tiger
30/03/2007, 11:56
موضوعُ قبول الآخر يقتضي تعريفَ مفهومَي "الآخر" و"القبول". لكنِّي أرى من الملائم التوقف أولاً عند عبارة "رؤية توليفية" التي صُنِّفَتْ كلمتي تحتها - وهي، ضمن السياق الذي نحن في صدده، تعني الجمع بين الدين والفلسفة أو التوفيق بينهما.
في نظر كثيرين - ومنهم فلاسفة ومثقفون - ينطلق هذا "التوفيق" من تسليمٍ بأن الفلسفة تقوم على أرضية عقلية، فيما يقوم الدين على أرضية إيمانية، وأن العقل غير الإيمان والإيمان غير العقل. فالإيمان، في نظرهم، يعتمد منطق التسليم المنفعل، والعقل يعتمد منطق التحليل الفاعل. ومما تَستتبعه هذه النظرةُ تصنيفَ المواقف التشكيكية في باب الفلسفة وتصنيفَ المواقف الإيمانية في باب "الدفاع" apology. وهذا أحد الأخطاء الشائعة الملازمة لمفاهيم غامضة من نوع "الحداثة" و"ما بعد الحداثة"، التي يضفي عليها هذا الغموضَ تبنِّي بعض الأوساط الفلسفية لها من غير تدقيق أو نقد أو تحليل أو إعادة نظر، علمًا أن هذه الخصائص جميعًا من مستلزمات الحداثة الفكرية. فكيف يُعقَل، مثلاً، أن يوضع كتابُ برتراند رصل لماذا لستُ مسيحيًّا؟ تحت باب الفلسفة، فيما يوضع كتابُ وليم تمپل الطبيعة والإنسان والله خارج الفلسفة وتحت باب الدفاع الديني؟!
هذا مأزق واحد، لكنْ رئيسي، من مآزق ما يُسمَّى الحداثة. والخروج منه يتطلب استعادة أصيلة لروح النهضة والحداثة والتفكير النقدي، كما يتطلب النظرَ إلى الفلسفة على أنها حيادية بالنسبة إلى الدين: بمعنى أن المؤمن وغير المؤمن يستطيعان اللجوء إلى الحجَّة الفلسفية دفاعًا عن موقف. ومما يقتضيه التفكيرُ الفلسفي تحليل مفهومَي العقل والإيمان – هذا التحليل الذي قد يكشف لنا أن العقل ليس مفهومًا جامدًا، بل هو مفهوم نسبي، يختلف باختلاف المعقول.
وإذا كان المعقول الديني هو الحقائق الروحية، وفي رأسها الله، فلا بدَّ من أن يكون التنبُّه إلى هذه الحقيقة والإحاطة بها وإدراكها والتعبير عنها، أي "عَقْلُها"، مختلفًا عن الطرائق التي تُعقَل بها الحقائقُ المادية. هكذا نستطيع النظر إلى الإيمان من حيث هو وظيفة يُعقَل بها الله؛ بكلامٍ آخر، الإيمان هو العقل في نطاق الحقائق الروحية.
لذلك أقول بأن الجمع أو التوفيق بين الفلسفة والدين، إذا كان المقصودُ منه تقليصَ الفوارق أو المصالحة أو التقريب بين وجهتَي نظر متعارضتين، هو من قبيل المسائل الباطلة pseudo-questions التي يزخر بها التاريخُ من نواحيه الفلسفية والدينية والاجتماعية وسواها. التوفيق يمكن أن يحصل، مثلاً، بين ديانتين أو أكثر، أو بين نظرتين سياسيتين أو أكثر، أو بين مفهومين أدبيين أو أكثر، إلخ. وتبرز الحاجة إلى التوفيق عندما يكون هناك خلاف، خصوصًا من نوع الاختلاف الذي يقتصر على الظاهر ولا يتعداه إلى الجوهر.
أما التوفيق بين الدين والفلسفة فمسألة زائفة من أساسها، لأن الاثنين ينتميان إلى مرتبتين منطقيتين مختلفتين. هكذا نرى أن نشاطات مثل الدين والعلم والسياسة والفن هي نشاطات "حياتية"، إنْ جاز التعبير، في حين أن الفلسفة نشاط منهجي أو منطقي، يَدْخل تلك النشاطاتِ ليَطرح حولها أسئلة متعلِّقة بماهيَّتها وتبريرها والعلاقة بين أحدها والآخر.
إلا أن التوفيق، في أيِّ حال، أمر ضروري بين ما يُسمَّى "الدين الطبيعي"، أي ما يستطيع الإنسانُ بلوغَه بفطرته أو بعقله المجرَّد عن رسالة دينية محدَّدة، وبين "الدين الموحَى"، أي ما يأتي عبر ديانة معيَّنة.
من هنا أنتقل إلى محاولة تعريف المفهومَين الأساسيَّين لموضوعنا، وهما: الآخر والقبول. والمنهج الذي أعتمده هو بعض المنهج عينه الذي أرسَيتُ عليه كتبي الأربعة في فلسفة الدين: الانطلاق من الدين الطبيعي، لا من دين موحى، والاحتكام إلى هذا الدين الموحى أو ذاك تأييدًا لأحكام العقل الديني. هكذا تبدو الرسالة الدينية، كما في مصطلح العديد من اللاهوتيين والفقهاء المسيحيين والمسلمين، "نورًا على نور" – والنور، في كلتا الحالين، هو النور الذي "يقذفه الله في الصدر"، على حدِّ تعبير الإمام الغزالي وقبله القديس أُغسطينوس وسواهما.
مَن هو "الآخر" ومَن هو "اللاآخر"؟
في تحديدٍ أوَّلي، اللاآخر هو كل مَن أنضوي وإياه تحت خانة واحدة هي خانة "نَحْن" – كأنْ يكون من عائلتي أو من بلدتي أو من بلدي أو من ديني أو من مذهبي أو من لغتي أو من أية جماعة ننتمي إليها معًا. أما الآخر فهو مَن كان خارج هذه التصنيفات: فلا هو من عائلتي، ولا من بلدتي، ولا من بلدي، ولا من ديني، ولا من مذهبي، ولا من لغتي، ولا تجمعني به أيةُ رابطة عملية. يتبع من هذا أن القبول، في معنى أوَّلي أيضًا، هو قبول اللاآخر الحاصل سلفًا بحكم الشراكة في الانتماء، التي تكتسب عبارة "نحن" معناها في إطارها.
لكن ماذا عن قبول الآخر؟
من أجل إعطاء مفهوم القبول تحديدًا أشمل، سأتوقف عند الآخر في معناه الديني، أي ذاك الذي ينتمي، اسميًّا على الأقل، إلى دين آخر أو إلى مذهب آخر. كيف يَقبلُ المسيحيُّ المسلمَ والمسلمُ المسيحيَّ؟ كيف يقبل السنِّيُّ الشيعيَّ والشيعيُّ السنِّيَّ؟ كيف يقبل الأُرثوذكسيُّ الكاثوليكيَّ أو العكس؟ كيف يقبل هذان الپروتستانتيَّ أو العكس؟ كيف يقبل المؤمنُ اللامؤمنَ وهذا ذاك؟
طبيعيٌّ أن تكون هناك أنماط متعددة للقبول، وفق اعتبارات عقلية وعقائدية ونفسية واجتماعية وسواها. لكنها، كما أرى، تُختزَل إلى نمطين رئيسيين: الأول هو قبول الآخر كـ"آخر"، أي قبوله على الرغم من "آخريَّته". ومادمنا في نطاق الدين، فإن تبريرنا قبول الآخر يمكن أن يكون أن ديننا نفسه، الذي يعتبره هذا النمطُ الدينَ الأوحد أو الصحيح أو الأصح، يحثُّنا على هذا القبول لأنه يدعونا إلى المحبة أو العطف تجاه الآخرين. إلا أن نظرتنا إلى الآخر، في ضوء هذا المفهوم للقبول، تبقى نظرة "فوقية"، إذ نعتقد، في أحسن الحالات، أننا أصح أو أكمل منه دينًا، وأن قبولنا إيَّاه هو من قبيل الشهامة أو "العفو عند المقدرة" أو وضعه "في ذمَّتنا" أو تحت حمايتنا!
النمط الثاني للقبول يتجاوز العقلية، وبالتالي العلاقة، الفوقية لأنه ينطلق من أن الاختلاف بين إيمان وإيمان قد يكون اختلافًا محضًا، لا يشير إلى أعلى وأدنى، أو صحيح وغير صحيح، أو أكثر صحةً وأقل صحة، بل يذهب إلى أني مقتنع شخصيًّا بهذا الدين الذي تَسلَّمتُه من أسلافي، أو ربما تَحوَّلتُ إليه، وإلى أن ما أستطيع بلوغَه عِبْرَ ديني يجب أن يستطيع الآخرُ بلوغَه عِبْرَ دينه هو، لأننا إذا دَرَسْنا الأديان وجدناها متشابهة وظيفيًّا.
علاقة القبول في هذا النمط أنضج لإرساء التفاهم أو المحبة فيها، لا على الشفقة، بل على المساواة. هذه العلاقة الناضجة هي ثمرة تحويل الآخر إلى "لاآخر" عِبْرَ الإقرار بأن الجوهر الواحد الذي يجمعنا يتجاوز المظاهر أو الأسماء التي تفرقنا. وإذا كانت الحياة داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات لا تقتضي، في أدنى شروطها، أكثر من النمط الأول للقبول، فلا شك أن النمط الثاني يجعل هذه الحياة أكثر سلامًا وانسجامًا واستقرارًا.
لطالما تساءلنا عن حصول صداقات في حياتنا، بينها أعمق الصداقات، من خارج العائلة أو الخطِّ السياسي، أو من خارج الدين أو المذهب؛ وهي صداقات قد تتعزَّز وتدوم مدى الحياة، وربما أفضتْ إلى تأسيس حياة عائلية. وفي واقع عصريٍّ كَثُرَ معه الانتقالُ من مجتمع إلى آخر، تَعْبُر هذه الصداقاتُ حدودَ المجتمع الواحد لتتداخل فيها المجتمعاتُ، بثقافاتها ولغاتها وعاداتها وأديانها. ليست الصداقة، خصوصًا تلك التي تفضي إلى تأسيس عائلة سعيدة، شأنًا يُستَهان به، لا بل هي أهم إطار تتحرك الحياةُ السليمة ضمنه. ولا بدَّ للصداقات التي تحصل خارج الأُطُر المحلِّية أو الحزبية أو الدينية التقليدية من أن تعدِّل في المفاهيم الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية لدى أصحابها، علمًا أن صداقات بعضهم، خصوصًا ممَّن يعتنقون مفهوم القبول بحسب النمط الأول الذي حدَّدناه، مقرَّرة سلفًا بحكم الروابط التقليدية.
إن الصداقات التي تخترق حواجز الانتماءات السلَفية أو المنغلقة هي أعمق إطار نَختبر فيه قبول الآخر بتحويله "لاآخر". ولا أجد هنا موقفًا أبلغ من القصة التي رواها يسوع لأحد علماء الشريعة سأله عمَّا يعنيه بـ"القريب"، وهي الآتية (لوقا 10: 30-37):
إنسانٌ كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا، فوَقَع بين أيدي لصوص. فعَرَّوه وجرحوه ومضوا وتركوه بين حيٍّ وميت. فعَرَضَ أنَّ كاهنًا نزل في تلك الطريق، فرآه وجاز مقابله. وكذلك لاويٌّ أيضًا، إذْ صار عند المكان، جاء ونظر وجاز مقابله. ولكن سامريًّا مسافرًا جاء إليه، ولما رآه تَحنَّن عليه [علمًا أن السامريين كانوا أغرابًا عن تلك المنطقة ومختلفين عرقيًّا وأعداء لأهلها]، فتَقدَّم وضَمَد جراحاته وصبَّ عليها زيتًا وخمرًا، وأركبه على دابَّته، وأتى به إلى فندق واعتنى به. وفي الغد لما مضى أخرج دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق، وقال له: "اعتَنِ به، ومهما أنفقتَ أكثر فعند رجوعي أُوفيك." فأيُّ هؤلاء الثلاثة صار قريبًا للَّذي وقع بين اللصوص؟" فقال: "الذي صنع معه الرحمة." فقال له يسوع: "اذهبْ أنتَ أيضًا واصنع هكذا."
هذا يدعونا إلى تعديل معنى الجماعة والجماعيَّة بعيدًا عن التزمُّت العقائدي والنظرات المنغلقة. والحق أن المعنى الأعمق للدين هو ذاك الذي يَغلب فيه الاعتبارُ الفردي أو الشخصي على الاعتبار الجماعي، هذا الاعتبار الذي أجمعت الرسالات الدينية على شَجْبه. ففي الإنجيل أنَّ "كل واحد منا سيعطي عن نفسه حسابًا لله" (رومية 14: 12)؛ وفي القرآن: "يا أيُّها الناس اتَّقوا ربَّكم واخشَوْا يومًا لا يَجْزي والدٌ عن وَلَدِه ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئًا" (لقمان 31: 33).
ألا يدعونا هذا حقًّا للذهاب أبعد من المظاهر والأسماء، أي إلى الجوهر، بحثًا عن المجال الأصيل للانتماء؟ وهو يجعلنا نكفُّ عن حَصْر "الفرقة الناجية" فيمَن تَسمَّى باسمنا، غافلين عن أن بين أولئك كثيرين "من الذين قالوا آمَنَّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبُهم" (المائدة 5: 41) – ولعلَّنا نحن منهم! كما يجعلنا ندرك أن هذه "الفرقة" هي أفراد من جميع الفِرَق في الأديان كلِّها، وحتى من خارج الفِرَق والأديان، استطاعوا أن يحقِّقوا الشرطَين اللذين لخَّص بهما يسوع المسيح النبوَّاتِ والنواميسَ كلَّها، وهما: أن تحب الرب إلهك من كل عقلك وقلبك وإرادتك، مبرهنًا عن هذا الأمر بمحبة قريبك - وهو الآخر، كائنًا مَن يكون - كما تحب نفسَك (لوقا 10: 25-28).
في نظر كثيرين - ومنهم فلاسفة ومثقفون - ينطلق هذا "التوفيق" من تسليمٍ بأن الفلسفة تقوم على أرضية عقلية، فيما يقوم الدين على أرضية إيمانية، وأن العقل غير الإيمان والإيمان غير العقل. فالإيمان، في نظرهم، يعتمد منطق التسليم المنفعل، والعقل يعتمد منطق التحليل الفاعل. ومما تَستتبعه هذه النظرةُ تصنيفَ المواقف التشكيكية في باب الفلسفة وتصنيفَ المواقف الإيمانية في باب "الدفاع" apology. وهذا أحد الأخطاء الشائعة الملازمة لمفاهيم غامضة من نوع "الحداثة" و"ما بعد الحداثة"، التي يضفي عليها هذا الغموضَ تبنِّي بعض الأوساط الفلسفية لها من غير تدقيق أو نقد أو تحليل أو إعادة نظر، علمًا أن هذه الخصائص جميعًا من مستلزمات الحداثة الفكرية. فكيف يُعقَل، مثلاً، أن يوضع كتابُ برتراند رصل لماذا لستُ مسيحيًّا؟ تحت باب الفلسفة، فيما يوضع كتابُ وليم تمپل الطبيعة والإنسان والله خارج الفلسفة وتحت باب الدفاع الديني؟!
هذا مأزق واحد، لكنْ رئيسي، من مآزق ما يُسمَّى الحداثة. والخروج منه يتطلب استعادة أصيلة لروح النهضة والحداثة والتفكير النقدي، كما يتطلب النظرَ إلى الفلسفة على أنها حيادية بالنسبة إلى الدين: بمعنى أن المؤمن وغير المؤمن يستطيعان اللجوء إلى الحجَّة الفلسفية دفاعًا عن موقف. ومما يقتضيه التفكيرُ الفلسفي تحليل مفهومَي العقل والإيمان – هذا التحليل الذي قد يكشف لنا أن العقل ليس مفهومًا جامدًا، بل هو مفهوم نسبي، يختلف باختلاف المعقول.
وإذا كان المعقول الديني هو الحقائق الروحية، وفي رأسها الله، فلا بدَّ من أن يكون التنبُّه إلى هذه الحقيقة والإحاطة بها وإدراكها والتعبير عنها، أي "عَقْلُها"، مختلفًا عن الطرائق التي تُعقَل بها الحقائقُ المادية. هكذا نستطيع النظر إلى الإيمان من حيث هو وظيفة يُعقَل بها الله؛ بكلامٍ آخر، الإيمان هو العقل في نطاق الحقائق الروحية.
لذلك أقول بأن الجمع أو التوفيق بين الفلسفة والدين، إذا كان المقصودُ منه تقليصَ الفوارق أو المصالحة أو التقريب بين وجهتَي نظر متعارضتين، هو من قبيل المسائل الباطلة pseudo-questions التي يزخر بها التاريخُ من نواحيه الفلسفية والدينية والاجتماعية وسواها. التوفيق يمكن أن يحصل، مثلاً، بين ديانتين أو أكثر، أو بين نظرتين سياسيتين أو أكثر، أو بين مفهومين أدبيين أو أكثر، إلخ. وتبرز الحاجة إلى التوفيق عندما يكون هناك خلاف، خصوصًا من نوع الاختلاف الذي يقتصر على الظاهر ولا يتعداه إلى الجوهر.
أما التوفيق بين الدين والفلسفة فمسألة زائفة من أساسها، لأن الاثنين ينتميان إلى مرتبتين منطقيتين مختلفتين. هكذا نرى أن نشاطات مثل الدين والعلم والسياسة والفن هي نشاطات "حياتية"، إنْ جاز التعبير، في حين أن الفلسفة نشاط منهجي أو منطقي، يَدْخل تلك النشاطاتِ ليَطرح حولها أسئلة متعلِّقة بماهيَّتها وتبريرها والعلاقة بين أحدها والآخر.
إلا أن التوفيق، في أيِّ حال، أمر ضروري بين ما يُسمَّى "الدين الطبيعي"، أي ما يستطيع الإنسانُ بلوغَه بفطرته أو بعقله المجرَّد عن رسالة دينية محدَّدة، وبين "الدين الموحَى"، أي ما يأتي عبر ديانة معيَّنة.
من هنا أنتقل إلى محاولة تعريف المفهومَين الأساسيَّين لموضوعنا، وهما: الآخر والقبول. والمنهج الذي أعتمده هو بعض المنهج عينه الذي أرسَيتُ عليه كتبي الأربعة في فلسفة الدين: الانطلاق من الدين الطبيعي، لا من دين موحى، والاحتكام إلى هذا الدين الموحى أو ذاك تأييدًا لأحكام العقل الديني. هكذا تبدو الرسالة الدينية، كما في مصطلح العديد من اللاهوتيين والفقهاء المسيحيين والمسلمين، "نورًا على نور" – والنور، في كلتا الحالين، هو النور الذي "يقذفه الله في الصدر"، على حدِّ تعبير الإمام الغزالي وقبله القديس أُغسطينوس وسواهما.
مَن هو "الآخر" ومَن هو "اللاآخر"؟
في تحديدٍ أوَّلي، اللاآخر هو كل مَن أنضوي وإياه تحت خانة واحدة هي خانة "نَحْن" – كأنْ يكون من عائلتي أو من بلدتي أو من بلدي أو من ديني أو من مذهبي أو من لغتي أو من أية جماعة ننتمي إليها معًا. أما الآخر فهو مَن كان خارج هذه التصنيفات: فلا هو من عائلتي، ولا من بلدتي، ولا من بلدي، ولا من ديني، ولا من مذهبي، ولا من لغتي، ولا تجمعني به أيةُ رابطة عملية. يتبع من هذا أن القبول، في معنى أوَّلي أيضًا، هو قبول اللاآخر الحاصل سلفًا بحكم الشراكة في الانتماء، التي تكتسب عبارة "نحن" معناها في إطارها.
لكن ماذا عن قبول الآخر؟
من أجل إعطاء مفهوم القبول تحديدًا أشمل، سأتوقف عند الآخر في معناه الديني، أي ذاك الذي ينتمي، اسميًّا على الأقل، إلى دين آخر أو إلى مذهب آخر. كيف يَقبلُ المسيحيُّ المسلمَ والمسلمُ المسيحيَّ؟ كيف يقبل السنِّيُّ الشيعيَّ والشيعيُّ السنِّيَّ؟ كيف يقبل الأُرثوذكسيُّ الكاثوليكيَّ أو العكس؟ كيف يقبل هذان الپروتستانتيَّ أو العكس؟ كيف يقبل المؤمنُ اللامؤمنَ وهذا ذاك؟
طبيعيٌّ أن تكون هناك أنماط متعددة للقبول، وفق اعتبارات عقلية وعقائدية ونفسية واجتماعية وسواها. لكنها، كما أرى، تُختزَل إلى نمطين رئيسيين: الأول هو قبول الآخر كـ"آخر"، أي قبوله على الرغم من "آخريَّته". ومادمنا في نطاق الدين، فإن تبريرنا قبول الآخر يمكن أن يكون أن ديننا نفسه، الذي يعتبره هذا النمطُ الدينَ الأوحد أو الصحيح أو الأصح، يحثُّنا على هذا القبول لأنه يدعونا إلى المحبة أو العطف تجاه الآخرين. إلا أن نظرتنا إلى الآخر، في ضوء هذا المفهوم للقبول، تبقى نظرة "فوقية"، إذ نعتقد، في أحسن الحالات، أننا أصح أو أكمل منه دينًا، وأن قبولنا إيَّاه هو من قبيل الشهامة أو "العفو عند المقدرة" أو وضعه "في ذمَّتنا" أو تحت حمايتنا!
النمط الثاني للقبول يتجاوز العقلية، وبالتالي العلاقة، الفوقية لأنه ينطلق من أن الاختلاف بين إيمان وإيمان قد يكون اختلافًا محضًا، لا يشير إلى أعلى وأدنى، أو صحيح وغير صحيح، أو أكثر صحةً وأقل صحة، بل يذهب إلى أني مقتنع شخصيًّا بهذا الدين الذي تَسلَّمتُه من أسلافي، أو ربما تَحوَّلتُ إليه، وإلى أن ما أستطيع بلوغَه عِبْرَ ديني يجب أن يستطيع الآخرُ بلوغَه عِبْرَ دينه هو، لأننا إذا دَرَسْنا الأديان وجدناها متشابهة وظيفيًّا.
علاقة القبول في هذا النمط أنضج لإرساء التفاهم أو المحبة فيها، لا على الشفقة، بل على المساواة. هذه العلاقة الناضجة هي ثمرة تحويل الآخر إلى "لاآخر" عِبْرَ الإقرار بأن الجوهر الواحد الذي يجمعنا يتجاوز المظاهر أو الأسماء التي تفرقنا. وإذا كانت الحياة داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعات لا تقتضي، في أدنى شروطها، أكثر من النمط الأول للقبول، فلا شك أن النمط الثاني يجعل هذه الحياة أكثر سلامًا وانسجامًا واستقرارًا.
لطالما تساءلنا عن حصول صداقات في حياتنا، بينها أعمق الصداقات، من خارج العائلة أو الخطِّ السياسي، أو من خارج الدين أو المذهب؛ وهي صداقات قد تتعزَّز وتدوم مدى الحياة، وربما أفضتْ إلى تأسيس حياة عائلية. وفي واقع عصريٍّ كَثُرَ معه الانتقالُ من مجتمع إلى آخر، تَعْبُر هذه الصداقاتُ حدودَ المجتمع الواحد لتتداخل فيها المجتمعاتُ، بثقافاتها ولغاتها وعاداتها وأديانها. ليست الصداقة، خصوصًا تلك التي تفضي إلى تأسيس عائلة سعيدة، شأنًا يُستَهان به، لا بل هي أهم إطار تتحرك الحياةُ السليمة ضمنه. ولا بدَّ للصداقات التي تحصل خارج الأُطُر المحلِّية أو الحزبية أو الدينية التقليدية من أن تعدِّل في المفاهيم الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية لدى أصحابها، علمًا أن صداقات بعضهم، خصوصًا ممَّن يعتنقون مفهوم القبول بحسب النمط الأول الذي حدَّدناه، مقرَّرة سلفًا بحكم الروابط التقليدية.
إن الصداقات التي تخترق حواجز الانتماءات السلَفية أو المنغلقة هي أعمق إطار نَختبر فيه قبول الآخر بتحويله "لاآخر". ولا أجد هنا موقفًا أبلغ من القصة التي رواها يسوع لأحد علماء الشريعة سأله عمَّا يعنيه بـ"القريب"، وهي الآتية (لوقا 10: 30-37):
إنسانٌ كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا، فوَقَع بين أيدي لصوص. فعَرَّوه وجرحوه ومضوا وتركوه بين حيٍّ وميت. فعَرَضَ أنَّ كاهنًا نزل في تلك الطريق، فرآه وجاز مقابله. وكذلك لاويٌّ أيضًا، إذْ صار عند المكان، جاء ونظر وجاز مقابله. ولكن سامريًّا مسافرًا جاء إليه، ولما رآه تَحنَّن عليه [علمًا أن السامريين كانوا أغرابًا عن تلك المنطقة ومختلفين عرقيًّا وأعداء لأهلها]، فتَقدَّم وضَمَد جراحاته وصبَّ عليها زيتًا وخمرًا، وأركبه على دابَّته، وأتى به إلى فندق واعتنى به. وفي الغد لما مضى أخرج دينارين وأعطاهما لصاحب الفندق، وقال له: "اعتَنِ به، ومهما أنفقتَ أكثر فعند رجوعي أُوفيك." فأيُّ هؤلاء الثلاثة صار قريبًا للَّذي وقع بين اللصوص؟" فقال: "الذي صنع معه الرحمة." فقال له يسوع: "اذهبْ أنتَ أيضًا واصنع هكذا."
هذا يدعونا إلى تعديل معنى الجماعة والجماعيَّة بعيدًا عن التزمُّت العقائدي والنظرات المنغلقة. والحق أن المعنى الأعمق للدين هو ذاك الذي يَغلب فيه الاعتبارُ الفردي أو الشخصي على الاعتبار الجماعي، هذا الاعتبار الذي أجمعت الرسالات الدينية على شَجْبه. ففي الإنجيل أنَّ "كل واحد منا سيعطي عن نفسه حسابًا لله" (رومية 14: 12)؛ وفي القرآن: "يا أيُّها الناس اتَّقوا ربَّكم واخشَوْا يومًا لا يَجْزي والدٌ عن وَلَدِه ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئًا" (لقمان 31: 33).
ألا يدعونا هذا حقًّا للذهاب أبعد من المظاهر والأسماء، أي إلى الجوهر، بحثًا عن المجال الأصيل للانتماء؟ وهو يجعلنا نكفُّ عن حَصْر "الفرقة الناجية" فيمَن تَسمَّى باسمنا، غافلين عن أن بين أولئك كثيرين "من الذين قالوا آمَنَّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبُهم" (المائدة 5: 41) – ولعلَّنا نحن منهم! كما يجعلنا ندرك أن هذه "الفرقة" هي أفراد من جميع الفِرَق في الأديان كلِّها، وحتى من خارج الفِرَق والأديان، استطاعوا أن يحقِّقوا الشرطَين اللذين لخَّص بهما يسوع المسيح النبوَّاتِ والنواميسَ كلَّها، وهما: أن تحب الرب إلهك من كل عقلك وقلبك وإرادتك، مبرهنًا عن هذا الأمر بمحبة قريبك - وهو الآخر، كائنًا مَن يكون - كما تحب نفسَك (لوقا 10: 25-28).