-
دخول

عرض كامل الموضوع : أعياد البعث ليست أعيادنا


حسون
02/05/2005, 20:36
حين أصدر الرئيس الراحل حافظ الأسد مرسوماً يعتبر يوم 21 آذار عطلة رسمية لمناسبة عيد الأم الذي يصادف عيد النوروز أيضاً، أعتقد أنه قد حل مشكلة

بدأت تنذر بصدام لا مجال لتحاشيه بين السلطة ومواطنينا الأكراد الذين أخذ غضبهم يتصاعد عاماً بعد عام لإنكار حقهم في الرقص والغناء وإشعال الحرائق تحية لكاوا الحداد. كعادتها أيضاً، كانت السلطة تبحث عن حلول فيها احتقار لفئة أو لبعض من مواطنيها حتى في الاحتفال بالأعياد. فماذا كان حصل لو كان المرسوم يقول بأن 21 آذار عطلة رسمية لمناسبة عيدَي الأم والنوروز. وقد استمر هذا الإحتقار في أعياد السلطة الأخرى لجميع المواطنين في اعتبار أعياد السلطة أعياداً وطنية. في السابع من نيسان عيد ميلاد حزب البعث، كانت البلاد جميعها تخرج بقوة الدفع، تدبك في الشوارع وتبتهج "غصباً عن أبو اللي خلّفوها".


حين كنا صغاراً كانوا يشحطوننا من مدارسنا إلى شوارع المدينة، ويبلغوننا بأن عدم الحضور والابتهاج يعرّض صاحبه للمسؤولية. ورغم أننا كنا صغاراً كنا نخاف على أولياء أمورنا الذين كانوا يُستدعَون إلى المدارس كي تمرَّغ جباههم في الوحل. وكانت القصة تتكرر في الثامن من آذار، عيد الثورة، حين كانوا يجلدوننا بخطابات لا نزال نذكرها وترن في آذاننا كنموذج للبلادة البلاغية والسخافة الإنشائية، إلى درجة أننا كنا نحفظ عاماً بعد عام ماذا سيقوله كل الخطباء عن تلك الثورة التي فجرها بعثهم العظيم لتحرير العامل والفلاح من ظلم الإقطاعيين. وكنا نتوقع أيضاً بعد هذه الفقرة أن يهاجم الخطيب الإمبريالية عدوة الشعوب.


حين صرنا طلاباً في المدرسة الثانوية كنا نسخر من الخطابات التي تعاد علينا كل عام عن الهجمات الشرسة ضد بلدنا. ولم تكن تمر سنة من دون هذه العبارة حتى لو كانت السلطة سمناً على عسل مع الإمبريالية الأميركية. فقد كانت من ضرورات البروتوكول الاحتفالي.


كنا نعتقد أن خطباء المناسبات في حزب البعث لا يعرفون ما يحصل من مستجدات، وأن مخيلتهم الضعيفة لا تستطيع ابتداع كلمات غير التي يعرفونها. وجاءنا عيد الحركة التصحيحية الذي كان لا يجرؤ أحد من المواطنين على عدم الابتهاج به، إلى درجة كنا بعد خروجنا من رعب مدارس الثانوية إلى رحاب الجامعة نسخر من البعثيين زملائنا في الكليات بمباركتنا لهم، كما كنا نسخر من الذين يدبكون أكثر وتبحّ أصواتهم من شدة الزعيق. فضلاً عن سخريتنا من الميكروفون الذي كانوا يعلقونه فوق مبنى فرع جامعة حلب لحزب البعث الذي يتوسط مباني الكليات كي يبث الأغاني الوطنية بصوت مجروح. وكان يقطع البث خطيب مفوه يجلدنا منذ الصباح بأبيات من الشعر ألّفها دبّيكة يرتدون بدلات السفاري وينظرون إلينا شزراً كفئة مارقة لا علاقة لها بالوطن.

وبعد تفشي ظاهرة المظليين، أبناء رفعت الأسد، أصبح هؤلاء يرتدون بفخر لباس العيد العسكري المموه ويعلقون مسدساتهم على خصورهم بتباه، خائفين من التقارير التي يكتبونها بأنفسهم وبنا طبعاً.


لم يكن ثمة طالب واحد أو موظف أو عامل في مؤسسات الدولة إلا يملك ذكرى عن الإستدعاءات بعد كل مناسبة، إذ كانت توجَّه إليهم تهم من نوع: لماذا كنت تتحدث مع زميلك حين كان الرفيق يهاجم الإمبريالية، أو لماذا ضحكت حين قال الرفيق إن حزبنا القائد سيدحر المعتدين. والسؤال الذي كان يتكرر كثيراً: لماذا لم تصفق حين ردد الرفيق قولاً مأثوراً للرفيق القائد حافظ الأسد. وللقارىء طبعاً أن يتخيل كيف يتغيّر لون هذا المواطن أو الطالب المتهم في وطنيته والذي يتوهم فوراً أن سهوه عن الابتهاج قد دمر مستقبله.


اللازمة التي لم يكن ثمة فكاك منها هي التصفيق لدى ذكر إسم الرئيس حافظ الأسد حتى لو جاء هذا الذكر في سياق "حين قال قائد المسيرة الرفيق حافظ الأسد لوزير خارجية أميركا"، حيث كان التصفيق يتعالى وتتم مقاطعة الخطيب بالصراخ والهتاف بحياة القائد.


لا أذكر مرة واحدة في حياتي كلها أن الهتّافين لم يقاطعوا الخطيب لدى إيراد إسم الرئيس، حتى لو كان الخطاب تحت قبة البرلمان الذي يفترض في أعضائه ألا يخشوا رجال المخابرات.


لقد تعاملوا معنا كما لو أننا جزء من قطيع. لا أحاسيس ولا خصوصية. وفي أفضل الأحوال كنا نُعامَل كمرابعين كومبارس يجب أن يبتهجوا ويضحكوا في أعراس أبناء الملاك الذي يفاخر أمام عشيرته وضيوفه من الأحزاب الصديقة بقدرته على حشد كل هؤلاء الخواريف التي تدبك وتزعق. وفي النهاية طبعاً تطيَّر برقيات الولاء لقائد البلاد.


من سخريات القدر أن احتفال السوريين بعيد الجلاء على خطوط التماس مع إسرائيل مُنع أكثر من مرة، إذ كانت دوريات المخابرات تقيم الحواجز على الطرق المؤدية إلى الجولان لمنع تدفق مئات الباصات الملأى بالسوريين الذين وجدوا المكان المناسب للاحتفال بعيدهم الوطني الوحيد الذي خشينا أن يقال لنا ذات يوم إن الأمين العام لحزب البعث هو من صنع الجلاء أيضاً. ولم يخب حدسنا، فقد بدأ البعثيون سنة بعد آخري ينسبون الجلاء إلى نضالات قادتهم وآبائهم ويثيرون سخريتنا أكثر.


كنا نطلب منهم أن يعتبرونا جيراناً لا شركاء في البلاد، وألاّ يجبرونا على الابتهاج بشكل قسري في أعياد ميلادهم، كي نستطيع احتراما للتقاليد أن نعايدهم من كل قلوبنا ولا نتركهم إلى حيرتهم وكآبة مناسباتهم التي باتوا يحتفلون بها بصمت كالأرامل المهجورات.


" ملحق النهار"
خالد خليفة