Fady007
29/09/2006, 20:59
جليد أسود
كايت كينيدي
عندما رحت أتفقّد الفخاخ وجدت مصابيح الرواق في منزل السيدة ما زالت مضاءة على الرغم من طلوع الصبح. "إنه تبذير فظيع للطاقة"، قال أبي عندما أخبرته. أنفاسه اندفعت في الهواء كما لو أنه ينفث سيكاراً. لحم الأرانب راح يصدر بخاراً حين شققنا فروتها، وقد انفصلت هذه الأخيرة كقفّازات.
"إنزع فروة الأرنب"، هذا ما كانت تقوله أمي عندما كانت تنزع عنّي كنزتي وقميصي الداخلي قبل الاستحمام.
السيد بايلي يدفع لي ثلاثة دولارات مقابل كل أرنب لإطعام كلابه. أحملها له في صندوق خشبي عليه رسم لتفاحة. عند اللحّام ثمن الأرنب دولاران ونصف فقط لكن السيد بايلي يقول إنه يحب أرانبي أكثر. جمعت ثمانية وخمسين دولاراً. أريد شراء دراجة. يرى أبي أن من الجيد توفير المال. السياح الذين يتحلقون حول شبّاك سمسار العقارات، متلاصقين ومتزاحمين، هم برأيه معتوهون. عندما اشترت السيدة ذلك البيت، هناك في أعلى الطريق، توجه أبي الى المكان حين لم يعد ثمة أحد وبعد أن ثبتوا اللافتة المكتوب عليها عبارة "بِيع". انتزع واحدة من اللافتات الخشبية المستطيلة عند طرف البيت ناظراً تحتها الى الدعائم المهترئة ومصدراً صوتاً كما لو كان يحبس عطسة. "هذه السيدة هي حمقاء حقيرة"، قال. "الدعائم في حالة فظيعة بائسة".
وقف هناك يلفّ سيكارة ويتأمل في البيت. "تبديد مال حسن على ما هو سيء"، قال، رافساً تلك اللافتة. أنا رفستها أيضاً. بعد أن انتقلت السيدة للعيش في البيت، لم أعد أنصب فخاخاً هناك في أعلى التل. انتحيت غابة الولاية متعقّباً أثر المسالك حول البحيرة، المسالك التي تصنعها الأرانب. صغّرت نفسي كأرنب ورحت أسلكها غارساً فيها أظافري المسننة. إذّاك رأيت كل شيء بطريقة مختلفة. رأيت الأمكنة حيث تجلس وتستريح، والمواضع التي تبلغها بفضل أنوفها لتأكل خيوطاً ناعمة صغيرة من لحاء الشجر في أسفل صفصاف النهر.
ينبغي عليك نصب شرك يقتل الأرنب على الفور. الإطباق على القدم ليس جيداً. سيئنّ الأرنب ويتلوّى طوال الليل، ثم سيكون عليك قتله في الصباح وعيناه محدّقتان بك متسائلتين عن السبب الذي يدفعك للقيام بما تقوم به. السيد بايلي قال إنه لا يصدّق أن بوسعي اصطيادها قريباً من البلدة الى هذا الحد. أخبرته أن الأمر لا يتطلّب سوى مراقبة الأشياء بشكل جيد واختيار مكان مناسب لنصب الشرك، ليس أكثر. هزّ رأسه قليلاً بشكل لم تظهر معه سوى حركة خفيفة لذقنه الى الأعلى والأسفل. "اصطدتها من هناك يا بيلي"، قال. بعد أن دفع لي نظرنا الى الكلاب وشربنا فنجاناً من الشاي. كلابه تعرفني وتدرك سبب مجيئي. عندما تشاهدني عيونها تتغيّر. في الآونة الأخيرة، في الصباح، كل شيء يتجلّد. أشجار الصمغ تغطّي أعلى التل وكل مرة أنظر إليها أفكّر بذاك اليوم في المدرسة عندما كنت على حقّ وكان الأستاذ فراي على خطأ. عرض الأستاذ فراي علينا صورة وأخبرنا أن الأشجار تفقد أوراقها في الخريف، وقد همّ التلامذة الآخرون بكتابة ذلك، لكنني أحسست بالكلمات تخرج منّي من تلقائها، وقلت لا هي لا تفقد أوراقها بل تفقد لحاءها. الأستاذ فراي قال كم أنني كنت مثالاً للنطق بالأجوبة الخطأ كلما فتحت فمي وتفوّهت خلال الصف. الآن أنظر الى الأشجار تقف عارية في الضباب وأفكّر كيف أنني ثابرت على هزّ رأسي عندما طلب منّي التراجع عن قولي، وأفكر بالتلامذة الآخرين الذين جلسوا مبتسمين محدّقين بأيديهم، ومنتظرين انتهاء الدوام كما تنتظر الكلاب الأرانب.
عندما تشمّ رائحة أوراق الشجر فهي كمضادات السعال، واللحاء يتموّه بكل الألوان عندما يكون رطباً. في أحد الأيام كنت أنظر الى أوراق الشجر وقد صارت عيناي مضحكتين وطرت عالياً محدّقاً في الأسفل الى رؤوس الأشجار المتعانق بعضها ببعض وقد كانت كالزخرفة الخضراء المتشابكة التي تغطّي المقاعد ذات الذراعين في منزل عمتي لورنا. لم أخبر أحداً أبداً عن ذلك، ولا حتى أبي. الأشجار تتكلم بصوت مرتفع عندما يكون الهواء عاصفاً وتتكلم بصوت رقيق عندما يحلّ السكون. لا أعرف عمّاذا تتكلم ـ عن المطر، على الأرجح. عندما تصاب الأشجار بعطايا الصمغ الجديد، تصبح مملوءة بالنُّسغ، مرتجفة في الهواء. ربما تكون إذّاك مثارة، أو خائفة.
لكن الآن، إذ الوقت شتاء، تبدو الأشجار قاتمة ومنكمشة فقط، كما لو أنها تتشبّث في المكان عن طريق قفل أدمغتها، مثل جدّي عندما أصيب بالسكتة الدماغية وقال أبي يومها إن جسمه آخذ بالإنقفال رويداً رويداً. على المسالك ثمة بلورات جليدية في الطين، وعندما تنظر من قرب شديد بإمكانك أن ترى البلورات طويلة، متواصلة في خطوط، وكلّما كان الطين طريّاً كانت تلك البلورات متماسكة ومتراصّة. إنها تتكوّن في الليل، في إطباقه الصقيع. بإمكانك الدوس برجلك على حافة البركة الصغيرة والضغط برفق شديد، حينها ستتمدّد الكسور على السطح المتجمّد، وتتواصل كجدول صغير.
أحياناً يكون الجليد على فرو الأرانب. أفركه بيدي لكي يتناثر. رائحة فرو الأرنب جميلة، كرائحة الأُشنة أو الطحالب الناشفة. أمي تركت لنا قفازين جلديين مبطّنين بفرو الأرنب وعندما لبستهما مرة أخرجت يدي الدافئتين وشممت رائحتها. "على ماذا تزعق؟"، قال أبي. خبّأت القفازين تحت فراشي. عندما ألمسهما يبدوان كورقتي شجر خضراوتين، ناعمتين، ملتويتين، وجافتين، لا تعرفان أن الخريف آت.
في الصبيحة التي رأيت بها أضواء مصابيح السيدة أعطاني أبي قبّعة جديدة مضادة لتقرّح الصقيع. صنعها لي من فرو الأرنب. فرك أذني بكنزته الصوفية بقوة حتى لم يعد بوسع فمي أن يبقى مطبقاً، ثم وضع القبعة على رأسي شاداً حاشيتيها الى الأسفل ليربط إحداهما بالأخرى. "أرأيت، ها أنت مجدداً مع الأرنب"، قال، مقحماً يديه تحت ذراعيه قبل أن يتوجّه لإيقاد النار بحطب المدفأة. في أحد الأيام قام صبي يعمل في مخزن الحبوب بمدرستي بإخبار الأولاد الآخرين بأننا متخلّفون لدرجة أنه لا يوجد في بيتنا مياه ساخنة أو حتى مياه جارية باردة. قال، "إنه لأمر سائب هناك، عند ذاك الذي تعرفونه". سألت أبي عن معنى "سائب" فقام بلفّ سيكارة وقال لماذا. بعد ذلك، في اليوم ذاته، طلب أبي من ذاك الصبي علفاً للدجاج في خدمة سريعة الى منزلنا، ثم أوقد النار قوية في حطب المدفأة التي تسخّن بدورها خزّان المياه على السطح. المياه في الخزان أخذت تغلي وتصدر أصواتاً كآلة تحضير القهوة الحديثة في "الميلك بار". عندما جاء الصبي بحبوب العلف طلب أبي منه أن يفرغها في صندوق خزنها، ثم سأله إن كان يودّ غسل يديه من آثار الغبار. دخل الصبي الى المطبخ ليغسل يديه. وقفت أنظر الى الدجاجات وجعلت نفسي صغيراً مثلها وأحسست بالقشّ تحت أظافري وأنا أخرمش التراب، وأحسست بحبيبات القمح ناعمة بعد أن طحنتها بمنقاري، بعد ذلك علت صرخة وخرج الصبي راكضاً مادّاً يديه أمامه. كانت يداه متوردتين محمرتين كالبلاستيك. وإذ ركض الصبي مغادراً بيتنا صاح أبي قائلاً له، "لا تنسَ إخبار أصدقائك".
وضعت الأرانب في كيس من الخيش وسمعت الموسيقى تصدر من البيت المضاء. كانت نغمات من كمان. رأيت السيدة التي اشترت البيت تظهر أمام المصباح وأنا أتقدّم عبر التل. كانت ترتدي ثوباً جديداً للعمل وقد كان بالإمكان رؤية آثار ثنيات الجدّة عليه. شعرها كان بلون الثعلب. عندما رأتني أشرق وجهها وبدت عليها علامات الإثارة على الرغم من أنها لم تكن تعرفني ـ كالسيدة الطبيبة التي أجرت عليّ كل تلك الاختبارات الحمقاء في المدرسة، عن طريق النطق بكلمات حمقاء وتوقع إضافتي عليها من غير أن يكون لي وقت كاف للتفكير. قالت، "حسناً، مرحباً يا أنت، هل أكَلَ القطة لسانك؟". كانت تضع أحمر شفاه. إعتقدت أنها ربما كانت في طريقها الى الكنيسة.
قلت إنني لا أملك قطة وقد ارتفع حاجباها.
"أنت مبكر جداً في الاستيقاظ في هذه الصبيحة الشتوية. ماذا هنالك في كيسك؟"، قالت، وكأن ما كان يجري بيننا أخذ يتحوّل الى أن يكون دعابة أمام أحدهم. أظهرت لها أعلى رأس الأرنب من الكيس وقد ظهرت علامات الانفراج على ثغرها وقالت، "آه يا عزيزي، يا لهذه المخلوقات الصغيرة المسكينة. ما الذي دفعك الى قتلها؟"، قلت إنها للسيد بايلي. قلت إنها تموت بسرعة إذ أنني أنصب الفخ بإحكام ليضرب حول رقبتها. عانقت نفسها بذراعيها وضربت على رأسها وقالت، "ترأف بي يا إلهي" وهي تنظر الى قبّعتي التي من فرو الأرنب. وقد درت برأسي ببطء لتراها بطريقة أفضل. سألتني فجأة إن كنت أعيش في منزل بأسفل التل فقلت نعم. ثم قالت يا له من موقع رائع ويا للعار من ذلك الواقع المتعلّق بصعوبة الحصول على الطاقة وأن ذلك الأمر الأخير هو الذي حال بينها وبين عدم سعيها لشراء شيء هناك، وأن بيتها الصغير الذي اختارته هو منجم سعادة وذهب. قالت إن أصدقاءها من المدينة جميعاً اعتقدوا أنها حمقاء، لكن من سيضحك في النهاية ستكون هي عندما ترتفع قيمة العقارات، وأنها قامت بتنفيذ جميع التمديدات. كنت أنتظر انتهاء حديثها لكي أذهب. بوسعي تحسّس الأرانب تتيبّس داخل الكيس ـ بوسعي شمّ رائحتها.
"ما اسمك؟" سألتني أخيراً، وقلت بيلي.
"وهل تذهب الى المدرسة يا بيلي؟".
نظرت إليها وقلت إنه ينبغي ذلك.
عادت السعادة مرة أخرى الى عينيها المتغضنتين.
"وهل هي مدرسة خاصة للأولاد المتميّزين؟".
لم أستطع الشرح لها بالتحديد. ربما هي لم تفهم عن المدرسة. قلت، ليس تماماً، ثم انفلت لساني فجأة، "لديك شعر كالثعلب". ضحكت كشخص في الأفلام. "يا للسماء"، قالت. "أنت شخصية، أليس كذلك؟". رجل في رداء أحمر جاء عبر الشرفة وقالت السيدة، "أنظر يا حبّي، لون من البلدة".
"أحببت القبعة"، قال لي الرجل. انتظرت منهما تعريفي على اسميهما، لكن ما قاله الرجل كان مجرّد تذمّر من الصقيع القارس وحمداً للإله كونهما أتمّا تركيب تمديدات التدفئة. قالت السيدة نعم، المكان بأسره كان يتعدّل، ثم نظرت على طول الطريق المنحدر وقالت، "المشكلة الوحيدة هي عدم وجود مشهد واحد للبحيرة". ثم قالت، "بيلي، أري روجر أرانبك يا حبيبي"، فسحبت واحداً من الكيس وقال روجر "يا إلهي العظيم".
يتبع...
كايت كينيدي
عندما رحت أتفقّد الفخاخ وجدت مصابيح الرواق في منزل السيدة ما زالت مضاءة على الرغم من طلوع الصبح. "إنه تبذير فظيع للطاقة"، قال أبي عندما أخبرته. أنفاسه اندفعت في الهواء كما لو أنه ينفث سيكاراً. لحم الأرانب راح يصدر بخاراً حين شققنا فروتها، وقد انفصلت هذه الأخيرة كقفّازات.
"إنزع فروة الأرنب"، هذا ما كانت تقوله أمي عندما كانت تنزع عنّي كنزتي وقميصي الداخلي قبل الاستحمام.
السيد بايلي يدفع لي ثلاثة دولارات مقابل كل أرنب لإطعام كلابه. أحملها له في صندوق خشبي عليه رسم لتفاحة. عند اللحّام ثمن الأرنب دولاران ونصف فقط لكن السيد بايلي يقول إنه يحب أرانبي أكثر. جمعت ثمانية وخمسين دولاراً. أريد شراء دراجة. يرى أبي أن من الجيد توفير المال. السياح الذين يتحلقون حول شبّاك سمسار العقارات، متلاصقين ومتزاحمين، هم برأيه معتوهون. عندما اشترت السيدة ذلك البيت، هناك في أعلى الطريق، توجه أبي الى المكان حين لم يعد ثمة أحد وبعد أن ثبتوا اللافتة المكتوب عليها عبارة "بِيع". انتزع واحدة من اللافتات الخشبية المستطيلة عند طرف البيت ناظراً تحتها الى الدعائم المهترئة ومصدراً صوتاً كما لو كان يحبس عطسة. "هذه السيدة هي حمقاء حقيرة"، قال. "الدعائم في حالة فظيعة بائسة".
وقف هناك يلفّ سيكارة ويتأمل في البيت. "تبديد مال حسن على ما هو سيء"، قال، رافساً تلك اللافتة. أنا رفستها أيضاً. بعد أن انتقلت السيدة للعيش في البيت، لم أعد أنصب فخاخاً هناك في أعلى التل. انتحيت غابة الولاية متعقّباً أثر المسالك حول البحيرة، المسالك التي تصنعها الأرانب. صغّرت نفسي كأرنب ورحت أسلكها غارساً فيها أظافري المسننة. إذّاك رأيت كل شيء بطريقة مختلفة. رأيت الأمكنة حيث تجلس وتستريح، والمواضع التي تبلغها بفضل أنوفها لتأكل خيوطاً ناعمة صغيرة من لحاء الشجر في أسفل صفصاف النهر.
ينبغي عليك نصب شرك يقتل الأرنب على الفور. الإطباق على القدم ليس جيداً. سيئنّ الأرنب ويتلوّى طوال الليل، ثم سيكون عليك قتله في الصباح وعيناه محدّقتان بك متسائلتين عن السبب الذي يدفعك للقيام بما تقوم به. السيد بايلي قال إنه لا يصدّق أن بوسعي اصطيادها قريباً من البلدة الى هذا الحد. أخبرته أن الأمر لا يتطلّب سوى مراقبة الأشياء بشكل جيد واختيار مكان مناسب لنصب الشرك، ليس أكثر. هزّ رأسه قليلاً بشكل لم تظهر معه سوى حركة خفيفة لذقنه الى الأعلى والأسفل. "اصطدتها من هناك يا بيلي"، قال. بعد أن دفع لي نظرنا الى الكلاب وشربنا فنجاناً من الشاي. كلابه تعرفني وتدرك سبب مجيئي. عندما تشاهدني عيونها تتغيّر. في الآونة الأخيرة، في الصباح، كل شيء يتجلّد. أشجار الصمغ تغطّي أعلى التل وكل مرة أنظر إليها أفكّر بذاك اليوم في المدرسة عندما كنت على حقّ وكان الأستاذ فراي على خطأ. عرض الأستاذ فراي علينا صورة وأخبرنا أن الأشجار تفقد أوراقها في الخريف، وقد همّ التلامذة الآخرون بكتابة ذلك، لكنني أحسست بالكلمات تخرج منّي من تلقائها، وقلت لا هي لا تفقد أوراقها بل تفقد لحاءها. الأستاذ فراي قال كم أنني كنت مثالاً للنطق بالأجوبة الخطأ كلما فتحت فمي وتفوّهت خلال الصف. الآن أنظر الى الأشجار تقف عارية في الضباب وأفكّر كيف أنني ثابرت على هزّ رأسي عندما طلب منّي التراجع عن قولي، وأفكر بالتلامذة الآخرين الذين جلسوا مبتسمين محدّقين بأيديهم، ومنتظرين انتهاء الدوام كما تنتظر الكلاب الأرانب.
عندما تشمّ رائحة أوراق الشجر فهي كمضادات السعال، واللحاء يتموّه بكل الألوان عندما يكون رطباً. في أحد الأيام كنت أنظر الى أوراق الشجر وقد صارت عيناي مضحكتين وطرت عالياً محدّقاً في الأسفل الى رؤوس الأشجار المتعانق بعضها ببعض وقد كانت كالزخرفة الخضراء المتشابكة التي تغطّي المقاعد ذات الذراعين في منزل عمتي لورنا. لم أخبر أحداً أبداً عن ذلك، ولا حتى أبي. الأشجار تتكلم بصوت مرتفع عندما يكون الهواء عاصفاً وتتكلم بصوت رقيق عندما يحلّ السكون. لا أعرف عمّاذا تتكلم ـ عن المطر، على الأرجح. عندما تصاب الأشجار بعطايا الصمغ الجديد، تصبح مملوءة بالنُّسغ، مرتجفة في الهواء. ربما تكون إذّاك مثارة، أو خائفة.
لكن الآن، إذ الوقت شتاء، تبدو الأشجار قاتمة ومنكمشة فقط، كما لو أنها تتشبّث في المكان عن طريق قفل أدمغتها، مثل جدّي عندما أصيب بالسكتة الدماغية وقال أبي يومها إن جسمه آخذ بالإنقفال رويداً رويداً. على المسالك ثمة بلورات جليدية في الطين، وعندما تنظر من قرب شديد بإمكانك أن ترى البلورات طويلة، متواصلة في خطوط، وكلّما كان الطين طريّاً كانت تلك البلورات متماسكة ومتراصّة. إنها تتكوّن في الليل، في إطباقه الصقيع. بإمكانك الدوس برجلك على حافة البركة الصغيرة والضغط برفق شديد، حينها ستتمدّد الكسور على السطح المتجمّد، وتتواصل كجدول صغير.
أحياناً يكون الجليد على فرو الأرانب. أفركه بيدي لكي يتناثر. رائحة فرو الأرنب جميلة، كرائحة الأُشنة أو الطحالب الناشفة. أمي تركت لنا قفازين جلديين مبطّنين بفرو الأرنب وعندما لبستهما مرة أخرجت يدي الدافئتين وشممت رائحتها. "على ماذا تزعق؟"، قال أبي. خبّأت القفازين تحت فراشي. عندما ألمسهما يبدوان كورقتي شجر خضراوتين، ناعمتين، ملتويتين، وجافتين، لا تعرفان أن الخريف آت.
في الصبيحة التي رأيت بها أضواء مصابيح السيدة أعطاني أبي قبّعة جديدة مضادة لتقرّح الصقيع. صنعها لي من فرو الأرنب. فرك أذني بكنزته الصوفية بقوة حتى لم يعد بوسع فمي أن يبقى مطبقاً، ثم وضع القبعة على رأسي شاداً حاشيتيها الى الأسفل ليربط إحداهما بالأخرى. "أرأيت، ها أنت مجدداً مع الأرنب"، قال، مقحماً يديه تحت ذراعيه قبل أن يتوجّه لإيقاد النار بحطب المدفأة. في أحد الأيام قام صبي يعمل في مخزن الحبوب بمدرستي بإخبار الأولاد الآخرين بأننا متخلّفون لدرجة أنه لا يوجد في بيتنا مياه ساخنة أو حتى مياه جارية باردة. قال، "إنه لأمر سائب هناك، عند ذاك الذي تعرفونه". سألت أبي عن معنى "سائب" فقام بلفّ سيكارة وقال لماذا. بعد ذلك، في اليوم ذاته، طلب أبي من ذاك الصبي علفاً للدجاج في خدمة سريعة الى منزلنا، ثم أوقد النار قوية في حطب المدفأة التي تسخّن بدورها خزّان المياه على السطح. المياه في الخزان أخذت تغلي وتصدر أصواتاً كآلة تحضير القهوة الحديثة في "الميلك بار". عندما جاء الصبي بحبوب العلف طلب أبي منه أن يفرغها في صندوق خزنها، ثم سأله إن كان يودّ غسل يديه من آثار الغبار. دخل الصبي الى المطبخ ليغسل يديه. وقفت أنظر الى الدجاجات وجعلت نفسي صغيراً مثلها وأحسست بالقشّ تحت أظافري وأنا أخرمش التراب، وأحسست بحبيبات القمح ناعمة بعد أن طحنتها بمنقاري، بعد ذلك علت صرخة وخرج الصبي راكضاً مادّاً يديه أمامه. كانت يداه متوردتين محمرتين كالبلاستيك. وإذ ركض الصبي مغادراً بيتنا صاح أبي قائلاً له، "لا تنسَ إخبار أصدقائك".
وضعت الأرانب في كيس من الخيش وسمعت الموسيقى تصدر من البيت المضاء. كانت نغمات من كمان. رأيت السيدة التي اشترت البيت تظهر أمام المصباح وأنا أتقدّم عبر التل. كانت ترتدي ثوباً جديداً للعمل وقد كان بالإمكان رؤية آثار ثنيات الجدّة عليه. شعرها كان بلون الثعلب. عندما رأتني أشرق وجهها وبدت عليها علامات الإثارة على الرغم من أنها لم تكن تعرفني ـ كالسيدة الطبيبة التي أجرت عليّ كل تلك الاختبارات الحمقاء في المدرسة، عن طريق النطق بكلمات حمقاء وتوقع إضافتي عليها من غير أن يكون لي وقت كاف للتفكير. قالت، "حسناً، مرحباً يا أنت، هل أكَلَ القطة لسانك؟". كانت تضع أحمر شفاه. إعتقدت أنها ربما كانت في طريقها الى الكنيسة.
قلت إنني لا أملك قطة وقد ارتفع حاجباها.
"أنت مبكر جداً في الاستيقاظ في هذه الصبيحة الشتوية. ماذا هنالك في كيسك؟"، قالت، وكأن ما كان يجري بيننا أخذ يتحوّل الى أن يكون دعابة أمام أحدهم. أظهرت لها أعلى رأس الأرنب من الكيس وقد ظهرت علامات الانفراج على ثغرها وقالت، "آه يا عزيزي، يا لهذه المخلوقات الصغيرة المسكينة. ما الذي دفعك الى قتلها؟"، قلت إنها للسيد بايلي. قلت إنها تموت بسرعة إذ أنني أنصب الفخ بإحكام ليضرب حول رقبتها. عانقت نفسها بذراعيها وضربت على رأسها وقالت، "ترأف بي يا إلهي" وهي تنظر الى قبّعتي التي من فرو الأرنب. وقد درت برأسي ببطء لتراها بطريقة أفضل. سألتني فجأة إن كنت أعيش في منزل بأسفل التل فقلت نعم. ثم قالت يا له من موقع رائع ويا للعار من ذلك الواقع المتعلّق بصعوبة الحصول على الطاقة وأن ذلك الأمر الأخير هو الذي حال بينها وبين عدم سعيها لشراء شيء هناك، وأن بيتها الصغير الذي اختارته هو منجم سعادة وذهب. قالت إن أصدقاءها من المدينة جميعاً اعتقدوا أنها حمقاء، لكن من سيضحك في النهاية ستكون هي عندما ترتفع قيمة العقارات، وأنها قامت بتنفيذ جميع التمديدات. كنت أنتظر انتهاء حديثها لكي أذهب. بوسعي تحسّس الأرانب تتيبّس داخل الكيس ـ بوسعي شمّ رائحتها.
"ما اسمك؟" سألتني أخيراً، وقلت بيلي.
"وهل تذهب الى المدرسة يا بيلي؟".
نظرت إليها وقلت إنه ينبغي ذلك.
عادت السعادة مرة أخرى الى عينيها المتغضنتين.
"وهل هي مدرسة خاصة للأولاد المتميّزين؟".
لم أستطع الشرح لها بالتحديد. ربما هي لم تفهم عن المدرسة. قلت، ليس تماماً، ثم انفلت لساني فجأة، "لديك شعر كالثعلب". ضحكت كشخص في الأفلام. "يا للسماء"، قالت. "أنت شخصية، أليس كذلك؟". رجل في رداء أحمر جاء عبر الشرفة وقالت السيدة، "أنظر يا حبّي، لون من البلدة".
"أحببت القبعة"، قال لي الرجل. انتظرت منهما تعريفي على اسميهما، لكن ما قاله الرجل كان مجرّد تذمّر من الصقيع القارس وحمداً للإله كونهما أتمّا تركيب تمديدات التدفئة. قالت السيدة نعم، المكان بأسره كان يتعدّل، ثم نظرت على طول الطريق المنحدر وقالت، "المشكلة الوحيدة هي عدم وجود مشهد واحد للبحيرة". ثم قالت، "بيلي، أري روجر أرانبك يا حبيبي"، فسحبت واحداً من الكيس وقال روجر "يا إلهي العظيم".
يتبع...