-
دخول

عرض كامل الموضوع : في الخوف


الهجان
27/06/2007, 10:36
جِدُّو كريشنامورتي



11.

سؤال: كيف لي أن أتخلص من الخوف الذي يؤثر على نشاطاتي كلِّها؟

كريشنامورتي: ما الذي تعنيه بالخوف؟ الخوف ممَّ؟ ثمة أنماط متعددة من الخوف، ولا داعي لتحليل كلِّ نمط منها على حدة. لكننا نستطيع أن نرى أن الخوف ينوجد عندما يكون فهمُنا للعلاقة غير تام. العلاقة ليست بين الناس وحسب، بل بين أنفسنا والطبيعة، بين أنفسنا والمقتنيات، بين أنفسنا والأفكار؛ ومادامت هذه العلاقة غير مفهومة تمام فهمها لا مفرَّ من الخوف. الحياة هي العلاقة. الوجود هو العلاقة، ومن دون علاقة لا حياة ثمة. لا وجود لشيء معزول؛ ومادام الذهنُ يطلب العزلة لا مفرَّ من الخوف. الخوف ليس تجريدًا ذهنيًّا؛ إنه يوجد فقط في علاقة مع شيء ما.

السؤال هو: كيف نتخلص من الخوف؟ أولاً، كل ما يتم التغلب عليه لا بدَّ من انتزاعه مجددًا الكرَّة بعد الكرَّة. ما من مشكلة يمكن التغلب عليها، أو انتزاعها، نهائيًّا؛ من الممكن فهمها، لكنْ ليس انتزاعها. وهاتان سيرورتان مختلفتان كلَّ الاختلاف؛ وسيرورة الانتزاع تقود إلى المزيد من الالتباس، المزيد من الخوف. إن مقاومة مشكلة، أو السيطرة عليها، أو مقارعتها، أو التحصن ضدها، من شأنه إيجاد المزيد من النزاع ليس إلا؛ في حين أننا إذا استطعنا فهم الخوف، وتوغلنا فيه تمامًا خطوةً خطوة، واستكشفنا محتواه بالكامل، إذ ذاك فإن الخوف لن يعاودنا أبدًا في أية صورة من الصور.

الخوف، كما أسلفت، ليس تجريدًا ذهنيًّا؛ إنه يوجد في العلاقة وحسب. فماذا نعني بالخوف؟ نحن، في النهاية، خائفون، ألسنا كذلك؟ – من عدم الوجود، من عدم الصيرورة. الآن، حين يستبد بنا الخوفُ من عدم الوجود، من عدم التقدم، أو الخوف من المجهول، من الموت، هل من الممكن التغلب على ذاك بالإصرار، بقرار، باختيار ما؟ جزمًا لا. فمجرد القمع، أو التصعيد، أو الاستعاضة، يولِّد المزيد من المقاومة، أليس كذلك؟ لذا فإن الخوف لا يمكن التغلب عليه أبدًا عِبْر أيِّ شكل من أشكال الانضباط، عِبْر أيِّ شكل من أشكال المقاومة. وتلك الواقعة يجب رؤيتها، والشعور بها، واختبارها، في وضوح: لا يمكن التغلب على الخوف عِبْر أيِّ شكل من أشكال الدفاع أو المقاومة، كما لا يمكن التحرر من الخوف عِبْر طلب جواب أو عِبْر مجرد تفسير فكريٍّ أو لفظيٍّ فقط.

الآن، ممَّ نخاف؟ هل نخاف من واقعة أو من فكرة عن الواقعة؟ هل نخاف من الشيء كما هو، أم أننا نخاف مما نظن عنه؟ خُذِ الموت على سبيل المثال. هل نحن نخاف من واقعة الموت أو من فكرة الموت؟ الواقعة شيء والفكرة عن الواقعة شيء آخر. هل أنا خائف من لفظة "موت" أم من الواقعة نفسها؟ فلأني خائف من اللفظة، من الفكرة، لا أفهم الواقعة أبدًا، لا أنظر إلى الواقعة أبدًا، ولا أكون أبدًا على علاقة مباشرة مع الواقعة. فقط حين أكون على تواصُل تام مع الواقعة ينتفي الخوف. إذا لم أكن على تواصُل مع الواقعة، إذ ذاك يوجد الخوف. ولا تواصُل مع الواقعة مادمت أتمسك بفكرة، برأي، بنظرية عن الواقعة؛ لذا يجب أن أتبين في وضوح شديد إنْ كنت خائفًا من اللفظة، من الفكرة، أو من الواقعة. إذا وقفت وجهًا لوجه أمام الواقعة، فلا شيء يتعين فهمُه عنها: الواقعة موجودة، وفي وسعي التعامل معها. أما إذا كنت خائفًا من اللفظة، إذ ذاك يجب عليَّ أن أفهم اللفظة، أن أتوغل في كلية سيرورة ما تنطوي عليه اللفظةُ أو المصطلح.

أحدهم، على سبيل المثال، يخاف الوحدة، يخاف وجعَ الوحدة، ألمَها. وهذا الخوف موجود قطعًا لأن المرء لم ينظر إلى الوحدة قط، لم يتواصل معها قط تواصُلاً تامًّا. لكنْ حالما ينفتح المرءُ تمامًا على واقعة الوحدة فإنه يستطيع أن يفهم ماهيتها؛ لكنَّ عند المرء فكرةً، رأيًا، عنها، قائمَين على معرفة سابقة؛ وهذه الفكرة، هذا الرأي، هذه المعرفة السابقة عن الواقعة، هي ما يولِّد الخوف. جليٌّ أن الخوف هو نتاج التسمية، الاصطلاح، خلعُ رمزٍ لتمثيل الواقعة؛ أي أن الخوف ليس مستقلاً عن اللفظة، عن المصطلح.

لديَّ ردة فعل، لنقل، حيال الوحدة؛ أي أنني أقول إنني خائف من أن أكون لاشيء. فهل أنا خائف من الواقعة نفسها أم أن ذلك الخوف استيقظ لأن لديَّ معرفةً سابقةً بالواقعة؟ – حيث المعرفة هي اللفظة، هي الرمز، الصورة. كيف يمكن لخوف من واقعة أن يوجد؟ حين أكون وجهًا لوجه أمام واقعة، على تواصُل مباشر معها، أستطيع أن أنظر إليها، أن أرصدها؛ لهذا ليس هناك خوف من الواقعة. ما يسبِّب الخوف هو توجُّسي عن الواقعة، عمَّا قد تكونه الواقعة أو تفعله.

إن رأيي، فكرتي، تجربتي، معرفتي عن الواقعة هو ما يولِّد الخوف. فمادام هناك تلفيظ للواقعة، تسمية لها، وبالتالي، تعرُّف إليها أو إدانة لها، ومادام الفكرُ يحاكم الواقعة بوصفه راصدًا، لا مفرَّ من الخوف. الفكر هو نتاج الماضي، ولا يمكن له أن يوجد إلا عبر التلفيظ، عبر الرموز، عبر الصور؛ ومادام الفكرُ يعتبر الواقعة أو يترجمها، لا مفرَّ من الخوف.

بذا فإن الذهن هو الذي يولِّد الخوف – حيث الذهن هو سيرورة التفكير. التفكير هو التلفيظ: فأنت لا تستطيع أن تفكر من غير ألفاظ، من غير رموز، صور؛ وهذه الصور، – وهي الأحكام المسبقة، المعرفة السابقة، توجُّسات الذهن، – تُخلَع على الواقعة، ومن جراء ذلك ينبثق الخوف. لا تحرُّر من الخوف إلا حين يتمكن الذهن من النظر إلى الواقعة من دون ترجمتها، من دون تسميتها، أو تصنيفها. وهذا صعب للغاية، لأن الأحاسيس، ردات الفعل، الكروب التي تراودنا، سرعان ما يتعرف إليها الذهنُ ويطلق عليها لفظة. الإحساس بالغيرة يتم التعرف إليه بلفظة "غيرة". فهل من الممكن عدم التعرف إلى إحساس، والنظر إلى ذلك الإحساس دون تسميته؟ إن تسمية الإحساس هي التي تُمِدُّه بالاستمرار، تُمِدُّه بالقوة. فحالما تطلق اسمًا على ما تسمِّيه "خوفًا" فإنك تعزِّزه؛ لكنك إنِ استطعتَ أن تنظر إلى ذلك الإحساس من دون أن تصطلح على تسميته، سترى أنه يتلاشى. لذلك، إذا شاء المرء أن يتحرر تمامًا من الخوف فمن الجوهري أن يفهم كلية سيرورة الاصطلاح هذه، خلع الرموز، الصور، تسمية الوقائع. لا تحرُّر من الخوف إلا بمعرفة الذات. فمعرفة الذات هي بداية الحكمة، التي تضع نهايةً للخوف.