tiger
12/09/2006, 15:00
كان من عزم الخطاب وثقل الكلمات يهبط بعد ان تنثني ركبتاه في زاوية قائمة باتجاهين متعاكسين لتشكلا شكلا هندسيا اقرب الى المعين فيعود ويجمعهما الى بعضهما البعض فيرتفع،
وهكذا يراه الجمهور الغفير يطول ويقصر، يظهر ويختفي وراء مايكرفون مهترئ يتيم رسمت عليه اشارة التلفزيون الوطني .. وترتفع الصور واللافتات التي تصلح لكل مناسبة وتظهر في كل حدث وتدور اسطوانة الهتافات الحماسية التي بعد ان ظهرت "كُسر القالب " ، يرددونها اصداراً وحيداً لم يتبعه اية نسخة جديدة منذ عقود طويلة..
وهو يُصلِح بين الفينة والاخرى "عقاله " الذي يتزعزع من الحركة " الطالعة النازلة " والبدن المنتفض والعروق "النافصة" والصوت الذي بُحّ بعد اول جملتين ..
اما مضمون الخطاب فهو من "النغمة" الشائعة ، ويمكن لاي ممن لا يمتلك اذناً موهوبة يعزف اللحن مجرد سماعه، ان يستعين بالجرائد المحلية والقناة الارضية ، او الاجتماعات الصباحية ، المسائية الحزبية ، او حتى الليلية (الاسطهاجية) ..
واذا فاته هذا كله يستمع الى الرسميين واشباه الرسميين في القنوات الفضائية .. ( وان شئتم يفتح على موقع سيريانيوز ) .. و"قصْ والزق" .. "اطول واقصر" .. مبحوح الصوت .. وسط الضجيج والتصفيق المتقطع المتلاشي الواهن .. والهتافات التي تسير على خط بياني هابط .. الأرجل المتململة التي تنتظر الحرية لتنطلق باتجاه البيت لتكسب ساعات قليلة من الدوام الرسمي .. وتنتهي المهمة
والمشهد متكرر ولم يعد يزعج او يفرح احدا هو اشبه بالفلكور الذي اعتدنا عليه وألفناه .. كالوقوف على إشارة المرور ، زحمة الناس في الشوارع ، الدخان الكثيف في اجواء المدينة .. ننظره ولا نراه ولا نناقشه ولا يناقشنا هو بحاله "ونحنا بحالنا" ..
وفي النظرية السياسية السورية ، من هو ليس هنا فهو هناك .. وهناك تعني على مقاعد "المعارضة" .. والمعارضة في عرف اهل الساحات فعل اكثر من ناقص .. هو تهمة بحد ذاتها .. وفعل جرمي يحاسب عليه اللاقانون ..
واذا لم تكن معارضة .. فهي ايضا تهمة من قبل المعارضين .. فانت اما فاسد صاحب سلطة او بعثي متسلق او عميل مخابرات متآمر على حرية الشعب وقوت يومه ..
ولكي تنال شرف المعارضة وتكون فارسا من فرسان مائدتها المستديرة التي لا تعترف بوجود الرأس ، يجب ان تلعن وتشتم كل ما تراه ، وتستهجن وتستنكر ، وتمتلك مهارة اصدار البيانات وارسال الايميلات وانشاء مواقع الردح والتشهير والسخرية التي تصل الى حد الميوعة ، وان تقضي يومك تتصيد وتتحين كل ما هو سلبي وتتجاهل وتقفز فوق كل ما هو غير ذلك ..
و"تُسَّوِدُ صورة البلاد في اعين اهلها اكثر مما هي سوداء .. و"تتبروظ" بانك معارض كلقب النبيل في عصور الظلام في اوربا ، او لقب باشا في زمن الاقطاع في مصر ..
ليس هناك كبير في قاموسك حتى الجمل .. ويجب ان تقتنع بانك الفهمان الوحيد ، وكل من يخالفك الرأي هو " البعيد حمار " او عميل للسلطة .. وتبدأ الفتاوي تصدر في المزاد ، وتطرح البيانات كصكوك غفران الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى التي تقودك الى جنة المعارضة ، وشرف البطولة والممانعة .
بيان مضاد في اليوم الثاني .. وجلسة وجلسة في الناحية الاخرى .. تصريح فتكذيب .. انا "الديك" .. " وين المزبلة "
وبينما المغفلون امثالي يبحثون في البيانات والكلمات والموشحات الالكترونية على رائحة الوطن .. تفوح روائح الفساد المالي ، والخلافات والزعامات والشتائم وتطفو من جديد كلمة " الانا " التي هي عند الطرفين اكبر .. اكبر بكثير من الوطن ..
في الحقيقة هناك طريق ثالث يمشي عليه معظم السوريين بصمت وسلام وعزيمة ،.. يعملون لغد أفضل لاطفالهم .. يمتد من حذاء اول يوم في المدرسة الى قبعة يوم التخرج في جامعة (خاصة) معتبرة .. فعمل مشرف ووطن مزدهر يقوم على انقاض الخطابات الرسمية والبيانات الالكترونية ..
اول مشهد في ذاكرتي التي تشكلت منذ عقود .. ترتسم صورة تذكارية لي وامي وجدي وجدتي واخوالي الستة .. ربما سبعة .. نرفع رؤوسنا للسماء ونرقب طائرة اسرائيلية تحترق في حرب تشرين .. ويشوبنا القلق على والدي المحارب على الجبهة ..
والمشهد الثاني .. صحن بطاطا مقلية وفروج مشوي (على السيخ) .. تتنازعه ايدينا في "ارض الديار " لبيت عربي في حي شعبي فقير.. عندما تبدأ بتعلم مهارة تناول الطعام في ثوان معدودة معتمد على سياسة دفاعية هجومية محسوبة بدقة ، تضرب بعرض الحائط آداب الطعام والاتيكيت المترف .. لانك ان فكرت مجرد فكرت .. سوف تخرج بدون طعام ..
هذا البيت ( بيت جدي ) الذي عشت فيه الانتصار والفقر كان دافئاً على الدوام .. وهذا الدفء ينمو في الانسان ويزرع الامل .. ليشرق وسط الركام .. من جديد المستقبل ..
بعد اكثر من ثلاثين عاما زرت بيت جدي وكان في يدي فروج (على السيخ ) وبطاطا مقلية وعلبة ثوم ونصف كيلو (مسبحة) ، هذه المرة تناولنا الوجبة بهدوء و " تحلينا " بكيلو كنافة (خشنة ) التي يحبها جدي كثيرا ,, وخرجت من هناك يملؤني الامل و تدغدغني سعادة خفية ترافقت مع دعوات العجوزين التي رافقتني حتى نهاية الشارع العتيق ..
نضال معلوف
وهكذا يراه الجمهور الغفير يطول ويقصر، يظهر ويختفي وراء مايكرفون مهترئ يتيم رسمت عليه اشارة التلفزيون الوطني .. وترتفع الصور واللافتات التي تصلح لكل مناسبة وتظهر في كل حدث وتدور اسطوانة الهتافات الحماسية التي بعد ان ظهرت "كُسر القالب " ، يرددونها اصداراً وحيداً لم يتبعه اية نسخة جديدة منذ عقود طويلة..
وهو يُصلِح بين الفينة والاخرى "عقاله " الذي يتزعزع من الحركة " الطالعة النازلة " والبدن المنتفض والعروق "النافصة" والصوت الذي بُحّ بعد اول جملتين ..
اما مضمون الخطاب فهو من "النغمة" الشائعة ، ويمكن لاي ممن لا يمتلك اذناً موهوبة يعزف اللحن مجرد سماعه، ان يستعين بالجرائد المحلية والقناة الارضية ، او الاجتماعات الصباحية ، المسائية الحزبية ، او حتى الليلية (الاسطهاجية) ..
واذا فاته هذا كله يستمع الى الرسميين واشباه الرسميين في القنوات الفضائية .. ( وان شئتم يفتح على موقع سيريانيوز ) .. و"قصْ والزق" .. "اطول واقصر" .. مبحوح الصوت .. وسط الضجيج والتصفيق المتقطع المتلاشي الواهن .. والهتافات التي تسير على خط بياني هابط .. الأرجل المتململة التي تنتظر الحرية لتنطلق باتجاه البيت لتكسب ساعات قليلة من الدوام الرسمي .. وتنتهي المهمة
والمشهد متكرر ولم يعد يزعج او يفرح احدا هو اشبه بالفلكور الذي اعتدنا عليه وألفناه .. كالوقوف على إشارة المرور ، زحمة الناس في الشوارع ، الدخان الكثيف في اجواء المدينة .. ننظره ولا نراه ولا نناقشه ولا يناقشنا هو بحاله "ونحنا بحالنا" ..
وفي النظرية السياسية السورية ، من هو ليس هنا فهو هناك .. وهناك تعني على مقاعد "المعارضة" .. والمعارضة في عرف اهل الساحات فعل اكثر من ناقص .. هو تهمة بحد ذاتها .. وفعل جرمي يحاسب عليه اللاقانون ..
واذا لم تكن معارضة .. فهي ايضا تهمة من قبل المعارضين .. فانت اما فاسد صاحب سلطة او بعثي متسلق او عميل مخابرات متآمر على حرية الشعب وقوت يومه ..
ولكي تنال شرف المعارضة وتكون فارسا من فرسان مائدتها المستديرة التي لا تعترف بوجود الرأس ، يجب ان تلعن وتشتم كل ما تراه ، وتستهجن وتستنكر ، وتمتلك مهارة اصدار البيانات وارسال الايميلات وانشاء مواقع الردح والتشهير والسخرية التي تصل الى حد الميوعة ، وان تقضي يومك تتصيد وتتحين كل ما هو سلبي وتتجاهل وتقفز فوق كل ما هو غير ذلك ..
و"تُسَّوِدُ صورة البلاد في اعين اهلها اكثر مما هي سوداء .. و"تتبروظ" بانك معارض كلقب النبيل في عصور الظلام في اوربا ، او لقب باشا في زمن الاقطاع في مصر ..
ليس هناك كبير في قاموسك حتى الجمل .. ويجب ان تقتنع بانك الفهمان الوحيد ، وكل من يخالفك الرأي هو " البعيد حمار " او عميل للسلطة .. وتبدأ الفتاوي تصدر في المزاد ، وتطرح البيانات كصكوك غفران الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى التي تقودك الى جنة المعارضة ، وشرف البطولة والممانعة .
بيان مضاد في اليوم الثاني .. وجلسة وجلسة في الناحية الاخرى .. تصريح فتكذيب .. انا "الديك" .. " وين المزبلة "
وبينما المغفلون امثالي يبحثون في البيانات والكلمات والموشحات الالكترونية على رائحة الوطن .. تفوح روائح الفساد المالي ، والخلافات والزعامات والشتائم وتطفو من جديد كلمة " الانا " التي هي عند الطرفين اكبر .. اكبر بكثير من الوطن ..
في الحقيقة هناك طريق ثالث يمشي عليه معظم السوريين بصمت وسلام وعزيمة ،.. يعملون لغد أفضل لاطفالهم .. يمتد من حذاء اول يوم في المدرسة الى قبعة يوم التخرج في جامعة (خاصة) معتبرة .. فعمل مشرف ووطن مزدهر يقوم على انقاض الخطابات الرسمية والبيانات الالكترونية ..
اول مشهد في ذاكرتي التي تشكلت منذ عقود .. ترتسم صورة تذكارية لي وامي وجدي وجدتي واخوالي الستة .. ربما سبعة .. نرفع رؤوسنا للسماء ونرقب طائرة اسرائيلية تحترق في حرب تشرين .. ويشوبنا القلق على والدي المحارب على الجبهة ..
والمشهد الثاني .. صحن بطاطا مقلية وفروج مشوي (على السيخ) .. تتنازعه ايدينا في "ارض الديار " لبيت عربي في حي شعبي فقير.. عندما تبدأ بتعلم مهارة تناول الطعام في ثوان معدودة معتمد على سياسة دفاعية هجومية محسوبة بدقة ، تضرب بعرض الحائط آداب الطعام والاتيكيت المترف .. لانك ان فكرت مجرد فكرت .. سوف تخرج بدون طعام ..
هذا البيت ( بيت جدي ) الذي عشت فيه الانتصار والفقر كان دافئاً على الدوام .. وهذا الدفء ينمو في الانسان ويزرع الامل .. ليشرق وسط الركام .. من جديد المستقبل ..
بعد اكثر من ثلاثين عاما زرت بيت جدي وكان في يدي فروج (على السيخ ) وبطاطا مقلية وعلبة ثوم ونصف كيلو (مسبحة) ، هذه المرة تناولنا الوجبة بهدوء و " تحلينا " بكيلو كنافة (خشنة ) التي يحبها جدي كثيرا ,, وخرجت من هناك يملؤني الامل و تدغدغني سعادة خفية ترافقت مع دعوات العجوزين التي رافقتني حتى نهاية الشارع العتيق ..
نضال معلوف