butterfly
23/05/2007, 12:10
سيرة حياة (هرمان هسة) - عبد الستار ناصر
سأقصّ رؤياي علي أخوتي، وأعلم بأنهم سيكيدون لي كيداً عظيماً، لأنني سواء أأخبرتهم أم لم أخبرهم بما رأيت فالمكيدة منهم ستأتي آجلاً أم عاجلاً..
ذلك علي ما يبدو، لسان حال (هرمان هسة) في كتابه اللاذع الغرائبي الممتع (سيرة ذاتية) الذي احتوي علي أجمل مذكراته وأكثرها غني، ولعل ما جاء به هرمان هسة يتجاوز من حيث القوة والسحر ما كتبه أقرانه من المبدعين الكبار.
غطّت هذه المذكرات كل فترات حياته، من طفولة الساحر ــ بحسب تعبير هرمان هسة عن أيام الصبا والوقاحة ــ إلي أزمنة النضج المبكر، إلي سكينة الشيخوخة، عبر اثني عشر فصلاً من أعذب ما وصل العربية من ترجمات عسيرة المنال.
هرب هرمان هسة من المدرسة،وتمرد ضد كل أنواع المهن، بما في ذلك الأكاديمية منها والحرة وكل ما يربطه بالروتين، ومنذ سن الثالثة عشرة قرر أن يصبح كاتباً، وكان تأثير جدّه من أمه أكبر أثر في عموم حياته، فقد انغمس منذ الصبا مع ثقافة ألمانية كلاسيكية وكان الاستشراق أبرز اهتماماته، حتي أنه سافر إلي الهند الشرقية. وعلي الرغم مما أصابه من خيبة أمل هناك، لكنه تمكن من تأليف روايته القصيرة سد هارتا التي جاءت نتيجة لتجربته الخاصة في الهند، وقد نقل فيها حالة اضطرابه النفسي، ثم أنه اكتشف في تلك الفترة قدرته علي الرسم، وصارت تلك واحدة من المهن التي حققت له دخلاً شهرياً محترماً علي مدي سنوات من عمره، ولا بد من التذكير أن (أميل سنكلير) الذي كان أسماً معروفاً أيام الحرب العالمية، هو نفسه (هرمان هسة) وكانت رواية (دميان) قد ظهرت تحت هذا الأسم المستعار في طبعتها الأولي.
لعل أكثر ما كان يُشغل (هرمان هسة)في سنوات الطفولة هو أن (يختفي)عن أنظار الناس. طاقية إخفاء مثلاً، أو حالة من السحر تجعله في منأي عن الآخرين، كان يريد أن يحررّ التعساء ويُهلك الطغاة واللصوص ويعفو عن الهاربين من الجيش، ثم أن يساعده اختفاء جسده علي امتلاك قلوب بنات الملوك الحسناوات، وربما تمكن أيضاً من الرحيل إلي عصور بعيدة من الحياة الغامضة الأبدية.
هذه الرغبة كانت قد أستولت علي مشاعر وأحاسيس هرمان هسة. ويقول الناقد المفكر (ثيودور سيولكوفسكي) في مقدمة الكتاب: إن رغبة الكاتب في غيابه الجسدي هو المضمون الحقيقي لقصة حياة هرمان هسة، وهي التي دفعته إلي تأليف (لعبة الكريات الزجاجية) و(ذئب البوادي)حتي يتمكن من إخفاء نفسه عن القراء.. أما كيف أخفي نفسه وراء كتاباته فهو الأمر الذي سكت عنه الناقد وأكتفي بقوله: إن هرمان هسة هو الحكيم الذي اكتشف ما وراء الجسد واقترب من روح الأشياء حتي كاد أن يفهم لغة الطيور والأرانب والأشجار!
كان (الجد) الذي أحبه هرمان هسة، يتكلم كثيراً من لغات العالم، وكان خبيراً بثقافة الهند، ومنذ نعومة وعيه أراد هرمان هسة أن يصبح شبيهاً ببعض ما كان عليه الجد الذي يصفه بالموسوعة الكنز.. ربما لهذا السبب ذهب هرمان هسة إلي تقليد حياة (الجد) وعاش بداياته بمزاج لا عقلاني أغاظ عائلته ومعلّميه علي السواء وبات يُسمي في البيت بطاغية العائلة بعد أن قاوم سلطة الوالدين عليه وهرب من المدرسة كما هرب من البيت بل هرب عبر أوروبا وآسيا بحركة (مسعورة) حتي أنه رفض جنسيته الألمانية ومضي إلي سويسرا وتمكن فيها من الحصول علي حياة جديدة وجواز سفر مختلف، ثم جاءته الجنسية السويسرية علي طبق من ذهب قبل حصوله علي جائزة (جوته) ومن ثم علي جائزة نوبل عام 1946 أي قبل رحيله عن الدنيا بست عشرة سنة.
تزوج هرمان هسة ثلاث مرات، لكنه يكرر بعد كل زواج وطلاق لا يمكن للفنان المبدع أن يكون زوجاً ناجحاً أو أباً ناجحاً وفي روايته (روسهالده) يصف الزواج والعائلة بدقة عجائبية حتي يثبت مرة أُخري علي أن المبدع ليس بحاجة إلي تأسيس عائلة ما دامت الكتابة قد أخذت منه كثيراً من التوتر والعاطفة، ثم يقول: كم هو رائع أن تعود طفلاً مرة أُخري.
هرمان هسة ليس خيالياً في أفكاره، إنه هو (الخيال) نفسه مسبوكاً علي هيئة رجل جاء الدنيا بمزاج مختلف. كان يريد أن تثمر شجرة التفاح في الشتاء بدلاً من الصيف، وأن تكون محفظة النقود مليئة دائماً بفعل السحر، أراد في أحلامه وربما في يقظته أن يكون بطلاً أو إمبراطوراً متوّجاً علي قارات العالم وأن يبطش بأعدائه ــ لكن بشهامة وكرامة ــ وأن يعثر علي جميع الكنوز المفقودة علي امتداد التأريخ، ثم ــ وهذا هو الأهم ــ أن يكون لا مرئياً من قبل البشر، ولا مانع أن تراه الحيوانات والأعشاب والعصافير!
وإذا ما عدنا ثانية إلي جدّه من أُمه هرمان جوندرت سنري أنه خصص له فصلاً متميزاً من سيرته، يعترف علي امتداد سطوره بأنه يتماهي مع صورة هذا (الحكيم) الذي أرشده نحو الطريق الصعب، وهذا يعني بالضرورة مسالك الكتابة المبدعة وأسرارها الجميلة، هو الذي أحتفظ بواحدة من أخطر قصائد الجد وأهداها إلي (متحف شيلر) في مدينة مارباخ بناء علي طلب من إدارة المتحف. وعلي الرغم من أن الجد (هرمان جوندرت) مات منذ مائة عام، لكن القصيدة ما زالت من أبرز مقتنيات هذا المتحف الأدبي الشهير والتي يقول في بعض فقراتها:
أوراق ذابلة فوق شعر ذابل،
حول نظرك بعيداً عن الرياح والغيوم،
كانت أُمنيته الوحيدة أن يقلّد النجمات،
ويحدق أبداً في الشمس
هو ذا المهد الذي بكيت فيه؟
والقصيدة علي جانب من الطول، قال عنها (لوتسكندورف) الذي كتب أطروحة الدكتوراه عن أدب هرمان هسة، إنه ينبغي علينا أن ننقذ أنفسنا من أية أحكام تتأثر بالغوغاء، وان نتخلّص من عدم الشعور بالمسؤولية، وكم نحن بحاجة إلي الشجاعة حتي نكتب ما نؤمن به خارج قوانين الضجيج وشراء الإغراءات.
يؤكد هرمان هسة أن فن الكذب والدبلوماسية من الأمور التي يحتاجها المبدع للاحتيال علي النص والقاريء في وقت واحد، وعندما هرب من المعهد الذي يدرس فيه اللغة الإغريقية، بحثوا عنه في الغابة طيلة يوم كامل، وأبلغوا الشرطة بما حدث (صفحة 77) بينما كان هرمان هسة مرعوباً من فكرة قضاء الليل في عراء الحقول تحت جو قارس البرد، لكن الكذب وتمثيل دور البريء، وكذلك اللعب علي حبال الأعصاب، كل ذلك ساعده علي أن يتحرر من سطوة الرقابة العائلية، عندما (كذب) عليهم جميعاً وقال إن ما جري إنما حدث دون إرادته وربما دون وعيه، بل جاء من يبُرر الأمر علي أنه ــ أي هرمان هسة ــ إنما يعتقد بتعاليم المذهب الكالفيني، وهذا يعني (حرفياً) أن القدر مرسوم علي جبهة الإنسان منذ ولادته!
هرمان هسة هو الطفل السادس في عائلة يهيمن عليها الجد العجوز الذي يشبه السحرة، ينطق اللغات بخبرة عجيبة منذ السادسة عشرة من عمره، ومن هنا جاءت فصول مذكراته أو سيرته الجوانية أكثر عمقاً وخصوصية من رجالات الفلسفة والفكر والأدباء الذين ولدوا في تلك الحقبة الساحرة من زمن المذهب (البرناسي) حيث أنصب اهتمام المبدعين العظام علي الشكل وجمالياته بعيداً عن العاطفة والمضمون، وبالتالي بعيداً عن الثقافة الجاهزة التي تخاف الاقتراب من التجريب والمغامرة وهذا يعني كتابة المقالات التي تشبه (الساندويتش) حين يُباع علي الطرق الخارجية، رخيصاً، وجاهزاً، في أي وقت تشاء، وربما في أية لحظة تصل فيها إلي المحطة التي تنبعث منها روائح القهوة والغليون والسجائر والضجر!
هرمان هسة، واحد من عبقريات القرن العشرين، لا يشبه آرنست همنغواي ولا رومان رولان ولا أناتول فرانس ولا أندريه جيد ولا بوريس باسترناك ولا جون شتاينبك ولا بابلو نيرودا ولا كلود سيمون ــ مع انهم جميعاً حازوا علي جائزة نوبل ــ بل يتجاوزهم عقلاً وإبداعاً وحضوراً قوياً، يكاد يصل بإبداعه العظيم إلي مستوي جان بول سارتر وغارسيا ماركيز وجورج برناردشو وبرتراند رسل وصاموئيل بيكيت، وقد يسابق بعضهم في الروح والسحر وهجمة الإبداع، والذي يثبت ذلك هو سيرته الذاتية التي وصل بها إلي مستوي الصمت الذي لا ينفع معه أي صراخ لاحق.
أظنني سأقول الحقيقة إذا ما قررتُ الآن، كيف أن هرمان هسة سيخاف حتي من نفسه لو أنه عاد ثانية إلي الحياة ورأي أمامه من يسمي: هرمان هسة!!
ہ هرمان هسة /سيرة ذاتية /ترجمة محاسن عبد القادر /المؤسسة العربية للدراسات والنشر /376 صفحة /بيروت /الطبعة الأولي عام 1993.
أعمال هرمان هسه .. اهداء لصديقي the Peace
:mimo:
سأقصّ رؤياي علي أخوتي، وأعلم بأنهم سيكيدون لي كيداً عظيماً، لأنني سواء أأخبرتهم أم لم أخبرهم بما رأيت فالمكيدة منهم ستأتي آجلاً أم عاجلاً..
ذلك علي ما يبدو، لسان حال (هرمان هسة) في كتابه اللاذع الغرائبي الممتع (سيرة ذاتية) الذي احتوي علي أجمل مذكراته وأكثرها غني، ولعل ما جاء به هرمان هسة يتجاوز من حيث القوة والسحر ما كتبه أقرانه من المبدعين الكبار.
غطّت هذه المذكرات كل فترات حياته، من طفولة الساحر ــ بحسب تعبير هرمان هسة عن أيام الصبا والوقاحة ــ إلي أزمنة النضج المبكر، إلي سكينة الشيخوخة، عبر اثني عشر فصلاً من أعذب ما وصل العربية من ترجمات عسيرة المنال.
هرب هرمان هسة من المدرسة،وتمرد ضد كل أنواع المهن، بما في ذلك الأكاديمية منها والحرة وكل ما يربطه بالروتين، ومنذ سن الثالثة عشرة قرر أن يصبح كاتباً، وكان تأثير جدّه من أمه أكبر أثر في عموم حياته، فقد انغمس منذ الصبا مع ثقافة ألمانية كلاسيكية وكان الاستشراق أبرز اهتماماته، حتي أنه سافر إلي الهند الشرقية. وعلي الرغم مما أصابه من خيبة أمل هناك، لكنه تمكن من تأليف روايته القصيرة سد هارتا التي جاءت نتيجة لتجربته الخاصة في الهند، وقد نقل فيها حالة اضطرابه النفسي، ثم أنه اكتشف في تلك الفترة قدرته علي الرسم، وصارت تلك واحدة من المهن التي حققت له دخلاً شهرياً محترماً علي مدي سنوات من عمره، ولا بد من التذكير أن (أميل سنكلير) الذي كان أسماً معروفاً أيام الحرب العالمية، هو نفسه (هرمان هسة) وكانت رواية (دميان) قد ظهرت تحت هذا الأسم المستعار في طبعتها الأولي.
لعل أكثر ما كان يُشغل (هرمان هسة)في سنوات الطفولة هو أن (يختفي)عن أنظار الناس. طاقية إخفاء مثلاً، أو حالة من السحر تجعله في منأي عن الآخرين، كان يريد أن يحررّ التعساء ويُهلك الطغاة واللصوص ويعفو عن الهاربين من الجيش، ثم أن يساعده اختفاء جسده علي امتلاك قلوب بنات الملوك الحسناوات، وربما تمكن أيضاً من الرحيل إلي عصور بعيدة من الحياة الغامضة الأبدية.
هذه الرغبة كانت قد أستولت علي مشاعر وأحاسيس هرمان هسة. ويقول الناقد المفكر (ثيودور سيولكوفسكي) في مقدمة الكتاب: إن رغبة الكاتب في غيابه الجسدي هو المضمون الحقيقي لقصة حياة هرمان هسة، وهي التي دفعته إلي تأليف (لعبة الكريات الزجاجية) و(ذئب البوادي)حتي يتمكن من إخفاء نفسه عن القراء.. أما كيف أخفي نفسه وراء كتاباته فهو الأمر الذي سكت عنه الناقد وأكتفي بقوله: إن هرمان هسة هو الحكيم الذي اكتشف ما وراء الجسد واقترب من روح الأشياء حتي كاد أن يفهم لغة الطيور والأرانب والأشجار!
كان (الجد) الذي أحبه هرمان هسة، يتكلم كثيراً من لغات العالم، وكان خبيراً بثقافة الهند، ومنذ نعومة وعيه أراد هرمان هسة أن يصبح شبيهاً ببعض ما كان عليه الجد الذي يصفه بالموسوعة الكنز.. ربما لهذا السبب ذهب هرمان هسة إلي تقليد حياة (الجد) وعاش بداياته بمزاج لا عقلاني أغاظ عائلته ومعلّميه علي السواء وبات يُسمي في البيت بطاغية العائلة بعد أن قاوم سلطة الوالدين عليه وهرب من المدرسة كما هرب من البيت بل هرب عبر أوروبا وآسيا بحركة (مسعورة) حتي أنه رفض جنسيته الألمانية ومضي إلي سويسرا وتمكن فيها من الحصول علي حياة جديدة وجواز سفر مختلف، ثم جاءته الجنسية السويسرية علي طبق من ذهب قبل حصوله علي جائزة (جوته) ومن ثم علي جائزة نوبل عام 1946 أي قبل رحيله عن الدنيا بست عشرة سنة.
تزوج هرمان هسة ثلاث مرات، لكنه يكرر بعد كل زواج وطلاق لا يمكن للفنان المبدع أن يكون زوجاً ناجحاً أو أباً ناجحاً وفي روايته (روسهالده) يصف الزواج والعائلة بدقة عجائبية حتي يثبت مرة أُخري علي أن المبدع ليس بحاجة إلي تأسيس عائلة ما دامت الكتابة قد أخذت منه كثيراً من التوتر والعاطفة، ثم يقول: كم هو رائع أن تعود طفلاً مرة أُخري.
هرمان هسة ليس خيالياً في أفكاره، إنه هو (الخيال) نفسه مسبوكاً علي هيئة رجل جاء الدنيا بمزاج مختلف. كان يريد أن تثمر شجرة التفاح في الشتاء بدلاً من الصيف، وأن تكون محفظة النقود مليئة دائماً بفعل السحر، أراد في أحلامه وربما في يقظته أن يكون بطلاً أو إمبراطوراً متوّجاً علي قارات العالم وأن يبطش بأعدائه ــ لكن بشهامة وكرامة ــ وأن يعثر علي جميع الكنوز المفقودة علي امتداد التأريخ، ثم ــ وهذا هو الأهم ــ أن يكون لا مرئياً من قبل البشر، ولا مانع أن تراه الحيوانات والأعشاب والعصافير!
وإذا ما عدنا ثانية إلي جدّه من أُمه هرمان جوندرت سنري أنه خصص له فصلاً متميزاً من سيرته، يعترف علي امتداد سطوره بأنه يتماهي مع صورة هذا (الحكيم) الذي أرشده نحو الطريق الصعب، وهذا يعني بالضرورة مسالك الكتابة المبدعة وأسرارها الجميلة، هو الذي أحتفظ بواحدة من أخطر قصائد الجد وأهداها إلي (متحف شيلر) في مدينة مارباخ بناء علي طلب من إدارة المتحف. وعلي الرغم من أن الجد (هرمان جوندرت) مات منذ مائة عام، لكن القصيدة ما زالت من أبرز مقتنيات هذا المتحف الأدبي الشهير والتي يقول في بعض فقراتها:
أوراق ذابلة فوق شعر ذابل،
حول نظرك بعيداً عن الرياح والغيوم،
كانت أُمنيته الوحيدة أن يقلّد النجمات،
ويحدق أبداً في الشمس
هو ذا المهد الذي بكيت فيه؟
والقصيدة علي جانب من الطول، قال عنها (لوتسكندورف) الذي كتب أطروحة الدكتوراه عن أدب هرمان هسة، إنه ينبغي علينا أن ننقذ أنفسنا من أية أحكام تتأثر بالغوغاء، وان نتخلّص من عدم الشعور بالمسؤولية، وكم نحن بحاجة إلي الشجاعة حتي نكتب ما نؤمن به خارج قوانين الضجيج وشراء الإغراءات.
يؤكد هرمان هسة أن فن الكذب والدبلوماسية من الأمور التي يحتاجها المبدع للاحتيال علي النص والقاريء في وقت واحد، وعندما هرب من المعهد الذي يدرس فيه اللغة الإغريقية، بحثوا عنه في الغابة طيلة يوم كامل، وأبلغوا الشرطة بما حدث (صفحة 77) بينما كان هرمان هسة مرعوباً من فكرة قضاء الليل في عراء الحقول تحت جو قارس البرد، لكن الكذب وتمثيل دور البريء، وكذلك اللعب علي حبال الأعصاب، كل ذلك ساعده علي أن يتحرر من سطوة الرقابة العائلية، عندما (كذب) عليهم جميعاً وقال إن ما جري إنما حدث دون إرادته وربما دون وعيه، بل جاء من يبُرر الأمر علي أنه ــ أي هرمان هسة ــ إنما يعتقد بتعاليم المذهب الكالفيني، وهذا يعني (حرفياً) أن القدر مرسوم علي جبهة الإنسان منذ ولادته!
هرمان هسة هو الطفل السادس في عائلة يهيمن عليها الجد العجوز الذي يشبه السحرة، ينطق اللغات بخبرة عجيبة منذ السادسة عشرة من عمره، ومن هنا جاءت فصول مذكراته أو سيرته الجوانية أكثر عمقاً وخصوصية من رجالات الفلسفة والفكر والأدباء الذين ولدوا في تلك الحقبة الساحرة من زمن المذهب (البرناسي) حيث أنصب اهتمام المبدعين العظام علي الشكل وجمالياته بعيداً عن العاطفة والمضمون، وبالتالي بعيداً عن الثقافة الجاهزة التي تخاف الاقتراب من التجريب والمغامرة وهذا يعني كتابة المقالات التي تشبه (الساندويتش) حين يُباع علي الطرق الخارجية، رخيصاً، وجاهزاً، في أي وقت تشاء، وربما في أية لحظة تصل فيها إلي المحطة التي تنبعث منها روائح القهوة والغليون والسجائر والضجر!
هرمان هسة، واحد من عبقريات القرن العشرين، لا يشبه آرنست همنغواي ولا رومان رولان ولا أناتول فرانس ولا أندريه جيد ولا بوريس باسترناك ولا جون شتاينبك ولا بابلو نيرودا ولا كلود سيمون ــ مع انهم جميعاً حازوا علي جائزة نوبل ــ بل يتجاوزهم عقلاً وإبداعاً وحضوراً قوياً، يكاد يصل بإبداعه العظيم إلي مستوي جان بول سارتر وغارسيا ماركيز وجورج برناردشو وبرتراند رسل وصاموئيل بيكيت، وقد يسابق بعضهم في الروح والسحر وهجمة الإبداع، والذي يثبت ذلك هو سيرته الذاتية التي وصل بها إلي مستوي الصمت الذي لا ينفع معه أي صراخ لاحق.
أظنني سأقول الحقيقة إذا ما قررتُ الآن، كيف أن هرمان هسة سيخاف حتي من نفسه لو أنه عاد ثانية إلي الحياة ورأي أمامه من يسمي: هرمان هسة!!
ہ هرمان هسة /سيرة ذاتية /ترجمة محاسن عبد القادر /المؤسسة العربية للدراسات والنشر /376 صفحة /بيروت /الطبعة الأولي عام 1993.
أعمال هرمان هسه .. اهداء لصديقي the Peace
:mimo: