nassar4
06/09/2006, 00:39
من رحم الفشل يولد النجاح [2]......حتى الرسل جربوها
هذه السنة الكونية العجيبة، التي شاء الله أن يجعلها القاعدة الأساسية لتحقيق النجاح في هذه الحياة الدنيا، إنها تلك القاعدة التي تقول 'من رحم الفشل يولد النجاح'، فالفشل كما ذكرنا في المرة السابقة هوأقصر الطرق إلى النجاح، وقد استدللنا في المرة السابقة بآيتين من آيات القرآن ترشدانا إلى صحة هذه القاعدة وتحققها في الواقع وهما قوله تعالى: {َإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [5] إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [6]} [ الشرح: 5-6].
وقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[17]} [الحديد: 16-17].
واليوم موعدنا إن شاء الله مع رسل الله تعالى، وكيف تحققت فيهم هذه السنة أيضًا، يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110].
فحتى أفضل البشر، رسل الله تبارك وتعالى وأنبياؤه، جرت عليهم هذه السنة؛ فلا يمكَّن لهم، ولا يطلع عليهم فجر النصر، إلا من قلب ظلمات الفشل واليأس والهزيمة، وتأمل في سير الأنبياء جميعًا -عليهم صلوات الله وتسليماته أجمعين- تجد مصداق هذه السنة، وتعال معنا الآن لنصحبك في جولة سريعة جدًا، نعرض لك فيها لقطات خاطفة من حياة اثنين من أولي العزم من الرسل؛ لتري جليًا مصداق هذه السنة، وكيف يأتي النجاح من قلب الفشل؟ وكيف يولد النصر من رحم الهزيمة؟
فهذا كليم الله موسى عليه السلام، انظر إلى تلك الحلقات التي عاشها في حياته عليه السلام؛ تجد ظروفًا لا يكاد المرء يرى من خلالها أي أمل في النجاح.
ـ فمع مولده يبدأ فرعون في قتل كل أطفال بني إسرائيل، ومع ذلك ينجيه الله تعالى، بعد أن يوحي إلى أمه أن تلقيه في اليم، فيلتقطه فرعون، ليربي هو بنفسه ذلك الرضيع الذي سيكون زوال ملكه على يديه.
ـ يشب موسى ويكبر، ويقتل ذلك الإسرائيلي خطأ، فيخرج مطاردًا من بلده يخاف على نفسه القتل، فييسر الله تعالى له نعمة الأمن والزواج، ثم ينعم عليه بشرف النبوة والرسالة.
ـ يذهب إلى دعوة فرعون مجردًا من كل قوة مادية، ثم يكون لقاؤه مع سحرة فرعون بكل سحرهم وقوتهم، فيكون هذا اللقاء -الذي أحاطت به كل ظروف الفشل- هو نفسه الذي يظهر صدق رسالته، حتى يخر السحرة سجدًا لله تعالي قائلين: {آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:121].
ـ يخرج مع بني إسرائيل مطاردًا من قبل فرعون وجنوده، حتى إذا أصبح البحر من أمامهم، والعدو من خلفهم، يكون ذلك البحر -الذي هو مظنة هلاكهم- هو نفسه السبب الذي ييسره الله لنجاة نبيه وأتباعه المؤمنين،
فانظر إلى كل تلك الظروف التي تبعث على الفشل واليأس، كيف انقلبت بحول الله وقوته إلى عوامل نجاح ونصر وتمكين، لما صاحبها توكل على الله تعالى، وثقة بالنفس، وثبات على الهدف، وصبر ومثابرة في مواجهة أعاصير الفشل.
وهذا درة الأنبياء، وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم تتجلى هذه السنة في حياته المباركة في أروع وأبهى صورها، منذ مولده الشريف وحتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
ـ يولد يتيم الأب والأم، ويعيش حياة فقيرة في كنف جده ثم عمه أبي طالب، ومع ذلك يصبح أشرف رجل في قريش.
ـ بل في الكون بأسره -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- بل وتخطبه أشرف وأغنى نساء قريش لنفسها، وهي خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
ـ ثم تأتي تلك اللحظة العلوية التي تتصل فيها السماء بالأرض، وينزل الوحي على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء، ويكلف بأعظم وأصعب مهمة وجدت على ظهر الأرض، ألا وهي إخراج تلك البشرية التائهة في ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد
تصور ذاك الموقف، رجل وحيد فريد، مجرد من كل قوة مادية، يكلف وحده بإخراج الأرض بأسرها من الظلمات إلى النور، وليس على ظهر الأرض يومها موحد بالله إلا بقايا من أهل الكتاب، أي مهمة مستحيلة تلك التي تحوط بها ظروف الفشل واليأس والإحباط من كل جانب، لكن الله تعالى الذي يعلم حيث يجعل رسالته، كان يعلم أن تلك النفس الأبية العالية لا تفت في عضدها الظروف، ولا تنال من همتها الأيام، حتى وهي تبشر من أول يوم بالطرد والإبعاد، فها هو ورقة بن نوفل رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن قص عليه خبر الوحي ـ: [ هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك]، فقال صلى الله عليه وسلم: [[ أومخرجي هم؟ ]] قال ورقة: [ نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا ] [1].
وتمر الأيام تحمل في طياتها المحن والبلايا، وظروف الفشل واليأس والإحباط، حتى من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين قابلوه وأصحابه بالضرب والإيذاء، والسب والطرد والإبعاد في شعب أبي طالب ثلاث سنوات متكاملة، حتى أكل وأصحابه جلود الحيوان وأوراق الأشجار، ثم محاولة اغتياله الغادرة من قبل كفار قريش، ولكنه رغم ذلك يمضي نحو هدفه المنشود، بعزم لا يلين، وإرادة لا تستكين، فلا يتطرق اليأس إلى قلبه ولو لحظة واحدة، بل كلما اشتدت الأزمات، وأحاطت به الصعاب؛ فإن أمله في قرب النصر يزداد، فها هو صلى الله عليه وسلم نراه في غزوة الأحزاب، تلك الغزوة التي وصف الله تعالى حال المؤمنين فيها فقال واصفًا هول الموقف، وشدة الحال: { إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [10] هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [11]} [الأحزاب:10-11]، فالمؤمنون محاصرون في قلب المدينة، تحوط بهم جحافل الكفر وقد تجمعت عن بكرة أبيها لتهدم صرح الإسلام، وأما من الداخل فاليهود الخائنون يفتحون الثغرات في تحصينات المسلمين لينفذ منها أعداء الله، وأما المنافقون فيشكلون طابورًا خامسًا يطعن في الصف المسلم من الخلف، ويخذل المؤمنين، في هذا الوقت العصيب يبشرهم بأمر عظيم!
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، قال: وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول، قال: فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول فقال: [[ بسم الله ]]، فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: [[ الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا ]] ثم قال: [[ بسم الله ]]، وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال: [[ الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا ]]، ثم قال: [[ بسم الله ]]، وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: [[ الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني ]] [2] فانظر إلي هذه العزيمة النبوية ما أقواها، وتأمل في هذه الهمة المحمدية ما أعلاها
حتى أكرمه الله تعالى بتوطيد دولة الإسلام في المدينة المنورة، والتي كانت منطلقًا لدولة الإسلام الكبرى في شبه الجزيرة العربية، ثم في ربوع الدنيا بأسرها على يد أصحابه الغر الميامين، وفي سبيل ذلك كم خاض من محن، وتحمل من شدائد! كم مرة لا يرى من حوله إلا ظروف الفشل واليأس والإحباط، فلا تلين له قناة، ولا يتزعزع يقينه بربه، ولا تهتز ثقته بنفسه وبما معه من الحق المبين، لذلك فلا عجب أن يمكَّن له صلى الله عليه وسلم ذلك التمكين، وأن تجري على يديه قيام أعظم دولة عرفها التاريخ في وقت قياسي لم يعرفه العالم من قبل، فصلى الله وسلم وبارك على سيد أولي العزم من الرسل، الذي علمنا بسيرته المشرقة، كيف أن ظروف الفشل هي التي تصنع النجاح، وكيف أن الإنجازات العظيمة الضخمة لا تنتزع إلا من بين أنياب عوامل الإخفاق.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح السيرة النبوية، ص[85].
[2] رواه أحمد، [17946]، وأورده الحافظ ابن حجر في فتح الباري، [11/434].
هذه السنة الكونية العجيبة، التي شاء الله أن يجعلها القاعدة الأساسية لتحقيق النجاح في هذه الحياة الدنيا، إنها تلك القاعدة التي تقول 'من رحم الفشل يولد النجاح'، فالفشل كما ذكرنا في المرة السابقة هوأقصر الطرق إلى النجاح، وقد استدللنا في المرة السابقة بآيتين من آيات القرآن ترشدانا إلى صحة هذه القاعدة وتحققها في الواقع وهما قوله تعالى: {َإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [5] إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [6]} [ الشرح: 5-6].
وقوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[17]} [الحديد: 16-17].
واليوم موعدنا إن شاء الله مع رسل الله تعالى، وكيف تحققت فيهم هذه السنة أيضًا، يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110].
فحتى أفضل البشر، رسل الله تبارك وتعالى وأنبياؤه، جرت عليهم هذه السنة؛ فلا يمكَّن لهم، ولا يطلع عليهم فجر النصر، إلا من قلب ظلمات الفشل واليأس والهزيمة، وتأمل في سير الأنبياء جميعًا -عليهم صلوات الله وتسليماته أجمعين- تجد مصداق هذه السنة، وتعال معنا الآن لنصحبك في جولة سريعة جدًا، نعرض لك فيها لقطات خاطفة من حياة اثنين من أولي العزم من الرسل؛ لتري جليًا مصداق هذه السنة، وكيف يأتي النجاح من قلب الفشل؟ وكيف يولد النصر من رحم الهزيمة؟
فهذا كليم الله موسى عليه السلام، انظر إلى تلك الحلقات التي عاشها في حياته عليه السلام؛ تجد ظروفًا لا يكاد المرء يرى من خلالها أي أمل في النجاح.
ـ فمع مولده يبدأ فرعون في قتل كل أطفال بني إسرائيل، ومع ذلك ينجيه الله تعالى، بعد أن يوحي إلى أمه أن تلقيه في اليم، فيلتقطه فرعون، ليربي هو بنفسه ذلك الرضيع الذي سيكون زوال ملكه على يديه.
ـ يشب موسى ويكبر، ويقتل ذلك الإسرائيلي خطأ، فيخرج مطاردًا من بلده يخاف على نفسه القتل، فييسر الله تعالى له نعمة الأمن والزواج، ثم ينعم عليه بشرف النبوة والرسالة.
ـ يذهب إلى دعوة فرعون مجردًا من كل قوة مادية، ثم يكون لقاؤه مع سحرة فرعون بكل سحرهم وقوتهم، فيكون هذا اللقاء -الذي أحاطت به كل ظروف الفشل- هو نفسه الذي يظهر صدق رسالته، حتى يخر السحرة سجدًا لله تعالي قائلين: {آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:121].
ـ يخرج مع بني إسرائيل مطاردًا من قبل فرعون وجنوده، حتى إذا أصبح البحر من أمامهم، والعدو من خلفهم، يكون ذلك البحر -الذي هو مظنة هلاكهم- هو نفسه السبب الذي ييسره الله لنجاة نبيه وأتباعه المؤمنين،
فانظر إلى كل تلك الظروف التي تبعث على الفشل واليأس، كيف انقلبت بحول الله وقوته إلى عوامل نجاح ونصر وتمكين، لما صاحبها توكل على الله تعالى، وثقة بالنفس، وثبات على الهدف، وصبر ومثابرة في مواجهة أعاصير الفشل.
وهذا درة الأنبياء، وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم تتجلى هذه السنة في حياته المباركة في أروع وأبهى صورها، منذ مولده الشريف وحتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
ـ يولد يتيم الأب والأم، ويعيش حياة فقيرة في كنف جده ثم عمه أبي طالب، ومع ذلك يصبح أشرف رجل في قريش.
ـ بل في الكون بأسره -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- بل وتخطبه أشرف وأغنى نساء قريش لنفسها، وهي خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
ـ ثم تأتي تلك اللحظة العلوية التي تتصل فيها السماء بالأرض، وينزل الوحي على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء، ويكلف بأعظم وأصعب مهمة وجدت على ظهر الأرض، ألا وهي إخراج تلك البشرية التائهة في ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد
تصور ذاك الموقف، رجل وحيد فريد، مجرد من كل قوة مادية، يكلف وحده بإخراج الأرض بأسرها من الظلمات إلى النور، وليس على ظهر الأرض يومها موحد بالله إلا بقايا من أهل الكتاب، أي مهمة مستحيلة تلك التي تحوط بها ظروف الفشل واليأس والإحباط من كل جانب، لكن الله تعالى الذي يعلم حيث يجعل رسالته، كان يعلم أن تلك النفس الأبية العالية لا تفت في عضدها الظروف، ولا تنال من همتها الأيام، حتى وهي تبشر من أول يوم بالطرد والإبعاد، فها هو ورقة بن نوفل رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن قص عليه خبر الوحي ـ: [ هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك]، فقال صلى الله عليه وسلم: [[ أومخرجي هم؟ ]] قال ورقة: [ نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا ] [1].
وتمر الأيام تحمل في طياتها المحن والبلايا، وظروف الفشل واليأس والإحباط، حتى من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين قابلوه وأصحابه بالضرب والإيذاء، والسب والطرد والإبعاد في شعب أبي طالب ثلاث سنوات متكاملة، حتى أكل وأصحابه جلود الحيوان وأوراق الأشجار، ثم محاولة اغتياله الغادرة من قبل كفار قريش، ولكنه رغم ذلك يمضي نحو هدفه المنشود، بعزم لا يلين، وإرادة لا تستكين، فلا يتطرق اليأس إلى قلبه ولو لحظة واحدة، بل كلما اشتدت الأزمات، وأحاطت به الصعاب؛ فإن أمله في قرب النصر يزداد، فها هو صلى الله عليه وسلم نراه في غزوة الأحزاب، تلك الغزوة التي وصف الله تعالى حال المؤمنين فيها فقال واصفًا هول الموقف، وشدة الحال: { إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [10] هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [11]} [الأحزاب:10-11]، فالمؤمنون محاصرون في قلب المدينة، تحوط بهم جحافل الكفر وقد تجمعت عن بكرة أبيها لتهدم صرح الإسلام، وأما من الداخل فاليهود الخائنون يفتحون الثغرات في تحصينات المسلمين لينفذ منها أعداء الله، وأما المنافقون فيشكلون طابورًا خامسًا يطعن في الصف المسلم من الخلف، ويخذل المؤمنين، في هذا الوقت العصيب يبشرهم بأمر عظيم!
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، قال: وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول، قال: فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول فقال: [[ بسم الله ]]، فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: [[ الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا ]] ثم قال: [[ بسم الله ]]، وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال: [[ الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا ]]، ثم قال: [[ بسم الله ]]، وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: [[ الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني ]] [2] فانظر إلي هذه العزيمة النبوية ما أقواها، وتأمل في هذه الهمة المحمدية ما أعلاها
حتى أكرمه الله تعالى بتوطيد دولة الإسلام في المدينة المنورة، والتي كانت منطلقًا لدولة الإسلام الكبرى في شبه الجزيرة العربية، ثم في ربوع الدنيا بأسرها على يد أصحابه الغر الميامين، وفي سبيل ذلك كم خاض من محن، وتحمل من شدائد! كم مرة لا يرى من حوله إلا ظروف الفشل واليأس والإحباط، فلا تلين له قناة، ولا يتزعزع يقينه بربه، ولا تهتز ثقته بنفسه وبما معه من الحق المبين، لذلك فلا عجب أن يمكَّن له صلى الله عليه وسلم ذلك التمكين، وأن تجري على يديه قيام أعظم دولة عرفها التاريخ في وقت قياسي لم يعرفه العالم من قبل، فصلى الله وسلم وبارك على سيد أولي العزم من الرسل، الذي علمنا بسيرته المشرقة، كيف أن ظروف الفشل هي التي تصنع النجاح، وكيف أن الإنجازات العظيمة الضخمة لا تنتزع إلا من بين أنياب عوامل الإخفاق.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح السيرة النبوية، ص[85].
[2] رواه أحمد، [17946]، وأورده الحافظ ابن حجر في فتح الباري، [11/434].