toocoolfriend
07/11/2006, 11:39
تصحيحاً لخطاب البابا... "آيات السيف" دفاعية
"لا إكراه في الدين"، مبدأ إسلامي أكيد. وقد بينّا في المقال السابق كيف فهم المسلمون بمختلف فرقهم هذا المبدأ، فهماً عقلانياً أصيلاً أساسه أن الإيمان لا يكون بالقسر والإجبار، وأن مِن شروط التكليف الشرعي أن يكون المكلَّف حراً مختاراً. هذا من ناحية المبدأ، أما من ناحية التطبيق، فالثابت بنصوص القرآن، ومن خلال السيرة النبوية، أن الإسلام قد استبعد استبعاداً كلياً استعمال السيف في الدعوة. لقد مكث الرسول عليه الصلاة والسلام أزيد من عشر سنوات في مكة تعرض فيها، هو والذين آمنوا به، لصنوف من الأذى والإهانة والتضييق والتعذيب والحصار، مما اضطره إلى أن يطلب من أصحابه الهجرة إلى الحبشة حفاظاً على أرواحهم. وكانوا قد طلبوا منه مراراً السماح لهم بالدفاع عن أنفسهم بأيديهم فمنعهم عن ذلك، وحرّم عليهم استعمال العنف ضد جلاديهم.
وكان موقف الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المجال وفاقاً مع قوله تعالى: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل 125). وسورة النحل هذه سورة مكية. ومعلوم أن القرآن المكي كله مُحكم، بمعنى أنه لا يطاله النسخ. والذين يقولون بأن "آية القتال" نسخت ما قبلها، هكذا بالتعميم، يجانبون الصواب لأن آية النسخ نفسها إنما نزلت في المدينة، ولأن النسخ -إذا جاز القول به- يخص مجال الأحكام وليس مجال العقيدة والأخلاق؛ والقرآن المكي كله عقيدة وأخلاق والآية السابقة تقرر سلوكاً أخلاقياً وليس حكماً تشريعياً.
وعندما كان النبي عليه الصلاة والسلام في طريقه إلى المدينة مهاجراً، أو كان يتهيأ لذلك، نزل قوله تعالى: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت 46). وسورة العنكبوت هي آخر سورة -أو ما قبل آخر سورة- نزلت في مكة. فهي إذن ترشد الرسول وصحبه إلى السلوك الذي يجب أن يسلكوه في المدينة مع من قد يختار أن يقف موقف الخصم لهم وهم اليهود تحديداً. أما غيرهم من سكان المدينة فقد بلغتهم الدعوة قبل الهجرة وأسلموا، وكانت تربطهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة.
وعلى هذا النهج نفسه حدد القرآن في المدينة، وهي تعيش مرحلة الدولة، السلوك الذي يجب أن يتبعه الرسول والمسلمون في الدعوة إلى الإسلام قال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (فصلت 33- 34). وقد طبق الرسول عليه الصلاة والسلام هذا النهج فكتب رسائل إلى ملوك ورؤساء الدول المجاورة يدعوهم إلى الإسلام: إلى إمبراطور الروم وكسرى فارس وملك الحبشة، وأسقف الإسكندرية ورؤساء الممالك العربية في شرق الجزيرة، كما بعث دعاة إلى جنوبها وغربها. والذين استجابوا، إنما فعلوا ذلك برضاهم وكانت استجابتهم مرفوقة أحياناً بمعاهدات...
منهج الدعوة في الإسلام مبني، إذن، على الموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، فلا عنف، لا على صعيد الكلام ولا على صعيد العمل. أما الجهاد الذي هو فرض كفاية -بمعنى أنه إذا قام به البعض سقط عن الباقي- فهو لا يتصور، بهذا المعنى، إلا كعمل جماعي يفرضه رد الفعل المناسب على كل ما يهدد الجماعة في وحدتها أو دينها أو مصالحها باختلاف أنواعها. وهذا لا يتصور إلا مع وجود دولة.
في حال وجود الدولة، إذن، يفرض الواجب الديني والواجب الوطني على القائمين بها الدفاع عن أرضها ومواطنيها ومصالحها، عندما تتعرض لعدوان من دولة أجنبية أو لفتنة داخلية. ذلك ما حصل عندما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة فقد اشتد ضغط قريش على المسلمين في مكة فالتحق بالمدينة من استطاع منهم، بينما بقي كثير من أزواجهم وأبنائهم وأهليهم يعانون من انتقام قريش، فنزل حينئذ الإذن لهم برد الفعل فقال تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ (لولا أنه جعلهم يردون الفعل على المعتدين) لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج 39- 40، جزء منها مكي والجزء الآخر مدني، وآيات الإذن بالقتال مدنية). ويقول كثير من المفسِّرين إن هذه الآيات كانت أول ما نزل في القتال. وواضح أن الإذن بالقتال هنا خاص بـ"الذين يقاتَلون" (بالفتح) مما يصرف معناه كلية إلى الدفاع عن النفس والأهل والمال والوطن... باعتبار مكة هي الوطن الأصلي للمهاجرين.
بعد الإذن بالقتال من الناحية المبدئية، جاءت الآية التالية تفصل شروط ذلك وكيفيته ومسوغاته، قال تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ" (البقرة 190-193). وواضح من ذكر "المسجد الحرام" في هذه الآيات أن الأمر يتعلق بفتح مكة.
ويقول كثير من المفسرين إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان "يقاتل من قاتله ويكف عمن كفَّ عنه"، وذلك إلى أن نقضت قريش معاهدات كان قد أبرمها معها، وحينذاك نزلت سورة براءة، تسمح له بقتالهم بعد إخبارهم والبراءة منهم وإتمام العهد مع من لم ينقضوا المعاهدات منهم ولم يقوموا بعدوان، وقبول توبة من تاب منهم وأدى فروض الإسلام (براءة-التوبة 1- 6). وواضح أن الأمر يتعلق هنا برد الفعل على نقض قريش لاتفاقية عقدوها مع النبي وقتلهم متحالفين معه، الشيء الذي يعني إعلانها الحرب على المسلمين.
تلك إذن هي آيات القتال (أو السيف) في القرآن الكريم، وكما هو واضح فإنها نزلت كلها لتجيز الرد على عدوان ارتكبته قريش ضد المسلمين، مما يدخل في إطار الدفاع عن النفس. أما حروب الردة التي جرت زمن الخليفتين أبي بكر وعمر، فتدخل في إطار القضاء على التمرد. فالأعراب الذين ارتدوا لم يفعلوا ذلك انسلاخاً من العقيدة فقط، وإنما ارتدوا ممتنعين عن دفع الزكاة لأبي بكر معتقدين أنها خاصة بالرسول، فالردة تعني هنا التمرد على قانون من قوانين الدولة وهو "الزكاة"، وحروب الردة بهذا الاعتبار هي حروب من أجل تطبيق القانون.
وأما ما حدث زمن الأمويين ومن جاء بعدهم من حروب أهلية وفتوحات خارجية، فقد كانت في البداية رد فعل على تهديدات خارجية من الروم أو الفرس، أو من عملائهم من القبائل العربية، ولم تكن من متطلبات الدعوة. وإذا كانت الدولة الإسلامية قد عمدت إلى محاربة دول أخرى لأسباب سياسية أو غيرها فإن عملها الحربي لم يكن موجهاً ضد مواطني هذه الدول بل ضد جيوشها وحكامها. وقد حرم القرآن قتال من لا يقاتِل منهم، خاصة النساء والأطفال والشيوخ ورجال الدين المنقطعين إلى معابدهم وصوامعهم وغيرهم ممن لم ينخرطوا في قتال المسلمين. قال تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (البقرة 190).
هذا ولابد من الإشارة إلى قيام كثير من الفرق الإسلامية بالدعوة لمذهبها في أطراف البلاد الإسلامية، مما أدى إلى إسلام جماعات كثيرة شرقاً وغرباً. وقد لعبت الطرق الصوفية والتجار في العصور المتأخرة دوراً كبيراً في هذا المجال، حيث أسلمت على أيديهم جماهير كثيرة في أفريقيا وآسيا، عن طريق الدعوة فحسب.
وقبل الختام لابد من القول بأن البابا بينيدكت السادس عشر كان مجانباً للحقيقية -ربما عن علم- حين اتهم رسول الإسلام بأنه أمر باستعمال السيف في نشر دعوته. وهو مجانب للحقيقة حين سكت عن موقف المسيحية من استعمال السيف في الدعوة، نافياً أن يكون ذلك من أعمالها. والحقيقة أن الكنيسة لم تستبعد استعمال العنف في الدعوة استبعاداً مطلقاً، بل أجازت استعمال السيف في نشر دعوتها. وقد طرح القديس أوغسطين (354-430م) مسألة استعمال السيف في الدعوة الدينية، فأفتى في كتابه المشهور "مدينة الله" بأنه إذا رفض الوثنيون الاستجابة لفضائل وحقائق المسيحية عندما تعرض عليهم، وجبت محاربتهم، معتمداً في هذه الفتوى على عبارة ذكرها الحواري لوقا في إنجيله ونصها: "أجبروهم على الدخول" (مثل الوليمة)، كما تعرّض للمسألة نفسها وبتفصيل، القديس توما الاكويني (1225-1274)، فأجاز "الحرب العادلة" التي هي في معنى الجهاد في الإسلام.
* نقلا عن صحيفة "الاتحاد" الإماراتية
"لا إكراه في الدين"، مبدأ إسلامي أكيد. وقد بينّا في المقال السابق كيف فهم المسلمون بمختلف فرقهم هذا المبدأ، فهماً عقلانياً أصيلاً أساسه أن الإيمان لا يكون بالقسر والإجبار، وأن مِن شروط التكليف الشرعي أن يكون المكلَّف حراً مختاراً. هذا من ناحية المبدأ، أما من ناحية التطبيق، فالثابت بنصوص القرآن، ومن خلال السيرة النبوية، أن الإسلام قد استبعد استبعاداً كلياً استعمال السيف في الدعوة. لقد مكث الرسول عليه الصلاة والسلام أزيد من عشر سنوات في مكة تعرض فيها، هو والذين آمنوا به، لصنوف من الأذى والإهانة والتضييق والتعذيب والحصار، مما اضطره إلى أن يطلب من أصحابه الهجرة إلى الحبشة حفاظاً على أرواحهم. وكانوا قد طلبوا منه مراراً السماح لهم بالدفاع عن أنفسهم بأيديهم فمنعهم عن ذلك، وحرّم عليهم استعمال العنف ضد جلاديهم.
وكان موقف الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المجال وفاقاً مع قوله تعالى: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل 125). وسورة النحل هذه سورة مكية. ومعلوم أن القرآن المكي كله مُحكم، بمعنى أنه لا يطاله النسخ. والذين يقولون بأن "آية القتال" نسخت ما قبلها، هكذا بالتعميم، يجانبون الصواب لأن آية النسخ نفسها إنما نزلت في المدينة، ولأن النسخ -إذا جاز القول به- يخص مجال الأحكام وليس مجال العقيدة والأخلاق؛ والقرآن المكي كله عقيدة وأخلاق والآية السابقة تقرر سلوكاً أخلاقياً وليس حكماً تشريعياً.
وعندما كان النبي عليه الصلاة والسلام في طريقه إلى المدينة مهاجراً، أو كان يتهيأ لذلك، نزل قوله تعالى: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (العنكبوت 46). وسورة العنكبوت هي آخر سورة -أو ما قبل آخر سورة- نزلت في مكة. فهي إذن ترشد الرسول وصحبه إلى السلوك الذي يجب أن يسلكوه في المدينة مع من قد يختار أن يقف موقف الخصم لهم وهم اليهود تحديداً. أما غيرهم من سكان المدينة فقد بلغتهم الدعوة قبل الهجرة وأسلموا، وكانت تربطهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة.
وعلى هذا النهج نفسه حدد القرآن في المدينة، وهي تعيش مرحلة الدولة، السلوك الذي يجب أن يتبعه الرسول والمسلمون في الدعوة إلى الإسلام قال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (فصلت 33- 34). وقد طبق الرسول عليه الصلاة والسلام هذا النهج فكتب رسائل إلى ملوك ورؤساء الدول المجاورة يدعوهم إلى الإسلام: إلى إمبراطور الروم وكسرى فارس وملك الحبشة، وأسقف الإسكندرية ورؤساء الممالك العربية في شرق الجزيرة، كما بعث دعاة إلى جنوبها وغربها. والذين استجابوا، إنما فعلوا ذلك برضاهم وكانت استجابتهم مرفوقة أحياناً بمعاهدات...
منهج الدعوة في الإسلام مبني، إذن، على الموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، فلا عنف، لا على صعيد الكلام ولا على صعيد العمل. أما الجهاد الذي هو فرض كفاية -بمعنى أنه إذا قام به البعض سقط عن الباقي- فهو لا يتصور، بهذا المعنى، إلا كعمل جماعي يفرضه رد الفعل المناسب على كل ما يهدد الجماعة في وحدتها أو دينها أو مصالحها باختلاف أنواعها. وهذا لا يتصور إلا مع وجود دولة.
في حال وجود الدولة، إذن، يفرض الواجب الديني والواجب الوطني على القائمين بها الدفاع عن أرضها ومواطنيها ومصالحها، عندما تتعرض لعدوان من دولة أجنبية أو لفتنة داخلية. ذلك ما حصل عندما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة فقد اشتد ضغط قريش على المسلمين في مكة فالتحق بالمدينة من استطاع منهم، بينما بقي كثير من أزواجهم وأبنائهم وأهليهم يعانون من انتقام قريش، فنزل حينئذ الإذن لهم برد الفعل فقال تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ (لولا أنه جعلهم يردون الفعل على المعتدين) لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج 39- 40، جزء منها مكي والجزء الآخر مدني، وآيات الإذن بالقتال مدنية). ويقول كثير من المفسِّرين إن هذه الآيات كانت أول ما نزل في القتال. وواضح أن الإذن بالقتال هنا خاص بـ"الذين يقاتَلون" (بالفتح) مما يصرف معناه كلية إلى الدفاع عن النفس والأهل والمال والوطن... باعتبار مكة هي الوطن الأصلي للمهاجرين.
بعد الإذن بالقتال من الناحية المبدئية، جاءت الآية التالية تفصل شروط ذلك وكيفيته ومسوغاته، قال تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ" (البقرة 190-193). وواضح من ذكر "المسجد الحرام" في هذه الآيات أن الأمر يتعلق بفتح مكة.
ويقول كثير من المفسرين إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان "يقاتل من قاتله ويكف عمن كفَّ عنه"، وذلك إلى أن نقضت قريش معاهدات كان قد أبرمها معها، وحينذاك نزلت سورة براءة، تسمح له بقتالهم بعد إخبارهم والبراءة منهم وإتمام العهد مع من لم ينقضوا المعاهدات منهم ولم يقوموا بعدوان، وقبول توبة من تاب منهم وأدى فروض الإسلام (براءة-التوبة 1- 6). وواضح أن الأمر يتعلق هنا برد الفعل على نقض قريش لاتفاقية عقدوها مع النبي وقتلهم متحالفين معه، الشيء الذي يعني إعلانها الحرب على المسلمين.
تلك إذن هي آيات القتال (أو السيف) في القرآن الكريم، وكما هو واضح فإنها نزلت كلها لتجيز الرد على عدوان ارتكبته قريش ضد المسلمين، مما يدخل في إطار الدفاع عن النفس. أما حروب الردة التي جرت زمن الخليفتين أبي بكر وعمر، فتدخل في إطار القضاء على التمرد. فالأعراب الذين ارتدوا لم يفعلوا ذلك انسلاخاً من العقيدة فقط، وإنما ارتدوا ممتنعين عن دفع الزكاة لأبي بكر معتقدين أنها خاصة بالرسول، فالردة تعني هنا التمرد على قانون من قوانين الدولة وهو "الزكاة"، وحروب الردة بهذا الاعتبار هي حروب من أجل تطبيق القانون.
وأما ما حدث زمن الأمويين ومن جاء بعدهم من حروب أهلية وفتوحات خارجية، فقد كانت في البداية رد فعل على تهديدات خارجية من الروم أو الفرس، أو من عملائهم من القبائل العربية، ولم تكن من متطلبات الدعوة. وإذا كانت الدولة الإسلامية قد عمدت إلى محاربة دول أخرى لأسباب سياسية أو غيرها فإن عملها الحربي لم يكن موجهاً ضد مواطني هذه الدول بل ضد جيوشها وحكامها. وقد حرم القرآن قتال من لا يقاتِل منهم، خاصة النساء والأطفال والشيوخ ورجال الدين المنقطعين إلى معابدهم وصوامعهم وغيرهم ممن لم ينخرطوا في قتال المسلمين. قال تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (البقرة 190).
هذا ولابد من الإشارة إلى قيام كثير من الفرق الإسلامية بالدعوة لمذهبها في أطراف البلاد الإسلامية، مما أدى إلى إسلام جماعات كثيرة شرقاً وغرباً. وقد لعبت الطرق الصوفية والتجار في العصور المتأخرة دوراً كبيراً في هذا المجال، حيث أسلمت على أيديهم جماهير كثيرة في أفريقيا وآسيا، عن طريق الدعوة فحسب.
وقبل الختام لابد من القول بأن البابا بينيدكت السادس عشر كان مجانباً للحقيقية -ربما عن علم- حين اتهم رسول الإسلام بأنه أمر باستعمال السيف في نشر دعوته. وهو مجانب للحقيقة حين سكت عن موقف المسيحية من استعمال السيف في الدعوة، نافياً أن يكون ذلك من أعمالها. والحقيقة أن الكنيسة لم تستبعد استعمال العنف في الدعوة استبعاداً مطلقاً، بل أجازت استعمال السيف في نشر دعوتها. وقد طرح القديس أوغسطين (354-430م) مسألة استعمال السيف في الدعوة الدينية، فأفتى في كتابه المشهور "مدينة الله" بأنه إذا رفض الوثنيون الاستجابة لفضائل وحقائق المسيحية عندما تعرض عليهم، وجبت محاربتهم، معتمداً في هذه الفتوى على عبارة ذكرها الحواري لوقا في إنجيله ونصها: "أجبروهم على الدخول" (مثل الوليمة)، كما تعرّض للمسألة نفسها وبتفصيل، القديس توما الاكويني (1225-1274)، فأجاز "الحرب العادلة" التي هي في معنى الجهاد في الإسلام.
* نقلا عن صحيفة "الاتحاد" الإماراتية