-
دخول

عرض كامل الموضوع : الشارع السوري شارع غير مسييس وبليد وخامل وجبان !!!!


Tarek007
30/05/2005, 14:38
سورية: مؤتمر البعث وعقدة المشاركة السياسية

أثار المؤتمر القطري لحزب البعث السوري المقرر عقده مطلع يونيو المقبل اهتمام العواصم الدولية المعنية بأمور المنطقة، والقوى السياسية والحزبية السورية المصنفة ضمن خانة المعارضة، أكثر بكثير مما أثاره من اهتمام لدى عموم المواطنين السوريين، الذين بالكاد يلتفون إلى متابعة بعض التسريبات التي تشير إلى قرارات يمكن أن تصدر عن المؤتمر، حول عدد من القضايا الاقتصادية التي تهم حياتهم اليومية، من قبيل احتمالات زيادة رواتب العاملين في الدولة، وتحرير بعض مجالات العمل التجاري والاستثماري، وربما ينطبق الأمر على قسم كبير من أعضاء المؤتمر أنفسهم، الذين تشغلهم متابعة التسريبات المتعلقة بمستقبل بعض الأشخاص الذين يشغلون المراكز الأولى في قيادة الحزب، والشخصيات التي ستحل محلهم، أكثر مما يهتمون بالتحليلات التي تتحدث عن صراعات وتجاذبات سيشهدها المؤتمر بين تيار يوصف بالإصلاحي وآخر يوصف بالمحافظ.

وقد يكون في هذه الملاحظة بعض ما يسلط الضوء على حقيقة حجبت لفترة طويلة وراء وهم جرى الترويج له بشكل واسع، يصف الشارع السوري بأنه شارع مسيس بامتياز موصوف، يميزه عن حالة الشارع الشعبي في الدول العربية الأخرى، فالواقع أن القراءة المدققة لتاريخ سورية السياسي على مر العصور توضح أن الشارع السوري، وعلى عكس ما يشاع عنه، نأى بنفسه دائما عن الشأن السياسي الذي احتكرته منذ قرون عديدة نخب سياسية محترفة، انتزعت كرسي السلطة من بعضها بوسائل عنفية، ولم تبد كبير اكتراث لكسب تأييد الشارع أو تفادي معارضته لها. وإذا اقتصرنا في هذا المجال على شواهد التاريخ القريب وحده، تقدم ظاهرة الانقلابات العسكرية المتلاحقة التي شهدتها سورية في فترة ما بعد الاستقلال، قرائن مشخصة تؤيد هذه الملاحظة، حيث يلفت الانتباه أن الشارع السوري لم يتدخل في أية حالة من أجل حماية أو إسقاط أي من تلك الانقلابات التي تواترت بسرعة قياسية، وقادها ضباط طموحون ومغامرون، شدهم بريق كرسي السلطة، من دون أن تكون لديهم أية أهداف أو برامج سياسية واجتماعية مميزة، تقربهم من الشارع أو تبعدهم عنه. ويبدو أن سورية امتلكت خلال ذلك الوقت إلى جانب النخبة العسكرية الطموحة والمغامرة، نخبة سياسية براغماتية وناشطة تمثلت في قيادات الأحزاب التي تكاثر ظهورها في واجهة الأحداث، لكن لم يستطع أي منها أن يحقق امتدادا جديا على الصعيد الجماهيري، فاستعاضت عن ذلك بدخول لعبة توفير الغطاء السياسي (وأحيانا الأيديولوجي) للانقلابات العسكرية التي خرجت من أكمام بعضها، وقد يكون في مؤشر الإيقاع العالي لتلك الحركة الناشطة التي سجلتها النخبة السياسية السورية خلال ذلك الوقت، بعض جوانب السر الذي يفسر أسباب انتشار الفكرة الزائفة عن تميز الشارع السوري باهتماماته الواسعة بالشأن السياسي.

وإذا جاز القفز هنا فوق بعض المفاصل المتشابهة في تاريخ سورية السياسي الحديث، وصولا إلى لحظة انتقال السلطة إلى يد حزب البعث بعد انقلاب الثأمن مارس عام 1963، سيظهر أن الحزب لم ينجح في تجسيد الجانب الشعبوي من نظريته الأيديولوجية، التي قدم نفسه عبرها باعتباره «حزب شعبي... يعتمد في أداء رسالته على الشعب ويسعى للاتصال به اتصالا وثيقا، ويعمل على رفع مستواه العقلي والاقتصادي والصحي، لكي يستطيع الشعور بشخصيته وممارسة حقوقه في الحياة الفردية والقومية» (المادة الخامسة من دستور الحزب الذي اقر عام 1947 ولم تتغير فيه أية مادة حتى الآن). وعلى العكس من ذك فقد أدى نهج الاستفراد بالحكم وإقصاء جميع القوى الحزبية الأخرى عن ممارسة العمل السياسي العلني، الذي اتبعته قيادات حزب البعث التي تناوبت على تسلم زمام السلطة منذ عام 1963 وحتى الآن، إلى إغلاق نوافذ كان يمكن أن تساهم في تحريض الشارع على الاقتراب التدريجي من دائرة الاهتمام بقضايا الوضع السياسي.

وإذا كانت نتيجة ذلك النهج هي مزيد من العزوف الشعبي، ليس فقط عن المشاركة في مجالات العمل السياسي، بل وأيضا عن التفاعل مع أية قضايا تخص الشأن العام، فقد وجد هذا العزوف تغذية له ذات طبيعة هرمونية في إجراءات القمع المفرط التي لجأت إليها السلطات البعثية لتحطيم خصومها ومنافسيها السياسيين، وخصوصا بعد مواجهة ثمانينات القرن الماضي مع جماعة الأخوان المسلمين. ولن يقلل من صدقية هذه الملاحظة واقع التمدد الأفقي الذي حققه حزب البعث على صعيد جذب أعداد كبيرة من الأعضاء خلال العقود الطويلة التي مضت على تسلمه السلطة، (يقدر عدد أعضاء الحزب المسجلين في سورية حاليا بحوالي مليون عضو عامل)، حيث تنطوي الحالة هنا على تكرار نموذجي لظاهرة التضخم السرطاني للأحزاب التي تتولى زمام السلطة في بلدان العالم الثالث، والتي تجذب عادة الباحثين عن امتيازات السلطة ومغانمها، من دون أن تتوفر لديهم أية مؤهلات أو كفاءات سياسية، ودون أن تبدي السلطة التي تمسك قيادة الحزب أي اهتمام جدي بموضوع تأهيلهم السياسي، لأن الدور الذي تنتظره منهم يقتصر على تحويلهم إلى رديف لأجهزة الأمن، التي تضع في رأس اهتماماتها وظيفة ضمان حجب الشارع عن لعبة السياسة.

ومن زاوية ما تقود إليه هذه القراءة من استنتاجات يمكن القول بأن عصب الأزمة التي يواجهها حزب البعث، وهو يتهيأ لعقد مؤتمره القطري العشرين، يكمن بشكل أساسي في علاقة الوصاية التي فرضها الحزب على الدولة والمجتمع منذ عام 1963، والتي وجدت علامات تجسدها الرموزي في المادة الثأمنة من الدستور السوري، التي نصت على اعتبار حزب البعث قائدا للدولة والمجتمع، وأيضا في صيغة الحزب القائد، ثم الجبهة الوطنية التقدمية التي أسهمت بشكل مبرمج في خنق مظاهر التنافس السياسي وتجفيف منابعه، على مدى يزيد على أربعة عقود تشكل أكثر من ثلثي تاريخ ما بعد استقلال الدولة في سورية. ومن حيث النتيجة العملية أفرزت تلك الوصاية على مقدرات الدولة والمجتمع والانفراد باحتكار مشروعية العمل السياسي آثارا تراكمية، شملت في آن معا دفع المجتمع السوري نحو حالة الاحتقان التي يعيشها اليوم، وإيصال حزب البعث نفسه إلى درجة من التكلس والجمود تعيق قدرته على التعامل مع تلك الحالة باحتمالاتها المفتوحة، ومخاطرها التي بدأت تكتسب أبعادا قاتمة ومخيفة، بحكم تزأمنها (وأحيانا ترابطها) مع الضغوطات الخارجية غير المسبوقة، التي تواجه القيادة السورية وأيديولوجيتها البعثية بالذات على أكثر من صعيد إقليمي ودولي.

ولا شك في أن مثل هذه النتيجة تتطلب من المؤتمر القطري المقبل للحزب أن يتوجه بقراراته نحو معالجة عصب الأزمة نفسه، من خلال اتخاذ مبادرات نوعية تتيح فتح نوافذ المشاركة السياسية الواسعة بالتعامل مع الاستحقاقات الكبيرة التي تواجهها البلاد على الصعيدين الداخلي والخارجي، وأن يدرك أن المطلوب الآن يتعدى مسألة تغيير بعض أعضاء القيادة الحزبية، أو تعديل بعض المصطلحات المستخدمة في النصوص الكلاسيكية للحزب، والتي يتعامل معها أعضاء الحزب أنفسهم مثل ما يتعامل طلاب المدارس مع موادهم الدراسية، حيث يحفظون فقرات منها عشية تقدمهم لامتحان الحصول على مرتبة العضوية العاملة للحزب، ثم ينسونها بعد الخروج من مكتب الامتحان.

وإذا صحت التقديرات التي يجري تداولها على نطاق واسع حاليا، وتشير إلى أن مؤتمر البعث في سورية سوف يتوقف مطولا عند تحليل الدروس المستفادة من مسارات التجربة المريرة التي سجلها جناح الحزب في العراق، فإن ما يجدر التذكير به هنا أن مخرجات الدرس العراقي، تشمل بين ما تشمله، تجربة القوى المعارضة التي شردها النظام وطاردها في المنافي التي توزعت في أربع جهات الأرض، فانتظرت فرصة العودة إلى البلاد على ظهر دبابة أجنبية، أما الدرس الأهم الذي تكشفت عنه وقائع الحدث العراقي، فيتعلق بتجربة قطاعات واسعة من الشعب العراقي التي بقيت في العراق، لكنها أقصيت عن ممارسة العمل السياسي، ومنعت عن إبداء أي اهتمام بقضايا الشأن العام، فلم تجد ما يدفعها للنهوض بواجب الدفاع عن الوطن حين اجتاحته القوات الأجنبية.


* باحث سوري