dot
21/09/2006, 12:59
بقلم: د. احمد عبد الملك
قبل عام أو أكثر، وصف أحد المسؤولين الأميركيين قناة "الجزيرة" بأنها "شريرة" ، إثر بثها أشرطة بن لادن، كما تم إغلاق مكاتبها في عدة عواصم. ودارت مناقشات حادة حول حيادية "الجزيرة" في تغطية الأحداث، سواء في العراق أو فلسطين وأخيراً في لبنان. وفي الأسبوع الماضي أغلق مكتب محطة "العربية" في العراق، وجاء في حيثيات الإغلاق أن القناة: "تتعمد تشويه الحقائق، وفيها قدر من عدم الدقة، وتنتهج سياسة تدعو إلى التحريض الطائفي والترويج للعنف"
نحن نعتقد، أنه طالما يوجد خصام على الأرض، ويوجد متحاربون ومختلفون وأيضاً (متخلفون)، حتماً ستكون التغطية بذلك الحجم من الاختلاف والتخلّف! وأن الفريق الذي تسانده هذه الفضائية أو تلك سيساندها ويصفها بـ"الملاك الفضائي" والعكس بالعكس. ذلك أن الحياد في المسألة الإعلامية قضية نسبية، ولا يمكن -مهما حاولنا حتى عن طريق تحليل المضمون- أن نثبت نسبة الحياد بدقة وموضوعية، لأن مسألة تحديد الفئات في تحليل المضمون يُصيبها نوع من التداخل والتشابك، فتتشوه النتيجة طبقاً لذلك. ولا يمكن لأية وسيلة إعلامية أن تحيد عن توجه أصحابها ومالكيها والذين يصرفون عليها، مهما بالغت في الإعلان عن حيادها. ولأن الحياد قضية نسبية، فإن "تبرير" عدم الانحياز أو الدقة أو الموضوعية هو الآخر سهل وفي متناول جميع المختلفين والمتخلفين!
وإليكم بعض الأمثلة:
- لو بثت قناة تلفزيونية شريطاً لإرهابي يهدد أميركا وأهلها، لقِيل إن هذه القناة "تُروِّج" للإرهابيين، وتمّ تناسي قيمة الحدث من الناحية الخبرية.
- لو بثت قناة تلفزيونية مقابلة مع شخص يحاربه النظام الفلاني، وتحدَّث الرجل -بكل واقعية عن حقيقة فساد ذلك النظام- لَوُسِمَ الرجل بالعمالة، ووُسِمَت القناة بالتحريض وعدم الدقة، والإساءة للعلاقات مع دول شقيقة!
- لو تمكنت قناة فضائية من الحصول على سبق صحافي مع حسن نصرالله زعيم "حزب الله" في لبنان، دون محطات أخرى، لوُصِفَ العملُ بأنه محاباة للشيعة ضد الأطراف الأخرى، وأنه عمل لا يؤدي إلى استتباب الأمن في لبنان.
وهكذا نجد أن الفرقاء المختلفين/ المتخلفين دوماً ينظرون إلى الحدث من واقع مناظيرهم الخاصة، ولا يقومون بتغيير مواقعهم، وينظرون للموضوع من الجهة الأخرى المُقابلة. فأيام غزو/ تحرير العراق قبل ثلاث سنوات اتُهمتْ "الجزيرة" -وأنا هنا لا أدافع عن أية قناة، لأنني أحاول أن أكون حيادياً- بالتركيز على الأحداث السلبية التي تنال من جهود الولايات المتحدة والحكومة المؤقتة. وكانت "سكاي" وغيرها من المحطات -التي لها مواقع قريبة من الأحداث- تأتي بالأخبار الإيجابية، مثل تكوين الشرطة، تدفق المياه، عودة الطلاب إلى المدارس. وهنا أيضاً نتوقف للحديث عن الدلالات الخبرية، أي قيمة الخبر. وندخل في حوار القيم الإخبارية المعروفة! وهل إن قَتْل عشرين شيعياً في الجنوب يعادل عودة المياه إلى أحياء البصرة؟ أو هل قتل أربعة أميركيين يساوي صورة رجل أمن ينظِّم المرور في شوارع بغداد؟
الإشكالية أن القنوات تأْتمر بأمر مالكيها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، أن تبث ما يتعارض مع توجهات مالكيها، وإلا أصبحت عديمة الجدوى كسلاح إعلامي يبرز الواجهات الإعلامية/ الإعلانية لمسالك الدول.
القضية الأخرى في هذا الجدال، هي أن العرب -وغيرهم- لم يتعودوا على اشتراطات البث الحيادية! وذلك لغياب حرية الرأي داخل الأنظمة التي يعيشون فيها، وأن الممارسة الديمقراطية، وإن وجدت عرجاء في بعض الأنظمة، ليس لها مكان في الحراك الثقافي والإعلامي اليومي. فإما الهجوم المضاد الشرس، وإما المهادنة والصداقة الحميمية!
وكما رأينا، حتى الولايات المتحدة، التي تدَّعي تطبيق الحرية والديمقراطية، نجدها تمنع "الجزيرة" أو تصفها بصفات غير لائقة! ذلك أن بث الأشرطة المذكورة يُخيف المجتمع الأميركي ويبث الرعب في قضايا الأمن والاستثمار، وإن كنت في حقيقة الأمر لا أؤمن بكل ما يُصدّرُه بن لادن عبر الفضائيات، ولا أدري لماذا يتحفظ أو "يهتز" رامسفيلد من بث شريط فيديو!
الفرضية الثالثة هنا، قضية المصالح التي تجنيها أو تخسرها، الدول المالكة لتلك الفضائيات، فالسياسة العامة لكل دولة نراها مطبوعة، من وجهة نظر البعض، في توجه الفضائية التي تتبعها أو تمتلكها! فـ"الجزيرة" عندما تقابل أحد زعماء "حماس" يُفسّر فعلها على أنه ضد فريق فلسطيني آخر! و"العربية" عندما تهمل وجهات نظر الشيعة في "الشرقية"، ولا تحفل بهم في مقابلات، أو تأتي بتقارير عن أحوالهم الثقافية والاجتماعية والسياسية، يُنظر إليها بأنها تجامل السُّنة "الحنابلة" وغيرهم.
وهذا مربط خلاف فكري واجتماعي غير صغير، بمعنى آخر، أن "العربية" تمثل وجهة نظر معينة، وبالتالي فإنها أيضاً لا "تتشوَّق" جداً إلى خطابات حسن نصرالله، كما تفعل "الجزيرة" ذلك.
هذا هو الخلاف أو الحوار الذي يجعلنا نوقن أن الحياد مسألة نسبية في الإعلام، أينما كان. وأننا يجب ألا نصدِّق كل ما يذاع علينا من "بلاغات" الموضوعية والحياد ومُسوغات الرأي والرأي الآخر. وأن "بانوراما" الفضائيات تعكس "اتجاهات" ليست بالضرورة متوافِقة! وأن "حصاد" 24 ساعة يمكن ألا يأتي بالخبز الجيد لعشاء المشاهد!
وإذا ما أمنّا بتلك الحقيقة، فإننا -كمشاهدين- نرتاح جداً، ويمكن أن نتحول بـ"الريموت كنترول" من محطة تسبب لنا الصداع إلى محطة تحترم عقولنا، أو تخدم حاجتنا للترفيه الجميل والكلمة العذبة.
ومع كل هذا، فإن في إغلاق مكاتب الفضائيات، أو منع المراسلين من الوصول إلى الحدث، أو شطب جملة من مقال صحافي يقول الحقيقة، كل تلك الأعمال لا تصب في مسيرة أو معين الديمقراطية أو الحرية الإعلامية، بل إنها "حيلة" الضعيف/ القوي، الذي يحاول أن تكون صورته دوماً جميلة حتى لو كانت وراء قناع.
لقد قامت الفضائيات منذ 1990 بأعمال جديدة لم يألفها الإعلام العربي، وهذه حقيقة تُسجل لها، لكننا نختلف -في الدوائر الأكاديمية- حول مضامين الرسائل التي تبثها هذه الفضائيات. وبالله عليكم ماذا يستفيد المشاهد من بث الفضائية "الخضراء"، أو "الزرقاء" أو "الحمراء"؟! على فكرة ليست "العربية" ولا "الجزيرة" ولا "الإخبارية" مقصودات بهذه الألوان، وعلى القارئ الكريم أن يحرِّك "محركات البحث" لديه، ليجد حقيقة ما ذهبنا إليه.
قبل عام أو أكثر، وصف أحد المسؤولين الأميركيين قناة "الجزيرة" بأنها "شريرة" ، إثر بثها أشرطة بن لادن، كما تم إغلاق مكاتبها في عدة عواصم. ودارت مناقشات حادة حول حيادية "الجزيرة" في تغطية الأحداث، سواء في العراق أو فلسطين وأخيراً في لبنان. وفي الأسبوع الماضي أغلق مكتب محطة "العربية" في العراق، وجاء في حيثيات الإغلاق أن القناة: "تتعمد تشويه الحقائق، وفيها قدر من عدم الدقة، وتنتهج سياسة تدعو إلى التحريض الطائفي والترويج للعنف"
نحن نعتقد، أنه طالما يوجد خصام على الأرض، ويوجد متحاربون ومختلفون وأيضاً (متخلفون)، حتماً ستكون التغطية بذلك الحجم من الاختلاف والتخلّف! وأن الفريق الذي تسانده هذه الفضائية أو تلك سيساندها ويصفها بـ"الملاك الفضائي" والعكس بالعكس. ذلك أن الحياد في المسألة الإعلامية قضية نسبية، ولا يمكن -مهما حاولنا حتى عن طريق تحليل المضمون- أن نثبت نسبة الحياد بدقة وموضوعية، لأن مسألة تحديد الفئات في تحليل المضمون يُصيبها نوع من التداخل والتشابك، فتتشوه النتيجة طبقاً لذلك. ولا يمكن لأية وسيلة إعلامية أن تحيد عن توجه أصحابها ومالكيها والذين يصرفون عليها، مهما بالغت في الإعلان عن حيادها. ولأن الحياد قضية نسبية، فإن "تبرير" عدم الانحياز أو الدقة أو الموضوعية هو الآخر سهل وفي متناول جميع المختلفين والمتخلفين!
وإليكم بعض الأمثلة:
- لو بثت قناة تلفزيونية شريطاً لإرهابي يهدد أميركا وأهلها، لقِيل إن هذه القناة "تُروِّج" للإرهابيين، وتمّ تناسي قيمة الحدث من الناحية الخبرية.
- لو بثت قناة تلفزيونية مقابلة مع شخص يحاربه النظام الفلاني، وتحدَّث الرجل -بكل واقعية عن حقيقة فساد ذلك النظام- لَوُسِمَ الرجل بالعمالة، ووُسِمَت القناة بالتحريض وعدم الدقة، والإساءة للعلاقات مع دول شقيقة!
- لو تمكنت قناة فضائية من الحصول على سبق صحافي مع حسن نصرالله زعيم "حزب الله" في لبنان، دون محطات أخرى، لوُصِفَ العملُ بأنه محاباة للشيعة ضد الأطراف الأخرى، وأنه عمل لا يؤدي إلى استتباب الأمن في لبنان.
وهكذا نجد أن الفرقاء المختلفين/ المتخلفين دوماً ينظرون إلى الحدث من واقع مناظيرهم الخاصة، ولا يقومون بتغيير مواقعهم، وينظرون للموضوع من الجهة الأخرى المُقابلة. فأيام غزو/ تحرير العراق قبل ثلاث سنوات اتُهمتْ "الجزيرة" -وأنا هنا لا أدافع عن أية قناة، لأنني أحاول أن أكون حيادياً- بالتركيز على الأحداث السلبية التي تنال من جهود الولايات المتحدة والحكومة المؤقتة. وكانت "سكاي" وغيرها من المحطات -التي لها مواقع قريبة من الأحداث- تأتي بالأخبار الإيجابية، مثل تكوين الشرطة، تدفق المياه، عودة الطلاب إلى المدارس. وهنا أيضاً نتوقف للحديث عن الدلالات الخبرية، أي قيمة الخبر. وندخل في حوار القيم الإخبارية المعروفة! وهل إن قَتْل عشرين شيعياً في الجنوب يعادل عودة المياه إلى أحياء البصرة؟ أو هل قتل أربعة أميركيين يساوي صورة رجل أمن ينظِّم المرور في شوارع بغداد؟
الإشكالية أن القنوات تأْتمر بأمر مالكيها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، أن تبث ما يتعارض مع توجهات مالكيها، وإلا أصبحت عديمة الجدوى كسلاح إعلامي يبرز الواجهات الإعلامية/ الإعلانية لمسالك الدول.
القضية الأخرى في هذا الجدال، هي أن العرب -وغيرهم- لم يتعودوا على اشتراطات البث الحيادية! وذلك لغياب حرية الرأي داخل الأنظمة التي يعيشون فيها، وأن الممارسة الديمقراطية، وإن وجدت عرجاء في بعض الأنظمة، ليس لها مكان في الحراك الثقافي والإعلامي اليومي. فإما الهجوم المضاد الشرس، وإما المهادنة والصداقة الحميمية!
وكما رأينا، حتى الولايات المتحدة، التي تدَّعي تطبيق الحرية والديمقراطية، نجدها تمنع "الجزيرة" أو تصفها بصفات غير لائقة! ذلك أن بث الأشرطة المذكورة يُخيف المجتمع الأميركي ويبث الرعب في قضايا الأمن والاستثمار، وإن كنت في حقيقة الأمر لا أؤمن بكل ما يُصدّرُه بن لادن عبر الفضائيات، ولا أدري لماذا يتحفظ أو "يهتز" رامسفيلد من بث شريط فيديو!
الفرضية الثالثة هنا، قضية المصالح التي تجنيها أو تخسرها، الدول المالكة لتلك الفضائيات، فالسياسة العامة لكل دولة نراها مطبوعة، من وجهة نظر البعض، في توجه الفضائية التي تتبعها أو تمتلكها! فـ"الجزيرة" عندما تقابل أحد زعماء "حماس" يُفسّر فعلها على أنه ضد فريق فلسطيني آخر! و"العربية" عندما تهمل وجهات نظر الشيعة في "الشرقية"، ولا تحفل بهم في مقابلات، أو تأتي بتقارير عن أحوالهم الثقافية والاجتماعية والسياسية، يُنظر إليها بأنها تجامل السُّنة "الحنابلة" وغيرهم.
وهذا مربط خلاف فكري واجتماعي غير صغير، بمعنى آخر، أن "العربية" تمثل وجهة نظر معينة، وبالتالي فإنها أيضاً لا "تتشوَّق" جداً إلى خطابات حسن نصرالله، كما تفعل "الجزيرة" ذلك.
هذا هو الخلاف أو الحوار الذي يجعلنا نوقن أن الحياد مسألة نسبية في الإعلام، أينما كان. وأننا يجب ألا نصدِّق كل ما يذاع علينا من "بلاغات" الموضوعية والحياد ومُسوغات الرأي والرأي الآخر. وأن "بانوراما" الفضائيات تعكس "اتجاهات" ليست بالضرورة متوافِقة! وأن "حصاد" 24 ساعة يمكن ألا يأتي بالخبز الجيد لعشاء المشاهد!
وإذا ما أمنّا بتلك الحقيقة، فإننا -كمشاهدين- نرتاح جداً، ويمكن أن نتحول بـ"الريموت كنترول" من محطة تسبب لنا الصداع إلى محطة تحترم عقولنا، أو تخدم حاجتنا للترفيه الجميل والكلمة العذبة.
ومع كل هذا، فإن في إغلاق مكاتب الفضائيات، أو منع المراسلين من الوصول إلى الحدث، أو شطب جملة من مقال صحافي يقول الحقيقة، كل تلك الأعمال لا تصب في مسيرة أو معين الديمقراطية أو الحرية الإعلامية، بل إنها "حيلة" الضعيف/ القوي، الذي يحاول أن تكون صورته دوماً جميلة حتى لو كانت وراء قناع.
لقد قامت الفضائيات منذ 1990 بأعمال جديدة لم يألفها الإعلام العربي، وهذه حقيقة تُسجل لها، لكننا نختلف -في الدوائر الأكاديمية- حول مضامين الرسائل التي تبثها هذه الفضائيات. وبالله عليكم ماذا يستفيد المشاهد من بث الفضائية "الخضراء"، أو "الزرقاء" أو "الحمراء"؟! على فكرة ليست "العربية" ولا "الجزيرة" ولا "الإخبارية" مقصودات بهذه الألوان، وعلى القارئ الكريم أن يحرِّك "محركات البحث" لديه، ليجد حقيقة ما ذهبنا إليه.