلميح يستعيد ذكرى الأزمنة البدائية لما بعد الطوفان مباشرة.
4 – Eucharis حورية الجمال كفينوس، التي تغنى بها الشعراء، وهي أيضا إحدى شخصيات رواية فينيلون الرعوية "مغامرات تيليماك" التي تعتبر من أفضل الأعمال النثرية التعليمية في القرن السابع عشر. وأيضاً تعني الأزهار على شكل نجمة بيضاء ولها رائحة طيبة تشير إلى الربيع. وربما يسقط رامبو كل هذه المعاني في يوخاريس ربة الجمال ربة الجمال التي تخبره عبر تشخصنها كأزهار لها عطر رائع، بحلول الربيع.


صوفيّة


على مَيْلةِ المنحدر ترفلُ الملائكةُ في أرديتها من الصوف بين مراعي الفولاذ والزمّرد.
مروجٌ من لهيب تثبُ إلى قمّة الرابية. إلى اليسار، رُغام السّنَمة الذي داس عليه كلُّ السّفّاكين وكلُّ المعارك، تترسّمُ منحناها كلّ جَلَبةٍ محمّلة بالنكبات. خلف السَنَمة التي على اليمين، خطُّ المشارقِ، التقدُّم(1).
و، بينما يتكّون الشريطُ في أعلى الصورة من الوشيش اللولبيّ والمتوثب لمحار البحار البشريّة والليالي، تتحدّرُ الحلاوةُ الزَهريّةُ للنجوم وللسماء وللبقيّة، إزاء المنحدر، تلقاء وجوهنا، مثل سلّة – وتحيل الهاويةَ، في الأسفل، فاغمةً (2) وزرقاء.

هوامش "صوفيّة"
1 – تجنبا للخلط والتشويش اللذين تتركهما كلمة التقدم في حالة الجمع: التقدمات، كما يراد في القصيدة، أرتأينا وضعها بالمفرد.
2 – Flrurant تعني مُزهرة، لكن رامبو يريد منها عطر الزهور.


إلى عقلٍ

نقرةٌ من إصبعك على الطبل لتنطلق الأصوات كلّها ويبدأ الوئام الجديد.
خطوة من خطاك، وينهض الرجال الجدَدُ ليباشروا المسيرة.
رأسك يحيد: الحبُّ الجديد! رأسك يلتفت، - الحب الجديد!
"غيّر نصيبنا، انخل البلايا بادئا بالزمان"(1) يرتّل لك هؤلاء الأطفال. "انصب جوهر قسمتنا ونذورنا أينما كان". يتضرعون إليك.
أبديّ الوصول، ستمضي إلى كل مكان.

هوامش "إلى عقل":
1- يريد رامبو من "غيّر نصيبنا، انخل البلايا" أن يتغير مصيرنا، وأن لا تقع علينا عبر المنخل، البلايا الكبيرة، بل الصغيرة منها فقط.


بربريّ

بعدَ الأيّام، الفُصولِ، الكائناتِ، والأقطارِ بوقتٍ طويل، رايةٌ من اللحم الدامي على حرير البحارِ والورود القطبيّة (إنّها غير موجودة).
بارئاً من عَجيج البطولات العتيق – الذي ما زال يهاجمُ القلبَ والرأس – بمنأى عن السفّاحين العتاق.
أَوه! رايةٌ من اللحم الدامي على حرير البحار والورود القطبيّة؛ (إنّها غير موجودة).
يا للّذائذ!
مجامرُ تمطرُ زخّاتِ صقيعٍ أبيض – يا للّذائذ! - تلك الحرائق في مطر الرّيح الماسيّة يقذفها قلبُ الأرض المتفحّم من أجلنا إلى الأبد – أيّها العالم!
(بعيداً عن التقهقرات القديمة والشُعَل القديمة التي يسمعها، التي يُحسّها الواحد)
مجامرُ وزَبد. موسيقى، تطوّحاتُ المهاوي واصطدام ذؤابات الثلج تلقاءَ النجوم.
يا للّذائذ، يا عالم، يا موسيقى! وهنا، الأشكال، العَرَق، العيون والشعر الطويل، تطفو. ودموع بيضاء تغلي – يا للّذائذ!- والصوت الأنثويّ النازل إلى قاع البراكين والمغاور القطبيّة.
الراية...


ضَحْوةُ السُكْر

أيا خيري! يا جمالاً هو لي! الأجواق الشنيعة حيث لا تنالني عَثْرة! مِخلَعةُ التعذيب الخلاّبة! (1) ليحيَ العملُ الذي لا يصدّق والجسدُ العجيب، للمرّة الأولى! لقد بدأ بضحك الأطفال، وبه سينتهي. سيبقى هذا السُّمّ في كلّ عروقنا، حتّى إذا عيدَ بنا، باستدارةٍ من موكب الأجواق، إلى اللاتناسق القديم. آه! دعونا الآن، ونحن الأجدر بكلّ هذه العذابات! نجمّع بكل ما فينا من حُميّا هذا الوعد الفائق للبشريّ المنجَز لأجسادنا وأرواحنا المخلوقة: هذا الوعد، هذا الجنون! الأناقةُ، المعرفةُ، العنفُ! لقد وُعدنا بأن تُدفنَ شجرةُ الخير والشرّ في الظلام، بأن تُنفى مراسيمُ الشرف الباغية ليتسنّى لنا أن نأتي بحبّنا النقيّ جدّاً. بدأ هذا بمقدار معيّن من القرف وينتهي – لعجزنا عن القبض على الأبدية فوراً – ينتهي بتبدّد العطور.
ضَحِكُ الأطفال، احترازُ العبيد، تقشّفُ العذارى، رعبُ وجوهِ هذا المكان وأشيائه، مباركةٌ أنت بذكرى هذه السهرة. بدأت بكل فظاظة، وهاهي ذي تنتهي بملائكة اللَهب والجليد.
يا سهرة سكْرٍ صغيرة، قُدّسْتِ! حتّى إذا كان من أجل القناع الذي وهبتِنا أيّاه. نشهد لك، أيّتها الطريقة! لن ننسى أنّكِ بالأمسِ مجدّتِ أعمارَنا كلَّها. نحن نؤمنُ بالسُمّ. نعرفُ كيفَ نعطي حياتنا كاملةً كلَّ يوم.
هذا هو زمانُ الحشّاشين.(2)

هوامش "ضحوة السكر"
1 - Chevalet التي تعني اليوم الحامل الخشبي الذي يوضع عليه اللوح الذي يرسم عليه الرسام. لكنها كانت تعني أيام رامبو: آلة تعذيب. مما اضطر المسؤولون عن الطبعة الشعبية لكتاب رامبو في غاليمار وضع إشارة لإفهام القارئ المعاصر خصوصاً الطلبة، بأنها في هذه القصيدة تعني "آلة تعذيب" وليس "الحامل الخشبي."
2 – إن كلمة assassin تعني في قصيدة "بربري" السفّاح، وما يريده رامبو عندما يقول في نفس القصيدة: "بمنأى عن السفّاحين العتاق" هو بمنأى عن العنف البربري. أما في قصيدة "ضحوة السكر"، فإن هذه الكلمة تبدأ بحرف كبير Assassin الحشاشين. إذن، ثمة تحذير يريدنا رامبو أن نأخذه في نظر الاعتبار: من الواضح ان قصيدة "ضحوة السكر" تستبق نيتشه بدعواها إلى الفكر الديونيزوسي حيث الإنسان يعدل الله، فهي تكاد تكون وصفا لليلة خمر باخوسية حيث الألم يتذاوت واللذة. ذلك أن في حفل العربدة والمجون الذي كانت تقيمه عذارى باخوس تتم افتراسات انتشائية والتهامية بغية الصيرورة إنسانا أعلى. ورامبو في كل شعره يسعى للعود إلى الحياة الأولى، حياة ماوراء الخير والشر، حياة وثنية تلغي فكرة التوحيد. إذن، بقدر ما تمثل "ضحوة السكر" ليلة باخوسية، فهي أيضاً نداء معارضة يدعو إلى الدفاع عن الحشاشين الذين اشتقت منهم بالفرنسية كلمة "قتلة". وخير دليل على هذا هو السطر التالي: " نحن نؤمنُ بالسُمّ. نعرفُ كيفَ نعطي حياتنا كاملةً كلَّ يوم. هذا هو زمانُ الحشّاشين". ولاننس أن بودلير الذي قرأه رامبو قراءة متمعنة حد أنّه لو لم يكن ثمة بودلير لما كان ثمة رامبو كما عرفناه، قد وصف طرق الحشاشين في كتابه "فراديس اصطناعية". فضلا عن أن جميع طبعات أعمال رامبو والدراسات حول شعره أكدت هذا إما بلإشارة لإفهام القارئ العادي او بتعليق مطول بغية التوسع في فهم شعر رامبو.




مَلَكيّة

ذات صباح، في بلدٍ شعبُه جدّ وديع، كان رجلٌ وامرأةٌ رائعان يصرخان في السّاحة العامة: " أيّها الأصدقاء، أتمنى لها أن تُصبحَ ملكةً"! "أريد أن أكون ملكةً"! ضحكت واضطربت. كان يتحدّث مع أصدقائه عن إفشاء ما، عن محنةٍ مرّت. لم يتمالكا نفسيهما فاستند أحدهما إزاء الأخر.
وفعلاً كانا مَلكين طوال صباح بأصله علّقت فيه الجداريات القرمزيّة على البيوت، وطوال الأصيل بينما كانا يشقّان طريقهما صوب بساتين النخيل.

مدنٌ

مدنٌ هي! هو ذا شعبٌ نُصبَت من أجله أليغينات الحلم (1) ولبناناتُهُ هذه! أكواخٌ من كريستال ومن خشب تدرجُ على سكك وبَكْرات لا تُرى. فوهات البراكين القديمة المحاطة بعمالقة ونخيل نحاسي تهدر ميلوديّاً وسط اللهيب. عبر الأقنية المعلّقة فوق أكواخ الجبال، تضجُّ أعياد الحب. صيحاتُ قنص النواقيسِ عبرَ المعابر تعلو. أفواجُ من المنشدين المَردة تهرعُ بأرديةٍ وبيارقَ وهّاجة كأنوار الذرى. ومِن فوق منصّاتٍ وسط المهاوي أكثر من رولان (2) يبوّق بسالتهُ. على المماشي الممتدة فوق الهاوية، وعلى سقوف الحانات، توقُّدُ السماء يزين الصواري بالأعلام. انهيار شعائر التأليه (3) يلتحق بالحقول الأكثر علوّاً حيث تهيم قنطورسات (4) سيرافيّة بين الانهيارات الثلجية. وفوق مستوى غوارب الموج، بحر يُهيجُهُ ميلاد فينوس (5) الأبدي، محمّلاً بأساطيل كوراليّة وغمغمة اللآلىء والمحار النفيس –يكفهرُّ البحر أحياناً بإيماضات قتّالة. على السفوح حصادات أزهار، ضخمة كأسلحتنا وكؤوسنا، يعلو خوارُها. مواكب جنيّات من "الماب" (6) في أثواب صهباء بلون الزعفران والعقيق، تصعدُ من الوهاد. هناك، في الأعلى، ترضع الغزلانُ وأقدامها في الشلال والعوسج، من ثدي ديانا. باخوسيات (7) الضواحي ينتحبن، والقمر يضطرم ويعوي. فينوس تدخل كهوف الحدّادين والنسّاك. أسراب النواقيس البلَدية تتغنى بأفكار الشعوب (8). مِن القصور المشيَدة بالعظام تنبثق موسيقى لم تُعرف من قبل. كلّ الأساطير تتكامل وفي البَلْدات تتسارع الأيائل (9). جنّةُ العواصف تتهاوى. يرقص المتوحشون بلا كلال لعيد الليل. وثمّة ساعة. سرتُ فيها وسط الزحام في شارع ببغداد حيث كانت زُمرٌ تهزج بغبطة العمل الجديد، في نسيم مبهظ، سارحاً من دون أن أقدر على تفادي أشباح الجبال الخرافية، حيث تمَّ التلاقي.
أيّة أذرع طيّبة، أيّةُ ساعة جميلة ستعيدُ إليَّ هذه المنطقة التي تجيء منها نَوْماتي وأوهى حركاتي.

هوامش "مدنٌ":

1- Alleghanys سلسلة جبال في أميركا الشمالية. ارتفاعها ما يقارب الألفي متر، مغطاة بنبات رائع. استعمال رامبو لهذه الكلمة ما هو سوى اندفاع لصالح الصورة الشعرية. لبنانات جمع لبنان. رؤيا رامبو للبنان كأرض كل العجائب _ أرض الأرز – تعيدنا إلى الصورة التي كثيرا ما تذكر في العهد القديم: "تشبعُ أشجار الرب / أرز لبنان الذي غرسه / حيث تعشعش العصافير" (المزامير)... "هَلُمّي معي من لبنان أيتها العروس، هلمي معي من لبنان" (نشيد الإنشاد). و"ساقاه عمودا رخام موضوعان على قاعدتين من إبريز وطلعته كلبنان هو مختار كالأرز" (نشيد الإنشاد). ... والخ. فاللائحة ستطول إذا أردنا تقوية هذه الرؤيا عن بلد الحلم في الأزمنة الغابرة.
2- ال Roland أحد محاربي شارلمان، الذي تغنى به شعر العصور الوسطى. وواضح أن رامبو قد قرأ "أغنية رولان" التي تروي هذه الملحمة، وموت البطل بعد أن بوّق. غير أن رامبو هذا القارئ النهم إلى حد أن يكتب أعظم قصيدة عن البحر "القارب السكران" وهو لم ير البحر أبدا وإنما اعتمد على قراءاته لكتب من بينها "عالم المحيط" لفوجييه و"البحر" لميشليه وكتاب فكتور هيغو... أقول أن رامبو كعادته يعيد تركيب كل ما علق من قراءاته في مخيلته (شخصيات أسطورية، صور، ألوان، حوادث الخ) تركيباجديدا محملا بأصالة شعرية وكأن هذا الحدث – الأسطورة كان من صنعه. وهنا تكمن عظمة رامبو التي لا تضاهى والتي تجعل من قراءته فعا خلق.
3- Apothéose هي شعائر التأليه التي تجري عادة عند موت امبراطور أو بطل، أي أن ينال نصيباً من الربوبية فيُبعث في السماء. كما جرى لاينياس بن فينوس عندما قبل جوبيتير بأن يمنحه البركة السماوية، فتمت شعائر تأليهية "بأن يغسلَ الهُ النهر ذو القرنين كل ما في اينياس من فناء حتى لم يبق من البطل سوى أسمى أعضائه. وعكفت أمه بعد ذلك على دهان جسمه بعطر إلهي ثم مسّت شفتيه بمزيج من شهد الألهة "الأمبروزيا" ونبيذها العذب "النكتار"، وهكذا جعلت منه إلها، فرحّب به أهل كوبرينوس (أحد تلال روما) ودعوه رب المكان وشيدوا له معبدا وهياكل" (انظر مسخ الكائنات لأوفيد من ترجمة ثروت عكاشة).
4- Centauresse القنطور أو القنطورات جماعة من الوحوش البرية يظن عادة أن لها رؤوس الإنسان وأجساد الخيل. وكانت تعيش في الغابات وعلى الجبال في أقاليم أبليس وأركاديا وتساليا. ويصفها هوميروس في الإلياذة بأنها حيوانات. تمثل في خيال اليونان الحياة البرية والشهوات البهيمية والحالة البربرية بوجه عام. وقد عرف عنها الشبق والكلف المفرط بالنبيذ. ومن أشهر الأساطير (انظر "نصوص النقد الأدبي" للويس عوض). يؤنث رامبو القناطير ليجعلها أكثر وثنية (قنطورسات)، وفي الوقت نفسه يمنحها لمسة انجيلية بنعتها بالسيرافيم. وهكذا يقرب رامبو بين كلمات متناقضة بغية دفع المخيلة إلى أقصى حدود تخيلاتها. ويقال أن القنطور في علم الفلك كوكبة جنوبية موضعها في ذنب كوكبة الشجاع، فوق المجرة، ولها سبعة وثلاثون كوكبا (انظر كتاب صور الكواكب للرازي الصوفي). أما الساروفيم Seraphins فهم ملائكة ضباط في بلاط الله يتبوأوون المكانة العليا في هرمية الملأ الأعلى. ويأتي ذكرهم في سفر أشعيا: "رأيت السيد جالسا على عرش عال ورفيع، وأذياله تملأ الهيكل. من فوقه سَرافون قائمون، ستة أجنحة لكل واحد، باثنين يستر وجهه، وباثنين يستر رجليه، وباثنين يطير"... "فطار إلي أحد السرافين، وبيده جمرة أخذها بملقط من المذبح، ومسّ بها فمي وقال: "ها أن هذه قد مست شفتيك، فأُزيل أثمُكَ وكُفِّرت خطيئتك".
5- Venus ربة الحب والجمال والخصوبة وهذا هو رمزها في شعر رامبو الذي يتكرر فيه اسمها ما يقارب عشر مرات. يقال أنها ولدت من زبد البحر، فاسمها عند اليونان أفروديت مشتق من "أفروس" بمعنى "زبد" أو "ثبج" (رغوة ماء البحر). والغريب أن رامبو يقلب رمز فينوس المعروف بخروجها من الماء إلى الفضاء، إلى رمز يعبر عن حقيقة ثورية هي كوميونة باريس مما يطالب ربة الجمال هذه أن تزور بيت الحدادين حيث العرق والجهد العضلي وعزلة الزهّاد. وخير برهان على هذا هو أن السطر التالي : " فينوس تدخل كهوف الحدادين والنسّاك. أسراب النواقيس البلدية تتغنى بأفكار الشعوب" يكشف عن أحلام رامبو، بعد أن عاش أحداث كوميونة باريس، بأن أفكار الشعوب عاد لها نواقيس تؤشر إلى انتصارها وتتغنى بها.
6- ال Mabs ملكات الجن في الأساطير الآرثرية.
7- Bachantes عذارى الإله ديونيزوس رب الخمر، واسمه الآخر باللاتيني باخوس، يستولي عليهن جنون من النشوة أو الوجد. وكنّ يتزين بأكاليل اللبلاب أو أوراق البلوط أو الصنوبر ويلبسن جلود الحيوان ويظهرن قوة الإله ديونيزوس بالأغاني والألحان والرقص. وكن يتجولن في الجبال والغابات ويعشن كالحيوانات البرية متجردات من كل تقاليد البشر ومخاوفهم واهتماماتهم. وكان يقال إن ديونيزوس يعطيهن قوة خارقة يقتلعن بها الأشجار ويصرعن بها الوحوش القوية. وكن يصدن الحيوانات ويأكلن لحمها نيئا اعتقادا منهن بأنهن يأكلن لحم الإله ديونيزوس، وبهذا يحل الإله في أجسادهن وتنتقل إليهن قوته. (انظر كتاب لويس عوض المذكور أعلاه).
8- Beffrois برج ناقوس لكن ما إن يقرع حتى يتسارع سكان المدينة للاجتماع في البلدية. إنه نصب البلدية بامتياز وهو العلامة الخاصة بحرية المدن.
9- Elans تعني أيضاً "سورات" أو حمّيات. وهنا تكمن إعجازية اللغة الرامبوية في استغلال شفافية المعنى لإعطاء امكانيات تفسير متعددة للقصيدة.



كتب المقدمة وجميع الهوامش عبدالقادر الجنابي

عاشق من فلسطين
09/06/2005, 17:33
الترجمة كقصيدة نثر: أغاني بيليتيس
GMT 18:15:00 2004 الثلائاء 30 نوفمبر
عبدالقادر الجنابي



--------------------------------------------------------------------------------


للشاعر الإيروسي الفرنسي بيير لويس ( 1870- 1925)



ترجمة وتقديم عبدالقادر الجنابي: كتاب "أغاني بيليتيس"، المشهور شهرة الكتب المقدسة، يعتبر واحدا من اعظم إنجازات قصيدة النثر الفرنسية. عندما طبع سنة 1895 قدمه الشاعر الفرنسي بيير لويس ( 1870- 1925) كترجمة أمينة لقصائد غير منشورة ألفتها امرأة تدعى بيليتيس، شاعرة يونانية من القرن السادس قبل المسيح، وأشعارها كانت محفورة على جدران قبر أكتشفه مؤخرا في قبرص العلامة الكبير غوستاف هايم.
رحبت به الأكاديميات المختصة بالتراث اليوناني كأكبر كشف أدبي. وبما أن الكتاب يتحدث عن هيام "بيليتيس" وغرامياتها مع عدد من النساء، شعر معظم القراء والمختصين أن الحلقة اليونانية قد تمت. ذلك مثلما هناك أفروديت إلهة للجمال، ها هي، أخيرا، بيليتيس إلهة للسحاق. غير أن عددا من الكتاب كاندريه جيد، بول فاليري وكلود ديبوسي كانوا على علم بأن القضية كلها خدعة : لا وجود لا لبيليتيس ولا لغوستاف هايم، وأن الكاتب الحقيقي لهذه "الأغاني" هو صديقهم الشاعر الشاب بيير لويس. ومع هذا فأن الأكاديميين أشادوا بالترجمة وبعضهم راح يضيف بعض المعلومات المتعلقة بحياة بيليتيس والبعض الآخر كتب رسالة الى بيير لويس معتبرا بيليتيس مثل الشاعر اليوناني الفينيقي الأصل ميلياغر موضحا " بيليتيس وميلياغر ليسا غريبين علي، إنهما من الآن صديقي الشخصيين"! والمثير في الأمر أن بيليتيس دخلت معجم الأعلام اليونانيين مع شكر للمكتشف هايم والمترجم المذهل لويس.
على أن خدعة كهذه لا تتم بسهولة وإنما تحتاج الى قدرات أسلوبية ومعرفة متبحرة بالأداب اليونانية واللاتينية، وتفهم حسي لمتطلبات جسد المرأة وأحاسيسه السرية. وبيير لويس رغم انه لم يبلغ الرابعة والعشرين عندما طبع "أغاني بيليتيس"، كان معروفا في الوسط الأدبي عبر أشعاره وبالأخص عبر ترجمته الفذة لأشعار ميلياغر، و"مشاهد من حياة السراري" للوسيان اليوناني، واشرف على مجلة " La Conque" التي قدمت جيد وفاليري. كما أنه صاحب أعمال فذة تتناول الجسد الأنثوي بالأخص من كل جوانبه اللذوية. فروايته "أفروديت" باتت ذائعة الصيت في اواخر القرن التاسع عشر.
وهو يكتب "أغاني بيليتيس"، كان في زيارة الى الجزائر فالتقى هناك بفتاة جزائرية اسمها مريم بنت علي، تعاشق معها، فألهمته، لصوغ ملامح بيليتيس، بدلعها الطفولي، لون عينيها، ضحكتها وشهوتها في حياة سريرية. كما أن الجزائر نفسها جعلتها يشعر وكأنه يعيش حياة اليونان الرعوية بطبيعتها، بحرها وخضرتها الدائمة.
استفاد بيير لويس في كتابة "أغاني بيليتيس" من نمطين أدبيين كانا شائعين في منتصف قرن فرنسا التاسع عشر: قصيدة النثر وإحياء الأدب القديم. غير أن تأثير قصيدة النثر واضح في الكتاب كل الوضوح. فلويس استخدم ببراعة النثر وإمكانياته الإيقاعية لخلق ما سماه بـ"سوناتات نثرية": شغل لغوي دقيق في اختيار الألفاظ وسيولة لغوية هائلة في منتهى البساطة، وتأطير الثيمة في كتلة عناصرها إيجاز، كثافة وجزاف.
لقد اخرج المصور الأميركي الشهير دافيد هاملتون "أغاني بيليتيس"، وانتج مئات الصور (التي باتت ملصقات في غرف المراهقات والمراهقين) لفتيات ونساء كنماذج لهذه الشاعرة - الإلهة التي ولدت في رحم خيال بيير لويس، شاعر الموت والحب على حد عبارة أندريه بروتون: الذي هو عين خيال الحداثة الأوروبية المفعم بالشبق والتمرد على الأعراف، والذي لعب دورا بصياغة نظرة الكائن المعاصر الى الجسد وحق ممارسة حريته في فراش الحياة بملء الرغبة.



الصديقة المتغاضية



دامت العاصفة طوال اللّيل. سيلينيس ذات الشعر الجميل، جاءت لتهرب معي. بقيت خائفة من الطين. لقد ملأنا فراشي الصغير متعانقين واحدة إزاء الأخرى.
عندما تذهب بنتان إلى السّرير معاً، يبقى النّوم في الباب. "بيليتيس، قولي لي، قولي لي تُحبين مَن". كانت تدس برفق ساقها بين ساقي لمداعبتي.
وقالت بالقرب من فمي: "أعرف، يا بيليتيس، تُحبين مّن. اغلقي عينيك، أنا ليكاس."
أجبتُ وأنا ألامسها: ماذا، ألا أرى أنك فتاة؟ مزاحك ليس في المكان المناسب".
عادت تقول : "في الحقيقة، أنا ليكاس، إذا غلقت الأجفان. ها هما ذراعاه، ها هما يداه". وبرقة، في أعماق السكون، هلَّلتْ طيفي برؤيا منفردة.



اللقاء



أشبه بكنز، وجدتها في حقل مسيج بالآس، تلفها من الحلق إلى قدميها شَملةٌ صفراء أزرق التطريز.
ليس لديّ أيّ صديق، قالت لي، فأقرب مدينة على بعد أربعين فرسخ لذا أعيش وحيدة مع أمّي، وهي أرمل ودوماً حزينة. سأتبعكِ إذا رغبت.
اتبعك حتى بيتك. رغم أنه على الجانب الآخر من الجزيرة، وسوف أعيش في بيتك حتّى تطردينني. يدك رقيقة، عيناك زرقاوان.
فلنذهب! لا أحمل شيئاً معي سوى عشتار عاريةً تتدلّى من عقدي. سنضعها قرب عقدك، ونثوبها لكل ليلة وروداً.



أثداء مناسيديس



بعناية فتحت بيد ثوبها وعرضت لي ثديين ناعمين دافئين كما لو تقدم يمامتين حييتين للإلهة. احبيهما جيّداً، قالت لي، فأنا أحبهما جداً، إنهما حبيبان، أشبه بطفلين صغيرين. عندما أكون وحيدة أهتمُ بهما. ألعب معهما، أمتّعهما.
أغسلُهما بالحليب. أرش عليهما مسحوق الزهر. وشعري الناعم الذي يمسحهما جد عزيز على أطرافهما الصّغيرة. أداعبهما برعشة. أمددهما في الصوف ليناما.
وبما أنه سوف لن يكون لي أطفال أبداً، كوني، يا حبيبتي، رضيعاً لهما، بوّسيهما مكاني، بما أن فمي بعيد عنهما.


الغبش


تحت شرشف الصّوف الشّفّاف نندس، هي وأنا. حتّى رؤوسنا كانت محمية، والمصباح يضيء النسيج الذي فوقنا.
هكذا كنت أرى جسدها الحبيب في غامض النور. واحدةٌ قريبة من الأخرى، كنا أحراراً، أكثر حميمية، أكثر عرياً. "في نفس القميص"، كانت تقول.
أبقينا الشعر ملموماً حتى نكون مكشوفين أكثر، وفي فسحة الفراش الضيقة، كانا عطران نسائيان يتصاعدان من مبخرين طبيعيين.
لا أحد في الدنيا ولا حتى المصباح، رآنا تلك الليلة. أيتهما كانت العاشقة أو المعشوقة، هذا أمر لا يعرفه إلاّ هي وأنا. لكنّ الرّجال لن يعرفون أي شيء عنه.



الحبّ



وحسرتاه! ما إن أفكّرُ بها، حتى يجفُّ بلعومي، وينتكس رأسي، وتتصلب أثدائي حد الألم، فأرتعش وأبكي أثناء مشيي.
إذا أراها، قلبي يتوقّف، يداي ترتعشان، تتزلقان قدماي، تتصاعد حمرة أشبه بالجمر في خدي، صدغاي يدقان بنحو مؤلم.
إذا ألمسها، أُجَنُّ، تتصلب ذراعاي، تخور ركبتاي. أسقط أمامها، وأضطجع كامرأة حان موتها.
كل ما تقوله سيجرحني. حبها عذاب والمارة يسمعون شكواي... وحسرتاه! كيف يمكنني أن اسمّيها المحبوبة.





الذكرى الممزقة


أتذكّر . . . (في أي ساعة من النهار، لم يقع نظري عليها؟) أتذكّر الطريقة التي كانت ترفع بها شعرها بأصابع ضعيفة جد شاحبة.
أتذكّر الليلة التي مررت فيها خدها على صدري، بنعومة، بحيث أبقاني الفرح يقظة، وفي اليوم التالي كان على وجهها أثر الحُلَيمة الدائرية.
أراها تمسك طاس الحليب وهي تنظر إلي بطارف العين مبتسمة. أراها مُبَودَرةً ومتجملة مشرعة عينيها أمام المرآة، وبإصبع تمس حمرة الشفاه.
وبالأخص إذا كان يأسي تعذيباً متواصلاً، فإني أعرف، لحظة فلحظة، كيف تسقط في ذراع الأخرى، وما تطلبه وما تعطيه.

عاشق من فلسطين
09/06/2005, 17:34
قصيدة النثر في الأمداء البعيدة: كلوديل وسيغالين
GMT 15:15:00 2005 الثلائاء 22 فبراير
عبدالقادر الجنابي



--------------------------------------------------------------------------------


آنذاك، ما بين أفول القرن التاسع عشر وفجر القرن العشرين، انعطفت الحاجة الإبداعية من الرتابة الرمزية لأدب الرحلات المتخيلة، إلى خوض مغامرة العلامة المفتوحة على أرض الواقع: السفر إلى فضاءات بعيدة حيث المعرفة ليست مجرد تمارين ذهنية وإنما احتكاك مباشر بالأدلة والبراهين. وتاريخ نمو قصيدة النثر أراد الصين أن تكون فضاءه الجديد حيث العابر فيه ثابت كالصمت... ما إن تبدأ "الأرض بإسقاء ابنائها وما من واحد منهم لم يرضع ثدييها؛ الطفل والمسن، الثري والفقير، العادل والمذنب، القاضي والسجين، الإنسان والحيوان، وكأنهم أخوة، يشربون معا"(كلوديل). وصادف ان أديبين أضطرا إلى القيام برحلة إلى الصين بحكم منصبيهما: الأول بول كلوديل كقنصل، والثاني فكتور سيغالين كطبيب في البحارة. وشاءت الصدف أن الأول يجهل الصينية فلم يضيع وقته فيها وإنما راح يرصد ويدون موظفا كل ما تمتلكه اللغة الفرنسية من طاقة شعرية تعبيرية تتجاوز الإنشاء والبلاغة، فجاء "معرفة الشرق" الذي انصهرت فيه أساليب الذين أثروا في كلوديل كالشغل اللغوي لمالارميه، واستنارات رامبو الديناميكية، كتابا يضم كل ما تحتاجه قصيدة النثر من عناصر شعرية: الأسلوب المكثف، الشغل اللغوي المنضبط بتناغم باهر، الطريقة التي يُفتتح بها ويقفل كلُّ نص، التوتر، الجزاف الذي ينقذ النص من السقوط في خانة الانطباعات. باختصار، قصيدة النثر، في "معرفة الشرق" ومكمله "الطائر الأسود في بلاد الشمس المشرقة"، كاملة لا ينقصها أي شيء.

بينما الثاني فكتور سيغالين كان قد درس الصينية وحضارتها اعتبارا من عام 1909. وما إن أتقن لغتها حتى شرع في إجراء أبحاث معمّقة عن النصب القديمة للإمبراطورية الصينية. وباستثناء ما كتبه من دراسات جمالية عن هذه الحضارة، فإن فكتور سيغالين كتب مجموعة من قصائد نثر فذة تحت عنوان "أنصاب" المستوحاة من النصب الصيني المحدد بلوح حجري منتصب ومحفورة عليه عبارة ما، وغالباً ما يصادفه المسافرون على جانب الطريق، في فناء المعابد، أو أمام المقابر. فابتكر سيغالن أسلوبا أشبه بلغز منتزع من صلب التراكيب اللغوية الصينية؛ أسلوبا مع أن اللغة الفرنسية لم تعهده من قبل، إلا إنه فرنسي خالص لا علاقة له بكل ما تنطوي عليه اللغة الصينية. وهنا تكمن اضافة الشعراء الحقيقية للغة الأم.



بول كلوديل (Paul Claudel (1868-1955

المطر

من خلال النافذتين أمامي، والنافذتين عن شمالي، والنافذتين عن يميني، أنظرُ، وأسمعُ بأذنيّ المطر يسقط بغزارة. أعتقدُ أنّه ربع ساعة بعد الظهيرة : حواليّ ماءٌ ونور. أغمس قلمي في الدواة، وبينما أنا أتمتع بأمان احتباسي الداخلي، المائي، كحشرة في لبّ فقّاعة هوائية، أكتب هذه القصيدة.
ليس رذاذاً هذا الذي يسقط، ليس مطراً فاتراً ومشتبهاً فيه. الغمام يفاجئ الأرضَ عن قرب، ويهوى عليها بخشونة وشدّة، هجوم ضارّ وعنيف. يا له من برد، أيّتها الضفادع، أننا حتّى نسينا، في تراصّ العشب الندي، البِركة! لا خوف من أن يتوقّفَ المطرُ؛ فهذا وفير، مُرضٍ. فهو جد عطشان، يا أخواني، مَنْ لا تُشفي غليله هذه الكأس المترعة المدهشة. الأرض اختفت، البيتُ انغمرَ، الأشجار الغاطسة تجري، النهر نفسُهُ الذي يحدُّ أفقي كبحر يبدو غريقاً. سَرعانَ ما يمرُّ الوقتُ . وأنا ألقي السمع، لا لانفلات أية ساعة، أتأمّل نغمة المزمور المحايدة والتي لا تُعد.
بيد أن المطرَ توقف في آخر النهار، وبينما الغيم المتراكم يهيئ هجمة أشرّ اكفهراراً، مثل "إيريس" التي تتساقط من قمة السماء نُزُلاً في ميدان الوغى، هاهو عنكبوت أسود معلَّقٌ من دُبُره، ورأسه متدلِّ إلى أسفل، يقف وسط النافذة التي فتحتها، تُشرف على أوراق الحَور، على شمال له لون قشرة الجَوْز. لم يعد ثمة ضوء، لابد من إضاءة المصباح. تكريماً للعواصف أريقُ قطرة الحبر هذه.



الأرض مرئية من البحر

قادمةً من الأفق، واجهت سفينتنا "رصيف العالم"، والكوكب الطالع يفتح أمامنا بناءه الجسيم. وأنا أصعد على عبّارة، في الصباح المزيّن بنجمة كبيرة، تجلت في عيني الأرض جد زرقاء. القارة، من أجل الدفاع عن "الشمس" ضد تتبع "المحيط" المتحرك، تقوم بعمل واسع من تحصيناتها؛ الفجوات تنفتح على الريف السعيد. نسير وقتاً طويلاً، وفي عز النهار، طوال حدود العالم الآخر. سفينتنا، وهبوب الرياح تسيّرها، تنطلق وتثب فوق الهوة المطاطة، ضاغطة بكل ثقلها. وقعتُ في فخ اللازورد، وملتصقٌ به كبرميل. مأسورا باللانهاية، معلقاً بتقاطع السماء، أرى من تحتي الأرضَ كلّها مظلمة تنتشر كخريطة، العالمَ مهولاً ومتواضعاً. لا مفر من الانفصال. الأشياء كلها بعيدة عني، الرؤية فقط تربطني بها. ما من أحد أبداً سيمكنني من تثبيت قدمي على الأرض الوطيدة، من بناء مسكنٍ بيدي من الحجارة والخشب، من تناول في وئام الأطعمة المطبوخة في الموقد المنزلي. سندير قريباً حيزومنا حيث ما من شاطئ يعترضه، ولن يكون تقدُّمُنا، بفضل العدة الهائلة من الأشرعة، مُعلَّماً إلا بأضوائنا الجانبية.



رسم

فليثبّتوا لي قطعة الحرير هذه من أركانها الأربعة، فلن أرسم فيها السماء أبداً. فلا البحرُ ولا شواطئُه، لا الغابة ولا الجبال ستغوي فيها فنّي. لكن من فوق إلى أسفل، من طرف إلى آخر، سأرسم فيها الأرضَ بيدٍ خشنةٍ. حدود المقاطعات، وتقسيمات الحقول ستكون كلّها مرسومة فيها بالضبط، هذه التي بدأ فيها الحرث سلفاً، وتلك حيث لا يزال فوْجُ حُزمِ القمح منتصباً. لن ينقص الإحصاء شجرةً واحدة، فأصغر بيت سيكون مصوَّرا بمهارة غير متصنّعة. وإنْ ينظر المرءُ بشكل جيد سيميز الناس، فذاك، المظلة في اليد، يعبر جُسراً حجرياّ ذا حنية واحدة، وتلك تغسل ثيابها في البِركة، الكرسي الذي يتقدم محمولا على أكتاف حاملَيْه، وهذا الحارث الصبور الذي يشق، طوال الأخدود، أخدوداً آخر. تخترق اللوحة من ركن إلى آخر طريقٌ طويلةٌ يحفُّ جانبيها صفٌ مزدوج من أشجار الصنوبر، وفي إحدى هذه الخنادق الدائرية حيث، عوضاً عن الماء رقعة لازورد، نرى ثلاثة أرباع قمرٍ أصفر بالكاد.





فكتور سيغالين Victor Segalen 1878-1919


مديح الغياب وسلطته

لا أطالب أبداً أنْ أكون حاضرا، أنْ أصل فجأةً، أنْ أظهر بلحمي وشحمي، أو أنْ أحكم عبر الثقل الواضح لشخصي.

ولا أنْ أجيب، بصوتي، الرقباء؛ بعيني القاسية، المتمردين؛ وبإيماءة، الوزراء المذنبين، التي سَتدَلدِلُ رؤوسهم من أظافري.

إني أحكم عبر سلطة الغياب المدهشة. قصوري المائتان والسبعون، المحبوكة بعضها ببعض بأروقة كمداء، تمتلئ فقط بآثاري المتناوبة.

موسيقى من كل نوع تُعزف على شرف ظلي؛ وضباط يحيون كرسيَّ الفارغ؛ ونساء يعرفن كيف يقدرن شرف الليالي التي لا أتنازل فيها.

عديل الجن الذين لا يمكن ردّهم لأنهم غير مرئيين، لن يعرف أيُّ سلاح أو سم مدركي.



عاصفة متينة

احملني فوق موجك العاتي، أيها البحر المتجمد، البحر الذي لا مدّ له؛ عاصفة متينة مُغلقة السحاب المتسارع وآمالي. أن أثبّت بحروفٍ لائقة، أيها الجبل، شموخَ بهائك.
العين، متقدمةً الرِجل على الطريق الصاعدة، تروّضك بصعوبة. جلدك خشنٌ. هواؤك رحيب ينحدر مباشرة من السماء الباردة. وما وراء الحد المرئي، قمم أخرى ترفع شِعابَكَ. أعرف أنك تضاعف الطريق الذي يجب تجاوزه. إنك تحشد الجهود كالحُجّاج الذين يكوّمون الحجر: ثناءً.
ثناءً لعلوك، أيها الجبل. دع طريقي يكون مشقةً، درباً وعراً وقاسياً؛ دعه يتعرّجَ عالياً.
تاركاً إياك إلى السهول، علَّ أن يكون لها، ثانيةً، جمالٌ من أجلي.




الحرفيون الأردياء

هاهم، في دورِ السّماء الثماني والعشرين: المنوال المزدان بالنجوم الذي لم يغزل حريراً؛
الثور الموشّى بالنجم، المشدود من رقبته، والذي لا يستطيع أن يجرّ عربته؛

الشبكة المعقودة بآلاف العقد المنسوجة بإحكام حتّى تقع في أسرها الأرانبُ الوحشيّةُ، ومع هذا لم تأسر أيّاً منها؛
المِنْسَفُ الذي لا يذرّ القمحَ، الملعقةُ التي لا تُستعمل حتّى لقياس الزّيت!

وأهلُ الأرض الحرفيون يتّهمون السّماويين بالدجل وبعدم القدرة.

الشاعر يقول: إنّهم يشعّون!





مكتوب بالدم

لم يبق في قوس صدرنا منزع. لقد أكلنا خيولَنا، طَيرنا، فئراناً ونساءً، وما زلنا جائعين.

المهاجمون يسدّون كُوى السور. إنّهم آلاف مؤلّفة، ونحن لا نتجاوز الأربعمائة.

لم يعد في مقدورنا لا شدّ الأقواس ولا رشقهم بسيل من الشتائم، سوى أن نصرَّ أسنانَنا رغبةً في عضهم.

لقد عيل صبرنُا حقاً. على الإمبراطور، إذا تلطّف بقراءة هذا المكتوب بدمِنا، أن لا يقترب أبداً من جثثنا.

يجب ألاّ يستحضر البتّة أرواحنا: نريد أن نعود أرواحاً شريرة من أسوأ الأنواع:
تلهّفاً إلى عضّ هؤلاء وافتراسهم.



ترتيلة للتنّين المضطجع

التنّين مضطجع: السّماءُ صِفرٌ خواءٌ، الأرضُ ثقيلةٌ، الغيوم مضطربة؛ يخمد القمر والشمس نورَهما؛ للنّاس سمة شتاءٍ لا يمكن تعليله.

يتحرّك التنّينُ، فينفلق الضبابُ فوراً ويطول النّهارُ. طَلَلٌ مُغذٍّ يسدُّ الرمقَ. ننتشي وكأننا في بدء ربيعٍ غير مأمولٍ.

ينتفض التنّين ويطيرُ، له الأفق الأحمر، رايتهُ؛ الرّيحُ كطلائع، والمطر الكثيف موكب خفير. اضحكوا أملاً تحت فرقعة سوطه الواخز: البرقُ.

أنتَ أيّها المُرهَقُ، انتبه، أيّها التنّين المضطجع! يا مُلَوْلِباً! أيّها البطلُ الكسول النّائمُ في أحدنا، مجهولاً، خامداً، لم يُفصَح عنه.

هاهنا تين، نبيذٌ دافئ. هاهنا دمٌ: كل، اشرب، تَشمّم: أَرْداننا المرفرفة تناديك وكأنّها أجنحة ترفرف بقوّة.

انهضْ، افصحْ عن نفسك، لقد آن الأوان. اقفزْ بوثبة واحدة خارجنا، ولأجل أن تثبت بهاءكَ

اضربنا بذيلك الافعواني، اجعلنا سقماء بغمزة عينيك الضاويّتين، لكن ائتلق، ائتلق خارجنا!

عاشق من فلسطين
09/06/2005, 17:35
جاكوب: إعادة صياغة مفهوم قصيد النثر
GMT 6:15:00 2004 الثلائاء 9 نوفمبر
عبدالقادر الجنابي



--------------------------------------------------------------------------------


ولد ماكس جاكوب في كامبير (مقاطعة بريتانيا) في الثاني عشر من تموز سنة 1876 لعائلة يهودية. وذات ليلةٍ من ليالي 1909، تجلّى له المسيح في غرفته الباريسيّة، طالعاّ فجأة من أيقونة معلّقة على الحائط، مما دفع ماكس جاكوب إلى البحث عن قسٍ ليعمّده، لكن القسّ الذي قابله تلك الليلة سخر منه. فبقي سنوات يعاني تجلّيات روحية من كل طيف غير معترف بها كنسيّاً، إلى أنْ وجد، في أواخر الحرب العالمية الأولى، من يعمّده مسيحيّاً في إحدى كنائس باريس. في الحقيقة، حياة جاكوب مملوءة بهذه القصص تارة مُفبركة وطوراً معاشة حقاً. قصصٌ كادت تغطّي على نتاجه الذي ينمُّ عن عبقرية هائلة وأصيلة.
لعب ماكس جاكوب دوراً مهماً في تعميق البعد الشِّعري للحركة التكعيبيّة. نشر عدداً من الدواوين، مسرحيات وروايات. وفي أوج حملة الاعتقالات داخل الطائفة اليهوديّة، وموت أخيه، وإرسال أخته إلى معسكرات الموت، شَعرَ جاكوب أنّ لا مفرَّ من مواجهة مصيره المأساوي: "سأموت شهيداً". وبالفعل عند خروجه من قدّاس مسيحيّ في الرابع من شباط 1944، ألقى رجال الغوستابو القبضَ عليه بتهمة أنه يهودي متنكّر. فمات في الخامس من آذار 1944 في معتقل درانسي.
حرر ماكس جاكوب في مجموعته "كوب الزّار"، فعلاً قصيدة النثر من كل البقايا الموروثة من الشعر الموزون ومن متاهات الرمزية وأحاسيس الرومانتيكية التي كانت تحدد اتجاه قصيدة النثر في القرن التاسع عشر. فقصائده بقدر ما هي متخلصة كليا من الاستعارات والتنميقات البلاغية، تتألق بطاقتها التفجيرية للهراء اللغوي حيث الجمل تبدو وكأنها خرق. ذلك أن جاكوب كان أول من شحن الشعر، هذا المختبر المركزي لخلق الصدمة المطلوبة في قصيدة النثر، بما كان يعتبره الشعراء آنذاك "ابتذالات" كعناوين الشوارع، اعلانات، كلمات عامية، الكلام اليومي العادي، العبارات الشائعة في الروايات الشعبية، والكليشهات الطفولية، مع تجاور جديد بين الكلمات أو الجمل وكأن القصيدة رقعة يرمى فوقها نردٌ، الصدفةُ قانونه. كما أن الطابع الحلمي لعدد كبير من قصائده النثرية توحي بنقطة تقارب بينها وبين القصائد السوريالية المقبلة، غير أن النصوص السوريالية المسماة بسرديات حلمية تدوّن/ تُحلل الأحلام علّها تكتشف حقيقة ما، بينما وجد ماكس جاكوب في اللغة الحلمية إمكانية جديدة يمكن لقصيدة النثر الاستفادة منها: كتابة أحلام، كجزاف لعبوي شعري لا غاية له.
غالبا ما يشار الى ماكس جاكوب وكأنه شاعر التكعيبية، وذلك لكونه أسس مع أبولينير "جمعية أصدقاء فانتوماس" و"المجلة اللاأخلاقية" التي سيتغير عنوانها منذ العدد الثاني إلى "الآداب الحديثة" وتجمع حولها بيكاسو، ماتيس ورسامون آخرون سيكون لهم، اعتبارا من هنا، دور تاريخي في خلق الحركة "التكعيبية". على أن نقطة الالتقاء بينه وبين هذه الحركة تكمن في أن قصيدة النثر مع تحرير ماكس جاكوب لها من التأثيرات الرمزية ومن كل تلميح إلى مرجعية أدبية أو حياتية شخصية، انتقلت، مع الرسم التكعيبي، من نظام مغلق مهموم بالواقع، إلى نظام مفتوح يُستخدم فيه الواقع كوسيلة وليس كغاية. أي اعتماد بناء جيومتريّ التواصل فيه من حيث الشكل وليس من حيث المعنى.
هنا النص الكامل لمقدمة " كوب الزّار" والمشهورة تحت عنوان "مقدمة 1916". وتعتبر بيانا جريئا في محاولة تخليص قصيدة النثر من من كل المفاهيم المضطربة التي كان نقاد وشعرا أواخر القرن التاسع وبداية القرن العشرين يتواجهون بها، كاشفا عن لبنة نظرية جديدة ستصبح سمات قصيدة النثر الداخلية والخارجية: أن تكون مغلقة ومتخلصة مما هو شخصي. ولإعطاء صورة واضحة عن النموذج الجاكوبي التثويري لقصيدة النثر، قمنا بترجمة 15 قصيدة من كتابه الصامد رغم كل تغييرات الأجناس الأدبية ونكرانها: "كوب الزّار".




ماكس جاكوب
مقدّمة 1916

لكلِّ موجودٍ موقعٌ مُحدَّدٌ. ولكلِّ ما هو فوق المادة موقع مُحدَّد. بل المادة نفسها مُحدَّدةُ الموقع. ذلك أنّ موقعَ عملين يُحدَّدُ، بشكل متفاوت، إمّا بفعل حيلهما، أو بسبب عقليّة المؤلفين، فرافائيل فوق "انغرز"، "فينييه" فوق "موسيه"، مدام "إكس"... فوق بنت العمّ، الماس فوق البلّور الصخري. ولعلّ هذا راجع إلى العلاقات بين المعنويّات والأخلاق. كان يُعتقَد في الماضي أنّ الملائكة توحي إلى الفنّانين، وثمة أصناف مختلفة من الملائكة.
قال بوفون: " الأسلوب يدلُّ على صاحبه"، وهذا يعني أنّه يجب على الكاتب أن يكتب بدمِه. التعريف شافٍ، لكنّه يبدو لي غير دقيق. فما يدلُّ على صاحبه هو لغته، حسّيته. إنّنا على حق عندما نقول: "عبّروا بالكلمات التي ترضيكم". وإنّنا مخطئون عندما نعتقد أنّ هذا هو الأسلوب. لماذا ينبغي إعطاء الأسلوب في الأدب تعريفاً آخرَ يختلف عن المتعارف عليه في الفنون المختلفة؟ الأسلوب هو إرادة الكشف عن الدواخل بوسائل مختارة. إنّكم تخلطون عموماً كبوفون بين اللغة والأسلوب، إذ أنّ قليلاً من الناس يحتاج إلى الإرادة، أي إلى الفنّ ذاته، وأنّ الناس بأسرهم في حاجة إلى أنسيّة في التعبير. في الحقب الفنّية الكبرى، تشكّلُ قواعد الفنّ، المُدَّرسة منذ الطفولة، أمثلةً تمنح الأسلوب: الفنّانون هم إذنْ هؤلاء الذين على رغم القواعد المُتبعة منذ الطفولة، يعثرون على تعبير حيّ، التعبير الحيّ هذا هو فتنة الأرستقراطيّة، فتنة القرن السابع عشر. والقرن التاسع عشر يغصّ بكتّاب أدركوا ضرورة الأسلوب، بيد أنّهم لم يجرؤوا على النزول من العرش الذي بنته رغبتُهم في النقاوة. فقد شيّدوا موانعَ على حساب الحياة(1). إنّ المؤلّف الذي يكون حدّد موقع عمله يستطيع أن يستخدم كلَّ المفاتن: اللغة، الإيقاع، المَوْسقة والعقل. إذ ما إن يكون الصوت في المكان المناسب، حتّى يقدر المغنّي على أن يتسلّى بالكَرّة. ولكي أكون واضحاً جدّاً، قارنوا بين ممازحة مونتين مع تلك التي يقوم بها مغنّي بداية القرن أريستيد بروانت أو بين غثاثة جريدة رخيصة، مع خشونة الخطيب بوسويه مُناكباً البروتستانتيين.
هذه ليست نظريّة طموحة، ولا هي بالجديدة: أنّها النظريّة الكلاسيكية التي أستعيدها بكلّ تواضع. فالأسماء التي أذكرها ليست من أجل ضرب "المحدثين" بهراوة "القدماء"، إنّما هي أسماء مسلّم بها، ولو ذكرت آخرين أعرفهم، لرميتم الكتاب، وهذا ما لا أتمنّاه، أودّ أن تقرأه ليس لمدة طويلة، وإنّما غالباً. فالتفهيم تحبيب. ذلك أنّ المرء لا يقدّر إلاّ الأعمال الطويلة، بيد أنّه من التعب أن يستغرق الجميل مدّة طويلة. قد نفضّل قصيدة يابانية من ثلاثة أبيات على "حوّاء" شارل بيغي المكوّنة من ثلاثمائة صفحة، أو إحدى رسائل مدام سيفينيه الصاخبة بالحبور والجرأة والسلاسة، على واحدة من روايات الماضي المصنوعة من قِطع مَحوكة، روايات كانت تزعم بأنّها عملت ما عليها من أجل المبنى، إنْ استجابت لمستلزمات الأطروحة.
هناك الكثير من قصائد النثر كُتبت خلال الثلاثين أو الأربعين سنة، ولا أعرف شاعراً واحداً فهم ما الموضوع، أو ضحّى بطموحاته الأدبيّة في سبيل تأسيس واضح لقصيدة النثر. إنّ روعة العمل لا تكمن في الحجم، بل في موقعه وأسلوبه. وكأنّي أزعم أنّ "كوب الزّار" يمكنه أن يقدّم للقارئ وجهة النظر المزدوجة هذه.
الانفعال الفنّي لا هو بفعل حسّي ولا هو فعلٌ "عواطفي"، فالطبيعة تعطينا إيّاه، من دون هذا. الفنّ موجودٌ، ويلبّي حاجة: الفنُّ ترفيهٌ. وظنّي صحيحٌ: فهي النظرية التي منحتنا شَعباً رائعاً من الأبطال، واستذكاراً فعّالاً للأوساط حيث يُشفى غليلُ الفضول المشروع والطموحات البورجوازيّة سجينة أنفسها. لكن يجب أن نعطي كلمةَ ترفيه معنى أوسع. فالعمل الفنّي هو القوّة التي تجذب وتمتص القوى المتيسّرة في هذا الذي يدنو منه. ثمّة شيءٌ أشبه بالزواج والهاوي سيلعب فيه دور الزّوجة. ويقتضي هذا الإرادة والثبات. تلعب الإرادة، إذنْ، دوراً رئيساً في عملية الخلق. وما يتبقّى ما هو إلاّ طُعم أمام الفخ. على أن الإرادة لا يمكنها أن تعمل إلاّ في اختيار الوسائل، ذلك لأنّ العمل الفنّي ليس سوى مجموع من الوسائل. وهانحن نصل من أجل الفنّ إلى التعريفَ الذي أعطيتُه للأسلوب: الفنّ هو إرادة الكشف عن الباطن بوسائل مختارة. التعريفان يتوافقان والفن ليس إلاّ الأسلوب. الأسلوب هنا باعتباره تحويلَ المواد إلى عمل، وتركيباً للمجموع، وليس بصفته لغة الكاتب. ومفاد ما أقول إنّ الانفعال الفنّي هو نتيجة نشاطٍ في حالة تفكير صوب نشاط منتهي التفكير. أستخدم "في حالة تفكير"، من دون طيبة خاطر. لأنّني مقتنع بأنّ الانفعال الفنّي يكفّ حيث يتدخّلُ التحليل والفكر: فالتأمّل وإحداث انفعال الجمال هما شيء آخرَ. إنّي أضع الفكر مع طُعم الفَخّ.
كلّما عظم نشاط الذات، ازداد معه الانفعال الناجم عن الموضوع. على العمل الفنّي أن يكون بعيداً عن الذات. لهذا السبب يجب أن يكون مُمَوْقَعاً، مُحدَّد الموقع. قد نواجه هنا نظرية بودلير في المفاجأة. النظرية هذه غليظة بعض الشيء. إذ كان بودلير يفهم الترفيه بالمعنى العادي جداً للكلمة. ذلك أنّ الإدهاش شيء بسيط، إذ يجب أن نَزْدرع، أي أن ننقل الشتلَ من مكانه ونزرعه في مكان آخر. المفاجأة تجذب وتعيق الإبداع الحقيقي. إنّها مؤذية ككلّ المفاتن. على المبدع أن لا يكون جذّاباً إلاّ بعد انقضاء الأمر، أي عندما يتم تحديد موقع العمل وأسلوبه.
فلنميّز في عملٍ ما، إذن، الأسلوبَ من الموقع. الأسلوب أو الإرادة يخلق، أي يفصل. أمّا الموقع فإنّه يُبعد، أي يحثُّ على الانفعال الفنّي، إذ ما إن يعطي عملٌ ما إحساساً بالقَفلة، حتّى نتبيّن أنّ له أسلوباً، ونعرف، من خلال الصدمة الصغيرة التي نتلقاها والهامش الذي يؤطّره، في الجو حيث يتحرّك، بأنه مُحدَّدُ الموقع. بعض أعمال فلوبير لها أسلوب ولكن ليس من عمل واحد مُحدَّد الموقع. مسرح "موسيه" مُحدَّد الموقع ويفتقر كثيراً إلى الأسلوب. عمل مالارميه مثال العمل المُحدَّد الموقع. ولو لم يكن مالارميه مُتصنّعاً وغامضاً، لصار كاتباً نموذجياً عظيماً. ليس لرامبو موقعٌ ولا أسلوبٌ، لديه المفاجأة البودليريّة، إنّه انتصار الفوضى الرومانتيكيّة.
لقد وسّع رامبو نطاقَ الحسّية مما جعل كثيرين من الأدباء يدينون له بالاعتراف، إلاّ أنّ مؤلّفي قصيدة النثر لن يستطيعوا أخذه مثالاً. ذلك لأنّ قصيدة النثر حتّى يكون لها وجود، عليها أن تخضع لقوانين، حالها حال كلّ فن. والقوانين هذه هي الأسلوب أو الإرادة والموقع أو الانفعال. رامبو يؤدّي إلى الفوضى والسخط فحسب. كما أنّ على قصيدة النثر أن تتجنّب الامثولات Paraboles البودليريّة والمالارميّة إذا أرادت أن تتميّز عن الأحدوثة Fable. مفهوم أنّي لا أعتبر قصائد نثر دفاترَ الانطباعات الطريفة التي ينشرها من وقت إلى آخر الزملاء الذين لهم نفقات (2). صفحةُ نثر ليست قصيدة نثر، حتّى لو احتوت على لُقيين أو ثلاث. إلاّ أنني أعتبر قصائد نثر تلك المسمّات "لُقى" عندما تُقدَّم مع هامش روحي ضروري. وبصدد هذا، أُحذّر كتّاب قصيدة النثر من الأحجار الكريمة الجدّ برّاقة التي تُبهر العين على حساب المجموع. القصيدة شيءٌ مُشيَّدٌ وليس واجهة جوهري. رامبو هو واجهة الجوهري، وليس الجوهرة. قصيدة النثر جوهرة (3)
قيمة عمل فنّي تكمن في ما هو، لا في المقارنة التي قد نقوم بها مع الواقع. نقول للسينمائي: "هذا هو بالضبط". ونردد أمام موضوع فنّي: "يا له من تناغم، أيّ متانة، أيّ مبنى، يا للنقاوة". تحديدات جول رينار (4) الرائعة تسقط أمام هذه الحقيقة. ذلك لأنّها أعمالٌ واقعيّة، بلا وجود حقيقي، لها أسلوب لكنّها غير مُحدّدة الموقع. فالفتنة ذاتُها التي تعيش عليها تقتلها. أعتقد أنّ جول رينار كتب قصائد نثر أخرى غير هذه التحديدات: للأسف لم أطلّع عليها، ومن المحتمل أن يكون مخترعاً لنمط كهذا الذي أتصوّره. أمّا حالياً، فإنّي أعتبر ألويزيوس برتراند ومارسيل شووب مؤلّف "كتاب مونيل" كلاهما لديه الأسلوب والهامش. وأقصد أنّهما يؤلّفان ويُمَوقعان. ولكن لي مآخذ على رومانتيكية الأوّل المنجزة "على غرار الفنان كالوت" كما يقول، التي بتعليقها أهميّة على ألوان جد عنيفة، تحجب العمل نفسه. لقد أعترف هو، على أيّ حال، أنّه كان يتصور قِطَعه، موادّ عملٍ ما وليس الأعمال المُحدّدة. وآخذ على الثاني أنه كتب حكايات contes وليس قصائد، ويا لها من حكايات! ثمينة، طفوليّة وفنيّة! على أّنه من المحتمل أنّ هذين الكاتبين كانا مخترعي "قصيدة النثر" من دون علمهما.



هوامش

1 – على قصيدة النثر أن تكون حرّة وحيّة، على الرغم من القواعد التي تهذّبها أسلوباً (ملاحظة ماكس جاكوب).
2 – المقصود هنا بيير ريفيردي.
3 – في المقالة التي كتبها عن كتاب ألويزيوس برتراند "غاسبار الليل"، دافع بروتون عن رامبو ضد موقف ماكس جاكوب هذا بالحرف التالي: "إن التمييز الجذاب الذي يُلزمنا به مؤلف "كوب الزار" بين قصيدة رامبو وقصيدته، يبدو لي مرتكزاً على أساس. لكن ليترك لي فرصة إبداء الرأي مع رامبو من أجل التجزئة. إن جحيم الفن، يا عزيزي ماكس، لهو زاخر بمثل نيّاتك (يلمّح هنا بروتون إلى مثل فرنسي هو "الجحيم زاخر بالنيات الطيبة" والمقصود من هذا المثل: لا يُكفي حُسن النيّة إن لم يدعمه العمل). ليست لـ"الاشراقات"، في المقابل، أية علاقة بالنظام العروضي، كما أن أمر التواصل مع "أنا" كل واحد منا الأكثر صميميةً، قد أعطيَ لها، ولها الحق في أن تجعلنا نتذوّق ملذات هذه "المطاردة الروحية" التي ليست، بالنسبة إلينا، مجرد مخطوطة ضائعة".
3 – جول رينار روائي فرنسي (1864-1910). و"تحديدات" إشارة إلى كتابه "التاريخ الطبيعي"؛ حكايات تدور معظمها حول عالم الحيوان وأسلوبها يقترب جداً من قصائد النثر.





15 قصيد نثر


الأدب والشِعر

حدث هذا في ضواحي مدينة لوريان، كانت الشّمسُ مشرقةً، وكنّا نتنزّه، ناظرين في أيّام أيلول تلك، إلى البحر وهو يرتفع، يرتفع فيغطّي الغابات، المناظر، الأجراف. وسرعان ما لا يبقى لنا لصدّ البحر الأزرق سوى مساتل الغَلَل حيث يتعوَّجُ الماء في جرْيه بين الأشجار، فأخذت العوائل يقترب بعضها من بعض. كان ثمّة طفلٌ معنا مرتدياً بدلة بحريّة، كان حزيناً، أخذني من يدي، وقال لي: "كنتُ، يا سيّدي، في نابولي، أتعرف أنّ في نابولي الكثير من الشوارع الصغيرة، مما يمكنكَ أن تبقى وحيداً في الشوارع من دون أن يراك أحدٌ. وهذا لا يعني أنّ هناك كثيراً من النّاس في نابولي، إنّما الكثير من الشّوارع إلى درجةٍ أنّ لكلِّ شخص شارعاً واحداً". – "أيّة كذبة هذه يرويها لك الآن"، قال لي والد الطفل، "لم يكن أبداً في نابولي". ابنك شاعرٌ أيّها السيّد، وهو أمرٌ حسن، لكن لو كان أديباً للويتُ عنقَهُ. إنّ المساتِلَ التي تركها البحرُ ناشفةً جعلته يحلُم بشوارع نابولي.



حياتي

المدينة التي علينا أخذُها تقع في غرفة. غنيمة العدو ليست ثقيلة ولن يحملها معه لأنّه ليس في حاجة إلى نقود، إذ أنّ الأمرَ حكايةٌ مجرّد حكاية. للمدينة أسوارٌ مصنوعة من خشب مصبوغ: نقطّعه حتّى نلصقه على كتابنا. ثمّة فصلان أو قسمان. ذا هو ملكٌ أحمرُ ذو إكليل ذهبيّ يرتقي منشاراً: هذا الفصل الثاني، أمّا بصدد الفصل الأوّل فإنّي لم أعد أتذكّر.



شارع رافينيا

"لا ينزل الإنسان مرتين في النهر ذاته"، كما كان يقول الفيلسوف هيراقليطس. ومع هذا، فإن الأشخاص الذين يصعدون الشارع هم الأشخاص عينهم! يمرون في الساعة ذاتها، فرحين أو حزينين. يا عابري شارع رافينيا، أعطيت جميعكم أسماء موتى التاريخ! هذا أغاممنون! هذه السيدة هانسكا! عوليس لبّان! باتروكل عند أسفل الشارع، بينما فرعون قرب بيتي. كاستور وبولوكس سيدتان تسكنان الطابق الخامس. لكن أنت، يا عزيزي جامع الخرق، أنت الذي، في صباح خلاب، تأتي لرفع نفايات لا تزال حيّة، عندما أطفئ مصباحي الجيد الكبير، أنت الذي لا أعرفه، يا جامع الخرق المسكين والغامض، أنت، يا جامع الخرق، أعطيتك أنبل اسم وأشهر من علم، سميتك دوستويفسكي.



شحاذة نابولي

عندما عشت في نابولي، كان عند بوابة قصري، امرأة شحاذة كنت القي إليها بقطع نقدية قبل الدخول إلى مآربي. ذات يوم، مستغربا من أني لم أتلق أيّ شكر منها نظرت إلى المرأة الشحاذة. الآن، بعد أن نظرت، رأيت أن ما كنت اعتبره امرأة شحاذة، كان صندوقا خشبيا مصبوغا بلون اخضر، يحتوي على طين احمر وبضع موزات نصفها فاسد.




ليلة جهنمية

يسقط على كتفي، شيءٌ باردٌ بشكل فظيع. شيءٌ لزج يلتصق بعنقي. يصرخ صوت من السماء "وحش!" دون أن اعرف إذا كان يقصدني ويقصد عيوبي أو يرشدني إلى الكائن اللزج الملتصق بي.



نجاح الاعتراف

في الطريق المؤدي إلى ساحة السباق، كان هناك شحاذ لا يختلف عن خادم: "اشفقوا عليّ، يقول، انا ذميم، سألعب بالفلوس التي تعطوني إياها". هكذا اعترف بسرعة. حقق نجاحا كبيرا، وكان يستحقه.


الخراب الحقيقي
عندما كنت شاباً كنت اعتقد أن الجن والجنيات كانوا يعانون لإرشادي، ومهما كانت الشتائم التي تنهال علي، بقيت معتقدا أن شخصا ما كان يوحي للآخرين بكلمات غرضها لصالحي وخيري فحسب. أفادني يُعلِمني الواقع والكارثة اللذان جعلاني مغنّيا في هذه الساحة، أن الآلهة كانت دائما تتخلى عني. أيها الجن! أيتها الساحرات! أعيدوا إلي اليوم وهمي.


تناسخ

هنا ظلامٌ وصمتٌ! لبرك الدم شكلُ الغيم. زوجات القاتل ذي اللحية الزرقاء، السبْع، لم يعدن موجودات في خزانة الحائط. لم يبق منهن شيء سوى قبّعة الراهبات هذه المصنوعة من الشَّاش. لكن انظروا هنالك، هنالك، في المحيط، سبع سفن شراعية، سبع سفن شراعية حبالها تتدلّى من أشرعة الصواري في البحر مثل جدائل على أكتاف النساء. إنها تقترب، تقترب! إنّها هنا!



رواية شعبية

لم تبق سوى كلمة أو كلمتين وأنتهي. عليّ أن أجيب قاضي التحقيق عوضاً عن صديقي. أين المفاتيح؟ إنها ليست في المشجب. عفوك يا حضرة القاضي، يجب أن أعثر على المفاتيح. هاهي، وجدتها! ياله من وضع بالنسبة للقاضي! بصفته عاشقاً أخت الزوجة، كان مستعداً للتخلي عن أخذ القضية على عاتقه، لكنها جاءت تترجاه أن يصدر حكماً بابطال المحاكمة، وهي ستكون له. في العمق، القاضي جد منزعج من هذه القضية. فهو يتوقف عند التفاصيل: لماذا كل هذه الرسوم؟ أخذُ درساً حقيقياً في علم الجمال. ففنان حوله كثير من الأعمال يبحث عن أشكال. يحل المساء؛ القاضي لا يفهم، يتكلم عن تزويرات. أصدقاء يصلون. زوجة المتَّهم تقترح على الجميع نزهة بالسيارة، يقبل القاضي على أملِ أنْ يعرفَ المتَّهمُ كيف يهرب.


الحرب

في الليل، الشّوارع الخارجية مغمورة بالثلج؛ قطّاع الطرق جنود؛ يهاجمونني بالضحكات والخناجر، ينهبونني: أنجو لكي أسقط ثانيةً في مربّع آخر. أهو فناءُ ثكنةٍ أم حوشُ نزلٍ؟ مجرّد خناجر! مجرّد رمّاحين! الثلج يتساقط! أُنخَزَ بمزرقٍ: إنّه سُم لقتلى؛ رأسُ هيكلٍ محجب ببرقع الحداد يعضّ إصبعي. مصابيح غير مُحددة تُسقِطُ على الثلج نورَ موتي.



صمتٌ في الطبيعة

عندما نذهب، كلبي وأنا، بين التلال المشجّرة لصيد الطيور، كان راتو يتسلّى برسم ثمانية إزاء خطواتي، وكلّما أسرعتُ ازدادت متعتُه، وكم طار فرحاً، ما إن ركضتُ. إنه كلب أوكار، كانت له بقعة سوداء على أذنه اليسرى، وأخرى على الذيل.



معجزات حقيقية

القس الطاعن في السن، بعد أن رحل عنّا، رأيناه يطير فوق البحيرة وكأنّه خفاش الليل. كان غارقاً في أفكاره حتّى أنّه لم يلاحظ أنَ هذا الطيران معجزةٌ. حاشيةُ مُسوحه تبلَّلت، وكلُّهُ عَجَبٌ.



لغز السّماء
عند عودتي من الرقص، جلستُ إلى النافذة، ورحت أتأمّل السماءَ: خُيّلَ لي أنّ الغيوم كانت رؤوساً ضخمة لمسنّين جالسين حول مائدة وقُدّم لهم طيرٌ أبيض متحلّ بريشه. نهرٌ طويلٌ عَبَر السّماء. خفضَ أحدُّ المسنّين نظرهُ صوبي، بل إنه راح يكلّمني، عندما انقشعت الروعةُ، تاركةً النجومَ الصافية تتلألأ.



المفتاح

عندما عاد سيّد فرامبوازي من الحرب، عنّفته زوجته، فردّ عليها: "هاكِ، يا سيّدتي، مفتاح كلّ ما أملك، فأنا ذاهب إلى الأبد". وبسبب نعومتها، أسقطته على بلاطة المعبد. ثمّة راهبةٌ، في زاوية، كانت تصلّي لفقدانها مفتاح الدير، ولم يعد في قدرتها الدخول. "فلنر إن كان هذا القفل يلائمه هذا المفتاح". لكن المفتاح لم يعد هناك. إذ هو، الآنَ كتحفة في متحف "كلوني". كان مفتاحاً جسيماً أشبه بجذع الشجر.



تدنٍّ عالٍ

المنطاد يرتفع، إنّه لامعٌ ويحمل نقطةً أكثر لمعاناً. ما مِن شيء يمنعه من الارتفاع! لا الشمس المائلة التي تُلقي وميضاً مثل وحش شرّير يُلقي سحراً، ولا صراخ الجموع، كلا! فهو والسماء ليسا سوى نفْس واحدة: السماء لا تفتح نفسَها إلاّ له. لكن، حذاركَ أيّها المنطاد، حذارك! أيّها المنطاد التعيس، في قبّتك الاسطوانيّة ثمّة ظلال تتحرّك! المنطاديون سكارى.

عاشق من فلسطين
09/06/2005, 17:38
السوريالية وقصيدة النثر: بروتون وايلوار
GMT 20:00:00 2004 الخميس 9 سبتمبر
عبدالقادر الجنابي



--------------------------------------------------------------------------------




أندريه بروتون



اصدر بروتون سنة 1919 مجموعته الشعرية الأولى تحت عنوان "محل الرهونات" Mont de piété وكأنه يسدد ديوناً أدبية للشعراء الذين تأثر بهم، وتتجلى فيها بكل وضوح تأثيرات رامبو، فاليري، مالارميه، ريفيردي وابولينير، كما اعتمد تقنية جديدة وهي مونتاج فقرات مقتطفة من جريدة أو مجلة. ولئن تفصح المجموعة عن محاولات تجديد يتجلى فيها رفضه المبكر للمقاييس الأدبية السائدة، فإن بروتون كان غير راض عما يكتبه، إذ ثمة شيء ناقص لم يع آنذاك ما هو. وذات مساء، وهو على وشك أن ينام، سمع بوضوح جملة بدت له ملحاحة، كانت "تقرع زجاج نافذتي"، وحين حاول تدوينها لم يتذكرها بالضبط، شيء من هذا القبيل: "ثمة رجل تشطره النافذة إلى نصفين"، ولكنها لا تحتمل أي لبس، إذ كان يرافقها تخيل بصري طفيف لرجل يسير وقد شطرته نافذة شاقولية حتى مدار جسمه. وما من شك أن الأمر كان يتعلق برجل يطل من نافذته... فأدرك بروتون أنه يتعامل مع صورة من النوع النادر، ولم يخطر له في العاجل سوى إدخالها في صلب مواد بنائه الشعري. وبينما كان مشغولاً بفرويد وقد ألِفَ طرقَ فحصه التي اتفق له أن طبّقها على بعض المرضى، فقد صمم على أن يحصل من نفسه ما كان يحاول الحصول عليه منهم، أي على مونولوغ منطوق بأسرع ما يكون من دون أي تدخل من الحواس النقدية، وبالتالي مونولوغ غير متلبك بأدنى الطموحات، وأقرب إلى التفكير الشفهي... وقد بدا له أنّ سرعة التفكير لا تفوق بكثير سرعة الكلام وأنّها لا تتحدى اللغة حتماً ولا حتّى القلم الذي يجري بها. وبعد أن اطلع بروتون فيليب سوبو على هذه النتائج الأولية، أخذا يسوّدان رزمة ورق بكل ما يتقطّر من سنان مخيلتهم. وهما في ازدراء محبب لما قد ينجب عن فعلتهما في عالم الأدب، وبتعليقهما العالم الخارجي، أرادا أن يعيدا، طوعاً، داخل ذواتهما الحالة التي كانت تتشكل فيها هذه الجمل المشبعة بالألغاز. وليست "الحقول المغناطيسية" التي صدرت في 1920، سوى التطبيق الأول لهذا التجريب الذي سيؤدي إلى نتائج تغييرية إزاء بنية الشعر والكتابة بشكل عام. لم يتأخر بروتون عن منح الكتابة الاوتوماتيكية أهمية فلسفية كبرى أكثر من اعتبارها مجرد مواد للكتابة الشعرية. بل اعتبرها الشرارة التي ستذكي نار السوريالية نوراً في نفق الوجود. إذن ليس اعتباطاً أن تكون في صلب التعريف الذي وضعه بروتون سنة 1924 للسوريالية: "اسم مؤنث، وهي الآلية النفسية المحض التي يريد المرء عن طريقها التعبير شفوياً أو كتابياً أو بأيّة طريقة أخرى عن وظيفة الفكر الحقيقية. وهي ما يملي الفكر بعيداً عن أية رقابة يمارسها العقل وبعيداً عن أي اهتمام جمالي أو أخلاقي. في الحقيقة إن "الحقول المغناطيسية" كشفت عن رفض لا رجوع عنه لكل التحديدات والمقاييس التي تريد أسر الفعالية الشعرية في زنزانة جنس أدبي ما. ففيها اختلطت القصائد المشطرة إلى أبيات حرّة Vers libre لا تلتزم لا بقافية ولا بوزن، مع النصوص النثرية المنسوجة بالصور، التي تتلاحق وتتراكض عبر الورق نصاً سردياً يتجاوز الصفحة أو الصفحتين. وليس غريباً أن أحد النقاد الذين تناولوا الكتاب آنذاك اعتبر هذه النصوص كقصائد نثر وبالمعنى الرامبوي للكلمة. وقد كتب بروتون، وكأنه وقع على مفهوم جديد يتجاوز مفهوم قصيدة النثر الضيق، 32 نصاً تحت عنوان "أسماك ذَوَبانيّة". ومن غرائب الأمور أنه قرر أن ينشرها مع مقدمة، غير أن المقدمة طالت وأصبحت بيانا هو البيان السوريالي الأول المشهور. في الحقيقة، إنّ الكتابة الاوتوماتكية، سرد الأحلام والنصوص التي يتم الحصول عليها بواسطة التنويم المغناطيسي، أصبحت منطلقات أساسية للشعرية الحديثة. وأصبح ما يسمى "سرديّة" (Le récit) مدخلاً إلى عالم شعري مفتوح لا يقبل أي تقنيات ثابتة وتحديدات للقصيدة. فالقصيدة في المشروع السوريالي تفرض شكلها هي غير ملتزمة بمسافات كلامية: نصف صفحة، أو عشر صفحات، نثراً كتلوياً أو أبياتاً مشطرة. في الحقيقة أن قصيدة النثر، بعد السرد السوريالي للأحلام والإنجاز الاوتوماتيكي للكتابة، خرجت من محدوديتها الكلاسيكية محتضنةً فضاء النثر الأوسع. فها هي القصيدة الفرنسية الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، تبرز كاستخلاص راديكالي للإرث الكلاسيكي لقصيدة النثر ( بودلير، رامبو، لوتريامون) وبوتقتها في إطار محدد (جاكوب وريفيردي إلى حد ما)، وما جاءت به السوريالية من طرق لتحرير اللغة بغية استخدامها حلُميّاً (بروتون، أرتو، إيلوار) وبالتالي خلق باب دوّار داخل الإطار نفسه. كما أن بروتون قبل تأسيس الحركة السوريالية، أوضح موقفه من كل محاولة تريد جعل قصيدة النثر فنّاً شعرياً، وذلك في عرضه القصير لكتاب ألويزيوس برتراند "غاسبار الليل"، في مجلة "أدب" (1921):

"لعلّ "غاسبار الليل" لا يستوقف النظر إلاّ كتسجيل في تاريخ الأدب. فهو، على طريقته، يدعو إلى الاعتقاد أنّه لا يوجد شرط أخلاقي للجمال. واعتباراً منه بدأنا الاهتمام في شيء آخر مغاير لسباق العوائق. انه لغير مقبول أن تتغلب اللغة بوقاحة على صعوبات مقصودة (علم العَروض)، أو أن يقتصر طموح الشاعر على تعلّم الرقص في العتمة بين الخناجر والقناني. أنّ أمنية بودلير "مَن مِنّا لم يحلمْ، في أيّام الطموح، بمعجزةِ نثرٍ شعريّ، موسيقى من دونَ إيقاع أو قافيةٍ، فيه ما يكفي من المرونة والتقطّعِ حتّى يتكيّفَ مع حركاتِ النفس الغنائيّة، وتموّجات أحلام اليقظةِ، وانتفاضات الوعي"، لهي من السهل أن تُؤول بهذا المعنى. صحيح أن نثر ألويزيوس برتران يختلف بشكل ملموس عن هذا المثل الأعلى، ويبدو أن بودلير نفسه لم يكن موفّقاً أيضا. كلاهما لم يكف عند الكتابة عن احتلال مكان داخل إطار القصيدة بحيث أن توطد سريعاً نمطاً فيمكننا تعلّم قواعد لعبة جديدة. ومن حينها أخذنا "نؤلّف" قصائد نثر تماماً كسوناتات. هاهما السيدان بيير ريفيردي وماكس جاكوب يجعلان نفسيهما سيدين لهذا الشكل. ويتأسفان على أن العملة القديمة لم تحافظ على قيمتها."
إن قصيدة النثر، بعد أن "ذهبت بها السوريالية إلى أبعد الحدود في الدرب الذي شقه لوتريامون"، أصبحت لدى بروتون تدل إلى سرد مختلج يرسلُ على الشعر شعاعاً نافذاً إلى صميمه فاتحاً إيّاه على آفاق جديدة.



خرائط على الكثبان
إلى غيسيبّي أونغاريتي

جدولُ مواقيت الأنهار الجوفاء والوجنات البارزة، يدعونا إلى مغادرة الممالح البركانيّة إلى أحواضٍ مخصصة للطيور. فوق منديل ذي مربّعات شطرنجيّة متورّدة، مرتّبةٌ أيّام السنة. لم يعد الهواء نقياً، الطريق لم تعد عريضة كالبوق المشهور. في حقيبةٍ رُسمَ فوقها ديدان خضراء كبيرة، نحملُ هذه الأمسيات الفانية التي هي موضع الرُّكب على مَجْثى. دراجات هوائية صغيرة مضلّعة تطوف فوق بار الحانة. أُذن الأسماك، متشعّبة أكثر من زهر العَسَل، تسمع الزيوت الزرقاء تنزل. ومن بين البرانس الزّاهية التي تضيع عبوتُها في الستائر، ميّزتُ رَجلاً مُتحَدِّراً من دمي.


الغابة في الفأس

أحدٌ توفي منذ لحظة، لكنني حيٌّ ومع ذلك لم يعد لي روح. لم يعد لي سوى جسدٍ شفّاف في قراره يمامات شفّافة تُلقي بنفسها على خنجر تمسكه يد شفّافة. أرى الجهدَ بكلِّ جماله، الجهد الحقيقي الذي لا يَزنُه أي شيء، قُبَيْل ظهور النجمة الأخيرة. إنّ الجسد الذي أسكنُ يشبه كوخاً وبسعر مقطوع، يمقت الروح التي كانت لي والطافية بعيداً. حان وقت الانتهاء من هذه الثنائية التي كثيراً ما أُعاب عليها. لقد ولّى الزمن الذي كانت تغرف فيه عيونٌ بلا نور وبلا خواتم، الكَدَر من غدائر اللون. لم يعد ثمّة أحمر أو أزرق. إنّ الأحمر – أزرق بإجماع الآراء، يزول تباعاً وكأنّه أبو الحِنّاء في سياجات عدم الانتباه. أحدٌ توفي منذ لحظة، - لا هو أنت، لا هو أنا ولا هم بالضبط إنّما نحن كلّنا، ما عداي أنا الباقي على قيد الحياة بطرق عديدة: فمثلاً، لا أزال أحسّ البرد. يَكفي! ناراً، ناراً. أو حجراً أفلقُه، أو طيراً أتبعه، أو مِشدّ أشدّه بحزم على خواصر النساء الميّتات، حتّى يُبعثن، ويعشقنني بشَعرهن المتعب وبنظراتهن المنكسرة. ناراً، حتّى لا نموت من أجل مجرّد أجاص منقوع في مشروب روحي. ناراً، حتّى لا تعود قبّعة القش الإيطالية مجرّد مسرحية. آلو، المَخضَرة، آلو المطر، هذا أنا نفَسُ الحديقة اللاحقيقي هذه. التاج الأسود الموضوع على رأسي إنّه صرخة الغربان المهاجرة، إذ لم يكن هناك حتّى الآن سوى مدفونين أحياء، بأعداد صغيرة على كلّ حال، ذا هو أنا الميّت المُهوّى الأوّل. لكنْ لي جسدٌ حتّى لا أتخلّص من نفسي، وحتى أنتزع إعجاب الزواحف لي. يدان دمويتان، عينا نبات الهَدال، فمٌ من ورقةٍ ميتة وكأس (الأوراق الميّتة تهتز تحت الكأس؛ ليست حمراء بالقدر الذي نعتقده، عندما تكشف اللامبالاة عن مناهجها النهمة)، يدان لأقطفكِ، يا صعتر أحلامي المتناهي الصغر، إكليل جبل اصفراري الشديد. لم يعد لي ظلّ أيضاً. آه يا ظلّي، ظلّي العزيز. عليّ أن أكتب رسالة طويلة إلى هذا الظل الذي فقدتُه. شايف كيف. لم تعد هناك شمس. لم يعد هناك سوى مدارٍ من أثنين، رجلٍ من ألف، امرأة من الغياب الفكري الواصف بالأسود الصرف هذا الزمن اللعين. المرأة هذه تحمل باقةً من الخوالد على هيئة دمي.


خصوصي

معتمراً قبّعةً رصاصية اللون، طفق يتقلب على ملصق أملس حيث ريشتان فردوسيتان تقومان لديه مقام مهمازين. أمّا هي، فمن مفاصلها الخاصة في أعلى طبقات الهواء تنطلق أغنية الأجناس المشعّة. وما يبقى من المحرِّك المضرّج بالدم يكتسحه الزُعرور: في هذا الوقت يسقط الغوّاصون الأوائل من السماء. وفجأة تَلطّفَ الجو، وأخذتْ الخفّةُ كلَّ صباح تهزهز شعرها الملائكي فوق أسطحِنا. ما الفائدة، ضد السحر المؤذي، في هذا الكُلَيْب الضارب إلى الزرقة ذي الجسد المأسور بلفافة لولبيّة من الزجاج الأسود؟ ألا تستطيع عبارةُ "مدى الحياة" أن تُشعل لمرّة واحدة لا غير، خيطاً أبيض من خيوط الفجر الشمالي البيضاء، يُصنعُ منه غطاءُ طاولة يوم الحساب.



من "أسماك ذَوَبانيّة"
2
أقل من الوقت الذي نحتاجه لنقولها، أقل من الدموع التي نحتاجها لكي نموت، أحصيت كل شيء، هاهي. أجريت تعداداً للحجر، فكان بعدد أصابعي وأصابع أخرى؛ وزعت مناشير للنباتات، لكنها رفضت أن تأخذها. شاركت الموسيقى للحظة واحدة، والآن لا أعرف ماذا أقول في الانتحار. فإذا أريدُ أن أنفصل عني، فالمخرج من هذا الجانب، وأضيف بخبث: المدخل، المدخل من الجانب الآخر. أترى، ما الذي تبقى عليك لتفعله. الساعات، الأسى، ليس لدي أي إحصاء معقول لهما؛ فأنا وحيد، أنظر عبر النافذة: لا أحد يمر، بالأحرى لا يمر أحد (أشدد على "يمر"). السيد هذا ألا تعرفونه؟ إنه السيد "الشخص ذاته". أقدم إليكم السيدة سيدة. وأطفالهما. ثم أنكص على عقبي، أعقابي هي أيضاً تنكص، لكن لا أعرف على ماذا تنكص بالضبط. أستشير توقيت القطارات: أسماء المدن استبدلت بأسماء أشخاص مسّوني عن قرب. هل أذهب إلى "ألف"، هل أعود إلى "باء"، هل أغير في "عين":. نعم، طبعاً سأغيّر في "عين". شرط أن لا يفوتني القطار إلى الضجر! وصلنا: الضجر، المتوازيات الجميلة. كم هي جميلة المتوازيات تحت قائم الله العمودي.



20
عنَّ لشخص ما ذات يوم أن يجمعَ في كأسٍ من الطين الأبيض زغبَ الفواكه؛ وقد طلى بهذا البخار مرايا عدة وعندما عاد بعد زمن طويل، كانت المرايا قد اختفت. نهضت واحدة بعد الأخرى وخرجت مرتعشة. وبعد زمن أطول، اعترفَ شخص ما بأنه قد التقى، عند عودته من عمله، بإحدى هذه المرايا، فأقترب منها تدريجاً وأخذها إلى بيته. كان شاباً مبتدئاً جميلا جداً، ملابس عمله الوردية جعلته يشبه حوضاً مملوءاً بالماء غُسِلَ فيه جرحٌ ما. ولرأس هذا الماء ابتسامة كأن ألف طير يبتسم في شجرة ذات جذور غائصة. صعّد المرآة بسهولة في بيته وكل ما تذكّره هو أن بابين قد أصطفقا عند مروره، مقبض كل واحد منها كان يؤطرها لوح زجاجي ضيق. كان قد أبعد ذراعيه ليسند حِملَهُ الذي وضعه فيما بعد بألف حذر في زاوية الغرفة الوحيدة التي كان يسكنها في الطابق السابع، ثم خلد إلى النوم. طوال الليل، لم تغمض له عين؛ كانت المرآة تتغوّر انعكاساً سحيقاً لم يُعرف من قبل ولمدى لا يُصدق. لم يكن للمدن سوى وقت الظهور بين سُمْكيها. مدن من الحمى شقَّت عُبابَها النساء فقط من جميع الجهات، مدن مهجورة، مدن ذات عبقرية أيضاً، تعلو بناياتها تماثيل متحركة، وبنيت فيها مصاعد الحمولة على شكل البشر، مدن عواصف فقيرة، وهذه المدينة أجمل وأكثر تهرباً من الأخرى التي فيها القصور والمعامل على شكل أزهار: فذات اللون البنفسجي مثلا كانت مربطَ قوارب. عوضاً عن الحقول ثمة سماوات على الوجه الآخر من المدن، سماوات ميكانيكية، سماوات كيميائية، سماوات رياضية، حيث كانت صور البروج تتحرك، كل واحدة في محيطها، إلاّ أن الجوزاء كانت تعود أكثر من الأخرى. أستيقظ الشاب في الساعة الواحدة فزعاً إلى المرآة مقتنعاً أنّها أخذت تميل منحنيةً إلى الأمام وعلى وشك أن تقع. استقامَها بصعوبة. فإذا هواجس أخذت تساوره، حتّى قرر أن العودة إلى الفراش أمر خطر فبقي جالساً على كرسي أعرج على بعد خطوة فقط من المرآة وبمواجهتها بالضبط. شعر بتنفسِ شخصٍ غريب في الغرفة... لاشيء. ثم رأى شاباً أسفل الباب الكبير، والشاب هذا كان عارياً ولم يكن خلفه سوى منظر أسود ربما مصنوع من ورق محروق. فقط أشكال الأشياء بقيت وكان من الممكن التعرف على جوهر هذه الأشياء المسبوكة منه. في الواقع، ليس في الأمر خطورة. فبعض هذه الأشياء كانت تعود له: مجوهرات، هدايا حب، بقايا طفولته، بل حتى قنينة العطر هذه التي لا يمكن العثور على سدادتها. أما الأشياء الأخرى فكانت غريبة عليه، ومما لا شك فيه أنه لم يستطع استجلاء ما تنطوي عليه من وظيفة في المستقبل القريب. كان المبتدئ ينظر أبعد فأبعد في الرماد.خامره ارتياح فيه شيءٌ من الشعور بالذنب، من رؤية هذا الشاب المبتسم ذي الوجه الشبيه بَكرةٍ في داخلها ضُرَيسان يطيران، يقترب من يديه. أخذه من خاصرته التي هي خاصرة المرآة، أليس كذلك، وما إن غادرت الطيور، حتّى ارتقت الموسيقى طول الخط الأبيض الذي كان يتركه وراءه طيرانهم. ما الذي حدث في هذه الغرفة؟ المهم، أن المرآة منذ ذلك اليوم لم يُعثر عليها، ولم أقرّب فمي من إحدى شظاياها المحتملة الوجود، من دون أن يصيبني انفعال شديد حتى لو لن أرى في آخر الأمر ظهور الخواتم المصنوعة من زغب الطير، البجعَ على وشك الغناء.







بول ايلوار

شارك إيلوار مع بروتون في نشاطات الحركة الدادائية ومن بعدها الحركة السوريالية، ثم أنسحب أواخر ثلاثينات القرن الماضي لينضم إلى الحزب الشيوعي وفيما بعد إلى سلك المقاومة ضد النازية. بصفته مناصراً للكتابة الآلية وللسردية الحلمية، كتب إيلوار عدداً كبيراً من القصائد النثرية إبّان نشاطه السوريالي. تتميز هذه القصائد بوضوح أكثر من قصائد بروتون الثرية بالمجازات. فالكلمات تسيل بحرية وببراءة العشق الطفولي. وسيولتها الواقعية تستفز وتنعش في آن، فاتحةً كل الأبواب المفضية إلى بهو الكلمات المستحمات في نهر الرائع والمدهش.

تتجسد أحياناً قصائد إيلوار النثرية في جمل قصيرة بلا فعل، النعوت فيها ليست جزافاً، وأحيانا أخرى تتقلص القصيدة إلى مجرد جملة واحدة كقصيدة "الموت". كما أن قصائده هذه لا تعتمد صدمة الصورة؛ وهي بطيئة الجُمل: إذ للكلمات دوما هوامش بيضاء كبيرة، هوامش صمت، في دفاتر الآخرين، حيث لا حدود سوى كلمات عزلاء؛ ذاكرة تضمحل لكي تخلق هذياناً بلا ماض.


إنسان

إقامة رائعة. سواقٍ خضراء، عناقيد من التلال، سماوات لا تلقي ظلاّ، أوعية الشَعر، مرايا المشروبات، مرايا الشواطئ، أصداء الشمس، بلّور العصافير، وفرةٌ، حرمان، الإنسان ذو القشرة المَساميّة جائع وعطشان. الإنسان، من أعلى فكرة موته، ينظر مليَّ التفكير الأسرارَ الخيّرة.


الملكة الديناريّة

في صغري، فتحتُ ذراعيَّ للنقاء. لم يكن ذلك سوى تصفيق أجنحة في سماء خلودي، سوى خفق قلب عاشق يخفق في الصدور المغزوّة. لم أعد أستطيع السقوط.
مُحبّاً الحب. في الحقيقة، النور يبهرني. أحتفظ في داخلي ما يكفيني منه لأنظر الليل، كل الليل، الليالي كلُّها.
العذارى كلُّهن مختلفات. أحلم دوماُ بعذراء.
في المدرسة، جالسة على المصطبة أمامي، بردائها الأسود. وعندما تلتفت إلي طالبة منّي حل مسألة ما، براءةُ عينيها تربكني حتّى أنها، مُشفقةً على اضطرابي، تمرر ذراعيها حول عنقي.
وفي مكان آخر، تتركني. تأخذ مركباً. ونبدو واحداً غريباً على الآخر، لكنها جد شابة حتّى كأن قبلتها ليست غريبة عليّ.
وعندما تكون مريضة، فإني أُبقي يدها بين يديَّ حتى الموت، حتى اليقظة.
أركض جد مسرع إلى مواعيدها إذ أخشى أن لا يعود لي وقت لأصل قبل أن تحجبني أفكار أخرى عني.
ذات مرّة، كان العالم على وشك الانتهاء، ولم نعرف شيئاً عن حبنا. أخذت تبحث عن شفتي بحركات رأسها البطيئة والمداعبة. ظننت فعلاً أنّي، هذه الليلة، سأعيدها إلى ضوء النهار.
ودوماً الاعتراف نفسُه، الشباب ذاتُه، عيناها الصافيتان، الحركة الساذجة نفسها لذراعيها حول عنقي، المداعبة ذاتُها، البوح ذاته.
ولكن لم تكن أبداً المرأة ذاتَها.
قال ورق الحظ بأني سألتقي بها في الحياة، "لكن من دون أن أعرفها".
مُحبّاً الحب.


غسق

صحراء أفقية، صانع الزجاج كان يحفر الأرض، الحفّارُ يريد أن يشنق نفسَه والنسيان كان ينظّم نفسه في دخان رأسي.
كان الوقت ليلاً مظلماً حيث يستحيل التمييز بين الكلب والذئب، بين السخام والزفت. يا له من دُوَار. وقبل أن تتلاشى، كشّرت السماء تكشيرة قرناء. كنت أعيش، صغيراً، هنيَّ البال، متدفّئاً، لأنني رصّعت بغيظي النهاري الثمين الصدرَ القاسي لأعدائي المنهزمين.


منطق

الحجارة الأولى لهذا البيت الذي تحلمين به، لا وجود لها. إلاّ أنّ الغبار الأول لم يستقر أبداً على القصور التي كنا ندعم. كانت ثمة نوافذ مزدوجة، لكلينا، أضواء مستمرة وليال جسام، يا لك من عاطفيّة !


موت

الموت يأتي وحيداً، يذهب وحيداً، وهذا الذي أحبَّ الحياة سيبقى وحيداً.



نائمون

النائمون بيض مُعرّقون عروقاً شاحبة الخُضرة، وشفّافون أيضاً شفافية البلور الحجري؛ أفخاذهم تجعل خيوطَ النهار يدلفها. كما ليس لهم صلابة الرخام العادي، بل إنهم جد أرقّاء حتّى أننا نستطيع نحتهم وصوغهم بسكّين.
لكن ما إن نمسّ أجفانَهم حتّى يتصدّع الليلُ القاسي والقارس كصخرة من الأردواز.


المقص وأبوه

الصغير مريضٌ. سيموت الصّغير. الذي منحنا البصرَ، الذي حبس الظلمات في الغابات الصنوبريّة، الذي جفّفَ الشوارعَ بعد العاصفة. كانت له مَعِدة خدوم، كانت له، كان يحمل في عظامه أجمل الأقاليم اللطيفة ويُضاجع بروج الأجراس.
الصغير مريض. الصغير سيموت. من طرفٍ، كان يتعلّق بالعالَم وبالطير من الريش الذي جلبه الليلُ له. لقد ألبسوه فستاناً كبيراً، فستاناً على شكل سلّة، مُذهّبة الباطن، وعلى رأسه نُثار الورق الملوّن. الغيوم تنذر بأنّه لم تبق أمامه سوى ساعتين. ثمّة إبرةٌ، خارج النافذة، تسجّلُ اهتزازات احتضاره وفتراته، بينما الأهرامات في مخابئها المصنوعة من الدانتيلا السكّرية، كانت تؤدي الإجلال الكبير، والكلاب تختبئ في ثقوب الأحجيّة. فأعضاء الجلالة لا يحبّون أن يُرَوا يبكون. لكنْ، مانع الصواعق؟ أين هو صاحب السيادة مانع الصواعق؟
كان حنوناً، وديعاً كان. لم يجلد أبداً الرّيحَ، أو داس الطين بلا سبب. لم يُحجز أبداً في فيضان. سيموت. ليس هباءً، إذن، أن يكون المرءُ صغيراً!




تجميل

دخلت حُجَيْرتَها (*) لكي تُغيّر ملابسها، والمغلاة كانت تغرّد. تيّار الهواء المتسرّب من النافذة أغلق البابَ خلفها. راحت، لبرهة قصيرة، تجلو عريَها الغريب، الأبيض والمنتصب، تزيد من نضارة شعرها المُهمَل، ثم تندسُ في فستان الأرملة.


* - في المخطوطة الأصلية للقصيدة، مسح إيلوار petite chambre (غرفة صغيرة) ووضع مكانها chambrette أي حجرة في حالة تصغير.

عاشق من فلسطين
09/06/2005, 17:39
قصيدة النثر المفتوحة: ميشو، شار وبونج
GMT 14:30:00 2004 الإثنين 18 أكتوبر
عبدالقادر الجنابي



--------------------------------------------------------------------------------


ترجمة وتقديم عبدالقادر الجنابي





هنري ميشو (1899-1984) Henri Michaux
من أصل بلجيكي، ولد هنري ميشو في مدينة نامور سنة 1899، ويرحل فيما بعد إلى بروكسل للدراسة لدى اليسوعيين. وفي العام 1920، ترك الطب ليصبح نوتيّاً في مركب ذي صاريتين. بعد فترة قصيرة، يعود إلى مسقط رأسه وسَرَعان ما يغادرها إلى باريس حيث يستقر نهائياً، لكن هذا الاستقرار لم يمنعه من السفر وقتاً تلو آخر والتجوال في أماكن بعيدة "طارداً منه وطنَه، التزاماته من كل نوع وكل ما يربطه من ثقافة هيلينية، رومانية، جرمانية أو من عادات بلجيكية". بقي غير مهتم بعالم الكتابة حتى وقع، ذات يوم من العام 1922، على "أناشيد مالدورور" للوتريامون وعلى دراسات أصدرها السورياليون تحت عنوان "قضية لوتريامون" سنة 1925. فأفلتت فيه القراءة هذه "رغبة الكتابة التي نسيها وقتاً طويلاً."

بصفته سليل لوتريامون، يرفض ميشو أية تسمية تريد تنميط كتاباته. فهو لايخضع لنموذج فني معطى، بل أنه يجترح نموذجه الذي قد يتجلى نصاً شعرياً طويلا، قصيدة نثرية، شعراً حراً أو مطولات سردية لنقل تجارب المِسكالين، والعيش في مناطق كآسيا بين أناس غرباء. بعض النقاد يضعون بعض قِطَعه (خصوصاً هذه المنشورة في "الليل يتململ") التي كتبها "هكذا في لحظات كسل، تبعاً لحاجاته تاركاً إياها كما أتت"، في خانة قصيدة النثر المفتوحة على الهلوسة والعبث وفك اللغة من إسارها لكي يشارك القارئُ الألفاظَ في أكثر تجاربها جنوناً وهذياناً.


عندما تؤوب الدراجات النّارية إلى الأفق

إنّ الشيءَ الوحيدَ الذي أقدّرُه حق التقدير فعلاً هو دراجة ناريّة. أوّاه! يا لها من سيقان رفيعة، رفيعة! بالكاد تُرى.
فهي، ونحن ننظر بإعجاب، سريعة إلى حد تكون معه عائدةً آنذاك على وجه السرعة إلى الأفق الذي لن تتركه إلاّ بسبب مكروه كبير.
وهذا ما يدفع إلى الحلم! إلى جعل الكلاب تتبوّل حالمةً، عند أسفل الأشجار! هذا هو الذي ينوّمنا أكثر من أي شيء آخرَ، و يعيدنا دوماً إلى النوافذ، متأمّلين، إلى النوافذ، إلى الأفاق العظيمة.



الريح

تحاول الريح أن تفصل الموجَ عن البحر. لكن، من الواضح، أليس كذلك، أنّ الموج يتمسك بالبحر والريح بالهبوب... كلا الريح لا تتمسك بالهبوب، حتى عندما تصبح عاصفة أو زوبعة، لا تتمسك به. فهي تنزع بلا روية، بهيجان وهوس، نحو مكان ذي سكينة تامة، وهدوء، فتشعر أخيراً مطمئنة، رخيّة البال.
كم هي غير مهتمة بالموج. سيّان عندها إن كان في البحر، على جرس، في عجلة مسننة أو على شفرة سكّينة، فهو لا يحرك فيها ساكناً. إنها تمضي حيث الهدوء والراحة، حيث تكف عن كونها ريحاً.
على أنّ كابوسها مستمرٌ منذ أمد طويل.





قرية المجانين

كم بهيجة كانت فيما مضى ، واليوم مجرد قرية مهجورة. كان رجل ما ينتظر نهايةَ المطر تحت إفريز، بينما كان الجوّ قارساً، ولم يكن ثمّة أثر للمطر منذ وقت طويل.
كان مزارعٌ يبحث عن حصانه بين البَيْض. لقد سُرِقَ منه. إنّه يوم السوق. كان عدد البيض لا يُحصى في سلال لا تُحصى. يقيناً سرق اللّصَّ بطريقة تثبط عزيمة متعقّبيه.
في إحدى غرف البيت الأبيض، كان رجل يجر زوجته إلى الفراش.
"هل لك في أنْ...؟" قالت له. "وإذا صدف أنّي كنت أباكَ"!
- لا يمكنكِ أن تكوني أبي، جاوبها، بما أنّك امرأة، كما أنّه ليس لأحد أبوان.
- رأيتْ، أنت أيضاً قلقٌ.
خرج مُرهَقاً؛ بادره رجلٌ بلباس السهرة، قائلا له: "اليوم، لم يعد هناك ملكات. لا فائدة من الإلحاح، لم يعد..."، ثم ابتعد مهدداً.





في الفراش

ماذا أفعل، ما إن يتجاوز ضجري الحدودَ حتى يجعلني أفقد الصوابَ إذا لم يتدخّل أحد.
أسحقُ جمجمتي وأبسطها أمامي أبعد ما يمكن، وما إن تنبسط كما ينبغي، حتّى أخرج فرساني. تضرب الحوافرُ بقوّة على هذه الأرضية الصلبة والضاربة إلى الاصفرار. وسرعان ما تبدأ سرايا الخيل تخبُّ. وها ثمّة رفسٌ ولبطٌ. هذا الضجيج، هذا الإيقاع الجلي والمتعدد، هذا التوقّد الذي ينفّس عن القتال والانتصار، يبهج روح هذا المُسمَّر إلى الفراش وغير القادر على الحركة نأمة واحدة.



صراخ

إنّ الداحوس الذي يصيب الظفر لهو عذابٌ فظيعٌ. غير أنّ الذي جعلني أتألّم أكثر هو أنني لم أستطع الصراخ. لأنني كنت في المستشفى. والليل قد حلَّ، وغرفتي كانت محصورة بين غرفتين مخصّصتين للنوم.
رحتُ، إذنْ، أخرّجُ من دماغي صناديق كبيرة، آلات نحاسيّة وآلة أشد رنيناً من الأرغن. شكّلتُها جوقةً تصمّ الآذان، مستفيداً من القوّة الخارقة التي منحتني إيّاها الحمّى.
حينئذ وما إن تأكد لي بأنّ صوتي لن يُسمَع وسط هذه الضوضاء، حتّى أخذت أصرخ، أصرخ لساعات مسكّناً الألم رويداً رويداً.



ملعون

بعد عشرة أشهر أو أكثر، سأصبح أعمى. هذه هي حياتي الحزينة، الحزينة التي تستمر.
هؤلاء الذين وضعوني، سيدفعون الثمن، قلت لنفسي في المرة الأخيرة. لكنهم إلى الآن لم يدفعوا. في حين أنّ عليّ الآن أن أخاطر بعينيّ. ضياعهما نهائياً سيحررني من آلام فظيعة، هذا كل ما أستطيع أن أقوله. ذات صباح، ستمتلئ أجفاني بقيح كثير. كما أن الوقت الذي ستُجرى فيه فحوص لا نفع لها بالنيترات الفضية الرهيبة، سيكون كافياً للتخلص منها. قبل تسع أعوام، قالت لي أمي: "كنت أفضل لو لم تولد."



إنسان ضائع

لقد ضعت، عندما خرجت. وفي الحال كان قد فات الأوان على الرجوع. وجدت نفسي وسط حقل. لكن عجلات كبيرة كانت تمرُّ فيه. كان حجم بعضها أكبر منّي مائة مرة. والبعض الآخر أكبر فأكبر. وبالكاد أنظر إليها، كنت، وهي تقترب، أهمسُ على مهل، كما لو لنفسي: "يا عجلة لا تسحقيني...... يا عجلة، أتوسل إليك، لا تسحقيني...... يا عجلة، الرحمة لا تسحقيني... ". كانت العجلات قد وصلت، نازعة ريحاً قوية، ثم عادت. أخذت أترنّح. ومنذ أشهر على هذه الحال: "يا عجلة، لا تسحقيني... يا عجلة، هذه المرة هنا أيضاً لا تسحقيني..." لا أحد يتدخل! ولا يمكن أيّ شيء أن يوقف هذا. لقد بقيت هنا حتى موتي.





رينيه شار (1907-1988) René Char
ولد رينيه شار في منطقة السورغ (جنوب فرنسا) في الرابع عشر من حزيران 1907. بعد عام على ولادته، وأبوه توفي وعمره أحد عشر عاماً. وعند صدور أول مجموعة شعرية له "مستودع" سنة 1929 التقى به إيلوار فعرفه إلى أندريه بروتون، أراغون، كريفيل. فانضم إلى المجموعة السوريالية، التي سيصبح واحداً من أهم عناصرها الصارمين في حقبة المواجهة مع ارتدادات الستالينية وشعرها المأجور المسمى في سجل التاريخ الأسود بالواقعية الاشتراكية. وقد أصدر في المنشورات التي كانت تشرف عليها الحركة السوريالية عدداً من الكتب الشعرية الصغيرة، من بينها القصيدة الطويلة "أرتين"، التي ينهيها بالعبارة التالية: "قتل الشاعرُ نموذجَهُ". جمعت أشعاره المعبرة عن انتمائه السوريالي كلها سنة 1934 تحت عنوان: "المطرقة بلا سيّد". ثم أخذ يبتعد عن السوريالية، لكنه بقي على علاقة شخصية مع ايلوار وتزارا، وحافظ على ودّ لن يتراجع عنه طوال حياته لأندريه بروتون شخصاً وشاعراً. لعب دوراً في المقاومة الفرنسية وقد خلد لحظاتها النفسية والخلقية في "أوراق هيبنوس" وفي عدد من أفضل قصائده النثرية، ضمها كتابه الخارق Fureur et mystère الذي يمكن ترجمته ب "حُمَيّا وسر" أفضل من أن يترجم بـ"هياج ولغز" أو ب "سُعْر وسر"، لأن المعنى العميق لهذا الكتاب يكمن، حسب معظم نقاده، في Fureur بمعنى الحمّى التي تنتاب الشاعر أثناء الكتابة و mystère السر الذي يكتنف كل خلق شعري.
شعر رينيه شار بقدر ما يقيم جسراً بين النقيضين، يحافظ عليهما. وكأنه جبل أحجاره كلمات ومفازاته فقرات والمعاني تتفتح في كل أعشابه. فشار شديد اللغة وصارم الرأي: "نعرف أنّ الشاعر يخلط النقصَ والإسراف، الهدف والماضي، خلطاً يتولّدُ منه إعسارُ قصيدته. ذلك أنّه في لعنةٍ، عليه أن يتحمّلَ المخاطرَ الدائمة والمتجددة، بقدر ما يرفض، مفتوح العين، ما يقبل به الشعراء، مغمضي العين: الانتفاع من كونهم شعراء. لا يمكن أن يوجد شاعرٌ بلا هواجس مثلما لا يمكن أن توجد قصيدةٌ بلا استفزاز. يمرُّ الشاعرُ خلال كلّ الرُّتب الانفراديّة لمجدٍ جماعيٍّ حُرِمَ منه عن حقٍ. هذا هو شرط الاستشفاف والتكلّم بصورة صحيحة. وعندما يبلغ بعبقريةٍ التوهّجَ وما لم يُفسَد (أشيل، ما قبل السقراطيين، سان جوست، رامبو، هولدرلين، نيتشه، فان غوغ، ميلفيل) فإنّه يحصل على النتيجة التي نعرفها. يضيف مسحة نُبلٍ إلى قضيته متى يكون متردداً في تشخيصه ومعالجة آلام إنسان عصره؛ متى يبدي تحفّظات على الطريقة الفضلى لتطبيق المعرفة والعدالة في متاهة السياسي والاجتماعي. عليه أن يقبلَ الخطورة في أن تُعدّ بصيرته خطرةً. الشاعر جزءٌ لا يتجزأ من الإنسان المتمرّد على المشاريع المخططة. فقد يُطالب بأن يدفع ثمن هذا الامتياز أو هذا العبء مهما كان. يجب أن يعرف أنّ الأذيّة تأتي من أبعد مما نتصوّر، ولا يموت حتماً على المتراس الذي اُختير له".
شعر شار يجوب كل الأشكال الشعرية المعطاة لكن بعين صاحية وجديدة. من الشعر الحر، إلى قصيدة النثر، ومن السرد الطويل الآلي إلى الجملة الموجزة. إذ، كما يقول، "على الشاعر، من أجل إقناع نفسه وهدايتها، أن لا يخشى من استخدام كل المفاتيح الوافدة إلى يده."
تكمن أهمية قصائده النثرية في اعتمادها على البعد الأخلاقي للشاعر وعلى هرمسية تمنحها الكثافة اللازمة والإطار الضروري لمساعدتها على مقاومة الزمن. وإذا كانت قصيدة النثر قبل شار ترتكز على النادرة كعنصر محرك لخلق التأثير الشعري، فإن قصيدته النثرية بقدر ما تحافظ على "سرد معين حريص على تطوره الخاص به، فهي تبذل قصارى جهدها على تشويش السير المنطقي". كما أنّ شار نفسه حذرنا في الفقرة 53 من "أوراق هيبنوس": "انتبهوا للنادرة. إنها محطة قطار حيث رئيسها يكره مُحوِّلَ الخط."



تسريح الريح

عند سفح تلّ القرية، تعسكر حقولٌ مُمَّونة بالميموزا. بعيداً عنها، في أيّام القطاف، يحدث أن يكون لنا لقاءٌ طَيّبٌ بفتاةٍ ذراعاها مشغولتان طوالَ النّهار بالأغصان الهشّة. أشبهُ بمصباحٍ إكليلُه عطرٌ، ستذهب، دائرةً ظهرَها إلى شمس المغيب.
الحديث معها سيكون خرقاً للمحارم.
لها خفّ يدهسُ العشبَ، دعوها تمرّ في الطريق. قد يكون لكم حظٌّ فتميّزوا على شفتيها وهْمَ نداوة الليل.



مآثر

كان الصيف يغرّد على صخرته عندما ظهرتِ لي، الصيف كان يغرد على انفراد منا نحن اللذين كانا صمتاً، ودّاً، حرية حزينة، بحراً أكثر من البحر الذي كانت مجرفته الطويلة الزرقاء تتسلّى عند أقدامنا.
كان الصيف يغرّد وقلبك يسبح بعيداً عنه. احتضنتُ شجاعتكِ، أصغيتُ إلى بلبلتك. طريق على امتداد مطلق الأمواج باتجاه قمم الزبد العالية هذه، حيث تُبحر الفضائل المبيدة للأيدي التي تحمل منازلنا. لم نكن سذّجاً. كنا محاطين.
السنوات تمرّ. العواصف انقرضت. انصرَفَ العالم. كان يؤلمني أن أشعر أن قلبكِ هو الذي لم ينتبه إليّ. كنت أحبك. وأنا غائبُ الوجه، فارغ الفرح. كنت أحبكِ، متغيراً في كل شيء، وفياً لكِ.



الغائب

هذا الأخ العنيف الطبع إلا أنه كان ثابت الكلمة، متحمّل التضحية، جوهرة وخنزيراً برّياً، حاذقاً ومساعداً، يمكث في قلب سوء التفاهم كمثل شجرة صمغية في عراء البرد الذي لا يقبل الخلط. ضد عالم الأكاذيب الحيواني التي كانت تعذبه بعفاريتها الخبيثة وأعاصيرها، كان يدير لها ظهره ضائعاً في الزمن. كان يأتيكم من طرق غير مرئية، يفضل الجسارة القرمزية، لا يناوئكم، يعرف كيف يبتسم. مثل نحلة تغادر البستان من أجل فاكهة اسودت سلفاً، كانت النساء تساند من دون أن تخون تناقضَ هذا الوجه الذي لم يكن له ملامحُ رهينةٍ.
حاولت أن أصف لكم زميلاً لا يُمحى، الذي نحن قلّة التقينا به. سننام في الأمل، سننام في غيابه، بما أن العقلَ لا يشك في أن ما يُسمّيه، باستخفاف، غياباً، يحتلُّ أتونَ الوَحْدة.



الكوسج والنّورس

هاأنا أرى أخيراً البحرَ في انسجامه المثلّث: البحرُ ذو الهلال الذي يقطعُ سلالةَ الأوجاع الباطلة، المَطْيَرةُ الهائجة الكبيرة، البحرُ السريع التصديق كلَبْلاب. عندما أقول: أزلتُ القانونَ، تجاوزتُ الأخلاق، نشرتُ القلبَ شبكةً، ليس لأقرّ نفسي بالحقّ أمام ميزان العدم هذا الذي تمدُّ ضوضاؤهُ سعفتَها إلى ما وراء إقناعي. لكن ليس مما رآني أحيا، أضطلعُ، إلى الآن، شاهداً على مَقرُبةٍ. يجوز إذنْ، لكتَفي أن يأخذه الكرى، لشبابي أن يُسرعَ. فمِن هذا فقط يمكن استمداد ثراء فوريّ وفعّال. هكذا، هناك يومٌ صافٍ في العام، يومٌ يحفرُ دهليزَه الرائعَ في زبَد البحر، يومٌ يعلو العيونَ لتتويج الظهيرة، أمس، كان النُّبْلُ مهجوراً، الغُصيْنُ بعيداً عن برعمه، لم يكن الكوسجُ والنّورَسُ على اتصالٍ بعضها ببعض.
أنت يا قوسَ قزح الشاطئ الصاقل، قرّب المركبَ من رجائه، اِسعَ لأن تكون كلُّ نهايةٍ مفترضة براءةً جديدةً، سائراً محموماً يتقدّم من أجل هؤلاء الذين يتعثّرون في التثاقُل الصباحي.



مصارعون

في سماء الرجال، بدا لي خبز النجوم مظلما وقاسياً، ولكن في أيديهم الضيقة قرأت تطاعن هذه النجوم داعيةً نجوماً أخرى لا تزال حالمات مهاجرةً من القنطرة، جمعتُ عرَقَهن الذهبي، فتوقفت خلالي الأرضُ عن الموات.



لماذا يطير النّهار

طوال فترة حياتِه، يستندُ الشّاعرُ، لحظةً إذا شاء الظرْفُ، إلى شجرةٍ ما، بحرٍ، منحدرٍ، أو إلى غمامة لها صبغةٌ معيّنة. إنّهُ ليس ملتحماً بضلالات الآخر. فلِحبّهِ، وسَبْيه، وسعادته، نظيرٌ في كلّ الأماكن التي لم يذهب إليها، ولن يذهب أبداً، لدى الغرباء الذين لن يتعرّف عليهم. وما إن نرفعَ الصوتَ أمامه، أو نستحثّه أنْ يقبل التكريمات الآسرة، أو نستدعي الكواكب بشأنه، حتّى يجيبنا بأنّه من البلد "المجاور"، من السّماء التي اُبْتلِعَت توّاً.
يبعثُ الشّاعرُ النشاطَ ومن ثم يهرعُ إلى الخاتمة.
وإنْ، مساءً، لوَجنتهِ فجوات مبتدئٍ عدّة، فهو عابرٌ مهذّبٌ يتعجّل في تحيّات الوداع حتّى يكون هناك حينما يخرج الخبزُ من التنّور.


عتبة

عندما انهدَّ سدُّ الإنسان، مُمتَصاً بصدع جبّار سببه هجران الإلهي، فإن الكلمات في البعيد وهي كانت لا تريد أن تضيع، حاولت الصمود ضد الدفع الباهظ. وهاهنا حُدِّدت سلالةُ معناها.
ركضتُ حتى نهاية هذه الليلة الطوفانية. واقفاً في الفجر المرتجف، طوقي مملوء بالفصول، أنا في انتظاركم، أيها الأصدقاء القادمون. أستشفّكم منذ الآنَ من وراء سواد الأفق. موقدي لا يكفّ عن التمني بالخير لمنازلكم. وعصاي، من خشب السرو، تضحك من كل قلبها من أجلكم.





فرانسيس بونج (1899-1988) Francis Ponge

"عليك أولاً أن تقضي لمصلحة تفكيرك وذوقك. ثم أن تأخذ وقتك، وأن تكون لك الشجاعة، لكي تعبّر عن أفكارك بشأن الموضوع الذي اخترته ( وليس فقط عليك أن تحتفظ بالعبارات التي تبدو لك مشرقة ومُميّزة). وأخيراً أن لا تبقيَ هناك ما يُقال، وأن لا يكون هدفك أن تُغرى وتفتتن، وإنما أن تكون مقتنعاً." يرتبط اسم بونج بديوان يعتبر رئيسياً في تاريخ قصيدة النثر في القرن العشرين: "التحيّز للأشياء". وقد كتب معظمه إبان أوقات الفراغ النادرة التي كان ينتهزها عندما كان يشتغل في سفريات هاشيت في منتصف ثلاثينات القرن الماضي.
تناول "التحيّز للأشياء" الحوائج، النباتات، الظواهر، كالمطر وسواه. بعد أن غربلها من كل شوائب الزخرفة والتنميق، تتحوّل قصيدة النثر إلى أداة لاستنطاق الأشياء التي كانت مجرد عوالم مغلقة يسقط الشاعر تأملاته عليها. إن قصيدة النثر لدى فرانسيس بونج هي مسألة فهم ظاهرة اللغة عبر مواجهة عملية وحقيقية مع مشاكل التعبير. فمشروع بونج لا ينصبّ على كتابة قصيدة عن "غابة صنوبرية بقدر ما يريد أن يتوسع في معرفة هذه الغابة وما تنطوي عليه من تعبير وخصوصية. وإذا كان الشاعر الحديث يستمد صوره، صدمته الشعرية، مما يطفو على سطح اللاوعي، فإن بونج كان يغطس في قعر القاموس ليأتي بأوابد لغوية، بألفاظ يفكك جذورها بغية استنطاق الشيء المُستهدف نصاً شعرياً. وها هي الجوامد التي تحيط بنا سواء في المطبخ، في السيارة أو في غابة، تطالبنا بالانحياز إلى إيقاعها وكأن لها تاريخ وذاكرة، بل سفر تكوين – مَثلُها الطقسي الذي تستمد منه حكمتها في الحياة مع البشر. وقد أصبح فرانسيس بونج في فترة ما يسمى "شاعر الفلسفة الظاهراتية المجوسي"، خصوصاً بعد أن كتب جان بول سارتر مقالة عن "التحيّز للأشياء" عند صدوره سنة 1942.



البلاغة

أظنّ أن الأمر يتعلق بإنقاذ بعض الشباب من الانتحار، والبعض الآخر من الانخراط في سلك الشرطة أو الإطفاء. أفكّر في هؤلاء الذين ينتحرون نفوراً، لأنهم يجدون أن "للآخرين" حصة كبيرة في داخلهم.
يمكننا أن نقول لهم: أعطوا الأقلية التي فيكم حق الكلام على الأقل. سيجيبوننا: هذه هي القضية بالأخص، فهنا أيضاً أشعر أن الآخرين فيّ، فعندما أريد أن أعبّر عن نفسي يتعذر علي هذا. الكلمات كلها جاهزة وتعبّر عن نفسها: فهي لا تعبّر عنّي قط. وهاأنا أختنق ثانية.
إذن تعليم فن "مقاومة الكلمات" يُصبح ذا فائدة، فن قول ما نريد نحن قوله فقط، فن تعنيفها وإخضاعها. باختصار إن تأسيس بلاغة، أو بالأحرى تعليم كل شخص فن تأسيس بلاغته الخاصة به، لهو عمل إنقاذ للجميع.
وهذا ينقذ فقط الأشخاص، الندرة الذي من المهم إنقاذهم: الأشخاص الواعين، الذين يشعرون في آن بقلق على الآخرين وبنفور منهم.
الأشخاص الذين يقدرون على تطوير الذهن و، بحصر المعنى، تغيير ظاهر الأشياء.



المطر

المطر، في الباحة حيث أراه يتساقط، ينزل بسُرَعٍ جد مختلفة. فهو في الوسط ستارة رهيفة (أو شبكة) متقطّعة، هطول متصلّب لكنّه نسبياً بطيءٌ لقطرات يُحتمل أنّها خفيفة، سرعة متواصلة غير شديدة، شظية شهاب صافٍ كثيفة. أبعد من الحيطان بقليل تتساقط يساراً ويميناً قطراتٌ فرادى أثقل يرافقها دوي أكثر. بعضُها يبدو هنا جسيماً كحبّة قمح، هناك كبازلاء، أو دعبل تقريباً في مكان آخر. ينساب المطر أفقياً فوق الأفاريز ودرابزين النوافذ، بينما على الواجهة السفلية للعوائق نفسها، يتدلّى وكأنّه ملبّسُ حلوى محدّب. حسب مساحة بأسرها لسطح صغير من الزنك حيث النظر يميل، يسيل على شكل شرشفٍ جدّ رقيق، مُموَّج بسبب تيّارات جدّ متنوعة تُحدثها حدبات السقف وتموّجاته التي لا تُرى. ومن المزراب الملاصق الذي يجري فيه بجهد جدول مجوّف ليس له منحدر كبير، ينهال فجأة شبكةً عموديةً، مجدولةً بسُمكٍ كافٍ، على الأرض حيث يتكسّر وينبجسُ على شكل شرائط متألقة.
للمطر أشكال لكلِّ شكلٍ سَيَحانٌ خاص؛ يردّد وقعاً معيّناً. تعيش كلّها بكثافة كأيّ آليّة معقّدة، دقيقة بقدر ما هي محفوفة بالمخاطر، مثل ساعة حائط حيث الزُنْبُرُك هو ثِقَل كتلة محددة من البخار تتساقط.
رنّة شبكات عموديّة على الأرض، بَقبقة المزاريب، ضرباتُ الصنوج الصغيرة تتضاعف وترنّ في آن واحد كما لو أنّها تناغمٌ من دون رتابة، لا تنقصه الرهافة.
وعندما يرتخي الزُنْبُرُك، تستمر دواليب بالدوران برهةً، ثم تتباطأ أكثر فأكثر، إلى أن تتوقّف الآلة كلُّها. وقتئذٍ، ما إن تلوح الشمسُ من جديد، حتّى يمّحي كلُّ شيء، الجهاز الباهر يتبخر: لقد سقط المطر.



مُتَع الباب

لا يلمس الملوك الأبوابَ.

إنّهم لا يعرفون هذه السعادة: أنْ يدفعَ المرءُ أمامه، بلطفٍ أو خشونة، أحد هذه الألواح الجِسام المألوفة؛ أنْ يلتفت إليها ليضعها في مكانها المناسب – أن يحتضن باباً.
... سعادةُ مسكِ أحد هذه العوائق العالية لغرفة ما، من عُقدة البَطن الخزفية: هذا التلاحم السريع جِسماً لجسم الذي بواسطته يُعاق السّيرُ للحظة، ما إن تنفتح العين، حتّى يتوافق الجسدُ كلّه وشقّته الجديدة.
يبقى ماسكاً بعض الوقت البابَ بيدٍ ودّية قبل أن يردّه بالفعل غلقاً على نفسه –كأن تضمن له تكتكة الزُنْبُرُك القوي المزّيت جيداً، الأمانَ بكلَ حبور.



الشمعة

أحياناً يُذكي الليلُ نبتةً غريبةً لها وميضٌ يفكّك غُرفاً مؤثثة إلى كتلٍ من الظل.
ورقتُها الذهبيّة غير مبالية في تجاويف عمودٍ صغيرٍ من المرمر، تحملُها سُويقات جدّ سوداء.
يهاجمها الفَراشُ الزريّ بالتفضيل عند ارتفاع القمر الذي يرشُّ الغابات. لكن ما إن يحترقوا فوراً أو يرهقهم التقاتل، حتّى يرتعشوا جميعاً عند شفا سُعار قريب من الخَبَل.
على أنّ الشمعةَ بارتجاف الأنوار على الكتاب ارتجافاً ذا انبعاث مفاجئ لأدخنةٍ أصليّة، تُشجّع القارئ، ثمّ تنحني على طبقها، وفي غذائها تغرقُ.



المَحَار

المَحَار، بضخامة الحصاة المتوسطة، له مظهر خشن، ولون أقلّ توحّداً، يميل بتألق إلى البياض. إنّه يصر على أن يكون عالماً مغلقاً. ولكنْ يمكن فتحه. يجب أنْ يُحملَ طيَّ خِرقة، وأن نستخدم سكّيناً ليست حادة، وأنْ نعيد الكَرّة مرّات عدة. الأصابع الفضولية تجرح نفسها وتكسر أظافرها: إنّه عمل غير مُتقَن، فضربنا يترك على القشرة حلقات بيضاء كالهالات.
في الداخل، عالمٌ كامل، يؤكل ويُشرب. تحت قبة (بحصر المعنى) من عرق اللؤلؤ، انخساف السماء العليا فوق السفلية لا يشكّل سوى بِركةٍ، كيسٍ لزج وضارب إلى الخضرة، له مدٌّ وجزر للنظر والشم، مزيّن بشريط متساوٍ على الأطراف.
نادراً ما تتقطر صيغةٌ من بلعومه الصَدَفي، وسرعان ما نتحلّى بها.



سقيفة الحبوب *

لكل بيت، بين السطح والسقف، صحنه الدنيوي طوال الغرف كلها. ما إن يدفع الإنسان الباب، حتّى يدخل النور معه. الرحابة تُدهشُهُ. في الأقصى، بضعة أحجار مسودّة تنوّه بحائط الموقد.
مُمدّداً على العارضة الأولى، يسترسل بكل طيبة خاطر في حلم يقظةٍ تمجيداً لنجّار الهياكل. ومن خلال شقوق قبة السماء هذه، تتلألأ مائة نجمة نهارية. يصغي، في أقصى العنبر الهوائي، إلى الرياح ضاربة جوانب القرميد الوردي أو سائلةً على صفائح الزنك. في الداخل، تهتز بالكاد أسرّة معلقة ناعمة النسيج، شبكات عنكبوتية حجرية، تلتف حول الأصابع مثلما حول وجوه سائقي السيارات غابراً، في الأيام الملحمية للرياضة.
ثفْل مطرٍ متسرب من القرميد، مسحوق نفيس يترسب فوق الأشياء كلها.
بعيداً عن التربة النهمة، يضع الإنسان الحبّة لغاية متعارضة والإنماء. تَجففي أيتها الحبوب، منفصلة وبائتة، فمن الآنَ وصاعداً فكرة لم يعد لها عواقب للأرض حيث ولدتِ. أحرى بك أن تتيحي للطحين ولهيئاته الرمادية المألوفة أن تُحبَّ ما إن تخرج من التنّور.

* Le grenier تعني الغرفة التي تقع في أعلى البيت ما بين السقف والسطح، وقديماً كانت توضع فيها أكياس الحبوب ثم صارت مستودعاُ للحوائج البالية. غير أن جذر الكلمة يلعب دوراً أساسياً في قصائد بونج. لذا فضلت كلمة: "سقيفة الحبوب"



الضفدع

عندما ينط المطر إبراً صغيرة في الحقول المُشبَعة بالماء، قزمة برمائية، أوفيليا مقطوعة الذراعين، حجمها بالكاد قبضة يد، تطلع من تحت خطى الشاعر وتلقي بنفسها في المستنقع التالي.
فلنترك هذه العصبيّة تهرب. لها سيقان جميلة. جسمها كله قفّازُ جلدٍ لا ينفذ إليه الماء. عضلاتها الطويلة بالكاد لحم أنيقة كما لو أنها لا هي لحم ولا سمكة. وحتّى تفلت من بين الأصابع تتحد خاصيّة السائل فيها مع جهود الحيّ. لها غدّة وكأن لها تورّماً درقيّاً، فهي تلهث... هذا القلب الذي يخفق بحدة، هذه الأجفان ذات التجاعيد، هذا الفم المذعور، تجعلني أشفق عليها حتّى لأتركها تذهب.

عاشق من فلسطين
09/06/2005, 17:42
قصيدة النثر: سماتها الخارجية والداخلية
--------------------------------------------------------------------------------


مارغوريت س. مورفي

ترجمة : خالدة حامد




السمات الخارجية :
مع ان التركيز على المؤشرات شبه النصّية قد يبدو طريقة ساذجة للتعرف على قصيدة النثر (إذ تشير قصيدة النثر إلى نفسها بذاتها)، لا يخلو هذا التمييز من دلالة بالنسبة لهذا الجنس الأدبي " المبتدع " حديثاً نسبياً، والذي يشبه بسهولة شديدة أنواع النثر الأخرى، أو الذي [الجنس] مراراً ما يتم خلطه مع مقتطفات من أشكال خطاب أخرى. فالكثير من قصائد النثر قد يشبه الحكايات أو الأمثال الرمزية أو التوصيفات الرمزية القصيرة أو غيرها من الشذرات النثرية، في حين انقاد النقاد والانطلوجيين إلى إغراء " اكتشاف " قصائد النثر المتضّمنة في أعمال أخرى طويلة (1). فالعنوان الذي يمنحه بودلير لمجموعته، " قصائد نثر صغيرة "، له دلالته في تأسيس الجنس الأدبي؛ إذ توحي إحالته إلى [ ألويزيوس برتران ] بتراث سالف، وبذا فهو حديث التولد (2). الإيجاز الذي تتسم به قصيدة النثر قد ميز هذا الجنس، منذ نشأته، عن النثر الشعري على النحو الذي أبدى فيه نقد والتر باتر الانطباعي إعجابه بأعمال شاتوبريان، مثلاً، أو ما جاء بعده في إنكلترا، كما أسهم في تثبيت شكل مادي لهذا الجنس. ويُفترَض أن يكون لقصيدة النثر مظهراً شبيهاً بالكتلة، تملأ الصفحة اكثر مما تفعله قصيدة النظم، لكنها تبدو مع ذلك شذرة من خطاب لا يتعدى طولها الصفحة أو الصفيحتين، غالباً. قد ينبع هذا الجانب " الشذراتي " أيضاً من التوتر الجوهري لقصيدة النثر؛ أي الإيحاء بالأجناس النثرية التقليدية وهدمها. ويخلق هذا التوتر مآزق نصية؛ إذ لا يصل النص إلى كمال الجنس [ الأدبي ] مطلقاً ما دام جنسه نفسه منقسماً على ذاته. ومع ذلك، يبدو ان مظهره الشبيه بالكتلة يوحي ببعض الكلية في نفسه. وقد شجع هذا الأمر مقارنتها بالرسم، كما لو أن قصيدة النثر " كانفاس " canvas عليه موضوع " جمالي " تؤطره الهوامش البيضاء للصفحة.
ومن الواضح أن ثمة إمكانية مشروطة تاريخياً وراء أي قرار لكتابة قطع نثرية قصيرة تصنّف بأنها قصائد نثر بسبب عنوانها أو عنوانها الفرعي أو اية مؤشرات ضمنية أخرى. ويبدأ هذا التاريخ، ظاهرياً، مع الرغبة بدحر قيود الأجناس الشعرية التقليدية. وتركز برنار على أصوله الفوضوية وطابعه المتمخض عنها :
مالت كل المحاولات في الشعر الفرنسي، منذ الرومانسية، إلى كسر نير المواضعات والوصايا التي خنقت روح الشعر : القافية، الأوزان، قواعد النظم الكلاسيكي كلها، قواعد الأسلوب " الشعري " أو النبيل، بل الأحدث من ذلك، قواعد النحو والمنطق الاعتيادي. وعلى غرار النظم الرومانسي، وما أعقبه من نظم حر للرمزيين، فقد ولدت قصيدة النثر من التمرد على أشكال الاستبداد كلها التي منعت الشاعر من خلق لغة فردية، وأجبرته على صب مادة عباراته اللدِنة في قوالب جاهزة.
إلا أن قصيدة النثر رفضت تماماً القوانين العروضية والوزنية؛ منعت نفسها، بكل صرامة، من أي تقنين. إلا إن ما يفسر تعدد أشكالها والصعوبة التي يواجهها من يحاول تعريفها هو إرادتها الفوضوية، التي تكمن في نشأتها " (3).

لاشك في أن قصيدة النثر تبدو رافضة للتقنين تماماً، وقد احتفظت لنفسها بمكانة مهمة في ثورة الشعر العامة التي بدأت في فرنسا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر. لكن القول بأن إيماءتها الثورية، واصلها كجنس أدبي، ولد ثائراً على الجنس الأدبي وتمخض عنه تعدد فوضوي في أشكالها أو انصهاراً في الأجناس الأدبية، كما يوحي بذلك اسمها، لهو قول مضلل لعملية فحص تشكلاتها. فهل أن أصل قصيدة النثر مختلف بالمرة عن أصل الأجناس الأخرى، وفوضوي إلى الحد الذي تستعير فيه القليل من الأجناس التي سبقتها، أو لا تستعير شيئاً بالمرة ؟ توحي تاريخانية الجنس الأدبي بأن قصيدة النثر لم تأتي من فراغ، بل ارتكزت على أشكال أخرى، على الأقل من أجل تدميرها أو تحويلها. ومثلما بين تزيفتان تودوروف في " أجناس في الخطاب " : " من أين يأتي الجنس الأدبي ؟ ببساطة متناهية : من أجناس أخرى؛ فالجنس الجديد هو تحويل جنس سابق، أو بضعة أجناس، دائماً : بقلبه، بإزاحته، بالارتباط به "(4). ولهذا لا تختلف قصيدة النثر عن الأجناس الأخرى في هذا الصدد، هذا إذا تصورناها مرتكزة على تقاليد النثر التي أربكتها هي لاحقاً.



السمات الداخلية :
ما وراء المؤشرات الواضحة لهذا الجنس من حيث العنوان والمظهر على الصفحة، يتوقع القارئ في قصيدة النثر خطاباً مختلفاً عما يجده في أنواع النثر الأخرى. فعلى سبيل المثال، قلّما يمكن أن ننظر إلى المقتطفات المأخوذة من تاريخ باترسون، نيوجرسي، التي ضمّنها ويليام كارولز ويليام في قصيدته الطويلة، وعنوانها " باترسون "، بأنها قصائد نثر، في حين تحقق قصيدة " ارتجالات " توقعات القارئ عن قصيدة النثر أفضل مع إنها لا تندرج في خانة هذه التسمية. يشكل هذان النموذجان من النثر أنواع مختلفة من الخطاب؛ أحدهما تاريخي يسهل فهمه، أي إنه " قرائي "، بحسب تراث السرد التاريخي، والآخر مُميز لقلم الكاتب نفسه ومُبهم. يوحي هذا الاختلاف على وجه التخصيص بإحالية أكبر أو أقل، وباختلاف في نوع " الحقيقة " المحال إليها. (لاشك في أن إدخال الخطاب التاريخي في النص الشعري يضّيق على الأخير ويضع إحاليته التقليدية موضع شك، مثل اعتماده على " الوقائع " بوصفها أساس " الحقيقة "). ومثلما تشير بربارة جونسون في " مدخل " لعملها " Défigurations du langage poétique " عن قصيدة النثر :
ببساطة أقول إن الحد الذي كان يفصل النثر عن الشعر، سابقاً، قد انتقل إلى مكان آخر، والإزاحة الحالية لخط المتاخَمة هذا من محور "النثر/الشعر" إلى محور "اللغة الاعتيادية/اللغة الشعرية" لم يفعل شيئاً لتشتيت كثافة القضايا التي تم تخطيها بهذا الصدد. فإن كان التاريخ الأدبي يبني نفسه على قمع التجديد الذي يربكه، فان هذا الإرباك لا يعمل، في الواقع، سوى على إزاحة نفسه، ليعُاود الظهور في مكان آخر حتماً " (5).

قصيدة النثر تقوض القطبية الأساسية بين الشعر والنثر، لكن يبقى التساؤل قائماً داخل هذا الجنس عن ما يجعل نصاً ما " شعرياً " أو" أدبيا " حقاً.

يركز أحد المسارات الواضحة في تقصي الشعرية في النثر على التأثيرات الصوتية؛ إذ يعرّف رومان ياكوبسون " الوظيفة الشعرية للغة " بأنها " التوجه نحو الرسالة بذاتها؛ أي التركيز على الرسالة لغرضها فقط " مما " يؤدي، من خلال ملموسية العلاقات، إلى تعميق الفصل الجوهري بين العلامات والموضوعات " (6).

ومع ان وظيفة الفن التعبيري هذه تتبدى بوضوح في الكثير من قصائد النثر، فهل هي القاعدة التعريفية لهذا الجنس وهل نستطيع ان نعد وجودها مقياساً للقيمة الشعرية لأية قصيدة نثر ؟ يمكن لنا التغاضي عن خط التقصي هذا لصالح قصيدة النثر ولأسباب عدة، أولها قد يظهر النثر شديد الإيقاعية أو الجناسية بسهولة في أنواع أخرى من النثر مثل خطابة القرن السابع عشر أو النثر الشعري للقرن الثامن عشر أو الرواية الغنائية للقرن العشرين. لا شيء يمنع لغة مشحونة صوتياً من الظهور بأشكال الخطاب كلها، الأدبية ومنها وغير الأدبية، مثلما أشار ياكوبسون نفسه (7)، وبالتالي، قلّما يمكن اعتبارها سمة ممّيزة لقصيدة النثر. وفضلاً عن ذلك، عند الإساءة للمؤثرات الصوتية عبر المبالغة بالإيقاع أو الجناس تكون النتيجة مضحكة غالباً أو متوسطة الجودة؛ أشبه ما تكون بإنتاج الشعر الهزلي [مُحطَّم الوزن عادة] عبر المبالغة بالوزن والقافية النظمية. والتاريخ الأدبي شاهد، قطعاً، على هذه الظاهرة : فعلى سبيل المثال، عندما حاولت قصيدة النثر البرناسية Parnassian [ مدرسة شعرية فرنسية في النصف الثاني من القرن 19 ارتكز أتباعها على الشكل الشعري أكثر مما على العاطفة ] أن تنافس النَظْم، تمكنت من استعمال الدوبليت والتكرار لخلق إيقاع قوي وعمارة متينة. وكانت النتيجة، بحسب ما ذكرته سوزان برنار، شيئاً من حِلية معمارية ليس إلا، قطعة صغيرة في ماكنة ساعة … تسلية إيقاعية " (8). وبدلاً من ذلك، تكمن أخصب مصادر قصيدة النثر في اللعبة التي يقدمها النثر بوصفه نثراً، لا في النثر المشوّه من أجل محاكاة صفات النَظْم الموسيقية؛ فقصائد النثر الجد مهذبة أسلوبيا توحي بأن لغة النَظْم متفوقة على لغة النثر، وبذا فهي تقلد النَظْم برداءة، حاملة دمغة ركاكتها الشكلية. وبحسب ما يراه باختين، فان لغة الشعر تكاملية بتكلف أصلاً؛ تشوه طابع اللغة اللامتجانس المفردات. ان قصيدة النثر، أي الجنس "الروائي النمط"، تكون الأكثر ثراءً عند استثمار مثل هذه الخاصية اللسانية للاتجانس المفردات، بدلاً من تضييقها. والحق إن نطاق الأساليب النثرية الموجود في قصائد النثر هو بسعة ما نجده في النثر عموماً ما دامت قصيدة النثر تغتصب أو تحاكي الأنواع النثرية الأخرى كي تولد تأثيراتها الخاصة. وبذا فقد تعمد قصيدة النثر إلى توظيف القافية المتصاعدة أو التكرار أو الجناس أو القرار، لكن قلّما تكون مثل هذه الصفات أمراً ضرورياً لهذا الجنس ما دامت البنية المؤلفة من أربعة عشر بيتاً وقافية معينة هي خاصة بالسونيتة.



الهوامش

1ـ كمثال على ذلك ادعاء روجر شاتوك بان المقاطع الافتتاحية في "عن اللون"
" تمثل أول قصيدة نثر له. ويتضح أن القصد الضمني من النقد الفني هو التأكيد انها ليست قصيدة نثر. ينظر :
"Vibratory Organism: crise de prose" in Caws and H. Riffaterre, The Prose Poem in France21-35.
(2) Petits poémes en prose ،، هذا العنوان اختاره المحرران Théodore de Banville و Charles Asselineau، للمجلد الذي صدر بعد والذي يضم وفاته قصائد نثر بودلير، وتم نشره كجزء من طبعة Michel Lévy لأعماله الكاملة. ومثلما ذكرت سابقاً فقد تردد بودلير بين عناوين مختلفة بما فيها العنوان الذي استعمله المحرران، ولم يحسم أمره بشأنها قبل وفاته عام 1867، مع ان مراسلاته اللاحقة بدت تظهر نوعاً من التفصيل لثيمة " سوداوية باريس ". ومع ذلك، فان أول النصوص المنشورة ظهرت عام 1861 في Revue fantaisiste بصفة قصائد نثر. أما العناوين الأخرى التي تأمل فيها بودلير فتتضمن " قصائد ليلية"، و" المتنزه المنفرد بنفسه" و " الإيماضة والدخان ". ينظر :
Henri Lemaitre's introduction, Petits poèmes en prose (Le Spleen de Paris) ( Paris: Garnier, 1962) i-xvii.
(3)
Bernard, Le Poème en prose 11.
(4)
Todorov, Genres 15.
(5)
Barbara Johnson, Défigurations du langage poétique ( Paris: Flammarion, 1979)
(6)

Roman Jakobson, "Closing Statement: Linguistics and Poetics", Style in Language, ed. Thomas A. Sebeok ( Cambridge, Mass.: MIT Press, 1960) 356.
(7) إن أية محاولة لتحويل نطاق الوظيفة الشعرية إلى الشعر، أو قصر الشعر على الوظيفة الشعرية ستُعد تتفيهاً مُضلِلاً. فالوظيفة الشعرية ليست الوظيفة الوحيدة للفن التعبيري، بل هي وظيفته المهيمنة والحتمية فقط، في حين نجدها تتصرف في الأنشطة التعبيرية كلها بصفة عامل ثانوي، مساعد ". ينظر :
Jakobson, "Closing Statement", 356.
(8)
Bernard, Le Poème en prose, 342.

عاشق من فلسطين
09/06/2005, 17:43
إليوت وقصيدة النثر: هستيريا عند تخوم النثر

--------------------------------------------------------------------------------


بقلم مارغريت س. مورفي

وترجمة خالدة حامد:

حينما نتناول إليوت وحالة الشعر الأنغلو - أمريكي بعد الشعر الرمزي، نكتشف أنه كان يبدي ازدواجية ما إزاء هذا الشكل مع مرور الوقت. وقد أتاحت له دراسته أن يكتشف الرمزية الفرنسية عام 1908. كما تبدى في شعره، شاباً، تأثير لافروك من بين آخرين. ولهذا نقول أن رهاب الفرنسيين لا يمت لإليوت بأية صلة. وعلى الرغم من رد فعله القوي عام 1917على هذا الجنس الأدبي بوصفه فضلة الشعر الرمزي وهُجنة من الأجناس الأدبية، نجد إن إليوت نفسه مارس التجريب بهذا الشكل؛ إذ ألف أربع قصائد نثر تقريباً ونشر إحداها ـ "هستيريا" ـ لتظهر عام 1915 في الأنطلوجيا الكاثوليكية لعزرا باوند، أي قبل سنتين من استهجان إليوت لهذا الجنس في مقال له بعنوان "تخوم النثر" (1). وبعد مرور ثلاث سنوات على مقاله الأول، نشر مقال ثاني عنوانه "النثر والنَظْم" اتخذ فيها موقفاً يتسم بتسامح اكبر إزاء التجارب التي تنتهك التخوم التقليدية للجنس الأدبي، لكنه واصل، مع ذلك، رفضه لمصطلح شعر النثر (2). ولم يؤلف مرة أخرى أية قصيدة بهذا الشكل مطلقاً مع انه ترجم لاحقاً قصيدة نثر سان جون بيرس الطويلة، "اناباز"، إلى الإنكليزية. لاشك في أن إليوت كان متأثراً جداً ببودلير، كما كتب قصائد في الفرنسية في الوقت نفسه تقريباً الذي ألف فيه قصائده المنثورة. ولعلنا نفترض، بسبب ذلك، إن قصيدة النثر أتاحت لإليوت مساراً للتجريب في الوقت الذي كان يتفحص فيه التراث الفرنسي بحثاً عن التجديد.
ومع ان إليوت لم يكتب قصائد نثر تركز على الحياة في المدينة الحديثة تحديداً، على غرار قصيدة بودلير " كآبة باريس " Spleen de Paris، لم يحاول تجريب الصهر الحديث للهلوسة أو الهوس بالمشاهد الملحوظة والمعتادة. كما تُظهر قصائد النثر الإليوتية محاولة لتحديث الشكل لغرض استعماله كأداة لوعي القرن العشرين. لكن جدل إليوت ضد الشكل لا ينفي الإنجاز الذي حققته أعمال فرنسية كبرى مثل "إشراقات رامبو" Rimbaud Illuminations، ويعكس، بدلاً من ذلك، النقد المبكر لإليوت بوصفه ناقداً، والذي يتجلى هنا في رفضه الاعتراف بشكل مغاير؛ الدرس الذي تعمله من بابت. باختصار، قدمت قصيدة النثر لإليوت خياراً خلال مرحلة تجريب أشكال وأساليب شعرية مختلفة. ومع ذلك كان عمر التجربة قصيراً بالنسبة للشاعر الشاب وتحول إليوت، الناقد، نحو التراث.
وبدلا من ان ننظر إلى هجوم إليوت النقدي على قصيدة النثر بوصفه انقلاباً تاماً على موقفه، بإمكاننا ان نبحث في مقاله عن ما حاول إليوت القيام به في قصائده النثرية المبكرة؛ إذ يبدأ في " تخوم النثر "، مثلاً، بالسخرية من حماقات الشعر الرمزي، بما فيها قصيدة النثر. ثم يستمر ملاحظاً " تفشي القصيدة نثراً، لا في فرنسا فحسب، بل في إنكلترا. لا في إنكلترا فحسب بل في أمريكاً ". إليوت لا يبدي رد فعله هنا على تكلف قصيدة النثر نهايات القرن (التاسع عشر)، بل على ما يراه بعثاً لبدعة معاصرة. ثم يواصل ثناءه على " إشراقات ريمبو " بوصفها " قطعاً نثرية قصيرة مُقنِعة على نحو مذهل ". ثم يركز إليوت على الموضوع المعين في هجومه، أي قصائد نثر ريتشارد آلدنغتون التي لا تعد " نثراً محضاً " مثل " إشراقات ريمبو "، بل " تبدو متأرجحة بين وسيلتين ". ولعله، مثل بابت، كان سيتوصل إلى " الفرق الحاد ". ويستنتج ان" كلا من الشعر والنثر ما زالا يخفيان إمكانات غير مكتشفة بعد، وأن كل ما يكتبه المرء سيتخذ هذا الشكل أو ذاك بالتأكيد بحكم الضرورة الداخلية ". لكن في الوقت الذي يجمع فيه إليوت قصيدة النثر بأعمال أخرى لشعراء رمزيين في العمل المخزي الذي قدمه بابت، مثل موسيقى البرنامج وسمفونيتيّ تيوفيل غوتييه وجيمس ماكنيل ويستلر، فإنه يتحاشى نغمة السخرية الأخلاقية التي تجدها عند بابت، ويلاحظ، ببساطة أو بذكاء، أن "الشعر الذي يشبه النثر، والنثر الذي يبدو مثل الشعر ينطويان، بلا شك، على درجة من الخزي والنجاح" (3). ترتكز حجته، عموماً، على التعليق الشكلي أو التقني، لا على التبعات "الأخلاقية" التي تتخطى حدود الجنس الأدبي، مع أن البعد الأخلاقي قد يكون نصاً فرعياً مكبوتاً لتعليقاته (4). وبينما كان شجب خطايا القرن التاسع عشر "القرمزية" يعد "قلقاً أمومياً" عام 1917، كان إليوت يهدف، بسعادة، إلى جعل "الدجل" هدفاً ثميناً للسخرية.
بعد هذا الهجوم الأولي على قصيدة النثر عام 1917، رقق إليوت، مع مرور الأيام، شجبه للجنس الأدبي وركز قدحه عام 1921 في مقالة "النثر والنَظْم" على مصطلح شعر النثر: "اعترض على مصطلح (الشعر المنثور) لأنه يوحي، كما يبدو، بوجود فرق حاد بين (الشعر) و(النثر) لا أقصده البتة. وإن لم يوحِ المصطلح بهذا الفرق، فإنه يصبح بلا معنى عندئذ وعقيماً طالما كان من غير الممكن وجود رابط لما هو غير قابل للتمييز". يظل إليوت منشغلاً بـ"الفرق الحاد"، مثلما كان يفعل بابت، لكنه يرغب بالاعتراف "بمصطلح جديد للجنس الأدبي: "إذا اعترفنا بالقصيدة الطويلة، يتوجب علينا، قطعاً، ان نعترف بـ"قصيدة النثر القصيرة" (5). يتحاشى هذا الاستنتاج السؤال ما إذا كان من الضروري عدّ هذا الجنس "شعرياً" أم لا، ويتهرب من الموضوع بدلاً من ذلك. وبحلول عام 1930، وفي توطئة ترجمته لقصيدة " اناباز "، يضل إليوت حتى عن توكيداته السابقة حينما يضع قصيدة بيرس المنثورة في معسكر " الشعر": "أشير إلى هذه القصيدة بوصفها قصيدة. لعله سيكون ملائماً لو كان الشعر نَظْماً دائماً ـ إما منبّراً أو جناسياً أو كمياً، لكن هذا ليس صحيحاً؛ فقد يقع الشعر ـ ضمن حد فاصل عند الجانبين ـ على أية نقطة على طول الخط الذي يكون (النَظْم ) و(النثر) حدّاه الشكليان. ومن دون تقديم أية نظرية معممة عن (الشعر) و(النَظْم) و (النثر)، فإني أقول بأن الكاتب عندما يعمد إلى استعمال مناهج شعرية معينة، مثلما فعل السيد بيرس، يكون قادراً أحياناً على كتابة الشعر بما يسمى نثراً. وبمقدور كاتب آخر، من خلال قيامه بعكس هذه العملية، أن يكتب نثراً عظيماً بالشعر" (6).
وبالنسبة لشاعر وناقد ملم بالأدب الفرنسي مثل إليوت، تبدو لامبالاته المستمرة بجنس أدبي سريع الانتشار ـ تضمن عام 1930 أعمالاً قدمها ماكس جاكوب، اندريه بريتون، بول ايلوار وغيرهم إلى جانب بيرس ـ أمراً لافتاً.
فهل كان إليوت ـ الناقد " الكلاسيكي " هارفاردي التعليم ـ في صراع مع إليوت الشاعر فرنسيّ الإلهام، ببساطة؟ وهل انهزمت قصيدة النثر في المعركة؟ إن قصيدة النثر الوحيدة المنشورة لإليوت، " هستيريا "، تعطينا بعض الأفكار عن ما سعى له إليوت بشأن الشكل وأسباب ابتعاده السريع عنه. لاحظنا آنفا إعجابه المبكر بإشراقات ريبمو، ولاسيّما للكيفية التي " تحقق بها [هذه القصائد] تأثيرها من خلال الانطباع الفوري والبسيط، أي الاتحاد الأكثر إقناعاً بسبب تنافر الصور الملحوظ " (7). وقصيدة إليوت المنثورة نفسها تستعمل اصطلاحاً حديثاً وتسعى وراء " الانطباع الفوري والبسيط، المؤلّف من صور مدهشة مجفلة، " متنافرة ". لاشك في أن لغة إليوت في " هستيريا " ليست مُربِكة مثل [لغة] إشراقات ريبمو، كما ان صوره ليست متنافرة جداً لكنها تتحاشى، جذلة، النغمة القديمة التي ترددها قصائد نثر داوسون أو وايلد أو، لاحقاً، آلدنغنون:



حينما ضحكتْ أدركتُ أني صرتُ متورطاً في ضحكتها وجزءاً منها، إلى أن صارت أسنانها محض طالعٍ عارض له موهبة المارش العسكري. انجررتُ إلى الداخل إثر شهقات قصيرة، مستنشقاً عند كل استعادة مؤقتة، حتى ضعتُ أخيراً في كهوف بلعومها المعتمة، منجرحاً بتمويجة رخويات عضلية لا تُرى. نادل كبير السن بيدين مرتعشتين كان يفرش على عجل مفرشاً بالأبيض والوردي فوق المائدة الخضراء الحديدية الصدئة، قائلاً: "إنْ يفضل السيد والسيدة أن يشربا شايهما في الحديقة، إنْ يفضل السيد والسيدة أن يشربا شايهما في الحديقة..." قررتُ فيما إذا ارتعاش نهديها يتوقف، عندها يكون من الممكن جمع شيء من شظايا بعد الظهيرة، وقد صببت انتباهي بدقة مرهفة على هذه الغاية (ترجم القصيدة عبدالقادر الجنابي) 8.



إن هذا السرد الموجز يخص أزمة لحظة واحدة، زمناً موسّعاً بسبب عواطف متأججة و" مرض " سايكولوجي حديث. المثير أن قصائد النثر الإليوتية الأخرى، التي ظلت مخطوطة، تنطوي على إحساس مماثل بوجود أزمة سايكولوجية. وفيما عدا قصيدته " استبطان " ـ التي هي اليغوريا بالدرجة الأساس ـ فإنها تمثل سروداً داخلية تتوسع للحظات قليلة من الزمن عن طريق تضخيم الأحاسيس والإدراكات الحسية إلى نسب هائلة لتتمخض هلوسة وصدمة عند الراوي (9).
ما الذي يحدث بالضبط في "هستيريا"؟ جملها الأربع تروي كل واحدة منها مرحلة مختلفة في التجربة الهستيرية لبضع لحظات من الزمن. أما الصوت المفرد ـ الراوي المضطرب ـ فهو شخصية سلبية تحاصره ضحكة رفيقته العدوانية، أي العارض الهستيري. ومع ذلك، لا يعرف القارئ ما إذا كانت المرأة نفسها هستيرية حقاً أم لا نظراً لعدم وجود وجهة نظر موضوعية (10). وبدلا من ذلك، تثير ضحكتها "الهستيرية "، كما يبدو، نوبة هستيرية في مُحاوِرها كما لو أن المرض معدٍ. وقد جرى العرف على عدّ الهستيريا مرضاً نسائياً ناتجاً عن اختلاطات في الرحم، ولهذا يقدم إليوت انعطافة لا معتادة وأخّاذة، في الوقت نفسه، لأثر المرض في الرجل. لكن الدينامية بين المرأة والرجل تصور أيضاً انغمار الذات في الآخر؛ إذ يتصور الراوي غمرها له (11): " انجررتُ إلى الداخل إثر شهقات قصيرة، مستنشقاً عند كل استعادة مؤقتة، حتى ضعتُ أخيراً في كهوف بلعومها المعتمة، منجرحاً بتمويجة رخويات عضلية لا تُرى ". غنائية " أنا " لا تعد راوياً غير موثوق، بل راوياً تهدده امرأة يراقبها هو؛ إذ أن هستيريتها الجنسية، " اهتزاز نهديها "، يُشظي التجربة، " ما بعد الظهيرة "، بالنسبة له.
تتأوج الجملة الأولى من القصيدة ـ التي تروي العملية التي من خلالها يضيع الراوي نفسه في ضحكتها ـ في صورة " أسنانها " بوصفها " محض طالع عارض له موهبة المارش العسكري ". إنه يشعر بهجوم " شُهبها" التي تتصرف كما لو إنها جنود تتدرب؛ إنها هي العدو. ثمة تورية على كلمة "أسنان" بوصفها " طالع "، في حين توحي الصورة نفسها بالقَـدَر، إذا علمنا شكل " الطالع ". وذكرت ايلين شولتر في كتابها عن الهستيريا، وعنوانه "المرض الأنثوي: النساء والجنون والثقافة الإنكليزية 1830 ـ 1980"، أن أول تفشٍ واسع النطاق للأعراض الهستيرية بين الرجال حدث خلال الحرب العالمية الأولى، وأشير له على نطاق شائع بتسمية " صدمة القذائف " [وهو اضطراب عصبي أو عقلي يتميز بفقدان الذاكرة أو الكلام أو البصر ويظهر عند بعض الجنود الذين يخوضون غمار حرب حديثاً ]. وقد فسرت شولتر الجذور الاجتماعية والسايكولوجية لهذه الهستيريا الذكورية على النحو الآتي:
لاشك في أن عدداً من أشهر حالات صدمة القذائف ـ ويلفريد اوين، سيغفريد ساسون، ايفور غورني، بيفرلي نيكولز، وهذه مجموعة قليلة من بين كثيرين ـ كانوا شاذين جنسيا. وبالنسبة لمعظمهم فإن الكرب المتأتي عن صدمة القذائف ينطوي على حصارات نفسية اكثر عمومية، بل أشد، تخص الرجولة، ومخاوف التصرف بتخنث، بل حتى رفض الاستمرار بخدعة السلوك الذكوري الرزين. فإن كان جوهر الرجولة هو ان لا تشتكي، كانت صدمة القذائف عندئذ لغة جسد الشكوى الرجولية؛ احتجاجاً ذكورياً متخفياً لا على الحرب فحسب، بل على مفهوم " الرجولة " نفسه (12).
في قصيدة النثر الإليوتية هذه نجد أن الراوي صيرّته هستيرياً بقوة، أي لا ذكورياً، امرأة متسلحة بأسنانها مثل وحش شديد الضراوة؛ إنها مصدر مخاوفه عن الذكورة. إنها صورة لشهوة جنسية عارمة وغامرة؛ صورة لـفَرْج بأسنان موحياً بحرب مفروضة حديثاً. ولم يؤلف إليوت قصيدته بعد فترة طويلة من زواجه من فيفيان هي وود الذي سرعان ما تبدت تعاسته؛ أي الفشل الذي غالباً ما تلام عليه اضطرابات فيفيان العصبية. لن أتبنى هنا مقاربة سايكوبايولوجية (13)، لكني سأركز على حقيقة ان إليوت اختار هذا الشكل الملغز أخلاقياً ـ إذا ما أردنا تصديق بابت ـ لتصوير لحظة القلق الجنسي بلغة تستدعي " تخنيث " الجزء الأعظم من الذكور الإنكليز. كما تُبدي القصيدة، بوضوح، مخاوف التصرف مثل امرأة، ومخاوف عدم الارتقاء إلى التوقعات الرجولية، ومع ذلك يعد المرض احتجاجاً على سلطة المرأة، لا الحرب.
فما تبعات هذه " النوبة "؟ مؤقتاً " تضيع " الذات المتكاملة" [للمرأة] و " تنجرح في داخلها. إنها رحلة إلى " قلب الظلام " حيث يكون بلعوم المرأة. وحينما يحول المتكلم بصره نحو الخارج؛ نحو المشهد ونحو شخصية ثانوية في هذه الدراما ـ النادل ـ يلحظ دراسة في التوتر العصبي حينما يفرش النادل مفرش المائدة بـ " يدين مرتعشتين "، بينما يكرر اقتراحه بأن يشرب " السيد والسيدة " شايهما في الحديقة " (14). ولأن الراوي غير موثوق، لا يعرف القارئ ما إذا كان النادل حقاً يرتعش ويكرر نفسه لغرض الإصرار، أو ما إذا كان ارتجافه مبالغة من الراوي شديد الهياج. وينتج التكرار عن حالة الراوي الذهنية الذي لا تصله الألفاظ إلا كاسطوانة مشروخة، كما لو أنه عالق في لحظة صدمة أبدية، وحيدة، متكررة. ولاشك في أن اقتراح النادل يوحي بأن المشهد محرج اجتماعياً ولهذا يشعر الراوي بالخزي إلى جانب كونه هستيرياً.
الجملة الأخيرة لحظة قرار حقيقية بالنسبة للمتكلم يتصور فيها استعادة ممكنة فقط إن تمكن من التصرف، مركزاً " انتباهه بدقة مرهفة " لإيقاف اهتزاز نهديها. إن هذا التفصيل، شأنه في ذلك شأن الأسنان المهاجمة أو البلعوم الجارج، يعد هزلياً لأن مخاوفه تتضخم إلى نسب مضحكة إلا أن التردد في هذه الجملة الأخيرة يعزز انطباعنا بعجز المتكلم ووقوعه ضحية أمام المرأة. لكن هذا الراوي، مثل الملك الصياد في " الأرض اليباب "، يجمع " الشظايا لهذه الغاية؛ ولهذا يجلب قصيدة النثر إلى خاتمتها.
تعتمد الحكاية بأكملها على المشهد الذي يكون فيه لانتهاك اللياقة الاجتماعية دوراً. ويتضح أن نوبة هستيريا الفعلية تعدّ تجربة غير لائقة أثناء " تناول الخبز المحمص والشاي " ( إذا اقتبسنا من " بروفروك " ). وتبتعد نغمة صوت المتكلم عن الحدث أشبه بنغمة صوت المراقب العلمي أو، بدقة أكبر، المشارك السلبي، أي السايكولوجي الذي يقوم بالتدوين أثناء تحليل الذات:" أدركتُ أني صرتُ متورطاً في ضحكتها وجزءاً منها ". المتكلم يُسهب، هازلاً، مع ذلك فإن تضخيمه للتفصيل وإحساسه بأنه يتعرض لهجوم يُبيان كيف شارف على الانهيار العصبي، وكيف لا يتمالك نفسه إلا عبر قدرته على تدوين التجربة؛ وبذا فهو يضع نفسه وراءها. وبوصفها مبالغة في الإدراكات الحسية المتبادلة في لحظة قصيرة، تبدو قصيدة النثر متحالفة مع تجارب سرد تيار الوعي والنظريات البرغسونية للزمن والإدراك الحسي (15). لكنها بوصفها نثراً تعدّ أقل تجريبية بكثير من قصائد نثر وليام كارلوس ويليامز وغيروترود شتاين. فهي لا تُربِك الخطاب عند مستوى النحو أو التركيب أو الدلالة، بل تكون مُربِكة بالدرجة الأساس عبر التوتر الحاصل بين حالة الراوي الهستيرية ونغمة صوته تحديداً، والإحساس بلحظة موجعة تتعاظم بنسب هائلة.
ان راوي " هستيريا" يسقط قدراً من الرعب الذي يكون غائباً في قصائد معاصرة كتبها إليوت، مثل قصيدته الهزلية " السيد أبوليناكس " التي تتمثل ثيمتها المركزية بضحكة مدوية تمثل، بدلاً من ذلك، تفوقاً فكرياً وشهوانية ذكورية عارمة، وعُته واضح:



السيد أبوليناكس
حينما زار السيد أبوليناكس الولايات المتحدة
رنّت ضحكته بين أواب الشاي.
فكرتُ بفراجيليون* لاتلك الشخصية الخجولة بين أشجار البتولا،
وبـ "برايبوس" [إله الفحولة] بين الشجيرات
يُحدق، بانشداه، بالسيدة التي في الأرجوحة.
في قصر السيدة فلاكيوس، عند البروفيسور تشاننغ ـ تشيتا **
ضَحِكَ مثل جنين لا مسؤول.
ضحكته كانت عميقة لا تُسبّر
أشبه بضحكة " الشيخ والبحر "
خفية تحت جزر المرجان
حيث انجرفتْ أجساد الغرقى القلقة إلى أعماق الصمت الأخضر،
ساقطة من أصابع الأمواج المتكسرة.
بحثتُ عن رأس السيد أبوليناكس متدحرجاً تحت كرسي.
أو مُكشراً فوق حجاب مصباح
وطحالب البحر في شعره.
سمعتُ وقع حوافز القنطور***
فوق المرج القاسي
بينما كان حديثه الجاف والشهواني يلتهم ما بعد الظهيرة.
" إنه رجل ساحر " … " لكن، الأهم، ما قصده؟ "
" أذناه مثقوبتان … إنه غير متزن ولا ريب"
" كان ثمة شيء قاله من أنني ربما تحدّيت ".
عن الأرملة النبيلة السيدة فلاكيوس والبروفيسور والسيدة تشيتا
أتذكر شريحة ليمون وقطعة معكرونة مقضومة. (16)

* اسم يوحي بالمتخنث،
** وفقا لزوجة ايليوت انه استاذ ايليوت في جامعة هارفارد
*** كائن خرافي نصفه رجل ونصفه فرس


ان كلا من "هستيريا" و"السيد أبوليناكس" مؤرختان في عام 1915، وكلتاهما تتضمن صورة لضحكة معتوهة، لكن في "السيد أبوليناكس" تكون النغمة هزلية تماماً وساخرة من الذين لا يضحكون، أي من الذين لا يشعرون بالطُرفة (17). ربما نقول ان "السيد أبوليناكس" و"هستريا" تبرزان منذ البداية؛ فالموضوع المشترك المتمثل بالضحكة المدوية يُوحد كلتيّ القصيدتين، لكنهما تواجهان اتجاهات متعاكسة في النغمة والتأثير والشكل الشعري؛ أي قصيدة النَظْم الهجائية مقابل قصيدة النثر الشجية. ومن المهم ان نلاحظ ان تصوير إليوت الأخير لنوبات الهستيريا كان نوعاً من كراهية النساء عادة، أي استعمال تفاوت الهجاء أو السخرية السوداء، كما في صورة المرأة المصابة بالصرع في قصيدته " Sweeney Erect " (18)، أو وصف الأصوات الهستيرية في "الأرض اليباب".
ربما يكون إليوت قد نبذ قصيدة النثر بسبب قربها من المذكرات والسيرة الذاتية، أي الإحساس بالهتك، مثلما تصف غنائية " أنا " ألمه، وإن كان بهدوء. وربما شعر بعدم الارتياح من طبيعة هذا الجنس الأدبي اللاغنائية، ولا سيما تلك التي تتجلى في النغمة شبه التحليلية التي تتخلل " هستيريا ". إليوت يتحاشى الأسلوب الحالم لقصائد نثر تشابه ما كتبه آلدنغتون؛ أي محاولات إضفاء الغنائية على النثر أو إدخال إيقاعات ملحوظة أو القافية الداخلية أو اللازمة، والتخييل المستعار من القدماء على نحو يبرز الشعرية. وتكمن أعظم قدرة جمالية، وقد يقول البعض سياسية، لقصيدة النثر في لعبها بالنثر بوصفه نثراً؛ تركيبها ومواضعتها الخطابية وعلاقتها الواضحة بعالم الحقيقة. وقد أدرك إليوت أهمية مصادر النثر للنَظْم، مثلما حصل مع باوند. إذ كتب في "النثر والنَظْم" يقول: "النَظْم يناضل دائما، مع أنه يبقى نظماً، كي يدرك الكثير والكثير من ماهية النثر، كي يأخذ من الحياة ويحوله إلى "لعبة" (19).
وعلى الصعيد نفسه، دعا باوند إلى شعر"مكتوب بعناية مثل النثر" مفسراً، في رسالة إلى هارييت مونرو في كانون الثاني 1915: " لغته ينبغي أن تكون راقية لا تبتعد مطلقاً عن الكلام إلا بكثافتها المتصاعدة ( أي بساطتها ). لا ينبغي أن تكون ثمة كلمات من الكتب، لا إطناب، لا تغييرات في الوضع السوي للكلمة، بل أن تكون ببساطة أفضل نثر كتبه موباسان، وبصعوبة أفضل نثر ستاندال " (20). لكن إليوت نفسه لم يحاول تجريب المزيد من قصائد النثر الأصيلة، وناضل، بدلاً من ذلك، من أجل إضفاء المزيد من النثر، والمزيد من "الحياة" على "نَظْمه". لا يستطيع المرء أن يمنع نفسه من التساؤل عما إذا كانت مذكرات إليوت عن تحذيرات البروفيسور بابت الصارمة لطلاب هارفارد غير الخريجين من مخاطر تأنيث الأجناس الأدبية المختلطة قد أثنت الشاعر الشاب عن القيام بالمزيد من التجارب، ولا سيما بخصوص محتجزة في قبضة هواجسه الجنسية " الهستيرية "، أي خوفه من أن تغمره امرأة ما وتجرده من رجولته [ تخنثه ]. وإذا علمنا مكانة إليوت وتأثيره في جيله من الشعراء والنقاد، وفي الأجيال اللاحقة من أساتذة اللغة الإنكليزية، فإني أتساءل أيضاً عما إذا كان افتقاده إلى الاهتمام الدائم بقصيدة النثر، وبقصائد عزرا باوند، قد ساعد على إبقاء الشكل عند هوامش الشعر الحداثي بالإنكليزية، أي بين أيدي خياليين ثانويين في مدرسة آمي لويل الصوريون، ومتمردين على التقاليد] مثل غيرترود شتين و ويليام كارلوز ويليامز؟
وقد كتب إدوارد سعيد عن الثقافة بوصفها " نسق اقصاءات " رداً على ملاحظات ماثيو آرنولد الشهيرة عن الثقافة بوصفها "أشد أعداء الفوضى"، يقول: "حتى كمثال بالنسبة الى ارنولد، فيجب أن تُرى الثقافة بقدر ما لا هي وما تنتصر عليه عندما تكون مكرسة من قبل الدولة، يجب ان تُرى ما هي ايجابيا. وهذا يعني أن الثقافة هي نظام من التمييزات والتقييمات – ربما على الأغلب جماليا، كما قال ليونيل تريلنغ، لكن ليس أقل قوة وطغيانا لطبقة معينة في الدولة قادرة على ان تتذاوت واياها؛ ويعني هذا أيضا أن الثقافة نظام اقصاءات تم تشريعها من فوق لكنها مُسنّة في نظام الحكم، التي بواسطتها تم تحديد أشياء كالفوضى، اللانظام، اللاعقلانية، الأدنى منزلة، الذوق الرديء واللاأخلاق، وودعت خارج الثقافة وأبقتها هناك سلطة الدولة ومؤسساتها." ["العالم، النص، الناقد"، المقدمة، ص11 " ] (21)

وبعد الانتقال الإشكالي لقصيدة النثر من جيل وايلد إلى أجيال الشعراء التي أعقبته، ولا سيما شعراء الحداثة الراقية، يتوقع المرء وصمة الفوضى الثقافية، أي الاضطراب وفوضى الشكل الشعري واللا أخلاق في الفن، التي ألحقتها المحاكم بهذا الشكل تحديداً؛ فالصراع بين ثقافة الصحف، أي ثقافة الطبقة الإنكليزية الوسطى المحترمة لذاتها، والثقافة الجمالية التي حاول وايلد تجسيدها على كل صعيد، تحول إلى صراع داخل مؤسسة الفن أو "الأدب" نفسها. وبالنتيجة، بدا أن قصيدة النثر، بوصفها جنساً " مشوشاً"، قد طُرِدت من الأكاديمية وتم تمييزها عن الشعر بذاته بسبب انتهاكاتها للحدود وتهديدها بالانحلال الأخلاقي والجنسي. وبسبب استهجان هذا الشكل بوصفه "آخر" Other، فقد بقي مهمشاً وتمت إحالته لتجارب الطليعة الهامشية في النصف الثاني من القرن.





الهوامش
(1)Bernard, Le Poéme en prose .
(2) أفكر، أيضاً، بالعمل الأخير الذي قدمه فرانك لينترشيا عن تأنيث الشعر الأمريكي من خلال شخصية المؤلف التافه " شبيه السيدة "، وقدرة المحررين المتكلفين التي واجهها شعراء حداثيون ذكور شباب مثل والاس ستيفن، روبرت فروست، إليوت، عزارا باوند، وشعروا بضرورة التغلب عليها. ينظر:
Lentricchia, "Patriarchy Against Itself -- The Young Manhood of Wallace Stevens," Critical Inquiry 13.4 (Summer 1987): 742-86, and "The Resentments of Robert Frost," American Literature 62.2 ( June 1990): 175-200.
(3) ظهرت خمس قصائد لإليوت في الأنطلوجيا الكاثوليكية لباوند، هي:" أغنية حب الفريد بروفروك " و" صورة للسيدة " و " مخطوط أمسية بوسطن " و" الآنسة هيلين سلنغسبي " ( العمة هيلين ")، و"هستيريا". وتبعاً لما ذكره دونالد غالوب، " لاحظ باوند لاحقاً أن السبب الرئيس لنشرها هو " طبع ست عشرة صفحة من إليوت في لندن ". ينظر:
Gallup, T S. Eliotand Ezra Pound: Collaborators in Letters ( New Haven, Conn.: Wenning, 1970) 6. "The Borderline of Prose" appeared in The New Statesman 9 ( 19 May 1917): 157-59.
(4) Eliot, "Prose and Verse," The Chapbook: A Monthly Miscellany 22 ( April 1921: 3-10, esp. 9.
(5) Eliot, "The Borderline of Prose"158, 159.
(6) عنوان المقال نفسه قد يلمح لنا بمثل هذا النص الفرعي. وتلاحظ ايلين شولتر في كتابها الأخير، " الفوضى الجنسية "، انه في إنكلترا أواخر القرن التاسع عشر " تعرف الأطباء النفسيون على نوع جديد من العصاب الذكوري اسمه " التخوم ". وبعد تأليف قصيدة النثر " هستيريا "عام 1915، انتقد إليوت عام 1917، وبقسوة، هذا الجنس الأدبي بسبب مكانه عند " التخوم ". التطابق مذهل بين مصطلح إليوت الذي يشخص قصيدة النثر وهذا المصطلح السايكولوجي للعصاب الذكوري. ينظر:
Showalter, Sexual Anarchy: Gender and Culture at the Fin de Siécle ( New York:Viking, 1990)10.
(7) Eliot, "Prose and Verse" 9, 5-6.
(8) Eliot, preface to Anabasis, by St. John Perse ( London: Faber, 1930) 8-9.
(9) Eliot, "The Borderline of Prose"158.
(10) Eliot, The Complete Poems and Plays, 1909- 1950 ( New York: Harcourt, 1971.
(11) مخطوط " هستيريا " وغيرها من قصائد النثر غير المنشورة تعد جزءاً من مجموعة بيرغ لمكتبة نيويورك العامة. وقد أوحى لي مقال دونالد غالوب، " مخطوطات ت. س. إليوت " المفقودة "، بوجودها.
(12) يعلق أ. د. مودي على هذا الجانب من القصيدة قائلاً: في " هستيريا " تُعرَض علينا تجربة خام وعاطفة مقلقة من دون الإفادة من المسافة الجمالية. ربما يكون الأمر هو أن السيدة هستيرية؛ فما الذي يثير ضحكها؟ أم أنه هو؟ لكن المتكلم يمنح نفسه، بوضوح؛ انه منهار إلى حالة عصبية بسبب شهوتها الجنسية العارمة. ضائعاً في صراعه من اجل الاستحواذ على الذات ليس إلا، أي على النثر ببساطة، "أنا" وبذا فهو دون مستوى إتقان الوعي الشعري.
ينظر:
A. D. Moody, Thomas Stearns Eliot: Poet ( Cambridge: Cambridge UP, 1979) 39.
ومثلما سأؤكد، فان الراوي يفترض مسافة ساخرة من المشهد نغمته التحليلية المراقبة لذاتها، لكن لا شك في أن " المسافة الجمالية " التي يمنحها النَظْم كانت غائبة، وربما كان الغياب إشكالياً لإليوت.
وقد تنبع فكرة الفرق المفقود بين الذات والآخر، أو بين الذات والموضوع، من دراسة إليوت لفلسفة برادلي؛ فقد كان إليوت يعمل على أطروحته للدكتوراه، " الخبرة وموضوعات المعرفة في فلسفة ف. هـ. برادولي " حينما كان في أوكسفورد. ويلاحظ هيو كينر وجود هذا المفهوم في أطروحة إليوت " الشعور بأن الذات والموضوع واحد"؛ إذ يبين إليوت، بوضوح، في أطروحته لعام 1916، مقتبساً عن وصف برادلي للـ " خبرة الفورية ". ويكتب برادلي: "إن كل ما نعانيه ونفعله ونكونه في أي وقت يشكل كلاً نفسياً واحداً. وسيتم خبر ذلك كله بوصفه كتلة معايشة، ولا يتم تصوره منفصلاً ومتصلاً حتى بعلاقات التعايش. انه يتضمن العلاقات كلها والفروق وكل موضوع مثالي يكون في تلك اللحظة موجوداً في النفس". ينظر:
Hugh Kenner, The Invisible Poet: T S. Eliot ( New York: McDowell, 1959) 49.
(13) للاطلاع على مثل هذه المقاربة، ينظر:
Elaine Showalter, The Female Malady: Women, Madness, and English Culture, 1830- 1980 ( 1985; New York: Penguin, 1987) 171-72.
(14) تُعدّ "آلات"، إحدى قصائد النثر المتروكة بين المخطوطات، مشابهة من حيث إن اقتباسها المباشر يدخل قصيدة النثر بعد الإدراكات الحسية ودور أفعال الراوي الأولية، كما تنتهي بمحاولة فاشلة لإعادة تأليف نمط معين من خبرة ما بعد الكلام المقتبس.
(15) تبعاً لما يذكره ليندال غوردون، حضر إليوت سبع محاضرات ألقاها هنري برغسون في الكوليج دي فرانس عام 1911. وكتب، بعد عودته إلى هارفارد، مقالاً عن فلسفة برغسون يركز فيه على " الفرق بين الصفات المتغايرة التي تخلف بعضها الآخر في إدراكنا الحسي الملموس، أي إدراكاتنا الحسية اللامستمرة، والتناغم الضمني الذي ينبغي للمرء ان يستنبطه ".
(16) هذه القصيدة تصف الفيلسوف برتراند رسل وآذانه الناتئة. انظر: Eliot, Complete Poems and Plays .

(17) تبعاً لما يذكره ليندال غوردون فان "السيد ابوليناكس" هو برتراند رسل خلال مهمته بصفة أستاذ زائر في هارفارد. وتسخر القصيدة من الهيئة التعليمية المغرورة في هارفارد التي عرفها إليوت حينما كان يدرس الفلسفة. المشهد هو حفلة شاي الأستاذ فولر؛ إذ كان رسل مصدر حيرة لمضيفيه وللسيدة فلاكوس المهيبة ". ينظر:
Gordon, Eliot's Early Years19-20.
(18) في قصيدة" Sweeney Erect" يتم خلط الجنس بالصرع لفضح " سيدات الرواق " اللواتي يستنكرن فقدان الذوق، يلاحظن ان الهستيريا / يمكن إساءة فهمها بسهولة.
(19) "Prose and Verse".
(20) he Letters of Ezra Pound, 1907- 1941, ed. D. D. Paige ( London: Faber, 1951).
(21) ward Said, "Introduction: Secular Criticism," The World, the Text, and the Critic (Cambridge, Mass.: Harvard UP, 1983) 11