عاشق من فلسطين
24/04/2005, 13:26
في مساء شتوي الملامح ..والنعاس يسيطر على جفوني .. أنتشلني من صراعي مع النوم .. قرع المطر على أرصفة دمشق ... وأيقظتني رائحة التراب بعد أن انتشى بدمع السماء ..
تلك الرائحة كانت تذكرني بحادثة وقعت منذ سنتين .. تلك الرائحة كانت تنثر الذكريات حول سريري .. فتمنعني من النوم ..تلك الرائحة كانت عطر الأرض الخاص بسكان الأرصفة والزوايا ..
لبست ثيابا" لاتستر من جسدي أكثر مما تكشف منه ( فأنا أحب رقص التعري تحت الأمطار) ..ووضعت شيئا" معدنيا في جيبي وخرجت ..
وهبطت السلالم الخشبية .. كنت أطرب لصوتها الصادر عند نزولي ليها .. كانت وقدماي تشكلان فرقة موسيقية للايقاع ..
وكذا بساط الريح كان يشكل مع قدماي أيضا" فرقة للايقاع .. ولكن في الفرقة الثانية كنت أشترك أنا بدور المغني ..
كنت أسكن في بناء .. أو في ما يشبه البناء معظم سكانه يباتون على السلالم .. وأنا كنت أسكن في خندق صغير على السطح ..
وصلت الى أسفل البناء ... وألقيت التحية على أبو محمد ( جندي من حرب تشرين بقدمين مبتورتين.. كانتا وسام الشجاعة الوحيد الذي ناله) ..
أقبلت على الشارع .. وخطوت الخطوة الأولى .. وتعمدت أن أضربها بقوة بالأرض .. لكي أنثر المياه على ثيابي .. كنت أتذكر طفولتي الضائعة بمثل تلك التصرفات .. في وقت لم يعد فيه طفولة ..
أخرجت لفافة تيغ .. وأشعلتها .. كانت تشعرني بنشوة الهية عندما كنت أجترها تحت المطر..
يا الهي .. أن رائحة التراب تغزو أنفي بقوة .. لتيقظ الذاكرة .. بهمجية بعثية .. وتعيدني الى تلك الحادثة ..
نعم تلك الحادثة التي لم تفارق أحلامي الليلة طوال سنتين ..
يومها كان الجو مماثلا" ..
وكانت الأمطار .. تعزف ألحانها في حارات دمشق القديمة .. لتؤلف مع نغمات المزاريب سمفونية شتوية يطرب لها الأموات ..
كنت واثنين من أصدقائي العاشقين للحرية والجنون .. نتسكع كل يوم في الشتاء .. في أحد حارات دمشق .. ونترك فيها ذكرى أو تصرفا" طفوليا" .. فنرسم أشياء قذرة كساسة هذا الوطن .. أو نقرع أجراس الأبواب .. ثم نركض منتشين بالجنون والطفولة ..
الى أن جاء ذاك اليوم .. كنا كما أسلفت .. نتسكع في أحدى الحواري .. ونتبادل أعقاب السجائر .. واذ بصوت امرأة تصرخ يهز سكون الليل .. ويرتفع ليطغى على صوت الرعد ..
بالرغم أنا كنا مجموعة من الشباب اليائسين من كل شيء .. والمثخنين بجراح الله والأوطان .. وبجراح الأقلام والدفاتر.. وبسياط التعذيب والمخافر .. لكننا كنا نملك شهامة عربية أصيلة .. فهرعنا الى مكان الصوت .. واذ بسيارة أمنية تقف في مدخل أحدى الحواري .. ويقف بجانيها شابان تبدو عليهما ملامح الكلاب الأمنية .. يقفان مزمجرين .. ينظران الى أعلى وأسفل .. لاطفاء جو من الرعب والوقار .. وبالقرب منهما .. شاب بال 20 من عمره اذا لم يخب ظني .. يمسك بفتاة يانعة .. ويمارس عليها أنواع النشوة .. وهي تصرخ بقوة .. ولا أحد من سكان الحارة يخرج .. أحسسنا بشيء غريب .. يحصل .. فنهض محمود ( وكان الأكثر جرأة وشجاعة وجراحا" فينا) وهرع الى مكان الواقعة وصرخ فيهم : مالذي تفعلونه أيها الحثالة .. ولم ينتهي محمود من كلمته حتى كنا بجانبه ( لطالما كنا سوية في كل شيء)
فنظر الينا أحد الكلاب الأمنية في حين تابع الولد المدلل شهواته (كان واثقا" من شراسة ووفاء كلابه) .. ومن ثم قال الكلب : ماذا تفعلون هنا .. أولا تخافون على حياتكم .. فاقترب منه محمود وقال : أي حياة هذه أيها المتبجح .. وهل ترك أمثالك وأمثال ذلك الساقط حياة لأمثالنا .. وانهال عليه محمود بلكمة قاسية .. تلتها طلقة رصاص .. واذ بمحمود يسقط كالفراشة بين قدمينا .. ليعطي مياه الأرض لونا" أحمرا" لكاما أحبته .. صعقنا لدقيقة كاملة " .. ومن ثم ..
صوت زقزقة العصافير أيقظني وكانت رائحة التربة ذاتها تملأ أنفي وألم قاس في رأسي ..
حاولت النهوض .. وبعد محاولات عدة تمكنت من ذلك .. فنظرت حولي واذ بمجموعة من الجثث .. تنتمي الى ذاكرة عمرها 10 أعوام .. أردت أن أضرب رأسي بيدي .. ولكن أوقفني شيء معدني في يدي ..
صرخت : يا الهي .. كان المسدس الذي قتل فيه أصدقائي بيدي ..
صعقت قليلا" .. ولكنني لم آخذ وقتي بالصعقة فقد استيقظت على صوت سيارات النجدة والاسعاف . فجمدت في أرضي ولم أتحرك ..
...............
انه ذات القبو .. ذات القبو الذي سكناه انا وأصدقائي ذات يوم بعد اعتصام قمنا به تعبيرا" عن استياءنا من موقف حكومتنا من القضية الفلسطينية ..
يالله ... بدأت أقرأ ذكريات الجدران .. وأنظفها بدموعي التي انهمرت كسيل عارم ..
ومن ثم وقفت بانتظار أبو رعد ( رجل غسل الأدمغة وانعاش الذاكرة) ..
ولم انتظره كثيرا" ... فقد كان رجلا" يحترم مواعيده .. دخل الي .. وقال مبتسما" تلك الابتسامة التي يرسمها الشارب الكثيف المسدل على شفتيه : ها أنت اذا" بعد زمن .. ولكنك هذه المرة بجريمة قتل جماعي ..
فنظرت اليه : أنا بريء من هذه الجريمة براءة الحكومة من الشعب .. ولكني سأرتكب جريمة جماعية ذات يوم ..
فقال لي : لا تكثر من الكلام .. ان الجريمة تلبسك .. ولا شهود عيان .. وبطاقتك الى النجاة هي نسيان ما حدث تماما" .. والتفكير بمستقبلك .. وبالنسبة للمسدس الذي في يدك نستطيع أن نجلب شهود عيان عل أن عصابة قامت بسرقتكم وقتل الجميع ثم وضعته بيدك ..وبذلك تنجو .. وتذكر تماما" بأنك لا تملك الشهود ولكن نحن نملكها ..
قاطعني وأنا أحاول الكلام وقال: لا تعطني جوابا" الآن ، فأنا أقدر مقدار محبتك لأصدقائك وضحكة ضحكته القذرة ثم مضى ..
جلست ليومين أفكر بالذي أفعله .. وبأني كنت ادرس الحقوق .. فقد أيقنت بأني مدان لا محالة .. وكلامي عن الواقعة الحقيقية التي حدثت .. لن يفيد شيئا" الا البحث المطول عن شاهد يملك الجرأة في تلك الحارة ليعطيني تذكرة برائتي .. وأما أولائك الكلاب فما من شي يثبت أدانتهم ..
وفي اليوم الثالث ... كنت خارج القبو وفي داخلي شعور عارم بالكراهية لنفسي والاحتقار لانسانيتي ..
ولكن مالذي أستطيع فعله ان نبست بكلمة كنت اذا رأف القاضي بحالتي سأحكم مؤبدا" ..وأني أستطيع ابراز الحقيقة وأنا في الخارج أكثر مما انا في الداخل ..
وفجأة تذكرت الفتاة .. نعم الفتاة .. هرعت ركضا" الى مكان الحادث .. وبدأت أقرع الأبواب ولكن ما من مجيب .. ضحكت بنفسي وقلت : ما أغباني .. أمثالهم نظيفون دائما" بأفعالهم ... ومضيت بالحياة ..
وكنت كل يوم أذهب وأختبئ في تلك الحارة لساعات طويلة من الليل .. عل الزاناة يعودون ولكن لا فائدة .. وبعد سنة يائست وتوقفت عن ذلك ..
لكن رائحة المطر اليوم .. قادتني الى مكان الحادثة ..فوقفت متربصا" ..وأنا أحس بأني سأمسك بهم اليوم .. وفجأة .. ظهرت أضواء سيرات في مدخل الحارة .. واتخذ الكلاب مواقعهم المعهودة .. كان الموقف كما من سنيتين . ولكنني الآن وحيدا" .. قلت في نفسي : لا لست وحيدا" فجرأت محمود وأصدقائه لا تزال معك .. كما أن معك مسدسك .. يا الهي لقد تحولت الى مجرم .. أردت المضي .. ونسيان كل ذلك .. ولكن المطر شدني مرة أخرى برائحة تلاقحه مع الأرض ..
وما هي الا دقائق وبدأ العرض .. ولكنه لم يستمر الا لدقائق .. فقد أوقفته طلقتين ثلاث طلقات نارية خرجت من زاوية معتمة ..
وفي الصباح كان المشهد متكررا" ثلاثة رجالا" ملقون على الأرض ولكن هذه المرة ثلاثتهم أموات ..
ولم يكن في موقع الجريمة شيء يدل على القاتل الى عبارة كتبت بدم أحد الضحايا ..
يا وطني المرصوف بالظلم .. ما عاد من سبيل لأخذ الحق فيك الا باليدين ..
ومن يومها لم تعد رائحة الأمطار تذكرني الا بالذكريات الجميلة مع صديقي المغيبين في غياهب الذاكرة ..
وبعد شهر من الانقسام النفسي .. كان شاب في الخامسة والعشرين من عمره في أحد المخافر يعترف با رتكابه جريمة قتل لثلاثة رجال ..
نعم كنت أنا .. فبرغم كل شيء .. لم أستطع أن أكون الا صادقا" كالموت ..
فرغم كل شيء .. لم أستطع أن أتعايش مع فكرة أني قد قتلت أحدا" .. حتى ولو كان عدوي .. بل كنت أشعر بالذنب والجريمة تتفشى في نفسي ...ولم أستطع العيش على هذه الحال ..
وبعد أسبوع كان حبل يلتف على عنق جثة تدلى منه .. جثة .. كان آخرمت نطقت به: يا وطني المكلل بالدماء البريئة .. لماذا زرعت فينا الانسانية في زمن الوحوش .. ولم تمنحنا بعض وحشية لندافع عن انفسنا ...او لنتعايش مع وحشية قد نقوم بها في لحظة غفوة انسانية .. أو انتقاما" لما تبقى من انسانية ..
ومنذ لك اليوم كانت رائحة الأمطار تحكي قصة مؤلمة .. ترددها الغيوم كل شتاء .. قصة لا يفهمها ولا يشعر بها الا أبناء الأزقة القديمة
مع دموع عاشق من فلسطين .. ووطن مسجون في أيدي الكلاب ..
24/5/2005
تلك الرائحة كانت تذكرني بحادثة وقعت منذ سنتين .. تلك الرائحة كانت تنثر الذكريات حول سريري .. فتمنعني من النوم ..تلك الرائحة كانت عطر الأرض الخاص بسكان الأرصفة والزوايا ..
لبست ثيابا" لاتستر من جسدي أكثر مما تكشف منه ( فأنا أحب رقص التعري تحت الأمطار) ..ووضعت شيئا" معدنيا في جيبي وخرجت ..
وهبطت السلالم الخشبية .. كنت أطرب لصوتها الصادر عند نزولي ليها .. كانت وقدماي تشكلان فرقة موسيقية للايقاع ..
وكذا بساط الريح كان يشكل مع قدماي أيضا" فرقة للايقاع .. ولكن في الفرقة الثانية كنت أشترك أنا بدور المغني ..
كنت أسكن في بناء .. أو في ما يشبه البناء معظم سكانه يباتون على السلالم .. وأنا كنت أسكن في خندق صغير على السطح ..
وصلت الى أسفل البناء ... وألقيت التحية على أبو محمد ( جندي من حرب تشرين بقدمين مبتورتين.. كانتا وسام الشجاعة الوحيد الذي ناله) ..
أقبلت على الشارع .. وخطوت الخطوة الأولى .. وتعمدت أن أضربها بقوة بالأرض .. لكي أنثر المياه على ثيابي .. كنت أتذكر طفولتي الضائعة بمثل تلك التصرفات .. في وقت لم يعد فيه طفولة ..
أخرجت لفافة تيغ .. وأشعلتها .. كانت تشعرني بنشوة الهية عندما كنت أجترها تحت المطر..
يا الهي .. أن رائحة التراب تغزو أنفي بقوة .. لتيقظ الذاكرة .. بهمجية بعثية .. وتعيدني الى تلك الحادثة ..
نعم تلك الحادثة التي لم تفارق أحلامي الليلة طوال سنتين ..
يومها كان الجو مماثلا" ..
وكانت الأمطار .. تعزف ألحانها في حارات دمشق القديمة .. لتؤلف مع نغمات المزاريب سمفونية شتوية يطرب لها الأموات ..
كنت واثنين من أصدقائي العاشقين للحرية والجنون .. نتسكع كل يوم في الشتاء .. في أحد حارات دمشق .. ونترك فيها ذكرى أو تصرفا" طفوليا" .. فنرسم أشياء قذرة كساسة هذا الوطن .. أو نقرع أجراس الأبواب .. ثم نركض منتشين بالجنون والطفولة ..
الى أن جاء ذاك اليوم .. كنا كما أسلفت .. نتسكع في أحدى الحواري .. ونتبادل أعقاب السجائر .. واذ بصوت امرأة تصرخ يهز سكون الليل .. ويرتفع ليطغى على صوت الرعد ..
بالرغم أنا كنا مجموعة من الشباب اليائسين من كل شيء .. والمثخنين بجراح الله والأوطان .. وبجراح الأقلام والدفاتر.. وبسياط التعذيب والمخافر .. لكننا كنا نملك شهامة عربية أصيلة .. فهرعنا الى مكان الصوت .. واذ بسيارة أمنية تقف في مدخل أحدى الحواري .. ويقف بجانيها شابان تبدو عليهما ملامح الكلاب الأمنية .. يقفان مزمجرين .. ينظران الى أعلى وأسفل .. لاطفاء جو من الرعب والوقار .. وبالقرب منهما .. شاب بال 20 من عمره اذا لم يخب ظني .. يمسك بفتاة يانعة .. ويمارس عليها أنواع النشوة .. وهي تصرخ بقوة .. ولا أحد من سكان الحارة يخرج .. أحسسنا بشيء غريب .. يحصل .. فنهض محمود ( وكان الأكثر جرأة وشجاعة وجراحا" فينا) وهرع الى مكان الواقعة وصرخ فيهم : مالذي تفعلونه أيها الحثالة .. ولم ينتهي محمود من كلمته حتى كنا بجانبه ( لطالما كنا سوية في كل شيء)
فنظر الينا أحد الكلاب الأمنية في حين تابع الولد المدلل شهواته (كان واثقا" من شراسة ووفاء كلابه) .. ومن ثم قال الكلب : ماذا تفعلون هنا .. أولا تخافون على حياتكم .. فاقترب منه محمود وقال : أي حياة هذه أيها المتبجح .. وهل ترك أمثالك وأمثال ذلك الساقط حياة لأمثالنا .. وانهال عليه محمود بلكمة قاسية .. تلتها طلقة رصاص .. واذ بمحمود يسقط كالفراشة بين قدمينا .. ليعطي مياه الأرض لونا" أحمرا" لكاما أحبته .. صعقنا لدقيقة كاملة " .. ومن ثم ..
صوت زقزقة العصافير أيقظني وكانت رائحة التربة ذاتها تملأ أنفي وألم قاس في رأسي ..
حاولت النهوض .. وبعد محاولات عدة تمكنت من ذلك .. فنظرت حولي واذ بمجموعة من الجثث .. تنتمي الى ذاكرة عمرها 10 أعوام .. أردت أن أضرب رأسي بيدي .. ولكن أوقفني شيء معدني في يدي ..
صرخت : يا الهي .. كان المسدس الذي قتل فيه أصدقائي بيدي ..
صعقت قليلا" .. ولكنني لم آخذ وقتي بالصعقة فقد استيقظت على صوت سيارات النجدة والاسعاف . فجمدت في أرضي ولم أتحرك ..
...............
انه ذات القبو .. ذات القبو الذي سكناه انا وأصدقائي ذات يوم بعد اعتصام قمنا به تعبيرا" عن استياءنا من موقف حكومتنا من القضية الفلسطينية ..
يالله ... بدأت أقرأ ذكريات الجدران .. وأنظفها بدموعي التي انهمرت كسيل عارم ..
ومن ثم وقفت بانتظار أبو رعد ( رجل غسل الأدمغة وانعاش الذاكرة) ..
ولم انتظره كثيرا" ... فقد كان رجلا" يحترم مواعيده .. دخل الي .. وقال مبتسما" تلك الابتسامة التي يرسمها الشارب الكثيف المسدل على شفتيه : ها أنت اذا" بعد زمن .. ولكنك هذه المرة بجريمة قتل جماعي ..
فنظرت اليه : أنا بريء من هذه الجريمة براءة الحكومة من الشعب .. ولكني سأرتكب جريمة جماعية ذات يوم ..
فقال لي : لا تكثر من الكلام .. ان الجريمة تلبسك .. ولا شهود عيان .. وبطاقتك الى النجاة هي نسيان ما حدث تماما" .. والتفكير بمستقبلك .. وبالنسبة للمسدس الذي في يدك نستطيع أن نجلب شهود عيان عل أن عصابة قامت بسرقتكم وقتل الجميع ثم وضعته بيدك ..وبذلك تنجو .. وتذكر تماما" بأنك لا تملك الشهود ولكن نحن نملكها ..
قاطعني وأنا أحاول الكلام وقال: لا تعطني جوابا" الآن ، فأنا أقدر مقدار محبتك لأصدقائك وضحكة ضحكته القذرة ثم مضى ..
جلست ليومين أفكر بالذي أفعله .. وبأني كنت ادرس الحقوق .. فقد أيقنت بأني مدان لا محالة .. وكلامي عن الواقعة الحقيقية التي حدثت .. لن يفيد شيئا" الا البحث المطول عن شاهد يملك الجرأة في تلك الحارة ليعطيني تذكرة برائتي .. وأما أولائك الكلاب فما من شي يثبت أدانتهم ..
وفي اليوم الثالث ... كنت خارج القبو وفي داخلي شعور عارم بالكراهية لنفسي والاحتقار لانسانيتي ..
ولكن مالذي أستطيع فعله ان نبست بكلمة كنت اذا رأف القاضي بحالتي سأحكم مؤبدا" ..وأني أستطيع ابراز الحقيقة وأنا في الخارج أكثر مما انا في الداخل ..
وفجأة تذكرت الفتاة .. نعم الفتاة .. هرعت ركضا" الى مكان الحادث .. وبدأت أقرع الأبواب ولكن ما من مجيب .. ضحكت بنفسي وقلت : ما أغباني .. أمثالهم نظيفون دائما" بأفعالهم ... ومضيت بالحياة ..
وكنت كل يوم أذهب وأختبئ في تلك الحارة لساعات طويلة من الليل .. عل الزاناة يعودون ولكن لا فائدة .. وبعد سنة يائست وتوقفت عن ذلك ..
لكن رائحة المطر اليوم .. قادتني الى مكان الحادثة ..فوقفت متربصا" ..وأنا أحس بأني سأمسك بهم اليوم .. وفجأة .. ظهرت أضواء سيرات في مدخل الحارة .. واتخذ الكلاب مواقعهم المعهودة .. كان الموقف كما من سنيتين . ولكنني الآن وحيدا" .. قلت في نفسي : لا لست وحيدا" فجرأت محمود وأصدقائه لا تزال معك .. كما أن معك مسدسك .. يا الهي لقد تحولت الى مجرم .. أردت المضي .. ونسيان كل ذلك .. ولكن المطر شدني مرة أخرى برائحة تلاقحه مع الأرض ..
وما هي الا دقائق وبدأ العرض .. ولكنه لم يستمر الا لدقائق .. فقد أوقفته طلقتين ثلاث طلقات نارية خرجت من زاوية معتمة ..
وفي الصباح كان المشهد متكررا" ثلاثة رجالا" ملقون على الأرض ولكن هذه المرة ثلاثتهم أموات ..
ولم يكن في موقع الجريمة شيء يدل على القاتل الى عبارة كتبت بدم أحد الضحايا ..
يا وطني المرصوف بالظلم .. ما عاد من سبيل لأخذ الحق فيك الا باليدين ..
ومن يومها لم تعد رائحة الأمطار تذكرني الا بالذكريات الجميلة مع صديقي المغيبين في غياهب الذاكرة ..
وبعد شهر من الانقسام النفسي .. كان شاب في الخامسة والعشرين من عمره في أحد المخافر يعترف با رتكابه جريمة قتل لثلاثة رجال ..
نعم كنت أنا .. فبرغم كل شيء .. لم أستطع أن أكون الا صادقا" كالموت ..
فرغم كل شيء .. لم أستطع أن أتعايش مع فكرة أني قد قتلت أحدا" .. حتى ولو كان عدوي .. بل كنت أشعر بالذنب والجريمة تتفشى في نفسي ...ولم أستطع العيش على هذه الحال ..
وبعد أسبوع كان حبل يلتف على عنق جثة تدلى منه .. جثة .. كان آخرمت نطقت به: يا وطني المكلل بالدماء البريئة .. لماذا زرعت فينا الانسانية في زمن الوحوش .. ولم تمنحنا بعض وحشية لندافع عن انفسنا ...او لنتعايش مع وحشية قد نقوم بها في لحظة غفوة انسانية .. أو انتقاما" لما تبقى من انسانية ..
ومنذ لك اليوم كانت رائحة الأمطار تحكي قصة مؤلمة .. ترددها الغيوم كل شتاء .. قصة لا يفهمها ولا يشعر بها الا أبناء الأزقة القديمة
مع دموع عاشق من فلسطين .. ووطن مسجون في أيدي الكلاب ..
24/5/2005