-
دخول

عرض كامل الموضوع : بشار الأسد بعد الإنسحاب من لبنان: اختبار النار؟


Tarek007
09/05/2005, 19:16
بشار الأسد بعد الإنسحاب من لبنان: اختبار النار؟




في المصطلح اللاهوتي والأنثروبولوجي الأوروبي، يُقصد بتعبير اختبار النار Trial by Fire وضع المتهم بأمر ما، الذي لم تثبت إدانته بعد، أو ليس من وسيلة اخري لإثبات براءته، أمام اختبار فريد: أن يحمل باليدين قضيباً من الفولاذ مُحمّي حتي الإحمرار، وأن يسير به تسع خطوات (الطبعة الأنغلو ـ ساكسونية تنطوي علي السير، معصوب العينين، تسع خطوات علي أرض فُرشت بشفرات المحاريث المحمّاة حتي الإحمرار)، وأن يخرج من الاختبار سليماً من الحروق، أو في الحدّ الأقصي مصاباً بحروق طفيفة قابلة للعلاج والشفاء السريع.
هذا هو الإختبار الذي قد يكون الرئيس السوري بشار الأسد يخضع له هذه الأيام، حسب فلنت ليفريت Levere في كتابه الجديد وراثة سورية: بشار أمام اختبار النار ، الذي صدر مؤخراً عن معهد بروكنغز الأمريكي المعروف، في 286 صفحة. وليفريت محلل وباحث أمريكي يعمل في المعهد حالياً، سبق له أن عمل في مجلس الأمن القومي الأمريكي خلال ولاية جورج بوش الأولي، ثمّ وزارة الخارجية، وكذلك في وكالة المخابرات المركزية الامريكية (يصفه مديرها السابق جورج تينيت بـ رأس حربة الوكالة في تحليلات الشرق الأوسط). ولكن لا تذهبنّ الظنون بأحد في أنّ الرجل كاره للأسد، أو أنّ كتابه من نوع الأعمال العديدة التي صدرت عن سورية في أمريكا، والتي تبدأ من التأثيم المحض ولا تنتهي إلا إلي التأثيم ذاته. الكتاب، علي العكس، من طراز عمل باتريك سيل الشهير في سيرة حافظ الأسد: متعاطف، مغرّد خارج السرب الأكاديمي والسياسي الشائع في الغرب، ومتعام تماماً ـ أو يكاد ـ عن حقائق الإستبداد والدكتاتورية خلف وقائع السياسة. وليس غريباً، والحال هذه، أنّ ليفريت يذكر كتاب سيل بالذات (ثمّ كتاب الإسرائيلي موشيه ماعوز، ولكن في القطب الآخر!) بوصفهما أبرز الاعمال عن سورية المعاصرة. ليس غريباً أيضاً أن يتناسي الرجل كتاباً شديد الأهمية، لعلّه الوحيد الذي تناول نظام بشار الأسد بالتفصيل، قبل وبعد ربيع دمشق تحديداً، وأقصد عمل البريطاني ألان جورج سورية: لا خبز ولا حرّية .
هذا لا يعني أنّ الكتاب لا يرتدي أية أهمية أو لا يضيف إلي الموضوع أيّ جديد جدير بالاعتبار. الحال أنّ ليفريت يتناول مسائل محورية، وجوهرية كما يتوجّب التشديد، ويربط من خلالها راهن نظام بشار الأسد بماضي النظام الذي ورثه، ويتقصي احتمالات المستقبل كما يمكن أن يستولدها أيّ جدل (بمعني الديالكتيك) بين الماضي والحاضر. ولعلّ عناوين فصول الكتاب تهدي إلي طبيعة المسائل التي يتناولها ليفريت: إرث حافظ، ميراث بشار ، بشار واحتمالات الإصلاح الداخلي ، بشار ومكان سورية في النظام الإقليمي ، خيارات وتوصيات لسياسة الولايات المتحدة ، فضلاً عن ملحق أوّل يتضمن مسرداً لأبرز أحداث رئاسة بشار من حزيران (يونيو) 2000 وحتي كانون الأول (ديسمبر) 2004، وملحق ثان يعيد نشر بيان الـ 99 وبيان الـ 1000 مثقف سوري، والملحق الثالث نصّ قرار مجلس الامن الدولي 1559.
والأسبوع الماضي عقد معهد بروكنغز ندوة كُرّست لمناقشة الكتاب، أدارها مارتن إنديك السفير السابق في إسرائيل ومساعد الخارجية الأسبق لشؤون الشرق الأوسط، وشارك فيها الصحافي المعروف سيمور هيرش، والصحافي في نيويورك تايمز جيمس بينيت، ومؤلف الكتاب (جميع هؤلاء التقوا بشار الأسد). ولقد أتي ليفريت علي أمور بعضها ينمّ عن تجاهل فاضح (ولا نقول البتة جهلاً) لحقائق الشأن السوري كما هي علي الأرض وفي دائرة الحياة اليومية ومصائر الوطن وعلاقة الحاكم والمحكوم وطبائع القهر والفساد والنهب، وعواقب السياسات علي البشر، كما أتي علي أمور جديرة بالتأمل وتقليب الرأي. وفي جانب التجاهل، ولولا أنّ الصحافي السوري تمام البرازي ذكّر ليفريت بأنّ في سورية جملكية ، أي نظام حكم يجمع الجمهورية بالملكية الوراثية، لبدا وكأنّ المؤلف لا يتحدّث عن سورية الراهنة دون سواها، بل عن بلد آخر لا استبداد فيه ولا وراثة حكم، ولا انتهاك لحقوق الإنسان وقمع لأبسط حرّيات المواطن، ولا مافيات نهب منظّم وتقاسم عائلي للمغانم والسلطة...!
ولعلّ من باب الإنصاف أن نقصر المناقشة، هنا، علي أفكار الرجل الجديرة بالتأمّل، ولا نقول ذات القيمة العالية. إنه يقيم مقارباته لنظام بشار الاسد استناداً إلي نقاش، خلافي أو توافقي، مع ثلاثة منظورات تحكم الرؤية الأمريكية للأوضاع السورية: الأوّل يري أنّ بشار الأسد إصلاحيّ النوايا لأنه درس في الغرب، وهو عليم بالإنترنيت، وزعيم من جيل شاب يقرّ بمشكلات سورية العديدة، ويريد تحسين الامور، ويريد علاقة أفضل مع الولايات المتحدة والغرب عموماً، ولكنه مقيّد بالحرس القديم . المنظور الثاني يعتبر بشار قوّة استمرارية للنظام، وليس التغيير ، وهو نتاج النظام الذي خلقه أبوه ، ولهذا فهو جزء من المشكلة في سورية، وليس أبداً جزءاً من الحلّ . وأمّا المنظور الثالث فهو أن بشار جديد علي الصنعة ، كما سنترجم مفردة Neophyte، وهو قليل الخبرة، رديء التأهيل، غير ذي اطلاع، الخ... علي نحو لا يجعله صالحاً لتنفيذ مسؤولياته كزعيم وطني .
أيّ المنظورات تبدو أقرب إلي تفكير ليفريت؟ ليس الأمر واضحاً تماماً وعلي نحو جازم، لكنّ الرجل يبدو أقرب إلي المنظور الأوّل، وإنْ كان لا ينفض يديه تماماً من المنظورين الثاني والثالث: في الواقع أظن أن صورة بشار ينبغي أن تكون أكثر تمايزاً وتمازجاً. وبشار في يقيني عنده حوافز إصلاحية. وهو يقرّ بأنّ سورية تعاني من مشكلات كثيرة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. ويري أن الأمور ينبغي أن تكون افضل. ولكني أجادل بأنّ حوافزه الإصلاحية هزيلة واهنة. ليست لديه رؤيا شاملة كاملة عن تحويل سورية ..
وماذا عن الحرس القديم ؟ يروي ليفريت إنه حين أجري مع بشار الأسد حواراً خاصاً بهذا الكتاب، قال في نفسه إنه (أي ليفريت) لن يتطرق مباشرة إلي حكاية الحرس القديم وسيتركها للأقسام الأخيرة. لكن الأسد باغته حين فتح هو نفسه هذه السيرة، وقبل أن تنتهي ربع الساعة الأولي من اللقاء، فقال عنها أشياء كثيرة بدا أكثرها أهمية عند ليفريت أنّ الأسد يريد الغرب أن يفهم أنّ الحرس القديم ليس اثنين أو ثلاثة أشخاص يحتلون مناصب رفيعة في أعلي النظام ، بل هم حرفياً آلاف البيروقراطيين العاديين والمتحجرين (وشدّد ليفريت أنّ الأسد استخدم هاتين المفردتين تحديداً) علي امتداد النظام، والذين تخندقوا في مواقعهم علي مرّ السنين والعقود وليست لديهم أية مصلحة في أن يسير أيّ شيء علي نحو مختلف !
أكثر من هذا، أضاف الأسد: الحرس القديم هو أيضاً هذا القطاع الخاص الذي لا يحمل من صفة القطاع الخاص إلا الإسم، والذي يواصل الوجود في علاقة جنينية مع هذه البيروقراطية المتخندقة. أنظر إلي كلّ هذا، وعندها ستري الحرس القديم، وهذه هي العقبة الحقيقية أمام التغيير في سورية .
وإذا كان الأسد لا يمزح في طرح كهذا، ولديه المصلحة كلّ المصلحة في تطويره تهّرباً من تشخيص الحقائق الأخري الدامغة حول طبيعة النظام الذي يحكم سورية منذ الحركة التصحيحية قبل 35 سنة، فإنّ من الفاضح والبائس حقاً أن يبدو ليفريت وكأنه يصادق علي هذه الأقوال. ذلك لأنه يتابع قائلاً: وهكذا فإنّ بشار مقيّد، لكنّ القيد ليس اثنين أو ثلاثة من الجماعة المسنّين في أعلي الهرم، بل الأمر يخصّ النظام ذاته أكثر . أيّ نظام؟ نظام البيروقراطيين ، العاديين ، المتحجرين حقاً؟ أم نظام تحالف الحرسَين القديم والجديد في ائتلاف الإستبداد والنهب والفساد والمافيات العائلية؟
ليست هذه ذروة البؤس في تحليلات ليفريت لأنه، وبعد اعتناق حكاية البروقراطية التي تصنع الحرس القديم، يبشّر السامعين بأنّ بشار لا يقف مكتوف اليدين، وأنّ تسجيل النقاط يسير لصالحه في ميدانيين: التكنوقراط، و... زوجته السيدة أسماء الأخرس! ففي الميدان الاوّل يتحدّث ليفريت عن لجوء الأسد إلي إحاطة نفسه بعدد من "الكنوقراط الذين يحملون شهادات عالية من الغرب، في حقول الإقتصاد وعلوم الكومبيوتر والأعمال، أو الذين لديهم خبرة في القطاع الخاص خارج سورية أو مع البنك الدولي"... هل يعقل أنّ ليفريت لم يسمع بإقالة الدكتور نبراس الفاضل، مستشار الأسد وكبير مفاوضيه الفعليين في اتفاقية الشراكة الاوروبية ـ السورية، والتكنوقراطي خرّيج البوليتكنيك الفرنسي؟ وإذا كان خبر ليفريت طازجاً علي أمثال ليفريت، ألم يسمع بقصص عشرات التكنوقراط الذي سادوا في وزارات محمد مصطفي ميرو ـ 1 وميرو ـ 2 والعطري ـ 1 والعطري ـ 2، ثم بادوا إلي غير رجعة؟ أهذه أمضي اسلحة بشار الأسد في مواجهة وحش الحرس القديم ؟ وإذا كانت هذه هي فعلاً أمضي الاسلحة، فلَمَ يتخلي عنها تباعاً؟ وغذا لم يكن هو الذي يفعل، فمَن الذي يطيح بها، فعلياً؟
الميدان الثاني أكثر عجباً، بالطبع. السيدة الأولي ليست بلا نفوذ قطعاً، غير أنّ الدور الذي ينيطه بها ليفريت لا يثير سخرية أيّ سورية وسوريّ فحسب، بل يثير سؤالاً جوهرياً حول مدّي ما تنطوي عليه تحليلات رأس حربة المخابرات المركزية هذا من جدّية وجدوي: يقول ليفريت: هذه المرأة التي اختار بشار الزواج منها، واختارها علي الرغم من اعتراضات والدته، الأمر الذي ليس بلا مغزي في خلفيته الثقافية، تلك المرأة هي إبنة جرّاح قلب سوري عالمي مغترب ذاع صيته في المملكة المتحدة. ولدت، وترّبت، وأتمت كامل دراستها في بريطانيا، وتحمل إجازة جامعية في علوم الكومبيوتر من جامعة لندن، وخضعت لبرنامج تدريبي في الإستثمار المصرفي عند JP Morgan، وعملت لدي Deutsche Bank، وقُبلت للماجستير في Harvard Busine School.. .
وماذا بعد؟ هذا التفصيل العائلي يهمّ ليفريت في جانب كبير، في رأيه هو طبعاً، يخصّ قدرة بشار الأسد علي إصدار حكم سليم ، لأن المرأة التي اختار أن تكون إلي جانبه علي أساس يومي، هي المرأة التي سوف تركّز علي المعايير الدولية المطلقة للإقتصاد المعولَم في القرن الواحد والعشرين. وأجد هذا علامة صريحة تدلّ علي شخصيته !
المدهش ان ليفريت يميل، بعد هذا كلّه، وربما بسبب هذا كلّه، إلي رهن مستقبل بشار السياسي كـ زعيم وطني بمبدأ واحد تقريباً: أنّ البيولوجيا لصالحه، وليس لصالح الحرس القديم! وصدٌقوا أو لا تصدّقوا أنّ الخبير السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي ووكالة المخابرات المركزية يبلغ الخلاصة التالية: إنه مقيّد بالحرس القديم. وأعتقد إجمالاً أنه لا يريد مواجهة مع الحرس القديم. إنه في الجوهر يفضّل العمل من حولهم. وأعتقد ايضاً أنه يفترض أنّ البيولوجيا تقف إلي جانبه. سوف يبلغ الأربعين هذا العام. وأظنّ انه إذا اتخذت السياسة السورية مسارها الطبيعي، خصوصاً وأنّ رئاسته غير مقيّدة بعدد محدد من الولايات، فإنّني لا أعتقد أنه يجب أن يقلق من خسران انتخابات في أيّ يوم قريب !
فضيلة ليفريت، في هذه المسألة تحديداً، انه لا يجعجع كما يفعل الرئيس الأمريكي أو تفعل وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، حول تغيير النظام في سورية كرمي لعيون الشعب السوري المعذّب، ومن أجل المزيد من إشاعة الديمقراطية والإصلاحات في هذا الشرق الأوسط الكبير. ليفريت لا يزعم هذا علي الأقل، وهو ما يجعله يحثّ الإدارة علي وقف السياسة الراهنة المتمثلة في الضغط علي نظام بشار الأسد، واستبدالها بأخري كانت في الأزمنة السابقة تُسمّي الدبلوماسية، كما يقول، وصار اسمها اليوم ببساطة: لعبة العصا والجزرة!
لكنّ السبب، الذي حدا بالمؤلف إلي التفكير في مبدأ اختبار النار عنواناً فرعياً لكتابه، ما يزال قائماً في الواقع، وليس في وسع ليفريت أن يتعامي عنه. لقد كان الإنسحاب السوري من لبنان آخر ـ والأهمّ والأثمن قيمة ـ في كلّ ما استجمع حافظ الأسد من أوراق لا تمنح النظام الحركة التصحيحية موقعاً إقليمياً فاعلاً ومحورياً فحسب، بل تُبقي النظام ذاته علي قيد الحياة. اليوم، وأياً كان المسؤول الأوّل، جري التفريط في هذه الورقة، وتوجّب أن يخضع بشار الأسد لاختبار النار.
فماذا لو اتضح أنّ القروح عميقة، عضوية، عميقة الغور، ولا شفاء منها؟