-
دخول

عرض كامل الموضوع : أبي البعثي وللموضوع تتمة


غريب الدار
21/04/2005, 13:17
كان على أبي أن يكون بعثياً، وكان عليّ أن أكون ابنه، وأن أعيش رعب ذلك، وأن أغصّ. أن تكون ابناً لرجل بعثي يعني أن تعيش طفولة مختلفة، ويعني أن تشرق في البكاء كلما استطعت، ويعني أن تقود "انقلاباً" عليه، وتخونه عندما تكبر. اليوم، أريد لخيانتي هذه أن تكون علنية، مثلما أريد لاعتذاري منه أن يكون في السرّ.
بفضل أبي اكتشفتُ أن البعثية في سوريا تكوين شخصية ونفسية، أكثر منها حزبية. كان أبي بعثياً في شخصيته: ضعيف وقاسٍ. كرهتُ البعث بسبب أبي قبل أن أفهم مبادئ هذا الحزب، وقبل أن ينسّبوني إليه من دون علمي!
المؤكد أني انتبهت للمرة الأولى إلى هذه الكلمة عندما سافر أبي فترة، لا أذكر زمنها، إلى العاصمة من أجل "حضور دورة مركزية لحزب البعث"، على ما كانت أمي تقول للجيران والمعارف عندما يسألون عنه. كانت تقول ذلك في فخر كبير، وتنتصب في جلوسها قبل أن تتابع: "إنه أمين تنظيم الدورة". كنا صغاراً، وحدث أن سألتُ والدتي عن معنى كلمة البعث، لكنها تأتأت قليلاً، وحرّكت رقبتها كما تفعل حين لا تملك الإجابة، ثم قالت: "يعني الحزب". عندما سألتها عن معنى "أمين تنظيم"، انفرجت أساريرها وأجابت على الفور: "يعني مسؤول". كانت ببغاء ذهبياً.
كنتُ أفرح كلما فكرتُ أن والدي مسؤول. كنتُ أسمع الحكايات عن أولاد المسؤولين، فقد كانوا أقوياء وأهل شجاعة. كنت أريد أن أكون قوياً وشجاعاً. كنت أكره تلك الكلمة التي واظبت معلّمتي على كتابتها دائماً أسفل استمارة علاماتي آخر السنة: "خجول جداً". كنت أكره هذا الخجل، وأحتقر نفسي لذلك.
لذا لم أكن أصدّق أن أبي مسؤول حقاً. لأني لو كنت ابن مسؤول لكنت قوياً. ثم إن أبي لا يملك سيارة و"مخابرات" كالمسؤولين. كانت أمي كذلك تحاول تصديق أنها زوجة مسؤول، لهول ما كانت تسمع عن ذهب زوجات المسؤولين، وخدمهن، وسياراتهن. بعد ذلك سأكتشف أن أمي تكذب، وأن الضعفاء يصطنعون الهيبة، على مثال ما يصطنع القوي التواضع.
اختلاس
لم أنتبه قبلاً إلى هذه الكلمة: بعث. رغم أن اسمنا كان في المرحلة الابتدائية "طلائع البعث"، ورغم أن هذه الكلمة كانت تملأ جدران المدرسة، ورغم أن أبي كان يرددها أمامنا مراراً.
كانت يده الكبيرة هي السبب، وكانت هي بعثنا المنزلي.
كنا نرى العالم من خلف هذه اليد الضخمة التي تضربنا بلا هوادة. يد أبي التي حجبت العالم عنا، أصبحت حدود عالمنا الصغير والبائس. كنتُ كلما نام أبي بعد الظهر أختلس النظر لأرى يده فوق اللحاف. اختلس النظر إليها وأعرف أنها لا تنام. كان إذا صدر منا صوت أزعجه أثناء نومه، يصيح بنا جميعاً فنأتي إليه مطأطئين رؤوسنا إلى مستوى يده، ولا نرفع وجوهنا حتى يفرغ من ضربنا، أو حين يملّ.
وفي حين كان الأولاد يتحدثون عن اختلاس النقود من جيوب آبائهم، كنت أحدثهم عن اختلاس النظر إلى يد أبي الكبيرة. بعد ذلك سيبدأ الأولاد بعقد الجلسات للحديث عن أيدي آبائهم العمياء.

غريب الدار
21/04/2005, 13:18
كذلك كان أستاذ التربية العسكرية قد فعل ذلك معي في غير مرة، عندما حث التلاميذ على إعلامه بتأخرهم عن المدرسة، إذا حدث، حتى وإن استطاعوا الإفلات. قال: "الصدق فضيلة"، وقال: "الصدق إيمان"، وقال: "عليكم بالصدق". وعندما تأخرتُ، وكان في استطاعتي الإفلات، قررت أن أكون صادقاً فأخبره. يومها بحثت عنه كثيراً. كان يعطي حصة في صف للطالبات، وكان بينهن فتاة أحبها: حييته، وقدّمت اسمي، ولم أكد أنطق بسبب تأخري حتى أصبحت كيساً للملاكمة. كنت أتلقى الضربات متخيلاً وجه فتاتي: الضربة الأولى، يا للعار. الثانية، إنها تضحك. الثالثة، وقعتُ أرضاً.
هكذا تُصنَع الشعوب الواشية.

غريب الدار
21/04/2005, 13:20
كنت لا أخطىء السقوط في مادة التربية القومية، التي هي في حقيقتها مادة عن حزب البعث. كان ذلك يغيظ أبي، لكنه يمنحه الحجة، التي لا يحتاجها، كي يستعرض لنا ثقافته الحزبية. سبق لأبي أن طردني من المنزل ليلة كاملة أمضيتها في العراء لأني شتمتُ الحزب، وعندما وجدني في الصباح أثناء بحثه عني بكى، ولم يعتذر.

غريب الدار
21/04/2005, 13:21
أن تكون ابناً لرجل بعثي يعني أن تكون روائياً قبل كل شيء، وثائراً قبل كل شيء.
أبي اليوم بات أباً مثالياً في التعامل مع أخوتي الصغار، ولا يترك يوماً يمر من دون أن يقول إنه السبب في الذي حدث لأخي المريض حالياً.
أبي اليوم يحمل ذنباً أكبر من أن تحمله يده.
أبي اليوم محتار في مصدر افختاره: هل يعتزّ بماضيه البعثي، أم بحاضر ابنه المعارض؟ مع ذلك أعتقد أنه سينتصر لي في النهاية، ويقول إني ابنه البكر، وهذه سمة بعثية على كل حال.

غريب الدار
21/04/2005, 13:21
أحسب أني في الذي قلته، اختلط عليّ واقع الأمر. فما علاقة البعث في هذا كله؟ بل ما علاقة البعث في شخص أبي؟ هل أتهمه كي أُبرّئ أبي؟ أليس البعث هو ابننا الشقي؟ ألسنا البعثيين قبل ولادة البعث؟
على الدموع أن تكون مسنونة أكثر بعد هذا اليوم، وعلى الأولاد أن لا يصدّقوا أمهاتهم.
أبي الذي أحببته مات. والمرعب أن قبره موجود هنا بالضبط: في المكان نفسه الذي أروي منه.
أنا خائف يا أمي: في ذاكرتي قبر!

yass
21/04/2005, 13:29
قصة رائعة فعلا....أهنيك :D

عاشق من فلسطين
21/04/2005, 13:37
رائعة جدا" والله العظيم والله العظيم نزلت .. دمعتي .. يعني قصة بتنطبق كتير عليي .. مشكور يا غالي .. في ذاركرتنا كلنا قبور .. لكن نختلف بساكنيها .. :D :D

غريب الدار
21/04/2005, 16:11
دموعك غاليين خيو
ما عاش الي ينزل دمعتك
نحن اليوم أقوى
وما لازم نبكي لازم نصرخ
شو رأيك؟

غريب الدار
21/04/2005, 16:18
قصة رائعة فعلا....أهنيك :D

:gem:
شكراً لإدارة أحلى منتدى عالنت
وبحييكن وين ما كنتو ومين ما كنتو
:angel:
بتسعدني ردودكن
:hart:

عاشق من فلسطين
21/04/2005, 16:26
دموعك غاليين خيو
ما عاش الي ينزل دمعتك
نحن اليوم أقوى
وما لازم نبكي لازم نصرخ
شو رأيك؟


انا معك .. تماما" .. وأنا من أكثر الأمور التي أقولها لأهلي أنو أنتو كنتو بكائيين في كل شيء ..
نحنا لازم نصرخ ونشتغل ونفدي بالدم سوريا ..
بس وقت الخلوة مع النفس .. لازم نبكي .. مشان نطهر الجروح .. :cry: :cry:

أحلى غريب الدار ..

وأنا غريب الدار في وطني ..
وأنا غريب الدار .. :D :D :D

وهي كم بيت مهداة الك ..

وكيف يذوق النوم من عدم الكرى

ويسهـــر ليلا والأنام رقود

وقد كان ذا مـــال وأهل وعزة

فأضحى غريب الدار وهو وحيد

له جمـــرة بين الضلوع وأنة

وشوق شديد مـــا عليه مزيد

تولى عليه الوجد والوجد حــاكم

يبوح بمــــا يلقاه وهو جليد

وحالته في الحب تخبـــر أنه

حــزين كئيب والدموع شهود

Joe
21/04/2005, 16:35
يا سلام يا غريب الدار و الله شغلة عظيمة... كتير حلوين :D

غريب الدار
21/04/2005, 17:56
يسلم ثمك
قلبي معك :hart:

SABE
21/04/2005, 18:05
اله بشرفي روعة وكمان حسيتون نفس الطريقة تبعيت قصص بسام كوسا
مشكور حبيب :D :D

Danito
22/04/2005, 07:42
و الله نص رائع و عميق... شي ركاز


دموعك غاليين خيو
ما عاش الي ينزل دمعتك
نحن اليوم أقوى
وما لازم نبكي لازم نصرخ
شو رأيك؟


بس أنا و مع أني بكون عم أبكي ... بس دموعي نشفوا... ما بينزلوا ... ليش ما بعرف؟