زياد الرحباني
27/11/2006, 00:36
اللفظ والمعنى أو المضمون والشكل - من المواضيع التي بُحثت على مدى العصور الأدبية بعضهم فصل كلاً منهما ، وبعضهم رأى التلاصق بينهما كالروح والجسد. والأدب - كما نعلم - يتبين بالأسلوب ، ففي الأسلوب يتم خلق الفكرة ، حيث تلبس لباسها الملائم ، وفيه جهد يبذله الأديب وهو يحاول أن يربط الأفكار والألفاظ .لا شك أن اللغة هي وعاء الأفكار ، وكلما كانت مطابقة للفكرة نجح الكاتب في إيصالها ، ولغتنا العربية لغة غنية المفردات ، فيها الكثير من المترادفات والمشتركات ( كلمة لها أكثر من مدلول ) وفيها الأضداد ( كلمة لها معنى ونقيضه ) ، وفيها قدرة عظيمة على الاشتقاق والنحت والقياس…. ولغة الأدب الجاهلية متشابهة برغم كثرة المفردات، وأفكارها محدودة ، لأنه ليست هناك فروق ظاهرة في كثير من المترادفات.
ويرى البعض أن الكلمة ” جاهلية ” كانت مطابقة لواقع البدوي ، فقد حاول مصطفى ناصف أن يربط الكلمات الجاهلية بالحياة ، وأظهر أن فاعلية اللغة أو تفاعل كلماتها هو الذي يخلق المعنى ويبرز معلمه ، وهو يتابع جمالية اللغة حتى يوصلها إلى أصول أسطورية ورمزية ، وعند تمازج العرب بالشعوب الأخرى رأينا قدرة العربية على استيعاب الكلمات العلمية والفنية ، ورأينا الجملة العربية تخضع للمنطق ، فالنثر اتجه إلى الأدب الرمزي ككتاب ( كليلة ودمنة ) ، وفيه نقد للحكام ، وإلى الاتجاه الفلسفي الذي يجعل من الفلسفة العربية جسرًا موصلاً لعصر النهضة ، وإلى الأدب الشعبي كما في ألف ليلة وليلة ، ولا ننكر أسلوب المحسنات اللفظية في المقامات والرسائل الذي كان تدبيجيًا يماثل شغف الناس بالتوشية في مأكلهم ولباسهم ، وقد جرى ما يوازي ذلك في الشعر العباسي في التركيز على المضمون آنًا ، وعلى الشكل آنـًا آخر.
ويذهب أحمد أمين إلى أن الأدب الجاهلي ، وخاصة الشعر جنى على الأدب العربي ، فظلت الأفكار تدور حول القديم ، وظلت اللغة جامدة …..
ونظرة إلى نماذج من الشعر العباسي فـإننا نجد كثيرًا من الوقوف على الأطلال ، أو استخدام الرموز القديمة ، فهذا مهيار الديلمي - وهو شاعر فارسي - يقول :
يا نداماي بسلع هل أرى ذلك المغبق والمصطبحا
فهو يستعمل ( سلع ) - وهو مكان في الحجاز ، كما يستعمل ( مغبق ) و ( مصطبح ) شراب المساء ومكان شراب الصباح ، وهما كلمتان مستمدتان من الأدب الجاهلي . إلا أن أمين غالى في إظهار جانب التقليد ، ذلك لأن هناك من أظهر التجديد اللغوي، فأبو تمام قد استعمل المجاز ، وعلى سبيل المثال يذكر ” ماء الملام ” ، وعندما ينكرون عليه هذا الاستعمال يسألهم :
” إيتوني بجناح الذل “ …
ومن الجدير أن نذكر أن أبا تمام من أبرز الشعراء العرب الذين ضمنوا شعر السابقين وتمثلوه في أشعارهم على طريقة إيليوت فيما بعد .
أما في عصور ما سماها المستشرقون - ” الانحطاط ” فقد برزت المحسنات البديعية على حساب المعنى ، فالشكل كان المقرِّر ، والمعنى غالبًا ما كان مجترًّا في بداية العصر الحديث. ومع ظهور المطبعة وبتأثير الحملة الفرنسية عاد العرب إلى دراسة مصادر الأدب القديم ، وتأثروا بها ، فكانت المرحلة الكلاسية أو الكلاسية الجديدة .
وبعد الاطلاع على روافد الشعر العربي وتياراته رأينا من اتجه الاتجاه البرناسي - الذي له أساس - حسب رأيي - في ما ذهب إليه الجاحظ من أن المعاني مطروحة في الطريق ، وإنما الشأن في إقامة الوزن ، وتمييز اللفظ ، وإنما الشعر صناعة ، وجنس من التصوير ، ومنهم من يمزج الكلمات المألوفة بغير المألوفة ويرون رأي أرسطو أن فن الشعر مزيج من الألفاظ المألوفة وغير المألوفة ، والتغير أو العدول عن الألفاظ الواضحة الأصلية إلى غيرها يعد تجديدًا في اللغة ، ومنهم من يكون غامضًا ، ولعل سبب الغموض أن الألفاظ غريبة ، أو مشتركة المعنى ، وهذا يقتضي تبسيط اللغة ، وخاصة إذا كان المعنى مبنيًا على مقدمات غير معلومة للقارئ. وأصحاب مدرسة ( شعر ) اللبنانية الذين قلدوا الشعر الأوروبي بكل (موداته ) قدموا لنا محاولات تركيبــية جديدة لنظام الجملة وطبيعة اللفظة فيها ، فالشعر هنا صور ….. ويحدد أدونيس الكلمة فيها - أنها تزخر بأكثر مما تعد ،وتشير إلى أكثر مما تقول . فالشعر عنده ثورة ، والكلمة معول هدم يجب أن تفرغ من الماضي ، وهو يعني بثورة اللغة أن تصبح الكلمة - وبالتالي الكتابة قوة إبداع وتغير تضع العربي في مناخ البحث والتساؤل والتطلع والعمل.
والنثر – وخاصة القصة والمسرحية – يتلاقى في اتجاهاته العديدة هو والشعر من حيث الغموض ، فالكاتب يعمد إلى أن يقفز بدفعة واحدة إلى حيث يريد ، وعندما يتشبث به القارئ متوسلاً أن يصاحبه يخلّفه في الطريق ، حيث يبحث عنه ، أو يعزف عنه ، وغالبًا ما يعزف عنه .
وهنالك قضية أخرى ذات أهمية أخرى في لغتنا ، وهي الفصحى والعاميــة ، فكثيرًا ما اتهم دعاة العاميــة بالضعف أو بالدعوة إلى الشعوبية، ونحن اليوم في سبيل لغة وسطى ، بسبب انتشار التعليم ووسائل الإعلام ، بالإضافة إلى أن الفصحى ذاتها قد طرأ فيها تغيير كبير - في هندسة الجملة ، وذلك بتأثير لغات أخرى ، فالفصحى والعاميــة في صراع خفي ، وربما يكون يصب هذا في مصلحة العرب ، واللغة يجب أن تتطور حتى لا تصبح مجدبة عقيمة . ولكن الأولية تبقى للفصحى . و اهتماما بدورها نرى الكثيرين ينقحون أعمالهم الأدبية ، فإذا ما استعمل كاتب كلمة عامية فـإنه يحاول أن يغيرها إلى كلمة أقرب إلى اللغة التي يكتب بها أعلام الأدب القدماء ، وهو يحاول أن يبتعد عن لهجة يقبل عليها الأقــلاء ، وثمة الكثير من شعراء الحداثة يمازجون بين الفصحى والعاميــة ، وربما بتأثير إيليوت القائل إن العلاقة الصحيحة بين الألفاظ هي التي تخلق التناسق والحيوية، ويمكننا اعتبار هذا تجديدًا لغويًا ضروريًا في كل عصر وفي كل لغة .
منقول
ويرى البعض أن الكلمة ” جاهلية ” كانت مطابقة لواقع البدوي ، فقد حاول مصطفى ناصف أن يربط الكلمات الجاهلية بالحياة ، وأظهر أن فاعلية اللغة أو تفاعل كلماتها هو الذي يخلق المعنى ويبرز معلمه ، وهو يتابع جمالية اللغة حتى يوصلها إلى أصول أسطورية ورمزية ، وعند تمازج العرب بالشعوب الأخرى رأينا قدرة العربية على استيعاب الكلمات العلمية والفنية ، ورأينا الجملة العربية تخضع للمنطق ، فالنثر اتجه إلى الأدب الرمزي ككتاب ( كليلة ودمنة ) ، وفيه نقد للحكام ، وإلى الاتجاه الفلسفي الذي يجعل من الفلسفة العربية جسرًا موصلاً لعصر النهضة ، وإلى الأدب الشعبي كما في ألف ليلة وليلة ، ولا ننكر أسلوب المحسنات اللفظية في المقامات والرسائل الذي كان تدبيجيًا يماثل شغف الناس بالتوشية في مأكلهم ولباسهم ، وقد جرى ما يوازي ذلك في الشعر العباسي في التركيز على المضمون آنًا ، وعلى الشكل آنـًا آخر.
ويذهب أحمد أمين إلى أن الأدب الجاهلي ، وخاصة الشعر جنى على الأدب العربي ، فظلت الأفكار تدور حول القديم ، وظلت اللغة جامدة …..
ونظرة إلى نماذج من الشعر العباسي فـإننا نجد كثيرًا من الوقوف على الأطلال ، أو استخدام الرموز القديمة ، فهذا مهيار الديلمي - وهو شاعر فارسي - يقول :
يا نداماي بسلع هل أرى ذلك المغبق والمصطبحا
فهو يستعمل ( سلع ) - وهو مكان في الحجاز ، كما يستعمل ( مغبق ) و ( مصطبح ) شراب المساء ومكان شراب الصباح ، وهما كلمتان مستمدتان من الأدب الجاهلي . إلا أن أمين غالى في إظهار جانب التقليد ، ذلك لأن هناك من أظهر التجديد اللغوي، فأبو تمام قد استعمل المجاز ، وعلى سبيل المثال يذكر ” ماء الملام ” ، وعندما ينكرون عليه هذا الاستعمال يسألهم :
” إيتوني بجناح الذل “ …
ومن الجدير أن نذكر أن أبا تمام من أبرز الشعراء العرب الذين ضمنوا شعر السابقين وتمثلوه في أشعارهم على طريقة إيليوت فيما بعد .
أما في عصور ما سماها المستشرقون - ” الانحطاط ” فقد برزت المحسنات البديعية على حساب المعنى ، فالشكل كان المقرِّر ، والمعنى غالبًا ما كان مجترًّا في بداية العصر الحديث. ومع ظهور المطبعة وبتأثير الحملة الفرنسية عاد العرب إلى دراسة مصادر الأدب القديم ، وتأثروا بها ، فكانت المرحلة الكلاسية أو الكلاسية الجديدة .
وبعد الاطلاع على روافد الشعر العربي وتياراته رأينا من اتجه الاتجاه البرناسي - الذي له أساس - حسب رأيي - في ما ذهب إليه الجاحظ من أن المعاني مطروحة في الطريق ، وإنما الشأن في إقامة الوزن ، وتمييز اللفظ ، وإنما الشعر صناعة ، وجنس من التصوير ، ومنهم من يمزج الكلمات المألوفة بغير المألوفة ويرون رأي أرسطو أن فن الشعر مزيج من الألفاظ المألوفة وغير المألوفة ، والتغير أو العدول عن الألفاظ الواضحة الأصلية إلى غيرها يعد تجديدًا في اللغة ، ومنهم من يكون غامضًا ، ولعل سبب الغموض أن الألفاظ غريبة ، أو مشتركة المعنى ، وهذا يقتضي تبسيط اللغة ، وخاصة إذا كان المعنى مبنيًا على مقدمات غير معلومة للقارئ. وأصحاب مدرسة ( شعر ) اللبنانية الذين قلدوا الشعر الأوروبي بكل (موداته ) قدموا لنا محاولات تركيبــية جديدة لنظام الجملة وطبيعة اللفظة فيها ، فالشعر هنا صور ….. ويحدد أدونيس الكلمة فيها - أنها تزخر بأكثر مما تعد ،وتشير إلى أكثر مما تقول . فالشعر عنده ثورة ، والكلمة معول هدم يجب أن تفرغ من الماضي ، وهو يعني بثورة اللغة أن تصبح الكلمة - وبالتالي الكتابة قوة إبداع وتغير تضع العربي في مناخ البحث والتساؤل والتطلع والعمل.
والنثر – وخاصة القصة والمسرحية – يتلاقى في اتجاهاته العديدة هو والشعر من حيث الغموض ، فالكاتب يعمد إلى أن يقفز بدفعة واحدة إلى حيث يريد ، وعندما يتشبث به القارئ متوسلاً أن يصاحبه يخلّفه في الطريق ، حيث يبحث عنه ، أو يعزف عنه ، وغالبًا ما يعزف عنه .
وهنالك قضية أخرى ذات أهمية أخرى في لغتنا ، وهي الفصحى والعاميــة ، فكثيرًا ما اتهم دعاة العاميــة بالضعف أو بالدعوة إلى الشعوبية، ونحن اليوم في سبيل لغة وسطى ، بسبب انتشار التعليم ووسائل الإعلام ، بالإضافة إلى أن الفصحى ذاتها قد طرأ فيها تغيير كبير - في هندسة الجملة ، وذلك بتأثير لغات أخرى ، فالفصحى والعاميــة في صراع خفي ، وربما يكون يصب هذا في مصلحة العرب ، واللغة يجب أن تتطور حتى لا تصبح مجدبة عقيمة . ولكن الأولية تبقى للفصحى . و اهتماما بدورها نرى الكثيرين ينقحون أعمالهم الأدبية ، فإذا ما استعمل كاتب كلمة عامية فـإنه يحاول أن يغيرها إلى كلمة أقرب إلى اللغة التي يكتب بها أعلام الأدب القدماء ، وهو يحاول أن يبتعد عن لهجة يقبل عليها الأقــلاء ، وثمة الكثير من شعراء الحداثة يمازجون بين الفصحى والعاميــة ، وربما بتأثير إيليوت القائل إن العلاقة الصحيحة بين الألفاظ هي التي تخلق التناسق والحيوية، ويمكننا اعتبار هذا تجديدًا لغويًا ضروريًا في كل عصر وفي كل لغة .
منقول