-
دخول

عرض كامل الموضوع : حسين مردان أمير التشرد والكبرياء ...


وائل 76
22/04/2007, 11:35
(لن أحترم العالم مادام هناك طفل واحد منكسر العينين)

قالها حسين مردان قبل أربعين سنة، واذا اردنا ان نفهم الشاعر ونحيط بعوالمه الداخلية ونتلمس مكامن الجبروت في ثنايا روحه، أن نعيد قراءة هذه المقولة بتمهل ولنتصور شاعرا رفضته مباهج الحياة لعوزه وفقر حاله ولفظه المجتمع لصراحته وجرأته وتمرده، وحفظت طرقات وأرصفة بغداد وقع خطاه عن ظهر قلب لفرط ماداس على اضلاعها وهو يجوب الحارات والبارات والمقاهي الادبية .. لنتصور شاعراً مسحوقاً برحى الحاجة والفاقة حد العظم يعلن بأنه لن يحترم العالم.. العالم بكل قاراته ودوله وبحاره ومحيطاته ومئات الملايين من بشره لان هناك طفلاً منكسر العينين!!.. لنتصور أية نفسية كبيرة تحملها قامته المتعبة أي عنفوان إنساني ضاقت به مساحة جسده حتى كاد أن ينز من مسامات جلده. ولرب سائل يسأل من هو هذا الذي لا يحترم العالم؟ ستزداد دهشته اذا علم بأنه مجرد متشرد يفترش الارصفة و(مساطب الحدائق العامة) ويكون ضيفاً على من يحبه (وهم كثر) على مائدة عرق في الليل.
هكذا هو حسين مردان الذي ظلم في حياته من قبل مجايليه من النقاد والشعراء، ولازال حتى يومنا هذا لم يأخذ استحقاقه كمبدع وكإنسان من الاهتمام والدراسة من قبل المعنيين في شؤون الثقافة ورحم الله الفقيد الدكتور علي جواد الطاهر الذي انصفه بحثاً ودراسة في مؤلفه الموسوم (من يفرك الصدأ او حسين مردان) الذي أقتصر على مقالاته الصحفية الاسبوعية ونثره المركز.
لم يكن حسين مردان شاعراً حسب بل قلماً صحفياً لامعا وكاتبا متفرداً للمقالة الادبية كما كان يتمتع بشخصية قريبة من القلب قلما تتكرر، وجليساً لا غنى عنه لمن يعرفه وصديقاً مزمناً للموائد الليلية وصحبة الفقراء من الادباء المتسكعين.. ففي مهرجان المربد عام 1969، لم يحظ شاعر وقف أمام المنصة بتصفيق الجمهور كما حظي به حسين..وكان يقول للتندر أذا ما عابثه أحد الاصدقاء مقللاً من اهمية قصيدته التي ألقاها في المهرجان: عليك ان تقارن لمن كان التصفيق أشد وأكثر حرارة.. لي أم للجواهري!! وكان يقول مبرراً تضمين قصيدته بأسماء الكثير من الحيوانات والوحوش كالغول والطفل والضواري: أليست حياتنا شريعة للغاب؟!!
فكم كان صادقاً هذا الشاعر المشرد وكم صدقت نبوءته!!
حينما قدم حسين من بعقوبة مشياً على الاقدام في منتصف الاربعينيات ولم يكن عمره قد تجاوز الثامنة عشر متأبطاً مخطوطة ديوانه (قصائد عارية) ولم يكن تحصيله العلمي قد تجاوز المرحلة المتوسطة.. كان يعلم في سره بأنه سيقتحم اسوار بغداد المدينة الكبيرة المغلقة (كما يصفها) ويوقظ صمتها ويحثها كي تخلع كل ارديتها البالية وتغتسل بماء طهور لتبدو عارية الا من حقيقتها.. كان يدري بأنه يمتلك من الجراة ما يجعله يواجه لوحده أمة بكاملها ومجتمعاً تيبست على مفاصله أنسجة حاكتها اعراف وتقاليد ورؤى توارثت لقرون.. كان يعلم أن مهمة المواجهة صعبة وقد تكون مستحيلة.. ومتى كان هذا الشاعر المتشرد الاعزل الا من صدقه يأبه للمستحيل؟!!
حينما وطأت أقدامه المنتعلة حذاءاَ اعتادت ثقوبه الطرقات،أعتاب بغداد.. ملأ صدره اللاغب بهوائها المقدس (كما كان يظن) وارتخى على مقعد منجّد للتو أمام أحد محلات اول سوق صادفه واخذته اغفاءة لم تطل سوى دقائق حين نهره وطرده صاحب المحل ..فأكمل المسيرة حتى وصل مقهى الزهاوي فدخلها وسط استغراب الجالسين.. من هذا ذو الوجه الاحمر والشعر الطويل حتى كتفيه؟!
وتمر الايام وتتكرر زياراته للمقهى ذاته حيث سنحت له التعرف على أغلب شعراء الاربعينات ومشاهيرها وعلى رأسهم الجواهري الكبير الذي اصبح فيما بعد هاجسه المقلق ومتحديه الوحيد كما كان يرى نفسه، فراح يعلن على الملأ بأنه دكتاتور الأدب والشعر وإنه مهيأ للمنازلة مع من يرغب بها.. والكل أمسى يعرفه جيدا ويعرف طاقته الشعرية المحدودة، لكنهم تركوه يتمدد بقامته ويفرش يديه وساقيه على خارطة الشعر فهو وريث بودلير!! وقرين ألياس أبو شبكة!! وهو الثائر على طول الخط ضد المألوف من الاشياء والقيم والاعراف.. واصبح مركز استقطاب للكثير من الشعراء والادباء والفنانين فسار في ركبه الشاعر الرائد بلند الحيدري والقاص نزار عباس ونهاد التكرلي وعبد الملك نوري وشاكر حسن آل سعيد وآخرون..
يقول: (وفجأة رميت (بقصائد عارية) الى الشارع واهتز كل عمود في بغداد!!).. وكان صادقاً فيما قال.. ان النصوص الشعرية التي احتواها ديوانه هذا كانت من الغرابة والجرأة ما لم يتحمله الشارع والمجتمع العراقي آنذاك .. فهو يقول مثلاً:
هذا أنا رجل الضباب ومن له
في كل موبقة حديث يذكر
او قوله:

قد رضعت الفجور من ثدي أمي
وترعرعت في ظلام الرذيلة

كان الذين يعرفونه حق المعرفة يدركون جيداً بانه لا ينتمي الى هذا الدرك السفلي والمتحلل خلقياً ومجتمعياً.. فهو له أب كادح وأم مؤمنة عفيفة وبيت لم يدنسه وضر من الاوضار.. لكنه اراد ان يجازف بكل مقدس لديه ويضحي حتى بالسمعة الشخصية كي يحرر المارد القابع خلف قضبان النفس الانسانية الخائفة من الحقيقة..
فأنبرى الوسط الاجتماعي والثقافي الذي اصيب بصدمة هزت اعماقه وخلقت لديه حالة من الرعب الى اعتبار هذا الطرح نذير شؤم لما سيأتي فتحركت اكثر من جهة للتشهير بهذا الديوان وأثارت المخاوف من امتدادات طروحاته الغريبة والمدمرة للهيكل الاخلاقي الذي يمسك المجتمع العراقي.. فدخل السجن للمرة الاولى بتهمة الإخلال بالأخلاق العامة وصدور الديوان..
يقول: (وهناك التقيت بالشيوعيين لاول مرة.. كانت سنة طويلة قرأت فيها ما يقرب من مائه ألف صفحة من الفلسفة الماركسية وانتقلت الى الجانب الآخر من القضية. ومضيت أصنع البارود وازرع عيدان الكبريت في الزيت. وأحول وجودي الى مشعل ينير أمام الكادحين. اما بالنسبة للحركة الادبية فقد بذلت كل ما بأستطاعتي لجمع كافة الاقلام المبدعة والخيرة في حزمة واحدة لتقف في وجه النظام القائم حينذاك.وهكذا انبثقت الهيئة المؤسسة الاولى لاتحاد الادباء العراقيين وقد عرفت السلطة ان وراء الصف الذي دفعنا به أمام عيونها اساتذة الفكر الذين يعملون على الاطاحة بهم. ولذلك لم نحصل على الموافقة.
ثم جاءت ثورة تموز فشحنت روحي بكل مصل يشد من عزيمة الثوار وبنفس القوة وقفت ضد التناقض فقرأت في اجتماع عام في مقر اتحاد الادباء العراقيين قصيدتي (نبوءة عن الشعر).. وبعدها توجهت الى الرابية ووقفت أهتف للوئام واوجه سهامي الى كل من يعرقل مسيرة الشعب.. وعدت الى الجوع والنوم على الارض. ولم تخرج النظافة من قلبي أبداً. وعندما جلست مع جان بول سارتر وناظم حكمت وبابلو نيرودا حول طاولة واحدة. خيل الى اني قد وصلت الى الحاقة! حافة ارضي القاحلة. ولكن هيهات.. ان الناس في بلادي لا يستطيعون مشاهدة القمم! وبقيت اسير مع المظلومين لازاحة الغيوم وفضلت البطالة لكي احتفظ بحريتي واستقلالي وأخيراً- تورطت وانا الفهيم! رأيت قبضة من الضوء فتفاءلت وعدت الى تناول الحزام ولكني مازلت احس بالتردد.)
وهكذا انتقل بعد دخوله السجن واحتكاكه بمناضلي الفكر الذين اداروا بوصلته صوب القضية الاهم. القضية التي تخص شعبا بأكمله وليست التي تخصه وحده وهو حسين مردان..اقول انتقل من ذاتية الشخصية الى ذاتية المجموع.. وراحت تختفي تدريجياً الانا المضخمة من اشعاره وطروحاته ولم يبق منها سوى ما يثير الاصدقاء والشعراء والاخرين وما يندرج تحت مفهوم الدعابة ليس الا، ليحل محلها الشعور بمسؤولية الدفاع عن الملايين المعدومة والمقهورة وهكذا دخل السجن مرة اخرى بعد انتفاضة تشرين 1952 ولكن هذه المرة ليست بسبب موقفه الرافض للأخلاق العامة السائدة وإنما بسبب موقفه الرافض للنظام الحاكم برمته وبسبب دفاعه عن قضايا شعبه.
وبذلك تضاعف عدد المعجبين به فما عاد الاهتمام به مقتصراً على النخب الاجتماعية والثقافية والفنية فحسب وإنما تحول الى شخصية عامة ذات شعبية واسعة.. فأصبح مثلاً قاطعو التذاكر لدور السينما لا يأخذون منه قيمة التذكرة.. فيدخل (خاصة في موسم الصيف) مزهواً ليحتل كرسياً في الطابق الارضي ليعب اكثر ما يستطيع من الهواء البارد المكيف ثم لينام براحة تامة حتى يوقظه مراقبو السينما بعد انتهاء الفلم.. واذا دخل باراً او مقهى فلا تشغله فكرة المستحقات المالية التي عليه ان يسددها لانه امن بان اكثر من واحد قد انبرى لتسديدها عنه.. واذا جلس في مكان ما يتحلق حوله الادباء وخاصة الشباب منهم، اذ يجدون فيه ضالتهم وصوتهم الجريء فيعابثونه تارة ويتحدونه اخرى، ولكن يظل هو يرى نفسه فوق الجميع. وتظل شخصية حسين مردان اكبر من عطائه ويبقى الضجيج الذي يحدثه اينما حل دليلاً على فعله المؤثر في المحيط والوسط الثقافي العراقي.. وحين رحل افتقدته الدروب والارصفة وابنته موائد اتحاد الادباء والبارات والمقاهي الادبية ومشى خلف جنازته اشباح واخيلة سارتر وناظم حكمت ونيرودا وبودلير وألياس ابو شبكة، فوارته التراب وعادت الى مثواها الاخير وهي مطمئنة بأن الذي تحداها جميعا قد صمت الى الابد.


وائل المرعب