Fares
26/11/2003, 01:32
منذ ما ينوف عن ربع قرن تراءت لي عائلة تسير في أنفاق متداخلة ومظلمة . أنفاق تشبه المتاهة ، أو هي حقّاً متاهة
وكانت العائلة ، وهي بدون ريب عائلتي بالذات تسير في المتاهة الكالحة دون أي حس فاجع أو مأساوي . وأذكر أني وضعت تقويماً لهذه المسيرة يبدأ في عام (27) قبل الميلاد وينتهي في عام (2699).
كان لدى هذه الأسرة ومنذ ذلك التاريخ المبكر أمل غامض بأن الشمس تتلألأ في مكان ما خارج السراديب .
وكان يكفي أن يتذكروا هذا الأمل حتى يغذوا السير ويتحولوا إلى موكب لا يخلو من الجلال ، تحفز خطواتهم غاية نبيلة يوشكون على بلوغها . ولكن في معظم الحالات كانت خطواتهم رخوة وكان موكبهم مشوّشاً وغارقاً في تفاصيل الأيام الرتيبة .
كم تمنت عائلتي هذه الشمس وهذا الصباح وتلك الحياة التي يمجدها كل شيء . ولكن ما كنت أراه كان مختلفاً جداً . ففي يوم لم تدركه التقاويم بعد وجدنا أنفسنا في سرداب طيني ، أرضه موحلة ، وضوءه شحيح لا يكاد يبدد العتمة .
كنا عائلة تتألف من أجداد وأب ونساء وأولاد . لعلي كنت أصغر الأولاد وأقلهم كلاماً . ولم يمن يخطر ببال أحد من أفراد الأسرة أن وجودنا في هذا السرداب هو أمر غير طبيعي أو يحتاج إلى تفسير . كانت تسيطر على الجميع فكرة واحدة ، لا شك أنها تدلت وراثياً من الجد الأكبر إلى باقي أفراد العائلة ولم يشك أحد في صحتها .لا…لا أظن أنها كانت فكرة ، بل مزيجاً من الإرادة والرغبة معاً .فجميعهم كانوا يعتقدون ، ولو بدرجات متفاوتة من اليقين أن السرداب سيقودهم إلى الشمس وبرار خضراء ، ازدهارها مسكر وخضرتها أبدية .
وكنا نسير … كان السرداب يفضي بنا إلى سرداب آخر . ولا تسعفني ذاكرتي في وضع أي تقويم لهذه الرحلة يسبق المئة الأولى قبل الميلاد . ففي سنة (27) قبل الميلاد غاص أحد أجدادي في حمأة طينية عميقة ، ولم يكن بوسع أحدهم أن ينقذه . لم نجد حبلاً ولا قطعة خشب نمدها إليه ، كذلك لم يكن لدى الكبار ما يكفي من النخوة والشجاعة كي يخاطروا ويمدوا أيديهم إليه . غاص جسده كله وبقي رأسه طافياً فوق الوحل . عيناه جاحظتان ، وجهه أربد ، ولسانه يتلجلج بكلمات وأنات غامضة . هل سمع الباقون ما سمعت ؟ كان واضحاً أنه يتهم أخاه . بل رنّت في أذني هذه العبارة المتلجلجة … "قتلني أخي" . لم يهتم أحد بما فال ، وانشغل الأجداد الآخرون بإقامة بعض الطقوس . رمي أمام وجهه المزرق رغيف من الخبز ، وقطعة من اللحم المقدد ، وبصلة بيضاء ، وتميمة خشبية. ثم أشعلوا فتيلاً مبللاً بالزيت وغرسوه بالأرض . تلت ذلك بعض الدمدمات الدينية التي كانت تغطي حشرجات الجد الغارق وتخمدها .
انتهت الطقوس وتابعنا السير … بقيت‘ أتلفت فأرى الرأس الطافية وظلها المتراقص مع الشعلة المتروكة أمامها . ولولا أن أبي نهرني وشدني من كمي ، لما استطعت أن أنتزع عيني من هذه الرؤية .
ذلك المشهد وذلك الحدث هما بداية تقويمي الذي أخذت من الآن فصاعداً أسجل أحداثه الرئيسية .
كانت مسيرتنا رتيبة ، وكانت السراديب لا تفضي إلا إلى السراديب . والغريب أنه لم بكن هناك أي شعور بالضياع . وكان تراتبنا في السير يتم بصورة تلقائية وكأنه قانون كوني . الجد الأكبر في المقدمة ثم يتلوه أجداد آخرون ثم أبي ثم النساء (وكان كل منهم بما في ذلك أبي لديه أكثر من زوجة) ثم الأطفال . وكنت‘ في المؤخرة . ومن هذا الموقع كان بوسعي أن أراقب هذه المسيرة التي كانت تخرج من نفق لتدخل نفقاً آخر .
وقد سجلت ذاكرتي أحداثاً كثيرة ، ولكن بعد سنوات عديدة عندما تفحصتها جيداً اكتشفت أنها عديمة القيمة .
ففي سنة (30) ميلادية توقف جدي الأكبر عن تناول الطعام ، وكان يجبر نفسه على التبرز مرات عديدة في اليوم ، وحين ظن أنه صار نظيفاً وخالياً من كل خبث تمدد على الأرض ومات . في اليوم التالي لوفاته انتحى جدي الأصغر بزوجته وأسندها إلى جدار السرداب وأخذ يهو وسطه . ومثل هذه الانتحاءات كانت تتكرر دائماً ، ولم نكن نوليها أي اهتمام . كان علينا أن نسير فقط ، وكان كل جد توافيه المنية يوصينا بأن نتابع السير ، ويسرف في وصف ألق الشمس التي تنتظرنا . في سنة (620) حدثت في عائلتنا فتنة . فقد اختلف من تبقى من الأجداد حول التمائم وبالتالي حول الاتجاه . وانقسمنا ، وما زلنا ننقسم عند كل مفترق من مفترقات السراديب .
حين اضمحل جمعنا وتفرق الأقرباء ولم يبق إلا عائلتنا الصغيرة التي يرأسها أبى ، كانت الشكوك قد بدأت تنفذ إلى قلوبنا . ومع تزايد الشكوك كان أبي يزداد غطرسةً وتسلطاً . منعنا من الكلام ووضع قفلاً على فرج زوجته الأولى التي أنجبت له ثمانية ذكور وخمس إناث . وقال لها : "تكونين بوراً إلى الأبد . لا يقربك محراث ولا يرويك ماء"
وفي عام (1940) كدّر أبي حلم كئيب أيقظه من نومه ، فرفع فستان أمي وانبطح فوقها . وبعد أقل من عام ولدتني أمي حاملاً ذاكرة مزدحمة بالصور والتفاصيل . وسرت وراءهم حريصاً على مكاني دائماً في المؤخرة .
بعد عشرين سنة تجرأت وقلت لأبي :
-لا توجد شمس ولا توجد برارٍ . لا توجد إلا هذه السراديب التي نسير في جوفها . أم الأمل الذي يحدونا فإنه كاذب وأما عزائمنا فإنّ رخاوة موروثة تثبطها .
احمر وجه أبي واتقدت عيناه ، وظن الجميع أني هالك . لكن وسط دهشتهم قال أبي بهدوء آمر ومتسلط :
-الأجداد لا يكذبون . فلنتابع …
وتابعنا . في ظروف غامضة مات أبي . وفي ظروف غامضة انتظمت الأسرة مرة أخرى تحت قيادة الأخ الأكبر .
في عام (2007) دب خلاف بيني وبين أخي فتخليت عن العائلة واتجهت في سرداب مخالف . تزوجت أنجبت . وهاأنا أقود عائلة جديدة وصغيرة لكنها ستكبر مع الأيام ، وكلما كبرت سأحار ماذا أقول لها . ما الذي سيجعلها تتبعني في سيري إذا لم أعدها بالشمس والبراري !؟ وهكذا وجدت‘ نفسي أواري شكوكي وأزرع في صدور أولادي يقيناً بأن الشمس تنتظرنا في نهاية السرداب .
وتابعنا السير … صارت السراديب إسمنتية ، وفي زواياها تتدلى مصابيح تخفف العتمة ، لكن السراديب ظلت سراديب ، وما زلنا نسير بحثاً عن شمس لم يتأكد أحد قط من وجودها .
في عام (2114) مازلنا نسير … في عام (2370) مازلنا نسير … في عام (2617) مازلنا نسير … في عام (2699) خانتني قدماي وما زلنا نسير … وسيوالي أبنائي السير وكتابة هذا التاريخ .
وكانت العائلة ، وهي بدون ريب عائلتي بالذات تسير في المتاهة الكالحة دون أي حس فاجع أو مأساوي . وأذكر أني وضعت تقويماً لهذه المسيرة يبدأ في عام (27) قبل الميلاد وينتهي في عام (2699).
كان لدى هذه الأسرة ومنذ ذلك التاريخ المبكر أمل غامض بأن الشمس تتلألأ في مكان ما خارج السراديب .
وكان يكفي أن يتذكروا هذا الأمل حتى يغذوا السير ويتحولوا إلى موكب لا يخلو من الجلال ، تحفز خطواتهم غاية نبيلة يوشكون على بلوغها . ولكن في معظم الحالات كانت خطواتهم رخوة وكان موكبهم مشوّشاً وغارقاً في تفاصيل الأيام الرتيبة .
كم تمنت عائلتي هذه الشمس وهذا الصباح وتلك الحياة التي يمجدها كل شيء . ولكن ما كنت أراه كان مختلفاً جداً . ففي يوم لم تدركه التقاويم بعد وجدنا أنفسنا في سرداب طيني ، أرضه موحلة ، وضوءه شحيح لا يكاد يبدد العتمة .
كنا عائلة تتألف من أجداد وأب ونساء وأولاد . لعلي كنت أصغر الأولاد وأقلهم كلاماً . ولم يمن يخطر ببال أحد من أفراد الأسرة أن وجودنا في هذا السرداب هو أمر غير طبيعي أو يحتاج إلى تفسير . كانت تسيطر على الجميع فكرة واحدة ، لا شك أنها تدلت وراثياً من الجد الأكبر إلى باقي أفراد العائلة ولم يشك أحد في صحتها .لا…لا أظن أنها كانت فكرة ، بل مزيجاً من الإرادة والرغبة معاً .فجميعهم كانوا يعتقدون ، ولو بدرجات متفاوتة من اليقين أن السرداب سيقودهم إلى الشمس وبرار خضراء ، ازدهارها مسكر وخضرتها أبدية .
وكنا نسير … كان السرداب يفضي بنا إلى سرداب آخر . ولا تسعفني ذاكرتي في وضع أي تقويم لهذه الرحلة يسبق المئة الأولى قبل الميلاد . ففي سنة (27) قبل الميلاد غاص أحد أجدادي في حمأة طينية عميقة ، ولم يكن بوسع أحدهم أن ينقذه . لم نجد حبلاً ولا قطعة خشب نمدها إليه ، كذلك لم يكن لدى الكبار ما يكفي من النخوة والشجاعة كي يخاطروا ويمدوا أيديهم إليه . غاص جسده كله وبقي رأسه طافياً فوق الوحل . عيناه جاحظتان ، وجهه أربد ، ولسانه يتلجلج بكلمات وأنات غامضة . هل سمع الباقون ما سمعت ؟ كان واضحاً أنه يتهم أخاه . بل رنّت في أذني هذه العبارة المتلجلجة … "قتلني أخي" . لم يهتم أحد بما فال ، وانشغل الأجداد الآخرون بإقامة بعض الطقوس . رمي أمام وجهه المزرق رغيف من الخبز ، وقطعة من اللحم المقدد ، وبصلة بيضاء ، وتميمة خشبية. ثم أشعلوا فتيلاً مبللاً بالزيت وغرسوه بالأرض . تلت ذلك بعض الدمدمات الدينية التي كانت تغطي حشرجات الجد الغارق وتخمدها .
انتهت الطقوس وتابعنا السير … بقيت‘ أتلفت فأرى الرأس الطافية وظلها المتراقص مع الشعلة المتروكة أمامها . ولولا أن أبي نهرني وشدني من كمي ، لما استطعت أن أنتزع عيني من هذه الرؤية .
ذلك المشهد وذلك الحدث هما بداية تقويمي الذي أخذت من الآن فصاعداً أسجل أحداثه الرئيسية .
كانت مسيرتنا رتيبة ، وكانت السراديب لا تفضي إلا إلى السراديب . والغريب أنه لم بكن هناك أي شعور بالضياع . وكان تراتبنا في السير يتم بصورة تلقائية وكأنه قانون كوني . الجد الأكبر في المقدمة ثم يتلوه أجداد آخرون ثم أبي ثم النساء (وكان كل منهم بما في ذلك أبي لديه أكثر من زوجة) ثم الأطفال . وكنت‘ في المؤخرة . ومن هذا الموقع كان بوسعي أن أراقب هذه المسيرة التي كانت تخرج من نفق لتدخل نفقاً آخر .
وقد سجلت ذاكرتي أحداثاً كثيرة ، ولكن بعد سنوات عديدة عندما تفحصتها جيداً اكتشفت أنها عديمة القيمة .
ففي سنة (30) ميلادية توقف جدي الأكبر عن تناول الطعام ، وكان يجبر نفسه على التبرز مرات عديدة في اليوم ، وحين ظن أنه صار نظيفاً وخالياً من كل خبث تمدد على الأرض ومات . في اليوم التالي لوفاته انتحى جدي الأصغر بزوجته وأسندها إلى جدار السرداب وأخذ يهو وسطه . ومثل هذه الانتحاءات كانت تتكرر دائماً ، ولم نكن نوليها أي اهتمام . كان علينا أن نسير فقط ، وكان كل جد توافيه المنية يوصينا بأن نتابع السير ، ويسرف في وصف ألق الشمس التي تنتظرنا . في سنة (620) حدثت في عائلتنا فتنة . فقد اختلف من تبقى من الأجداد حول التمائم وبالتالي حول الاتجاه . وانقسمنا ، وما زلنا ننقسم عند كل مفترق من مفترقات السراديب .
حين اضمحل جمعنا وتفرق الأقرباء ولم يبق إلا عائلتنا الصغيرة التي يرأسها أبى ، كانت الشكوك قد بدأت تنفذ إلى قلوبنا . ومع تزايد الشكوك كان أبي يزداد غطرسةً وتسلطاً . منعنا من الكلام ووضع قفلاً على فرج زوجته الأولى التي أنجبت له ثمانية ذكور وخمس إناث . وقال لها : "تكونين بوراً إلى الأبد . لا يقربك محراث ولا يرويك ماء"
وفي عام (1940) كدّر أبي حلم كئيب أيقظه من نومه ، فرفع فستان أمي وانبطح فوقها . وبعد أقل من عام ولدتني أمي حاملاً ذاكرة مزدحمة بالصور والتفاصيل . وسرت وراءهم حريصاً على مكاني دائماً في المؤخرة .
بعد عشرين سنة تجرأت وقلت لأبي :
-لا توجد شمس ولا توجد برارٍ . لا توجد إلا هذه السراديب التي نسير في جوفها . أم الأمل الذي يحدونا فإنه كاذب وأما عزائمنا فإنّ رخاوة موروثة تثبطها .
احمر وجه أبي واتقدت عيناه ، وظن الجميع أني هالك . لكن وسط دهشتهم قال أبي بهدوء آمر ومتسلط :
-الأجداد لا يكذبون . فلنتابع …
وتابعنا . في ظروف غامضة مات أبي . وفي ظروف غامضة انتظمت الأسرة مرة أخرى تحت قيادة الأخ الأكبر .
في عام (2007) دب خلاف بيني وبين أخي فتخليت عن العائلة واتجهت في سرداب مخالف . تزوجت أنجبت . وهاأنا أقود عائلة جديدة وصغيرة لكنها ستكبر مع الأيام ، وكلما كبرت سأحار ماذا أقول لها . ما الذي سيجعلها تتبعني في سيري إذا لم أعدها بالشمس والبراري !؟ وهكذا وجدت‘ نفسي أواري شكوكي وأزرع في صدور أولادي يقيناً بأن الشمس تنتظرنا في نهاية السرداب .
وتابعنا السير … صارت السراديب إسمنتية ، وفي زواياها تتدلى مصابيح تخفف العتمة ، لكن السراديب ظلت سراديب ، وما زلنا نسير بحثاً عن شمس لم يتأكد أحد قط من وجودها .
في عام (2114) مازلنا نسير … في عام (2370) مازلنا نسير … في عام (2617) مازلنا نسير … في عام (2699) خانتني قدماي وما زلنا نسير … وسيوالي أبنائي السير وكتابة هذا التاريخ .