-
دخول

عرض كامل الموضوع : حين تختارنا دروب العزّ


براق
06/09/2006, 23:37
لماذا يتشاكس إخوة الوطن الواحد في صراعات لا طائل وراءها؟ ألأنّ الدروب اختارتهم، فانحتمت صراعاتهم بحتمية وجود الدروب نفسها؟ أم هي حميّات أنفس وعصبيّات جهلٍ موغل ومطبق؟
تهجم لحظات، تعصف بكيان الفرد، إنْ برزايا خاصّة أو خطوبٍ ملمِّة، ترجف به، تستدعيه ليلامس إنسانه المفقود فيه، الذي غيّبه كثرةُ تظاهره فأخرسه، حين أخمد أسئلته الصعبة ذات التكاليف الثقيلة المتوقّعة، المحقّقة لشرط وجوده مخلوقاً مصنوعاً مسئولاً (أي محاسباً عن عمره فيما أبلاه)، فتمرّ أيامُه يعتاش بقشره من دون لُبّه (أعني إنسانه)، سكراناً لا يُحصي أيامه، يعيشها لكنّه لا يحياها، لأنّه يقطع فراغ الزمن، بفراغه، فإذا الذي مرّ فراغ، وإذا الآتي فراغ، وإذا هو راحلٌ إلى فراغ، هذا المسكين الأجوف، قد أفرغ جوفه في لحظة - غابرةٍ منسيّةٍ - من إنسانه.
متى وكيف غزتنا هذه اللحظة المصيريّة البائسة؟ متى اتّخذنا هذا القرار النوعيّ الخطير؟ متى تكرّشنا؟ متى تنجّسنا؟ تيبّسنا؟ لسنا ندري، لكنّا نلمح فينا آثار لحظتنا العمياء تلك وإفراز تبلّدنا الأهوج، فنرى فزعنا في الخطوب، لا أبالاتنا للتلبيات، تحيّرنا في القرارات، مادّية حساباتنا منزوعة الشرف، تنكّصُنا في مواقف النخوة والنكران، ولا انسجامنا مع الأقران، مقيمين في النكبة، خطواتنا كبوة تتلو كبوة، نُبصر ولا نرى؛ نُبصر تخبّطنا ولا نرى غرورنا، نحن الذين نحمل بوصلات .. تائهون، نحن الذين نمتلك سواعد ننتظر كمشلولٍ مَن ينتشلنا، نحن الذين نملك أقلاما لا نستطيع أن نكتب مصيرنا، لأننا حقّاً لا ندري كيف وأين وبمَ، ولا نقدر.
كل ما نقطعه ونتسلّى به، بدلُ فاقد، تعويضٌ حسّي عن مجدٍ حقيقيّ مُضيَّع، سكرةٌ تحجب فكرة وعبرة، نُحاول ترسيم حدود صورتنا الحقيقية على ورق ثخين لا يشفّ معنانا، فكيف نرسم ونكتب ونصوغ؟! من يغشّشنا والإجابة الوحيدة كانت في ورقتنا المكرفسة المدسوسة تحت أقدامنا؟ كانت في الخيار الذي نأبى أن نرمقه خشية أن يذكّرنا بواجبنا المتروك، وقد تصلّبت ظهورنا عن التواضع والانحناء لالتقاطه، لأنّه ضدّ كبريائنا وشخصيّتنا المشتهرة، المرتاحة قالباً، الميّتة قلباً؟
مع اجتياز هذه الحرب العدوانية الصهيونيّة الخائبة الفاشلة الأهداف، مآسٍ وكوارث حصلت، وملاحم وإنجازات سُطّرت، وأساطير ستُروى، وروائع تناصرت لتدوّن تاريخا مضاعفاً متكثّفًا بأقصر مساحة زمن، ومعها امتحانات أُدرجتْ لكل ذي سمعٍ وعقل وقلب.
على هذا الزمن المنضغط، تتبّعتْ بإجمالٍ مشاعرَ مقالاتِ كتّاب صحفنا اليوميّة العرب، بشأن مآسي وملاحم لبنان الصامد، متجاوزًا معرفتي المسبقة بهم، بأسمائهم، بديانتهم، بطائفتهم، بانتمائهم، بتاريخهم، متجاوزاً إيمانهم وعروبتهم أيضاً، أفتّش عن إنسانهم وشرفهم فحسب، بأحاسيس الإنسان ونُبله، بفطرته، بتفاعله، باستوائه، باكتوائه، بآلامه وبآماله، متلافياً الطافي لعبارات مقالاتهم وفوائد تحليلاتهم، أجسّ نبض ضمائرهم، أتحسّس كمكفوفٍ لغةَ (بريل) في حزازات كلماتهم، وللحقّ لمستُ نبضًا قويّاً في كثيرين، وافتقدتُ سماعه لدى حفنة، ممّن تغلّف بطائفية، بمذهبية، بعصبيّة، بمادّية، بلاأبالية واستهتار، لدرجة تعصّى فيها إشراقُ شيءٍ من إنسانه، فهذا ميّت الأحياء، فاقد الرّوح، تمثالٌ شمعي منزوع الفتيلة، نذيرُ تيبّس.
كان الحدث الاستثنائيّ الجلل، فرصةً لاستعادة بعضنا إنسانه، ليتكلّم الجميع لغة تواصلهم وتعاطفهم المرهف، بمشاعر نصرة البريء وعشق قيَم المظلوم، والتولّع ببطولات الصدق والثبات والوفاء، اللغة العالمية، (الاسبرنتو) الموحّدة للآدميّين، النابعة من أقدس بقاعهم؛ القلب، لغة السموّ النبيل على الانتماءات والاصطفافات، إن كان من مُشتَرك للمتآلفين في هذه الملحمة، فهو بقايا الإنسان فينا أن يُولَد لينطق في مهده بروح قدسه.
قليلةٌ هي الفرص التي تمرّ علينا ليُوقظ إنساننا، وإنّ إضاعة فرصةٍ عظيمةٍ كهذه غصّة، لأنّها تغصّ إنساننا عن الإطلال والوثوب، وربّما لن تواتينا فرصةٌ أخرى أن نتجاوز أغلفتنا لنكون ولائد زماننا، فننكسر، أو ننكفئ، لنؤوب لفراغنا القديم المزخرف؛ هياكل بشريّة منتفخة بكلّ شيء إلاّ من معنى الإنسان.
من حصاد ملحمة الأحداث أنّ البعض نسج رسائل عشقه وإلهامات أشعاره وتحليلاته وأفكاره وروائعه، في هوى، أو بيعةِ سيّد المقاومة والنّصر، فهل كان الحدثُ اللبنانيّ المُلهِم تحريراً للجنوب أم غزواً للقلوب؟
صانعُ الإنسان سبحانه أرادها غزوةً كهذه، لتحرير القلوب من تيبّسها قبل تحرير بقاعِ شرقٍ أو جنوب، تحرير أسرى اليأس والخور هنا، قبل تحرير أسرى المقاومة هناك!
سلامٌ على كلّ مَن سكب في هذه المأساة شيئا من عصارة قلبه ودمعه عبر أعصابه وشرايينه إلى قلمه، لا تحبيراً من قلمه فقط، بعادة الصناعة، ومقتضى التجارة.
سلامٌ لكلّ خطيب وإعلاميّ وشاعر وأديب وكاتب ومخرج وفنّان ومغنّي، صدحت قلوبهم بمعنى العزّ وغضبة الظلامة والشرف، ليكون لأمّتنا وجودٌ بين الوجود، ولضميرنا حسّ بين محسوساتنا الصمّاء.
سلامٌ لمنْ كانوا تائهين عن الدرب، فلمّا بزغ لهم من أرض الجنوب نورٌ استضاءوا به، وأدركوا أنّهم إنّما كانوا تائهين عن ذخيرتهم فيهم، وأنّ إنسانهم ما مات مهما تلطّخوا، بل كان منتظرين صرخة نقيّة يسمعها إنسانُهم الصِّرف ليصرخوا ملبّين بترك التلطّخ.
سلامٌ لمن احتنكهم دربُ الشرف، سلامٌ على مَن وُلِد (بتفاعله مع الأبطال)، ومن يموت (فيهم) عشقاً، ومن يُبعث حيّا.

منقول : أ.جلال القصّاب - جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية

tiger
06/09/2006, 23:40
من الصالون ...