tiger
27/08/2006, 17:46
الصراع لا يُلطَّف بالكراهية؛ الصراع يتوقف بالمحبة – هذا قانون أزلي.
البوذا غوتاما
هل يُعقَل أن يكون في محبةٍ ولطفٍ نبديهما حيال آخر شفاؤه من جراح العنف والقسوة فيه، لا بل إغناءٌ لنا وله على حدٍّ سواء؟
إذا كان الأمر كذلك، لِمَ نُشرَط ونُربَّى ونربي أبناءنا على الردِّ "عينًا بعين وسنًّا بسن"؟
نحن نقسو ونعنِّف حين يستبد بنا الجزعُ أو الكراهية؛ ونحن نجزع أو نكره لأسباب متنوعة. غير أن هناك اعتقادًا مغلوطًا سائدًا مُفاده أن علة الجزع أو الكراهية موجودة خارجنا.
نحن كثيرًا ما نحيا في ظروف لا نستحبها وليس في ميسورنا تغييرها.
من هنا فإننا، إذ نجزع، نحمِّل "الآخر" مسؤولية مأزقنا: ننحو باللائمة على النظام، على السياسيين، على دين بعينه، على "العدو"؛ لا بل قد نحمِّل الشمسَ مسؤوليةَ السطوع سطوعًا شديدًا والعصافيرَ مسؤوليةَ الزقزقة زقزقةً صاخبة! وفي هذه الحالات جميعًا، لا نعترف بأن ما يتسبب في جزعنا هي الكراهية المعتملة في نفوسنا نحن.
إنما نفوسنا متاهة من المفاهيم والمأمولات و"المثل العليا" التي نتعلمها وننشأ عليها. وهذه المفاهيم والمأمولات والمُثُل تتصف جميعًا بخطأ الخبرة المتناهية ومحدوديتها.
نحن في الحياة نلاقي المجهول ملاقاةً مستمرة: في كلِّ لحظة، تتفتح في الحياة، من حيث لا نحتسب، سبلٌ متنوعة لا يمكن لنا أن نتوقع معظمَها سلفًا. وفي هذه اللقاء اليومي مع المجهول، نواجه مقاومةَ المفاهيم الجامدة التي نشأنا عليها.
خبرات الحياة لامتناهية، لكن الأداة التي تمكِّننا من الاختبار متناهية. الأمر أشبه ما يكون بمصباح 60 واط يسري فيه تيارٌ ذو استطاعة 200 واط – نحن في بساطة لا نطيقه! والنتيجة الحتمية هي الغضب والجزع والكراهية. وبهذا، فإننا في لحظات الغضب والجزع والكراهية نخرج عن طورنا. في تلك اللحظات نكون، من حيث لا نعي، رُكَّعًا نستغيث؛ ننتزع شعورنا من فرط ما نشعر به من ألم وإحباط. وهذا الإحساس الهائل بالإحباط والعجز كثيرًا ما يكون في الأصل من قسوتنا وكراهيتنا.
لقد أُشرِطْنا على "الفعل"، على أن نكون "شجعانًا" في الظروف كافة. قوة الضغط المجتمعي تحملنا على الامتثال، على الظهور بمظهر الأبطال الصناديد، بمظهر مَن "يكتب التاريخ"! وفي هرج الخطابة البطولية التي من شأنها أن تستهلك شعوبًا بأسرها، يكون التعقل والرأي الحر أول الضحايا قطعًا: قد يُتهم المفكرُ المستقل، غير المأخوذ بحمَّى الهستيريا الجماعية، بـ"عدم الوطنية"، في أحسن الأحوال، وفي أسوئها، بـ"الخيانة"! ذلكم هو شأن الضغط الهائل للإشراط المجتمعي وتيارات القوى العمياء غير الملجومة.
وبحسب هذا السيناريو، كثيرًا ما يؤخذ القومُ على حين غرة، فيُرغَمون على التصرف وفقًا لنماذج ذهنية مدمِّرة. فكما أن الفراشة تنساق صوب اللهب لتدمِّر نفسها لا محالة، كذلك ننساق إلى الغضب والكراهية والقسوة والعنف؛ وفي هذا، نزرع بذور دمارنا في المآل، ونحفر قبورنا بأظافرنا.
كثيرًا ما تنطوي الحياة على تناقضات ظاهرية، وسخريةُ الأقدار تصفع في بعض الأحيان صفعًا. نتمنى أن نكون "مختلفين"، لكننا في النهاية نسير على الدروب المطروقة إياها. في تعطشنا إلى قبول المجتمع وموافقته، نتصرف متسرعين، تلتبس علينا الأمورُ والمفاهيم، يستبد بنا الجزعُ والكراهية، وننصاع للهستيريا الجماهيرية.
نتصرف من غير تأنٍّ ولا تدبُّر تجنبًا للسخرية وتهربًا من مواجهة لحظة إذلال أمام إجماع الناس؛ وبهذا فإن فكرنا وفعلنا يكرسان النموذج الذهني الذي أوجدهما، – وهذا أشبه ما يكون بالذئب المفترس في لبوس حَمَل؛ – وبالتالي، لا ننجح إلا في ترسيخ المزيد فالمزيد من الكراهية في نفوسنا ونفوس الآخرين، وفي سعينا إلى تصويب "الحمقى" نتحامق نحن أيضًا.
كما أن النار لا تنطفئ بصبِّ الزيت عليها، كذلك لا يكون التغلبُ على القسوة والعنف بصبِّ المزيد من الكراهية عليهما. وسواء أسأنا أو أسيء إلينا، وحدهما اللطف والمحبة يقدران أن يلأما جراح الغضب والكراهية والقسوة والعنف ويزيلا ندوبَها من نفوسنا المتألمة. لا يهم كثيرًا إن كنتُ المعتدي أو المعتدى عليه: ففي كلتا الحالين، أنا ضحية الجزع والكراهية والقسوة والعنف. وبصفتي الضحية، وحدها المحبة ترياق فعال للألم المضني الذي ينهشني من الداخل، وحدها المحبة تحررني منه.
نحن كثيرًا ما نُشرَط على الردِّ "عينًا بعين"، فنستميت في سبيل الحفاظ على صورتنا عن أنفسنا. فهل صورتي عن نفسي حقيقية؟ ما الذي يجبرني على الاستماتة في الدفاع عن مجرد مفهوم ذهنيٍّ محدود؟ هل نحن ضحايا أوهامنا؟ هل نحن أسرى شِراكٍ مِن صُنعنا نحن؟ هل نمعن في إحكام فخِّ الكراهية الذي نحاول الفكاك منه؟ كالرجل الذي يغرق في الوعثاء، أليس تخبطي نفسه هو الذي يُغرِقني فيها أسرع؟ تلكم هي الأسئلة التي لا مناص لنا من طرحها ومن الإجابة عنها في صراحة مطلقة – ليس في الغرف الواسعة وقاعات المؤتمرات، بل عميقًا في سرائر نفوسنا.
هل تحولت قسوتنا باستقبال الكراهية والسماح لها بالتغلغل في نفوسنا؟ أم أننا صرنا أقسى، أمكر، وأشد وحشية في قسوتنا؟ كيف لنا، إذن، أن نأمل في تحويل الآخر بالكراهية والقسوة؟ وهل في مقدورنا أن نحوِّل الآخر رغمًا عن أنفه؟ نحن أسرى مفاهيمنا المتضخمة عن أهميتنا، سجناء جمود مفاهيمنا الميتة التي نئن مثقلين بها. ما نحن إلا أشقياء نتخبط في شبكة من القسوة ونُستهلَك في لهيب كراهيتنا.
المخرج الأوحد من هذا المأزق هو الشعور بألمنا شعورًا كاملاً. الوسيلة الوحيدة للاستشفاء من ألمنا المزمن هي المحبة – محبة متعاظمة لأنفسنا ولبعضنا بعضًا هي وحدها الترياق لسموم الكراهية والعنف المستشرية فينا وفي الآخرين. في محبة متأججة في القلب، تتغاضى عن الفوارق كلِّها، تندمل جراحُ آلامنا وتتحول. وفي هذا التحول عينه، يتخلَّلنا نورُ الوعي الخالص والنصر الأبدي.
وهيب نور الله
البوذا غوتاما
هل يُعقَل أن يكون في محبةٍ ولطفٍ نبديهما حيال آخر شفاؤه من جراح العنف والقسوة فيه، لا بل إغناءٌ لنا وله على حدٍّ سواء؟
إذا كان الأمر كذلك، لِمَ نُشرَط ونُربَّى ونربي أبناءنا على الردِّ "عينًا بعين وسنًّا بسن"؟
نحن نقسو ونعنِّف حين يستبد بنا الجزعُ أو الكراهية؛ ونحن نجزع أو نكره لأسباب متنوعة. غير أن هناك اعتقادًا مغلوطًا سائدًا مُفاده أن علة الجزع أو الكراهية موجودة خارجنا.
نحن كثيرًا ما نحيا في ظروف لا نستحبها وليس في ميسورنا تغييرها.
من هنا فإننا، إذ نجزع، نحمِّل "الآخر" مسؤولية مأزقنا: ننحو باللائمة على النظام، على السياسيين، على دين بعينه، على "العدو"؛ لا بل قد نحمِّل الشمسَ مسؤوليةَ السطوع سطوعًا شديدًا والعصافيرَ مسؤوليةَ الزقزقة زقزقةً صاخبة! وفي هذه الحالات جميعًا، لا نعترف بأن ما يتسبب في جزعنا هي الكراهية المعتملة في نفوسنا نحن.
إنما نفوسنا متاهة من المفاهيم والمأمولات و"المثل العليا" التي نتعلمها وننشأ عليها. وهذه المفاهيم والمأمولات والمُثُل تتصف جميعًا بخطأ الخبرة المتناهية ومحدوديتها.
نحن في الحياة نلاقي المجهول ملاقاةً مستمرة: في كلِّ لحظة، تتفتح في الحياة، من حيث لا نحتسب، سبلٌ متنوعة لا يمكن لنا أن نتوقع معظمَها سلفًا. وفي هذه اللقاء اليومي مع المجهول، نواجه مقاومةَ المفاهيم الجامدة التي نشأنا عليها.
خبرات الحياة لامتناهية، لكن الأداة التي تمكِّننا من الاختبار متناهية. الأمر أشبه ما يكون بمصباح 60 واط يسري فيه تيارٌ ذو استطاعة 200 واط – نحن في بساطة لا نطيقه! والنتيجة الحتمية هي الغضب والجزع والكراهية. وبهذا، فإننا في لحظات الغضب والجزع والكراهية نخرج عن طورنا. في تلك اللحظات نكون، من حيث لا نعي، رُكَّعًا نستغيث؛ ننتزع شعورنا من فرط ما نشعر به من ألم وإحباط. وهذا الإحساس الهائل بالإحباط والعجز كثيرًا ما يكون في الأصل من قسوتنا وكراهيتنا.
لقد أُشرِطْنا على "الفعل"، على أن نكون "شجعانًا" في الظروف كافة. قوة الضغط المجتمعي تحملنا على الامتثال، على الظهور بمظهر الأبطال الصناديد، بمظهر مَن "يكتب التاريخ"! وفي هرج الخطابة البطولية التي من شأنها أن تستهلك شعوبًا بأسرها، يكون التعقل والرأي الحر أول الضحايا قطعًا: قد يُتهم المفكرُ المستقل، غير المأخوذ بحمَّى الهستيريا الجماعية، بـ"عدم الوطنية"، في أحسن الأحوال، وفي أسوئها، بـ"الخيانة"! ذلكم هو شأن الضغط الهائل للإشراط المجتمعي وتيارات القوى العمياء غير الملجومة.
وبحسب هذا السيناريو، كثيرًا ما يؤخذ القومُ على حين غرة، فيُرغَمون على التصرف وفقًا لنماذج ذهنية مدمِّرة. فكما أن الفراشة تنساق صوب اللهب لتدمِّر نفسها لا محالة، كذلك ننساق إلى الغضب والكراهية والقسوة والعنف؛ وفي هذا، نزرع بذور دمارنا في المآل، ونحفر قبورنا بأظافرنا.
كثيرًا ما تنطوي الحياة على تناقضات ظاهرية، وسخريةُ الأقدار تصفع في بعض الأحيان صفعًا. نتمنى أن نكون "مختلفين"، لكننا في النهاية نسير على الدروب المطروقة إياها. في تعطشنا إلى قبول المجتمع وموافقته، نتصرف متسرعين، تلتبس علينا الأمورُ والمفاهيم، يستبد بنا الجزعُ والكراهية، وننصاع للهستيريا الجماهيرية.
نتصرف من غير تأنٍّ ولا تدبُّر تجنبًا للسخرية وتهربًا من مواجهة لحظة إذلال أمام إجماع الناس؛ وبهذا فإن فكرنا وفعلنا يكرسان النموذج الذهني الذي أوجدهما، – وهذا أشبه ما يكون بالذئب المفترس في لبوس حَمَل؛ – وبالتالي، لا ننجح إلا في ترسيخ المزيد فالمزيد من الكراهية في نفوسنا ونفوس الآخرين، وفي سعينا إلى تصويب "الحمقى" نتحامق نحن أيضًا.
كما أن النار لا تنطفئ بصبِّ الزيت عليها، كذلك لا يكون التغلبُ على القسوة والعنف بصبِّ المزيد من الكراهية عليهما. وسواء أسأنا أو أسيء إلينا، وحدهما اللطف والمحبة يقدران أن يلأما جراح الغضب والكراهية والقسوة والعنف ويزيلا ندوبَها من نفوسنا المتألمة. لا يهم كثيرًا إن كنتُ المعتدي أو المعتدى عليه: ففي كلتا الحالين، أنا ضحية الجزع والكراهية والقسوة والعنف. وبصفتي الضحية، وحدها المحبة ترياق فعال للألم المضني الذي ينهشني من الداخل، وحدها المحبة تحررني منه.
نحن كثيرًا ما نُشرَط على الردِّ "عينًا بعين"، فنستميت في سبيل الحفاظ على صورتنا عن أنفسنا. فهل صورتي عن نفسي حقيقية؟ ما الذي يجبرني على الاستماتة في الدفاع عن مجرد مفهوم ذهنيٍّ محدود؟ هل نحن ضحايا أوهامنا؟ هل نحن أسرى شِراكٍ مِن صُنعنا نحن؟ هل نمعن في إحكام فخِّ الكراهية الذي نحاول الفكاك منه؟ كالرجل الذي يغرق في الوعثاء، أليس تخبطي نفسه هو الذي يُغرِقني فيها أسرع؟ تلكم هي الأسئلة التي لا مناص لنا من طرحها ومن الإجابة عنها في صراحة مطلقة – ليس في الغرف الواسعة وقاعات المؤتمرات، بل عميقًا في سرائر نفوسنا.
هل تحولت قسوتنا باستقبال الكراهية والسماح لها بالتغلغل في نفوسنا؟ أم أننا صرنا أقسى، أمكر، وأشد وحشية في قسوتنا؟ كيف لنا، إذن، أن نأمل في تحويل الآخر بالكراهية والقسوة؟ وهل في مقدورنا أن نحوِّل الآخر رغمًا عن أنفه؟ نحن أسرى مفاهيمنا المتضخمة عن أهميتنا، سجناء جمود مفاهيمنا الميتة التي نئن مثقلين بها. ما نحن إلا أشقياء نتخبط في شبكة من القسوة ونُستهلَك في لهيب كراهيتنا.
المخرج الأوحد من هذا المأزق هو الشعور بألمنا شعورًا كاملاً. الوسيلة الوحيدة للاستشفاء من ألمنا المزمن هي المحبة – محبة متعاظمة لأنفسنا ولبعضنا بعضًا هي وحدها الترياق لسموم الكراهية والعنف المستشرية فينا وفي الآخرين. في محبة متأججة في القلب، تتغاضى عن الفوارق كلِّها، تندمل جراحُ آلامنا وتتحول. وفي هذا التحول عينه، يتخلَّلنا نورُ الوعي الخالص والنصر الأبدي.
وهيب نور الله