-
دخول

عرض كامل الموضوع : ليس للبكاء.. ليس للضحك فرج بيرقدار


بورخيس
03/10/2006, 00:45
(في عيد الأم
ذهبت أمهاتكم رهائن عنكم.
في عيد العاطلين عن العمل
فتح الله سُرادِقاً ضخماً للعزاء
وهتفت الجموع باسم الطاغية المحبوب.
في عيد الجلاء
بكى آباؤنا حزناً على فرنسا.
وفي كل عيد
من أعياد القهر واليأس والجوع
تسقط الوردة التي تبحث عنها يا صديقي
وهذه التي سنلقي بها إلى النهر
عندما لا نجد قبرك
ليست وردة الحرية).
مقطع من قصيدة كُتِبت عام 1981


عندما كنت صغيراً، لم أكن أفهم حزن الكبار، وهم يتحدثون عن فرنسا، التي قرأتُ في كتب المدرسة، أنها احتلت بلادي وعاثت فيها نهباً وقتلاً وتدميراً!
كأني لم أكبر سوى لأكتشف عار الواقع وحقائقه الدامية، ورخص المراوغة والتضليل في مناهج التاريخ المدرسية، ولأعرف أخيراً كيف يتلطَّى وراء الواجهة السيئة ما هو أسوأ.
بالطبع كان ويبقى الاحتلال احتلالاً بكل ما ينطوي عليه من ذل وجور وقسر ومضاضات، غير أن مفهوم الاحتلال عندي لم يعد مقتصراً على الآخر أو الأجنبي أو الخارج.
ثمة احتلالات داخلية "وطنية" أشد بؤساً وجوراً ونهباً وبطشاً وتدميراً، وفي المحصلة أشد كسراً للإرادة الوطنية.
هل هو احتلال بعثي كما يقال؟
لا أظن ذلك أبداً. فمنذ عقود ترهَّل البعث وأصبح خارج تاريخه.
لقد احتلت الأجهزة الأمنية كل شيء، فقوَّضت فيما قوضت الكثير من مقومات الدولة والمجتمع والحياة لصالح السلطة التي استنزفت السياسة والاقتصاد والثقافة والقيم، الأمر الذي يعني أنها استنزفت مقومات إعادة إنتاج سلطتها.
لم يعد في وسع الديكتاتورية أن تملأ حتى نفسها، لأنها ببساطة فارغة من غيرها، فارغة من نعمة النقيض، وأتمنى أن لا تصل إلى الحد الذي تجد نفسها فيه عاجزة حتى عن الانسحاب أو الموت بشرف.

أحل.. كأننا لم نكبر سوى لنطعِم السجن أغلى سنوات شبابنا.
لا أتحدث عن عشرات أو مئات أو آلاف السجناء، بل عن عشرات الآلاف، ناهيكم عن آلاف القتلى والمفقودين والمنفيين أو الهاربين من سنوات الجمر والرماد التي بدأت أواخر السبعينيات، ولا تزال رياحها تهب بين حين وآخر.
ما أكثر ما كان السجناء السياسيون يتمنون لو انهم أسرى حرب، ذلك أن لأسير الحرب حقوقاً تحميها دول واتفاقيات ومواثيق وصليب أحمر وما لا أدري.
أما نحن.. فما أضيق رحمة الله أثناء التحقيق والتعذيب، وما أضيقها في الزنازين، وما أضيقها في هذه الجغرافيا التي يعرِّيها الأتراك من الشمال، وترتديها إسرائيل من الجنوب، وتتناوبها من الغرب والشرق جنسيات ولعنات متعددة، ومن الداخل يحتلها بعض أهلها من أبناء آدم، وربما من أبناء الدم.
لم نكن سجناء سوريين فقط، وإنما كان معنا إخوة لبنانيون وأردنيون وعراقيون وفلسطينيون وتونسيون!
أيُّ بيان قومي فاضح هذا؟!

في عام 1993 قدمت إذاعة دمشق مسلسلاً يومياً عن نضالات إبراهيم هنانو قائد ثورة جبل الزاوية شمالي سوريا.
كان المسلسل يعرض وقائع محاكمة هنانو أيام الاحتلال الفرنسي، وكانت محكمة أمن الدولة العليا بدمشق تعقد جلساتها الماراثونية لمحاكمتنا.
انتهت محاكمة هنانو إلى تبرئته، وانتهت محاكمتنا إلى خمسة عشر عاماً سجناً مع الأعمال الشاقة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية!
لا أدعو إلى جنازات ولا إلى أعراس.
فقط أريد القول إن فرنسا احتلتنا، ولكن فرنسا دولة. أما النظام السوري فإنه سلطة تتحكم فيها أجهزة أمنية لا دين لها ولا أعراف ولا قوانين مرعية.
الدولة تعني قوة القانون بسلبياته وإيجابياته، والأجهزة تعني قانون القوة الذي لا توصيف له من خارجه. لهذا كان على قوة القانون أن تخجل من إدانة هنانو، وكان على قانون القوة أن يتباهى وهو يستعرض سطوته ليس لتأديبنا فقط، وإنما أيضاً لتأديب أي صوت سوري حر، يخطر في باله أن يقول: لا.

بعد صدور أحكامنا بأيام زارني أهلي. يومها خجلت أن أنظر في عيني أبي.
هل كان علي أن أقول له: سامحني على مماحكاتي وأوهامي وجهلي وحماسي يا أبي، فقد اتضح لي الآن أنك كنت على صواب، وأن الاحتلال الفرنسي أقل قسوة بكثير، ومن حق جيلكم أن يتذكر ويحزن؟!
هل محكمة أمن الدولة العليا هي التي أقنعتني بذلك؟
لا وقداسة آلامك وانتظاراتك الطويلة يا أبي.
لا وحنان تراب قبرك الذي تربكني وتوهنني زيارته.
قناعتي بدأت منذ زمن بعيد، ولم أكن أعرف كيف أسوغها أو أدافع عنها، بل لم أكن أجرؤ على الاعتراف بها خارج الشعر.
أما لماذا أجرؤ الآن، فإنه سؤال لا مجال هنا للإجابة عنه. حديثي هنا يتعلق بالاحتلال وليس بفضيلة الجنون.

* هذه المقالة مساهمة في كتيب "شمعة على الانكفاء البعثي عن لبنان" الصادر عن " دفاتر هيا بنا" بيروت 2006.

منقولة

chefadi
03/10/2006, 05:21
تحية الك و لفرج بيرقدار :D