-
عرض كامل الموضوع : البوذية محاولة للفهم ..ترجمة نبيل فياض
البوذيّة: محاولة للفهم (الجزء الأوّل)
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
ترجمة نبيل فياض 2004
مقدمة المترجم
مما لا شكّ فيه أن القطيعة المعرفيّة في الدول الناطقة بالعربيّة صارت جزءاً من الطقس اليومي الذي يعيشه مواطنوها. وإضافة الى الوضع المادّي المزري الذي يعيشه الناس هنا، والمعرفة أضحت اليوم عملاً ليس بعيداً عن الكماليّات، فتقاليدنا " الأغرب " تشكّل حاجزاً معرفيّاً، ليس بيننا وبين الآخر البعيد في اليابان أو تايلند مثلاً، بل بين أبناء الوطن الواحد، حين تختلف توجهاتهم واعتقاداتهم. ولو سألنا مسلماً دمشقيّاً مثلاً عن مدى تعمّقه معرفيّاً بتراث جاره المسيحي أو اليهودي، لما خرجت إجابته عن مقولات شعبيّة، مغلوطة الأسس، مستقاة من تراث شفوي متشظ، لا يفيد إلاّ في ترسيخ صورة القطيعة المعرفيّة التي أضحت، كما قلنا، إحدى علاماتنا الفارقة؛ ليس هذا فقط، ففي لقاء لي نادر مع محمد سعيد البوطي، أستاذ الفكر المعاصر – ضمن أشياء أخرى – في كليّة شريعة دمشق، اكتشفت ضحالته المعرفيّة في ثقافة الآخر عندما استغرب من كلامي عن وجود جماعتين إسماعيلتين في سوريّا: أي، القاسميّون والمؤمنيّون.
ليست البوذيّة بالديانة السهل البلع" على مواطن الأديان الثلاث "السماويّة"؛ ولولا تعلّقي – ربما اعتناقي غير المعلن - بها غير الحديث العهد، وتعودي على علم مصطلحاتها، لما كنت أفضل كثيراً من البوطي في تعاملي مع هذه الديانة الرائعة. وكما ذكرت أكثر من مرّة، فالبوذيّة التي عرفتها كانت أقرب إلى الزن منها إلى البوذيّة بشكلها التقليدي: وسبب ذلك أن اليابانيين كانوا أوّل من لقّنني الدروس في هذه البنى الفكريّة. ولا أنكر أن تعلّقي بها، في البداية، كان مردّه العمق الأخلاقي غير العادي عند من تعاطيت معهم، على مدى طويل، من اليابانيين؛ وأخصّ هنا بالذكر، صديقي المثقف، ماساكي واتانابي. على أيّة حال، ورغم تركي للبوذية، روحيّاً، إلاّ أن آثارها الأعمق في داخلي، خاصّة مفهوم المعاناة – أقول هذا تحديداً لصديقي الأقرب الذي يستغرب، كابن لحضارة إسلاميّة، كلّ هذا العنف في المعاناة – الذي لا أستطيع الوصول إلى حالة تطهّر داخليّة دونه، ما تزال واضحة للعيان؛ كذلك، من الأهميّة بمكان الإشارة إلى واحدة من أحلى مقولات البوذيين: السلام الداخلي، الذي نشعر عبره أننا في قلب الله.
النص التالي لا يعدو كونه ترجمة لكتيّب ألماني اسمه "تعاليم بوذا"؛ ارتأيت، لسهولته وعمقه في آن، ترجمته للعربيّة لإعطاء هذا الفكر الجميل شيئاً من حقّه الطبيعي. مع الأمل أن تكون هذه الدراسة المبسّطة فاتحة خير في نقل درر الشرق الأقصى إلى لغاتنا الخاصّة. وبما أن النص غير قصير، ارتأينا أن نجعله في جزئين.
ملاحظة: الكلمات بين قوسين غير مستديرين [ ] من عندي.
أخيراً، ففي اعتقادي أن الكاتب من أتباع بوذية الهينايانا، لموقفه غير الإيجابي من بوذيّة الماهايانا.
تعاليم بوذا
DIE LEHRE BUDDHAS
Günter Langer
مقدّمة للطبعة الثانية:
كان من الضروري بعد الاهتمام الواسع الذي عرفه هذا الكتيّب الصغير تقديم طبعة ثانية منه، تُعزّز بفصل يتضمّن مصطلحات بوذيّة مختارة، والتي تؤطّر صورة تعاليم بوذا. ونحن نأمل أن تساعد في تحفيز الفهم والإحساس بهذه الديانة العالميّة العظيمة، كما نصوّرها هنا بهذه الطريقة المضغوطة والمبسّطة الى الحدّ الأقصى.
غونتر لانغر.
مقدّمة للطبعة الأولى:
الكتب الموجودة في المكتبات، البرامج التي تقدّمها الكليّات المسائية للبالغين، التقارير المصوّرة في الأسبوعيّات والمجلاّت، كل ذلك يعكس اهتمام أولئك الذين يعيشون في العالم الغربي، بالبوذيّة. وقد كان للزيادة الثابتة في السياحة إلى الشرق الأقصى أثرها أيضاً.
يمكن للمرء الافتراض أن عدداً معقولاً من الناس في بلدنا [ألمانيا] يمتلكون فكرة لا بأس بها عن عادة التأمل المتبعة في الشرق أو أن لديهم فكرة ما عن الأخلاق العالية للديانة البوذيّة. إنهم يُفتنون بالنشوى التي يصادفونها وتحتكرهم جاذبيّة عالم غريب، مختلف. وحين يسافر المرء إلى دولة في الشرق الأدنى للمرّة الأولى، لا يستطيع أن ينسى أبداً الانطباعات الرائعة التي تخلقها الشيديز [أو الباغودات؛ وهي معابد متعددة الأدوار] الذهبيّة المتلألئة، الرائحة الطيّبة للسويتستيكز [قصبة مغطّاة بمعجون مصنوع من غبار خشب طيب الرائحة أو أسطوانة تصنع بكاملها من المعجون إياه؛ وهي تدفن من قبل الصينيين أمام أحد الثماثيل التي تعبد] والصور المألوفة للرهبان بأثوابهم زعفرانيّة اللون يمشون مواكباً عبر الشوارع.
ما هي السمات البارزة – ببضع كلمات محكمة – لتعاليم بوذا؟ ما الذي تشبهه الديانة الفعليّة في أعرافها؟ وإذا ما تكلّمنا باختصار: ما هي المعرفة الأساسيّة التي يجب على المرء امتلاكها إذا ما أراد السفر عبر العالم البوذي؟ يستطيع المرء القول بحسم ودون مبالغة إن الدين هو الداعم الرئيس للمجتمع في أقطار عديدة حتى في أيامنا هذه.
الدكتور غونتر لانغر، القنصل العام الفخري لمملكة تايلند في فرانكفورت، كتب هذا المنشور، بعنوان "محاولة لصنع الخطوط الأساسيّة المفهومة للجميع بسهولة"، وملأ بطريقة مفيدة فجوة كانت قائمة. لقد تدبّر أمره في تقديم صورة "لديانة المستنير [بوذا]" بطريقة واضحة ووافية بالغرض. المحتويات توحي بأن المسافر يمكنه قراءة النص أثناء سفره إلى الشرق الأقصى. النص يبعث على السرور أيضاً في قراءته، ليس فقط لأن كاتبه شخص مثقف، بل لأنه يتحدّث أيضاً من القلب مباشرة ويدعوك لتماس مبهج مع شعب العالم البوذي.
فولف ميتس.
مدخل:
لقد أدّى النمو الثابت للسياحة وزيادة تماس العمل وفعاليّات الأعمال إلى تقليص المسافات، فازداد قرب أجزاء العالم المختلفة من بعضها بعضاً. الناس والثقافات يلتقون الواحد بالآخر ومن ثم فالفهم التبادلي صار ضرورة مطلقة. إذا كان المرء مقيماً كضيف أو إذا كانت لديه التزامات تتعلّق بالعمل، فإن معرفة طريقة الحياة والعقليّة، اللتين غالباً ما يشكلّهما الدين بطريقة راديكاليّة وجوهريّة، شرط أساسي لاختبار أسلوب حياة البلد.
لا يهدف هذا النص القصير أن يضيف شيئاً إلى الكم الكبير من النصوص الأدبيّة المتعلّقة بالبوذيّة – هذا سيكون نوعاً من الادعاء الوقح. لكنه سيحاول تفسير العلاقات للناس العاديين طامحاً إلى توضيح المفاهيم والسمات الأساسيّة لهذه الديانة بنوع من أمل نهائي في إثارة الفضول وخلق الرغبة من أجل معرفة المزيد عن تعاليم بوذا من خلال ما يناسب ذلك من أدب. ومن الطبيعي إذن أن نفهم كون الوصف التالي لا يدعي الكمال. وأيّة محاولة لتقديم تمثيل موضوعي سوف تسمح لواحدنا أن ينساق داخل طرائق التأمل الذاتيّة.
لقد تمّ استخدام الدراسة الممتازة التي قدّمها الدكتور Wulf Metz ، التي حملت عنوان "ديانة المستنير – مقدّمة قصيرة للبوذيّة"، التي نشرتها جمعيّة التاي الألمانيّة في بون، مع المصادر المستشهد بها في البيبلوغرافيا، كأساس في المحاولة التالية لتقديم صورة مبسّطة للبوذيّة. ونحن ندين بشكل خاص للدكتور فولف ميتس، مؤلّف المقدّمة، والدكتور هانس كريستيان لانكس، السفير الألماني السابق، الذي كان يقدّم نصائح حاسمة وقيّمة في كلّ مرة كنا نطلب منه ذلك.
سيذارتا غاوتاما بوذا:
حين يشار إلى بوذا في هذه المقالة، فنحن إنما نشير بذلك حصريّاً إلى سيذارتا غاوتاما، الذي يعتبر مؤسّس البوذيّة. أما مصطلح "بوذا" فيعني في هذا السياق "المستنير". ومن أجل تجنب إساءات الفهم منذ البداية تماماً، لا بدّ من لفت الانتباه إلى حقيقة أن بوذا ليس الله ولا كائناً يشبه الله. وبحسب المفهوم البوذي، فهذا البوذا، غاوتاما بوذا، سبقه بوذايات آخرون وسيتبعه بوذايات آخرون. وهذا يُظهر بوضوح أن بوذا لا يمكن أن يقوم بوظيفة الفادي، لكنه يمهّد الطريق نحو الفداء والخلاص.
ولد سيذارتا غاوتاما من أحد الملوك عام 560 ق.م. تقريباً. في سنواته الأخيرة ترك زوجه وابنه كي يستعفي من السعادة الأرضيّة بالكامل وكي يحرز الحريّة الكاملة. وأخضع غاوتاما ذاته لنظام نسكي صارم في طلبه لهذه الحريّة دون أن يقرّبه ذلك من هدفه. بعد أن أشاح بوجهه عن النسكيّة، بتصميم لم يفشل قط، أحرز أخيراً الاستنارة التي طالما تاق إليها، والتي أعطته تبصّراته الأولى في "الحقائق الأربع النبيلة". إدراكه الثاني كان أنه وجد مرّات عديدة على الأرض. كما صار واعياً ثالثاً لدورة التناسخ وحقيقة أن طبيعة الحياة الجديدة هي نتيجة المآثر والأعمال في الحياة التي سبقتها، أي، مفهوم "الكارما". وطوّر بوذا تعاليمه من هذه الاستنارة لكنه تردّد في إعطائها للآخرين، فقد كان يؤمن أن البشريّة غير ناضجة بما يكفي لهذه الرسالة التي تتطلّب الكثير. وبعد تردّد كثير، أجبر ذاته على نشر تعاليمه ومعرفته، وما أن أخذ الرهبان ذلك، حتى انطلق "دولاب الحقيقة". وبهذه الطريقة، تمّ تأسيس أخوية الرهبان البوذيين، التي تسمّى بالسانغا. وكان لتأسيس السانغا أهميّة استثنائيّة، إذ أنها قطعت العلاقة بالكامل مع نظام الطبقات الهندوسي التقليدي. ففي السانغا لا توجد فروقات في المراتب الاجتماعيّة. وكلّ مؤمن يستطيع نشد الخلاص. رغم هذا، فالمستنير [بوذا] لم يكن راغباً بتأسيس ديانة للجميع. لكنه بالمقابل كان يبحث عن التزام من الفرد، وهو ما لا يستطيع القيام به غير القلّة القليلة.
لم تكن عند بوذا على الإطلاق أية أهداف اجتماعيّة أو سياسيّة وهو ينشر تعاليمه. فقد كانت أعماله وأفعاله موجهة بالكامل نحو المسائل الدينيّة، رغم أنه كان لتعاليمه لاحقاً آثار سياسيّة واجتماعيّة بالطبع. لقد كان الأقوياء في هذا العالم منتقدين بعنف، مع أنه لم تكن لذلك – وهذا هام – أية مرام اجتماعيّة، لكن لأن الملوك والأمراء كانوا نماذج جيّدة للجشع والتسلّط. من هنا، كان هدفه تقديم تعريف واضح لمفاهيم مثل الجشع، التسلّط، إلخ.، عن طريق استخدام أمثلة عينيّة.
بعد استنارته، نشر المستنير [بوذا] تعاليمه لأربع وأربعين سنة أخرى، قبل دخوله في حالة نيرفانا عام 480 ق.م. تقريباً. وكان أكثر ما شغل باله، قبل غيابه، أن يشعر المؤمنون "أن التعاليم سوف تكون معلّمهم".
لقد فهم غاوتاما بوذا أن هدف فيض قوته الخفيّة وغايته هما نشر هذه التعاليم، وهنا لابد على واحدنا أن يلاحظ أن بوذا ذاته لم يترك أية كتابات. ويمكن للمرء بالتالي الافتراض أن السانغا تناقلت تعاليم بوذا الأصليّة شفويّاً بنوع من الحرص عظيم. وبعد موت المستنير بزمن طويل كتبت أخويّة الرهبان تعاليمه وسجّلتها في التريبتاكا (شريعة بالي)، أي كتاب تعاليم المستنير، الذي يُعرف أيضاً "بالسلاّت الثلاث".
حين نقرأ عن تعاليم المستنير، لا يهمنا كثيراً ما إذا كانت قد تم تناقلها موضوعيّاً وكلمة كلمة. بل ما فهمته أخويّة الرهبان البوذيين حتى يومنا الحالي على أنه الكلمة الموثوقة، عبر تاريخ يمتد على مدى ألفين وخمسمئة سنة.
تعاليم بوذا:
لقد أطلق غاوتاما بوذا "دولاب الحقيقة" كي يري الطريق إلى الخلاص. وكان مراراً يؤكّد في هذا السياق، أن الالتزام، تركيز الذهن والحكمة هي الطرق الثلاث المركزيّة في الدرب البوذيّة إلى السعادة الفائقة، أي الخلاص. فقد افترض أن الجنس البشري بحاجة إلى الخلاص.
القانون (الكتب البوذيّة المقدّسة)، كما تصفها "السلاّت الثلاث"، والتي هي أساساً تعاليم بوذا (ذارما)، تقسّم كما يلي:
"السلّة الأولى" هي "سلّة قوانين الأخويّة".
"السلّة الثانية" هي "سلّة التراتيل".
"السلّة الثالثة" هي "سلّة العقائد" (النقاشات الماورائيّة لتعاليم بوذا).
تكمن نواة هذه التعاليم في معرفة "الحقائق النبيلة الأربع" وفي قوانين "الطريق النبيلة الثُمانيّة". تتناول "الحقائق النبيلة الأربع" علل المعاناة البشريّة ومعالجتها، في حين أنّ "الطريق النبيلة الثُمانيّة" - يُرمز إليها بالدولاب ثماني الأشعة – تُهدي إلى سواء السبيل عمليّاً وتفسّر كيف يمكن الحصول على العلاج.
الحقيقة الأولى من الحقائق النبيلة الأربع هي حقيقة المعاناة. الولادة معاناة، التقدّم في السن معاناة، المرض معاناة، التوحّد مع الأمور غير المحبّبة معاناة، الانفصال عن الأمور المحبّبة معاناة، عدم حصولك على ما ترغب معاناة. بكلمات أخرى، عناصر الوجود في هذا العالم معاناة. عناصر الوجود هذه تدعى أيضاً "ذارما"، مع أننا نستخدم عموماً التعبير "تعاليم" عوضاً عن "ذارما". بكلمات أخرى، فإن المفهوم ذارما معقّد للغاية وله طبقات معان كثيرة. وبحسب تعاليم بوذا، لا ينظر للإنسان على أنه كينونة، بل كمخلوق مكوّن من عناصر إفراديّة لا حصر لها، هي الذارمات، والتي هي في حركة مستمرّة، فالإنسان بالتالي هو نتيجة فعليّة لمؤثّرات متحدة من هذه التأثيرات المختلفة. من هنا، وحدها فقط نتيجة هذا التدفق من العناصر المختلفة يمكنها أن تعطي انطباع الوحدة. إن مفهومي: "الأنا" و"الأنا ذاتي" هما خداع للنفس. ليس وحده الجسد البشري يتأثر، بل أيضاً النفس البشريّة، كون النفس أيضاً تمثّل مرحلة انتقاليّة للذارما.
الحقيقة النبيلة الثانية تتعلّق بالإجابة على السؤال عن أصل المعاناة. إن افتقاد المعرفة يؤدّي بالإنسان إلى أن يشغل ذاته بالأمور التافهة وأن يتوق ويعطش خلف المتع. وهذا يحدث سلسلة تفاعلات، والتي تقود إلى سلسلة تناسخات واستمرارية معاناة، النتيجة النهائية لها هي الموت ثانية.
يجب النظر إلى هذه الرغبات والمتع وغيرها من المشاعر البشريّة على أنها سبب المعاناة التي لا يمكن أن تنتهي إلاّ بكسر هذه السلسة من أجل الدخول في النيرفانا، الحقيقة الأخيرة، اللاشخصيّة.
الكارما مثبتة بإحكام في دائرة التناسخ. ويجب النظر إلى هذا المفهوم على أنه المحصّلة الكلّيّة لكلّ ما هو أخلاقي من صفات وأفعال وأفكار. الكارما تخزّن وتدوّن الأفعال البشريّة. لا شيء ضائع، وطبيعة التناسخ محدّدة بها. الإنسان محكوم بإرادة العيش مادام في هذا العالم، حيث أن شكل تناسخه حدّد عبر الكارمات مجتمعة. لكنه لا يعرف شيئاً عن وجوده السابق. على المرء أن يلاحظ أنه لا توجد فقط كارما خيّرة، بل أيضاً كارما شريرة، وأنه يمكن الموازنة بين الاثنتين، كلّ مقابل الأخرى، في التطوّر اللاحق للشخص. وبحسب تعاليم بوذا، يُحدّد إطار الخير والشر من خلال ثلاثة قوى محرّضة هي الجشع والكراهية وخداع الذات من ناحية، وفقدان الجشع وفقدان الكراهية وفقدان خداع الذات من ناحية أخرى. من هنا، فالحياة هي رقعة محدّدة منطمرة في آلية كارما عنيدة لا ترحم، والتي – كما ذكرنا آنفاً – لا تنسى شيئاً وتخزّن كلّ شيء ولها تأثير على سلسلة التناسخات.
الحقيقة النبيلة الثالثة هي الحقيقة التي تهتم بإنهاء المعاناة. وهذه تعني نكران الذات والتحرر والتخلّي عن كل الرغبات والمشاعر وما يتوق إليه الإنسان.
الحقيقة النبيلة الرابعة تظهر الطريق إلى إنهاء المعاناة. وهذه هي "الطريق النبيلة الثُمانيّة"، المكوّنة من العناصر التالية:
الطريق القويمة في النظر إلى الأشياء.
التفكير القويم.
الكلام القويم.
الفعل القويم.
أسلوب العيش القويم.
الجهد القويم في كل شكل للكينونة.
الوعي القويم.
التأمّل القويم.
المرحلة الأولى من هذه الطريق، أي "الطريق القويمة في النظر إلى الأشياء"، تفترض أنّ الإنسان يثق بتعاليم بوذا. والبوذيّون، وهنا نتحدّث أساساً عن البوذيين من غير رجال الدين، وضعوا، بهذه الطريقة، حجر الأساس لحياتهم اللاحقة بالنظر إلى الطريق التي سيسيرون على هديها.
إن المراحل الأخرى من "الطريق النبيلة الثُمانيّة" يمكن تصنيفها ضمن إطار الأبعاد الأخلاقيّة، حيث المرحلة الثامنة، أي "التأمّل القويم"، حاسمة. والشخص الذي يرتحل على طول الدرب الأخلاقيّة كلّها يصل إلى الحق " بالتأمّل القويم ". يصل هذا التأمل إلى هدفه دون أن يتأثّر بالمسائل الزمنيّة، ويغوص عميقاً داخل الذات. وتصف التريبيتاكا مجموعتين للمراحل الأربع كل في هذه الصيرورة.
"الطريق النبيلة الثُمانيّة" ليست مستقلّة بذاتها، بل يمكن اعتبار أن لديها وظيفة أن تقود باتجاه الخلاص. إنها تؤثّر بأفعال المؤمن وتشجّعه كي يعيش بأخلاقيّة.
لقد تمرّكزت رسالة المستنير دائماً حول مشكلة الخلاص، حيث الإنسان ذاته هو الذي يستطيع أخذ الفعل، أي، أن يفدي ذاته. إن هدف الخلاص هو النيرفانا، التي هي بحدّ ذاتها غير جذّابة للغاية حتماً. وبالمقارنة مع الجنّة أو النعيم السماوي في الديانات الأخرى، تقدّم النيرفانا مفهوماً يصعب جدّاً على غير البوذي فهمه أو تعريفه. تبدأ النيرفانا حين تصل كل أنواع الكفاح إلى نهايتها، حين تحرز كل المشاعر والانفعالات حالة راحة. إنها تًحَرُّرُ تركَ آلة التناسخ التي لا ترحم، التحرّر من المرض والموت، ونهاية كل أنواع المعاناة في الحياة البشريّة. تتضمّن النيرفانا الانخماد أو التبعثر في الهواء، ويمكن فهمها بأفضل ما يمكن حين يقارن المرء فراغ النيرفانا بالدخان المندفع الذي يتبدّد ببطء من تلقاء ذاته.
في التريبيتاكا (قانون بالي) نجد أن النيرفانا هي الموازية للنعيم الأبدي، في حين قد يظل مستعصيّاً على المقارنة بالنسبة للشخص غير البوذي كيف يمكن الوصول إلى حالة النعيم الأبدي حين تتوقّف المشاعر عن إنتاج ردّات فعل. لهذا السبب، من المبسّّّط وصف النيرفانا على أنّها "السلام الأبدي" أو "الراحة الدائمة".
حين ينظر المرء إلى النيرفانا باعتبارها وسيلة خلاص، كتحرّر لابدّ من البحث عنه بالفعل، على المرء أن يلاحظ أيضاً أن هذا ليس غير تحرّر مطلق. من هنا، من الضروري الوصول إلى كارمات طيّبة كثيرة من أجل إحراز الخلاص البوذي. وبعد وصول المرء إلى حالة النيرفانا، لا يعود وجود للكارما. فالنيرفانا تقبع عند نهاية الكارمات كلّها.
حين يصل المرء إلى حالة في حياته حيث العواطف والمشاعر أحرزت وضعيّة راحة، حيث غادرت كل الرغبات، فمن الممكن بالتالي أن يدخل حالة النيرفانا حتى قبل الموت. لقد تم التغلّب على منبع الرغبة، الكارما أُبطلت، وانكسرت دورة الموت والولادة الثانية. الموت المحايث هو الحدث الأخير.
البوذيّة كممارسة:
كما ذكرنا آنفاً، فالأخويّة البوذيّة، أو السانغا، يمكن مقارنتها بأحد النظم الرهبانيّة. وفي ضوء المعنى المقصود في تعاليم المستنير مع التطبيق الأكثر صرامة لتعريف المصطلح " بوذيّة "، فسوف نجد أن المعنيين بالأمر هم الرهبان فحسب، حيث أنهم وحدهم في موقع يؤهلهم لأداء المهمّات الدينيّة التي يطلبها منهم المستنير. وهكذا فالرهبان وحدهم يصلون إلى حالة السعادة الفائقة ذات الطابع الديني بكماليتها الكاملة، مع أنه باستطاعة أي علماني الانضمام إلى الأخويّة كي يصبح راهباً.
كل كفاحات الراهب نحو الخلاص سوف تُعاق وسوف يُطرد الراهب من السانغا إذا لم يركّز الانتباه على الوصايا الأربع الرئيسة. فالعلاقات الجنسيّة، السرقة، القتل والتعجرف الديني محرّمة. وهنالك 13 وصيّة أخرى زيادة على الأربع السابقة. وحالات تجاهل هذه الوصايا منوطة بالهيئة الحاكمة للمنظومة الرهبانيّة.
لم تعرف السانغا البوذيّة يوماً أي نوع من العوائق الطبقيّة. من هنا، فالطريق إلى الخلاص متاحة للجميع، بغضّ النظر عن الأصول الاجتماعيّة. ولا بدّ هنا من التأكيد مجدّداً أن بوذا لم يكن حتماً مصلحاً اجتماعيّاً. لقد كانت أفكاره مركّزة على السعادة الفائقة وبالتالي فالفوارق في المكانة الاجتماعية لم تعن له شيئاً. لا بدّ أن نلاحظ أيضاً في هذا السياق أن تعاليم المستنير برسالة خلاصها الفرديّة والمتطلبة إلى الحد الأقصى يمكن اعتبارها في سياق محدّد للغاية ديانة جماهيريّة، بسبب الطريقة التي فُهمت بها في الماضي.
العلماني البوذي الممارس لدينه يؤمن "بالجواهر الثلاث":
بوذا
تعاليم بوذا
الأخويّة البوذيّة (سانغا).
يمكن للعلماني أن يخلق الظروف الضروريّة (كارما) من أجل تناسخ مرغوب. الخلاص مرجأ حتى تاريخ لاحق. يجب الالتزام بقواعد السلوك الخمس: لا تقتل،لا تسرق، لا تزن، لا تكذب ولا تشرب المسكرات.
إن العلاقة بين السانغا والمؤمن تبادليّة ومتعدّدة الأوجه. والعلماني يعطى فرصاً كثيرة لعيش التقوى. وهذه الفرص تتضمّن تقديم الصدقات للرهبان الذين يعتاشون عليها والمساهمة في بناء الأديرة وصيانتها. وفي الصورة الأماميّة للديانة البوذيّة نجد كمال السلام، التسامح، النضال من أجل عيش أخلاقي، التواضع والصبر. ثمّة إجلال عظيم يقرّ به البوذيّون جميعاً للمستنير، حيث لا يجب أن يُخلط هذا الاحترام التقوي مع الصلاة لإله أو لآلهة. بوذا هو حالة نيرفانا وهو بالتالي الشكل البشري الأوحد لفكرة مهيمنة أبديّة. لكن هذا لا يعني أن البوذيين لا يصلّون لبوذا إذا كانوا بحاجة روحيّة لذلك أو يأملون بمساعدة منه. وإذا أراد المرء أن يكون دقيقاً في منطقيّته، لا يمكن لبوذا أن يكون أبداً هدفاً للإجلال من قبل طائفة دينيّة ما، كونه توقّف كليّاً عن الوجود. مع ذلك، يمكن للمرء إظهار الإجلال لذكراه باعتبارها تجسيداً لمبدأ الاستنارة. ولا يبدو هذا متناقضاً مع معنى التعاليم.
من الجدير بالملاحظة هنا أن القربان العبادي غير موجود على الإطلاق في البوذيّة. والاستعداد الموجود بالفعل لأن يضحّي المرء بذاته موجّه بالكامل نحو دعم الأخويّة ومساعدة أولئك الذين يعانون.
البوذيّة منفتحة تماماً على الآلهة، وهكذا فالصلاة لآلهة عديدة – طلباً للعون أو تقديماً للشكر – لها فيها مكان منفرد. ويتمّ هذا إلى درجة أنه يمكن معه تنمية خرافات كثيرة، مثلما يمكن للمرء أن يلاحظ من المعابد أو المنازل المشغولة بدقّة المكرّسة للعالم الروحاني في تايلند، والتي يمكن أن نحظى بها حيث يممنا وجهنا. والروح الخيّر المحليّ، تشاو تاي، يُبجّل بنوع من الحب عبر تقدمات من الفواكه والطعام والماء. بل إنه يكلّل بالزهور ويُرتجى استحسانه وحمايته من الأرواح الشريّرة.
هذا يُظهر أن بوذيّة عقيمة شيء لا وجود له. فتعاليم المستنير تُكيّف مع احتياجات الناس. وبهذه الطريقة صارت التعاليم البوذيّة ديانة جماهيريّة وحركة جماهيريّة بمرور القرون.
يصبح منطق تعاليم بوذا واضحاً على نحو خاص حين ينظر المرء إلى طريق الخلاص بشكل كلّي. فخلال حياته، يمتلك البوذي الممارس لدينه الفرصة لجمع الكارما والتطوّر أخلاقيّاً، معتقداً أن هذه الأمور سوف تعمل لصالحه خلال حياته على الأرض. فهو يؤمن برسوخ أنه سيولد من جديد وأن الكارما التي جمعها سيكون لها تأثير ما على حياته الجديدة. من هنا فكلّ بوذي لديه أسبابه لأن يناضل من أجل كمال أخلاقي كي يجمع أكثر ما يمكن من الكارما الإيجابيّة. أكثر من ذلك، فبقدر ما ينظر إلى الحياة من منحى إيجابي، فالخوف من الموت لا أهميّة له، كون البوذي سيولد من جديد دون شك.
وحين يرغب البوذي في كسر سلسلة الموت والولادة الجديدة كي يجد لذاته مكاناً أبديّاً، يمكنه النضال من أجل تحرّر النيرفانا.
الانشقاقات وتشكّل الطوائف:
ما أن دخل بوذا في وضعيّة النيرفانا (عام 480 ق.م. تقريباً) حتى راحت الاختلافات حول معاني تعاليم المستنير وتفاسيرها تظهر للعيان. وقد أدّى هذا بمرور السنين إلى انشقاق البوذيّة إلى بوذيّة الثرافادا وبوذيّة الماهايانا.
بوذيّة الثرافادا (هينايانا):
ما يزال أتباع بوذيّة الثرافادا يسيرون في هدي المطالب النخبويّة التي قدّمتها البوذيّة الأرثوذكسيّة-المحافظة، والتي هي الأقرب إلى تعاليم بوذا الأصليّة.
هذا الشكل من البوذيّة يدعى أيضاً بوذيّة الهينايانا أو "العربة الصغيرة". فالعالم يمكن مقارنته ببيت يحترق لا يمكن لغير المؤمنين النجاة بأنفسهم منه عن طريق استخدام عربة – "العربة الصغيرة". وغالبيّة البشر مستثناة من ذلك. هذه المقارنة تظهر أن تعاليم المؤسّس لم تكن تهدف لأن تكون ديانة للجميع.
في وقت لاحق انقسمت بوذيّة الثرافادا (هينايانا) إلى حوالي 30 طائفة. ومن المفيد أن نلاحظ أن أتباع وجهات النظر المختلفة كلّها يعيشون مع بعضهم غالباً جدّاً في دير واحد، حيث أنهم كلّهم يعتقدون بالمباديء الأساسيّة لتعاليم بوذا.
بوذيّة ماهايانا:
يكيّف أتباع بوذيّة الماهايانا أو "العربة الكبيرة" أنفسهم أيضاً مع تعاليم بوذا طبعاً لتشكيل جماعة، بالمعنى الواسع، مع أتباع بوذيّة الثرافادا (هينايانا) في ظل المفهوم العام "بوذيّون".
ثمّة أشياء كثيرة مشتركة بين هاتين الجماعتين الكبيرتين، على الرغم من اختلافهما في التوجهات الأساسي الملحوظ. فبوذيّة الثرافادا (هينايانا) تريد قهر العالم المادّي، في حين تريد بوذيّة الماهايانا مساعدة العالم. وفي منشورات هانس فولفغانغ شاومان هنالك مجموعة من العبارات تصوّر بدقّة الفوارق بين الهينايانا والماهايانا. يقول هذا الباحث: "تشبه الهينايانا رجلاً نشيطاً، متعباً من رحلته الطويلة، لكنه يُستحث عبر إشارة ما كي يحثّ الخطى بسرعة أكبر تحت شمس مشرقة، للوصول إلى قدر ناء. الماهايانا تشبه رجلاً ناضجاً، يتنقّل بأمان دون إسراع في بيت فسيح يتمتّع جوّ دافئ عبر الصور ذات الألوان المرحة المعلّقة على الجدران. الشخص الذي يرغب حمل هويّة الإنسان المذكور أوّلاً سوف يكون أمامه تحدي أن يخطو بجرأة. أما الإنسان الأكثر تقدّماً في السن، من ناحية أخرى، فسوف يطلب منه أن يمكث معه في البيت كي يتحسّسا الهدف. وحول فنجان من الشاي سوف يدعوك لحوار حول مسئوليّات الجنس البشري".
إن وصفاً تفصيليّاً إضافيّاً للفروقات بين الثرافادا (الهينايانا) والماهايانا كان سيتجاوز حدود هذه الدراسة، مع أن الأمثلة التي أعطيت آنفاً يمكن اعتبارها محاولة لتفسير وجهات النظر المختلفة.
يجب أن لا ننسى أن "العربة الكبيرة" انقسمت لاحقاً إلى تيارين فكريين كبيرين، أي الماذياميكائيون واليوغاكاريون، واللذين تشكّل عنهما انقسامات إضافيّة، منها على سبيل بوذية التانترايانا، البوذية اللاميّة، بوذيّة الزن وغيرها.
شكرا والسلام عليكم ورحمة الله
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة