حسون
08/06/2005, 22:03
رفعت الاسد ارتكب مجازر جماعية والبلاد ليست بحاجة الى هؤلاء السفاحين
التقاه في دمشق وحمص: أبيّ حسن
حين فكرت بإجراء حوار مع الأستاذ رياض الترك لم يكن يخطر لي أن ذلك الشيخ الذي تجاوز الخامسة والسبعين من العمر سيكون متعباً إلى هذا الحد. فبرودة صوته خلال مكالماتي الهاتفية معه كانت توهمني أنه خرج لتوّه من صقيع الاستبداد (الذي كان في أحد تجلياته زنزانة منفردة قضى فيها سبعة عشر عاماً). هذه البرودة تحولت إلى دفء وسلام داخلي عندما وجدته بانتظاري قرب مقهى الروضة في حمص حيث رحب بي واشترى نسختين من جريدة "تشرين" السورية (نسخة له والأخرى قدمها لي)، شكرته سائلاً إياه باستغراب: "ماهي المواد التي تقرأها في هذه الصحيفة؟!"، قال: "ألقي نظرة على العناوين في الصفحة الأولى وأقرأ أحياناً مقالاً لكاتب محدد في الصفحة الأخيرة".
ونحن نشرب القهوة في منزله كرر شرطه في قراءة الحوار قبل النشر بغية التعديل والتعقيب، ووافقت مفترضاً أن الحوار معه عبارة عن نزهة سياسية لا رحلة من الإرهاق النفسي في الحد الأدنى ـ كما تبين لي لاحقاً ـ وعلى مدى أيام، كان ختامها في مقهى السياحة في دمشق مساء الثلاثاء (23/5).
في هذا الحوار يؤكد رياض الترك ما سبق أن طرحه منذ قرابة الثلاثين عاماً في ما يخص مسألة الديموقراطية كبديل واقعي ومعقول لأزمات سوريا الداخلية. وكسياسي يرى أن النار في سوريا تحت الرماد، وأن النظام ضعف والمعارضة السورية أيضاً ضعيفة ومع ذلك يؤمن بأن المستقبل لها. ليس متفائلاً بما سيسفر عنه مؤتمر حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يعتقد أنه لم يحكم سوريا.
يرى الترك أن الاستقرار في لبنان رهن بالتطوّرات المستقبلية في سوريا. فما دام ثمة استبداد في سوريا لن يعرف لبنان طعم السكينة. لا يرحب بعودة رفعت الأسد في الوقت الذي يبدي مرونة تجاه الإخوان المسلمين، وإن سألته عن صراحته وأسلوبه في الطرح السياسي يعترف بأنه حاد.
وفي ما يلي نص الحوار:
على الاخوان المسلمين أن يعتذروا من أسر الضحايا (...)
مع تأكيدنا على حق الجميع بالوجود السياسي
منذ فترة عقدتم مؤتمركم السادس في سرية تامة. ومن المعروف أنكم غيرتم فيه اسم الحزب فضلاً عن تنحيك عن منصب الأمانة الأولى. رياض الترك لماذا السرية والتنحي وتغيير اسم الحزب في زمن لم تعودوا فيه حزباً سرياً؟
ـ بداية اسمح لي أن أقدم تعازي إلى عائلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وعائلات رفاقه الذين قضوا معه وأسرة "المستقبل". لقد أصبح باستشهاده الأب الروحي للاستقلال الثاني للبنان.
أما حول الإجابة عن أسئلتك، فكنت أفضل أن تتلقاها من الرفيق عبدالله هوشة، الأمين الأول الجديد. لذلك تبقى إجابتي هذه باسمي الشخصي.
عندما تعيش في بلد حياته السياسية غير طبيعية تكون كلمة "السرية" ذات معنى دلالي. فالمخابرات السورية ومراكز القوى تحتكر السياسة والشأن العام وتحارب معارضيها بمختلف الوسائل. دعني أسألك هل تريدنا أن نعقد مؤتمراً علنياً ثم تأتي الأوامر لتمنع انعقاده، فماذا ستكون النتيجة؟! إذاً نحن في نشاطنا السياسي نتخذ الحيطة والحذر والسرية كشكل دفاعي كي نتابع نشاطنا مهما كانت الظروف. بمعنى آخر، لا توجد قوانين في البلاد تحمي المعارضة من طغيان السلطة. لكننا طرحنا للرأي العام، منذ أكثر من سنة، على موقعنا الالكتروني، ثلاث وثائق. وقد جاءتنا ردود كثيرة عليها، حملت وجهات نظر متنوعة. من هذه الزاوية أجد أننا كرّسنا العلنية في العمل السياسي وكرّسنا إشراك الرأي العام في مناقشة الشأن السوري لأول مرة في سوريا. لكن في ما يخص المسائل الفنية الإجرائية المتعلقة بمكان المؤتمر وزمانه وعدد المندوبين إلخ... فهذه بقيت بعيدة عن عيون السلطة. فالعلنية والسرية مرتبطتان بطبيعة السلطة وبطبيعة الديموقراطية التي نفتقدها في سوريا، والتي تحول دون تحولنا إلى حزب علني تماماً. لهذا تجدنا نتحرك بين السري ونصف السري ونصف العلني والعلني، وهذا التحرك شكل من أشكال الدفاع عن النفس. باختصار السرية ضرورة في ظل الاستبداد والعلنية صنو الديموقراطية.
أسباب التنحي
الأسباب التي دفعتني للتنحي كثيرة منها: تقديري أن المرحلة الحالية في سوريا هي مرحلة احتضار هذا النظام، وظهور إمكانية التغيير باتجاه الحرية والديموقراطية، بل إمكانية إقامة نظام وطني ديموقراطي بديل عن النظام الاستبدادي الفردي الذي أسسه حافظ الأسد. انطلاقاً من هذا التقدير السياسي أرى أن على حزبنا أن يتهيأ ليساهم مع غيره من القوى السياسية والاجتماعية في عملية هذا الانتقال. فلابد من تجديد سياساته ووضع برامجه في حديها الأدنى والأعلى... هذا ما طرحناه في مؤتمرنا الذي أقره المؤتمر السادس. إن تجديد سياسات حزبنا تتطلب تجديد بناه التنظيمية التي تكلست خلال المراحل الصعبة التي مرّ بها الحزب فكان لابد من تجديد هيئاته أيضاً كي يلاقي الشباب، ليس الشباب الذين أخذوا ينضوون في حزبنا فحسب، بل عليه أن يتوجه إلى الأجيال الشابة في مجتمعنا ويهجر القديم بكل عاداته وأساليبه التي اعتاد عليها رفاقنا في الظروف الصعبة أيام اشتداد الإرهاب الأسود للنظام وخاصة خلال الثمانينات وقسم من التسعينات.
مهمة رفاقنا القدامى، وأنا منهم، دعم الشباب وتقديم الخبرة والنصيحة لهم مهما كانت الظروف، وينبغي تخفيف التناقض الذي يمكن أن ينشأ بين عقلية الشيوخ وعقلية الشباب، وينبغي الانحياز إلى الشباب مهما كلف الأمر، فالمستقبل لهم، فهؤلاء "خلقوا لزمان غير زماننا". هذه المسألة يجب أن تعيها التنظيمات الأخرى القديمة (المعارضة) كي تتمكن من متابعة "مشوارها" بنجاح.
لماذا غيّرنا اسم الحزب إلى "حزب الشعب الديموقراطي"؟
ـ كنت من الرفاق القلائل الذين لم يرغبوا في تغيير اسمه، إلا أن قيمة أي حزب تبقى في برنامجه السياسي وفي الأرضية الفكرية التي ينطلق منها وفي قدرته على التوفيق بين النظرية والممارسة. باعتقادي أن تغيير اسم الحزب له دلالتان مهمتان: 1 ـ الدلالة الأولى ترتبط بمهمات الحزب الوطنية والقومية. نحن نعيش في ظروف شاذة عربياً وسورياً حيث تسود الأنظمة الاستبدادية منذ سنوات طويلة. لكننا نشهد الآن احتضارها بسبب الخراب الذي ألحقته بمجتمعاتها ومنها المجتمع السوري. فالديموقراطية هي البديل الواقعي الذي ينفي الاستبداد وبالتالي مهمة إقامة النظام الوطني الديموقراطي تجعلنا نركز على مسألتين أساسيتين، الأولى: إعادة النسيج الوطني إلى المجتمع السوري بعد أن مزقه هذا النظام بأساليب مختلفة فرجعنا إلى الوراء كثيراً، والمهمة الثانية: الخلاص من العقلية الإقصائية التي حملتها التيارات الثلاثة الرئيسية الإسلامية والماركسية والقومية بشقيها البعثي والناصري.
إن إعادة اللحمة إلى المجتمع السوري وبين المواطنين بمختلف مكوناتهم الاجتماعية والإثنية والطائفية... إلخ. لا يمكن أن تتم إلا باعتراف الجميع بالجميع وهذا يتطلب الخلاص من النظام القائم وإقامة النظام الوطني الديموقراطي الذي يعامل أفراد المجتمع بالمساواة ويعطي الحقوق بالتساوي لهم، لذلك كانت مسألة الديموقراطية هي في خلفية تسمية حزبنا باسمه الجديد، وكلمة الشعب هي عودة إلى اسمه القديم حين تشكل في سوريا ولبنان في أواسط عشرينات القرن الماضي.
الدلالة الفكرية
المتغيّرات التي يشهدها العالم منذ الثلث الأخير من القرن الماضي بسبب الثورة العلمية والتكنولوجية وثورة الاتصالات التي قلبت المفاهيم التي كانت سائدة خلال ذلك القرن، يضاف إلى ذلك الاختلال الكبير في مسألة الاستفادة من هذه المنجزات والتأقلم مع الجديد. فالإتحاد السوفييتي (السابق) عجز عن استيعاب هذه المتغيرات وبالتالي سقط وسقطت معه المنظومة الاشتراكية، كما سقطت الماركسية المسفيتة التي تحولت إلى عقيدة جامدة خلال الحكم السوفييتي، بينما كان على المفكرين والساسة السوفييت أن ينظروا إلى الماركسية كنظرية تقبل التجدد والتغيير وفق ما تطرحه التطورات المشار إليها. وهكذا في التطبيق العملي فقدت الماركسية روحها الإنسانية. يقول أنجلز: "لدى كل فتح علمي كبير على المادية أن تجدد ثوبها". ألا ترى معي أن التقدم العلمي الكبير المشار إليه لابد أن يكوّن مفاهيم ونظريات جديدة تتلاءم والواقع الجديد؟ الآن لم تعد الماركسية مرجعيتنا الوحيدة , لكنها تبقى محطة هامة جداً في تاريخ الفكر الإنساني وإحدى مرجعياتنا، وعلينا أن نعالجها ونعالج مقولاتها بروح نقدية تنسجم مع التطورات والمستجدات، وبالتالي علينا الانفتاح على النظريات والمدارس والمذاهب التي ظهرت خلال قرنين بعد ولادة الماركسية.
المستقبل في سوريا للمعارضة
رياض الترك يقول إن النظام ضعف، والمعارضة ضعيفة وفي الوقت نفسه يقول إن المستقبل للمعارضة. كيف تفسر لي هذه المفارقة؟
ـ المسألة في غاية البساطة.. النظام ضعف لاعتبارات دولية وإقليمية وداخلية. كان حافظ الأسد يلعب على التناقضات التي كانت قائمة بين المعسكرين السوفياتي والأميركي، ولو لم يكن مدعوماً من كلي المعسكرين لما مارس إرهابه وارتكب المجازر هنا وهناك وخاصة في حماة عام 1982 ولما تسلط على لبنان وحوله إلى محافظة من المحافظات السورية. الآن وبعد أحداث 11 أيلول لم تعد المتغيرات في العالم في صالح النظام، طبعاً من غير أن ننسى أثر سقوط الاتحاد السوفياتي في تغير العلاقات الدولية وسيادة نظام القطب الواحد. فالولايات المتحدة وضعت استراتيجية دولية من شأنها بناء إمبراطورية تقوم على إضعاف مراكز القوى الدولية أو إلحاقها بسياساتها. أحداث أيلول كانت الذريعة لاحتلال أفغانستان والتدخل في شؤون المنطقة وإجراء تعديلات جذرية على أنظمتها تحت ذريعة مكافحة الإرهاب الدولي. فكان سقوط نظام صدام وكان بالتالي إخراج الجيش السوري من لبنان بعد التحرك الشعبي الكبير إثر اغتيال الحريري الذي اتُهمت به سوريا وصدور القرار الدولي رقم 1559.
فالنظام السوري نتيجة سياساته المدمرة داخلياً ولبنانياً وعربياً ونتيجة رفع الغطاء الدولي عنه يعاني أزمة حادة، فنفوذه الإقليمي أضحى منتهياً تقريباً وعجزه عن إيجاد الحلول اللازمة لأزمات الداخل وسعيه الدائم لحل تناقضاته مع الولايات المتحدة وليس مع مجتمعه , في الوقت الذي نرى أنها تبتزه وبالتالي تعمل على إضعافه باستمرار، هذه العوامل مجتمعة هي في حقيقة الأمر مؤشرات تدل على ضعف النظام. ولا أعتقد أنه ـ أي النظام ـ قادر على الخروج منها بأمان.
داخلياً، سعى النظام إلى مسح السياسة من المجتمع، أولاً باحتكاره القرار السياسي، وثانياً لسلوكه طريق القمع والإرهاب تجاه معارضيه، ووجد طبقة من مرتزقي السياسة أضفوا على صانعه من الصفات ما لم يضف على الأنبياء. هذه السياسة في مختلف جوانبها جعلته في عزلة عن المجتمع، فأنتجت أزمات حادة، منها أزمته مع المعارضة الديموقراطية والمعارضة المسلحة منذ أواسط السبعينات، وبالتالي أزمته مع المجتمع بأسره.
وهكذا نشهد ضعف النظام في المرحلة الحالية، خصوصاً بعد الضغوط الأميركية وسقوط بغداد، وأخيراً أزمته في لبنان وخروج الجيش السوري ومخابراته منه.
النار في سوريا تحت الرماد , لكن...
علينا أن ننظر إلى الأمور في العمق، قلت لك إن هذا النظام مسح السياسة من المجتمع، لكنه أخطأ في ذلك، والمجتمع الذي تضرر من سياساته ارتد عنه، والفئات التي أفقرها والمعارضة التي اضطهدها وسجنها ومنعها من التعبير عن ذاتها وسّعت دوائر الاحتجاج عليه، من هذه الوقائع وسواها نجد أن المجتمع بأكمله أضحى معارضاً، فالمعارضة ليست محصورة بالأحزاب! إنها معارضة مجتمع لم ينتظم بعد، هي قشرة رقيقة على سطح الحياة السياسية لكنها بحاجة إلى حواملها الاجتماعية التي لم تنخرط في عملية التغيير بعد. والآن نشهد أن دوائر المعارضة تتسع وقد تنشأ أحزاب جديدة. أضرب لك مثالاً، لو قلت لك قبل الأحداث اللبنانية الأخيرة أن الوضع في لبنان ناضج للتخلص من النظام السوري وأن النار تحت الرماد وأن النظام السوري سيخرج من لبنان , هل كنت أنت أو سواك ستصدقني؟ بالتأكيد لا. في سوريا كذلك النار تحت الرماد لكننا لا نريد لهذه النار أن تشب لأنها ستدمر المجتمع. وعلينا أن نجد مخارج عقلانية لأزماتنا.
ما الحل الذي تراه مناسباً كي لا تشب النار؟
ـ نريد حلاً ديموقراطياً سلمياً، وعلى هذا النظام أن يعي أن أمامه طريقين: إما تسليم السلطة للمجتمع، ولا أقول للمعارضة، فينبني بديلاً عنه نظام وطني ديموقراطي يقطع الطريق على أصحاب الفتنة وأمريكا معاً، وإما أن يستسلم للأمريكان. وبكل أسف إن حكامنا قبل سقوط بغداد وحتى الآن يسعون لحل تناقضاتهم معهم كي يتابعوا تسلطهم على المجتمع وفق سياساتهم التي اعتادوا عليها. لكن مع الأسف أمريكا هي التي "تتدلل" عليهم. أعتقد أن المصالحة مع المجتمع أفضل لأنه أرحم من الأمريكان. وقد دعا الله إلى التوبة، فهو يتوب عن المذنبين وأظن أن الشعب قد يسامح.
مصلحة الشعب السوري حالياً هي الخلاص من حكم العسكر وحكم المخابرات وحكم المافيات وحكم الأسر. مصلحته أيضاً في سلوك طريق الحرية والديموقراطية والدعوة إلى انتخابات حرة ونزيهة ينبثق عنها جمعية تأسيسية تصوغ دستوراً جديداً للبلاد يقوم على النظام البرلماني . أتساءل دائماً ألا يوجد عاقلون داخل هذا النظام يتجرأون ويطرحون مثل هذا الطرح كي يجنّبوا البلاد الكوارث... أتمنى من العاقلين من أهل النظام أن يبادروا إلى الانضمام إلى المعارضة والعمل معاً لإيجاد مخارج عقلانية لأزمات البلاد.
لا استقرار للبنان مادام الاستبداد في سوريا
كيف تقرأ مستقبل العلاقات السورية اللبنانية بعد اغتيال الحريري والانسحاب السوري من لبنان؟
ـ حاول النظام السوري أن يصنع في لبنان نظاماً على شاكلته. ومما لا شك فيه أن النظام السوري خلّف وراءه عملاء وأزلاماً ومافيات وأسراً، والخلاص من نفوذ هؤلاء يحتاج إلى فترة زمنية قد تطول وقد تقصر. واستقرار لبنان الحقيقي والنهائي مرتبط بالتطورات المقبلة في سوريا والنجاح في إقامة النظام الوطني الديموقراطي. فقضية الديموقراطية والحرية في البلدين مترابطة.
الحديث عن علاقات طبيعية بين البلدين في ظل الظروف الحالية مجرد وهم! والاتفاقات التي فرضوها على اللبنانيين من اقتصادية وغيرها كلها تحتاج إلى إعادة نظر. أما ما كان يسمى بالعلاقات المميزة فهو عبارة عن نفاق تاجر به البعض لدى الطرفين. فالعلاقات المميزة نريدها أن تكون بين الشعبين، أما بين الدولتين فنريدها طبيعية.
ثمة علاقات طبيعية بحكم التاريخ والجغرافية وعلاقات القربى وهي علاقات موجودة قبل قيام النظام السوري الحالي، وعلى الشعبين اللبناني والسوري الحفاظ على علاقاتهما التاريخية المميّزة.
كثر الحديث مؤخراً عن الإخوان المسلمين، وعن انضمامهم إلى المعارضة الديموقراطية. كما تعلم أن الإخوان المسلمين سلكوا طريق العنف الذي تنبذونه في وثائقكم، هذا عدا عن اتهامات وجهها النظام لحزبكم ولكم شخصياً أواخر السبعينات، متهماً إياكم بالتعاون معهم. ما تعليقك على هذا الكلام؟
ـ منذ أواخر السبعينات وحتى عام 1982 شهدت البلاد أعمال عنف، مارستها تنظيمات مسلحة، أبرزها "الطليعة المقاتلة" التي انشقت عن تنظيم الإخوان المسلمين. كانت المعارضة الديموقراطية آنذاك تنهج سياسة أخرى قوامها النضال الديموقراطي السلمي من أجل التغيير. لم يكن حزبنا مؤيداً لأعمال العنف هذه، ووثائقنا التي عالجت ظاهرات العنف (القتل الفردي لبعض أبناء الطائفة العلوية) والجماعي (مجزرة المدفعية) دانتها، لكنه كان يعتبر أن الإرهابي الأول هو النظام، وما فعلته تلك التنظيمات وبعض قواعد الإخوان المسلمين إنما كانت ردود أفعال على عنف السلطة. نحن في المعارضة الديموقراطية، وخصوصاً التجمع الوطني الديموقراطي (ونحن جزء منه)، الذي طرح خطاً ثالثاً في وثيقته عام 1979 وأصدر بيانه الشهير في آذار 1980، كنا نطالب بحل وطني وديموقراطي وبتغيير جذري لأوضاع البلاد. هذه هي الحقيقة لكن النظام استغل عنف الإخوان الخاطئ ووجه ضربته إلى جميع معارضيه.
في المرحلة الحالية وحسب مبادرتنا الصادرة عن مؤتمر حزب الشعب الديموقراطي دعونا إلى مصالحة بين التيارات الأساسية الثلاثة (الإسلامية والقومية والماركسية)، هذه المصالحة من شأنها أن تنفي العقلية الإقصائية التي سادت داخلها، وتعترف بالآخر، بصرف النظر عن سياساته وتوجهاته. هذا يعني أننا أمام مرحلة تتطلب إيجاد ائتلاف عريض تتلاقى فيه مختلف قوى الشعب الحية بأحزابه وحوامله الاجتماعية على مطالب الحد الأدنى التي من شأنها أن تفتح الطريق نحو الحرية والديموقراطية. وهذا يعني أيضاً ضرورة معالجة الماضي معالجة مبدئية. أي أن على الإخوان أن يعتذروا من أسر ضحايا عنفهم ومن المجتمع السوري لأننا أمام مرحلة تتطلب المصالحة الجادة بين مختلف التيارات التي أشرت إليها مؤكدين حق الجميع في الوجود السياسي بما في ذلك تنظيم الإخوان المسلمين.
يقال أنه سبق لك أن وصفت حركتهم بالانتفاضة الشعبية!
ـ هذا غير صحيح... القضية عبارة عن رسالة داخلية تصف الإضرابات التي جرت في المدن (حمص، حلب، حماه، دمشق 1980,.) أشبه بانتفاضة شعبية , طبعاً تلك الإضرابات أفشلها النظام.
هل صحيح أنكم تلقيتم مساعدات مالية في فترة من الفترات من صدام حسين كما سبق أن ذكرت إحدى الصحف اللبنانية القومية من خلال مقال لكاتب سوري؟
ـ نحن تلقينا مساعدات وأشكالاً عديدة من الدعم والتضامن من قوى عديدة، وقد وجهنا رسالة شكر إلى هذه القوى في مؤتمرنا السادس بما فيها أعضاء في القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي.
البعث لم يحكم ورفعت الأسد غير مرحب به
هل أنت متفائل بالمؤتمر القطري القادم لحزب البعث؟
ـ لا أظن أن المؤتمر القادم سيجترح المعجزات، انطلاقاً من قناعتي أن البعث ليس بحاكم. لكن انعقاد المؤتمر قد يسمح للنظام بتقديم بعض التراجعات تجاه المجتمع أو تجاه المعارضة. لكن هذه التراجعات، كإرخاء القبضة الأمنية، مثلاً، هي أقل بكثير مما يسعى إليه المجتمع وتناضل من أجله المعارضة. من هذه الزاوية القرار ليس بيد حزب البعث وإنما بيد أولئك الذين ينظمون هذا المؤتمر من خلف الستار، أقصد بها مراكز القوى الفعلية القابضة على زمام السلطة. ليت هذه المراكز تعقد هي مؤتمراً وتحل إشكالاتها مع مجتمعها.
بماذا يفسر رياض الترك الاعتقالات التي تطال بعض الناشطين من المثقفين السوريين (كان الكاتب علي العبد الله آخرهم) والتي تتم بطريقة أشبه ما تكون بالخطف؟
ـ عموماً هذه الأساليب مرفوضة , ونأمل أن ينتهي تسلط المخابرات على الشأن السياسي وأن تحجم. لكن سياسة التسلط والإرهاب والتمسك بقانون الطوارئ هو الذي ضخم أجهزة المخابرات وهو الذي يشجعها على الاعتداء على الحريات. المرحلة الحالية تتطلب كف يد المخابرات عن الشأن السياسي، وتتطلب مزيداً من الحرية للمواطنين... حرية التعبير والكتابة والصحافة والتظاهر... باعتقادي أن ممارسة هذه الحريات لن تخل بالأمن، من يخل بالأمن رجال "الأمن"، وهذا ما يخلق انطباعاً عند المواطنين والمعارضين أن النظام ما يزال أسير أساليبه القديمة في القمع.
تردد في الفترة الأخيرة أن رفعت الأسد عائد، وقد تفاوتت وجهات النظر في أمر عودته. ما هو تعليقكم على عودته؟
ـ أعتقد أن عودته في هذه الظروف السياسية غير مرحب بها من المجتمع السوري بسبب ارتكابه مجازر مع رفاقه في تدمر عام 1980 وحماه عام 1982 وسواها من الأماكن الأخرى. ولا أدري إن كانت عودته تأتي برضى السلطة التي أعتقد أنها لا ترتاح لتصرفاته، ومحاولته الاستيلاء على السلطة حين مرض شقيقه عام 1983 مازالت ماثلة أمام أعين المسؤولين.
سياسياً لن يستطيع رفعت أن يستقطب أحداً بسبب ذلك الماضي الأسود، وإن البلاد ليست بحاجة إلى هؤلاء السفاحين، إنما بحاجة إلى أناس عاقلين يبحثون عن مخارج تجنبنا مآسي الماضي وتعيد اللحمة الوطنية إلى المجتمع. لذلك فرفعت غير صالح من هذه الزاوية لا للمجتمع ولا للسلطة الحالية.
أخيراً: المواقف السياسية التي تطرحها تبدو مختلفة عن طروحات الآخرين من حيث صراحتها وحدتها، ألا تخشى على نفسك من الخصوم؟
ـ طرحي السياسي في جوهره لا يختلف عن طروحات المعارضين الآخرين. أنا أوافقك على موضوع الحدة والصراحة، لكن المسألة هي مسألة ذاتية ومرتبطة بأسلوبي في التعبير. فشخصياً أحب الوضوح في الطرح وأحارب الغموض لكي أوصل رأيي إلى المتلقي. لذلك وبسبب انخراطي في حزبي وعملي السياسي الذي عايشت بموجبه ظروفاً صعبة هذه كلها تجعلني غير مبال للنتائج السلبية التي قد تترتب على مواقفي.
"المستقبل"
التقاه في دمشق وحمص: أبيّ حسن
حين فكرت بإجراء حوار مع الأستاذ رياض الترك لم يكن يخطر لي أن ذلك الشيخ الذي تجاوز الخامسة والسبعين من العمر سيكون متعباً إلى هذا الحد. فبرودة صوته خلال مكالماتي الهاتفية معه كانت توهمني أنه خرج لتوّه من صقيع الاستبداد (الذي كان في أحد تجلياته زنزانة منفردة قضى فيها سبعة عشر عاماً). هذه البرودة تحولت إلى دفء وسلام داخلي عندما وجدته بانتظاري قرب مقهى الروضة في حمص حيث رحب بي واشترى نسختين من جريدة "تشرين" السورية (نسخة له والأخرى قدمها لي)، شكرته سائلاً إياه باستغراب: "ماهي المواد التي تقرأها في هذه الصحيفة؟!"، قال: "ألقي نظرة على العناوين في الصفحة الأولى وأقرأ أحياناً مقالاً لكاتب محدد في الصفحة الأخيرة".
ونحن نشرب القهوة في منزله كرر شرطه في قراءة الحوار قبل النشر بغية التعديل والتعقيب، ووافقت مفترضاً أن الحوار معه عبارة عن نزهة سياسية لا رحلة من الإرهاق النفسي في الحد الأدنى ـ كما تبين لي لاحقاً ـ وعلى مدى أيام، كان ختامها في مقهى السياحة في دمشق مساء الثلاثاء (23/5).
في هذا الحوار يؤكد رياض الترك ما سبق أن طرحه منذ قرابة الثلاثين عاماً في ما يخص مسألة الديموقراطية كبديل واقعي ومعقول لأزمات سوريا الداخلية. وكسياسي يرى أن النار في سوريا تحت الرماد، وأن النظام ضعف والمعارضة السورية أيضاً ضعيفة ومع ذلك يؤمن بأن المستقبل لها. ليس متفائلاً بما سيسفر عنه مؤتمر حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يعتقد أنه لم يحكم سوريا.
يرى الترك أن الاستقرار في لبنان رهن بالتطوّرات المستقبلية في سوريا. فما دام ثمة استبداد في سوريا لن يعرف لبنان طعم السكينة. لا يرحب بعودة رفعت الأسد في الوقت الذي يبدي مرونة تجاه الإخوان المسلمين، وإن سألته عن صراحته وأسلوبه في الطرح السياسي يعترف بأنه حاد.
وفي ما يلي نص الحوار:
على الاخوان المسلمين أن يعتذروا من أسر الضحايا (...)
مع تأكيدنا على حق الجميع بالوجود السياسي
منذ فترة عقدتم مؤتمركم السادس في سرية تامة. ومن المعروف أنكم غيرتم فيه اسم الحزب فضلاً عن تنحيك عن منصب الأمانة الأولى. رياض الترك لماذا السرية والتنحي وتغيير اسم الحزب في زمن لم تعودوا فيه حزباً سرياً؟
ـ بداية اسمح لي أن أقدم تعازي إلى عائلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وعائلات رفاقه الذين قضوا معه وأسرة "المستقبل". لقد أصبح باستشهاده الأب الروحي للاستقلال الثاني للبنان.
أما حول الإجابة عن أسئلتك، فكنت أفضل أن تتلقاها من الرفيق عبدالله هوشة، الأمين الأول الجديد. لذلك تبقى إجابتي هذه باسمي الشخصي.
عندما تعيش في بلد حياته السياسية غير طبيعية تكون كلمة "السرية" ذات معنى دلالي. فالمخابرات السورية ومراكز القوى تحتكر السياسة والشأن العام وتحارب معارضيها بمختلف الوسائل. دعني أسألك هل تريدنا أن نعقد مؤتمراً علنياً ثم تأتي الأوامر لتمنع انعقاده، فماذا ستكون النتيجة؟! إذاً نحن في نشاطنا السياسي نتخذ الحيطة والحذر والسرية كشكل دفاعي كي نتابع نشاطنا مهما كانت الظروف. بمعنى آخر، لا توجد قوانين في البلاد تحمي المعارضة من طغيان السلطة. لكننا طرحنا للرأي العام، منذ أكثر من سنة، على موقعنا الالكتروني، ثلاث وثائق. وقد جاءتنا ردود كثيرة عليها، حملت وجهات نظر متنوعة. من هذه الزاوية أجد أننا كرّسنا العلنية في العمل السياسي وكرّسنا إشراك الرأي العام في مناقشة الشأن السوري لأول مرة في سوريا. لكن في ما يخص المسائل الفنية الإجرائية المتعلقة بمكان المؤتمر وزمانه وعدد المندوبين إلخ... فهذه بقيت بعيدة عن عيون السلطة. فالعلنية والسرية مرتبطتان بطبيعة السلطة وبطبيعة الديموقراطية التي نفتقدها في سوريا، والتي تحول دون تحولنا إلى حزب علني تماماً. لهذا تجدنا نتحرك بين السري ونصف السري ونصف العلني والعلني، وهذا التحرك شكل من أشكال الدفاع عن النفس. باختصار السرية ضرورة في ظل الاستبداد والعلنية صنو الديموقراطية.
أسباب التنحي
الأسباب التي دفعتني للتنحي كثيرة منها: تقديري أن المرحلة الحالية في سوريا هي مرحلة احتضار هذا النظام، وظهور إمكانية التغيير باتجاه الحرية والديموقراطية، بل إمكانية إقامة نظام وطني ديموقراطي بديل عن النظام الاستبدادي الفردي الذي أسسه حافظ الأسد. انطلاقاً من هذا التقدير السياسي أرى أن على حزبنا أن يتهيأ ليساهم مع غيره من القوى السياسية والاجتماعية في عملية هذا الانتقال. فلابد من تجديد سياساته ووضع برامجه في حديها الأدنى والأعلى... هذا ما طرحناه في مؤتمرنا الذي أقره المؤتمر السادس. إن تجديد سياسات حزبنا تتطلب تجديد بناه التنظيمية التي تكلست خلال المراحل الصعبة التي مرّ بها الحزب فكان لابد من تجديد هيئاته أيضاً كي يلاقي الشباب، ليس الشباب الذين أخذوا ينضوون في حزبنا فحسب، بل عليه أن يتوجه إلى الأجيال الشابة في مجتمعنا ويهجر القديم بكل عاداته وأساليبه التي اعتاد عليها رفاقنا في الظروف الصعبة أيام اشتداد الإرهاب الأسود للنظام وخاصة خلال الثمانينات وقسم من التسعينات.
مهمة رفاقنا القدامى، وأنا منهم، دعم الشباب وتقديم الخبرة والنصيحة لهم مهما كانت الظروف، وينبغي تخفيف التناقض الذي يمكن أن ينشأ بين عقلية الشيوخ وعقلية الشباب، وينبغي الانحياز إلى الشباب مهما كلف الأمر، فالمستقبل لهم، فهؤلاء "خلقوا لزمان غير زماننا". هذه المسألة يجب أن تعيها التنظيمات الأخرى القديمة (المعارضة) كي تتمكن من متابعة "مشوارها" بنجاح.
لماذا غيّرنا اسم الحزب إلى "حزب الشعب الديموقراطي"؟
ـ كنت من الرفاق القلائل الذين لم يرغبوا في تغيير اسمه، إلا أن قيمة أي حزب تبقى في برنامجه السياسي وفي الأرضية الفكرية التي ينطلق منها وفي قدرته على التوفيق بين النظرية والممارسة. باعتقادي أن تغيير اسم الحزب له دلالتان مهمتان: 1 ـ الدلالة الأولى ترتبط بمهمات الحزب الوطنية والقومية. نحن نعيش في ظروف شاذة عربياً وسورياً حيث تسود الأنظمة الاستبدادية منذ سنوات طويلة. لكننا نشهد الآن احتضارها بسبب الخراب الذي ألحقته بمجتمعاتها ومنها المجتمع السوري. فالديموقراطية هي البديل الواقعي الذي ينفي الاستبداد وبالتالي مهمة إقامة النظام الوطني الديموقراطي تجعلنا نركز على مسألتين أساسيتين، الأولى: إعادة النسيج الوطني إلى المجتمع السوري بعد أن مزقه هذا النظام بأساليب مختلفة فرجعنا إلى الوراء كثيراً، والمهمة الثانية: الخلاص من العقلية الإقصائية التي حملتها التيارات الثلاثة الرئيسية الإسلامية والماركسية والقومية بشقيها البعثي والناصري.
إن إعادة اللحمة إلى المجتمع السوري وبين المواطنين بمختلف مكوناتهم الاجتماعية والإثنية والطائفية... إلخ. لا يمكن أن تتم إلا باعتراف الجميع بالجميع وهذا يتطلب الخلاص من النظام القائم وإقامة النظام الوطني الديموقراطي الذي يعامل أفراد المجتمع بالمساواة ويعطي الحقوق بالتساوي لهم، لذلك كانت مسألة الديموقراطية هي في خلفية تسمية حزبنا باسمه الجديد، وكلمة الشعب هي عودة إلى اسمه القديم حين تشكل في سوريا ولبنان في أواسط عشرينات القرن الماضي.
الدلالة الفكرية
المتغيّرات التي يشهدها العالم منذ الثلث الأخير من القرن الماضي بسبب الثورة العلمية والتكنولوجية وثورة الاتصالات التي قلبت المفاهيم التي كانت سائدة خلال ذلك القرن، يضاف إلى ذلك الاختلال الكبير في مسألة الاستفادة من هذه المنجزات والتأقلم مع الجديد. فالإتحاد السوفييتي (السابق) عجز عن استيعاب هذه المتغيرات وبالتالي سقط وسقطت معه المنظومة الاشتراكية، كما سقطت الماركسية المسفيتة التي تحولت إلى عقيدة جامدة خلال الحكم السوفييتي، بينما كان على المفكرين والساسة السوفييت أن ينظروا إلى الماركسية كنظرية تقبل التجدد والتغيير وفق ما تطرحه التطورات المشار إليها. وهكذا في التطبيق العملي فقدت الماركسية روحها الإنسانية. يقول أنجلز: "لدى كل فتح علمي كبير على المادية أن تجدد ثوبها". ألا ترى معي أن التقدم العلمي الكبير المشار إليه لابد أن يكوّن مفاهيم ونظريات جديدة تتلاءم والواقع الجديد؟ الآن لم تعد الماركسية مرجعيتنا الوحيدة , لكنها تبقى محطة هامة جداً في تاريخ الفكر الإنساني وإحدى مرجعياتنا، وعلينا أن نعالجها ونعالج مقولاتها بروح نقدية تنسجم مع التطورات والمستجدات، وبالتالي علينا الانفتاح على النظريات والمدارس والمذاهب التي ظهرت خلال قرنين بعد ولادة الماركسية.
المستقبل في سوريا للمعارضة
رياض الترك يقول إن النظام ضعف، والمعارضة ضعيفة وفي الوقت نفسه يقول إن المستقبل للمعارضة. كيف تفسر لي هذه المفارقة؟
ـ المسألة في غاية البساطة.. النظام ضعف لاعتبارات دولية وإقليمية وداخلية. كان حافظ الأسد يلعب على التناقضات التي كانت قائمة بين المعسكرين السوفياتي والأميركي، ولو لم يكن مدعوماً من كلي المعسكرين لما مارس إرهابه وارتكب المجازر هنا وهناك وخاصة في حماة عام 1982 ولما تسلط على لبنان وحوله إلى محافظة من المحافظات السورية. الآن وبعد أحداث 11 أيلول لم تعد المتغيرات في العالم في صالح النظام، طبعاً من غير أن ننسى أثر سقوط الاتحاد السوفياتي في تغير العلاقات الدولية وسيادة نظام القطب الواحد. فالولايات المتحدة وضعت استراتيجية دولية من شأنها بناء إمبراطورية تقوم على إضعاف مراكز القوى الدولية أو إلحاقها بسياساتها. أحداث أيلول كانت الذريعة لاحتلال أفغانستان والتدخل في شؤون المنطقة وإجراء تعديلات جذرية على أنظمتها تحت ذريعة مكافحة الإرهاب الدولي. فكان سقوط نظام صدام وكان بالتالي إخراج الجيش السوري من لبنان بعد التحرك الشعبي الكبير إثر اغتيال الحريري الذي اتُهمت به سوريا وصدور القرار الدولي رقم 1559.
فالنظام السوري نتيجة سياساته المدمرة داخلياً ولبنانياً وعربياً ونتيجة رفع الغطاء الدولي عنه يعاني أزمة حادة، فنفوذه الإقليمي أضحى منتهياً تقريباً وعجزه عن إيجاد الحلول اللازمة لأزمات الداخل وسعيه الدائم لحل تناقضاته مع الولايات المتحدة وليس مع مجتمعه , في الوقت الذي نرى أنها تبتزه وبالتالي تعمل على إضعافه باستمرار، هذه العوامل مجتمعة هي في حقيقة الأمر مؤشرات تدل على ضعف النظام. ولا أعتقد أنه ـ أي النظام ـ قادر على الخروج منها بأمان.
داخلياً، سعى النظام إلى مسح السياسة من المجتمع، أولاً باحتكاره القرار السياسي، وثانياً لسلوكه طريق القمع والإرهاب تجاه معارضيه، ووجد طبقة من مرتزقي السياسة أضفوا على صانعه من الصفات ما لم يضف على الأنبياء. هذه السياسة في مختلف جوانبها جعلته في عزلة عن المجتمع، فأنتجت أزمات حادة، منها أزمته مع المعارضة الديموقراطية والمعارضة المسلحة منذ أواسط السبعينات، وبالتالي أزمته مع المجتمع بأسره.
وهكذا نشهد ضعف النظام في المرحلة الحالية، خصوصاً بعد الضغوط الأميركية وسقوط بغداد، وأخيراً أزمته في لبنان وخروج الجيش السوري ومخابراته منه.
النار في سوريا تحت الرماد , لكن...
علينا أن ننظر إلى الأمور في العمق، قلت لك إن هذا النظام مسح السياسة من المجتمع، لكنه أخطأ في ذلك، والمجتمع الذي تضرر من سياساته ارتد عنه، والفئات التي أفقرها والمعارضة التي اضطهدها وسجنها ومنعها من التعبير عن ذاتها وسّعت دوائر الاحتجاج عليه، من هذه الوقائع وسواها نجد أن المجتمع بأكمله أضحى معارضاً، فالمعارضة ليست محصورة بالأحزاب! إنها معارضة مجتمع لم ينتظم بعد، هي قشرة رقيقة على سطح الحياة السياسية لكنها بحاجة إلى حواملها الاجتماعية التي لم تنخرط في عملية التغيير بعد. والآن نشهد أن دوائر المعارضة تتسع وقد تنشأ أحزاب جديدة. أضرب لك مثالاً، لو قلت لك قبل الأحداث اللبنانية الأخيرة أن الوضع في لبنان ناضج للتخلص من النظام السوري وأن النار تحت الرماد وأن النظام السوري سيخرج من لبنان , هل كنت أنت أو سواك ستصدقني؟ بالتأكيد لا. في سوريا كذلك النار تحت الرماد لكننا لا نريد لهذه النار أن تشب لأنها ستدمر المجتمع. وعلينا أن نجد مخارج عقلانية لأزماتنا.
ما الحل الذي تراه مناسباً كي لا تشب النار؟
ـ نريد حلاً ديموقراطياً سلمياً، وعلى هذا النظام أن يعي أن أمامه طريقين: إما تسليم السلطة للمجتمع، ولا أقول للمعارضة، فينبني بديلاً عنه نظام وطني ديموقراطي يقطع الطريق على أصحاب الفتنة وأمريكا معاً، وإما أن يستسلم للأمريكان. وبكل أسف إن حكامنا قبل سقوط بغداد وحتى الآن يسعون لحل تناقضاتهم معهم كي يتابعوا تسلطهم على المجتمع وفق سياساتهم التي اعتادوا عليها. لكن مع الأسف أمريكا هي التي "تتدلل" عليهم. أعتقد أن المصالحة مع المجتمع أفضل لأنه أرحم من الأمريكان. وقد دعا الله إلى التوبة، فهو يتوب عن المذنبين وأظن أن الشعب قد يسامح.
مصلحة الشعب السوري حالياً هي الخلاص من حكم العسكر وحكم المخابرات وحكم المافيات وحكم الأسر. مصلحته أيضاً في سلوك طريق الحرية والديموقراطية والدعوة إلى انتخابات حرة ونزيهة ينبثق عنها جمعية تأسيسية تصوغ دستوراً جديداً للبلاد يقوم على النظام البرلماني . أتساءل دائماً ألا يوجد عاقلون داخل هذا النظام يتجرأون ويطرحون مثل هذا الطرح كي يجنّبوا البلاد الكوارث... أتمنى من العاقلين من أهل النظام أن يبادروا إلى الانضمام إلى المعارضة والعمل معاً لإيجاد مخارج عقلانية لأزمات البلاد.
لا استقرار للبنان مادام الاستبداد في سوريا
كيف تقرأ مستقبل العلاقات السورية اللبنانية بعد اغتيال الحريري والانسحاب السوري من لبنان؟
ـ حاول النظام السوري أن يصنع في لبنان نظاماً على شاكلته. ومما لا شك فيه أن النظام السوري خلّف وراءه عملاء وأزلاماً ومافيات وأسراً، والخلاص من نفوذ هؤلاء يحتاج إلى فترة زمنية قد تطول وقد تقصر. واستقرار لبنان الحقيقي والنهائي مرتبط بالتطورات المقبلة في سوريا والنجاح في إقامة النظام الوطني الديموقراطي. فقضية الديموقراطية والحرية في البلدين مترابطة.
الحديث عن علاقات طبيعية بين البلدين في ظل الظروف الحالية مجرد وهم! والاتفاقات التي فرضوها على اللبنانيين من اقتصادية وغيرها كلها تحتاج إلى إعادة نظر. أما ما كان يسمى بالعلاقات المميزة فهو عبارة عن نفاق تاجر به البعض لدى الطرفين. فالعلاقات المميزة نريدها أن تكون بين الشعبين، أما بين الدولتين فنريدها طبيعية.
ثمة علاقات طبيعية بحكم التاريخ والجغرافية وعلاقات القربى وهي علاقات موجودة قبل قيام النظام السوري الحالي، وعلى الشعبين اللبناني والسوري الحفاظ على علاقاتهما التاريخية المميّزة.
كثر الحديث مؤخراً عن الإخوان المسلمين، وعن انضمامهم إلى المعارضة الديموقراطية. كما تعلم أن الإخوان المسلمين سلكوا طريق العنف الذي تنبذونه في وثائقكم، هذا عدا عن اتهامات وجهها النظام لحزبكم ولكم شخصياً أواخر السبعينات، متهماً إياكم بالتعاون معهم. ما تعليقك على هذا الكلام؟
ـ منذ أواخر السبعينات وحتى عام 1982 شهدت البلاد أعمال عنف، مارستها تنظيمات مسلحة، أبرزها "الطليعة المقاتلة" التي انشقت عن تنظيم الإخوان المسلمين. كانت المعارضة الديموقراطية آنذاك تنهج سياسة أخرى قوامها النضال الديموقراطي السلمي من أجل التغيير. لم يكن حزبنا مؤيداً لأعمال العنف هذه، ووثائقنا التي عالجت ظاهرات العنف (القتل الفردي لبعض أبناء الطائفة العلوية) والجماعي (مجزرة المدفعية) دانتها، لكنه كان يعتبر أن الإرهابي الأول هو النظام، وما فعلته تلك التنظيمات وبعض قواعد الإخوان المسلمين إنما كانت ردود أفعال على عنف السلطة. نحن في المعارضة الديموقراطية، وخصوصاً التجمع الوطني الديموقراطي (ونحن جزء منه)، الذي طرح خطاً ثالثاً في وثيقته عام 1979 وأصدر بيانه الشهير في آذار 1980، كنا نطالب بحل وطني وديموقراطي وبتغيير جذري لأوضاع البلاد. هذه هي الحقيقة لكن النظام استغل عنف الإخوان الخاطئ ووجه ضربته إلى جميع معارضيه.
في المرحلة الحالية وحسب مبادرتنا الصادرة عن مؤتمر حزب الشعب الديموقراطي دعونا إلى مصالحة بين التيارات الأساسية الثلاثة (الإسلامية والقومية والماركسية)، هذه المصالحة من شأنها أن تنفي العقلية الإقصائية التي سادت داخلها، وتعترف بالآخر، بصرف النظر عن سياساته وتوجهاته. هذا يعني أننا أمام مرحلة تتطلب إيجاد ائتلاف عريض تتلاقى فيه مختلف قوى الشعب الحية بأحزابه وحوامله الاجتماعية على مطالب الحد الأدنى التي من شأنها أن تفتح الطريق نحو الحرية والديموقراطية. وهذا يعني أيضاً ضرورة معالجة الماضي معالجة مبدئية. أي أن على الإخوان أن يعتذروا من أسر ضحايا عنفهم ومن المجتمع السوري لأننا أمام مرحلة تتطلب المصالحة الجادة بين مختلف التيارات التي أشرت إليها مؤكدين حق الجميع في الوجود السياسي بما في ذلك تنظيم الإخوان المسلمين.
يقال أنه سبق لك أن وصفت حركتهم بالانتفاضة الشعبية!
ـ هذا غير صحيح... القضية عبارة عن رسالة داخلية تصف الإضرابات التي جرت في المدن (حمص، حلب، حماه، دمشق 1980,.) أشبه بانتفاضة شعبية , طبعاً تلك الإضرابات أفشلها النظام.
هل صحيح أنكم تلقيتم مساعدات مالية في فترة من الفترات من صدام حسين كما سبق أن ذكرت إحدى الصحف اللبنانية القومية من خلال مقال لكاتب سوري؟
ـ نحن تلقينا مساعدات وأشكالاً عديدة من الدعم والتضامن من قوى عديدة، وقد وجهنا رسالة شكر إلى هذه القوى في مؤتمرنا السادس بما فيها أعضاء في القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي.
البعث لم يحكم ورفعت الأسد غير مرحب به
هل أنت متفائل بالمؤتمر القطري القادم لحزب البعث؟
ـ لا أظن أن المؤتمر القادم سيجترح المعجزات، انطلاقاً من قناعتي أن البعث ليس بحاكم. لكن انعقاد المؤتمر قد يسمح للنظام بتقديم بعض التراجعات تجاه المجتمع أو تجاه المعارضة. لكن هذه التراجعات، كإرخاء القبضة الأمنية، مثلاً، هي أقل بكثير مما يسعى إليه المجتمع وتناضل من أجله المعارضة. من هذه الزاوية القرار ليس بيد حزب البعث وإنما بيد أولئك الذين ينظمون هذا المؤتمر من خلف الستار، أقصد بها مراكز القوى الفعلية القابضة على زمام السلطة. ليت هذه المراكز تعقد هي مؤتمراً وتحل إشكالاتها مع مجتمعها.
بماذا يفسر رياض الترك الاعتقالات التي تطال بعض الناشطين من المثقفين السوريين (كان الكاتب علي العبد الله آخرهم) والتي تتم بطريقة أشبه ما تكون بالخطف؟
ـ عموماً هذه الأساليب مرفوضة , ونأمل أن ينتهي تسلط المخابرات على الشأن السياسي وأن تحجم. لكن سياسة التسلط والإرهاب والتمسك بقانون الطوارئ هو الذي ضخم أجهزة المخابرات وهو الذي يشجعها على الاعتداء على الحريات. المرحلة الحالية تتطلب كف يد المخابرات عن الشأن السياسي، وتتطلب مزيداً من الحرية للمواطنين... حرية التعبير والكتابة والصحافة والتظاهر... باعتقادي أن ممارسة هذه الحريات لن تخل بالأمن، من يخل بالأمن رجال "الأمن"، وهذا ما يخلق انطباعاً عند المواطنين والمعارضين أن النظام ما يزال أسير أساليبه القديمة في القمع.
تردد في الفترة الأخيرة أن رفعت الأسد عائد، وقد تفاوتت وجهات النظر في أمر عودته. ما هو تعليقكم على عودته؟
ـ أعتقد أن عودته في هذه الظروف السياسية غير مرحب بها من المجتمع السوري بسبب ارتكابه مجازر مع رفاقه في تدمر عام 1980 وحماه عام 1982 وسواها من الأماكن الأخرى. ولا أدري إن كانت عودته تأتي برضى السلطة التي أعتقد أنها لا ترتاح لتصرفاته، ومحاولته الاستيلاء على السلطة حين مرض شقيقه عام 1983 مازالت ماثلة أمام أعين المسؤولين.
سياسياً لن يستطيع رفعت أن يستقطب أحداً بسبب ذلك الماضي الأسود، وإن البلاد ليست بحاجة إلى هؤلاء السفاحين، إنما بحاجة إلى أناس عاقلين يبحثون عن مخارج تجنبنا مآسي الماضي وتعيد اللحمة الوطنية إلى المجتمع. لذلك فرفعت غير صالح من هذه الزاوية لا للمجتمع ولا للسلطة الحالية.
أخيراً: المواقف السياسية التي تطرحها تبدو مختلفة عن طروحات الآخرين من حيث صراحتها وحدتها، ألا تخشى على نفسك من الخصوم؟
ـ طرحي السياسي في جوهره لا يختلف عن طروحات المعارضين الآخرين. أنا أوافقك على موضوع الحدة والصراحة، لكن المسألة هي مسألة ذاتية ومرتبطة بأسلوبي في التعبير. فشخصياً أحب الوضوح في الطرح وأحارب الغموض لكي أوصل رأيي إلى المتلقي. لذلك وبسبب انخراطي في حزبي وعملي السياسي الذي عايشت بموجبه ظروفاً صعبة هذه كلها تجعلني غير مبال للنتائج السلبية التي قد تترتب على مواقفي.
"المستقبل"